الرشوة جريمة تشجع على انتشار الرذائل في المجتمعات الإسلامية
فاروق الدسوقي محمد




لا يختلف اثنان على أن الإسلام حرَّم الرشوة وما أكدته جميع المذاهب الفقهية استناداً إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش"، ومع ذلك فقد أصدر مفتي الديار المصرية فتوى تبيح "تقديم الرشوة" لمن يطلبها إذا عطل مصلحة أحد الأشخاص، ولم يجد صاحب هذه المصلحة أو الطلب "نصيراً" ينصره أو يساعده على قضاء مصلحته وضاقت به السبل، معتبراً ذلك ضرورة تبيح الرشوة.



وقد أثارت هذه الفتوى جدلاً واسعاً بين علماء الدين، ففي الوقت الذي أيد فيه الدكتور عبد العظيم المطعني أستاذ الدراسات العليا في جامعة الأزهر الفتوى، أشار إلى أن الشخص الذي له مصلحة أو حق يريده ولا يجد من ينصره أجاز له الفقهاء تقديم الرشوة لمن يطلبها مقابل قضاء حاجته·· ولكن إذا ترك الشخص صاحب الحق مسألته لوجه الله تعالى ولم يقدم الرشوة فهذا أفضل بكل تأكيد.



بينما رفض آخرون الفتوى باعتبارها تفتح باباً من الفساد الاجتماعي، وتشجع انتشار الرذائل والمحرمات في المجتمعات العربية والإسلامية·



بدءاً أجاز الدكتور "على جمعة" مفتي الديار المصرية "تقديم الرشوة" لمن يطلبها إذا قام بتعطيل المصلحة ولم يجد صاحبها نصيراً ينصره، على اعتبار أن تقديم الرشوة في هذه الحال ارتكاب لأخف الضررين ودفع لأشد المفسدتين، ومراعاة للحقوق والمصالح.



وأوضح الدكتور "جمعة" في بيان أصدرته دار الإفتاء المصرية في القاهرة، أنه مراعاة للحقوق والمصالح والالتزامات أن تتم على وجهها وبصورة عادلة، أجاز فقهاء المذاهب الأربعة من تعطلت مصالحه ولم يجد نصيراً له ينصره على الحق ولا يستجير به من طرف القوة أن يقدم الرشوة للفاسق الذي يطلبها.



وقال: إن الله سبحانه وتعالى حرَّم الرشوة في محكم كتابه، وعرفها بأنها ذلك المال الذي يدفع للحاكم أو من هم ولاة ليأكلوا به أموال الناس بالباطل ظلماً وعدواناً فقال تعالى: }وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ{ [البقرة:188].



وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى فقال: "الراشي والمرتشي والرائش في النار"، قالوا ومن الرائش يا رسول الله؟، قال: "الساعي بينهما بالرشوة"، وجعلها من الكبائر، والكبيرة ما ورد فيها لعن من الله أو من رسوله فقال: "لعن الله الراشي والمرتشي"، وحرمة الرشوة من المعلوم من الدين بالضرورة ولا تحتاج إلى كثرة استدلال أو بينة، بل إنها محرَّمة في كل دين، والذي يقبل على نفسه أخذ الرشوة فإنما يقبل على نفسه أخذ الرشوة الحرام، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ربَّ رجل يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فلن يستجاب لذلك"، وجعل طيب المطعم من شروط استجابة الدعاء فقال لـ"سعد بن أبي وقاص" رضي الله عنه: "أطب مطعمك تكن مستجاب الدعاء"، فالرشوة بلاء دنيوي وديني، وشيوعها يدل على شيوع الفساد وبعض أنواعها أشد في الإثم من بعض، ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أن تختل المعاملة مع الناس على غير وجه الحق حتى قال: "إنما هلك الذين من قبلكم لأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها".·



وقد يقدم أحدهم هدية لموظف ما ليس الغرض منها أكل أموال الناس الآخرين، بل للحصول على حقه هو وهذا النوع من المعاملة حرام أيضاً ويطلق عليه الفقهاء اسم الرشوة مجازاً وتغليظاً على الأخذ لهذا المال تحت أي عنوان، وألَّف العلامة "عبد الغني النابلسي" كتابه المانع "تحقيق القضية في الفارق بين الرشوة والهدية" تحريراً لهذا المسألة، فأخذ المال من أجل إعطاء الناس حقوقهم إنما يأكل في بطنه سحتاً، والسحت أيضاً من المال الحرام حتى ولو لم يكن رشوة بالمعنى الدقيق.



ولكن نص الفقهاء في هذه الحال على أن المعطي إذا ضاقت به السبل وتعطلت مصالحه عند الفاسق ولم يجد نصيراً ينصره على الحق ولا يستجير به من طرف القوة، فإنه ارتكاباً لأخف الضررين، ودفعاً لأشد المفسدتين، ومراعاة للحقوق والمصالح والالتزامات أن تتم على وجهها وبصورة عادلة، فقد أجاز الفقهاء الأربعة إذا كانت الحياة كما وصفنا أن يعطي صاحب الحق المال لذلك الطالب الفاسق، وأن هذا يستثنى مما ذكرنا للضرورة، قال "السيوطي الشافعي" في كتاب "الأشباه والنظائر": قاعدة: "ما حرم أخذه حرام إعطاؤه" إلا في خمس صور وعد منها: الرشوة يتوصل بها إلى حقه، وهو نص كلام "ابن نجيم الحنفي"، ويؤيده "ابن عابدين" في حاشيته على الاشتباه، وهو محل اتفاق لقاعدة "ارتكاب لأخف الضررين واجب"، ويصبح الإثم في هذه الصورة منحصراً في الآخذ، حيث طلب مالاً لا يستحقه، وعطل مصالح الخلق بالباطل وعلى ولى الأمر أن يغيث كل من طلب منه الغوث للقضاء على هذا الفساد العريض، كما يجب على الطالبين أن يتوبوا إلى الله من هذا الإثم حتى يبارك الله في أموالهم وأولادهم.



وأضاف "جمعة" قائلاً: "يرد السؤال كثيرا من المسلمين المقيمين في بلدان تحكم بالنظم الاستبدادية ويحرمون فيها من حقوق الإنسان فتستعمل هذه الفتوى في شأنهم مراعاة لحالهم وتيسيراً لمعيشتهم وأداء فروضهم الدينية ونحو ذلك"، مشيراً إلى أن المسلمين عليهم أن يدركوا القاعدة المقررة شرعاً: "إن الضرورة تقدر بقدرها"، و"أن أكل الميتة حرام لا يجوز الأكل منه إلا عند الاضطرار" فإذا انتهى الاضطرار رجع الحكم إلى حاله الأول.



تزوير وغش وسرقة



واعترض الدكتور "منيع عبد الحليم محمود" عميد كلية أصول الدين بشدة على هذه الفتوى قائلاً: "إن الإسلام حريص كل الحرص لمن يعملون في خدمة المواطنين، وان يكونوا على نقاء وطهارة، كما يحرص الإسلام على أن يأخذ هؤلاء العاملين كل ما يمكنهم من أداء أعمالهم بصورة سليمة تشرف الدين وتشرِّف أي مواطن في أي بلد إسلامي، ومن هنا كان لعن الراشي والمرتشي والرائش في الشريعة الإسلامية بناء على نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فإن الرشوة محرَّمة سواء على من يعطيها أو على من يأخذها، وبالنسبة لمن يعطيها فهو إفساد في الأرض، لأنه يخرج هؤلاء الموظفين عن النقاء والطهارة المطلوبتان إسلامياً، وفي الوقت نفسه يشجع على تعطيل مصالح المواطنين جميعاً، سواء أكانوا فقراء أم أغنياء، على أن يعطوا الرشوة لأخذ حقوقهم سواء كانت بطريقة قانونية سليمة أو غير سليمة، فالرشوة إذا بدأت بتسهيل الأعمال فإنها تنتهي بالتزوير والغش والخداع لتسهيل السرقة، وتسهيل أي أمر حرمه الإسلام".



وقال: "إن الإسلام دين عالمي وليس ديناً إقليميا، فهو ليس خاصاً بقوم بعينهم أو دولة من الدول سواء كانت فقيرة كانت أو غنية، بل الإسلام جاء من لدن الله تعالى للعالم أجمع، فإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية وجميع دول أوروبا وهي دول غير إسلامية تحرم كل موظف من تلقي الرشوة وتعاقب عليها بشدة وحزم، باعتبارها جريمة كبرى، فما بالنا نحن الدول الإسلامية نسمح للشخص أن يعطي إنساناً رشوة ونقول لا عقوبة عليه، وللعقوبة على من أخذ الرشوة، وهذا وضع مقلوب يجعل الأمور في عالمنا الإسلامي تسير من السيئ إلى الأسوأ".



ويضيف الدكتور "منيع" قائلاً: "إن الرشوة بصفة عامة مرفوضة رفضاً كاملاً في الإسلام، وهي من المحرَّمات الكبرى، سواء كانت معطاة من الراشي أو مأخوذة من المرتشي، فلا فرق بين الاثنين، وذلك بنصوص السنَّة النبوية الشريفة، حيث نفهم من هذه السنَّة أن إعطاء الرشوة من الراشي هو إفساد، وتعليم للناس على الإضلال والضلال، لأنها يمكن أن تعطى تحت أي مسمى يخدع به الناس، مثل مسمى "الاضطرار"، وما على الراشي إلا تبليغ الجهات المعنية وإصدار حكم أن الراشي بريء من هذا الأمر تحت نية الإضرار، وذلك نشر للإفساد الذي يؤدي إلى التزوير في الوثائق الحكومية وغيرها، على أساس أن هذا الأمر حلال، وكذلك يفتح الباب لكي تكون هناك أجيال من الشعوب الإسلامية تقبل الرشوة وتفسد في الأرض بالتزوير فيما لديها من مصالح تهم العباد والبلاد.



ومن العجب أن يقول بذلك بعض الناس ويجعلون الرشوة حلالاً تحت بند الاضطرار بالنسبة للراشي، وهناك في بلاد أخرى يعتبرونها من أشد الجرائم، وعقوبتها مشددة، ويصبح الراشي الذي يعطي الرشوة منبوذاً في مجتمعه، ونحن المسلمين مطالبون بأن ننشر بين دعاتنا وبين شعوبنا الإسلامية حرمة أن يعطي الإنسان الرشوة أو يقبل هذه الرشوة حتى يصدق قول الله تعالى في أمته: }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُون{ [آل عمران:110].



الرشوة جريمة



ويصف الدكتور "عزت عطية" الأستاذ في جامعة الأزهر قضية الرشوة بأنها متعددة الأطراف، منها الراشي الذي يدفع الرشوة، والمرتشي الذي يأخذها، والمجتمع الذي تتم فيه الرشوة، مشيراً إلى أن كل من يرضى بالرشوة مقتنعاً بها يعتبر آثماً، لأنه رضي بما يخالف الشرع، ولا فرق في ذلك بين الراشي والمرتشي، فكل من يشارك في المعصية عاص، لكن الرشوة لا تكون من دون جهد مقابل يقوم به المرتشي، بل هي مقابل جهد عادي يتطلبه العمل الذي يعمله المرتشي، فلا يعتبر من الرشوة ما يأخذه الموظف مقابل عمل يقوم به منفصلاً عن واجبه الأصلي مثل بيع خبرة عينية أو علمية، وإنما تكون الرشوة حينما يتصرف على أساس عمله الأساسي الذي يأخذ عليه الأجر، وفي مقابل مبلغ خاص أو هدية خاصة.



وقد يجري العرف بسبب الظروف الاقتصادية الخانعة على أن يعاون بعض الناس من القادرين الموظف أو العامل بما يساعده على العيش فتدخل هذه المساعدة في إطار الصدقة أو الزكاة شرط ألا تصبح عادة ولا يفرضها الموظف أو العامل، وتكون في إطار العرف بغير مقابل يتميز به المعطي عن غيره بما يتصل بعمل الموظف، ويسمى هذا "بقشيشاً" أو "إكرامية"، ومثل هذا لا يدخل في الرشوة، أما إذا فرض الموظف على من يتعامل معه أي مبلغ أو أي شيء مادي مقابل عمله، أو ميَّز من يعطيه على من لا يعطيه.. فلو كان الآخذ غنياً لا يستحق الصدقة، فإن كل ذلك سحت وحرام، كما أن الذي يتوسط في ذلك يعتبر آثماً، لأنه يساعد على المعصية، كما أن المجتمع الذي يقر ذلك يكون آثماً أيضاً.



ويضيف الدكتور "عطية" قائلاً: "إن الجو الإسلامي جو إخاء وعدل، وبعيد كل البعد عن استغلال الظروف أو الفرص والتمييز بين الناس بغير حق، والرشوة جريمة تهدد هذه الجوانب جميعها، وتقوض جانب الرحمة والعدل وتحول مصالح الناس إلى جانب المتحاملين من الدين والأنانيين الذين يشترون بدينهم ثمناً قليلاً".



ليست أسلوب حياة



ويؤكد الدكتور "عبد الصبور شاهين" الأستاذ في جامعة القاهرة على عدم إمكانية أن يكون الحرام حلالاً لأي سبب من الأسباب، ولكن يكون مباحاً في حال الضرورة وبزوال الضرورة تزول تلك الإباحة، وذلك فإن الفتوى التي صدرت عن دار الإفتاء المصرية والتي تجيز إعطاء هدية للموظف العام أو لطالبها مهما كانت وظيفته للحصول على حق معطل جائزة شرعاً، فهي ذات تأثير خطير في المجتمع لأنها تفتح باباً للشر لا يمكن إغلاقه، وكان من المفروض أن يرد الأمر إلى القانون لمحاكمة أطراف الرشوة، وهم الراشي والمرتشي والرائش، بدلاً من أن يفتح الباب على مصراعيه ليتعامل الناس بالرشوة على أنها أسلوب حياة، فهذا خطر على أخلاق المجتمعات الإسلامية وعلى مستقبلها الاقتصادي.



ويرى الدكتور "شاهين" أن الرشوة جريمة ولا يمكن أن تفيد الجريمة بأي حال من الأحوال، فإباحة الرشوة دليل على إفلاس القانون.



تركها أفضل من تقديمها



ويتفق الدكتور "عبد العظيم المطعني" أستاذ الدراسات العليا في جامعة الأزهر مع رأي مفتي مصر.. ويقول: "إن أصحاب الحقوق الضائعة الذين طالبوا بحقوقهم، فلم يحصلوا عليها، وهم في أشد الحاجة إليها أباح لهم الفقهاء الرشوة كرخصة إذا كان هناك من يوصلهم إلى حقوقهم الضائعة مقابل ما يطلبه منهم، فالمسؤولية هنا تقع على الذين أخذوا الرشوة لا على أصحاب الحقوق، لأنهم مضطرون على فعل ذلك للوصول إلى حقوقهم وقد يأسوا من الحصول عليها بجميع الطرق، فيكون أمامهم أحد أمرين، إما أن يتركوا مسألتهم إلى الله تعالى، ولا يمكِّنوا الطرف الآخر من الحصول على رشوة منهم..· وهذا أفضل، أو يضطروا لدفع الرشوة، وهم معذورون ومكروهون على هذا العمل، فيجوز ذلك كما يحول أكل من يدفع الضرر عن نفسه شيء من لحم الخنزير، ولكن يتوقف عن دفع الهلاك·· فلا يستطيع أن يشبع منه.




والمفتي لم يخرج عما قاله العلماء، فإذا تحققت الشروط المذكورة في فتواه، فلا مانع من ذلك، كما أن الفتوى لا دخل لها بسوء التطبيق، فسوء استعمال الحق شيء وجواز استعمال الحق شيء آخر.