حق الإنسان في بيئة صحية مناسبة (1-2)
أ.د جعفر عبد السلام[1]
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
تهتم الدول والمجتمعات الإسلامية عن طريق مؤسساتها الدينية بالاجتهاد، لإيجاد الأحكام الشرعية لما يحدث ويستجد للناس من أمور في مختلف شئون حياتهم؛ لذا لم يكن غريبا أن تعقد مؤتمرات وندوات تعالج قضايا التجديد في الفكر وفي الفقه الإسلامي، وأذكر منها مؤتمر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الذي عقد في مايو 2001م، ومؤتمر جامعة اليرموك الذي عقد في نفس العام، وكذا مؤتمرا عقد في دار الحديث الحسنية عن الاجتهاد في القضايا المستحدثة في نفس العام أيضاً [2].
إن الكتابة في هذا الموضوع من الأهمية بمكان، إذ أن الأحكام والمبادئ الموجودة في القانونين الدولي والداخلي، وكذلك في الشريعة الإسلامية، قد بلورت طائفة جديدة من حقوق الإنسان تعرف بالجيل الثالث من حقوق الإنسان، أو حقوق التضامن بمعني آخر[3] .
لقد قدمت الثورة الفرنسية للمجتمع الأوروبي في العصر الحديث، وعلى وجه التحديد في بداية القرن التاسع عشر، الطائفة الأولى لحقوق الإنسان والتي تبين أنها لا تتطلب من الدولة سوى السماح للفرد بحرية العمل وحرية التصرف دون تدخل منها يفسد التمتع بالحقوق الفردية وممارستها. وبعد الحرب العالمية الثانية قدمت الأمم المتحدة للعالم ما أطلق عليه "وثيقة حقوق الإنسان" والتي تتكون من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية كما بذلت جهوداً كبيرة طوال القرن العشرين من قبل الأمم المتحدة والأجهزة واللجان العديدة التي شكلتها لبلورة حقوق الإنسان وإحالتها من مبادئ عامة إلى قواعد قانونية محددة تصلح للتطبيق، ويجازى من يخالف أحكامها. كما تقدمت جهود الأمم المتحدة في مجال التطبيق الفعلي للحقوق والحريات التي تضمنتها الوثيقة، وعلى وجه الخصوص في مجال تطبيق حق تقرير المصير على الأقاليم التي كانت مستعمرات سابقة، وتحررت العديد من الدول في آسيا وإفريقيا بفضل هذه الجهود .
على أن التطورات العديدة التي شهدتها الإنسانية على مدى هذا القرن قد غيرت الواقع وأثرت في أسلوب الحياة، وأوجدت حقائق جديدة لا يمكن تجاهلها بالنسبة لممارسة الحقوق التقليدية التي تضمنتها الوثائق والدساتير الخاصة بمختلف الدول، ومن ثم كان الاهتمام بإيجاد جيل ثالث من أجيال حقوق الإنسان هو ما عرف اصطلاحا بحقوق التضامن، تلك الحقوق التي لا يمكن أن تمارس إلا بشكل جماعي من ناحية، والتي لا يمكن لدولة واحدة من الدول النامية أن تمارسها بمفردها وإنما تتطلب تضامن الدول في المجتمع الدولي لكفالة تلك الحقوق لجميع الشعوب، من ناحية أخرى وقد أعلن الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان هذه الحقوق، وفي مقدمتها: حق الشعوب في السلام، وحقها في التنمية وحقها في بيئة صحية مناسبة.
إن الشريعة الإسلامية الغراء قد سبقت كل التشريعات إلى تقرير هذه الحقوق للإنسان، حيث تضمنت النصوص الصريحة في القرآن والسنة مجمل منظومة الحقوق والواجبات التي نعالجها الآن، ويمكن أن نطورها ونفصلها بالاستنباط من النصوص الصريحة ومن الممارسات العملية التي تضمنتها كتب السير والمغازي والتاريخ الإسلامي بشكل عام .
إن القرآن الكريم يهتم اهتماما بالغا بتحقيق العدالة على الأرض ويطالب المجتمع الإسلامي حكاما ومحكومين بالحرص على تطبيقها في كل الأوقات وعلى جميع الأشخاص حتى ولو كانوا من الأعداء يقول تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} [المائدة: 8] كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حرص على تطبيقها في سنته العملية[4].
كما أن نظرية حقوق الإنسان في الإسلام تقوم في جانب كبير منها على فكر المقاصد الخمس أو المصالح الخمس وهى مقاصد حفظ النفس والدين والعقل والمال والعرض وهى المقاصد التقليدية التي استنبطها الفقهاء من القرآن والسنة، ويمكن استنباط العديد من الأحكام الأخرى التي تتصل بها، مثلا لا يمكن حفظ النفس إلا إذا عاش الإنسان في بيئة صحية سليمة، وهكذا نجد أن هذا المقصد يرتبط به ارتباطا وثيقا بما يعرف حديثا بالحق في الحياة والحق في بيئة صحية مناسبة، كما أن الإسلام يفرض على المسلم أن يكون شخصا إيجابيا يتعامل مع الحياة بهمة ونشاط ولا يتوقف عن العمل والتعاون مع الآخر حتى الوفاة، وهو أساس قوى كما عرف حديثا بحقوق التضامن، وهذا ما سوف نقوم بتفصيله فيما يلي من الصفحات حيث سنعرض في المبحث الأول: حقوق التضامن وحق الإنسان في بيئة صحية مناسبة من منظور قانوني .
ونتناول في المبحث الثاني حق الإنسان في بيئة صحية مناسبة وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية.
المبحث الأول: حق الإنسان في بيئة صحية مناسبة من منظور القانون الدولي
أولا: حقوق التضامن من منظور القانون الدولي
أعلنت العديد من المواثيق الدولية طائفة جديدة من حقوق الإنسان هي ما يعرف بحقوق التضامن على أساس أنها تمثل الجيل الثالث من أجيال حقوق الإنسان، باعتبار أن الجيل الأول يمثل الحقوق اللصيقة بشخصية الإنسان والتي لا يمكن أن يحيا حياة كريمة بدونها، وأول هذه الحقوق هو حق الإنسان في الحياة، ثم حقه في الحرية وحقه في سلامة شخصه، ثم حقه في التقاضي وما يتفرع عنه من حقوق أخرى تثبت للشخص عند اتهامه بجريمة معينة، أو عند لجوئه للقضاء، مثل حقه في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة، واعتبار المتهم بريئا حتى تثبت إدانته قانونا عن طريق محاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع، إلى آخر هذه الطائفة الواسعة من حقوق الإنسان.
وقد ربط فريق من فقهاء الفقه الفرنسي هذه الحقوق بالمبدأ الأول من مبادئ الثورة الفرنسية وهو "الحرية"، فهي حقوق لا تحتاج في قيامها لتدخل الدولة، بل العكس، تحتاج إلى عدم تدخلها إلا لضبط ممارستها ومنع التعرض للأفراد في التمتع بها.
والجيل الثاني لحقوق الإنسان يمثل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تلك الحقوق التي تحتاج إلى تدخل إيجابي من الدولة بهدف تقديم خدمات وتهيئة مناخ يتيح للأفراد أن يتمتعوا بهذه الحقوق، فالدولة تساعدهم بشكل جدي في التمتع بهذه الحقوق وممارستها. وأول هذه الحقوق هو حق العمل، وهو يعني "حق الدول الأطراف في العهد الحالي في العمل الذي يتضمن حق كل فرد في أن تكون أمامه فرصة كسب معيشته عن طريق العمل الذي يختاره أو يقبله بحرية. وتتخذ هذه الدول الخطوات المناسبة لتأمين هذا الحق"[5].
ولا أدل من ضرورة التدخل الإيجابي للدولة لنيل هذا الحق مما ورد في الفقرة الثانية من المادة السادسة من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، من أنه: "تشمل الخطوات، التي تتخذها أي من الدول الأطراف في العهد الحالي للوصول إلى تحقيق كامل لهذا الحق، وبرامج وسياسات ووسائل للإرشاد والتدريب الفني والمهني من أجل تحقيق نمو اقتصادي واجتماعي وثقافي مطرد، وعمالة كاملة ومنتجة في ظل شروط تؤمن للفرد حرياته السياسية والاقتصادية " .
والحق الثاني في هذه الطائفة من الحقوق هو حق الفرد في الضمان الاجتماعي .
والحق الثالث هو حق الفرد في مستوى معيشي مناسب لنفسه ولعائلته بما في ذلك الغذاء المناسب والملبس والمسكن .
ويدخل في هذه الطائفة من الحقوق الحق في التعليم وفي الثقافة، والحق في الحياة في ظل أسرة قويمة، إلى غير ذلك من الحقوق التي نجد تفصيلا واسعا لها في العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الصادر عن الأمم المتحدة عام 1966م .
ويهمنا في هذا الصدد أن نركز على الجيل الثالث من أجيال حقوق الإنسان أو ما يعرف بحقوق التضامن، وتتميز هذه الحقوق بما يلي :
أنها تحتاج إلى التعاون بين مختلف الدول والشعوب لضمان قيامها ولكفالة تمتع الأفراد بها. وهكذا نرى أن جهود الدولة وحدها لا يمكن أن توفرها، بل يجب أن تتضافر الجهود الدولية لكفالتها. ونقصد بالجهود الدولية هنا جهود الدول والمنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة، بل والمنظمات الإقليمية كذلك.
أنها تفترض تعاونا كبيرا، ونوعا من التكافل بين الأسرة الدولية، أي إنها تفترض تخلي الدول عن سلبيتها وعيش كل واحد منها داخل حدودها، وذلك يفرض تغييرا في بناء القانون الدولي التقليدي وأهدافه، فلم يعد مقبولا أن يكون هدف القانون الدولي مجرد إبعاد الدول عن بعضها البعض حتى لا تتحارب، بل إن هدفه الآن هو تقريب الدول من بعضها البعض حتى تتعاون وتحقق المصالح المشتركة فيما بينها[6].
أن هذه الطائفة الجديدة من الحقوق تتطلب الاعتراف بالدول النامية أو دول العالم الثالث كأشخاص قانونية تحتاج إلى حماية خاصة، ذلك أنها الآن الطرف الضعيف في العلاقات الدولية، وبالتالي لا يمكن إقرار قواعد عامة تطبق على كل الدول في المجالات التي تتعلق بحقوق التضامن.
ولشرح هذه المسألة، نقول: إن هناك هوة واسعة في الدخول بين مجموعة الدول المتقدمة ومجموعة الدول النامية. فالدول المتقدمة وعددها في العالم حوالي 18 دولة تحصل تقريبا على 80% من إجمالي الدخل العالمي، بينما باقي الدول وهي أكثر من 180 دولة تحصل على الباقي وهو 20% ويصاحب الفقر المنتشر في الدول النامية أشد أعداء الإنسانية وهي الجهل والمرض. وبالتالي فهي تحتاج إلى قواعد للتعامل تراعي ظروفها في العلاقات الدولية[7] .
وقد بدأت تتكون قواعد دولية - في مجال توزيع التراث المشترك للإنسانية من ثروات أعالي البحار- تقرر امتيازات خاصة للدول النامية وحصولها على نصيب من الثروات غير الحية مثلا، ولو لم تكن لديها القدرات على الاستغلال الفني لهذا التراث.
كما بدأت توجد قواعد تميز لصالحها في التجارة الدولية بفرض حماية خاصة لأسعار المواد الأولية التي تتخصص هذه الدول في إنتاجها، وبتشجيعها على إقامة الاتحادات التجارية والتكتلات الاقتصادية لهذا الخصوص.
أن هذه الحقوق تحتاج إلى تقديم مساعدات من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة .
وهذه المساعدات يجب أن تشمل :
تدفق نقدي من أموال الدول الغنية إلى الدول الفقيرة بما لا يقل عن 1% من دخل الدول الغنية، كما ورد في أكثر من توصية للجمعية العامة للأمم المتحدة .
مساعدات فنية للدول النامية لإقامة مشروعات البنية الأساسية والإسراع بجهود التنمية فيها، حتى تستطيع أن تنتج الغذاء والكساء والدواء الذي تحتاج إليه شعوبها.
مساعدات عن طريق التجارة وهي كثيرة منها -تسعير منتجاتها من المواد الأولية- تسعيرا عادلا، وإزالة القيود المفروضة على تصدير منتجاتها إلى الدول الغنية، وعدم إغراق أسواقها بمنتجات تنافس منتجاتها. وبالجملة يجب ألا تخضع الدول النامية لقواعد المساواة والمنافسة الحرة في المجال التجاري الدولي لأن المساواة هنا لا تكون بين متكافئين، وبالتالي تحمل الدول النامية مسئوليات لا تقدر على الوفاء بها.
يتبع