حكم اشتراط المحرم في حج المرأة وأثره في الفقه الإسلامي 3
د.عبود بن علي بن درع
الدليل السابع: قياس حجّ الفريضة على الحجّ المستحب؛ لكما أنّكم تقولون: إنّ الحجّ المستحبّ لا يجوز بغير محرم؛ فكذلك حجّ الفريضة؛ بجامع أنّهما إنشاء سفر في دار الإسلام، فلم يجز بغير محرم، خاصة إذا علمنا أنّ الحجّ المستحبّ يجب ويلزم بالدّخول فيه كما قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ﴾[البقرة: 196] [71].
ونوقش : بأنّ القياس مع الفارق، فحج الفرض واجب، فجاز بلا محرم، وما سواه مستحبّ، فلا بدّ فيه من محرم[72].
وأجيب عنه من وجهين:
الأول: بأن خروجها للحجّ دون محرم معصية؛ فلا تلزم بالطّاعة لأمر يترتب عليه معصية.
ونوقش من وجه آخر: وهو أنّ المقصود من مشروعية المحرم للمرأة حفظها؛ وهو عام في القريب والبعيد، والفرض والنّافلة[73].
الدّليل الثامن: أنّ المحذور من سفرها دون محرم أمور أهمّها: أولاً أنّ المرأة دون محرم لا يؤمن عليها، إذ النساء لحم على وضم إلاّ ما ذبّ عنه
- أي : في الضعف كاللحم الموضوع على خشبة-، وأمّا ما يقال من جواز خروجها مع نساء ثقات؛ فإنّ الخوف عند اجتماعهن أكثر لأن الطمع بهن سيكون أكثر.
ثانياً: أن المرأة لا تقدر على الركوب والنّزول لوحدها بالعادة فيما مضى من الزمن، فتحتاج إلى من يرفعها وينزلها من المحارم، وعند عدمه لا تكون مستطيعة، ولو استطاعت على الركوب والنّزول كما هو الحال الآن؛ فإنّ هناك من المصالح ما لا تحصّله إلاّ بوجود محرم؛ وخاصّة في الحجّ[74].
ثالثاً : أنها بدون المحرم يخاف عليها الفتنة. [75]فغير المحرم لا يؤمن ولو كان أتقى الناس، فإن القلوب سريعة التقلب، والشيطان بالمرصاد[76].
رابعاً :أن حاجة المرأة إلى المحرم متأكدة في السفر، فقد تمرض، وتحتاج إلى من يمس بدنها أو غير ذلك وغير المحرم لا يؤمن على ذلك[77].
ونوقش:بأن اجتماع الرفقة من النسوة الثقات فيه مؤانسة وحماية فلا خوف.
وأجيب : بأن الفتنة حاصلة وليست الرفقة محرماً ولا في معنى المحرم. لأن المرأة تقبل بشيطان، وتدبر بشيطان ولكل ساقط لاقط[78].
أدلة القول الثاني بعدم اشتراط المحرم:
واستدلوا على ذلك بأدلة، منها:
الدليل الأول:قوله تعالى: ﴿ وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [ آل عمران: 97].
وجه الاستدلال: أن هذا خطاب عامّ للناس جميعاً، فيشمل الرّجال والنساء بلا خلاف ، فإذا كان للمرأة زاد وراحلة فهي مستطيعة؛ والرّفقة المأمونة إذا كانت معها؛ فإنّه يؤمن الفساد عليها فيلزمها فرض الحج[79].
ونوقش هذا الاستدلال من أوجه:
الأول: أن بين الآية هذه وبين الأحاديث التي ذكرت اشتراط المحرم عموم وخصوص؛ فيحتاج إلى مرجّح، وحديث الذي اكتتب في غزوة كذا مرجّح قائم ؛ فهو أمره بالخروج معها،
وترك الجهاد الذي تعيّن عليه كما أسلفنا[80]*.
الوجه الثاني: بأن الآية لا تتناول النساء حال عدم المحرم؛ لأن المرأة لا تقدر على الركوب والنزول بنفسها، وإن استطاعت في هذا الوقت فلا تستطيع إنهاء إجراءاتها بنفسها؛ فتحتاج إلى زوج أو محرم لذلك، ولا ينظر لبعضهنّ ممن تستطيع ذلك، فالعبرة بالغالب؛ فهي بذلك غير مستطيعة فلا تدخل في النص.
الوجه الثالث: أن عموميات الآية والأحاديث قد قيّدت ببعض الشروط بالإجماع: كاشتراط أمن الطريق، وإمكان المسير؛ فكذلك تقيّد هذه النصوص أيضاً باشتراط المحرم لوروده في النصوص الصريحة؛ بل إنّ من قال باشتراط الرّفقة المأمونة قد قيّد هذه النّصوص بشرط لم ينصّ عليه[81].
الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر السبيل في الحديث الذي يروى عن ابن عمر قال: «.. فقام رجل فقال: ما السبيل يا رسول الله؟ قال : الزّاد والرّاحلة »[82].
وجه الاستدلال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسّر السبيل بأنه الزّاد والرّاحلة فحسب، ولم يذكر المحرم من السبيل، وهو خارج مخرج البيان فهو شامل لكل ما أريد[83].
ونوقش هذا الدليل من أوجه:
الأول: أن هذا الحديث ضعيف، ولا يحتجّ به[84].
الثاني: لو سلّمنا الاحتجاج به؛ فإنّه لم يذكر له المحرم؛ لأنّ السّائل رجل.
الثالث: أنكم قد شرطتم شروطاً كثيرة، غير الزّاد والرّاحلة: كأمن الطريق، وإمكان المسير، وقضاء الدّين، وإمكان الثبوت على الرّاحلة، والنّساء الثّقات أو الرّجال الثّقات أو المرأة الثّقة، وهذه كلّها لم تذكر في الحديث، والمحرم أولى منها؛ لأنه ذكر في أحاديث أخرى.
الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن شرط الحج، أما المحرم فهو شرط عام في كل سفر، ويمكن أن يقال بأنه يبين الشرط العام لكل حاج، ولم يبين الشرط الخاص بالمرأة في هذا الحديث[85].
الدليل الثالث: ما ورد في حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه وفيه قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - :« هل رأيت الحيرة؟ قال: قلت : لم أرها وقد أنبئت عنها، قال: إن طال بك حياة لتريّنَ الظعينة – المرأة في الهودج – ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله...» [86].
وجه الاستدلال: أن خروج الظّعينة على هذا الوجه جائز، ولو لم يكن جائزاً لم يمدح به الإسلام، ولو كان حراماً لبيّنه؛ لأنّ تأخير البيان عن وقت الحجة لا يجوز[87].
ونوقش من عدّة أوجه:
الوجه الأول: أنه جاء لبيان الواقع من انتشار الأمن، لا لبيان حكم الخروج دون محرم،وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كذّابين ودجّالين يخرجون، ولا قائل بجوازه[88].
وأجيب: بأنّ حديث عديّ رضي الله عنه جاء على صفة المدح؛ ممّا يدلّ على جواز الفعل بخلاف غيره مما جاء على صفة الذّمّ.
واعتُرض عليه: بأنّه لو كان المقصد الإباحة؛ فهو لم يذكر في الحديث الرّفقة المأمونة من نساء ثقات، أو غيرهنّ ، فكيف تشترطونه؟[89].
الوجه الثاني من المناقشة: أنه قد ورد في بعض ألفاظ الحديث مرفوعاً: « ليأتينّ على النّاس زمان تسير الظّعينة من مكّة إلى الحيرة لا يأخذ أحد بخطام راحلتها»[90]، وقد أجمعوا أنّه لا يجوز أن تسير من مكّة إلى الحيرة، أو إلى أيّ بلد آخر؛ مما يدل على أن المقصد بالحديث الإخبار عن الواقع فحسب، وحكم المحرم جاء في أحاديث أخرى.
الوجه الثالث: أنّ حديث عديّ وما شابهه عام، وأحاديث المحرم أخص[91]، والخاص مقدم على العام.
الدّليل الرابع: ما ورد أنّ عمر رضي الله عنه أذن لأزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في آخر حجة حجها؛ فبعث معهنّ عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف[92].
وجه الاستدلال: أنّ هذا يدل على هذا جواز سفر المرأة مع النّسوة الثقات؛ إذا أمن الطريق، وقد اتّفق عليه عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، ونساء النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وعدم نكير غيرهم من الصّحابة لذلك، وترك بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج ليس بسبب عدم المحرم، وإنّما لأمر آخر[93].
ونوقش من أوجه:
الأوّل: بأنّ المحرم هو من تحرم عليه على التأبيد، ولا شك أن أمهات المؤمنين يحرمن تأبيداً على جميع المؤمنين، إذ جميع المؤمنين أبناء لهنّ، فكان الجميع لهنّ محرماً[94].
وأجيب: بأنّ هذا غير مسلم؛ لأنّ زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقام أمهات المؤمنين في تحريم النّكاح، وليس في المحرمية، وإلاّ لجاز لهنّ وضع الحجاب أمام المؤمنين، والخلوة بهن وغيرها من أحكام المحرميّة ، ولا قائل بذلك. قال ابن تيميّة عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إنهنّ أمّهات المؤمنين في التحريم دون المحرميّة»[95].
ونوقش من وجه ثانٍ: أنّه ليس في الحديث ما يدلّ على أنّه لم يكن معهنّ محرم، فالمحارم يحتمل أن يكون معهم في القافلة، وإنّما بعث معهن عثمان وعبد الرحمن بن عوف زيادة في الإكرام والأطمئنان، ولا يظنّ بالصحابة مخالفة نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سفر المرأة دون محرم، وقد ذكرت بعض الرّوايات ما يدلّ على وجود أوليائهنّ معهنّ[96]فيستأنس به؛ لأنّ في سنده مقالاً، ولأنّه يستبعد مع كثرة الحجّاج أن لا يكون معهنّ أحد من محارمهنّ.
ونوقش من وجه آخر: بأن هذا اجتهاد منهم، واجتهاد الصحابي لا يقبل إذا خالف نصاً صحيحاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[97].
الدّليل الخامس: ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنه قيل لها أن أبا سعيد قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « إن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم، فالتفتت إلى بعض من معها فقالت: والله ما كلهنّ لها محرم »[98]، وكذا ما ورد عن ابن عمر « أنّه حجّ بمولاة له يقال لها صافية على عجز بعير »[99][100].
ونوقش: أن العجيب ممن يقول بهذه الآثار، ويترك الأحاديث الصحاح، وهذه الآثار محمولة على سفر قريب، وهي معارضة بحديث: إني اكتتبت في غزوة كذا، وقول عائشة يدلّ على تعجبها، وأثر ابن عمر قد يكون قبل بلوغه الخبر[101].
ويُناقش: بأن السفر بمولياته خاصة قد قال به بعض أهل العلم؛ لأنه في الغالب لا محرم لهنّ[102].
الدليل السادس : عن ابن عمر رضي الله عنه؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تمنعوا إماء الله مساجد الله».
وجه الاستدلال: أن الحديث نص في انه لا يحلّ منعهن عن المساجد، والمسجد الحرام من هذه المساجد، فوجب أن يكون مستثنى من النهي عن سفر النساء ضرورة وإلا صار المانع لهنّ عاصياً لهذا الحديث[103].
ونوقش: بأن الاستدلال بهذا الحديث فيه نظر؛ لكون النهي عامّ في المساجد، فيخرج عنه المسجد الذي يحتاج على السفر بأحاديث تحريم سفر المرأة بغير محرم[104].
الدليل السابع : عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: « قلت: يا رسول الله، ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: « لكن أحسن الجهاد وأجمله الحّجُّ؛ حَجٌّ مَبْرُور». قالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذا سمعتُ هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[105].
وجه الاستدلال: « واستدلّ بحديث عائشة هذا على جواز حجّ المرأة مع من تثق به ولو لم يكن زوجاً ولا مَحرمًا»[106].
ونوقش : بأن هذا الحديث ليس فيه دلالة على جواز حجّ المرأة مع من تثق به ولو لم يكن زوجاً ولا محرماً مرفوعاً كما هو ظاهر أو موقوفاً، إذ إنّ قول عائشة رضي الله عنها: « فلا أدع الحج بعد إذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس صريحاً أنها فهمت من ذلك السفر إلى الحج ولو بغير محرم، إنما كما قال ابن حجر: « وفهمت عائشة –ومن وافقها – من هذا الترغيب في الحج إباحة تكريره لهنّ، كما أبيح للرجال تكرير الجهاد»[107].
الدليل الثامن : أنّ خروجها للحج دون محرم جائز إذا وجدت رفقة مأمونة قياساً على المرأة المهاجرة من دار الكفر، وقياساً على المأسورة إذا انفكّت من الأسر؛ بجامع أنّهما سفران واجبان؛ بل الهجرة ليست من الأركان الخمسة فكيف بالحج[108].
ونوقش من عدة أوجه:
الوجه الأول: أنه قياس فاسد الاعتبار لمخالفة النص.
الوجه الثاني: أن هذا قياس مع الفارق؛ لأن المهاجرة خروجها ليس سفراً فهي تقصد النجاة خوف الفتنة، فقطعها للمسافة كقطع السابح، أما التي تخرج للحج فلا.
الوجه الثالث: سلمنا أنه سفر؛ لكنه سفر للاضطرار؛ لأن الفتنة المتوقعة في السفر أخف من الفتة المتوقعة من البقاء في دار الحرب؛ فكان الإجماع على جواز خروجها دون محرم؛ لأنه أخف المفسدتين وأهون الضررين[109].
الدليل التاسع: أن شروط إقامة الفرض ما يكون في وسع المرء في العادة، والمرأة ليس لها ولاية على المحرم، ولا يجب على المحرم أن يخرج معها، ولا يجب عليها أن تتزوج للحج، فعرف أنّ المحرم ليس بشرط، وخروجها مع الرفقة الآمنة حذراً من الفتنة وتركاً للوحدة[110].
ويُناقش: بأنّ هذا الكلام في فريضة واجبة مطلقاً، ولكن الله ربط الحج بالاستطاعة، ومن الاستطاعة المعتبرة شرعاً بناء على الأدلّة في حق المرأة وجود المحرم، فإن لم يوجد فلا يجب الحج على المرأة أصلاً، فلهذا لم تكلّف المرأة أمراً خارجاً عن العادة أصلاً.
يتبع