مستجدات الحج الفقهية ( النوازل في الحج ) (8من16)
الدكتور محمد بن هائل المدحجي

من نوازل الحج ومستجداته الفقهية :
( مستجدات الحج المتعلقة بالاستطاعة ) ، ومن ذلك : ( أجرة حملة الحج ) : فمن الأمور المعتبرة في الاستطاعة في عصرنا الحاضر وجود أجرة حملة الحج إذا كان لا يمكن منح تأشيرة الحج أو تصريح الحج إلا بذلك ، يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :" إذا كان مفهوم النظام أن الإنسان يجب أن يعقد مع الحملة من بلده حتى يرجع وهذا يكلفه مالاً لا يستطيعه فإنه لا يجب عليه الحج، لأنه غير مستطيع " [ مجموع فتاويه 21/117 ، 355] ، لكن لو حج من غير حملة ولا مطوف فحجه صحيح ، ولا حرج عليه في ذلك لاسيما في حج الفريضة [ المصدر السابق 21/355] .
ويجب التنبه إلى أنه يجب تجنب إنفاق الأموال في الحملات الباهظة الّثمن والتي يتضح من عرف الناس أنه مبالغ بأسعارها ، والتي يكون فيها الإسراف والتبذير ، وربما التفاخر أو التعالي على الناس ،قال تعالى : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف31).
هذا ، ويجب على القائمين على حملات الحج الصدق والوفاء بالعهود والشروط والوعود ، وأن يحملوا الحجاج على كفوف الراحة ، فإنهم ضيوف الرحمن ، فلابد من إكرامهم ومعرفة قدرهم، ومن كذب وخداع وغش من أصحاب الحملات وأكَل أموال الحجاج بالباطل فيجب تعزيره التعزير البليغ الذي يردعه وأمثاله عن مثل هذه الأفعال القبيحة المنكرة على آحاد الناس فكيف بضيوف الرحمن ، فاحترام الحجاج وتقديرهم وخدمتهم كله من تعظيم شعائر الله ، ومن تعظيم حرمات الله تعالى .
ومن نوازل الحج المتعلقة بالاستطاعة : أن بعض حجاج الخارج يُطلب منهم إيداع مبالغ نقدية في البنوك كضمانات، وقد لا يكون في بلدانهم بنوك إسلامية ليتم إيداع النقود فيها ، ولا يكون أمامهم إلا الإيداع في البنوك الربوية ، فربما ترك بعضهم الحج تورعاً رغم قدرته عليه حتى لا يودع في البنك الربوي ، وهذا لا شك أنه خطأ ، وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن ذلك ، ومما جاء في السؤال : " مع العلم أن البنوك ربوية ،ولا توجد وسيلة للذهاب إلى الحج إلا هذه الوسيلة، فهل الحج في هذه الحالة فرض على المسلم المقتدر، وإذا حج المسلم هل يكون حجه صحيحا، مع العلم أنه ساعد البنوك الربوية ؟ " ، فأجابت بما نصه : " الحج صحيح، وما ذكر لا يعتبر عذرا في تأخير الحج إذا كان صاحبه قادرا على ذلك." [ فتاوى اللجنة 11/42 ] ، ويجب في حال الإيداع في البنوك الربوية ألا تؤخذ على المبالغ المودعة فوائد ربوية ؛ إذ الربا من كبائر الذنوب ، وأن يكون الإنسان مضطراً للإيداع في البنك الربوي بسبب عدم وجود بنوك إسلامية أو لكونه مجبراً على البنك الربوي ؛ إذ الإيداع في البنوك الربوية محرم بدون أخذ فوائد ربوية عند أكثر الفقهاء المعاصرين وهو قول اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية ، و به صدرت توصية المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي ، إن لم يكن لهذا الإيداع حاجةٌ أو ضرورة ؛ وذلك لأن في هذا الإيداع إعانة على معصية الربا ، والإعانة على المعصية معصية، إذ فيها تقوية للمصارف على المراباة، وقد قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}( المائدة:2) ، فإن كان هناك حاجةٌ أو ضرورة كما في مسألتنا جاز الإيداع في البنك الربوي ، ولم يؤثر ذلك على صحة الحج ، ولم ينقص أجره ، والله أعلم .
ومن نوازل الحج المتعلقة بالاستطاعة : احتياج العمال لإذن كفلائهم للحصول على تصريح الحج ، فقد يمتنع الكفيل أحياناً عن إعطاء هذا الإذن للعامل بحق أو بغير حق ، ففي هذه الحالة لا حرج ولا إثم في تأخير الحج ؛ لأن العامل معذور ، يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " نحن نتمنى لكل إخواننا الكفلاء أن يهديهم الله عز وجل وأن يرخصوا لإخوانهم الذين يعملون عندهم بأداء فريضة الحج؛ لأن هذا من باب التعاون على البر والتقوى، وقد أمر الله بذلك، فقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة 2)ولأن هذا قد يكون سبباً للبركة في أعمالهم وأرزاقهم؛ لأن هذه الأيام العشرة إذا تعطل العمل عنده فإن الله قد ينزل له البركة فيما بقي من العمل، ويحصل على خير كثير، فإن تيسر هذا فهو المطلوب، وهو الذي نرجوه من إخواننا الكفلاء، وإن لم يتيسر فإن هذا العامل لا يعتبر مستطيعاً، فيسقط عنه الحج؛ لأن الله تعالى قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}( آل عمران 97) ، وهذا لم يستطع ".
أما في الأحوال التي لا يشترط فيها إذن الكفيل أو مرجع العمل للحصول على تصريح الحج فإن طلب الإذن أو الاستئذان لا يشترط ، بل يجب على العامل أو الموظف أن يبادر إلى أن يحج حجة الإسلام إن كان مستطيعاً ؛ إذ الحج واجب على الفور على الصحيح من قولي العلماء _ وهو مذهب الجمهور من الحنفية والحنابلة وكذا المالكية في أحد القولين_ ؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم- : " من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة " ( رواه أحمد ) ، هذا إن لم يكن على رأس عمله ، فإن كان على رأس عمله أيام الحج ولم يمكنه أخذ إجازة فهنا يجب عليه أن يستأذن قبل الذهاب إلى الحج ، فإن أُذن له وجب عليه الانطلاق للحج ، وإن لم يؤذن له فإن كان يترتب على تركه العمل ضرر خاص أو عام جاز له تأخير الحج ؛ لأنه معذور ، وإن لم يترتب على تركه العمل ضرر لكن لم يؤذن له فهذا محل خلاف بين أهل العلم ، فمنهم من يرى أنه يجب عليه أن يذهب للحج الواجب وإن لم يؤذن له ، ومنهم من يرى أنه معذور في تأخير الحج لأنه مرتبط بعقد مع جهة عمله أو كفيله ، والله جل وعلا يقول : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} ( المائدة: 1 ) ، والقول الثاني فيما يظهر أقوى ، خاصة وأن المالكية في المعتمد والشافعية يرون وجوب الحج على التراخي وليس على الفور بشرط العزم على الفعل في المستقبل ، وأن يغلب على الظن السلامة إلى وقت فعله ، وهذا وإن كان مرجوحاً ، إلا إنه يقوى القول به في مثل هذا الأحوال ، اللهم إلا أن يمكنه أداء المناسك خارج وقت العمل بدون ضرر على العمل _ كأن يكون عمله في مكة _ فهنا يجب عليه المبادرة لأداء الحج ، والله أعلم .
وللحديث بقية بإذن الله تعالى...
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.