الإجهاض دراسة فقهية مقاصدية
د/ فريدة صادق زوزو
المبحث الخامس: آراء الفقهاء المعاصرين والأطباء في حكم الإجهاض
أولا: آراء الفقهاء المعاصرين:
انقسم الفقهاء المعاصرون إلى فريقين : فريق يذهب إلى جواز الإسقاط في أي مرحلة قبل الـ (120) يوما (قبل نفخ الروح)، وفريق آخر يذهب إلى حرمة الإسقاط حين دخول النطفة الرحم واستقرارها فيه.
ومن أجل مناقشة آراء الفقهاء المعاصرين فإني سأورد أقوال من وجدت لهم كتبا في الموضوع، وإلا فإن آراء الفقهاء المعاصرين كثيرا ما ترد في المؤتمرات والندوات التي تعقد في هذا المجال، ومثال ذلك ندوة "الإنجاب في ضوء الإسلام" التي انعقدت بالكويت، 24/ مارس/ 1983، والتي جاء في توصيتها السابعة في "الإجهاض" قولها: "استعرضت الندوة آراء الفقهاء السابقين وما دلت عليه من فكر ثاقب ونظر سديد… وقد استأنست الندوة بمعطيات الحقائق العلمية الطبية المعاصرة، فخلصت إلى أن الجنين حي من بداية الحمل، وأن حياته محترمة في كافة أدوارها خاصة بعد نفخ الروح، وأنه لا يجوز العدوان عليها إلا للضرورة الطبية القصوى، وخالف بعض المشاركين فرأوا جوازه قبل تمام الأربعين يوما، وخاصة عند وجود الأعذار…"[66].
ومن الفريق غير المجيز للإجهاض قبل الأربعين، الدكتور محمد سلام مدكور الذي قال: "وقد أوردنا وجهة نظرنا من ترجيح القول بمنع الإجهاض قبل نفخ الروح وبعده ما لم يكن هناك عذر يقتضي ذلك"[67]، وإليه ذهب الدكتور وهبة الزحيلي في قوله: "وأرجح أيضا عدم جواز الإجهاض بمجرد بدء الحمل، لثبوت الحياة، وبدء تكون الجنين؛ إلا لضرورة كمرض عضال أو سارٍ؛ كالسل أو السرطان"[68].
وإلى الرأي نفسه ذهب الدكتور جميل بن مبارك، حيث قال: "والذي ينبغي المصير إليه في مسألة الإجهاض - والله أعلم- هو أنه إذا كانت هناك ضرورة تدعو إليه فيرخص فيه وإلا فلا. وهذا الحكم ينبغي أن يسري على المرحلتين معا قبل التخلق وبعده؛ لأن إسقاطه ولو في مرحلة ما قبل التخلق يعتبر تلاعبا وقطعا للطريق أمام الحمل مادام العزل ووسائل منع الحمل الأخرى مباحة"[69].
ومن الذين يجيزون الإجهاض قبل الأربعين، ما يفهم من قرار هيئة كبار علماء المملكة العربية السعودية في تجويزهم تنظيم النسل "تمشيا مع ما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين"[70]. وما صرح به " أن الحكم الراجح في مسألة الإجهاض هو جواز إسقاط المرأة حملها إذا لم يكن قد مضى على الحمل أربعون يوما"[71].
وما ورد عن عبد الكريم زيدان تعليقا على آراء فقهاء المذهب الحنفي قوله" وواضح من هذا أن الإجهاض قبل مضي أربعة أشهر على الحمل لضرورات العلاج يعتبر إجهاضا بعذر مشروع"[72]؛ أي أنه قرن بين إباحة الإجهاض وبين حالة العلاج للمرأة الحامل المريضة، فيعتبر المرض من الأعذار المبيحة للإجهاض قبل نفخ الروح.
ثانيا: آراء بعض الأطباء المسلمين في الإجهاض:
الذي يفهم من أقوال بعض الفقهاء عموما أن الإجهاض يجوز قبل تخلق الجنين؛ أي ما قبل مرحلة المضغة، وتفهم هذه الإباحة من عدم إيجاب الغرة على الجاني أو الحامل التي تعمدت إسقاط جنينها. إلا أن الأطباء المسلمين ورغم هذه الإباحة، لا يرون أي مسوغ يدعو الحامل للتخلص من جنينها لأي سبب تراه، بحجة أن الروح لم تنفخ فيه بعد، أو أن خلقه لم يظهر.
وفي هذا يقول الطبيب زياد التميمي: "يحمل عدد غير قليل من العامة وعدد لا بأس به من المثقفين فكرة لا أصل لها ولا يؤيدها منطق، وهي أن الجنين لا روح له ولا أهمية لحياته قبل ثلاثة أو أربعة أشهر، وقد يشتط البعض في فكرته إلى درجة الاعتقاد أن لا إثم ولا بأس من إسقاط الجنين خلال هذه الفترة أو قبلها! ونقول عن هذا الفهم أنه خاطئ لأسباب؛ منها أن الروح التي هي أساس الحياة موجودة في هذا المخلوق منذ تكونت النطفة الأمشاج…فإذا حرم من حق الحياة وأُنهيت حياته التي منحه الله إياها، فإن ذلك اعتداء على حياة، واعتداء على حق الخالق الذي يعطي ويأخذ"[73].
وفي المسألة نفسها نقل رأيا لأحد الأطباء تعليقا على أقوال من أجاز من الفقهاء إسقاط الجنين قبل نفخ الروح: إن هذا الحكم من هؤلاء العلماء مبني على معارف زمانهم. ولو عرف هؤلاء ما عرفنا من حقائق علم الأجنة اليوم عن هذا الكائن الحي المتميز، الذي يحمل خصائص أبويه وأسرته وفصيلته ونوعه، لغيروا حكمهم وفتواهم، تبعا لتغير العلة، فإن الحكم يدور علته وجودا وعدما"[74].
ويذهب د/ محمد علي البار إلى أنه " ينبغي على من يعملون بالمهنة الطبية أن ينتبهوا إلى هذه النقطة وعليهم إذا اضطروا لإجراء الإجهاض أن يحرصوا على أن يكون في الفترة التي تسبق نفخ الروح (120 يوما ) إلا في حالة واحدة وهي تعرض حياة الأم للخطر"[75]، وهو ما سنناقشه بالتفصيل لاحقا.
المبحث السادس:
مسوغات إباحة الإجهاض وحكم إجهاض الجنين المشوه أوالناتج عن الاغتصاب أو زنا المحارم
أولا: مسوغات الإجهاض عند الفقهاء والأطباء والناس عموما:
1-مسوغات الإباحة قبل نفخ الروح:
بعد التطرق سابقا لآراء الفقهاء القدامى والمعاصرين، وجدنا أن رأي الفريق المبيح للإجهاض قبل الأربعين يوما، تسوغه أعذار ومبررات، مثل :
◄ الخوف على صحة الأم.
◄ ضيق ذات اليد عن النفقات التي تستتبعها الولادة وتربية الولد.
◄ الحاجة إلى سفر ضروري يكون فيه نمو الحمل ثم الولادة عائقا، كما لو كان لأجل دراسة أو لأعمال تستدعي تنقل الزوجين[76]. كما يذهب لذلك الشيخ الزرقا- رحمه الله-
◄ الأم الحامل المصابة بعدوى الإيدز[77].كما ترى الندوة الفقهية الطبية السابعة.
غير أن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والفتاوى ترى أنه :" لا يجوز إسقاط الحمل للخشية من الإصابة بالإيدز؛ لأن احتمال إصابته بعدوى فيروس الإيدز لايسوغ إسقاطه"[78].
وهو الرأي نفسه الذي يذهب إليه الطبيب: أحمدكنعان استشاري طب الأسرة والمجتمع ، إذ يقول:" بما أن احتمال إصابة الجنين بالعدوى من أمه المصابة بالأيدز لا يزيد عن 30% ؛لأن تعاطي الحامل لبعض الأدوية المضادة يقلل من احتمال إصابة جنينها،ولأن بعض الأطفال الذين كانوا إيجابيين يتحولون إلى سلبيين فيما بعد، فإننا لا نرى مبررا شرعيا لإجهاض الطفل الذي لديه إيجابية للايدز"[79].
◄ أما فتاوى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، رقم 140 وتاريخ 20/6/1407هـ فإنها فصّلت ضوابط هذه المبررات بما يأتي:" إن كان الحمل في الطور الأول وهي مدة الأربعين، وكان في إسقاطه مصلحة شرعية أو دفع ضرر متوقع، جاز إسقاطه، أما إسقاطه في هذه المدة خشية المشقة في تربية أولاد أو خوفا من العجز عن تكاليف معيشتهم أو تعليمهم أو من أجل مستقبلهم أو اكتفاء بما لدى الزوجين من أولاد فغير جائز"[80].
ومما تقدم يطرح سؤال مفاده :
ماحكم إجهاض الجنين المشوه في وقتنا الحاضر؟
وهل يجوز الإجهاض قبل الأربعين أيضا للفتيات الحوامل من زنا المحارم أو المغتصبات خاصة في أوقات الحروب ؟ وهل يجوز للزانية أن تستفيد من الرخصة في إجهاض حملها قبل مرور أربعين يوما؟ وهل لمسألة الإباحة قبل الأربعين يوما شروطٌ معتبرة مضبوطة، أو أنها إباحة مطلقة تكون حجة للزانيات اللواتي يحملن من سفاح، أو النساء المتزوجات اللاتي لا يرغبن في الحمل الذي ظهر، فتكون أقوال الفقهاء حجة لهن، في إسقاط الحمل في الشهر الأول بعد ظهور بوادر الحمل؟**
أليس الأولى أن يغلق هذا الباب سدا لذريعة انتشار الفساد والسفاح والزنا، وسهولة قتل وإجهاض الجنين الذي نسل من طريق الفاحشة؟ "فإن إباحة الإجهاض سوف تكون ذريعة لنشر الفساد، وما أكثر ما يستغل غير أصحاب المروءات والدين هذه الثغرة"[81].
أولا: حكم إجهاض الجنين المشوه:
اختلف الفقهاء وقبلهم الأطباء في إباحة إسقاط حمل شابه الاحتمال في أنه يحمل تشوها خلقيا ، أو إصابة بمرض وراثي قاتل، وهذه بعض آرائهم:
◄ في هذا الأمر يؤكد الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر السابق، عليه رحمة الله، أنه "بهذا الاعتبار، ومتى أخذ الجنين خصائص الإنسان وصار نفسا من الأنفس التي حرم الله قتلها، حرم قتله بالإجهاض بأية وسيلة من الوسائل المؤدية إلى نزوله من بطن أمه، فلم تكن العيوب التي تكتشف بالجنين مبررا شرعيا لإجهاضه أيا كانت درجة هذه العيوب"[82] .
◄ غير أن الأمر فيه تفصيل من قبل باحثين وفقهاء آخرين؛ حيث إن "الإجهاض قبل استكمال الجنين مئة وعشرين يوما رحميا يجوز عند الضرورة التي عبر عنها الفقهاء بالعذر… والمعيار هنا أن يثبت علميا وواقعيا خطورة ما بالجنين من عيوب وراثية، وأن هذه العيوب تدخل في النطاق المرضي الذي لا شفاء منه، وأنها تنتقل منه إلى الذرية.. أما العيوب الجسدية والتي من الممكن أن تتلاءم معها الحياة العادية، فلا تعتبر عذرا شرعيا مبيحا للإجهاض"[83].
◄ فيجوز الإجهاض قبل الأربعين عند ثبوت أن الجنين مصاب بتشوهات خلقية، إذ أفتى المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته (12) سنة1410هـ/ 1990م، بجواز إجهاض الجنين المشوه تشويها شديدا، بشرط أن يكون ذلك بقرار لجنة من الأطباء المختصين، وأن يكون قبل مرور(120) يوما، [84].
◄ في حين أن الدكتور شبير، واستنادا لآراء الأطباء الذين استشارهم، يرى أن الأمراض الوراثية في الجنين لا تعتبر عذرا شرعيا للإجهاض قبل نفخ الروح؛ لأنه لا يمكن اكتشافها، والتعرف عليها لا يكون قبل الأسبوع الثامن من العلوق[85].
◄ كما يؤكد البعض الآخر من الأطباء أن الجنين إذا كان به شذوذ صبغي (كروموزومي) فإنه سيسقط من تلقاء نفسه، إذ يقول الدكتور حسن حسن أن :" 30% من حالات الحمل تنتهي بالإسقاط، والأسباب متعددة، وأهمها وأكثرها شيوعا الشذوذ لدى الجنين، يليه العلوق غير المناسب"[86]. ويقول في موضع آخر" ففي بعض الحالات يعود السبب إلى حادث صبغي (جيني، موروثي) يسبب خللا لدى الجنين"[87].
◄ وتروي الطبيبة سامية محمد عبد الرحمن العمودي، استشارية نساء وتوليد وعقم وأطفال أنابيب قصة تقول فيها :" أورد مثالا حقيقيا لقصة عايشنا أحداثها مع أحد الأساتذة الأفاضل.. لسيدة حامل سبق وأن حملت مرتين، وفي كل مرة ينتهي الحمل بولادة طفل مصاب بتشوه خلقي "استسقاء بالدماغ" أو Hydrocephalus وتتطلب ولادتها إجراء عملية قيصرية نظرا لوضع الجنين وكبر حجم الرأس... ومعروف طبيا أن ولادة طفل سابق بهذا التشوه تزيد احتمالات ولادة جنين مصاب بنفس التشوه مرة أخرى.. السيدة هذه فكرت في الإجهاض كحل لمشكلتها...لكن حديث الطبيب إليها عن الاحتساب وعظم الأجر والثواب مقابل هذا الابتلاء أثار في قلبها وقلب زوجها نوازع إيمانية لطلب الأجر عنده تعالى فعدلت عن قرارها، ورفضت حتى أن تقوم بمتابعة تطورات حالة الجنين بجهاز الأمواج الفوق الصوتيه حتى لا تمر بالمعاناة ذاتها كما سبق...وعند قيامهم بإجراء القيصرية في هذه المرة فوجيء الطبيب وكل من حضر العملية بولادة طفل سليم مكتمل خال من أي تشوهات.. مما يجعلنا نرى قبسا من رحمة الله وسعة فضله.. {...إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}...وهل هناك أعظم من زوج وزوجة أخذا أجر الاحتساب في الآخرة وزادهما الله من فضله بنعمة البنين في الحياة الدنيا!"[88].
ثانيا: حكم الإجهاض في حالة الزنا
الحقيقة أن الفقهاء لم يهتموا بالتفاصيل المتعلقة بالحمل أثناء تطرقهم للمسألة، فلم يفرقوا بين الحمل الناشئ من زواج صحيح، والحمل الناشئ من زنا، إلا أن كثيرا من الدلائل التي أوردتها تحرم الإجهاض الناشئ من زنا، سواء نفخت فيه الروح أو لم تنفخ؛ وذلك لاعتبارات كثيرة أهمها:
أن الزنا عموما، هو علاقة تجمع بين الرجل والمرأة يتحقق بها قضاء الشهوة من دون اللجوء إلى عقد أو إشهاد أو وجوب حضور ولي. فيُلجأ إليه قضاء للشهوة، ورغبة في الابتعاد عن إنجاب نسل وولد يبحث عمن ينتسب له، وهو الأمر الذي حرمّه الشارع الحكيم، ناهيك عما قد تبادر الزانية إلى فعله بحملها، وهو ثمرة جريمة الزنا؛ فقد تجهضه وتسقطه وهو جنين، وقد لا تتوانى بعد أن تركته يخرج للحياة بقتله أمام ناظريها، وهو وليد، أو خاتمة المخارج إلقاؤها به في العراء خوف الفضيحة، وهربا من تهمة الفاحشة.
وفي كل الأحوال، فإن كل مخرج هو قتل بعينه. فليس القتل الأول بأهون من الثاني ، ولا القتل الثالث أيسر على الجنين من الثاني وهكذا. وهذا هو القتل المادي، وهو الغالب الحدوث مع الزانية؛ حيث لا تراعي مطلقا حق الوليد في الحياة، بل إن في محاولتها قتله رغبة في التخلص من جريمة الزنا وثمرتها، ولكن هذا الاعتقاد تبطله الشريعة الإسلامية بقوله تعالى :{...وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى...} (الإسراء: 16).
كما أن الشريعة الإسلامية قضت بأمر آخر، في حرصها على حياة الوليد الذي لم يجن أية جناية حتى نبيح قتله أو إجهاضه؛ بل إن أمه هي الجانية وعليها يقام الحد، ولكن ترجأ إقامة الحد على الأم وهي الزانية، لا لأجلها بل لأجل حملها، إذ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للغامدية بعد أن ثبت في حقها الحد:"اذهبي حتى تضعي، فلما وضعته جاءته، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اذهبي حتى ترضعيه، فلما أرضعته جاءته فقال اذهبي فاستودعيه، فاستودعته ثم جاءت فأمر بها فرُجمت"[89].
والإسلام في تحريمه للزنا، وتشديده العقوبة فيها بين حدّ وتعزير[90]، يبتغي تهذيب النفس الإنسانية بأن يسير بها في طريق الفضيلة والعفة، مراعيا في الوقت نفسه الفطرة البشرية في قضاء شهواتها؛ بأن نظمها داخل إطار الزواج، فإذا كان الزوجان لا يريدان الولد فبإمكانهما استعمال موانع الحمل لا الإجهاض وسيلة للتخلص من الحمل، فما بالك إذا كان لإجهاض جنين متخلق من واقعة زنا!
ثالثا: حكم الإجهاض في حالة الاغتصاب وزنا المحارم
يختلف الاغتصاب عن الزنا في أنه مواقعة رجل لامرأة دون رضاها خارج إطار الزواج، باستعمال القوة والعنف ووسائل التهديد، والخداع، وكل ما لا يمكن مقاومته من طرف المرأة[91].
كما أن زنا المحارم في حقيقته اغتصاب لأنه يقع دون رضا البنت أو تحت إكراه أحد أقربائها من المحارم، وبالتالي فإن حكمه من حكم الاغتصاب.
ونقطة الخلاف بين الزنا وزنا المحارم أوالاغتصاب تكمن في عدم إقامة الحد على المرأة أو البنت المكرهة،كما يرى عامة الفقهاء؛ حيث أنهم فصلوا القول في عدم إيقاع الحد على المرأة المكرهة بخلاف موُقع الإكراه (الزاني)، وإيجاب المهر عليه على خلاف بين الفقهاء[92].
أما الولد أو الحمل الذي تحمله المكرهة فهو ابن سفاح مثله مثل ابن الزنا، كما ورد عند ابن قدامة في قوله: "ولا يلحق نسبه بالواطئ، لأنه من زنا"[93].
وفي الحقيقة إن مسألتي الاغتصاب وزنا المحارم من المسائل النادرة في ظل المجتمع الإسلامي، أما في العصر الحاضر وفي ظل تعسر طرق الزواج، فإنهما أصبحتا منتشرتين، وقلما تخلو منهما صفحات الجرائم والأحداث في الجرائد اليومية، وهذا أيضا يمكن التسليم به على مضض.
وأما الذي يحدث في الدول المسلمة المحتلة فإن الخطب فيها أعظم؛ حيث إن اغتصاب النساء المسلمات في البوسنة مثلا، والشيشان، وكوسوفا، والعراق، وأفغانستان، وغيرها من هذه البلاد، يكون جماعيا؛ "فقد أشارت التقارير الواردة عن الأمم المتحدة أنه ينتظر خلال الفترة المقبلة ولادة ما يقارب عشرة آلاف طفل سفاح في كوسوفا"[94]، ومعنى هذا أن العدد يمكن مضاعفته عشرات المرات للحالات غير المسجلة.
وهنا تطرح مجموعة من الأسئلة نفسها بقوة، وهي:
من سيقوم برعاية كل هؤلاء اللقطاء؟ وكيف يمكن لدول أن تقوم مستقبلا على جيل سفاح؟
وهل الأولى إباحة إسقاط وإجهاض الجنين الناشئ من الاغتصاب وزنا المحارم حتى لا يكثر اللقطاء، ولا تبقى ثمرة الجناية تؤرق أمه المغتصبة طوال حياتها لذنب لم تجنه هي أو هو ؟!
وهل يمكن لامرأة أن تربي ابنها من أخيها أو أبيها أو عمها؟!
وكيف سيكون الوضع الأسري تجاه هذه الحادثة التي تبقى ثمرتها شاهدا عليها طوال الحياة؟
وهل يمكن الاستفادة من نقطة الخلاف أيضا في إباحة إجهاض المرأة المغتصبة للجنين التي تحمله ثمرة اغتصاب أو زنا محرم ، وثمرة جريمة لم ترتكبها هي؟ وهي المسألة التي لم يناقشها فقهاؤنا الأجلاء .
أفتى المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر[95]، والدكتور رواس قلعة جي[96]، بأنه :" يترجح أن إباحة إجهاض جنين الاغتصاب أو زنا محرم في مرحلة ما قبل نفخ الروح يعد من المسوغات المعتبرة، بشرط أن يتم التحقق من حالة الاغتصاب، وذلك بتسجيلها لدى الشرطة أو أية جهة معنية؛ وحتى لا تتخذ الزانية هذه الإباحة عذرا وتدعي أنها مغتصبة".
وهناك رأي آخر لبعضهم:
" كلما كان العذر أقوى كانت الرخصة أظهر، وكلما كان ذلك قبل الأربعين الأولى كان أقرب إلى الرخصة. ولا ريب أن الاغتصاب من عدو كافر فاجر، معتد أثيم لمسلمة عذراء طاهرة، عذر قوي لدى المسلمة ولدى أهلها، وهي تكره هذا الجنين - ثمرة الاعتداء الغشوم - وتريد التخلص منه.فهذه رخصة يفتى بها للضرورة التي تقدر بقدرها.
ومن ثم تكون الرخصة مقيدة بحالة العذر المعتبر الذي يقدره أهل الرأي من الشرعيين والأطباء، والعقلاء من الناس، وما عدا ذلك يبقى على أصل المنع.
على أن من حق المسلمة التي ابتليت بهذه المصيبة في نفسها، أن تحتفظ بهذا الجنين، ولا حرج عليها شرعًا، كما ذكرت، ولا تجبر على إسقاطه"[97].
مسوغات إباحة الإجهاض بعد نفخ الروح:
اختلف الفقهاء والأطباء في مسألة تجويز الإجهاض بعد نفخ الروح بين فريق مانع بإطلاق وبين فريق مجيز عند توفر دواعٍ ومبررات، استنادا لقواعد وشروط " الضرورة"، فحقيقة أن "الضرورات تبيح المحظورات"، ولكن في الوقت نفسه" الضرورة تقدر بقدرها"، ومنه كذلك إعمال قواعد" الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"، و"يختار أهون الشرين"؛ و"يدفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما".وأيضا قاعدة: "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما".
وأما شروط اعتبار أمر ما ضرورة فهي :
المسائل التي يجب التأكد من تحققها ووقوعها، لا التوهم بذلك فقط، فلا عبرة للتوهم في الفقه الإسلامي، والتي تظهر في الآتي:
1-أن تكون أسباب الضرورة قائمة أو على وشك الوقوع، أي أن غالب الظن وقوعها.
2-أن تكون نتائج الضرورة أيضا يقينية.
3-أن تكون المصلحة المستفادة من إباحة المحظور بسبب هذه الضرورة أعظم أهمية في ميزان الشرع من المصلحة المستفادة من تجنب المحظور.
4-أن يتعين أن هذا المحظور هو الوسيلة الوحيدة التي يندفع بها الضرر[98].
وأغلب الباحثين رأوا أن الضرورة القصوى هنا هي علاج الأم الحامل، أو الحفاظ على حياة الأم من الحمل لأنه يسبب لها خطرا، ومنهم من أضاف لها إصابة الجنين بتشوهات خطيرة، لا يمكن معها أن يعيش المولود حياة طبيعية بل حياة عذاب!؟
فهل حقيقة تتحقق عناصر الضرورة وشروطها المشار إليها؟ وللإجابة عن هذا السؤال نستعرض آراء بعض الفقهاء في المسألة ونوضح المقصود:
1- قال شيخ الأزهر السابق شلتوت:" إذا ثبت من طريق موثوق به أن بقاء الجنين بعد تحقق حياته يؤدي لا محالة إلى موت الأم، فإن الشريعة بقواعدها العامة تأمرنا بارتكاب أخف الضررين، فإن في بقائه موت الأم، وكان لا منقذ لها سوى إسقاطه في تلك الحالة متعينا، ولا يضحى بها في سبيل إنقاذه؛ لأنها أصله وقد استقرت حياتها".
2- وفي مسألة الجنين المتوقع أن يكون مشوها:" والراجح أن الجنين بعد استكمال أربعة أشهر إنسان حي كامل، فالجناية عليه كالجناية على طفل مولود. ومن لطف الله أن الجنين المصاب بتشوهات خطيرة لا يعيش بعد الولادة، في العادة، كما هو مشاهد، وكما قال أهل الاختصاص أنفسهم"[99].
3- ويقول الشيخ شبير:" فلا يجوز الإجهاض بعد الأربعين إلا في حالة الضرورة القصوى: ومثل الفقهاء لذلك بأن تتعرض حياة الأم للخطر بسبب استمرار الحمل، كما في حالة تسمم الجنين"[100]؛ وذلك بعد استنفاذ كافة الوسائل لتلافي تلك الأخطار[101].
4- وترى اللجنة العلمية للموسوعة الفقهية التي أصدرتها وزارة الأوقاف في الكويت أن " الحفاظ على حياة الأم إذا كان في بقاء الجنين في بطنها خطر عليها أولى بالاعتبار؛ لأنها الأصل وحياتها ثابتة بيقين"[102].
وأما في رأي الأطباء ومع واحد منهم وهو الدكتور محمد علي البار يضربالذي مثالا لهذه الحالة، رغم أنه ينفي وبشدة الضرورة العلاجية التي تبيح الإجهاض بعد نفخ الروح؛ لأنها حالات نادرة في ظل التقدم الطبي، فيقول:" ولا أعلم أن هناك من الأمراض ما يجعل هلاك الأم محققا إذا استمرت في الحمل... إلا حالة واحدة هي تسمم الحمل... ونتيجة للتقدم الطبي الهائل فإن قتل الجنين لإنقاذ الأم يصبح لغوا لا حاجة له في أغلب الحالات المرضية"[103].
وهنا يجب التنبه إلى نقطة خطيرة ومهمة، وهي أن الحالات المرضية المعنية أصبحت قليلة جدا.. ففي السنوات الماضية تطور الطب العلاجي وأصبح بالإمكان علاج كثير من الأمراض المستعصية، والتي كانت تؤدي إلى الوفاة...ومثال على ذلك إصابة المرأة الحامل بداء القلب ...وكانت أمراض القلب من أسباب وفيات الأمهات، وبتقدم العلم و الطب أصبح بالإمكان إجراء بعض التدخلات الجراحية أثناء فترة الحمل مثل جراحات القلب المفتوح وتوسيع الصمامات، إلا أن هناك حالات معينه يصعب علاجها، ومعروف أنها تحمل معدل وفيات عالٍ بين الأمهات؛ وعلى سبيل المثال، ارتفاع الضغط الرئوي الأولي Primary PulmonaryHypertension[104].
كما أن الدكتور البار قد نقل أيضا الرأي نفسه لباحثين غربيين هما: Hawkins & Elders في كتابهما" Human Fertility Medicine "قولهما:" إن إنقاذ حياة الحامل بواسطة الإجهاض أمر شديد الندرة.. وإذا كانت الأم راغبة في إتمام الحمل فلا يكاد يوجد مرض واحد يوجب الإجهاض من أجل إنقاذ حياتها"[105].
المبحث السابع: الحكم العام للإجهاض في المنظورالمقاصدي :
يتردد حكم الإجهاض عند الفقهاء – كما سبق تفصيله- بين التحريم المطلق، وبين الإباحة حتى مرحلة نفخ الروح، آخذين بعين الاعتبار مسألتي : بدء التخلق، ونفخ الروح. وهنا يوجه سؤال للفريق المبيح: أي مقصد يحققه الإجهاض؟ وما الداعي لذلك؟ وباستثناء الضرورة العلاجية، ألا يعد الإجهاض ذريعة لهدم إحدى مقاصد الشريعة الخمس، ألا وهي كلية النسل، هذه الكلية ذات الصلة الوثقى بالحفاظ على الجنس البشري وبقاء نوعه بالتناسل والتكاثر، وهو أمر لامناص منه لاستمرار النوع البشري وبقاء الإنسان وذريته، وقيامهم بالوظيفة المنوطة بهم في تحقيق الاستخلاف، فلا ينقطع لهم نسل ولا ينقرض لهم نوع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وينقطع التكليف.
وهل الإجهاض وسيلة يُحفظ بها النسل في حال كون الحمل غير مرغوب فيه؟ أم أنه وسيلة لحفظ النسل حال التيقن من تشوه الجنين فقط؟ وهل يمكن أن نعده أحد وسائل حفظ كلية النسل عموما؟
وبين هذا وذاك، أليس الإجهاض تعدٍ على حق الجنين في الحياة التي أكرمه بها الخالق البارئ؟ أليس هذا تعدٍ على حق الله تعالى وعلى أوامره ونواهيه؟
أيمكن لمقاصد المكلف أن تطغى على مقاصد الشارع، والأصل أن "قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع"[106]؟
بين هذا السؤال وذاك يجدر أن يُعالج موضوع" الإجهاض" في الإطار المقاصدي، بغرض معرفة موقع "الإجهاض" بأنواعه، بين حفظ مقاصد الشارع الحكيم وحفظ مقاصد المكلف، وأيهما أولى بالاعتبار:
يتبع