كبار السن بين السعادة والنكد


فاطمة عبد الرءوف


الإنسان وحده من بيده مفاتيح سعادته..لقد منحه الخالق عز وجل القدرة على السيطرة على نفسه وتوجيهها بالصورة التي يحب ومنحه مطلق الحرية في اختيار النمط الذي يحبه لحياته فمن الناس من يختار السعادة والأمل فتشرق نفسه ويصبح مصدر سعادة وبهجة لمن حوله ومنهم من يدمن الشكوى ويسعى للتعاسة ويصبح بؤرة للنكد والشقاء..لا أحد ينكر أن هناك عوامل خارجية تؤثر على إحساس الإنسان الداخلي وتتفاعل معه ولكن طريقة التفاعل تختلف من إنسان لآخر.
ولا يختلف الأمر كثيرا عند كبار السن ـ ولعله استمرار لنهجهم في مرحلة الشباب ـ فمنهم من يستطيع التكيف مع المرحلة العمرية التي يمر بها ويتفاعل بإيجابية مع الحياة ومنهم من يصبح المصدر الرئيس لشقاء من يتعاملون معه فينعكس الشقاء الذي يشعر به على المحيطين به.
من الحياة
تعيش السيدة (ك) في قرية صغيرة في منزل مكون من حجرة واحدة وذلك بعد أن طلقها زوجها وتركها وابنها الوحيد دون أي مصروفات..قامت السيدة (ك) بالعمل في مهن يدوية بسيطة لتنفق على نفسها وولدها فهي سيدة وحيدة مات والداها..وكانت بين الحين والآخر تتلقي الصدقات المحدودة من أبناء هذه القرية..عاشت هذه السيدة حياة بائسة من الناحية المادية تأكل الجبن القديم والفول في كل الوجبات بينما كثيرا ما تحيطها رائحة وجبات اللحوم فكل ما كان يشغلها أن تحتضن طفلها وتلهيه عن الشعور بالحرمان وتمنحه الأمل في غد أكثر إشراقا.
مرت السنوات على هذه السيدة الصابرة الصامدة وابتسامتها لا تفارقها حتى نجح ابنها واستكمل تعليمه وتسلم وظيفته كممرض في أحد المستشفيات الحكومية وعلى الرغم من أنها وظيفة عادية بالنسبة للكثيرين إلا أنها كانت الكثير جدا عند السيدة (ك) التي لا يتوقف لسانها لحظة واحدة عن الثناء على ولدها والدعاء له..وكثيرا ما شاهدتها نساء القرية في حجرتها الصغيرة رافعة أكف الضراعة لله القدير أن يحفظ ابنها ويرزقه..وهي تشهد كل من تراه على رضاها الكامل على ولدها الغالي.
لم تكن السيدة ( ك ) عبئا على ابنها في شيء..لم تطلب منه أن يعوضها سنوات الشقاء..لم تمتن عليه مرة واحدة بما قدمته له في صغره..لم تفرض عليه أي شيء..عندما أخبرها برغبته في السفر للعمل بالمملكة لتحسين دخله دعت له بالسلامة والرزق الوفير..عندما قرر أن يخطب لم تناقشه في الفتاة التي وقع عليها اختياره وكانت تتحدث عنها كأفضل الفتيات..تركت ابنها والعروس في الشقة التي اشتراها في المدينة القريبة وآثرت البقاء في حجرتها واكتفت بزيارتهم الأسبوعية كل يوم جمعة..وكان يوم الجمعة يوم عيد إنه يوم زيارة الغالي الحبيب التي كانت تتحدث عنه مع عجائز القرية على أنه أهم وأفضل رجل في العالم ثم تترك من تتحدث معه وتتجه للمولى عز وجل تدعو له بظهر الغيب.
وللنكد أصول
على النقيض من السيدة (ك) يعيش الكثيرون والكثيرات من كبار السن في حالة من التبرم والشكوى والإحساس بأن فلذات الأكباد لم يعوضوهم عن الأيام السالفة وقد تصل الأمور للقطيعة والحرمان النفسي..حقا يوجد أبناء كثيرة مقصرة ولكن ابن السيدة ( ك ) لم يكن مثاليا ولكن أمه أرادته كذلك رأت عطيته الصغيرة كبيرة جدا..تجاوزت عن كثير من هفواته..لم تثقل عليه في شيء..لكن ثمة آباء رضاهم أصعب من النجوم البعيدة وكأنهم يستمتعون بحيرة الأبناء وهم يسعون لنيل رضاهم من هؤلاء السيدة ( خ ) التي تسكن في بيت مساحته تتجاوز المائة والثمانين مترا بجوار الحجرة الصغيرة للسيدة (ك) تلك السيدة التي أنجبت ستا من الأبناء كلهم يتمنى رضاها ولكنها نادرا ما ترضى فعلى الرغم من أنها عاشت ظروفا مادية أفضل بكثير في كنف زوجها الفاضل فكان أقصى ما تقوم به هو تربية الطيور على طريقة أهل الريف إلا أنها دائما ما كانت تنظر لمن حولها وتقارن لتجد نفسها أقل منهم فإذا لم يلتحق ابنها الكبير بكلية الطب فهي كارثة تحل على البيت كله وهي تتدخل في شئون أبنائها في كل صغيرة وكبيرة بدءا من تحديد نوعية التعليم انتهاء بمن يصادقون ومن يودون ومن يقاطعون على الرغم من أن هؤلاء الأبناء يقتربون من الأربعين..وعندما يطلب منهم أحدهم أن تدعو له مرة من أجل خير ينتظره مثلا تقول له ببساطة سأدعو لك وأنظر ماذا سوف تحضر لي ؟!
لا يجلس معها أيا من أبنائها إلا وقارنتهم بفلان وفلان ممن اقتنى المنازل والأراضي والسيارات وتتحسر وتقول أن أيا من أبنائها لم يفلح..حتى أصبح الأبناء يخافون الحديث معها من كثرة ما توبخهم بطريقة مباشرة وغير مباشرة..يقول احد أبنائها إنني أحاول برها فقط من أجل أن الله عز وجل يأمرني بذلك فهي لم تمنحني أبدا شعور الحب والحنان فهي شديدة البخل في عواطفها..لم أعطها هدية إلا وأشعرتني بالتقصير لأن هناك من يعطي أكثر.
هذه السيدة تشعر بالنكد والشقاء في داخلها ومن ثم تنثر هذا الشعور على كل من يحيط بها.
أنت من تختار
إن الإنسان عندما يصل لمرحلة الشيخوخة..عندما يقترب من الستين يكون قد وصل لمرحلة عميقة من النضج (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة)(رواه البخاري) فلماذا لا يتمتع بالرضا والسكينة..لماذا لا يتصدق على أبنائه ممن يخوضون غمار الحياة وفتنتها برضاه ودعائه فيشعرون بالسعادة في قربه ويتركون مشاغل الحياة حتى يجلسون معه جلسة صفاء وهم يلمحون الفرحة في عينيه والثناء على لسانه ويكادون يسمعون قلبه وهو يدعو لهم..وهو الرابح يكفيه الهدوء النفسي الذي سوف يشعر به.
على الجانب الآخر عندما يصل الإنسان لهذا السن وهو لا يزال يمد عينيه لزهرة الحياة الدنيا ويشعر في قلبه بالأسى على نصيبه الذي ناله منها ويحطم قلوب ابنائه بإعلانه الدائم بخيبة أمله فيهم وعدم رضاه عنهم فيجعلهم في هم وغم فإذا كانوا متدينين داروا حول أنفسهم يفكرون في وسيلة ترضي هذا الأب الذي لا يرضى وإن كانوا غير ذلك انفضوا عنه وتركوه يعاني الوحدة والنكد وحده وهو الخاسر في كل الأحوال فأيهما تختار يا شيخنا الفاضل السعادة أم النكد؟