نبتة غريبة..!


بدرية الغنيم
نظر الفلاح إلى حقله المترامي الأطراف وقد كسي نضارة وخضرة بدت معالمها على وجهه سروراً وانشراحاً وفترت شفتيه عن ابتسامة دائمة زادت وضوحاً في حرارة الشمس اللاهبة التي صرّ عينيه متأذياً من وهجها، لكنه لا يمل تلك الابتسامة وكأنها من واجباته اليومية في رعاية الحقل وكان يعمد لحقله قبل بزوغ الشمس يتفقده نبتةً نبتة.. يتلمس أوراقها ويعدل سيقانها ويبعد عنها ما يؤذيها ويحادثها وكأنها تبادله الحديث وتبثه شكواها، فكان يشعر بما ينقصها فيشاركها المشاعر والأحاسيس فغدا وكأنه من شجيرات الحقل..

وفي لحظات تفقده لحقله الممتد على الأرض والممتد حباً في قلبه نظر فإذا نبتة صغيرة بين نباتات حقله نظر إليها في رحمة ولامس بيديه أوراقها بأسى؛ لأنها غريبة، تركها وهو يتمتم: صغيرة صغيرة.. وأخذ يمتع ناظريه بجمال حقله وخضرته ورواء أغصانه، يغيب عن حقله ويعود بشوق متجدد وعزم متجدد لما يرى من تسابق شجيرته في الإعلان عن طيب رعايته وحسن تعهده لها وكأنهن يقلن له في تسابقهن للتطاول والنمو: شكراً لتلك العناية وذلك الحب، ثم بدأن بتقديم الهدايا له بتلك الزهور التي زادت من زهو الحقل، وكان كلما مرّ على النبتة الغريبة ضحك ورحم غربتها في حقله، وإذا بها تسابق شجيرات الحقل في عنفوان وصمود وشموخ..
وفي يوم مشرق دلف الفلاح إلى حقله بابتسامته المعهودة ولم تلبث إلا قليلا حتى تلاشت لما رأى بعض الشجيرات بدا عليها الإعياء فكانت لا ترتفع وفرتها عالياً بل كانت منكسة مطأطأة وجذوعها مرنة تقلبها الرياح يمنة ويسرة قد ذوت ولم تعد في صمودها ومقاومتها، أخذ يقيم جذوعها ويسندها ثم أجرى نحوها تيار الماء وأسمدها، لكن الماء يتغلغل في الأرض دون أن تصيب منه نهمها..
أدرك أن في الأمر ما فيه حينما رأى وسطهن تلك الشجرة في عنفوان وقوة، ورأى بشاعة ورقها وصلابة جذوعها ونتنها ونتن ثمارها ومستعمرات الحشرات التي ارتضتها وطنناً.. بعدها قرر في نفسه أن يقتلعها.
حمل فأسه فضرب الأرض حولها فإذا هي قوية متماسكة لم تعمل فيها معاوله، حاول أخرى لكنه لم ينجح إلا ببعثرة شيء من التراب والحشرات المتراكضة، بعدها دبت في نفسه رعدة غريبة! هذه الشجرة التي كنت أكرمها وأرحمها وجعلتها تعيش في حقلي وبين شجيراتي نبتة خبيثة لا بد أن تقتلع.. أخذ هدير "البلدوزر" في الحقل يثير اضطراب الشجيرات، وأمسك بالشجرة الخبيثة وأخذ يسحبها وتأبى أن تترك الأرض التي نبتت فيها، أخذ يسحبها بعنف وتقاوم ويسحبها، ولم يفلح حتى أحضر أداة للحفر تضرب في جذورها والبلدوزر ممسكاً بجذعها وتكاد أن تقف تروسه من قوة جذعها وأداة الحفر كسرت مدقتها مراراً، ومع إصرار الفلاح وتظافر الأدوات والحبال والشد والقطع والجذب نتقت الشجرة الخبيثة بجذورها من الأرض وقد علقت بها جذور شجيرات الحقل فتساقطن واحدة تلو الأخرى متناثرة ثمارها ثم تبعثرت نباتات الحقل وقلبت تربته فأحدثت هوة في أرض المزرعة فكانت إزالتها شاقة، حيث قد صنعت لها شبكة من الجذور الموصلة بكل نبتة قريبة منها وكانت تستأثر بالماء والغذاء وتتغذى على ما تصنعه الشجيرات في جذورها حتى ضعفت النباتات وذوت.
فكان مشهد الشجرة الخبيثة وهي مجندلة وتلك الشجيرات الجميلة الميتة حولها والجريحة قد أثار حزن الفلاح وأسفه فعض أصابع الندم إذ لم يبادر الأمر من أوله إذ أحسن الظن بنبتة دخيلة عملت على إفساد حقله ونثرت سمومها في تربته.
وهذا هو حال التربية في كثير من البيوت إلا من رحم الله..!
حيث لا تتجاوز الغذاء والدواء والكساء، وإذا كبر الأولاد والبنات وبدأت تظهر السلوكيات الخاطئة التفت الأهل لأمر التربية في وقت متأخر جداً وبدؤوا يجربون حلولهم المرتجلة والوقتية، وأخذوا يلقون بالملامة على الجيل الجديد و"عصايتهم" وتحديهم لإرادة الأهل وعدم التزامهم واحترامهم للقيم التي نشأ عليها الآباء، فيبدأ الآباء حينها البحث عن جميع عيوب الشاب لعلاجها من تهاون بالصلاة وتكاسل في أداء العبادات ثم السلوكيات السيئة التي أصبح عليها الشاب، فيبدأ العلاج لكم هائل من المشاكل في وقت واحد بدون ترتيب للأولويات مما يثير حفيظة الشاب ويعلن التمرد وعدم الاستجابة، ثم يقوم الأهل بعد أن دب اليأس في أوصالهم بالانسحاب من ساحة التربية التي دخلوها متأخرين، ويترك الأمر للشاب، ويحل الفتور والقطيعة، وتخسر الأسرة والمجتمع عنصراً مهما. فيتهرب المعنيون من هذه المصادمة فتزيد الحالة سوءاً، أو يؤثر بعضهم البتر والقطع والعنف لعلاج المشكلة فتحصل مفاسد كثيرة في سبيل إصلاح أمر كان علاجه هيناً في البداية صعب عند تضخمه. فيؤثر المربي أن يكون مدافعاً لا مبادراً.. وذلك أصعب وضع يكون فيه المربي؛ إذ تتوالى الأهداف في مرماه فيضعف ولا يستطيع تحقيق أي هدف، وتضيع أهدافه في ثنايا الدفاع ويتحول من وضع التخطيط والتنفيذ إلى الترقيع وسد الخلل.

فكيف يحسن عندها وضع التربية لمن يضيع الفرص المتاحة للتربية، ولمن لا يدرك ولا يلاحظ المشاكل الخطيرة حال تمرحلها وتعدد أدوارها وآثارها السلبية ويعجز عن مواجهة بؤر التقصير، ويأبى أن يقر بمساهمته في صناعتها؟!