وقفات مع قصة أصحاب الكهف

زكية العجلان

الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه..
ما أحوجنا إلى أن نعيش مع آيات الله لنستلهم منها العظات، ونستقي منها العِبَر، ما أحوجنا في هذا الزمن إلى من يعيننا على الثَّبات على المنهج، والصُّمود أمام الفتن، لاجتياز هذا الطريق الطويل بعقباته وآلامه.
عرض القرآن في كثير من سوره لقصص عُظمى، وعِبَر شتّى، جسّدت الصراع الدائم بين الحق والباطل، ومآل الظالمين وعُقبى المتقين...
قصتنا هنا من أعجب القصص، وليست بأعجب آيات الله، ففي صفحات الكون من العجائب والغرائب ما يفوقها، إنها قصة تصور أنموذجاً فذَّاً في الصمود وتحكي حقيقة الثبات على المنهج الرباني، وتمثل صوراً من صور التضحية في سبيل العقيدة والفرار بالدين، وهجرة الأهل والأوطان مخافة الفتنة في وقت المِحَن، قرّرت أصول الإيمان بالغيب، وأثبتت حقيقة البعث بعد الموت.
إنها قصة فتية أوذوا فوق كل أرضٍ وتحت كل سماء، ولجئوا إلى غارٍ في الجبل فمكثوا فيه نياماً ثلاثمائة وتسع سنين، ثم بعثهم الله بعد تلك المدة الطويلة.
قصة أصحاب الكهف قصة لا تخفي على أحد، قصّها المولى بوضوحٍ وجلاء كُلّما تلاها المسلم ازداد منها عجباً، وأخذ منها عبراً، وهكذا قصص القرآن لا تنقضي عجائبها، ولا تنتهي عبرها...
فلنقف معها وقفات يسيرة، علّ الله أن يرزقنا تدبر آياته، وفقه كلامه، وأن ينفعنا بما نقرأ.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الوقفة الأولى/ مشروعية الفرار بالدين والهجرة مخافة الفتنة:
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ عند قوله تعالى: {إذ أوى الفتية إلى الكهف..}.
هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين، والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فاراً بدينه وكذلك أصحابه، ومكث في الغار مع صاحبه أبي بكر، وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وقراباتهم، رجاء السّلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين، فسُكنى الجبال ودخول الغيران، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق، وجواز الفرار من الظالم هي سُنة الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء. وقد فضّل رسول الله صلى الله عليه وسلم العُزلة، وفضلها جماعة من العلماء لاسيما عند ظهور الفتن وفساد الناس، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه فقال: {فأووا إلى الكهف}.(1)
الوقفة الثانية/ مشروعية الدُّعاء واللجوء إلى الله وبخاصّةٍ في وقت المِحن، فلا كاشف للضُّر إلاّ هو:
تأملي حال هؤلاء الفتية لمّا فرُّوا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجئوا إلى الله تعالى فقالوا: {ربّنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً} (2)، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة إلى محل يمكن الاستخفاء فيه وبين تضرعهم وسؤالهم الله تيسير أمورهم، وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى الخلق. فلذلك استجاب الله دعاءهم، وقيض لهم، ما لم يكن في حسابهم (3) وهذا هو دأب الرُّسل صلوات الله عليهم وسلامه يتضرَّعون إلى ربهم وينطرحون بين يديه وقت الشدائد، فهذا مصطفاهم وخاتمهم صلوات ربي وسلامه عليه يناشد ربه يوم بدر فيقول: "اللهم انجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تُعبد بعد اليوم أبداً"، وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه فرده عليه الصديق، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك.
وهذا هو كليم الله موسى عليه السلام لما تراءى الجمعان، وقال له أصحابه {إنا لمدركون} قال مثبتاً لهم {كلا إن معي ربي سيهدين}. وهذا يونس عليه السلام نادى ربه في الظُّلمات {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}، وهذا خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أُلقي في النّار قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" وقالها مُحمَّد صلى الله عليه وسلم لمّا قيل له ولمن معه {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم}، وهكذا ينبغي أن يكون العبد مفتقراً إلى ربه متضرعاً إليه، فإنه لا حول ولا قوَّة له إلا بمولاه، ولو وُكل العبدُ إلى نفسه لوُكل إلى عدم، وإلى ضيعة، والناس لا يملكون لأنفسهم ضرّا ولا نفعاً فكيف يملكون لغيرهم؟! وكما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه "واعلم أنّ الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك...".
فإذا كان المولى وحده سُبحانه هو المالك للخير وهو الكاشف للضر وحده فإلى من يلجأ العبد إلاّ إليه!!
الوقفة الثالثة/ اجتماع الفتوة والإقبال على الله لأصحاب الكهف:
قال ابن الكثير ـ رحمه الله ـ كان أكثر المُستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً، وأمّا المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يُسلم منهم إلا القليل، فذكر الله عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً وهم أقبُل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل (4).
ومرحلة الشباب مظنة غلبة الشهوة، ومُتابعة الهوى، فمُلازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى (5) ولذا جاء في حديث السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله، "وشاب نشأ في عبادة ربه".
الوقفة الرابعة/ أصحاب الفطرة السليمة يستدلون بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية:
فهؤلاء الفتية نظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم، فعرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، نظروا إلى تلك الأوثان والأصنام التي لا تخلق ولا ترزق، ولا تملك نفعاً ولا ضرَّا، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوزاً، فاستدلوا بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية، ولهذا قالوا: {لن ندعو من دونه إلها} وهذا دليل على كمال معرفتهم بربهم، وزيادة الهدى من الله لهم. (6)
الوقفة الخامسة/ الاعتزال تارةً يكون بالأديان، وتارةً يكون بالأبدان، وقد حصل لأصحاب الكهف كليهما.
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ عند قوله تعالى: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأوا إلى الكهف} (الكهف آية 16) أي وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله ففارقوهم أيضاً بأبدانكم.
الوقفة السادسة/ معية الله لعباده المؤمنين، وقُربة ممن يتقرب إليه، واستجابته لمن دعاه وأناخ رحالة ببابه.
فهؤلاء الفتية دعوا ربهم {ربّنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً} فلمّا جمعوا بين التبري من حولهم وقوتهم، والالتجاء إلى الله في صلاح أمرهم، وبين الثقة بالله أنّه سيفعل ذلك، لا جرم أن الله نشر لهم من رحمته، وهيأ لهم من أمرهم مرفقاً، فحفظ أديانهم وأبدانهم ويسر لهم كل سبب. (7) والله عند ظن عبده به، فلمّا طلبوا الرحمة والرشد، نشر لهم من رحمته {ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً}.
الوقفة السابعة/ تجلي آيات الله الدّالة على قدرته الباهرة ورحمته الواسعة بهؤلاء الفتية:
• فقد حفظهم الله من الشمس فيسر لهم كهفاً إذا طلعت الشمس تميل عنه يميناً، وعند غروبها تميل عنه شمالاً لئلا ينالهم حرها فتفسد أبدانهم بها (8)، قال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ عند قوله سبحانه: {وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال..} قال: والمعنى: أنَّهم كانوا لا تصيبهم شمس البتة كرامةً لهم، وهو قول ابن عباس، فلا تصيبهم في ابتداء النّهار ولا في آخره، فكانت الشمس تميل عنهم طالعةً وغاربةً وجاريةً لا تبلغهم لتؤذيهم بحرِّها، وتغيِّر ألوانهم وتُبلي ثيابهم، وقيل: {وإذا غربت تقرضهم} أي يصيبهم يسير منها، مأخوذ من قارضة الذهب والفضة، أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها، وقالوا: كان في مسّها لهم بالعشيّ إصلاح لأجسادهم وعلى الجملة فالمقصود بيان حفظهم عن تطرق البلاء وتغيُّر الأبدان والألوان إليهم، والتأذي بحرٍ أو برد (9).
• وحَفِظهم ـ سبحانه ـ في {فجوةٍ منه} أي: من الكهف، والفجوة المُتسع، بحيث يطرقهم نسيم الهواء، ويزول عنهم الوخم والتأذي بالمكان الضيق، خصوصاً مع طول المكث، وذلك من آيات الله الدالة على قدرته ورحمته، وإجابة دعائهم وهدايتهم حتى في هذه الأمور. (10)
• ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يُسرع إليها البلى فإذا بقيت ظاهرةً للهواء كأن أبقى لها ولهذا قال تعالى: {وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود} (11).
• وفي قوله سبحانه {وتقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} حكمة بالغة، وقدرة باهرة، قال ابن عباس: لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض، قال أبو هريرة: كان لهم في كل عامٍ تقليبتان، وقيل: في كل سنة مرة، وقيل غير ذلك.
قال الشيخ ابن السعدي ـ رحمه الله ـ في الآية: وهذه أيضاً من حفظه لأبدانهم، لأن الأرض من طبيعتها أكل الأجسام المتصلة بها فكان من قدر الله، أن قلّبهم على جنوبهم يميناً وشمالاً، بقدر ما لا تفسد الأرض أجسامهم، والله تعالى قادر على حفظهم من الأرض، من غير تقليب، ولكنه تعالى حكيم، أراد أن تجري سنته في الكون، ويربط الأسباب بمسبباتها. فسبحانه من خالق حكيم.
• قال ابن جريح عند قوله تعالى: {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد}. ليحرس عليهم الباب وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم، وكان جلوسه خارج الباب لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب كما ورد في الصحيح، ولا صورة ولا جُنُب ولا كافر كما ورد به الحديث الحسن (12). وهاهنا يحسن الوقوف على حال بيوت المُسلمين في هذا العصر، ونفور الملائكة منها.
• ومن دلائل قدرته ـ سبحانه ـ أن حماهم بالرُّعب وألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلاّ هابهم، لما أُلبسوا من المهابة والذعر لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم، لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرّحمة الواسعة(13). قال سبحانه {لو اطَّلعت عليهم لولّيت منهم فِراراً ولمُلئت منهم رُعباً}.
الوقفة الثامنة/ من أحب أهل الخير نال من بركتهم، ومن صاحب الأخيار ذُكر معهم.
قال ابن عطية: وحدّثني أبي ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه: إنّ من أحب أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل فضلٍ وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله.
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ وهذا فائدة صحبة الأخيار فإنّه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن.
وقال القرطبي ـ رحمه الله ـ: إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدَّرجة العُليا بصحبته ومخالطته الصُّلحاء والأولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه جل وعلا. فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين، المحبين للأولياء والصالحين بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين على درجات الكمال، والمُحبين للنبي صلى الله عليه وسلم وآله خير آل.
ثم أورد ـ رحمه الله ـ حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي في الصحيح قال: بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سُدة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: "ما أعددت لها" قال: ولا صدقة، ولكنِّي أحب الله ورسوله. قال: "فأنت مع من أحببت" قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم "فأنت مع من أحببت" قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم.
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: وهذا الذي تمسّك به أنس يشمل من المسلمين كل ذي نفس، فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كُنا مقصرين، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين، كلب أحب قوماً فذكره الله معهم! فكيف بنا وعندنا عقد الإيمان وكلمة الإسلام، وحب النبي صلى الله عليه وسلم {ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً}.
أرأيتِ كيف امتدت بركة هؤلاء الفتية إلى هذا الكلب، وكيف أثّرت الصُّحبة حتى على البهائم!، فما ظنّك بمن صَحِب الأخيار من بني آدم، وحرص على مؤاخاة الصّالحين؟! فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وهم الذين تستمر خُلّتهم إلى يوم الدِّين، {الأخلاّء يومئذٍ بعضهم لبضع عدو إلا المتقين}.
ولو لم يكن من مُجالسة الصّالحين ومحبتهم إلاّ أن المرء يُحشر معهم لكفى بذلك.
قال الخطابي في كتاب العزلة عند قوله صلى الله عليه وسلم "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالل" قال معناه: لا تخالل إلاّ من رضيت دينه وأمانته، فإنّك إذا خاللته قادك إلى دينه ومذهبه.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما من شيء أدل على شيء ولا الدخان على النّار من الصاحب على الصّاحب"، وأُثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن كان يقول: "لولا ذكر الله ما والاه ولولا إخوة يُلتقط طيب الكلام منهم كما يُلتقط طيب الثمار لآثرت الموت على الحياة؟".
ولذا ينغبي أن يكون دأب المسلمة الحرص على مُجالسة الأخيار، ومؤاخاة المتقين الأبرار، ومحبة الصالحين، فإن مجالستهم منفعة في الدين والدنيا ومحبّتهم قُربةً من القُرب ودليل على كمال الإيمان، وسبب لتذوق حلاوة الإيمان وطعمه.
ولتعلم المسلمة أن الأخ الصالح مما تنتفع به حتى بعد موتها، قال أحد السلف: أين مثل الأخ الصالح؟ إن أهل الرجل إذا مات يقسمون ميراثه، ويتمتعون بما خلّف، والأخ الصالح ينفرد بالحُزن مهتماً بما قدم أخوه عليه، وما صار إليه، يدعو له في ظلمة الليل ويستغفر له وهو تحت أطباق الثّرى؟!
الوقفة التاسعة/ قصة هؤلاء الفتية حجةً واضحة على منكري البعث ودلالة قاطعة على البعث والنشور إلى يوم الدين:-
ذكر غير واحدٍ من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة، وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا تُبعث الأرواح ولا تُبعث الأجساد، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك (14).
وهذا من رحمة الله الواسعة وحكمته البالغة بعباده أن أراهم هذه الآية مثالاً حسيّاً ماثلاً أمامهم يرونه رأي العين ليقطع به شك المُرتابين، ويُقيم به الحجة على المُنكرين، فيزداد المؤمن يقيناً بربه وثباتاً على دينه، ويسعى لآخرته، وكيف بمن أنكر البعث أن يعمل وهو يظن ألاّ حساب ولا جزاء!؟
الوقفة العاشرة/ زيادة الإيمان وتفضاله وأنّه يزيد وينقص:
وذلك أن الله تعالى قال عن هؤلاء الفتية: {إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى} قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: استدل بهذه الآية وأمثالهم غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله وأنه يزيد وينقص، كما قال {والذين اهتدوا زادهم هدى وأتاهم تقواهم} وقال {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم}.
الوقفة الحادية عشر/ الأدب فيمن اشتبه عليه العلم أن يرده إلى عالمه، المُحيط بكل شيء علماً جُملةً وتفصيلاً:
فأصحاب الكهف لمّا حصل لهم نوع تردد في مدة لبثهم، ردّوا العلم إلى علاّم الغيوب (15)، {قالوا ربكم أعلم بما لبثتم}. وهكذا ينبغي أن يكون عليه المسلم، وبخاصّة من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً.
الوقفة الثانية عشر/ الحث على التحرز والاستخفاء، والبُعد عن مواقع الفتن في الدين واستعمال الكتمان في ذلك على الإنسان وعلى إخوانه في الدين. (16)
وذلك مُستنبط من قوله تعالى: {وليتلطّف ولا يشعرن بكم أحداً}.
الوقفة الثالثة عشر/ في قوله {فابعثوا أحدكم} دليل على الوكالة، وصحة الشركة:
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها، وهي جائزةً في كل حق تجوز النيابة فيه، فلو وكل الغاصب لم يجز، وكان هو الوكيل، لأنّ كل محرم فعله لا تجوز النيابة فيه.
وفي الآية نُكتة بديعة، وهي أنّ الوكالة إنما كانت مع التقية خوف أن يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم.
قال ابن خويز منداد: تضمنت الآية جواز الشركة لأن الورق كان لجميعهم وتضمنت جواز الوكالة؛ لأنهم بعثوا من وكّلوه بالشراء. وتضمّنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معاً، وإن كان بعضهم أكثر أكلاً من الآخر(17).
الوقفة الرابعة عشر/ البعد عن الخوض فيما لا يُحيط به علم البشر، ولا تُدركه العقول وترك المراء فيما لا طائل تحته:
وذلك أنه سبحانه لما أخبر عن اختلاف الناس في عدد أصحاب الكهف أرشد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم (18)، {قل ربي اعلم بعدتهم ما يعلمهم إلاّ قليل فلا تُمارِ فيهم إلاّ مراءً ظُهراً ولا تستفتِ فيهم منهم أحدا}.
وفي ذلك صيانة للعقل عن الإقحام فيما ليس له به علم، وصيانة للطاقة العقلية أن تُبدد في غير ما يُفيد، وحتى لا يقفوا المسلم ما ليس له به علم، فهذه من أحداث الغيب الموكلة إلى ربها (19).
يقول الشيخ ابن السعدي ـ رحمه الله ـ: أمّا المماراة المبنية على الجهل والرّجم بالغيب، أو التي لا فائدة فيها إمّا أن يكون الخصم معانداً، أو تكون المسألة لا أهمية فيها، ولا تحصل فائدة دينية بمعرفتها، كعدد أصحاب الكهف ونحو ذلك، فإنّ في كثرة المناقشات فيها، والبحوث المتسلسلة تضييعاً للزمان، وتأثيراً في مودة القلوب بغير فائدة.
الوقفة الخامسة عشر/ ذكر الشيء لا يدل على عدم ذمة:
وذلك أن الله تعالى قال: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً} أي: نعبد الله تعالى فيه، ونتذكر به أحوالهم، وما جرى لهم.
قال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ: وهذا الحالة محظورة نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وذم فاعليها ولا يدل ذكرها على عدم ذمها، فإن السياق في شأن أهل الكهف والثناء عليهم، وأنّ هؤلاء وصل بهم الحال إلى أن قالوا: ابنوا عليهم مسجداً بعد خوف أهل الكهف من قومهم، وحذرِهم من الإطلاع عليهم فوصلت الحال إلى ما ترى. أ.هـ
وقد وردت نصوص حذّرت من اتخاذ القبول مساجد، منها قوله صلى الله عليه وسلم "لعن الله اليهود والنّصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا، وروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه لما وجد قبر "دانيال" في زمانه بالعراق، أمر أن يُحفى عن النّاس، وأن تُدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده (20).
فائدة يحسن ذكرها، وإن لم يكن هذا موطنها، يقول الشيخ ابن السعدي ـ رحمه الله ـ: في هذه القصة، دليل على أنّ من فرَّ بدينه من الفتن سلّمه الله منها، وأن من حرص على العافية عافاه الله، ومن أوى إلى الله آواه الله وجعله هداية لغيره. ومن تحمّل الذي في سبيله، وابتغاء مرضاته كان آخر أمره وعاقبته، العز العظيم، ورزقه من حيث لا يحتسب {وما عند الله خير للأبرار}. أ.هـ
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ
(1) يراجع كلام القرطبي – عليه رحمة الله – موال العُُزلة والاعتزال عند تفسيره للآية ج.1
(2) المرجع السابق
(3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان، لابن السعدي – عليه رحمة الله.
(4) ينظر تفسير الإمام ابن كثير ج3
(5) ذكر ذلك الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في الفتح ج2 عند شرحه للحديث في باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد.
(6) يُنظر تفسير ابن كثير، وتفسير ابن السعدي – عليهما رحمة الله.
(7) تفسير ابن السعدي
(8) تفسير ابن السعدي
(9) بتصرُّف، من تفسير القرطبي – رحمه الله تعالى –
(10) تفسير ابن السعدي – رحمه الله تعالى
(11) تفسير ابن الكثير – رحمه الله تعالى
(12) تفسير ابن الكثير – رحمه الله تعالى –
(13) تفسير ابن الكثير – رحمه الله تعالى –
(14) ذكر ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره
(15) ذكره ابن السعدي في تفسيره.
(16) ذكره ابن السعدي في تفسير.
(17) يُنظر ما قاله القرطبي – رحمه الله – عند هذه الآية.
(18) تفسير ابن الكثير.
(19) مُقتطفة من خطبة الشيخ د/ صالح بن حميد – حفظه الله.
(20) تفسير ابن الكثير – رحمه الله -