تزويج الصغيرة أم عضل الكبيرة؟
عبد الله بن عبد العزيز الدريس


أُسْدِل الستار على مسرحية (طفلة عنيزة) التي كتبت فصولها الصحافة وحاولت أن تكون النهاية كما أرادت ولكن الممثلين خرجوا على النصِّ!!
انتهت قصة طفلة عنيزة التي قيل لنا إنها صرخت بأعلى صوتها: أنقذونِي لا أريده بإقرارها أمام القاضي أنّها وافقت بملء إرادتها وبرًّا بوالدها، وسحبت الأم الدعوى مقابل تنازل الزوج عن قضايا سابقة وحضانة ابنها!!
مَن الخاسر في هذه القضية؟!
إنه المجتمع.. الذي أصبح صوته المعبر الصادق (الصحافة) يبحث (فقط) عن الخبطات الإعلامية والسبق الصحفي ليشتهر المحرر وتربح الصحيفة..
وفي المقابل تبقى القضايا الأهم والأخطر حبيسة حتى يقيض لها خبطة إعلامية تستحق بها أن تطفو على السطح!!
لا اعتراض على الصحفي أو على الصحيفة في بحثها عن الإثارة لكن لا يجوز أبدًا أن تكون على حساب الموضوعية والإنصاف ومصلحة الوطن..
أعجبتني كلمات الرجل الحكيم معالِي الشيخ صالح الحصين حفظه الله ورعاه التي قالها في الملتقى السنوي لتأهيل القضاء "إن طيش الصحافة وعدم اهتمامها بالأمر أساء للمملكة إساءات كبرى، وقد جعلت هيلاري كلينتون قضية (فتاة القطيف) إحدى قضاياها في دعايتها الانتخابية؛ عندما كانت تنافس في السباق الرئاسي. وللأسف، فإنّ الصحافة السعودية في استعراضها لقضية فتاة القطيف وقعت في أخطاء نقل المعلومات، وهذه المعلومات الخاطئة استُغلت من صحف عالمية في الإساءة للمملكة، بل إنّ أحد الكتاب الأجانب ألَّف كتابًا مسيئًا عن المملكة، مستغلاً ما ورد في الصُّحف السعودية، وفيه فصل كامل لتشويه صورة المملكة.. هذا جرس إنذار وعلينا أن ننتبه إلى ذلك".
أعود إلى بداية الموضوع لأرسم مقارنة عُجْلى بين موضوع تزويج الصغيرة وما حظي به من اهتمام للصحافة المحلية تعدى إلى صحف دولية وموضوع آخر لا يقل عنه أهمية إن لم يكن أكبر منه وأهم وأخطر!! وهو عضل الكبيرة بمنعها من الزواج من الكفء بدون وجه حق..
لا أستطيع أن أحدّد أيهما أكبر انتشارًا فلم أجد فيما اطلعت عليه إحصائيات موثقة ولكن بحكم أني ابن هذا المجتمع يغلب على ظنّي أن العضل يفوق بكثير تزويج القاصر- من حيث كثرة وقوعه- بالنظر إلى أسبابه ودوافعه الكثيرة مثل العادات المتوارثة في العائلة أو القبيلة أن لا تزوج البنت من غير عائلتها أو قبيلتها أو تكون محجورة على ابن عمها أو لطمع الولي في راتبها أو نصيبها من الإرث أو لأنه غير مؤهل عقليًا أو نفسيًا، ولأجل هذه الأسباب وغيرها فإنّ من حوادث العضل أكثر بكثير من حوادث تزويج القاصر..
من ناحية أخرى لو قارنا الآثار السيئة المترتبة على الأمرين لتبيّن أن العضل لا يقل خطورة عن تزويج القاصر!! فآثاره تتعدى البنت وأهلها إلى المجتمع بأكمله ولذلك حرمه الله في كتابه بقوله تعالى: }وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ{ [البقرة: 232] ونبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على خطورة الامتناع عن تزويج الكفء في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي حاتم ‏المزني: "‏إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد"، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه" ثلاث مرات.
والفتنة الفساد التي جاءت في الحديث لها صور كثيرة منها الكره والحقد والبغضاء التي تتعدى العاضل إلى المجتمع؛ لأنه لم يشعر بمعاناة البنت وكذلك زعزعة الاستقرار الأسري وانتشار العلاقات المحرمة لعدم إشباع الغرائز بالطرق الحلال أو للرغبة بالانتقام..
لست فيما أكتب أقلل من شأن الاهتمام بموضوع تزويج القاصر فهو موضوع حظي باهتمام العلماء قديمًا فقد ذكروا أنه لا يجوز تزويج الصغيرة ممن لا مصلحة لها فيه والولي إنَّما كانت له الولاية ليحقق المصلحة لموليته وفرقوا بين تزويج الصغيرة والدخول بها وأنّه لا يجوز إلا إذا كانت تطيق الوطء ولا يأخذها زوجها قبل ذلك إلا إذا كان أمينًا عاقلًا وتعهّد ألا يقربها، وفي قوله تعالى: }حتى إذا بلغوا النكاح{ إشارة إلى الربط بين الزواج والبلوغ؛ لأن كثيرًا من المفسرين فسروا النكاح في الآية ببلوغ الحلم..
لكن ألفت النظر إلى أنَّ الصحافة تجنِي على المجتمع بانتقائيتها غير الموضوعية في إثارة القضايا وإعطائها الزخم الإعلامي، ولأجل ذلك لا يجوز أبدًا أن تكون التشريعات والأنظمة والأحكام صدى لما تثيره وسائل الإعلام، وإنّما بناء على دراسات متخصصة واقعية تحدد حجم المشكلة وتضع لها الحلول المناسبة..