بسم الله الرحمن الرحيم

" لا خير في الفتنة ولو لاح للجاهل منها بريق خير"





الحمد لله فاطر الأرض والسماوات، والصلاة والسلام على النبي المبعوث بالدلائل والبينات، ثم أما بعد : لقد عصفت بالأمة الإسلامية فتن زلزلت كيانها، وأنهكت قدراتها البشرية والمادية، وشتتت شملها، وفرقت جموعها، وبددت راياتها، وعددت جماعاتها، وأنتجت أجيالا من المتباغضين، وأعقبت عداوات وبغضاء بين أبناءها، وأحدثت في صفها شرخا لم ولن يندمل إلى يوم الدين كما قال سيد البشر عليه الصلاة والسلام : [فإذا وضع السيف في أمتي فلا يرفع عنهم إلى يوم القيامة] رواه أحمد والحاكم وهو صحيح على شرط الشيخين، وهذه الفتن المدلهمة السوداء تترك الحليم حيران وتزجي بأهل القبلة في متاهات لا مخرج منها إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه استعاذ من فتنة المشرق والمغرب كما صححه نعيم بن حماد الخزاعي وهذه الفتن منها الكبار ومنها الصغار، فالكبار منها مهلكة تكاد تفني الأمة تستأصل أهلها حتى يقال : [ هذه مهلكتي ثم تنجلي]، والصغار منها تفتن الأمة فتنة عظيمة وتضرب بعضها ببعض، وكما روى مسلم وأحمد عن حذيفة رضي الله عنه قال :[ أنا أعلم الناس بكل فتنة هي كائنة إلى يوم القيامة، وما بي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلي في ذلك شيئا لم يحدث يه غيري، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث مجلسا أنا فيه عن الفتن التي تكون منها صغار ومنها كبار فذهب أولئك الرهط كلهم غيري]، والفتن قد أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم أنها ستكون في أمته كما ورد في صحيح البخاري :[ هل ترون ما أرى ؟ قالوا : ما نرى شيئا، قال : إني أرى الفتن تتخلل إلى بيوتكم كمواقع القطر]، وهذه الفتن تأتي على الأمة والمجتمعات والقبائل والأفراد كقطع الليل المظلم كما ورد في صحيح مسلم وسنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [تكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل]، يتقلب الرجل المسلم فيها بين الشرك والإسلام، والكفر والإيمان ، وقيل : يتخبط بين شكر الله تعالى على تعمه الوافرة الدينية والدنيوية وكفره بها وعدم أداء شكره عليها، وقيل : قد يبيع دينه ويتخلى عن عبادة ربه، وقيل : ينسلخ من ملته ودينه وإسلامه بارتكاب نواقض الإسلام ومبطلات الإيمان، وهذه الفتن من شدة ظلمها يمسي الرجل ويسبح بين ملتين وما ذلك إلا لخطورة هذه الفتن وسواد أمرها، وما ذلك كذلك إلا بسبب متاع الدنيا الفاني وحطامها الحقير، وقال العماد بن كثير : "قال الحسن البصري رحمه الله : " متاع الدنيا القليل الدنيا بحذافيرها "، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتن كما روى أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والحميدي وعبد الرزاق وأبو نعيم في الحلية وخرجه نعيم بن حماد الخزاعي في كتاب الفتن عن علقمة الخزاعي رضي الله عنه مرفوعا: [ ... ثم تكون فتن كأنها الظلل فقال رجل كلا والله إن شاء الله يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى، والذي نفسي بيده ثم لتعودون أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض ] قال الزهري رحمه الله : " الأسود الحية إذا نهشت نذت ثم ترفع رأسها ثم تنصب "، وهذه الفتن العمياء التي لا يعرف لها وجه الحق، وتكون كقطعة الظلمة للمسلمين لا يعرفون منها المخرج بعد نزولها بهم، ومن آفات هذه الفتن أنها مظلمة لا يستبين فيها ومنها راية الحق من راية الباطل، وطريق الصواب من سبيل الخطأ بالنسبة لعوام الناس، وأما العلماء فإنهم يعرفون الفتنة إذا أقبلت بعلاماتها كما قال السلف رضي الله تعالى عنهم : " الفتن يدركها العلماء إذا أقبلت ويعرفها السفهاء إذا أدبرت" ، ومن علامات هذه الفتن الغبراء المدلهمة إنها : " سريعة الالتهاب، بعيدة المدى، كثيرة المفاسد، طويلة الإخماد"، وهذه الفتن تأتي تارة بالتفرقة وتارة بالاختلاف وتارة بالعداوة وتارة بالقتل وتارة وبتمزيق الصفوف وانقسام المسلمين وتارة في مسائل الدين، وتارة في أمور الدنيا الفانية، وتارة يسبقها الهرج، وتارة يعقبها الدم والفساد والإفساد، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : [ وإنكم لن تروا من الدنيا إلا بلاء وفتنة ولن تزداد الأمور إلا شدة]، وروى أحمد في المسند والقضاعي في شهاب المسند وصححه الأرناؤوط عن معاوية رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ ما بقي من الدنيا إلا بلاء وفتن]، وفي رواية عند أحمد ومسلم والحاكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها...]، وفي حديث آخر في صحيح البخاري قالت أم سامة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن، سبحان الله ماذا نزل من الخزائن أيقظوا صواحب البيوت رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة]، وقد حذرنا الله تبارك وتعالى الفتن فقال جل جلاله :{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة...}، فالفتن لا تصيب من خاض فيها واستشرفها، بل تضرب بلهيبها ويكتوي بنارها كل من أدركها وعايش أهل زمانها،

فما تسلط أهل الكفر على أهل الإسلام إلا بسبب قتال أهل الإسلام لبعضهم، ولقد قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه :[ ليكونن بين أهل الإسلام بين يدي الساعة الهرج والقتل حتى يقتل الرجل جده وابن عمه وأباه وأخاه، وأيم الله لقد خشيت أن تدركني وإياكم]، وفي حديث عند ابن أبي شيبة وأبي عمرو الداني في السنن الواردة وأصله في الصحيحين عن قيس بن أبي حازم رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ ترسل على الأرض الفتن إرسال القطر]، وهذه الفتن تكون بسبب ما يغير الناس من أمر دينهم وذلك بسبب إحداث المنكرات والبدع المحدثات فإذا ظهرت هذه المخالفات بدل الله تعالى على أهل الأرض عافيتهم بالبلاء والمحن فلا تفنى هذه الأمة حتى يظهر فيهم التمايز فيما بينهم وهي عصبية يحدثها الناس بعد الإسلام، وكذا التمايل ضد بعضهم بعضا وهو ميول القبائل والأفخاد ضد بعضها فتستحل كل قبيلة ما عند الأخرى فتنتشر عند ذلك المعامع بين الأمم والدول والشعوب وتسير الأمصار إلى قتال بعضها، ولهذا قال حذيفة رضي الله تعالى عنه : [لم يكن في بني إسرائيل شيء إلا وهو فيكم كائن]، وبعض هذه الأمة قد ابتلي بمتابعة أهل الكتاب الذين هم أصل الداء كما قال صلى الله عليه وسلم :[ لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر ذراعا بذراع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه قالوا فارس والروم قال فمن] وفي رواية :[ اليهود والنصارى ؟ قال وهل القوم إلا هم]، وهذه الفتن تزداد يوما بعد يوم بل ما من عام يأتي إلا والذي بعده شر منه كما ورد في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ ما من يوم يأتي إلا والذي بعده شر منه]، وقال مكحول في شرح قوله تعالى : {لتركبن طبقا عن طبق} : " في كل عشرين سنة تكونون في حال غير الحال التي كنتم عليها"، ولهذا لا يرفع الناس برأس إذا بدلوا وغيروا ما أمر الله إقامته، فإذا ظهر منهم ذلك ظهرت الفتنة وكلما أوشكت أن تنجلي إلا وظهرت أخرى تشابهها أوهي أكبر منها، كما قال الأعمش فيما نقل عن السلف رضي الله عنهم :" لا يأتيكم أمر تضجون منه إلا أردفكم آخر شغلكم عنه"، فالشر ينادي الشر والخير ينادي الخير، فلا خير في الفتنة والفتن لأنها تضرب الأمة بعضها ببعض، وتتركهم يتهوكون فيها تهوك اليهود والنصارى، لا يدرون ما المخرج منها إلا بالرجوع على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج النبوة الذي أكرمنا الله تعالى به، وجمع كلمة المسلمين وصفهم وأمتهم على كلمة واحدة و موقف واحد حتى لا نكون عرضة لسخرية الأمم والشعوب وحتى لا نكون فريسة سهلة لمن أراد أن يذل هذه الأمة المحمدية المنصورة الظاهرة الغالبة العزيزة...

و كتبه
عبد الفتاح زراوي حمداش
المشرف العام لموقع ميراث السنة
http://www.merathdz.com/play.php?catsmktba=1720