أدب طالب الفقه مع شيخه (1)
صالح بن صبحي القيم
ينبغي لطالب الفقه أن يقدم النظر، ويستخير الله فيمن يأخذ عنه العلم، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه، ويتحرى في كونه ممن كملت أهليته وتحققت شفقته، وطهرت مروءته, وعرفت عفته, وكان أحسن تعليماً وأجود تفهيماً، ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقص ورع أو دين أو عدم خلق جميل، وعن ابن سيرين: "هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم". وليحذر من التقليد بالمشهورين وترك الأخذ عن الخاملين، فقد عده الغزالي وغيره من الكبر في العلم، لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها، ويغتنمها حيث ظفر بها، ويتقلد المنّة لمن ساقها إليه، فإنه يهرب من مخافة الجهل كما يهرب من الأسد، والهارب من الأسد لا يأنف من دلالة من يدله على الخلاص، كائناً من كان.
وذكر أبو نعيم في الحلية، أن زينَ العابدين علي بن الحسين عليهما السلام كان يذهب إلى زيد بن أسلم، فيجلس إليه، فقيل له: أنت سيد الناس وأفضلهم تذهب إلى هذا العبد فتجلس إليه، فقال: "العلم يُتَبع حيث كان ومن كان". فإن كان الخامل ممن ترجى بركته، كان النفع به أعم والتحصيل من جهته أتم. وإذا سيرت أحوال السلف والخلف، لم تجد النفع يحصل غالباً، والفلاح يدرك طالباً إلا إذا كان للشيخ من التقوى نصيب وافر، وكذلك إذا اعتبرت المصنفات وجدت الانتفاع بتصنيف الأتقى و الأزهد أوفر، والفلاح بالاشتغال به أكثر.
واجتهد على أن يكون الشيخ ممن له في العلوم الشرعية تمام إطلاع، وله ممن يوثق به من مشايخ عصره كثرة بحث وطول اجتماع، لا ممن أخذ من بطون الأوراق. قال الإمام الشافعي - رحمه الله - : " من تفقه من بطون الكتب ضيّع الأحكام "[(المجموع) ج1ص38]، وكان بعضهم يقول: "من أعظم البلية مشيخة الصحيفة"، أي الذين يتعلمون من الصحف.
ويجب على الطالب أن ينقاد لشيخه في أموره، ولا يخرج عن رأيه وتدبيره، بل يكون معه كالمريض مع الطبيب الماهر، فيشاوره فيما يقصده، ويتحرى رضاه فيما يعتمده، ويبالغ في حرمته ويتقرب إلى الله بخدمته، ويعلم أن ذله لشيخه عز، وخضوعه فخر، وتواضعه له رفعة. أخذ ابن عباس رضي الله عنه، مع جلالته وقرابته من النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وعلو مرتبته، بركاب زيد بن ثابت الأنصاري، وهو ممن أخذ عنه ابن عباس العلم، وقال: "هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا"[أخرجه الطبراني والحاكم والبيهقي في المدخل إلا أنهم قالوا : "هكذا نفعل" قال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط مسلم].
ولا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع، ومهما أشار عليه شيخه بطريق في التعليم فليقلده، وليدع رأيه، فخطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه.
كما يجب عليه أن ينظره بعين الإجلال، ويوقره ويعظمه، فإن ذلك أقرب إلى نفعه به، قال بعضهم: حسن الأدب ترجمان العقل ومراعاة الأدب، فيما بين المحققين مقدم على غيره، ألا ترى كيف مدح الله أهله وشرّف محلهم، بقوله: { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات : 3].
وينبغي على الطالب أن لا يخاطب شيخه بتاء الخطاب وكافه، ولا يناديه من بعد، بل يقول: وما تقولون في كذا، وما رأيكم في كذا، وشبه ذلك ولا يسميه في غيبته باسمه إلا مقروناً بما يشعر بتعظيمه، نحوَ قال الشيخ الأستاذ، أو قال شيخنا، أو قال مولانا ونحو ذلك.
[آداب العلماء والمتعلمين (الحسين ابن المنصور اليمني) بتصرف].
[سير أعلام النبلاء (الذهبي)].