الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب ستر المرأة وجهها عن الرجال غير المحارم
الشيخ/ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه صلى الله عليه وسلم. فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة. فمن يحاول منع نساء المسلمين كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى المقصود منه.
وفي كتاب الحجاب له بعد أن ذكر جملة من أقوال المفسرين على آية الأحزاب (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ (59) ) [الأحزاب]، الآية ما نصه: ( ويتضح من هذه الأقوال جميعها أنه من لدن عصر الصحابة الميمون إلى القرن الثامن للهجرة حمل جميع أهل العلم هذه الآية على مفهوم واحد هو الذي قد فهمناه من كلماتها. وإذا راجعنا بعد ذلك الأحاديث النبوية والآثار علمنا منها أيضاً أن النساء قد شرعن يلبسن النقاب على العموم بعد نزول هذه الآية على العهد النبوي وكن لا يخرجن سافرات.
فقد جاء في سنن أبي داود والترمذي والموطأ للإمام مالك وغيرها من كتب الأحاديث أن كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين ونهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وهذا صريح الدلالة على أن النساء في عهد النبوة قد تعودن الانتقاب ولبس القفازين عامة فنهين عنه في الإحرام ولم يكن المقصود بهذا الحكم أن تعرض الوجوه في موسم الحج عرضاً، بل كان المقصود في الحقيقة ألا يكون القناع جزءاً من هيئة الإحرام المتواضعة كما يكون جزءاً من لباسهن عادة.
فقد ورد في الأحاديث الأخرى تصريح بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعامة المسلمات كن يخفين وجوههن عن الأجانب في حالة إحرامهن أيضاً، ففي سنن أبي داود عن عائشة قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا جازوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا كشفناه ـ إلى أن قال: وكل من تأمل كلمات الآية وما فسرها به أهل التفسير في جميع الأزمان بالاتفاق وما تعامل عليه الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لم ير في الأمر مجالاً للجحود بأن المرأة قد أمرها الشرع الإسلامي بستر وجهها عن الأجانب، وما زال العمل جارياً عليه منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا اليوم) اهـ.
وبما تقدم تعلم أنه لا مستمسك لهولاء الكتاب بقوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا (31) ) [النور] ، وأن الآية حجة لنا لا لهم.
وأما أدلة السنة على وجوب الحجاب: فهناك أحاديث كثيرة تدل على وجوب الحجاب منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين) [رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن إلا ابن ماجه، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ] قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى (15، 370ـ 371): وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن وقال في المجموع (20/ 120) ووجه المرأة في الإحرام فيه قولان في مذهب أحمد وغيره ـ قيل إنه كرأس الرجل فلا يغطى وقيل كبدنه فلا يغطى بالنقاب والبرقع ونحو ذلك مما صنع على قدره وهذا هو الصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه إلا عن القفازين والنقاب وكانت النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال وذلك أن ما يجافيها عن الوجه فعلم أن وجهها كبدن الرجل وذلك أن المرأة كلها عورة كما تقدم فلها أن تغطي وجهها لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو. اهـ.
ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا كشفناه) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه ـ قال الشوكاني في نيل الأوطار واستدل بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها (يريد حال الإحرام) لمرور الرجال قريباً منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره مطلقاً كالعورة). اهـ.
ومعناه: أنه لا يحرم عليها ستر وجهها حالة إحرامها بحضرة أجانب أو غيرهم وهذا صريح من الإمام الشوكاني أنه يرى ستر المرأة لوجهها، إذا إن الوجه هو موضع الزينة ومحل الافتتان بها ونساء الصحابة يكشفن وجوههن حالة الإحرام فإذا مرّ بهن الرجال الأجانب سترن وجوههن عنهم، مما يدل على أن المعتاد عندهم هو ستر الوجه .
هذه بعض أدلة الكتاب والسنة على وجوب ستر الوجه واليدين من المرأة عن الرجال الأجانب، وطرف من كلام أهل العلم عليها ولو تتبعنا كل ما ورد وكل ما قيل في هذا الموضوع لاحتجنا إلى مجلدات لكن نكتفي من ذلك بما تحصل به الإشارة.
الجواب عما استدل به المخالفون على جواز كشف المرأة لوجهها عند الرجال
1ـ أما الاستدلال على جواز كشف الوجه واليدين من المرأة بحضرة الرجال بحديث عائشة في قصة دخول أسماء على النبي صلى الله عليه وسلم بثياب رقاق وقوله لها: (إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه). فمن العجيب استدلالهم بهذا الحديث مع ضعفه فكيف يعارض به الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة الدالة على تحريم نظر الرجل إلى وجه المرأة الأجنبية ووجوب ستره ـ والنظر رسول الفتنة وبريد الزنا وقديماً قال الشاعر:
كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
وحديثاً قال آخر:
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
فما بالهم الآن يتساهلون في النظر.
وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان (6، 602) ما نصه: ( وبالجملة فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الأجانب مع أن الوجه هو أصل الجمال والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثيرة للغريزة البشرية وداع إلى الفتنة والوقوع فيما لا ينبغي ألم تسمع بعضهم يقول:
قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك ولقد صدق من قال:
وما عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجيب
انتهى.
إضافة إلى ذلك نقول إن الفتنة متوقعة من كل رجل ينظر إلى وجه امرأة أجنبية ولا سيما الشابة الجميلة فإن الفتنة بالنظر إليهما أعظم. فيتعين الحجاب منعاً لهذه الفتنة على جميع النساء.
ونعود إلى بيان درجة الحديث الذي استدل به هؤلاء وبيان ما قاله العلماء فيه قال ابن كثير: قال أبو داوود وأبو حاتم الرازي: هو مرسل ـ خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها ـ وقال المنذري في مختصر سنن أبي داوود: قال أبو داوود هذا مرسل ـ خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها، وفي إسناد سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري نزيل دمشق مولى بني نصر وقد تكلم فيه غير واحد. وذكر الحافظ أبو أحمد الجرجاني هذا الحديث وقال: لا أعلم من رواه غير سعيد بن بشير وقال مرة فيه عن خالد بن دريك عن أم سلمة بدل عائشة) اهـ.
وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان (6/597) وهذا الحديث يجاب عنه بأنه ضعيف من جهتين:
الأولى: كونه مرسلاً لأن خالد بن دريك لم يسمع من عائشة كما قاله أبو داوود وأبو حاتم الرازي كما قدمناه في سورة النور.
الجهة الثانية: أن في إسناده سعيد بن بشير الأزدي مولاه، قال فيه في التقريب: ضعيف ـ مع أنه مردود بما ذكرنا من الأدلة على عموم الحجاب، ومع أنه لو قدر ثبوته قد يحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب.اهـ. قلت: وحديث هذه درجته لا يصح الاستدلال به لا سيما في هذه المسألة الخطيرة.
2ـ وأما استدلالهم على جواز نظر الرجل الأجنبي إلى وجه المرأة بحديث الفضل بن العباس ونظره إلى الخثعمية وصرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها، فهذا من غرائب الاستدلال لأن الحديث يدل على خلاف ما يقولون وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر الفضل على ذلك بل صرف وجهه وكيف يمنعه من شيء مباح؛ قال النووي رحمه الله عند ذكره لفوائد هذا الحديث: ومنها تحريم النظر إلى الأجنبية. ومنها إزالة المنكر باليد لمن أمكنه. وقال العلامة ابن القيم في روضة المحبين صفحة (102) وهذا منع وإنكار بالفعل فلو كان النظر جائزاً لأقره عليه.اهـ.
وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان (6ـ 600ـ 601) مجيباً عن هذا الاستدلال ما نصه: (وأجيب عن ذلك أيضاً من وجهين:
الأول: الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه وأقرها على ذلك بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة وفي بعض روايات الحديث أنها حسناء ومعروفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كاشفة عن وجهها وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك. بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها كما أوضحناه في رؤية جابر سفعاء الخدين. ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها. ومما يوضح هذا أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي روى عنه هذا الحديث لم يكن حاضراً وقت نظر أخيه إلى المرأة ونظرها إليه لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه بالليل من مزدلفة إلى منى في ضعفة أهله ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه الفضل وهو لم يقل له إنها كانت كاشفة عن وجهها واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصداً لاحتمال أن يكون رأى وجهها وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها من غير قصد منها واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها. إلى أن قال: (مع أن جمال المرأة قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة وذلك لحسن قدها وقوامها وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط، كما هو معلوم ولذلك فسر ابن مسعود (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالملاءة فوق الثياب كما تقدم. ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب.
قول الشاعر:
طافت أمامة بالركبان آونة ياحسنها من قوام ما ومنتقبا
فقد بالغ في حسن قوامها مع أن العادة كونه مستوراً بالثياب لا منكشفاً.
الوجه الثاني: أن المرأة محرمة وإحرام المرأة في وجهها وكفيها فعليها كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليها وعليها ستره من الرجال في الإحرام، كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن.
ولم يقل أحد أن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها أحد غير الفضل بن عباس رضي الله عنهما والفضل منعه النبي صلى الله عليه وسلم من النظر إليها وبذلك يعلم أنها محرمة لم ينظر إليها أحد فكشفها عن وجهها إذاً لإحرام لا لجواز السفور؛ إلى أن قال: ويفهم من صرف النبي صلى الله عليه وسلم بصر الفضل عنها أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة كما ترى وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها.انتهى.
وبهذا انقطعت حجة هؤلاء المنادين بالسفور ولم يبق لهم إلا المكابرة والعناد. والله لهم بالمرصاد؛ ولكن عليهم التوبة إلى الله والرجوع إلى الصواب، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
(مجلة الدعوة) 22 ربيع الآخر 1425هـ 10 يونيو 2004م ـ العدد (1946)