جُــد.. فتســد


د. أمل القام





كفانا بالخليل عليه السلام مضرباً للمثل في الجود حين أعطى ماله للضيفان وبدنه للنيران وولده للقربان وقلبه للرحمن؛ فأكرم بالخلة، فساد بجوده البشر. ثم جاء بعده حبيبنا المصطفى الكريم فكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس، بأبي هو وأمي، وقد أثنى عليه المولى القدير وعلى أهل بيته، قال تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا ً} [الإنسان:8].
قال جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ:
"ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال لا" (رواه البخاري).
فما هو الكرم؟
أصل الكرم نزاهة النفس وسخاؤها، والسخاء يزيد المال ويشع في النفس الرضا والسعادة..
وقد سئل عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن الكرم فقال: العطية قبل السؤال، والتبرع بالمعروف.
وفي خطبة رويت عن الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ بالبصرة قال: أيها الناس، إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخذ يوماً عمامتي من ورائي فقال: "يا زبير! إن الله يقول أَنفق أُنفق عليك، ولا توكئ، (أي لا تبخل) فيوكأ عليك، أوسع يوسَّع عليك، ولا تضيق فيضيق عليك، واعلم يا زبير أن الله يحب الإنفاق ولا يحب الإقتار، ويحب السماحة ولو على فلق تمرة، ويحب الشجاعة ولو على قتل حية أو عقرب، واعلم يا زبير أن لله كنوز أموال سوى الأرزاق التي قسمها الله بين العباد محتسبة عندها لا يعطيها أحداً إلا من يسأله من فضله فاسألوا الله من فضله".
ولعل أشهر أجواد الجاهلية حاتم الطائي الذي لا تهدأ نفسه ولا ترضى، ولا يرتاح له بال حتى يطعم ضيفاً أو يكرم مسافراً، فقد قال لغلام عنده يوماً وقد اشتد البرد: أوقد ناراً في بقاع (وهو التل). ثم أرجز:
أوقد فإن الليل ليـل قـــــــر
والريح يا موقد ريح صـــر
عسى يرى نارك من يمـــر
إن جلبت صنفاً فأنت حـــــر
ولشدة إكرام العرب لضيوفهم كانوا يضاحكونهم قبل أن ينزلوا من الرحل، قال الشاعر:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحلـــــه
ويخصب عندي والمحل جديـــــــب
أما أجواد الإسلام فهم كثر، ولعل عبدالله بن جعفر ـ رضي الله عنهما ـ من أشهر الأجواد، فقد أعطى امرأة سألته يوماً مالاً عظيماً فقيل له:
"إنها لا تعرفك، وكان يرضيها اليسير".
فقال: "إن كان يرضيها اليسير فإني لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي".
والجود عشر مراتب كما قسَّمها ابن القيم – رحمه الله -، أعلاها الجود بالنفس، قال الشاعر:
يجود بالنفس إذا ضن البخيل بهـا
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
الثاني: الجود بالرئاسة والإيثار في قضاء الحاجات.
الثالث: الجود بالعلم، وهو أفضل من الجود بالمال والجود بالحال؛ لأن العلم أشرف من المال والناس في الجود بكل منهما، على مراتب متفاوتة. وقد كان ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إذا سئل في مسالة حكمية ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة.
الرابع: الجود براحته، وراحة باله، وقد يؤثر على رفاهية اعتادها، فيجود بهذه المتع تعباً وكداً لأجل مصلحة غيره، ومن هنا جود الإنسان بنومه ولذته لمساره..
متيَّم بالنَّدى لـو قــــال سائلـــــه
هب لي جميع كرى عينيك لم ينم
الخامس: الجود بالنفع بالجاه أو المنصب.. كالشفاعة والمشي مع ذي الحاجة أو التوصية عليه لذي سلطان، في غير ضر لغيره، بل تكون مقصورة على النفع لهذا الشخص بدون أن يتضرر بها آخر .
السادس: الجود بنفع البدن على اختلافه، قال عليه الصلاة والسلام: "يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين اثنين صدقة، ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة يمشيها الرجل إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة" (متفق عليه).
السابع: الجود بالتسامح والعفو عن الناس، وهذا من أعظم أنواع الجود، فصاحبه ذو قلب سليم وسريرة نقية، وسجية بيضاء حريرية، ومنه الجود بالعرض، كما جاد الصحابي الكريم أبو ضمضم رضي الله عنه الذي كان إذا أصبح يقول: "اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي ممن شتمني أو قذفني فهو في حل" فقال صلى الله عليه وسلم: "من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم؟".
الثامن: الجود بالصبر، وهو من أشرف المراتب وأنفعها لصاحبها؛ لأن الصَّبر كاسمه مر، ولكن عواقبه حلوة المذاق. والصبر يكسب صاحبه العزة والنصر ولا يقدر عليه إلا ذو نفس طويل وعزيمة قوية وإيمان عميق.. (تجدينها في مقال: ألا فاصبري..)
التاسع: الجود بسماحة النفس وطلاقة الوجه وحسن الخلق والبشر، وهو حقيقة فوق الجود بالصبر؛ لأنه يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وهو أثقل ما يوضع في الميزان.
وفي الحديث: "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه".
فلا يخفى علينا المنافع الجليلة والمصالح الأكيدة التي تتحقق من هذا الجود مما يعود على المجتمع والأفراد بالخير الوفير والترابط الوثيق. وحسن الخلق لا يبلغه كل النّاس، بل إن بالغه يكون على درجة عظيمة من عناية الله له.
فقد قال تعالى لكليمه موسى عليه السلام: {واصطنعتك لنفسي} [طه:41]. وقال مثنياً على حبيبه المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم:4]. فطلاقة الوجه وبذل المعروف وكف الأذى عن الناس محاور أساسية في حسن الخلق، وكف الأذى شامل تام، ومنه كف اللسان عن الفحش، ولنا في حبيبنا صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، قال عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ: "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن خياركم أحسنكم أخلاقاً" (متفق عليه).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمـن يوم القيامة من حسن الخلق وإن الله يبغض الفاحش البذيء" (رواه الترمذي).
وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلـم يقـول: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم" (رواه أبو داود).
العاشر: الجود بترك ما في أيدي الناس فلا يلتفت إليه ولا يستشرف قلبه له ولا يلوك لسانه به، فالقناعة الذاتية (النابعة من إيمان مطلق وتسليم كامل واستسلام لله تعالى) تجعل النفس تطيب والصدر ينشرح والأسارير تنفرج؛ فيحيا حياة طيبة لا ضنك فيها ولا شقاء. قال الشاعر:
إذا ما كنت ذا قلب قنوع
فأنت ومالك الدنيا ســـــــواء
دع الأيام تفعل ما تشـــاء
وطب نفساً إذا حكم القضــاء
فلا حزن يدوم ولا سـرور
ولا بؤس عليك ولا رخـــاء