ثمراتُ البحث العلميِّ: عطاءٌ إلهيٌّ! (2)
صلاح عباس فقير


في رحاب البحث العلميِّ ومناهجه


الحمد لله، وسلام على عباده الّذين اصطفى، من الآل والصّحب الكرام، والتّابعيهم إلى يوم الدين، ثمّ أمّا بعد،

مفهوم البحث:
في الحلقة الماضية، وقفنا عند قول المؤلف الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، في تعريفه للبحث، أنّه: "كلمة لها مدلول لغويٌّ عام، تعني طلبَ الشيء، وإثارته، وفحصه". وقد شرحنا هذه العبارة، مستندين إلى نصٍّ تيميٍّ (نسبةً إلى شيخ الإسلام ابن تيمية)، أنّها تعني: "استثارة شيء وفحصه، من أجل الوصول إلى شيءٍ آخر"!
وفي الواقع، هذا المعنى هو ما قرّره المؤلف بعد قليلٍ، بقوله: "هذه المعاني كلها مجتمعة تشير بالفعل إلى طبيعة البحث العلمي؛ إذ هو طلبٌ لمجهول، يستدعي إثارةَ كل ما يمكن أن يمدَّ الباحث بمعلومات مفيدة في مجال البحث، والتنقيب عنه، ثم فحص ما تجمع من تلك المعلومات لطرح ما ليس ذا صلة بالبحث المطلوب وإبعاده، ثم دراسة وتحليل ما تبقى مما له به صلة مباشرة، أو يساعد على دراسة جانب من جوانبه" (ص25).
عناصر البحث:
وبناءً على ذلك، نلحظ أنّ مفهوم البحث، يتكون من أربعة عناصر أساسيّة:
الأول: أنّه "طلبٌ لمجهول".
الثّاني: أنّ ذلك، يستدعي البحث عن هذا الشيء المجهول، في مظانِّ وجوده، أي في نطاقٍ معيّن.
الثّالث: أنّ تحديد نطاق البحث يتمّ من خلال عمليات الفحص، ومن ثمّ الإبعادُ لكلّ ما يتّضح أنه ليس ذا صلةٍ بالموضوع.

الرّابع: دراسة وتحليل نطاق البحث الّذي تمّ تحديده.
هل يختلف البحث في معناه العلميّ عن البحث في معناه العُرفيّ؟
وينبغي أن نؤكّد في هذا السياق على حقيقةٍ مهمّة: أنّ البحث في معناه العُرفيّ لا يختلف كثيراً عن البحث في معناه المنهجيّ العلميِّ، ودعوني أضرب مثلاً بإحدى عاداتنا المعروفة: كنّا ونحن أطفالٌ صغار، عادةً ما نتعرّض إلى ضياع العملة المعدنية التي نحملها، وكان الطريق ترابيّاً، فكنّا نعمد إلى النطاق الّذي يغلب على ظنّنا أن القرش المعدني أو الرّيال قد سقط فيه، فنُجمِّع ترابها في شكل كومةٍ كبيرة، ثمّ نبحث في هذه الكومة بطريقةٍ معيّنة تتبُّعيّة.
فهذه العملية العرفية للبحث، لا تختلف كثيراً عن الطريقة العلمية للبحث، والفارق دائماً يكون بسبب الجهد الذي يبذله الباحث، ومدى دقّته!
نؤكد على هذه الحقيقة؛ لأنّ بعض النّاس إذ ينظرون إلى ثمرات البحث العلمي والعطاء الجزيل الذي يلقاه الإنسان بسببه، يُضفون على (البحث العلميّ) هالةً من القداسة، وكأنّه ضربٌ من الطُّقوس (العلمية أو العلمانيّة) تتحقّق به المعرفة، ويحدث عنده الاكتشاف!
ونحن نقول: ليس ثمّة إلا جهد منظّم، موجّه في نطاقٍ معيّن، للبحث عن شيءٍ معيّن!
ثمرات البحث العلميّ عطاء إلهيٌّ:
وحقّاً ثمّة هالةٌ حقيقيّة من التّقديس، نُبصرها في سياق البحث العلميّ، وليتنا نقف عندها مليّاً لنوفِّي مقامها ما يستحقه، ألا وهي: أنّ ثمرات البحث العلميّ والنّتائج التي يصل إليها العلم، ليست إلا عطاءً إلهيّاً، يتجاوز حدود الجهد الذي يبذله الإنسان الباحث، وممّا هو مقرّر في دائرة العلوم الطبيعية، أنّ النتائج تكون أكبر من الجهد الإنسانيّ، بيد أنّهم ينسبون ذلك إلى الصدفة، ولا يذكرون فضل الله عزّ و جلّ في ذلك، وينسَون أنّه هو الذي جعل هذا الكون منظماً قابلاً للمعرفة العلمية والاكتشاف!
فيا ربِّ لك الحمد، كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك!
{وآتاكم من كلِّ ما سألتموه}:
وقوله سبحانه وتعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم] يتعلّق بهذا الأمر تعلُّقاً مباشراً، فالسؤال المقصود في هذه الآية، ليس مجرد السؤال اللفظيّ، إنّه يشمل كذلك السؤال الكونيّ التكوينيّ، فالعالم المثابر في مختبره يبحث عن أمرٍ معيّن، هو في الحقيقة يسأل ربّه، والله يؤتيه من ثمرات ما يبحث عنه، قال فخر الدين الرازي: {وآتاكم من كلّ ما سألتموه} أي: "آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ، وَلَمْ تَصْلُحْ أَحْوَالُكُمْ وَمَعَايِشُكُمْ إِلَّا بِهِ، فَكَأَنَّكُمْ سَأَلْتُمُوهُ أَوْ طَلَبْتُمُوهُ بِلِسَانِ الْحَالِ" [تفسير الرازي: 19/ 99]، ويؤكد هذا المعنى أنّ الآية قد خُتمت بقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
تعريف العلماء المتخصّصين للبحث العلميِّ:
ويُضيف المؤلف تعريفاً آخر للبحث، قائلاً:
"ويُعرِّف العلماء المتخصِّصون البحثَ بأنه: عمليةٌ علمية تُجمع لها الحقائق والدراسات، وتُستوفى فيها العناصر المادية والمعنوية حول موضوع معين دقيق في مجال التَّخصص، لفحصها وفقَ مناهج علمية مقررة، يكون للباحث منها موقفٌ معيَّن؛ ليتوصل من كل ذلك إلى نتائج جديدة، هذه النتائج هي ثمرة البحث، والغايةُ التي ينشدها الباحث من وراء العملية العلمية الفكرية، سواء كانت نظرية أو تجريبية، وهي ما يُعبَّر عنها علميًّا بـ(الإضافة الجديدة) المطلوبة في البحوث العلميَّة العالية" (ص25).
وينبغي علينا إذا أردنا أن نفهم عملية البحث العلميّ، أن نتأمل جيداً في هذا التعريف، الذي يتضمّن كثيراً من اللوازم والقيود، نلخّص منها ما ذكره المؤلف، وذلك في نقطتين اثنتين:
1. يتميّز البحث العلميّ، بأنّه يقدم إضافة جديدة، وهذه الإضافة تتخذ صورًا شتى؛ فقد تكون أفكارًا جديدة، أو حلًّا لمشكلة علمية، أو بيانًا لغموض علميٍّ، وما إلى ذلك من أغراض البحث العلميّ.
2. بناءً على ذلك، ثمّة أعمال وجهود علميّة، لكنها لا يصدق عليها أنّها بحوث علمية، مثل الأعمال التي لا تتجاوز إعادة الصياغة والتقسيمات، كالكتاب المدرسيّ، مهما بلغت جودته، لا يُعتبر تأليفه من قبيل البحث العلمي؛ لأنه يُقرر حقائق معلومة، وقضايا مسلمة في مجال التخصص، ومن ذلك كذلك جمع المعلومات التاريخية، ومنه: تطوير طريقة معينة، أو نظام معين، ووضعه موضع التنفيذ في مجال من المجالات الاجتماعية، أو التجارية، أو الحكومية، أو الجامعية، ربما يكون نشاطًا مبتكرًا؛ ولكن لا ينطبق عليه مفهوم البحث.
لقد حدّدنا مضمون البحث العلميّ، الآن، استناداً إلى كونه يُقدّم (إضافةً جديدة)، أي استناداً إلى ثمرته، والآن يمكننا بناءً على ذلك، أن نحدّد استناداً إلى التعريف السابق، خصائص البحث العلميّ المميّزة له عمّا عداه!
وذلك ما سوف نراه بإذن الله في الحلقة القادمة!