تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: النقد للهدم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي النقد للهدم



    النقد للهدم (1/2)


    خيرية بنت عمر موسى






    لما شع نور الهداية في قلب "فاطمة" قررت أن تسير بخطوات جادة في طريق الحق، راجية من الله أن يهبها الثبات عليه، فكان لا بد لها من دوافع تعينها على السير وتشد من أزرها على طريق الخير.
    وكادت فاطمة أن تطير فرحاً حينما علمت أن الطريق الذي سلكته عامر بالداعيات النشطات، فهذه مؤسسة للعمل الخيري، وتلك مؤسسة للدعوة إلى الله، وثالثة هنا، ورابعة هناك.
    وبانطلاقة الرغبة في الخير تم لها ما أرادت وتعلمت الكثير من المؤسسة التي وفقها الله للالتحاق بها، وأحست ـ بحمد الله ـ ببرد الراحة وبشاشة الإيمان يغمران قلبها النابض بالحماس، ولكن ما هي إلا أشهر معدودات حتى تركت فاطمة العمل الدعوي، وهجرت مؤسستها بل وقررت أن تتقوقع وتنغلق على نفسها، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، ولكنها للأسف أصيبت بأزمة نفسية حادة، كادت أن تضعضع إيمانها وأن تعود بها من حيث أتت، لولا أن تداركتها رحمة الله. أتعلمون ما سرَّ ذلك؟ وما الذي حل بفاطمة؟ وما سر الأزمة النفسية التي اغتالت وجدانها الحي، وهبت بسموم رياحها على نسمات الإيمان في قلبها؟!
    إنه لأمر جد خطير.. إنه الشقاق والخلاف بين منسوبي تلك المؤسسات الدعوية، إنه النقد اللاذع والهادم، الذي كثيراً ما سمعته فاطمة ممن ظنتهن قدوة حسنة يتنزهن عن الغيبة, وظن السوء، ويبرأن من الإساءة إلى الغير.
    أخيتي: لقد آثرت البدء بهذا الأمر السلبي؛ لتتضح لكِ بعض أبعاد هذه الظاهرة، والتي يقتضي الأمر الملح النظر إليها وإلى نتائجها السيئة بين العناية والحذر، وإبراز أضرارها في ساحة العمل الدعوي؛ لإصلاح الخلل وتقويم الاعوجاج الذي أصاب طريق الدعاة إلى الله، فكانت أن تعثرت بسببه الجهود وقل العطاء ومحقت بركة العمل، وليس هذا بغريب، فهذه سنة الله التي لا تبديل لها، يشرحها قوله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم...} [التوبة/47]. حيث ترشد الآية الكريمة إلى أن النزاع يوجب أمرين:
    تشتت الجمع وذهاب الوحدة، مع ملاحظة المخاطبين في الآية الكريمة من هم؟! إنهم الرعيل الأول صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهن ـ الأكثر إخلاصاً والأفضل عملاً.. ويتأكد هذا الملحظ التوجيهي في حجب ليلة القدر عن جميع الأمة بسبب التلاحي والجدل بين شخصين, وإن كان أخفاها في شهر رمضان، فانظري كيف أن الخلاف لا يقتصر أثره على المتخالفين وحدهم، بل يشمل الأمة بأسرها.
    من هنا كان القصد من إبراز هذه الظاهرة في مجال الدعوة للتحذير منها والقضاء عليها، وفي مجال علاج هذه الظاهرة لا بد من تحديدها بوضعها مشكلة، ومعرفة أبعادها وأسبابها والآثار السلبية المترتبة عليها، وما يمكن أن يقدم من علاج للقضاء عليها، ولهذا يثار السؤال الآتي: ما المشكلة؟
    وللإجابة عن هذا التساؤل أقول: المشكلة تكمن في كثرة النقد غير المنضبط بضوابط بين بعض الدعاة، وقد بلغ حد المشاغبة والتنافس المذموم، مما أدى إلى تصيد الأخطاء والتنفير من المخالف، والسعي إلى تنحيته عن مركز القيادة والإصلاح.
    أما العوامل التي أدت إلى تفاقم هذه المشكلة ووضوحها فتكمن في الأسباب الآتية:
    أ- أسباب رئيسية، وهي:
    اختلاف المنهج.
    اختلاف الوسائل الدعوية.
    ب-أسباب فرعية، وهي:
    اتباع الهوى، وتبعية البعض للآخرين حتى ولو كانوا على غير الحق أو الصواب.
    الأثرة وحب الذات، وحب الظهور على الآخرين.
    نسيان الهدف الأول والمقصد الأسمى الذي قامت من أجله المؤسسة الدعوية، وهو الإصلاح والدعوة إلى الله تعالى.
    تقليد مؤسسات الدعوة للمؤسسات الأخرى في التنافس المذموم.
    الغلو في الأشخاص، فكل طائفة تغالي في تقدير قياداتها وترى أن هذه القيادات قد بلغت حد الكمال، الأمر الذي يؤدي إلى بغض من سواها، والتشويش على كل من يخالفها الرأي.
    سوء الظن بالآخرين؛ مما يفقد المواقف حسن الاتصال، بالإضافة إلى تصوير الهنّات بصورة الكبائر والزلات التي لا تغتفر.
    عدم التثبت من الأخبار والتساهل في الغيبة.
    إسداء النصيحة مجاهرة وعلى الملأ، مما يحولها في جانبها الآخر إلى فضيحة يضطر معها الآخر إلى الرد بالمثل انتصاراً للنفس، وإلى مثل هذا يشير الإمام الشافعي رحمه الله بقوله:
    تعــمدني بنصحك فــي انفـرادِ
    وجنبني النصيحة في الجماعة
    فإن النصح بين النــاس نــوع
    من التوبيخ لا أرضى استمـاعه
    أما الآثار السلبية الناتجة عن مثل هذه الأمور فتكمن في:
    أن توجيه النقد المبني على الهوى من طائفة لأخرى لا شك أنه سيقابل بنقد متكلف، يعقبه رد آخر أقوى، وهكذا الأمر الذي يصرف الجهود عن غاياتها ومقاصدها، ويهدر الطاقات، ويوهن العزائم.
    التحزب، وهو مذموم شرعاً؛ لقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا...} [آل عمران/103]؛ لأن الأصل أن كل داعية يبتغي مرضاة الله، ويسعى لنشر الخير والحق، وجميل أن تقوم هذه المؤسسة بمهمة ما وتكمل الأخرى بقية المهام، فالكل في طريق الخير مبتغياً رضوان الله، فإذا دب الخلاف التزم كل فرد خط المواجهة والتصدي للهجمات وأطلت الحزبية برأسها في مؤسسات الأصل فيها التعاون والمضي في طريق الهداية.
    الحزبية والفرقة تورث القلق, مما يؤدي إلى نفور الناس من الدعوة والدعاة، خاصة العوام ومن أقبلوا على الاهتداء بنور العلم حديثاً؛ لأنهم إنما أقبلوا إلى مؤسسات الدعوة طلباً للأمن وراحة النفس، فإذا اكتشفوا أن التلاحم بين الرواد والدعاة قد تلاشى فقدوا الثقة في القدوة فعادوا أدراجهم إلى حالتهم الأولى.
    مثل هذا الجو من القلق والفرقة قد يؤدي إلى اعتزال البعض للنشاط الدعوي؛ لأن المبتدئة إذا نفرت من الداعية وفقدت الثقة بها آثرت العُزلة، وهي أمر خطير جداً يفضي إلى أمور سيئة لا تحمد عقباها؛ ولهذا نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: "إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".
    ظهور الفكر الأحادي ـ الناتج عن الحزبية والعزلة ـ وهو لا يسلم من الزلل، ولا سيما أن صاحب التفكير الأحادي كثيراً ما يغفل الرأي الآخر، حتى وإن كان قد قام على الدليل الصحيح، وما ذلك إلا لأنه توجه خاص بمؤسسة دعوية مخالفة، مهملاً بذلك الإحاطة والاطلاع على الآراء الأخرى الواردة في الموضوع أو القضية.
    والأمر الذي يسترعينا الآن ويشدنا: ما هو الحل، وفي الحلقة القادمة نقدم بعض الحلول والمقترحات لتجاوز هذه المشكلة بإذن الله..



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي

    النقد للهدم (2/2)


    خيرية بنت عمر موسى


    كنا في الحلقة الماضية قد شخصنا مشكلة كثرة الانتقاد بين الدعاة، وعرضنا أبرز مظاهرها وأسبابها، واليوم نسهم في وضع بعض الحلول والمقترحات لتجاوزها، والرقي بفئات الدعاة نحو التخلص الكلي منها..
    مما سبق نكون قد وضعنا الأيدي على مكمن الداء، ولهذا لا بد أن نبحث عن الدواء، والذي بعون الله يكون فيه شفاء القلوب والنفوس وذهاب غيظها.
    وأول جرعات هذا الدواء:
    أولاً: الإخلاص.. الإخلاص لله سبحانه، وصدق النية في كل ما يتقرب به إلى الله، وفي كل ما يتعبد به، انطلاقاً من قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين...} [البينة:5]، وما ذلك إلا لأن الإخلاص هو السبيل الوحيد لتحقيق النجاح والسؤدد، ولهذا لما علم الله سبحانه تردد المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم إخلاصهم في الخروج إلى الجهاد، ثبطهم وأشغلهم بأموالهم وأنفسهم عن اللحاق بركب الجهاد، ونشر الإسلام؛ وما ذلك إلا لأن الدعوة إلى الله أمر خطير لا يوفق له، وفيه، ولا يسدد في طريقها إلا المخلصين،قال تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين}. فنخشى أن تكون الدعوة في عصرنا هذا أصابها ما أصابها بسبب أمر شاب إخلاص الدعاة.

    ثانياً: اتباع المنهج الصحيح الثابت عن السلف الصالح، والحرص على السنة النبوية المطهرة الصحيحة، مع ترك الأخذ بالضعيف الواهي ولو كان ذلك في فضائل الأعمال؛ لأن السنة صحيحة وافية وكافية، والحرص على السنة الصحيحة عامل قوي في نشر الحق والخير، ولهذا نجد أن الإمام الشافعي (مؤسس أكبر المذاهب اتساعاً وانتشاراً) يحرص على البيّنة الصحيحة والعمل بها؛ ولهذا قال للإمام أحمد بن حنبل: "أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه كوفياً أو بصرياً أو شامياً". فانظري ـ أخيّتي ـ رعاك الله إلى الشافعي ـ رحمه الله ـ لم تمنعه مكانته العلمية والاجتهادية من سؤال أحد طلابه (أحمد بن حنبل) وما ذلك إلا للحرص على الأخذ بالسنة الصحيحة. (انظري: اختلاف الفقهاء للدهلوي ص48).
    ثالثاً: من عناصر نجاح الدعوة وبقاء جذوتها مشتعلة: ترك كل ما يفتح باب النقد، سواء كان ذلك بسبب:
    العمل بالحديث الواهي، والتوسع في إعمال الرأي.
    التصدر قبل التأهل بالعلم الشرعي الكافي، فلا تكفي القراءة الفردية من كتب العلم، وحسبنا في ذلك قولهم: من كان معلمه كتابه؛ كان خطؤه أكثر من صوابه.
    الخيلاء والتعالم. (اقرئي في ذلك رسالة الشيخ بكر أبو زيد في التعالم.)
    العمل بالمسائل المختلف فيها، كالتقشير، أو لبس البنطال الواسع، ونحوه.
    رابعاً: تقبل النقدالعلمي البناء، والنقد العلمي هو: التبيين على سبيل النصح لا على سبيل التعيير أو الإهانة، ومفاده إيصال الحق إلى من أخطأ،والتنبيه على الزلات، دون التعرض للأشخاص بالتوبيخ أو التجهيل، كل ذلك في حلم وسكينة وأناة وإخلاص. (انظري: ظاهرة الشغب على العلماء، لعمر سليم ص62، 64).
    ومن المعلوم أن النقد العلمي إن وافق آذانا صاغية فإنه يبني ويقوم الاعوجاج ويرفع من منزلة المستمع للنصيحة عند الله ثم عند الناس.
    ومما يشهد لهذا ما ورد من أن محمداً بن الحسن (من أصحاب أبي حنيفة) كان يكثر من إعمال الرأي في الفقه فانتقده الإمام الشافعي في ذلك، مع أن محمد بن الحسن الشيباني أحد شيوخ الشافعي، ومع هذا لما دخل عليه الإمام الشافعي، وهو يطعن على أهل المدينة (في قضائهم بالشاهد الواحد مع اليمين، ويقول: هذا زيادة على كتاب الله) فقال الشافعي: أثبت عندك أنه لا تجوز الزيادة على كتاب الله بخبر الواحد؟ فقال: نعم، قال: فلم قلت إن الوصية لوارث لا تجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث". فانقطع كلام محمد بن الحسن، وكان لهذا النقد أثر كبير في فقه الإمام محمد ابن الحسن، فإنه إذا وجد في مذهبه قياساً ضعيفاً أو تخريجاً ليناً، يخالفه حديث صحيح مما عمل به الفقهاء، أو يخالفه عمل أكثر العلماء تركه إلى مذهب من مذاهب السلف، وما كان إقبال أتباعه على كتبه إلا لقبوله النقد وتصحيح المنهج. (انظري اختلاف الفقهاء، ص 40، 42).
    خامساً: التسامح وغض الطرف عن هفوات الآخرين، فكلنا ذوو أخطاء غير مبرئين من النقص، والإمام الذهبي أشار بهذا إلى أنه قلّ إمام إلا وله زلة، فإذا ترك لأجل زلته، ترك كثير من الأئمة، وهذا لا ينبغي أن يفعل. (انظري: ظاهرة الشغب على العلماء ص 63).
    والمنهج الصحيح أن لا يتبع أحد في زلته مهما عظم شأنه وبلغ أمره، فقد قال أبو قاسم الأصفهاني: "أخطأ ابن خزيمة في حديث الصورة ولا يطعن عليه بذلك، بل لا يؤخذ عنه فحسب" (انظري: المرجع السابق وتعليق المؤلف على هذا المثال ص63).
    سادساً: الإنصاف عند الاختلاف، فهذا أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله، وقد وقع بينه وبين أبي عبدالله بن منده، ما هو معلوم مشهور، إلا أنه كان منصفاً في وصفه فقال عنه لما ذكر عنده: "كان جبلاً من الجبال"، قال الذهبي: فهذا يقوله أبو نعيم مع الوحشة الشديدة التي بينه وبين أبي عبدالله بن منده. (المرجع السابق ص60).
    سابعاً: استنفار الجهود، لإصلاح هذا الخلل بعقد الندوات، وتجنيد مجموعة من المصلحات المستبصرات بمكامن هذا الخطر؛ لإبداء الرأي وإصلاح ذات البين.
    وأخيراً.. اعلمي ـ أخيتي ـ أنه لن يصلح هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. هذا وبالله التوفيق.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •