فتاوى "الأحوطيات" في الصيام تتعارض مع قواعد التيسير والتخفيف




إن الناظر في النصوص الشرعية التي تحدثت عن الصيام لا يجد نصوصا أخرى تساويها من حيث الدلالة الصريحة على مبدأ التيسير والتخفيف، هذا المبدأ العظيم يلازم هذه العبادة ولا ينفك عنها، مع انها ركن من أركان الإسلام العظيم، قال سبحانه وتعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ-أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ-شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا ْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{.
والملاحظ صراحة النص على مبدأ التخفيف والتيسير وقد يختلف أهل العلم في فهم مبدأ التيسير والتخفيف الذي يصحب هذه العبادة، فما يراه فقيه من باب التخفيف والتيسير يراه أخر من باب التسيب والانحلال. وما يراه فقيه من باب الصواب والدين يراه أخر من باب التشدد، حتى نشأ عندنا تصنيف للفقهاء وللمدارس الفقهية، فالفقيه عمرو متشدد، والفقيه زيد متساهل.
كل ذلك ممكن في طبيعة هذا الدين وطبيعة النصوص الشرعية تحتمل هذا، وإن أدبيات الخلاف في الفقه الإسلامي تشير إلى هذا وإمكانية حصوله، ولكن أود أن أشير إلى أن هنالك فقهاء يتخيرون تناول الأحكام، ولا يتناولون من كتب الفقه الا الأحكام المتشددة، ولا يتعاطون مع أي حكم شرعي أو رأي فقهي فيه التيسير على الناس، وفي حالة أن غلبهم الدليل بوجود هذا الرأي الفقهي الذي فيه تيسير على الناس، فأنهم على الفور يتداركون بقولهم "ولكن الأحوط العمل على خلاف هذا الرأي".
الأمر الذي جعل البعض يصف مدرستهم الفقهية أو مذهبهم الفقهي بمذهب "الأحوطيات"، وهذا المنهج الأحوطي لا ينفع كثيراً في الصيام وهو على عكس الهدي النبوي في التطبيق لمبدأ } يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ{ . ولعلي أنقل لكم هذه الحادثة التي حدثت مع ذلك الأعرابي في شهر رمضان المبارك وذلك لبيان الهدي النبوي في المنهج التطبيقي لمبدأ التيسر، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله، قال وما أهلكك؟ قال وقعت على امرأتي في رمضان قال: هل تجد ما تعتق به رقبة؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا قال: فهل تجد ما تطعم به ستين مسكينا، قال: لا، ثم جلس فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر: فقال تصدق بهذا فقال: أعلى أفقر مني؟؛ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال اذهب فأطعمه أهلك".
لم أسمع ولم أقرا على حد علمي أن فقيهاً أفتى بمثل هذا، لم أسمع عن فقيه ضحك في وجه من جامع زوجته في نهار رمضان، ولم أسمع عن فقيه أعطى مالاً لمن جامع زوجته في نهار رمضان، ولم أسمع أن فقهياً حقق فيمن أفتاه وكان حاله على حال ذلك الرجل فأفتى له مثلما افتى به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن هذه الفتوى غير صالحة لأن تكرر، وكان الفقر كان في فترة ما وانتهت. ولو ان فقيراً مسلماً جامع زوجته في نهار رمضان واستقى العلماء لوجدوا له عدة وجوه للكفارة ولو بالدين.
قد يبلغ الأمر في مثل هذه المسألة أن يعطى المفتي الرجل مالاً ويقول له أخرجه كفارة عن نفسك، أما أن تجد مفتياً يحكم بالكفارة لذات الشخص الذي ارتكب المحظور فهذا قلما تجده.. ولم اقرأه لا في الفتاوى المعاصرة ولا في غيرها.
ماذا تتوقع من فقهاء الأحوطيات في فتوى الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل، هل هذا النص مخصص لا ينبغي تعميمه على من اتصف بنفس صفات الأعرابي، أو بعد تحقيق المناط الخاص كما يسميه الأصوليون؟ أم يقولون أنه لا يوجد فقير حاله مثل حال الرجل؟.
إن الهدي النبوي في الإفتاء ومنهجيته في تناول الأحكام لتؤكد على أن فتاوى الأحوطيات لا مكان لها في الصيام، وان منهجيته العامة وهديه في التعامل مع كل الأمور والتصرفات هي التيسير ما لم يكن إثماً فقد روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الْآخَرِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ".

رائد عبدالله بدير
دار الافتاء والاستشارات الشرعية بكفر قاسم