بسم الله الرحمن الرحيمعشرة أدلة على أفضلية الاقتصار على قراءة واحدة وعدم القراءة بالسبع أو العشر (بحث واستقراء)
عليَّ نصـب المعـاني في مناصبها.... فإن كبت دونها الأفهام لم أُلَمِ
وما غربة الإنسان في شقة النوى.... ولكنها والله في عدم الشكل
جزى الله بالخـيرات عنـا أئمـة.... لنا نقلـوا القرآن عذباً وسلسلا
فمنهم بدور سبعة قد توسطت.... سماء العلا والعدل زهراً وكملا
الحمد لله الذي أنزل كتابه الخالد هادياً ومبشراً ونذيراً ودليلاً إلى رضوانه وجنته ونعيمه, والصلاة السلام على أشرف هادي, وأبر من ركب الخوادي, من بسقت دوحة رسالته فأضاءت بها الظلمات, واطمأنت بها النفوس الهائمات, وظهر على الدين كله ولو كره الكافرون, وعلى آله وأصحابه وإخوانه المؤتمين بهدية وسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن هذا القرآن الكريم كان يتنزل على النبي طيلة عشرين عاماً من البعثة على حرف واحد, وهو لغة قريش, وكان النبي يقرئ الصحابة طيلة تلك المدة بحرف واحد فقط, وكان يكتب أيضاً بذاك الحرف الواحد لا غير, وفي أواخر عهد النبي وقبيل وفاته بنحو سنتين تقريباً وبعد أن دخل الناس في دين الله أفواجاً جاءت الرخصة من الله أن يقرأ القرآن على أحرف كثيرة ولهجات, متنوعة لتتمكن القبائل على اختلاف لهجاتها من فهم القرآن والانتفاع به والامتثال بما فيه, فإن الغاية من إنزاله هي التفكر بما فيه والعمل به.
ورخص أيضاً بأنواع من الاختلاف في الألفاظ توسعة عليهم, كالاختلاف في الإعراب, وفي الحروف, والإفراد والتثنية والجمع, والتقديم والتأخير, والزيادة والنقصان, والتذكير والتأنيث, وتصريف الأفعال وغير ذلك, رفعاً للحرج والمشقة في ابتداء الأمر, فإن الإسلام في زمن نشأته وبنائه وتكونه فهي مدة زمنية لها مزيتها الخاصة بها, وهم أمة أمية لا يمكنهم في أول أمرهم أن يلتزموا بالنص كما ورد من غير تغيير, فهم لم يعتادوا الدرس والتكرار وحفظ الشيء على لفظه مع كبر أسنانهم واشتغالهم بالجهاد والمعاش وغير ذلك.
من هنا وجدت الأحرف والقراءات القرآنية الكثيرة المختلفة.
وفي عهد عثمان حين عظم الاختلاف وكثر التفرق وكاد يحصل الشقاق وخيفت الفتنة وقلت الحاجة التي من أجلها رخص في الاختلاف جمع عثمان القرآن على حرف واحد وهو لسان قريش الذي نزل به القرآن, فإنه إنما نزل بلسان قريش, ورسم المصاحف من غير نقط ولا شكل لتسمح بأنواع من الاختلافات التي لا تخرج عن الرسم, بناء إلى أصل الرخصة بأن يقرأ على أكثر من حرف.
وبقي القرآن يقرأ بقراءات مختلفة مرجعها كلها المصحف الذي كتبه عثمان, ثم استقرت فيما بعد على عشر قراءات مشهورة معروفة, وهي التي يقرأ بها الناس إلى اليوم, وإلى الأبد إن شاء الله.
فالقرآن الكريم قرآن واحد, والقراءات إنما هي لهجات متعددة وطرائق مختلفة للنطق بهذا القرآن.
من هنا تكون سؤال كبير, هل هذه القراءات الكثيرة المختلفة غاية أم وسيلة؟ وهل يراد من كل مسلم أن يحويها جميعاً ويحفظها ويقرأها؟ وهل الرخصة بها جاءت من أجل هذا؟
إذا بلغت مكة أيضيرك من أي الطرق أتيت.
أليس كل قراءة منها توصل إلى المقصود؟!
أليست كلها تعود إلى كتاب الله وهو الفرقان الذي أنزله الله على عبده ليكون للعالمين نذيراً؟!
لقد بحثت زمناً طويلاً عن دليل يدل على فضل تعلم القراءات وحفظها جميعاً والقراءة بها كلها فأعياني الطلاب, ولم أظفر من ذلك بشيء, ولم أعثر على أي رواية ترغب في جمع القراءات لحفظها وقراءتها جميعاً.
لكني أثناء ذلك لم أتمكن من التواري عن عدد كبير من الأدلة والحجج حين قابلتني لقوة سطوعها ووضوحها وجلائها كلها تدل على أن الاقتصار على قراءة واحدة وملازمتها وإتقانها هو الأصل وهو المطلوب, بل هو الأفضل.
وقد تأملت هذه المسألة طويلاً وتساءلت كثيراً هل كان موقف السلف الكرام أصحاب القرون المفضلة الصحابة والتابعين وتابعيهم مع الأحرف والقراءات ينسجم ويتوافق مع مواقف من جاء بعدهم.
وقبل أن نخوض سوياً في خضم تلك الأدلة والحجج أذكرك أخي الكريم بأمر مهم جداً.
ألا وهو أن الانطلاق في الاستدلال على ما ثبت من فعل النبي وأصحابه وأصحاب القرون الأولى المفضلة وعلى طريقة سلف أمة محمد هو أمر أسس بنيانه على قاعدة صلبة راسية أصيلة وعلى رؤية واضحة تمنح صاحبها الطمأنينة واليقين, ويطيش معه طرائق ومذاهب من جاء بعدهم مهما اتسعت وامتدت رقعتها أو طال زمانها أو كثرت مظاهرها واشتهر أمرها.
وهذا القدر يجب أن يكون متفقاً عليه خاصة عند من ينتمون إلى الصراط المستقيم والقرآن الحكيم.
فالعودة بالناس إلى ما كان عليه الصدر الأول من هذه الأمة الذين هم القدوة والأسوة عصر السلامة والصفاء قبل أن تهب رياح الاختلاف والأهواء والمذاهب المختلفة هو الواجب المتحتم الذي لا خيار فيه.
والرأي المشهور المعروف عن السلف هو الحق الذي لا مرية فيه, وإن غيب وأهمل وخفت نوره في عصور لاحقة متأخرة عن تلك العصور الزاهية.
هذه دعوى عريضة جريئة وقعتم بها في منابذة لما عليه عمل الأمة قروناً طويلة فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
هذا برهاننا.
عشرة من الأدلة, إن صدق بعضها ففي بعضها ما يغني عن جميعها, وإن رددتها كاملة على أعقابها دون ترو وتبين فتلمس بين جنبيك وفي نفسك هل ثم حقاً تجرد ومحبة للحق والصواب.
قبل أن أشرع إخواني وأحبابي في شرح تلك الأدلة أبين أمرين:
الأول: يعلم الله أني لم أطرح هذا الموضوع مشاقة ومناكدة لمشايخ القراءة أو الأساتذة في كليات القرآن أو تلاميذهم, كلا والله, فهم تيجان فوق رؤوسنا, كفى بهم شرفاً أنهم اختاروا القرآن فملكوا من الفضل ناصيته وباتوا في دوحة من العز والشرف عالية, ولكني أردت إضاءة هذه الزاوية القاتمة من موضوعات القراءات, بل هي مظلمة شديدة الظلمة, لا ترى أحداً يتحدث عنها أو يبحث فيها مع وجود أدلة كثيرة جديرة بالنظر والتأمل, وهي مسألة علمية شأنها شأن كثير من مسائل العلم التي قد يختلف أهل العلم فيها, ولا تكاد تجد مسألة من مسائل العلم قد اتفق الناس عليها علمياً أو عملياً, فالخلاف بدأ من عهد الصحابة, ولن يتوقف حتى يتوقف العقل عن التفكير, فما هذه المسألة إلا واحدة من تلك المسائل, فالخطب هين إن شاء الله.
وما الضير إن قبل هذا الرأي بعض من الناس فأخذ به ودعا إليه, فالحكمة ضالة المؤمن.
قال ابن الجزري في مقدمة كتابه "المنجد": "ولا ينبغي لمن وهبه الله عقلاً وذهناً وعلماً أن يجمد على كل ما وقع, ولكن ينظر كما نظر من قبله, فالحق أحق أن يتبع".
الثاني: الموضوع طويل جداً أكثر من ثمانين صفحة بمقاس الكتاب العادي, وقد لا يتمكن البعض من قراءته لطوله, ولذلك جعلت في خاتمته خلاصة مختصرة جداً أشبه بالعناوين, فمن تعذر عليه قراءة البحث فليقرأ العناوين إن شاء.
الدليل الأول:
أنَّ تعَلُّم القراءات والقراءة بها جميعاً مناف للحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف, وذلك من وجهين:
الأول: أنه مناف لمراد رسول الله التهوين على الأمة, فإن تعلم تلك القراءات جميعاً سبعاً أو عشراً وحفظ تفاصيل تلك الاختلافات واللهجات والقراءات والأوجه المتكاثرة وضبطها يُحَوِّل الرخصة إلى شدة والتيسير إلى عسر شديد ومشقة وعناء, لا يعرف ذلك حق المعرفة إلا من عاناه وسبح في بحره وتلاطمت بين عينيه أمواجه.
حتى قال القائل وهو منسوب لأبي حيان:
ترى أن نظم الشاطبي غاية المنى.... ولم أر نظماً منه أعصى وأصعبا
يظـل الفتـى فيه سنيـن عديـدة.... يحاولهـا فهـماً فيبـقـى معذبـا
ومن المعلوم الذي لا شك فيه أن الحكمة من نزول القرآن على أحرف كثيرة إنما هي التهوين والتسهيل على الأمة, فإن النبي قال كما في حديث أُبيّ بن كعب: (أرسل إليَّ أن اقرأ القرآن على حرف, فرددت إليه أن هون على أمتي...) أخرجه مسلم (820)
فالقرآن إنما أنزل على أحرف كثيرة ليقرأ كل مسلم ما يتيسر له من تلك الأحرف واللهجات, لا أن يجمعها جميعاً ويقرأ بها كلها.
الثاني: أنه مناف للغاية التي أرادها الله ورسوله من ذلك التسهيل والتيسير, فإن الغاية من تسهيل القراءة هي أن يتمكن كل مسلم مهما اختلفت لهجته من فهم القرآن وتدبره والعمل به.
ومن المعلوم المؤكد أن من انشغل بالقراءات والطرق والأوجه والاختلافات فإن ذلك سيأخذه أخذاً كاملاً عن التدبر والفهم لمعاني آيات الله وأحكامه وأسراره في كتابه, وسيطوح به في بحر متلاطم من التفاصيل التي ليس من ورائها طائل.
فنزول القرآن على أحرف كثيرة إنما هو وسيلة فقط لتسهيل فهم القرآن حتى يتمكن كل أحد أن يقرأه ويفهمه ويعمل به.
فتعلم القراءات المتعددة إذاً هو سبب لحصول أمرين كلاهما مناف لمراد الله ورسوله, وهما المشقة والعسر, والانشغال عن الفهم والتدبر.
ومما يؤيد ذلك ويوضحه أن الرخصة بالقراءات المختلفة لم يأت إلا في أواخر العهد المدني عندما وجدت الحاجة إليه بدخول الناس في دين الله أفواجاً على اختلاف لهجاتهم وألسنتهم, وحين لم تكن هناك حاجة لم يكن لتلك الأحرف والقراءات وجود, ولو كان أمراً محموداً جمعه وحفظه لبدأ مع أول نزول القرآن, وحينما زالت الحاجة إليها أو قلَّت ألغى عثمان أكثرها بجمعه المصحف على حرف واحد وأبقى منها ما لا يتنافر مع رسم المصحف كما سيأتي.
فهي إذاً إنما وجدت للحاجة, فهذا دليل على أنها ليست مطلوبة في الأصل.
الدليل الثاني:
أنه لم يرد عن النبي كلمة واحدة يرغب فيها بحفظ تلك الأحرف والاختلافات أو كتابتها أو القراءة بها جميعاً, فغاية ما أخبر به النبي أن القرآن أنزل على تلك الأحرف تهويناً وتسهيلاً على الأمة, ولو كان جمع القراءات وحفظها والقراءة بها مجتمعة مراداً للنبي لأمر بجمع الأحرف وتعلمها وحفظها وكتابتها ومعرفة تفاصيلها, ولكنه إنما كان يقول: (اقرؤوا ما تيسر منه), ولم يرد عنه البتة أنه أمر أحداً من أصحابه أن يجلس لتعليم تلك الأحرف وجمعها والاهتمام بها وإتقانها, بل أمر أن يقرأ كل حسب ما يتيسر له منها, فإن هذا هو المقصود منها لا غير.
ولذلك حين حصل الاختلاف بين بعض الصحابة وأخبرهم أنهم كلهم على صواب, وأن القرآن أنزل على سبعة أحرف وليس على حرف واحد لم يرشد أحداً من أولئك المختلفين أن يهتم بتفاصيل ذلك الاختلاف أو أن يتعلمه, بل انتهى الأمر بإخباره لهم أن قراءة كل منهم صواب.
وكان النبي يرغبهم في قراءة القرآن والتغني به في أحاديث كثيرة ومنها قوله: (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه).
وقوله: (خذوا القرآن من أربعة).
وقوله: (من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد). وغير ذلك كثير.
ولم يقل لهم حرفاً واحداً يدل على ترغيبهم في معرفة الاختلاف في القراءة أو يحثهم على قراءة القرآن بالأحرف أو القراءات جميعاً, ولم يرد عنه أي قول في هذا.
ومن النصوص الواردة في هذا وهو في غاية الوضوح قول النبي: (أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه) فقال: اقرؤوا ما تيسر منه, أي: كل يقرأ ما يناسبه وما يسهل عليه.
ولم يقل: فاحفظوا الفروق بين هذه الأحرف وأفنوا أعماركم في معرفتها وضبطها.
بل كان النبي يصلي بهم كل يوم ثلاث صلوات جهرية ولم ينقل نص واحد يفيد أنه قرأ بهم يوماً بقراءة غير حرف قريش, فهل يمكن أن تصدق أنه كان يفعل ذلك ولو مرة واحدة ثم لا ينقل ولا يذكر ولا يشهر!