مستجدات الحج الفقهية
( النوازل في الحج ) (3من16)

الدكتور محمد بن هائل المدحجي

ما زال الحديث متصلاً عن أثر الزحام على أحكام الطواف والسعي ، ومن أبرز المسائل المتعلقة بذلك (حكم التوسعة الأخيرة للمسعى) :
فقد تمت توسعة المسعى من الجهة الشرقية بما يقارب عرض المسعى القديم بحيث صارت هذه التوسعة لمن يسعى من الصفا إلى المروة ، وأصبح المسعى القديم لمن يسعى من المروة إلى الصفا .
وقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم إنشاء هذه التوسعة ، فصدر قرار هيئة كبار العلماء رقم ٢٢٧ وتاريخ ٢١/٢/١٤٢٧هـ بعدم جواز هذه التوسعة الأفقية ، ولكن هذا القرار كان بالأغلبية ، إذ خالف بعض الأعضاء فرأوا جواز هذه التوسعة ، ونظراً لوجود الخلاف بين العلماء وما وجد من شهادات لبعض الشهود من كبار السن بامتداد الصفا عما هو عليه الآن تم إنشاء هذه التوسعة ، وبعد إنشائها كثر السؤال عن حكم السعي في هذه التوسعة ، وهل من سعى فيها يكون قد سعى بين الصفا والمروة ، وتبع ذلك اختلاف كبير بين الفقهاء المعاصرين في حكم هذه المسألة ، وعلي ألخص الآراء وأبرز الأدلة فيما يلي:
أولاً : استدل القائلون بمنع هذه التوسعة وأنها لا تأخذ حكم المسعى القديم بين الصفا والمروة :بأن أمكنة العبادات المحددة من قبل الشرع لا تجوز الزيادة فيها ولا النقص إلا بدليل يمكن الرجوع إليه من كتاب أو سنة ، وعرض المسعى يحكمه عمل القرون المتتالية من عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا ، وقد وردت نقول تدل على تحديد المسعى بحد وعرض معين، ومن ذلك ما قاله أبو الوليد الأَزْرَقِي (ت223هـ، أو250هـ) في أخبار مكة ( 2/119 ): "وعرض المسعى خمسة وثلاثون ذراعًا ونصف "وعلى القول بأن الذراع 46.2 سم (انظر: معجم لغة الفقهاء 420) يكون العرض إذن: ستة عشر مترا ونصفا تقريبا، وهذا التقدير لم يختلف على مر العصور ، ولا أدل على هذا من تقرير اللجنة التي شكلت للنظر في مشروعية المصعدين اللذين أقيما ليؤديا إلى الصفا وكان تقريرها بتاريخ٢٨/١/١٣٧٨هـ وفيه [ كما في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 5/148]: " رأت اللجنة أنه لا مانع شرعًا من توسيع مكان الصعود المذكور بقدر عرض الصفا ، وبناء على ذلك جرى ذرع عرض الصفا ابتداء من الطرف الغربي للصخرات إلى نهايته محاذيًا الطرف الشرقي للصخرات المذكورة في مسامتة موضع العقود القديمة ،فظهر أن العرض المذكور يبلغ ستة عشر مترًا " .
ثانياً:القائلون بجواز هذه التوسعة وأنها تأخذ حكم المسعى القديم بين الصفا والمروة لم تتفق مآخذهم للجواز ، فلهم في ذلك ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول : أنه لا يوجد تحديد شرعاً لعرض المسعى ، فمتى ما تحقق السعي بين الصفا والمروة فقد تحقق الواجب الشرعي ، والتوسعة لا تخرج عن أن تكون بين الصفا والمروة ، وقد وجد من أقوال بعض العلماء الذين ماتوا قبل هذه النازلة ما يدعم هذا الاتجاه ، ومن ذلك ما ذكره العلامة الفقيه الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في كتابه الأجوبة النافعة في المسائل الواقعة ص293، بعد أن أشار إلى اجتماع العلماء من نجد والحجاز في عام ١٣٧٥ هـ وبحثهم مسألة بيوت منى وتوسيع المسعى والمطاف فقال: " وكذلك المسعى منهم من قال إن عرضه لا يحد بأذرع معينة ؛ بل كل ما كان بين الصفا والمروة ،فإنه داخل في المسعى كما هو ظاهر النصوص من الكتاب والسنة، وكما هو ظاهر فعل الرسول –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ومن بعدهم ،ومنهم من قال يقتصر على الموجود لا يزاد عليه إلا زيادة يسيرة ،يعني في عرضه وهو قول أكثر الحاضرين، ويظهر من حال الشيخ محمد-يعني الشيخ محمد بن إبراهيم- أن يعمل على قول هؤلاء لأنه لا يحب التشويش واعتراض أحد " اهـ ، وللعلامة المحدث الشيخ عبدالرحمن بن يحي المعلمي اليماني رحمه الله رسالة في توسعة المسعى بين الصفا والمروة ، ومما قال فيها : " نص الكتاب ورد على الصفا والمروة؛ وهما أوسع من ذاك المقدار، وحصر من مضى لذلك المقدار قد يكون لمزاحمة الأبنية، وكفاية ذاك المقدار للناس إذ ذاك ، فلم تدع الحاجة حينئذ لتوسعته بهدم الدور ؟وهكذا يأتي في المسعى،أي الطريق الذي يقع فيه السعي ،فإنه واقع بين الأبنية من الجانبين يتسع تارة ويضيق أخرى، وذلك يدل على أنه لم يحدد ولم يجيء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من أصحابه ومن بعدهم بيان لتحديد عرض المسعى ، إلا ما ذكره الأزرقي في زمانه " ، وقال : " وعدم مجيء شيء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في تحديد عرض المسعى يشعر بأن تحديده غير مقصود شرعًا،وإلا لكان لتعرضه لمزاحمة الأبنية أولى بالتحديد من عرفاتَ ومزدلفةَ ومنى، وقد جاء في تحديدها ما ورد " ، وقال رحمه الله : " أمْرُ الله عزوجل بالسعي بين الصفا والمروة يوجب ﺗﻬيئة موضع يسعي الناس فيه يكون بحيث يكفيهم، فإذا اقتصر من مضى على موضع يكفي الناس في عصرهم ، ثم ضاق بالناس فصار لا يكفيهم ، وجب توسعته بحيث يكفيهم ، وإذا وسع الآن بحيث يكفي الناس ،فقد يجيء زمان يقتضي توسعته أيضًا " . فخلاصة ما استدل به أصحاب هذا الاتجاه أنه لا يوجد في الشرع تحديد لعرض المسعى ، فلا يحجرُ واسع .
الاتجاه الثاني : أن المسعى له حدود لا يجوز تجاوزها ، ولكن التوسعة الجديدة داخلة ضمن هذه الحدود : وأبرز ما استدل به أصحابه ما يلي :
1. شهادة عدد من الشهود من أهل مكة وغيرها على سعة الصفا والمروة ، وأنهما أكبر مما هما عليه الآن.
2. ما ورد من النصوص التاريخية التي يمكن أن يؤخذ منها اتساع الجبلين وعرضهما وكبر حجمها عما هو عليه الآن .
3. أن كلا من هذين الجبلين له قمة ، يقل عرضه فيها ، ويتدرج عرضه حتى يكون منتهى اتساع عرضه في أسفله؛ وما نراه الآن هو قمة ذلك الجبل وما دام أن قمة الجبلين تعادل المسعى القديم ، فلماذا لا تكون قاعدته تعادل المسعى القديم والجديد ؟
الاتجاه الثالث : أن المسعى له حدود ، ولكن الحاجة داعية للزيادة عليها رفعاً للحرج عن المكلفين : وأبرز ما استدل به أصحابه ما يلي :
1. أن حاجة الناس ماسة وشديدة لتوسعة المسعى مما يلاقونه من الشدة والضنك فيه، وهذه الحاجة لا بد من مراعاﺗﻬا فإن القواعد الشرعية تؤيد مراعاة تلك الحاجة واعتبارها، ومنها قاعدة " المشقة تجلب التيسير " ، ومن فروعها " إذا ضاق الأمر اتسع " ، والحرج منفي في الشريعة ، خاصة في الحج الذي كان النبي –صلى الله عليه وسلم- ييسر فيه ما لا ييسر في غيره فيقول " افعل ولا حرج " .
2. أن توسعة أماكن العبادة عند الحاجة ليست منكرة ، فقد وسع عمر رضي الله عنه المطاف، ثم وسعه عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فهذا عمل اثنين من الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمرنا بالأخذ بسنتهم، ووسعه عبدالله بن الزبير رضي الله عنه أيضاً ،وقد أجمع الصحابة على قبول ذلك من غير نكير واعتبروه من الأعمال الصالحة .
3. قياس امتلاء المسعى بامتلاء المسجد، فكما أن المسجد إذا امتلأ جاز للناس الصلاة خارجه إذا اتصلت الصفوف؛ فكذلك المسعى إذا امتلأ فإن الشخص يجوز له أن يسعى عند ذلك؛ وإن خرج عن حدود الجبلين؛ لأنه متصل بالساعين الآخرين .
وباستعراض ما تقدم يظهر أن ما ذكره أصحاب القول الأول المانعون قوي ، وما ذكره أصحاب الاتجاه الأول من المجيزين من أنه لا يوجد تحديد شرعي لعرض المسعى أقوى فيما يظهر ، أما ما ذكره القائلون بأن المسعى أوسع مما كان عليه قبل التوسعة الأخيرة فيرده اتفاق التحديد من زمن الأزرقي إلى عصرنا الحاضر ، وما ذكره أصحاب الاتجاه الثالث فيمكن أن يجاب عنه أن حاجة الناس إذا كانت ماسة فيمكن دفعها بتوسعة المسعى عن طريق الأدوار المتعددة ، والقياس على توسعة المطاف لا يصح؛ لأن المطاف مهما اتسع فسيظل الطواف حول البيت، بينما توسعة المسعى قد تؤدي إلى الخروج عن البينية المقصودة من السعي بين الصفا و المروة ، وأما القياس على اتصال الصفوف في صلاة الجماعة فهو قياس له حظه من النظر ، ويمكن أن يستدل به على جواز السعي في التوسعة عند الزحام في المواسم ، لكنه لا يدل على جواز السعي فيها ولو لم يمتلئ الجزء القديم من المسعى .ولاشك أن الخلاف في مثل هذه المسائل العلمية الشرعية سائغ، وللعامي أن يقلد من يرى أنه أعلم وأتقى، والأخذ بقول المانعين أحوط في حال السعة ، فيسعى الإنسان في المسعى القديم ، وأما في حال الضيق كأيام المواسم فالأظهر هو القول بجواز السعي في هذه التوسعة ، فهي لم تؤد إلى الخروج عن البينية المقصودة من السعي بين الصفا و المروة ، والله أعلم .
ومن المسائل المتعلقة بتأثير الزحام على أحكام الطواف والسعي : ما اقترحه البعض من نقل مقام إبراهيم من موضعه الحالي وتأخيره ليتسع المطاف ، نظراً لما يحدثه وجود المقام في موضعه الحالي من الزحام _ كما هو مشاهد _ ، فما حكم هذا النقل لو أريد تطبيق هذا المقترح ؟ والجواب يتضح بما روته عائشة رضي الله عنها : " أن المقام كان زمان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر " [أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 2/63 ، والفاكهي في تاريخ مكة 1/455، وصححه ابن كثير في تفسيره 1/171 ، وابن حجر في فتح الباري ٨ /١٦٩ ] ، فالمقام في قول عامة أهل العلم أخره عمر رضي الله عنه كما دل عليه أثر عائشة رضي الله عنها ، وفعل عمر رضي الله عنه هو من باب المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع ، فهو إنما نقله مخافة التشويش على المصلين والطائفين ، وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على فعل عمر رضي الله عنه ، فإذا وجدت حاجة داعية أو ضرورة ماسة فيجوز نقله كما نقله عمر رضي الله عنه بتأخيره عن موضعه ، وما نحن عليه الآن أشد تشويشًا، وأعظم خطرًا مما كان عليه زمن عمر رضي الله عنه ؛ فقد وصل إلى الخوف من إزهاق الأرواح ، فيكون في تأخيره عن موضعه في هذه الأزمان رفعًا للحرج عن هذه الأمة ، خاصة إذا علمنا أن بعض الناس لا يؤدي ركعتي الطواف إلا عنده ؛ حتى لو حصل الضرر عليه وعلى الطائفين ،ولذلك في أوقات المواسم لا يكاد الإنسان يتجاوزه إلا بشق الأنفس ، مع أنه قد حصل الاتفاق بين أهل العلم على جواز صلاة ركعتي الطواف في أي موضع من المسجد .
فنقْلُ المقام من موضعه إلى موضع مسامت لموضعه، يحصل به التوسيع على الطائفين، وراحة المصلين ،خاصة إذا علمنا أنه في وقت عمر رضي الله عنه كان المكان لا يتسع لتأخير المقام أكثر من هذا التأخير الذي نراه ؛ لأن المسجد من جهة الشرق ينتهي بباب بني شيبة، وما بين المقام ومحاذاته سابقًا إلا أمتار قليلة ولذلك لم يُزَد في تأخيره ، أما اليوم وقد توسع المسجد ووجدت الحاجة في نقل المقام فليؤخر ، كما أبعدت بناية بئر زمزم عن مكان الطواف ، فاتسع المكان سعة طيبة ، وقد صدر قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم (35) وتاريخ 14/ 2/ 1395هـ وفيه : " فإن الهيئة تقرر بالإجماع جواز نقله شرعا إلى موضع مسامت لمكانه من الناحية الشرقية؛ نظرا للضيق والازدحام الحاصل في المطاف، والضرورة إلى ذلك، ما لم ير ولي الأمر تأجيل ذلك لأمر مصلحي".
وللحديث بقية بإذن الله تعالى...
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.