حقوق العلماء بعد وفاتهم


إنَّ موت العلماء، موت لخير كثير؛ فحياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، إذ إنَّ العلماء نورٌ يستضاء بعلمهم، وقبْض العلماء نذيرُ شر، وبموت العلماء ينقص العلم، ويكثر الجهل، ويكون سبباً لضلال الناس، وبعدهم عن الحق.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رؤوساً جهّالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضَلُّوا وأَضَلُّوا"[1].
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: موت العالم ثُلمة في الإسلام، لا يسدُّها شيء ما طرد الليل النهار [2].
وقيل لسعيد بن جبير - رحمه الله تعالى -: ما علامة الساعة وهلاك الناس؟ قال: إذا ذهب علماؤهم [3].
و لمَّا كانوا بهذه المنزلة الرفيعة؛ لما لهم من الأثر البليغ في صلاح العباد والبلاد، كان حقاً على الأمة الإسلامية، أَنْ يقوموا بواجبهم تجاه علمائهم بعد وفاتهم، ومن هذه الحقوق:
الأول: الثناء عليهم، وذكرهم بالجميل:
قال الإمام الطحاوي - رحمه الله تعالى -: وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير، والأثر، وأهل الفقه، والنظر لا يذكرون الا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.
يقول الشيخ صالح آل الشيخ - حفظه الله تعالى - معلقاً على الكلام السابق: ( أنَّ ذِكر العلماء بالجميل وعدم ذكرهم بأي سوءٍ أو قدح هذا امتثال لأمرين:
الأول: امتثال لقول الله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.... ﴾ [التوبة: 71] [4].
ولقوله ﴿ .... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ...﴾ [المجادلة: 11][5]، ولقوله ﴿ ... وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ ... ﴾ [النساء: 83] [6]، فَبَيَّنَ الله - عز وجل - منزلة أهل العلم وبَيَّنَ فضل العلم وفضل أهله وأنهم مرفُوعون عن سائر المؤمنين درجات لِمَا عندهم من العلم بالله - عز وجل -.
وبَيَّنَ أنَّ المؤمن للمؤمن مُوالٍ، أنَّ المؤمن يُوالي المؤمن، ومعنى هذه الموالاة في قوله ﴿ وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾، هي من الوَلَاية وهي المحبة والنُّصْرَة.
وهذه المحبة والنُّصْرَة عند أهل السنة والجماعة تتفاضل بتفاضل تحقق وصف الإيمان.
فالمؤمن يحب ويوالي المؤمن الآخر إذا كان كامل الإيمان أكثر من نُصْرَتِهِ ومحبته لمن كان دونه.
ومعلومٌ أنَّ العلماء هم الذين أثنى الله - عز وجل-عليهم وأثنى عليهم رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فواجبٌ إذاً بنص الآية أن يُوَالَوا وأن يُذْكَرُوا بالجميل وأن يُحَبُّوا وأن يُنْصَرُوا وأن لا يُذْكَرُوا بغير الحَسَنِ والجميل.
الثاني: أنَّ القدح في أهل العلم فيما أخطؤوا فيه يرجع في الحقيقة عند العامة إلى قَدْحٍ في حَمَلَةِ الشريعة ونَقَلَةِ الشريعة وبالتالي فيضعف في النفوس محبة الشّرع؛ لأنَّ أهل العلم حينئذٍ في النفوس ليسوا على مقامٍ رفيع وليسوا على منزلةٍ رفيعة في النفوس.
فحينئذ يُشَكْ فيما ينقلونه من الدين وفيما يحفظون به الشريعة، فتؤول الأمور حينئذ إلى الأهواء والآراء فلا يكون ثَمَّ مرجعية إلى أهل العلم فيما أشكل على الناس فَتَتَفَصَّمْ عرى الإيمان لهذا كان ذِكْرُ العلماء بسوء هو من جنس ذكر الصحابة - رضي الله عنهم - بسوء، ولهذا أتْبَعَ الطحاوي ذكر الصحابة بذكر العلماء) [7].
الثاني: إبراز مآثرهم و أعمالهم التي نفعوا الأمة بها، وعدم نسيانهم:
وذلك بمطالعة سيرهم، ومعرفة ظروف نشأتهم ورحلاتهم في طلب العلم، والاطّلاع على مؤلّفاتهم، ونشر كتبهم بالوسائل الإعلامية المتنوعة التي تختلف في كل زمان ومكان.
فكم من العلماء قد غيَّبهم الأجل، ولازالت مآثرُهم، وأعمالهم تبعَث في المجالس طيبًا، تحمل الناس على عمل الخير، وفعل الجميل، والاقتداء الحسَن!
قال أبو بكر بن عياش - رحمه الله تعالى -: (إنَّ أهل السنة يموتون ويحيا ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم؛ لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكان لهم نصيب من قوله تعالى: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 4] [8].
وأهل البدعة شنؤوا[9] ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكان لهم نصيب من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 3])[10] [11].
ليس علينا إلا أن نقتطف من هذه الثمار الناضجة، وأن نستفيد مما كتبوه، وأن نعترف بفضلهم، وأن نذكرهم بالخير، وأن تكون قلوبنا مليئة بحبهم.
ومن الأمانة العلمية أن ننسب العلم إليهم، فإذا قرأت فائدة أو نقلت علماً نبه عليه عالم من علماء المسلمين، كان من الحق له عليك أن تنوه بفضله في ذلك فتقول مثلاً: كما ذكره الحافظ فلان، أو قرّره شيخ الإسلام فلان، ولا توهم الناس أن الفضل لك وحدك.
الثالث: شهود جَنائزهم، والترحم عليهم:
إنَّ شهود الناس لجَنازة العلماء والترحم عليهم، مما يزيد التفاؤل بخيرية المجتمع، ويدل على ترابط أفراد المجتمع المسلم، فإن المسلم يفرح لفرح أخيه، ويحزن لحزنه، وهو ترجمة عملية للقيام بحق أخيه المسلم.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس"[12].
فمن حق العلماء على أفراد المجتمع المسلم الترحم عليهم، وشهود جَنائزهم، ومن الأمثلة على ذلك، ما حصل للناس عندما مرض الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله تعالى- يقول المروزي رحمه الله تعالى: (مرض أبو عبد الله ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين، ومرض تسعة أيام، وتسامع الناس فأقبلوا لعيادته، ولزموا الباب الليل والنهار يبيتون؛ فربما أذن للناس فيدخلون أفواجاً يسلمون عليه؛ فيرد عليهم بيده.
ولما قبض رحمه الله صاح الناس، وعلت الأصوات بالبكاء؛ حتى كأن الدنيا قد ارتجت).
وعن موسى بن هارون - رحمه الله تعالى - قال: (يقال: إنَّ أحمد بن حنبل لما مات، مسحت الأمكنة المبسوطة التي وقف الناس عليها للصلاة؛ فحزر مقادير الناس بالمساحة على التقدير ستمائة ألف وأكثر سوى ما كان في الأطراف، والجوالي، والسطوح، والمواضع المتفرقة أكثر من ألف ألف) [13].
فموت العلماء مصيبة عظمى، وحادث جلل، لما لهم من الأثر البليغ، بهم يُعرف الحلال من الحرام، والضار من النافع، والحق من الباطل.

قال الإمام الآجري - رحمه الله تعالى- في أثناء كلامه عن مقام العلماء: (حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكرون الغافل، ويعلمون الجاهل، لا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة، بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون، وبجميل موعظتهم يرجع المقصرون، جميع الخلق إلى علمهم محتاج، والصحيح على من خالف بقولهم محجاج[14]، الطاعة لهم من جميع الخلق واجبة، والمعصية لهم محرمة، من أطاعهم رشد، ومن عصاهم عند) [15].
إذاً على الدعاة والمدعوين واجب أن يقوموا بحقوق العلماء حتى تحفظ لهم مكانتهم وسابقتهم ونشرهم للعلم والدين، وذلك بأن يحبوا ويذب عن أعراضهم ويحترموا، لأنه حين يطعن في العلماء، تضيع هيبتهم، وتضعف الشريعة في نفوس الناس؛ لأنهم ناقلوا العلم، ومبلغوه للناس.

[1] رواه البخاري، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، 1 /50، رقم الحديث ( 100 ).
[2] جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، ص: 202.
[3] المرجع السابق.
[4] سورة التوبة، آية: 71.
[5] سورة المجادلة، آية: 11.
[6] سورة النساء، آية:83.
[7] شرح العقيدة الطحاوية، صالح عبدالعزيز محمد آل الشيخ، خرج أحاديثه: سليمان القاطوني، 2 /878-879، ط1، 1431هـ/2011م، دار المودة، المنصورة.
[8] سورة الشرح، آية: 4.
[9] أي أبغضوا، انظر تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي، 1 /288.
[10] سورة الكوثر، آية: 3.
[11] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ابن تيمية الحراني، 16 /528.
[12] رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز، 1 /418، رقم الحديث ( 1183 ).
[13] صفة الصفوة، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، تحقيق: محمود فاخوري، محمد رواس قلعه جي، 2 /356، 358، ط2، 1399هـ/1979م، دار المعرفة، بيروت.
[14] رجل محِجـاج بالكسر أي جدل و التحاج التخاصم و المَحَجة بفتحتين جادة الطريق، انظر مختار الصحاح: الرازي، 1 / 52.
[15] أخلاق العلماء، الآجري، ص: 6.





رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/111291/#ixzz5SeTD0BK5