حـــديث النظـــرات


ميساء الهواري





كالجوهرة الثمينة عرفتها، وكالذهب اللامع علمتها، قد جمعت من جميل الخلال، ونبيل الخصال، وكريم الشمائل، وحسن الخلق ما جعل أفئدة من الناس تهوي إليها، عهدي بها مشرقة المحيا كشمس، بهية الطلعة كبدر، هادئة الطبع كنسيم، صافية النفس كنهر، ضحوكة السن، بسامة الثغر، بشوشة الوجه، تؤثر الصالحين وأرباب العلم وتبادر لمماشاتهم والسير في ركابهم، والانضمام لقافلتهم، تعي أقوالهم، وتحاكي أفعالهم، وتفقه حِكمهم ونصائحهم، تثري معرفتها من علمهم، وتروي ظمأها من بحورهم، وتشبع نهمها من معارفهم، وتُجِل قدرهم وتُكبر منزلتهم، لم أرَ منها ما يريب، ولم ألمس منها ما يشين أو يسوء، وكنت كلما رأيتها توسمت فيها خيراً كثيراً، وذات يوم شاهدتها برفقة فتاة لا أتوقع من مثلها أن ترافق مثلها، فدهشت وتعجبت، وكان قد نما إلى علمي من قبل ما يؤكد مرافقتها لهذه الفتاة، ولكن استبعدت ذلك وظننتهن واهمات حتى شهدت الواقع بأم عيني وتملكني الاستغراب، وصدمت لرؤيتها وصدمت لرؤيتي وهي بصحبة تلك الفتاة، فوقع في نفسها أني أظن بها السوء، فدنوت منها لاستطلع حقيقة الأمر، وأتبين السبب الكامن إزاء تصرفها هذا، اقتربت منها على عجل وسألتها: أراك مع صحبة غريبة لم تألفيها من قبل، عسى أن يكون الداعي خيراً؟!
فالتفت إليَّ قائلة: اطمئني ولا تشغلي بالاً، فلا شيء غريب، كل ما في الأمر أني أحب صحبة هذه الفتاة وأرتاح إليها، فروح المرح والفكاهة لديها تعجبني.
فوجئت لإجابتها، وللسبب الذي أبدته، وعقدت الدهشة لساني وأعجمتني فلم أحر جواباً، بل أطلت النظر إليها، والتحديق بها ملياً وتواجهت نظراتنا وتحاورت تخبرها وتترجم لها ما يعتمل في صدري، كانت تقول لها: واعجباه، وخيبتاه، أمن أجل هذا تماشيها؟! هل ضاقت عليك الأسباب بما رحبت حتى لم يبق لك إلا هذا السبب؟ هل أخرجتك الصفات والمحامد من رحيب أفقها إلى ضيق حدودها لتختاري هذا الخُلُق؟ هل كبلتك الأعذار وقيدتك الأفكار وغلّقت في وجهك الأبواب إلى أن أسلمتك لهذا الباب تدلفي منه؟!
أيعقل أن تصغر الرؤية إلى هذا الحد؟ وأن يصل العقل إلى هذه النقطة وهذا الحجم؟ أيمكن أن يقصر التفكير ليصير إلى هذا المستوى؟
أين العقل؟ أين العينان؟ أين التفكير والتقدير والتدبير والموازنة بين الأمور؟ أين التمييز واختيار أحد النجدين؟ ثم صوبت نظراتي صوبها أكثر وهي تقول لها:
ليتك عكست الآية وقلبت الموازين، وجعلت من نفسك قدوة وأسوة، ومثالاً يحتذى، ونموذجاً تشد الرحال إليه، ليتك جعلت حبك يتمكن منها، وإعجابها بك يسبي مشاعرها فتهرع للسير على خطاك، والامتثال لأمرك، ليتك حاولت تلمس مفاتح شخصها، ومنافذ نفسها علك تأنسي إلى ثغرة تنفذين منها إليها، فيهدها الله بك فيكون خيراً لك من حمر النعم وتفوزي عندها بخيري الدنيا والآخرة وسعادة الدارين، وتغنمي مغانم كثيرة، وتحيلي السم الزعاف إلى بلسم شاف فتفيدي وتستفيدي، بدلاً من أن تري جداراً يريد أن ينقض فلا تقيميه مع أن تحته كنز للأمة المحمدية، وتتركيه مذبذباَ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وتشهدي زرعاً استوى على سوقه وقد اشتدت به الريح في يوم عاصف فيهيج وتريه مصفراً، وقد كان من الخير لك لو رعيته وحميته فآتى أكله مرتين.
ثم أدرتُ رأسي يمنة ويسرة أسفاً وألماً وحسرة، وتركتها خافضة الرأس، غارقةً في خجلها لا تنطق وقد تبين لها سوء ما فعلت، وقد أدركت مغزى نظراتي، وفهمت قصد تطلعاتي، وتركتها ولسان حالي يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم اهد فتيات و شباب المسلمين لكل خير يارب العالمين.