إنه أبي...


عبير النحاس


كانت الفرصة مواتية لزيادة الضغوط و الإلحاح على والدينا -و نحن صغار- للموافقة على طلبنا بأن نقتني قطة في بيتنا بعد أن فعلت هذا خالتي التي تكبرني و أختي بعام واحد, و كانت الاستجابة سريعة كما في كل مرة نحسن فيها استثارة مشاعر الشفقة لديهما.
وصلت القطة أخيرا و كانت رائعة الجمال, ذات شعر طويل كث, و ألوان بارعة, و كانت تمتلك وجها أنيقا رقيقا, و عينان زرقاوان, و تبدو عليها علامات النجابة و الذكاء, في الحقيقة لقد نالت إعجابنا جميعا.
قررت يومها أن أسميها (مديحة) فقد كانت عينا (السيدة مديحة) التي أعرفها بلون عيني قطتنا, و هذا ما دفعني لإعطائها هذا الاسم, و كنت أقول لأختي :
" يجب أن يكون لقطتنا اسما لائقا بها فسوف تصبح جدة بسرعة فائقة كما قرأت في مجلة عن القطط, و من المضحك أن يعرف أحفادها أن لها اسما سخيفا- مثل لولو و تو تو و ميمو - كما يسمي بقية أقربائنا قططهم ".
و قد اقتنعت أختي ووافقت دون اعتراض يذكر.

لم نكن نتوقع من والدنا أن يقوم بتدليل القطة أو أن يحملها و يمسح شعرها مطلقا, فقد كان والدي رجلا مشغولا بالكثير من الأمور الهامة, و لم يكن يخطر لنا أن تكون قطة صغيرة - بحجم مديحة- في يوما ما شيئا مهما بالنسبة إليه.
لقد كان وجود مديحة في بيتنا أمرا رائعا و قد تعلمت بسرعة كيف تقضي حاجتها في الحمام, و حرصنا جميعا و كنت أولهم على التأكد من بقاء باب الحمام مفتوحا طوال النهار لأن تنظيف ما قد تفعله في المنزل سيكون من نصيبي وحدي, فقد كنت أنا القائد في هذه القصة, و كانت مديحة تخصني أكثر من البقية.
استطاعت قطتنا بعد مدة أن تبني جسورا من الود بينها و بين والدتي, فقد كانت والدتي رحيمة, و كانت مديحة تحسن التودد إليها عندما تقوم بالتمسح بقدميها صباحا كلما فتحت لها الباب, فتضع لها صحنا من الحليب الدافئ, و طالما اعتقدت أن والدتي تحبها رغم عدم تصريحها بهذا فقد كانت تفضل العصافير و تقتنيها.
في بيتنا عاشت ثلاثة من الطيور على فترات متتالية, فقد كان طير الحب هو الأول ثم تلاه ببغاء أخضر و بعدها ببغاء أصفر اللون, و رغم محبتي للطيور إلا أن أيا منها لم يكن يعني لي شيئا مما تعنيه (مديحة) فقد كانت تلاعبني و كنت أتسلى بهذا كثيرا, و كانت تفرحني استجابتها و توددها الدائم لي و جلوسها بسكينة قربي, و متابعتها معي لأفلام الرسوم المتحركة بكل اهتمام.
و في ذلك اليوم بدت متوعكة, و بقيت مستلقية طوال الوقت, وعافت الطعام و الشراب, و كنت قد جلست بجانبها أذرف دمعا غزيرا من شدة الخوف عليها و تألما لآلامها, و كان والدي هناك أيضا و قد أشار علينا بحملها إلى خالي و الذي يعمل طبيبا بيطريا, وبالفعل تم لنا هذا و كنت أرى والدي يستمع باهتمام لملاحظات خالي, و من ثم يسأل عنها و عن علاجها حتى شفيت تماما.
في الحقيقة لقد كان اهتمام والدي(بمديحة) موجودا, و لكنه كان مغلفا بتلك الهيبة التي يلف بها وجهه و يحرص عليها, فكل وجبات الحليب التي تتناولها كان هو من يحضرها لها بانتظام, و راح يقطع لها قطعا صغيرة من اللحم عندما كبرت قليلا و قرر أنها يجب أن تبدأ بتناول اللحم, ثم تعلمت ذلك بنفسي و حملت عنه هذه المهمة.
وكنا نبتسم خفية ونراقبه وهو يسقط لها لقيمات من الطعام و نحن نجلس إلى مائدة الطعام, و قد باتت تعرف أنه من يفعل هذا معها فتجلس قريبة من مكانه.
وهو من يحضر وجبات الحبوب و البذور التي تحبها عصافيرنا, وكان هذا هو تعبيره عن تلك الرحمة الساكنة في قلبه إذ لم يكن يطلق لكلماته العنان أبدا.

لقد كان وجه والدي الصامت يخفي خلفه الكثير من الحنان والحب والعطف وكثيرا من الرحمة والشفقة للجميع من حوله.
أحبك يا والدي.