أثـار الفتـن (1)




إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فهذا موضوع نحتاج إلى مذاكرته والوقوف على طرف من جوانبه، وذلك من باب الحيطة؛ لأن معرفة آثار الشيء وعواقبه وأضراره تعطي العبد شيئاً من الحصانة منه والحذر من الوقوع فيه، وقد قيل قديماً: «كيف يتقي من لا يدري ما يتقي؟!».
الذي لا يعرف الفتن ولا يعرف آثارها وعواقبها وعوائدها، ربما دخل في شيء منها وتلطخ بها وأضرت بحياته، ثم بعد ذلك يلحقه من الندم ما يلحقه.
ومعرفة آثار الفتن نافعة للعبد نفعاً كبيراً، ومفيدة له فائدة عظيمة؛ لأنها من باب النظر في العواقب ومآلات الأمور، وهذا يعد من حصافة العبد، أي: إنه قبل أن يقدم على أمر من الأمور، ينظر في عواقبه وآثاره.
ولهذا جاء في سيرة الإمام أحمد -رحمه الله- أن نفراً من علماء بغداد جاؤوا إليه في بيته، فقالوا: يا أبا عبدالله هذا الأمر قد تفاقم وفشا - يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك - فقال لهم أبو عبدالله: فما تريدون؟ قالوا: أن نشاورك في أنا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه! فناظرهم أبو عبدالله ساعة وقال لهم: «عليكم بالنكرة بقلوبكم ولا تخلعوا يداً من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر»(1).
فهذه دعوة منه -رحمه الله- للنظر في آثار الفتن وعواقبها وأي شيء سيعود على أهلها منها.
وأخذ يحدثهم في ذلك، ثم إنهم خرجوا من عنده ولم يتلقوا كلامه بالقبول، بل ما زالوا على رأيهم مصرين، ودعوا إلى مسلكهم ابن أخي الإمام أحمد -رحمه الله- دعوه إلى المسلك نفسه، فنهاه والده، وقال: احذر أن تصاحبهم؛ فإن الإمام أحمد لم ينههم إلا عن شر، فاعتذر، ثم كانت نهاية قصتهم أن خرجوا على السلطان، فكانت العاقبة التي حذرهم منها الإمام أحمد -رحمه الله- قُتل من قُتل، وسُجن من سُجن دون أن يقدموا شيئاً في باب الإصلاح.
فالشاهد أن النظر في عواقب الأمور ومآلات الأشياء وعدم التعجل والتسرع من أنفع ما يكون للعبد.
ولهذا جاء عن الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: إنها ستكون أمور مشتبهات؛ فعليكم بالتؤدة؛ فإنك أن تكون تابعاً في الخير، خير من أن تكون رأساً في الشر(2).
فأوصى بالتؤدة وهي الأناة وعدم التعجل.
وروى الإمام البخاري -رحمه الله- في كتابه «الأدب المفرد» عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: «لا تكونوا عُجلاً مذاييع بُذرا؛ فإن من ورائكم بلاء مبرحا أو مكلحا، وأمور متماحلة رُدُحا»(3)، أي: ثقيلة وشديدة.
فنهى عن أمور ثلاثة، قال: «لا تكونوا عجلاً مذاييع بذرا»؛ فنهى عن العجلة، وهي التسرع، بل ينبغي على الإنسان أن يتأنى ويتروى وينظر في العواقب والآثار، ثم بعد ذلك يقدم بعد روية وأناة.
والأمر الثاني الذي نهى عنه أن يكونوا «مذاييع»، وهذا أمر يحذر منه غاية التحذير، فعندما تلتهب الفتن وتشتد لا ينبغي للإنسان أن يكون ساعيا في اشتدادها واشتعالها بكلامه ومقاله، بأن يكون مذياعاً للفتنة ومذياعاً للشر ومذكياً لناره.
وذكر الأمر الثالث، فقال: «بَذَرا»، أي: من بذرة الفتن والسعاة في نشرها، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر الأمة وأخبر أن الفتن توجد وستكون وحذرهم من السعي فيها، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم : «ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي»(4)، أي: إن المرء كلما كان بعيداً عن تحريك الفتنة وإشعالها وإيقادها وإضرامها، كان خيراً له وأصلح، يبتعد عنها ويسأل الله تبارك وتعالى أن يعيذه ويعيذ المسلمين من شرها، لا أن يكون أداة في اشتعالها وانتشارها.
وقد جاء في «صحيح مسلم»(5) من حديث زيد بن ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن»، فقال الصحابة -رضي الله عنهم: «نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن».
فالفتن يُتعوذ منها، ويطلب من الله -تبارك وتعالى- أن يعيذ المسلمين منها، وأن يحميهم من غوائلها وآثارها وأخطارها وأضرارها.
ويكثُر في الدعوات المأثورة: التعوذ بالله من سوء الفتن، والتعوذ بالله من مضلات الفتن.
وهذا أمر ينبغي أن يكون المسلم على عناية به، وأن يحافظ عليه؛ لأن الحافظ هو الله -تبارك وتعالى- والمعيذ هو الله، فيلجأ العبد إلى الله -تبارك وتعالى- لجوءاً صادقاً، يسأل ربه -جل وعلا- أن يعيذه وأن يقيه، وأن يحميه والمسلمين من الفتن، هذا الذي يجب على كل مسلم.
وباب فقه آثار الفتن يفيد الإنسان؛ لأن النظر في العواقب -عواقب الفتن- ومعرفة مآلاتها قبل تقحمها ودخولها يفيد الإنسان حصانة منها وحذرا من الوقوع فيها، وكما قيل: «السعيد من اتعظ بغيره» فينظر ويتأمل ويتروى ويتفقه في الآثار، ويسأل أهل العلم وأهل الذكر قبل أن يتقحم فتنة، ربما كان فيها رأسا، وربما كان فيها فاتحا لباب شر عليه وعلى غيره.
وقد جاء في الحديث في «سنن ابن ماجه» و«السنة» لابن أبي عاصم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي[ قال: «إن من الناس ناسا مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس ناسا مفاتيح للشر مغاليق للخير؛ فطوبى لمن جعل الله مفتاح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفتاح الشر على يديه»(6).
يجب على المسلم أن يربأ بنفسه عن أن يكون مفتاحاً للشر ورأساً فيه وداعية من دعاته، يورط نفسه ويورط غيره ويقحمهم في ورطات لا يحمد هو ولا هم عواقبها، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
فالشاهد أن باب فقه عواقب الفتن وآثارها وما ينجم عنها من أضرار وأخطار، يفيد المسلم فائدة كبيرة.
وآثار الفتن كثيرة وعديدة، ويطول عدها والكلام عليها.
لكنني أشير في الحلقات القادمة إلى جملة من الآثار وشيء من العواقب، راجياً من الله -تبارك وتعالى- أن يكون في ذلك خير ونفع لنا أجمعين.
الهوامش:
1 - رواه أبو بكر الخلال في السنة رقم (90).
2 - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (38343)، والبيهقي في الشعب (9886).
3 - الأدب المفرد (327)، قال الألباني: صحيح.
4 - البخاري (3406)، ومسلم: (2886).
5 - برقم (2867).
6 - سنن ابن ماجة: (237)، وابن أبي عاصم في السنة: (297)، والطيالسي في مسنده: (2082)، والبيهقي في شعب الإيمان: (698)، وحسنه الألباني في الصحيحة: (1332).



اعداد: الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر