عقبات في طريق المرأة الداعية


د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي



إن من حكمة الله تعالى أن يبتلي عباده بالسراء والضراء، والشر والخير، فتنة، ليعلم الذين صدقوا، ويعلم الكاذبين, وليمحص الله الذين آمنوا, ويمحق الكافرين.
ويشتد هذا الابتلاء في حق المؤمنين على قدر إيمانهم، لحكم بالغة، وآثار حميدة. قال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل. يبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، و إن كان في دينه رقة، ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة" (رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه والبيهقي، وصححه الألباني.)
ومن الابتلاء ما يعرض لطالب العلم، والآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، والداعي إلى الله، من صنوف العوائق والعقبات، التي يستخرج الله بها خبيئة نفسه، ويزكيه بها، إن هو لزم كلمة التقوى، واستبصر، واستعان بمعبوده، للوصول إلى مقصوده، ولم يستسلم لضعفه، أو هواه، بل توكل على مولاه. وفيما يلي جملة من العقبات التي قد تواجه الأخوات الداعيات في طريق الدعوة، وبيان طرائق تخطيها:
أولاً: عقبات ذاتية:

* الخوف من الرياء: وهو عائق نفسي ينشأ عن المبالغة في التحسس من الرياء، والخوف من الوقوع في النفاق, نتيجة لعدم فهم النصوص الشرعية، مع الورع الناشيء من عدم التمييز بين ما تتناوله النصوص، وما لا يدخل فيها. فيفضي ذلك, لدى كثير من الصالحين والصالحات، إلى ازورار، وانسحاب، وإزراءٍ بالغ على النفس يمنعها من العطاء والمشاركة. بل ربما منعهم ذلك من فعل بعض العبادات الخاصة.
ولابد أن يتيقن المؤمن أن كثيراً من شرائع الدين لا تتم إلا علانية، كالولاية العظمى، والإمامة، والخطابة، والقضاء، والفتيا، والتعليم. ولا بد لهذه الولايات الشرعية، والمناصب الدينية أن ينتدب لها من يقوم بها قدر الطاقة، وإلا تعطلت مقاصد الشريعة، وفروض الكفايات، وأثم الجميع. والواجب على المؤمن والمؤمنة تصحيح نيته الأولى, وعدم الالتفات إلى المزعجات الشيطانية التي تتلبس بلبوس الورع الكاذب، فتفوت على العبد مصالحه، وعلى الأمة رسالتها.
عن أبي ذرٍ رضي الله عنه، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل الخير، ويحمده الناس عليه ؟ قال: "تلك عاجل بشرى المؤمن" ( رواه مسلم ) وقال: "من سرته حسناته، وساءته سيئاته فذلك المؤمن" ( رواه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح غريب). وقال الفضيل بن عياض، رحمه الله: "ترك العمل من أجل الناس رياء. والعمل من أجل الناس شرك. والإخلاص أن يعافيك الله منهما"
* الخوف الاجتماعي ( Social Phopia ):
وهو نوع من أنواع الخوف المَرَضي (الرُّهاب), وهو: "الشعور بخوف شديد من شيء معين، عادةً لا تتناسب شدة هذا الخوف مع خطورة الشيء الذي يخاف منه. .. وينتشر هذا الرهاب في المجتمعات العربية، ويعتبر الأكثر بين أنواع الرهاب، ونسبته تزيد عن الرهاب البسيط، ورهاب الأماكن المفتوحة. وظهرت عدة دراسات تقول: إن الرهاب الاجتماعي منتشر في المجتمع السعودي. والشخص المصاب بهذا النوع من الرهاب لا يستطيع التحدث أمام مجموعة من الناس، ولا يستطيع مخاطبة مسؤول، وبشكل عام، فإنه يخاف بشدة أن يكون في موقع يكون فيه موضع تقييم، أو محط الأنظار من قِبَل الآخرين. .. وعلاج الرهاب يعتمد أساساً على العلاج السلوكي، وكذلك العلاج المعرفي، وبعض الأدوية خاصة الأدوية المضادة للاكتئاب... والعلاج السلوكي في مجمله يعتمد على ما يعرف بالتعريض. والتعريض يعني أن يقوم الشخص الذي يعاني من الرهاب بمواجهة خوفه... وأما العلاج المعرفي. ..يتلخص في أن يتم تحديد الأفكار الخاطئة التي تمنع الشخص من أن يتصرف بصورة طبيعية، ومن ثم يتعلم كيف يتحدى هذه الأفكار الخاطئة، ويغيرها، أو كيف يتعامل مع هذه الأفكار بصورة إيجابية. وأما العلاج الدوائي فيتمثل في استخدام الأدوية الخاصة بعلاج الاكتئاب... والأدوية المهدئة"
الخوف وأثره في حياة الإنسان. د. إبراهيم الخضير. مجلة أهلاً وسهلاً ص: 97 نوفمبر 97
* الخجل:
وهو نوع من أنواع الحياء غيرُ محمود. وأصل الحياء،كما قال الجرجاني: "انقباض النفس من شيء، وتركه حذراً من اللوم فيه. وهو نوعان: نفساني: وهو الذي خلقه الله تعالى في النفوس كلها؛ كالحياء من كشف العورة، والجماع بين الناس. وإيماني: وهو أن يمنع المؤمن من فعل المعاصي خوفاً من الله تعالى" التعريفات: 126
فالخجل، إذاً، نوع من الحياء يمنع المؤمن من فعل بعض الطاعات، أو من تحصيل بعض المصالح، خوفاً من الخَلق. وقد روى الإمام البخاري، تعليقا، عن عائشة، رضي الله عنها: "نعم النساء نساء الأنصار؛ لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين" ثم ساق بسنده عن أم سلمة،رضي الله عنها، قالت: "جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله, إن الله لا يستحيي من الحق, فهل على المرأة من غسل، إذا احتلمت ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا رأت الماء: (1/41 ) ومن شواهد الخجل المذموم, عند بعض الأخوات، تخاذلها عن إنكار المنكر في المناسبات العامة، كحفلات الأعراس، ونحوها، وعدم الاحتساب على بنات جنسها في الأسواق والمتنزهات، مما يؤول بها إلى أحد حالين: إما الانسحاب من الحياة العامة، أو استمراء المنكر، وغض الطرف عنه. فينبغي للأخت الموفقة أن تتخطى حواجز الخجل, وأن تكتسب الجرأة الأدبية، والشجاعة المعنوية, والدربة على الإلقاء، والمحاضرة، والحوار، والمجادلة بالتي هي أحسن. ولا بأس في هذا الصدد أن تنمي قدراتها عن طريق الالتحاق بدورات المهارات الشخصية, فإن العلم بالتعلم, والحِلم بالتحلم.
* الكسل: عن عائشة, قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم, والمغرم والمأثم" الحديث. متفق عليه. وكان يستعيذ منه في أذكار طرفي النهار؛ فعن عبد الله, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: "أمسينا وأمسى الملك لله, والحمد لله, ولا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك, وله الحمد وهو على كل شيء قدير, اللهم إني أسألك من خير هذه الليلة وخير ما فيها, وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها, اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم وسوء الكبر، وفتنة الدنيا وعذاب القبر"وإذا أصبح قال أيضا:"أصبحنا وأصبح الملك لله "رواه مسلم.
فالكسل آفة توهن النفس، وترخي البدن ؛ فإذا بضحيته يستصعب السهل، ويستطيل الطريق، وويكثر الاحتمالات، ويقع في دوامة التسويف، فيصبح أمره فرطاً. وعلاجه العزيمة، والتوكل، والاستعانة بالله، وإصلاح التفكير: قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ} (آل عمران/159)
وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد" الحديث. (رواه أحمد وأهل السنن)
وقال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا, ولكن قل قدر الله وما شاء فعل, فإن لو تفتح عمل الشيطان" (رواه مسلم)
وفيه إصلاح التفكير، أسلوب المواجهة للأمور الماضية والمستقبلة.
ثانياً: عقبات أسرية:
* الزوج: يتفاوت الأزواج في تقديرهم, وتحملهم للدور الدعوي الذي يمكن أن تؤديه أزواجهم. وحين يكون الزوج غير مكترث بقضية الدعوة, أو أنه مدركٌ لذلك، لكن غير مستعد للتضحية،
والتنازل عن بعض حقوق العشرة الزوجية التامة، فإنه حينئذ، يصبح عقبةً في طريق مشروع زوجته الداعية. فينبغي عليها ما يلي:
· تبصير الزوج بأهمية الدعوة النسائية، وعظيم أثرها على الفرد والمجتمع.
· تذكيره بالاحتساب على الله. وأنه بتحمله وتضحيته شريك في الثواب.
· الاجتهاد في تعويضه عاطفياً، وخِدمياً، عن بعض ما يفوته، وعدم إهماله.
*الأولاد: للأولاد من بنين وبنات حق التربية والرعاية. ولا يستقيم أن تشغل المرأة الداعية نفسها بإصلاح بيوت الأبعدين، وبيتها خراب. فينبغي أن تبدأ بنفسها ومن تعول، وأن تحسب ذلك جزءً أساسياً من مشروعها الدعوي؛ لأنه يعطي الآخرين انطباعاً قوياً عن مصداقيتها. وحين تهمل الداعية أولادها، ينقلبون إلى عوائق في مشروعها، و يرتد ذلك بأثر سلبي عليها وعلى دعوتها، من جهتين:
· ما قد يسببونه لها من إزعاج، وإثقال، وعدم تقدير لمقاصدها.
· اهتزاز ثقة المدعوين بخطابها, مستدلين بواقعها المنزلي.
* الأعراف الاجتماعية: قد تبدو بعض المبادرات الدعوية النسائية مستنكرة في بعض الأوساط لخروجها عن الإلف والعادات المتبعة. وقد تواجه بنوعٍ من الرفض من قبل الأهل، والقرابة. فلا بد من التدرج المطمئن، مع الإقناع بالجدوى، حتى تستأنس الفكرة، وتتوطن. وقد أشار سماحة الشيخ ابن باز، رحمه الله، إلى هذا العائق في جوابه عن مسألة ( المرأة والدعوة إلى الله ) فقال: "وعليها مع ذلك ألا يثنيها عن الدعوة إلى الله الجزع، وقلة الصبر، لاحتقار بعض الناس لها، وسبهم لها، أو سخريتهم بها، بل عليها أن تتحمل وتصبر، ولو رأت من الناس ما يعتبر نوعاً من السخرية والاستهزاء"
* عقبات خارجية:
· الفسح الرسمي: من واجب الجهات المسؤولة أن تعنى بأهلية المتصدين للدعوة والتوجيه في مختلف المرافق. وينبغي ألا يضيق الدعاة بمثل هذه الإجراءات الاحترازية، بل عليهم السعي في استصدار الفسوحات النظامية، ليعملوا بطمأنينة وثقة. وفي حال حصول تأخير أو التباس فعليهم أن يسعوا لاستجلاء الأمر، ورفع الالتباس، وتبديد الأوهام، أو قالة السوء التي قد تصدر عن بعض الوشاة. وفي حال عدم اكتمال بعض الشروط النظامية، مع وجود الكفاءة والأهلية، فيستدرك ذلك بالتزكيات المعتبرة. ولا يسوغ تفويت الفرص بدعوى عدم توفر الفسح. ثم في حال عدم حصول المراد، فإن آفاق الدعوة ومجالاتها أوسع وأرحب من أن تنحصر في قنوات معينة, كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يختص بهيئة، بل يجب على كل من رأى منكراً.

· الخلافات الحزبية: إن مما يدمي القلب، ويُذهب ريح الدعوة، ما يقع في بعض الجهات من منافسات، ومناكفات، بين أصحاب المشروع الواحد، بدوافع حزبية، استئثارية، في غيبة من داعي الإخلاص، ورغبة في التسيد والتصدر، تفضي إلى خسارة الفريقين، واستهجان المجتمع، وزهادة المدعوين في الانخراط في ركب الدعوة.
ويجب على الدعاة إلى على اختلاف مشاربهم، وانتماءاتهم، أن يتضلعوا من ثقافة الوحدة والائتلاف، ويتحرروا من أسر التفرق والاختلاف، وأن يعلموا أن مهمتهم أكبر وأسمى من أن تكون تجميعاً لجماعة، أو تعصباً لفرد، وأنه لا يجوز أن يعقد الولاء والبراء إلا على الأصول الشرعية، ولا يحل امتحان الناس بالأشخاص، ولا تصنيفهم وفق مسميات حادثة.
إن مهمة الدعاة والداعيات "إقامة الدين" و "نبذ التفرق" كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلما تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13)، وإذا عنَّ خلاف جرى الرد إلى الله ورسوله، كما أمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء/59)
ولا ريب أن توتر الأجواء بين الداعيات لأغراض حزبية، يؤدي إلى توتر النفوس، وفساد القلوب، وذهاب بهجة العمل، وحصول الفشل، قال تعالى:{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال/ 46 ) ولعمر الله إنه لمن أكبر العوائق، وأكأد العقبات.
وعلاج هذه المعضلة في أمور:
· تنمية روح الإخلاص، والتسامي عن الأثرة والحزبية.
· الترقي في العلم النافع، والعمل الصالح، وتحقيق مقاصد الشريعة.
· التحلي بالأخلاق الكريمة، والترفع عن الترهات، والقيل والقال.
· المحبة الإيمانية الخالصة، وصرف النظر عن التصنيفات الحزبية، والمناطقية، والبلدانية، والقبلية.
· النقد الهادف الرفيق، الذي لا يكرس العداء، ولا يحمل على العزة بالإثم.
· التعاون على البر والتقوى.
· التعاذر، والتغافر بين الداعيات، وإحسان الظن فيما يسع فيه الاجتهاد.
· إفشاء ثقافة الائتلاف، قولاً وتطبيقاً.

هذا، والله المسؤول وحده، أن يسدد الخطى، ويبارك في الجهود.وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.