رؤى الخيال..



منال الدغيم

عربدت نشوة وحشية بين أضلعها، واشتعلت البهجة في عينيها وهي تعاود قراءة ما كتبته للمرة العاشرة ربما..
أرخت رأسها إلى الخلف، وأغمضت عينيها في إعجاب شديد بكلماتها المعبرة وأسلوبها المؤثر وأفكارها المبدعة، وقد انتشت برؤى الخيال لآلاف من الأكف وهي تصفق لموهبتها الفذة..
وفي لجج تلك المشاعر الآثمة، وبينما تتراقص نظراتها بين أسطر المقال، لاحظت جملة دائماً ما تذيل بها ما تكتبه في آلية ورتابة.. غير أنها في لحظة قراءتها هذه شعرت بسهم حاد يطعنها في أعماقها:
"والله من وراء القصد"..
تململت في ضيق، وقد غار نصل تلك الكلمات فيها، ودماء الإحساس تنزف علامات استفهام مؤلمة:
ـ "لماذا يا ترى أكتب؟! ولماذا أدلي بالأفكار الفريدة وأوحي بالآراء السديدة؟!
وما سر هذا الشعور الجامح من اللذة يغمرني كلما أومض الإبداع في مقالاتي، وهذه الخفقات المجنونة من البهجة كلما شممت رائحة مديح أو إشادة؟
هل حقاً كان القصد لله إذن..؟
رباه.. لقد كان كل جهد لي في ميدان الدعوة أشبه برعد قاصف مجلجل، لا يصحبه غيث النية الصالحة والقصد المخلص، فلا أراه ينبت الخير والصلاح!!".
إن الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة، أصلها ثابت على إخلاص الإرادة لله، وعلى غيرة صادقة في النفس، وحب حقيقي في النفع والتأثير، فتمتد فروعها في سماء العطاء لتغدق بثمار الهداية وأزهار الوداد وأفياء الصدق كل من حولها..
والتي اشتعل الهم في صدرها حقاً، وثارت غيرتها في نفسها صدقاً، فكانت نفثاتها جهود دعوية مختلفة، رأيتِ همة الدعوة شماء في جميع شؤونها، فهي في جهاد ودعوة لنفسها للرقي في معارج السمو؛ لأنها داعية، وهي في بذل دائم للهداية والبسمة والود في أهلها وصديقاتها؛ لأنها داعية، وهي في قلق مستمر وحزن مرير لأحوال الإسلام والمسلمين؛ لأنها داعية، وتراها بين هذا وذاك.. باذلة للمال والوقت والجهد في كل ثانية؛ لأنها داعية، وذلك ديدنها في أمرها كله.. قبل أن تزخرف جهودها بروعة الإتقان وسحر البيان؛ لأنها داعية!
ولمن اشتبهت عليها الأمور، وتلاطمت بين جنبيها أمواج الشك، هذا نداء إليها لتضع قلبها تحت لهيب الأسئلة التالية، عسى أن تعود مقاصدها نقية من الشوائب، لامعة ببريق الإخلاص..
· هل هذه الجهود التي أبذلها هي حقاً رجاء نفع الناس والتأثير الصالح فيهم؟
إذن فلأعلم أن سيفاً يثلمه الإعجاب ويعلوه صدأ الحب للمديح لا يمكن أن يجتث باطلا ويزرع حقاً.. مهما كان المحارب باسلاً!
قال الربيعُ بن خثيم: "كلُّ ما لا يُراد به وجهَ الله يضمحلُّ".
· حسناًٍ، ما ردة فعلي إذا لم أسمع كلمة ثناء واحدة على جهد ما لي؟
إن كان فتوراً وضعفاً وكسلاً، فراجعي نيتك، فقد تكون معتمدة على شفا جرف حب الثناء، أما إذا كانت عزيمتك ما تزال متوقدة، فعسى أن يكون نورها مقتبس من رغبة في أجر كبير دائم لا ينقطع!
يقولُ ابنُ القيِّمِ في الفوائدِ:" لا يجتمعُ الإخلاصُ في القلبِ ومحبَّةُ المدحِ والثَّناءِ والطَّمعُ فيما عندَ النَّاسِ؛ إلا كما يجتمعُ الماءُ والنَّارُ والضبُّ والحوتُ، فإذا حدَّثتك نفسُك بطلبِ الإخلاصِ فأقبِل على الطَّمعِ أوَّلاً فاذبحه بسكِّينِ اليأسِ، وأقبِل على المدحِ والثَّناءِ فازهَد فيهما زُهدَ عُشَّاقِ الدُّنيا في الآخرةِ، فإذا استقامَ لك ذبحُ الطَّمعِ والزَّهدِ في الثَّناءِ والمدحِ سهَّلَ عليك الإخلاصَ؛ فإن قلت: وما الذي يُسهِّلُ عليَّ ذبحَ الطَّمعِ والزُّهدِ في الثَّناءِ والمدحِ؟! قلتُ: أمَّا ذبحُ الطَّمعِ فيسهِّلُه عليك علمُك يقيناً أنه ليس من شيءٍ يُطمَعُ فيه إلا وبيدِ الله وحدَه خزائنُه لا يملكُها غيرُه، ولا يُؤتى العبدُ منها شيئاً سواه، وأمَّا الزَّهدُ في الثَّناءِ والمدحِ فيسهِّلُه عليك علمُك أنَّه ليس أحدٌ ينفعُ مدحُه ويزينُ ويضرُّ ذمُّه ويشينُ إلا الله وحدَه.."([1]).
· إذن، ماذا لو هاجمني أحد واتهم جهودي وانتقص من قدراتي؟
إن كان شعوري آنذاك بركاناً من الحقد والنقمة والتشفي والانتقام، فقد كنت أعمل من أجل أن تقر عينا هذه الشخص بلا ريب، وإن كان شعوري نسائم من العفو والصفح ومراجعة النفس والإقبال على عيوبها، فلعل عملي من أجل رضا خالقي، ورضا الله غاية تدرك وهو الغاية، ورضا الناس غاية لا تدرك، وليس أصلاً بغاية..
· وبعد، فهل لي رغبة حقيقية فيما عند الله؟
إذن فلأعلم أن الله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيباً، وهو سبحانه وتعالى في غنى تام عن جهود عجاف وأعمال هزيلة ومساعي ذابلة! ومن واهب هذه النعمة لي؟ أليس الله؟ أغمضي عينيكِ وتفكري وتأملي.. إنه الله.. إنه الله.. )وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ([النور: 21]، فهو إذا شاء سلبها مني متى شاء، أفلا أستحي من خالقي ورازقي والمتفضل علي بالليل والنهار، وأنا أتوسل بما وهبني إياه إلى مهاوي الإرادات الهاوية، ومهالك النيات الهالكة؟!
كرري هذه الأسئلة مرات عديدة، وجهي إلى نفسك أصابع الاتهام بتجرد، وانزعي منها الأجوبة الصادقة انتزاعاً، ثم انظري فيها، فإن علامة الإخلاص كما قيل: استواءُ أعمالِ العبدِ في الظَّاهرِ والباطنِ، وأما الرياءُ: أن يكونَ ظاهرُه خيراً من باطنِه، أما إن كان الباطنُ أعمَرُ من الظَّاهرِ فهذا صدقُ الإخلاصِ، نسأل الله الكريم من فضله.
كوني بالمرصاد لكل خلجة توسوس لك، وتود أن تخفق بالبهجة الأثيمة للمديح والإعجاب الخاطئ بالجهود..
ولتكن كفاكِ دائماً.. دائماً.. مرتفعة إلى السماء، وجبينكِ خاضعاً إلى الأرض، وفؤادكِ مرتعشاً بالوجل والإشفاق، مغمغماً في إخبات وابتهال:
"اللهُمَّ أرنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا اتباعَه، والباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابَه، اللهُمَّ ألهمنا رشدَنا وقنا شرَّ أنفسِنا، واسلك بنا طريقَ نبينا واحشرنا في زمرتِه، اللهم إنا نعوذ بك من العجب والرياء والنفاق والشقاق وسيء الأخلاق، اللهم انفعنا وانفع بنا واجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر أينما كنا، اللهُمَّ إنَّا نسألُك خشيتَك فى الغيبِ والشهادةِ، وكلمةِ الحقِّ فى الغضبِ والرضى، والقصدَ فى الفقرِ والغنى، اللهُمَّ إنَّا نسألُك الإخلاصَ والمتابعةَ في أمورنا كُلِّها، دقِّها وجلِّها، واجعل اللهُمَّ أعمالَنا خالصةً لوجهك صواباً على سُنَّةِ رسولِك e، اللهم آمين".


[1]) )الفوائد: 1/149.