تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 4 من 45 الأولىالأولى 1234567891011121314 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 61 إلى 80 من 898

الموضوع: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

  1. #61
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (54)
    الحلقة (61)




    تفسير سورة البقرة (25)


    أمر الله بني إسرائيل بأن يدخلوا قرية ويدعوا الله بأن يحطّ عنهم خطاياهم، فبدّلوا كلام الله، فأنزل الله عليهم عذاباً من عنده، وأمر الله نبيه أن يذكّر اليهود بما أنعم عليهم من رزق وخير، لا تعب فيه ولا نصب، جاءهم بعد لأواء وشدة، ولجوء إلى موسى كي يدعو ربه، حينها أمر الله موسى أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت عيون الماء صافية نقية.

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:58-60].

    لمحة تاريخية عن اليهود الذين جاءوا إلى المدينة

    ما زال السياق الكريم مع بني إسرائيل، أي: اليهود الذين عايشوا النبي صلى الله عليه وسلم بضع سنوات في هذه المدينة، وهم: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وهم يمثلون العالم اليهودي.ونزوحهم إلى هذه الديار -كما علمتم زادني الله وإياكم علماً- سببه اضطهاد الروم لهم؛ لأنهم في نظرهم قتلة إلههم، وثاني سبب: تباشير التوراة والإنجيل ببعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وأنه يخرج من جبال فاران، وهي جبال مكة، وأن مهاجره بلد ذات نخيل وسبخة، وهي يثرب، فجاءوا ينتظرون طلوع الشمس المحمدية ليدخلوا في الإسلام، ويستردوا مجدهم وقوتهم ومملكتهم، فلما رأوا أن الريح غير ملائمة، وأن الإسلام إذا دخلوا فيه أنساهم أجدادهم وآباءهم، من ثَمَّ تغيرت قلوبهم، وناصبوا العداء للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين.وتم الذي أراده الله، فبنو قينقاع فعلوا فعلة قبيحة فأجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم أول فئة منهم.وبنو النضير أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهم في حكم من قتل، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا أن أجلوهم إلى الشام.وبنو قريظة لما انظموا إلى الأحزاب، الذين جاءوا لإبادة الإسلام وأهله، وانهزم الأحزاب بأمر الله، وعادوا إلى ديارهم خائبين، حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة، فاستسلموا وخضعوا، فقتل رجالهم، وكانوا نحواً من سبعين رجلاً، وسبى ذراريهم ونساءهم بحكم الله .. بقضاء الله من فوق سبع سماوات.

    كتابة التيه على بني إسرائيل أربعين سنة لخذلانهم نبيهم موسى عليه السلام

    هؤلاء اليهود المعبر عنهم في القرآن ببني إسرائيل، وقد طال الحديث عنهم، عندما تتأمل تعرف أن القلوب بيد الله، يهدي من يشاء، استعرض لهم حياتهم بكل ما فيها، جزئية جزئية، فلو كان الله أراد أن يسكنهم دار السلام لكانوا دخلوا في الإسلام أجمعين، ولكن قَلَّ من دخل منهم في الإسلام، أفراد قليلون، واسمع ما يقول لهم: واذكروا، أي: واذكر لهم يا رسولنا. وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ [البقرة:58]، من القائل؟ القائل: الله عز وجل. من الواسطة الذي يبلغ؟ هو يوشع بن نون فتى موسى وتلميذه وصاحبه؛ لأن بني إسرائيل لما وقفوا ذلك الموقف؛ موقف الهزيمة المرة، كما وقف المسلمون الآن مع اليهود، وقالوا لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، ونحن نقول: الأمم المتحدة .. أمريكا لم ما تخرج اليهود؟ ونحن أسوأ حالاً من أولئك، نحن ألف مليون، وهم ستمائة ألف بنسائهم وأطفالهم، يقاتلون العمالقة، ويخرجونهم من أرض القدس، أمر صعب، إلا أنه لما كان الله معهم ينتصرون، فنحن لو كان الله معنا ولا ثلاثة أيام، والله لو يعرف اليهود أنا أقبلنا على الله، وواليناه ووالانا، لعزموا على الرحيل من تلقاء أنفسهم.فلما جبنوا وخاروا وتأخروا ضربهم الله أربعين سنة، وهم يتيهون في الأرض، في صحراء سيناء، فلما طلع النهار شدوا على الجمال والبغال والحمير يمشون يمشون، اشتد الحر نزلوا، باتوا، غداً يجدون أنفسهم في مكانهم، ولكن الله عز وجل أكرمهم؛ لأنهم أبناء وأحفاد أنبيائه ورسله، فهم أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.فأنزل عليهم المن والسلوى: الحلوى واللحم، والغمائم تظللهم من حر الشمس، ويروى أن ثيابهم ما بليت ولا تمزقت، وبقيت كذلك.إذاً: أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:26]، هكذا: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:26]، من هم الفاسقون اليوم؟ الذين خرجوا عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا تحزن عليهم.

    حال بني إسرائيل في عهد يوشع بن نون

    امتد الزمان وطالت الأيام فتوفي موسى عليه السلام، وقبله أخوه هارون، ومات جيل الهزيمة؛ فالذين كانت أعمارهم أربعين وخمسين انتهوا، ونشأت ناشئة جديدة صحراوية، لكنها ما نبتت في منابت الفسق والباطل، فقادهم يوشع بن نون ، الذي نبأه الله، وأرسله إليهم.وقد ذكرت لكم ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن يوشع لما غزا وكان يوم جمعة، وكاد يصل إلى الأسوار، والبناء للمدن كان على أسوار تعتمد عليه، فإذا الشمس تغرب، فخاف إذا غربت يقف القتال؛ لأنهم مأمورون بعدم القتال يوم السبت، فنظر إلى الشمس وقال: يا شمس! أنت مأمورة وأنا مأمور، قفِ مكانك. والله وقفت، وواصل الزحف حتى دخل البلاد.الآن وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ [البقرة:58]، على عهد يوشع أو لا؟ ادخلوا المدينة العاصمة، وهي القدس، فيها العسل، واللبن، والفواكه، والخضر، يكفي أربعين سنة وأنت مع الحلوى ولحم الطير.قد يقول القائل: ما هي الحلوى؟قلنا: هي الكمأة، لكن فيها عسل وحلوى، من الحلاوة. ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ [البقرة:58]، مما أحل الله لكم وأباح لكم. رَغَدًا [البقرة:58]، أي: عيشاً، واسعاً، طيباً، لا صعوبة فيه، ولا نكد. ورغد العيش: سعته وطيبوبته. وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58]، المراد بالباب المعروف الآن بباب حطة، هذا الباب أمرهم نبيهم يوشع وقائدهم عليه السلام بأن يدخلوا راكعين، ومن الجائز أن نقول: كان سقف الباب منخفضاً، فلابد وأن يطأطئ الرجل رأسه حتى يدخل، ولسنا في حاجة إلى هذا ما دام لم يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد الله أن يمتحنهم: ادخلوا راكعين؛ لأن السجود وضع الجبهة والأنف على الأرض، كيف يمشي الساجد؟ لا يمكنه ذلك.فالمراد من السجود هنا: الخضوع، والذلة، والانكسار بين يدي الجبار؛ شكراً له على الإنعام، والتوبة إليه من التمرد والعصيان. ادخلوا راكعين، والركوع صاحبه يمشي، والصحابي مشى من صف إلى صف بعيد وهو راكع. وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58]، لم ما قال: ركعاً؟ لأن لفظ السجود هو الذي يدل على المطلوب وهو الخضوع، والذلة، والانكسار أمام الجبار حيث أنعم عليهم، وفتحوا البلاد.وإليكم ما يؤكد هذا: كيف دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح ودخلت خيله، ومعه اثنا عشر ألف بطل؟والله دخل ولحيته الشريفة هكذا على قربوس السرج كأنه كتلة، خاشعاً .. خاضعاً .. شاكراً لله نعمته عليه، قربوس لحيته تضرب في قربوس السرج، وما دخل متعنتراً.وهنا من سنين ونحن نذكر جهلنا وهبوطنا وضلالنا، عندما يستقل الإقليم من أقاليمنا المستعمرة، وكلها باستثناء هذا البلد، ما إن يستولوا على الحكم حتى يقيموا حفلات العهر والباطل والغناء، ويطلبوا إخوانهم الذين يسمونهم بالعملاء للاستعمار: اذبح، قتل، دمر، والأفراح إلى عنان السماء.فنقول: هل عرفتم كيف دخل نبيكم مكة وقد أخرج منها؟!ثم لما دخل ووجد إخوانه وقد طأطئوا رءوسهم، وانحنوا في ساحة المسجد الحرام، وهو مصلت السيف، ماذا قال؟ ( ما تظنون أني فاعل بكم يا رجال قريش؟ قالوا: أخ وابن أخ. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء )، فلم ينتقم من أحد.كيف ما نذكر هذه المواقف؟!والعلة أبنائي معروفة، جهلة ما عرفنا الله، ولا الطريق إليه، ماذا ترجو منا؟ تريد أن تختبرنا؟ عند الباب، آذِ واحداً فقط ولو بنعلك، وانظر ماذا تشاهد؟إذاً: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58]، أي: راكعين، شكراً لله رب العالمين، إظهاراً للإذلال والطاعة لله، المنعم المتفضل. وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58]، ومعنى (حِطَّةٌ): احطط عنا خطايانا، وقد تكون هذه الكلمة بالعبرية، وجاءت في القرآن بحسب لغتهم، ولا بأس أن تكون (حِطَّةٌ) بمعنى: احطط عنا خطايانا، ولها نظير في اللغة على وزن خسة.إذاً: قولوا هذه الكلمة، تعلنون فيها عن ذنوبكم الماضية من الفسق، والضلال، والعصيان، واطلبوا من الله تعالى أن يحط عنكم خطاياكم؛ لتدخلوا طاهرين.والجزاء: قال تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ [البقرة:58]، سبحان الله ما أكرم الله وما أشد حلمه! كأنهم أطفال صغار يربيهم، لا إله إلا الله، وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ [البقرة:58]، خطيئاتكم، وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:58] أيضاً، فالذين عبدوا العجل يغفر لهم، والذين ما عبدوا العجل يزيدهم في إحسانهم .. الذين فسقوا وتمردوا يغفر لهم، والذين استقاموا وما عصوا يزيد في الإحسان إليهم، فالسعادة للجميع، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:58]، نزيدهم من إنعامنا، وإكرامنا، وإفضالنا.

    تفسير قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم ...)

    قال تعالى مخبراً عنهم: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة:59]، أرأيتم العلة ما هي؟ الظلم، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:59]، ظلموا من؟الظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، فالذين وضعوا الشيء في غير موضعه من بينهم الذين عبدوا غير الله، وضعوا العبادة لغير الله، وهكذا كل الذين قارفوا الذنوب فهم في ذلك ظالمون لأنفسهم، متهيئون للعصيان من جديد والتمرد؛ لأن نفوسهم خبثت، وما بقي فيها نور.

    تبديل بني إسرائيل لكلام الله

    فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة:59]، بدلوا، قالوا: حنطة، بدل حطة، بعضهم قال: حنطة، حبة في شعيرة، أعوذ بالله، هذا نوع من الاستهزاء أو لا؟ولا تنسوا الآن بين المسلمين من يستهزئ ويسخر من كلام الحق، إذا كان ما هو من حزبه أو من جماعته أو من كذا، ويقول كلمات أسوأ من هذا ويسخر، ولا عجب. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:59]، أنفسهم، فشوهوها، وقبحوها، وأصابوها بالظلمة، والنتن، والعفن من جراء الفسق، والفجور، وارتكاب كبائر الذنوب، هؤلاء بدلوا القول الذي قاله الله لهم على لسان يوشع ، ادخلوا راكعين وقولوا: احطط عنا خطايانا، قولوا: حطة، قالوا: حنطة، ودخلوا يزحفون على أستاههم وبلَّغ هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فما دخلوا راكعين، بل دخلوا يزحفون على أستاههم وأدبارهم، ويقولون: حنطة، حبة في شعيرة.أرأيتم الجماعات التي تهبط كيف؟ لا إله إلا الله.

    عاقبة تبديل كلام الله

    قال: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا [البقرة:59]، نقمة الجبار، الله موجود أو لا؟ نعم. أين هو؟ فوق عرشه .. فوق ملكوته، يدير الملكوت كله.وهذه الفاءات لترتيب السببية على الفور: فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:59]، أما الذين ما ظلموا لا حمى، لا نابض، ولا باردة، ولا صداع، الَّذِينَ ظَلَمُوا ، أنزلنا عليهم: رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:59]، (رِجْزًا): عذاب فيه وسخ، وأكثر الروايات أنه اجتاحهم وباء، وهو الطاعون، فما من واحد إلا وهو يخرأ -بلا شك- هذا رِجْز. فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة:59]، الباء سببية، ما قال: بسبب فسقهم، قال: بسبب ما كانوا يفسقون، أي: يتجدد فسقهم في كل أمر وكل نعيم، فسق متواصل؛ لا أنه فسق واحد وآخذهم به وانتهى، لا .. لا، بل بسبب ما كانوا دائمين مستمرين عليه من الفسق، كلما يؤمرون بأمر يسخرون منه ويتركونه.

    ضرورة العودة إلى القرآن والسنة

    هل في هذه الآيات عبرة للمؤمنين؟ هل تنقضي عبر هذه الآيات؟ والله ما تنقضي ما بقي إنسان يعبد الله.هل المسلمون ينتفعون بهذا؟هل يجتمعون عليه ويدرسونه في المدن والقرى بالنساء والرجال، لا والله، كيف ينتفعون إذاً؟ قولوا لي: كيف؟إذا لم يجتمع المؤمنون والمؤمنات في بيوت ربهم كل ليلة وطول العام من المغرب إلى العشاء يدرسون كتاب الله، ويعملون بهداه أنى لهم أن يعرفوا أو يهتدوا!الآن الأمم المتحضرة التي نتعشق حياتها، ونجري وراءها، إذا دقت الساعة السادسة وقف دولاب العمل، فأغلقت المصانع والمتاجر، ووقف دولاب المزارع وغيرها، وذهبوا إلى اللهو والباطل: دور السينما .. المقاصف .. الملاعب .. المسابح، ونحن أيضاً لا .. لا. نحن نحب الدنيا أكثر، لا نستطيع، إذا غابت الشمس صل ثلاث ركعات المغرب وافتح الدكان وأدر الشغل والمصنع حتى نصبح أقوياء قادرين على أن نضرب أوروبا!ماذا عسانا أن نقول؟ هبطنا إلى الحضيض.كيف نعود؟نعود إذا رجعنا إلى القرآن والنبي، لا أقل ولا أكثر، فالقرآن روح، فلا حياة بدونه، والنبي سراج منير، فلا هداية بدونه.أين نجد الله والرسول والله يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]؟الله: كتابه، والرسول: هديه وسنته.ما عندنا استعداد يا شيخ نطلب هذا، مشغولون نحن! بم؟ بما نهيئه من طعام، وشراب، ولباس، ونكاح، و.. و.. هذا هو شغلنا الشاغل، فليس عندنا وقت.إذاً: هذا شغل الهابطين، أنتم لا تريدون السماء؟ أوه! أين السماء هذه؟ لا تريدون أن تسكنوا في الملكوت الأعلى؟ لا ندري. كيف لا تدرون؟ أما سمعتم الله تعالى يقول: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].كيف تطلع إلى السماء -يا عبد الله- إذا لم تلبس ثياباً خاصة بالطلوع، وإذا لم تستعمل آلات خاصة بالطلوع؟! هل رأيتم طياراً أو من يعرجون إلى الأفق؟ هل يبقون كعادتهم أو يبدلون كل شيء؟ حتى لباسهم يغيروه، ونحن نريد الملكوت الأعلى؟ لا يا شيخ، لا تقل هكذا. لو أردنا صادقين لأقبلنا على الله وأطعناه، لكنها كلمات باللسان فقط.أعيد الآية من جديد وتأملوا: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة:58-59].إذاً: احذروا الفسق والظلم يا أيها المسلمون! فلستم بأشرف من بني إسرائيل.احذروا الفسق والظلم، وقد فعل الله ما علمتم بالظالمين وبالفاسقين من بني إسرائيل، فلا يبقى بعد اليوم ظلم ولا فسق في ديار المسلمين!

    تفسير قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر ...)

    قال تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60].اذكر يا رسولنا لهم، قل لهم: اذكروا يا معشر يهود! القرآن يفضح سرائركم، ويظهر خفاياكم، وأنتم لا تنكرون هذا، وهل يستطيعون إنكاره؟ لا يستطيعون.اذكروا إذ استسقى موسى لقومه، أين استسقى لهم؟ في مصر؟ لا .. لا.. النيل كاف، هذا في التيه، لما اجتازوا الديار المصرية بانفلاق البحر وخروجهم إلى أرض سيناء، عطشوا في يوم من الأيام، وكادوا يموتون من العطش. فأوحى الله تعالى إلى موسى أن: اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ [البقرة:60]، لعل هذا حجر خاص، أو هو حجر لكن بعد فترة أصبح الحجر معهوداً لهم، يحملونه معهم على البهائم إذا رحلوا، فإذا انقطع الماء وعطشوا يضربه موسى فيتفجر الماء. هذا سحر؟ السحر لا يظهر بهذا المظهر، يظهر بالعين فقط، هؤلاء يشربون، ويغتسلون، ويتوضئون الأيام والليالي. فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ [البقرة:60]، فضرب: بسم الله، فَانفَجَرَتْ مِنْهُ [البقرة:60]، والله اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [البقرة:60]، من هنا عين .. من هنا كالبزبوز كما تسمونه أو الكباس، اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [البقرة:60]، لم هذا العدد؟ لأن قبائلهم اثنتا عشرة قبيلة، وهؤلاء هم الأسباط، أولاد يعقوب عليه السلام، وإخوة يوسف كم كانوا؟ اثنا عشر رجلاً: بنيامين، ويوسف، وعشرة: يهودا ومن معه، كل ولد منهم أصبح شيخ قبيلة، وقبيلة حرب عندنا في الحجاز تفرعت إلى أفخاذ وبطون.إذاً: كل واحد أصبح أبا لقبائل متعددة.فكانوا اثنتي عشرة قبيلة، أي: سبطاً، كل عين يشرب منها سبط حتى لا يتزاحموا؛ لأنهم ما زالوا لم يتربوا في حجور الصالحين، والله ممكن يتضاربون.رأينا الحجاج قبل أن يفتح الله بهذه المياه يتقاتلون في منى، رأينا بعضهم بالسكين في يده على الكباس.إذاً: من رباهم؟ما جلسوا في حجور الصالحين، فالله عز وجل من رحمته وإحسانه بهم جعل لكل قبيلة عيناً خاصة بها، كباس مستقل، وفعل هذا بهم في البحر، فانفلق اثنتا عشرة فرقة، كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]، لأنهم لو مشوا في فرقة واحدة يتزاحمون ويتضاربون، ويقولون الباطل.إذاً: اثنتي عشرة قنطرة أو جسراً يمشون عليه، وكذلك الماء لو كان عيناً واحدة، ولا تنس.كيف حال المسلمين اليوم، إذا تزاحموا على دكان فقط ترى العجب.ولكن ما كل المسلمين هكذا يا شيخ؟إي والله، الذين تربوا في حجور الصالحين، وأصبحوا من ذوي الأحلام والنهى، والعقول، والبصائر، حاشاهم، إنهم كالملائكة في السماء لا يظلمون، ولا يؤذون، ولا يتعرضون لأحد.والذين ما عرفوا يزني بعضهم بنساء بعض.يا شيخ! لا تقل هذا الكلام!والله العظيم، مسلم يزني بامرأة مسلم أو بنته كيف يتم هذا؟ أين قلبه؟ أين عقله؟ أين دينه؟ أين إيمانه؟يا شيخ! يدخلون أيديهم في جيوب إخوانهم وهم يطوفون بالكعبة، ويسلمون على رسول الله، ويسلبون أموالهم من الحرم، صح أو لا؟كيف يتم هذا؟ لأنهم ما ربوا في حجور الصالحين .. ما جلسوا مجالس الهدى .. ما عرفوا الله، ولا بكوا بين يديه، ولا ولا.. ماذا تريد منهم؟ النساء كالرجال على حد سواء، لا يعذر إلا من لم يبلغ الحلم، فما زال لم يبلغ نعفو عنه.

    طريق العودة إلى الله

    يا شيخ! ما الطريق إلى أن نعود؟ما دام أننا نشعر بهذا الشعور، الجواب: كتاب (المسجد وبيت المسلم).سكت العلماء .. سكت الطلبة، لا أدري ماذا أصابنا؟أسألكم بالله: كم شهراً ونحن في الكتاب؟سنة وأربعة أشهر، ما بلغنا أن طالب علم جمع أهل القرية -بوسائل الحب، والعطف، والرحمة- بنسائهم وأطفالهم، وأخذ يعلمهم الكتاب والحكمة، منذ شهر أو شهرين أو كذا، ما وقع.إذاً: كيف نعود؟ عائدون .. عائدون.جماعة إخواننا الفلسطينيين، أنشودة: عائدون، أين تعودون؟ ومتى نعود؟!إذا عجزنا عن أن نلتقي بربنا في بيته، نبكي بين يديه بنسائنا وأطفالنا، ونتمرغ في التربة بين يديه رجاء أن يرحمنا، ما استطعنا هذا فقط، ونستطيع أن نسود ونقود، وآه! خرافة هذا، ما هو معقول أبداً.لا عودة إلا من طريق: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، يعلمهم ماذا؟ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، يهذب أرواحهم، وأخلاقهم، ونفوسهم.

    تذكير بني إسرائيل برزق الله لهم

    قال: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ [البقرة:60]، كم؟ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [البقرة:60]، العين مؤنثة: اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا . قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60]، لا إله إلا الله، كل قبيلة عرفت المشرب من أين تشرب؟ لا زحام ولا ولا.. آمنت بالله.وقلنا لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ [البقرة:60]، (كُلُوا وَاشْرَبُوا) كلوا ماذا؟ الكمأة، وكلوا لحم الطير: السلوى.إذاً: وَاشْرَبُوا [البقرة:60]، هذا الماء العذب، هذا ما هو ماء الدنيا، ما هو من تحت الأرض ولا من السماء، هذا بكلمة: كن، فكان، والحجر يحمل أطنان الماء، ويحملونه معهم؛ لأنهم ما هم مقيمين في مكان واحد، كل يوم يرحلون.إذاً: الحجر يحملونه معهم.هل استطاع اليهود أن ينكروا هذا؟ لا ينكرونه، لم -إذاً- تعرضون عن الإسلام؟ بهاليل.والله بودي أن نجلس مع يهود ونتحدث معهم، وهو فيهم نوع من البهللة.أنتم تريدون السعادة أو الشقاء؟ تريدون العز والكمال، أو الهون والدون؟تريدون هذه السعادة؟ والله لا سبيل إلا أن تدخلوا في رحمة الله، كما دخل موسى وهارون من قبل.تريدون العزة والسيادة؟ ما هو بالسحر والمكر والخديعة، والله لن يتم ذلك إلا بالإسلام، احملوا راية الإسلام وقودوا البشرية.يا شيخ! لا تلم اليهود، لُم المسلمين الضائعين التائهين، ألف مليون ما عرفوا الطريق إلى الله إلا من رحم الله.قال: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ [البقرة:60]، هذا رزق الله أو لا؟ ما هو بأيديهم، فالطير ينزل عليهم يمسكونه، يذبحون ويأكلون، والكمأة تخرج من الأرض، مِنْ رِزْقِ اللَّهِ [البقرة:60]، والماء من الحجر.

    النهي عن الفساد في الأرض

    وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60]، والعِثي: هو شر الفساد، أقبح فساد هو العثي. وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60]، كيف يفسد في الأرض؟ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، كل من يعمل بمعصية الله ورسوله في قرية .. في شارع .. في جبل .. في البحر .. في السماء، فهو يفسد في الأرض.من المفسدون في الأرض؟الذين يستحلون ما حرم الله .. الذين يرفضون فرائض الله .. الذين يتكبرون عن عبادة الله، هم المفسدون في الأرض.بين لنا وجه ذلك يا شيخ؟اسمعوا! القمار .. الزنا .. اللواط .. شرب الخمر .. عقوق الوالدين .. ترك الصلاة .. منع الزكاة، هذه والله كالقنابل المدمرة، تفسد الأرض إفساداً كاملاً.إذاً: كل من يعمل بغير طاعة الله والرسول، قل: إنه يفسد في الأرض، يفسدها لينتهي منها الخير والبركة والرحمة، والطهر، والصفاء، والعدل، والإخاء، وتصبح البشرية كالحيوانات يأكل بعضها بعضاً.الإفساد ضد الإصلاح.فالإصلا : هو أن يعمل البشر بتوجيهات ربهم، وشرائعه، وكمالاته.الإفسا أن يعرضوا عن ذلك، ويتركوه، ويعيشوا على أهوائهم، وما تمليه عليهم شياطينهم، وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60].الله تعالى أسأل: ألا يجعلنا من المفسدين في الأرض ولو بكلمة نقولها باطلة، وأن يجمع كلمة المؤمنين على الكتاب والسنة، وأن يلهم علماءهم أن يعودوا إلى كتاب (المسجد وبيت المسلم) عما قريب إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #62
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (55)
    الحلقة (62)




    تفسير سورة البقرة (26)


    "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير" كانت هذه إجابة موسى لقومه حين رأى جهلهم بما هو خير لهم وأفضل، لم لا؟ أليس العسل خيراً من البصل، واللحم خيراً من الفوم والقثاء؟ ومع هذا قيل لهم: أردتم الهبوط مما أنتم فيه من نعيم فافتحوا مصراً من الأمصار، وستجدون فيه مرادكم، فأعرضوا، ومنعهم جبنهم وخورهم، وزادوا الطين بلة بأن كفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء وعصوا، واعتدوا، فضرب الله عليهم الذلة والمسكنة وحلّ عليهم غضبه، فبعداً لهم، ولمن سلك مسلكهم.

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُو نَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61].ما زال السياق الكريم في موعظة وتذكير بني إسرائيل، والنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم أرسل لهداية الخلق، وإنجاء البشرية عامة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، والقرآن الكريم نزل أيضاً لهداية الخلق، فلا تنقطع هدايته، ولا تنطفئ أنواره إلى أن يرفعه الله تعالى إليه.

    جهالة بني إسرائيل بالخير

    وها نحن منذ ليالٍ مع بني إسرائيل، ولنستمع إلى ما قال تعالى لهم: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى [البقرة:61]، اذكر لهم يا رسولنا، واذكروا أنتم يا معشر اليهود، إذ قلتم وأنتم في صحراء التيه مع نبي الله ورسوله موسى وأخيه هارون لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61]، وقد عرفنا ما هذا الطعام، إنه المن والسلوى، الحلوى ولحم الطير المشوي، فهل هناك غذاء أتم من هذا؟!هكذا واجهوا نبي الله ورسوله موسى بهذا الكلام الهابط السافل.ويبدو كما أشار بعض أهل العلم إلى أن بني إسرائيل مع موسى ما كانوا يعتقدون رسالته ونبوته، وكأنهم ظنوا أنه خدعهم ومكر بهم، فأخرجهم من الديار المصرية، ولهذا دلائل أيضاً، وظواهر تظهر فيها هذه الحقيقة، أما قالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] في بداية دخول سيناء؟ أما عبدوا العجل؟ صنعوه وعبدوه. إذاً: قلوبهم مريضة، فما هم بواثقين في موسى.أما قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153]؟!أما قالوا: فليسمعنا كلامه؟ هذا يقوله مؤمن موقن؟ والله لا يقوله إلا شاك، وما هو بموقن أبداً.فالآن بعد هذه الآيات العظيمة يقولون لنبي الله موسى: لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61]، ما هذا الأسلوب؟! لَنْ نَصْبِرَ أبداً عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ، هذا موقف محرج لموسى، ثم لو كان الطعام الواحد غير كافٍ .. غير مغذٍ .. غير نافع، هذا في ربوة الطعام وقمته، لحم الطير والحلويات، المن والسلوى. فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ [البقرة:61]، وأنتم لم لا تدعونه؟ ما هو ربكم؟! تلاحظ الأسلوب الهابط أو لا؟ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ كأنهم يقولون: نحن ما هو بربنا، أنت الذي تدعي أنه ربك ادعوه، هو الذي أمرك بإخراجنا من ديارنا، والإتيان بنا في هذه المتاهات والصحارى، ادعوه.هل يليق بنا أن نقول مثل هذا الكلام؟ لا. فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا [البقرة:61]، الباقلاء معروفة. المراد البقول مطلقاً من البصل إلى الخردل إلى كذا .. وَقِثَّائِهَا [البقرة:61]، والقثاء معروفة عندنا. وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [البقرة:61]، هذه هي المغذيات، الفوم: قد يكون المراد به البر، يريدون خبزاً، وقد يكون المراد به الثوم نفسه، فالفوم يطلق عليه الثوم، لكن بما أنهم يريدون أكلة غير الحلوى واللحم، ممكن يريدون الخبز .. الحنطة، وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [البقرة:61].فبم أجابهم موسى عليه السلام؟ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُو نَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى [البقرة:61]، أي: أخس وأحط وأرخص، ولا قيمة له، ما قيمة البصل والثوم مع العسل ولحم الطير؟! أَتَسْتَبْدِلُو نَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61]، أين يذهب بعقولكم؟!ثم قال لهم: بسم الله، والله هو الذي ينزل أمره ونهيه على لسان رسوله موسى، فقال لهم: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [البقرة:61]، وبخهم بالجبن والخور والضعف والهزيمة بمثل هذا الكلام. اهْبِطُوا مِصْرًا من الأمصار، شمال، شرق، غرب، وادخلوا منتصرين فاتحين وكلوا مما طلبتم، أما وأنتم جبناء تعيشون على الضعف والهزيمة الروحية والذاتية، وتترفعون عن أكل ما هو أجود وخير وأحسن، وتطالبون بما هو أخس وأهبط.صلى الله عليك يا موسى، كيف يعاني هذا المعاناة؟! من يقوى على هذه المواقف لولا أن الله عز وجل يعضده ويقويه. اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [البقرة:61]، ما دمتم لا تريدون هذا الأكل، وتطلبون غيره، بل وتطلبون ما هو أخس من الثوم والبصل والقثاء، ادخلوا مصراً من الأمصار، اهْبِطُوا ، لم قال: اهْبِطُوا مِصْرًا ؟ لأنهم في مكان عالٍ .. في مكان مرتفع بالنسبة إلى تلك الأمصار التي فيها الشرك، والكفر، والدناءة، والخسة، والهبوط، وانقطاع الوحي والرسالات، وأنتم الآن مع رسولين كريمين، والوحي ينزل .. مع صفوة الخلق، في أعلى مكان وأقدسه، إذ العبرة بما فيه من أنوار، اهبطوا وكلوا مع البهائم كما تأكل، ولكن في نفس الوقت فيه توبيخه لهم بالجبن والضعف والهزيمة، إذ لو ما جبنوا لكان مشى بهم إلى بيت المقدس وفتحها -والله- معهم، لكن انهزموا قبل الوصول إلى الحدود، وما استطاعوا، قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].

    ضرب الذلة والمسكنة على بني إسرائيل

    وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [البقرة:61]، متى ضربت؟ في أي وقت؟ من ثم بدأتهم؛ لأنهم تمردوا .. كفروا .. فسقوا .. جبنوا، قل ما شئت، فكانت ضربة الله تعالى لهم أن أنزل عليهم الذل والمسكنة، وضربها عليهم فلا يخرجون منها، كالقبة التي تضرب على أهلها، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ فهم دائماً ضعفة .. محتاجون .. فقراء .. لاصقين بالأرض، والذل لا يفارقهم، فلا يستطيعون أن يرفعوا رءوسهم بين سكان العالم، وضربت عليهم كالقبة التي تحوط بأصحابها.ومن ضرب هذا عليهم؟ الله عز وجل. وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:61]، رجعوا في نهاية المطاف يحملون غضب الله وسخطه عليهم.أليسوا أبناء الأنبياء وأولاد المرسلين؟ بلى، ولكن فسقوا عن أمر الله، وخرجوا عن طاعة الله، وتمردوا، ووقفوا مواقف مع رسول الله موسى وأخيه هارون لا يقفها ذو عقل من البشر، فلما واصلوا الفسق والخروج عن الطاعة والتمرد والعصيان؛ فقد استوجبوا نقمة الله، فضرب عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:61].

    علة ضرب الذلة والمسكنة على بني إسرائيل

    يقول تعالى مبيناً العلة: ذَلِكَ الذي تم وحصل، واستقر فيهم، وهو ملازمهم من الذل والمسكنة، ذلك بسبب ماذا؟ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [البقرة:61]، ما معنى: يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ؟ جحدوها، ولم يعترفوا بها، ولم يعملوا بمقتضاها.آيات الله ليست أغاني وقصائد شعرية، آيات الله تحمل الأحكام والشرائع والسنن والقوانين، فالذي بيننا يمنع الزكاة، أو يترك الصلاة، أو يستبيح ما حرم الله، ما آمن بآيات الله، فلا يكفي المرء أن يقول: آمنت بكتاب الله. والله لا يكفيه، ليست قضية لسان: آمنت بكتاب الله، وهو لم يحل ما أحل، ولم يحرم ما حرم، ولم يعترف بواجب ولا بمحرم، يفعل الواجب أو يترك المكروه، فالإيمان ما هو صوري: آمنت. وأنت تضحك وتسخر.فذلك الذي حل بهم، وكان ما أصابهم من الذل والمسكنة هو بسبب كفرهم بآيات الله.وسواء كانت المعجزات التي شاهدوها بأعينهم وهم يعيشون فيها أو كانت آيات الله في التوراة وما تحمل من شرائع وقوانين وبيان الحلال والحرام، ذلك بسبب أنهم كفروا بآيات الله أولاً. وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61]، هل بعد قتل الأنبياء من ذنب؟!وكلمة: (بِغَيْرِ الْحَقِّ) هل هناك ما يستوجب قتل نبي؟ والله لا يوجد، ولكنها من باب التوعية والتفقيه والتعريف والتعليم، لو كان نبياً أو عالماً استوجب ما يقتل به لهان الأمر، لكن بغير الحق .. بغير ما يقتضي قتل النبي والعالم؛ لأنهم كانوا يقتلون الأنبياء ويقتلون العلماء، إذ قال تعالى: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:21]، فإذا قام العالم يعظ، أو يذكّر: يأمر أو ينهى يغتالونه ويقتلونه؛ لأنه شوش عليهم، أو أفسد عليهم طيب حياتهم، وهذا ليس في التيه، هذا عام إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا استعدادهم إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم؛ أما سقوه السم في خيبر ليقتلوه؟ أما تآمروا عليه هنا في بني النضير ليقتلوه؟ أما دخلوا الحرب ضده مع الأحزاب ليقتلوه؟! ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ [البقرة:61]، وكلمة (يَكْفُرُونَ) ليست كفروا، فما زالوا إلى الآن يكفرون، والمضارع يقتضي الحدوث والتجدد، فما قال: بأنهم كفروا، بل يكفرون إلى الآن، وادعهم إلى الإسلام، واعرض عليهم آيات الله يكفرون بها. وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61]، وإلى الآن لو يجدون نبياً يقتلونه، وكل من يعارضهم في ما هم عليه من الفسق، والباطل، والشر، والفساد يقتلونه حتى ولو كان من بني إسرائيل.لكن ما سبب هذا البلاء؟ ذَلِكَ تم لهم، بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61].هل تريدون أن تعرفوا؟الذي يعتاد منا ذنباً من الذنوب على سبيل المثال: شرب الكوكايين أو الأفيون أو الحشيش، ثبت بما لا مجال للشك فيه أنه يتعذر عليه تركه .. يعجز عن تركه.والذي اعتاد الأضاحيك والسخرية والباطل في مجالس خاصة تضيق نفسه، ويمل الحياة ويسأمها إذا انقطع عن ذلك المجلس، فما يستطيب الحياة.والذي ألف مجلس قمار، ولهو، وباطل إذا استمر يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام يصبح طبعاً له.والذي يعتاد الكذب ويستمرؤه ويستحليه يوماً بعد يوم، عاماً بعد عام، يصبح لا يستطيع ألا يكذب.فالذي اعتاد عادة من العادات الباطلة والسيئة هذا شأنه، والآية تعلل لعلماء النفس بما هو فوق مستواهم، كيف يجرءون على الكفر بآيات الله؟ وما بعد الكفر ذنب، كيف يجرءون على قتل الأنبياء والعلماء من إخوانهم .. من أنبيائهم .. من علمائهم، ليسوا مستعمرين لهم دخلوا عليهم بل هم من جلدتهم فكيف يجرءون على هذا؟!يقول الحكيم جل جلاله، وعظم سلطانه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61]، وكيف تمكنت هذه الحالة السوء من نفوسهم؟ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61]، العصيان، والاعتداء، ومجاوزة الحد والشرع والقانون، ذلك بسبب عصيناهم.فمن هنا حرم الله عز وجل الكلمة الباطلة، كلمة فقط لا تسقط السماء، ولا تتناثر الكواكب، ولا يغور الماء، ولا يموت الخلق، ومع هذا حرم الله كلمة فقط يقولها العبد .. حرم نظرة فقط يتعمدها العبد .. حرم أكل حبة عنب .. حرم كل ذنب لما يترتب على ذلك الذنب من أن فاعله يصبح بعد ذلك غير قادر على تركه، ولا يستطيع التخلي عنه.فالعصيان ما هو؟العصيان: أن يأمر الأمير فلا يطاع .. أن يأمر الأب لا يطاع .. أن يأمر الوالد لا يطاع.العصيان عدم الطاعة، عصى يعصي عصياناً إذا لم يستجب للأمر ولا للنهي.والمراد من العصيان وعدم الطاعة: أولاً: عصيان أمر الله ونهيه .. عصيان أمر موسى وأخيه الرسولين ونهيهما .. عصيان العلماء الرشداء كـكالب ويوشع بن نون وغيرهم من العلماء الذين كانوا بينهم صالحين، وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61]، الاعتداء: مجاوزة الحد، لا يقفون عند ما أحل الله وحرم الله، بل يتجاوزون ذلك، ولا يقفون عندما قنن لهم وشرع، يعتدون اعتداء الحيوانات على ما حرم الله ونهى الله عنه من المأكولات والمشروبات والمناكح وما إلى ذلك.

    خطاب الله لبني إسرائيل خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم

    معاشر المستمعين! نرجع لهذه الآيات، ولا نشغل أنفسنا ببني إسرائيل، فإننا نحن المأمورون بهذا والمخاطبون.بسم الله الرحمن الرحيم: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61]، فالذين لا يصبرون على الخبز الحلال، واللحم الحلال، والشراب الحلال، ويريدون ما حرم الله من المطاعم والمشارب والملابس، هل صبروا؟ ما صبروا. ويطلبون هذه المحرمات ويسعون للحصول عليها باختراق أسوار الكتاب والسنة، وما الفرق بينهم وبين أولئك التائهين الذين قالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61]؟ فالذي عنده قرص العيش ولا يرضى به ويحاول أن يكذب أو أن يخدع أو يغش أو يسلب ويغصب حتى يأكل اللحم أو البقلاوة، ما بينه وبين أولئك من فرق أبداً، فهو ما صبر، وطالب بغير ما أعطاه الله.والذي يسكن في خيمة .. في عش كما يقولون .. في كوخ .. يسكن في منزل ويقول: إلى متى وأنا هكذا؟ فيقدم على بنوك الربا ويستقرض الآلاف ليبني، ويعتذر يقول: أين أسكن أنا وأولادي؟! وهذه حال عامة في العالم الإسلامي، وهذا أُسأل عنه طول العام: ماذا أصنع؟ ما عندي مسكن أسكنه؟ إذاً: آخذ من البنك بالقرض، وأبني لنفسي وأولادي، هل يجوز هذا؟ هذا هو مسلك بني إسرائيل: لا أصبر على ما أعطاني ربي؛ خيمة من شعر .. كوخ من خشب وقصب، وأسكن كما يسكن الفقراء والمساكين، ولا أتعدى حدود الله وأخرج عن طاعة الله وأبني لي عمارة أو بيتاً بالمال الحرام، فقد ذبحت نفسي وأنا لا أشعر، والذي يجرؤ على مثل ذلك سوف لا يستطيع أبداً أن يقف عند حد من حدود الله، متى طالبته نفسه، وصاحت به شهوته وهواه، ويسترسل وراء هذا.يتجر بتجارة بسيطة على قدر حاله، لا يصبر، لا يحمد الله على أنه وفر قوتاً حلالاً، وهو الخبز والماء، وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شبع من خبز شعير مرة في يوم واحد حتى لقي الله، ولا يرضى بهذا، ويطلب الربا من البنوك ليوسع التجارة، توسع التجارة لماذا؟ ماذا تريد؟ أتقتل نفسك وأنت لا تشعر، ويأتي بالمال الحرام؟!وآخر يريد أن يتزوج فلا يجد ماذا يفعل؟ يدفع مائة ألف مهراً، ويعد حفلاً لكذا، ويطلب المال من المال الحرام من البنك.لعلي واهم! أنا أعجب منا نحن في ديار القدس كم مصرفاً في المدينة؟ خمسة .. ستة .. عشرة.هل بيننا يهود أو نصارى أو مشركون؟ والله لا يوجد.من هم الذين يأتون البنك ويعمرونه حتى ينمو ويزداد ويفتح آخر .. بعد آخر، كيف يتم هذا؟يتم لأننا ما شكرنا نعمة الله علينا، كاليهود لما قالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة:61]. أو كفرنا وظلمنا وفسقنا يختلف عنهم؟ لا يختلف أبداً.الله يقول: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61]، وعصياننا واعتداؤنا لا بأس به، لأننا ماذا؟ أبناء الأنبياء نحن؟ لا أبداً، هم أبناء الأنبياء، ليس نحن.إذاً: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [البقرة:61]، هذا ينطبق علينا أيضاً أننا نطلب ألواناً من الطعام والشراب والملابس من الخارج؛ من ديار الكفر لنكون مثلهم، وهل يليق بنا هذا؟ لو كنا صالحين نطلب أطعمة ليست من حظنا، ولا من نصيبنا.وأشربة نستوردها، لم ما نشرب الماء الذي عندنا؟ أليس هذا عدم رضا بالنعمة التي بيننا ونطلب غيرها؟ وكيف يصل هذا الطعام والشراب؟ لا تسأل عن حمله وكيف وصل.قال لهم: بسم الله، اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [البقرة:61]، أيها الشجعان! أيها الأبطال! يا من آلمكم هذا الغذاء الطيب الطاهر، وتريدون البصل والثوم، وتريدون المعازف، والمقاصف والملاهي، والأباطيل، اهْبِطُوا مِصْرًا [البقرة:61]، اغزوا وافتحوا، فإذا ما استطاعوا، أسكتهم.

    عاقبة الاسترسال في المعاصي

    قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:61] يا معاشر المؤمنين والمؤمنات! كل من يسترسل وراء المعصية، ويمشي وراءها فيحاد الله ورسوله، ويخرج عن طاعتهما فليعلم أنه سيصاب بما أصيب به مَن قبلنا.والعالم الإسلامي مصاب الآن بالذلة والمسكنة، واليهود أصبحوا أرفع منا .. أصبحوا أعز منا، وأكرم منا في العالم، أليس كذلك؟ ألف مليون مسلم أذلهم اليهود، وهذا من عجائب تدبير الله، وهنا لا تنظر إلا إلى الله، هذا الذي يرفع قوماً أذلهم، بل كتب عليهم الذلة والمسكنة، فيرفعهم ويزيل الذل والمسكنة عنهم؛ لنشاهد آيات الله في الكون.والله ما فعل الله هذا إلا من أجل تأديبنا .. من أجل تبصيرنا وفتح أعيننا، علَّنا نعود إليه، ونمد أيدينا إليه بطاعته والإيمان به.ومع هذا ما استفاق النائمون أبداً، وإنها والله لأعظم آية .. أعظم من آيات موسى، ألف مليون مسلم يذلهم الأذلاء .. يمسكنهم الممسكنون، المضروب عليهم الذلة والمسكنة، أليس هذا عجباً؟ إي والله عجب! لم يفعل الله هذا؟ لأنه ليس له من أولياء إلا نحن، فقط نحن المسلمين أولياء الله، فلما تمردنا عليه وخرجنا عن طاعته يبيدنا؟ يصيبنا بوباء ينهي وجودنا؟ ليس إلا نحن مؤمنون. فلابد وأن يؤدبنا، وهو مظهر من مظاهر التأديب الإلهي، وإلا كيف تتصور أن خمسة ملايين يهودي يذلون العالم الإسلامي ويهينونهم؟! من فعل هذا؟ الله الذي لا إله إلا هو ولا رب سواه، هل أفاق النائمون؟ هل صحا الغافلون؟ ما زلنا كما نحن، ما عرفنا الطريق.وقوله عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [البقرة:61]، هذا تعليم لنا أو لا؟ الذين يكفرون بشرائع الله يعطلونها، وأحكام الله يدوسونها ويتعدونها، ينزل الله بهم نقمه، فليس العالم الإسلامي بأشرف أبداً من أبناء الأنبياء وأولاد المرسلين، والله يقول: وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الجاثية:16]، لكن لما فسقوا، وعصوا، وخرجوا عن الطاعة، وحاربوا أولياء الله من الأنبياء والعالمين بالله. انظر ماذا أنزل عليهم؟ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61].الطابع الأخير: ذَلِكَ [البقرة:61] الذي سمعتم سببه: عصيانهم واعتداؤهم. مجرد عصيان؟ إي نعم، ما أطاعوا الله ولا أطاعوا رسوله، وكانوا يعتدون على حدود الله فيتجاوزونها، وهذا أبو القاسم العليم الحكيم صلى الله عليه وسلم يقول لنا: ( اتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء )، هل عاشرهم؟ هل عاش معهم؟ كيف عرف هذا؟ إنه الوحي الإلهي.

    اتقاء الدنيا بالآخرة

    ( اتقوا الدنيا )، كيف نتقي الدنيا؟ لا نعطيها قلوبنا ووجوهنا، ونجري وراءها للإكثار منها، للتفوق فيها .. للزائد عن الطعام والشراب واللباس والسكن، فالدنيا إذا أقبلت على العبد وأقبل عليها سلبته مخه وعقله، وأصبح مادياً بحتاً، لا يتحرك إلا في مجال الدنيا.كيف نتقي الدنيا يا رسول الله؟ بماذا نتقيها؟ نتقيها بضرتها الآخرة؛ فنقبل على الآخرة، ونحول همومنا كلها إلى الدار الآخرة، فيخف ما نحن مقبلون عليه من الشهوات، والأهواء، والأطماع في الدنيا.نعم! من أقبل على الآخرة أدبر عن الدنيا وأعرض عنها، ومن أدبر عن الآخرة وأقبل على الدنيا أكلته وأخذته، فأصبح أسيراً لها وعبداً.( اتقوا الدنيا )، بم نتقيها يا رسول الله؟ نتقيها بالآخرة، فبدل أن يكون همنا منصب على الدنيا: الأكل، والشرب، والنكاح، واللذة، واللباس، والمركوب، ولا نعطي للآخرة إلا جزءاً لا قيمة له. اليوم أربعاً وعشرين ساعة لا نعطي للآخرة ولا ساعة، الذين يصلون خمس صلوات عبارة عن ساعة إلا ربعاً، أين الأربع والعشرين ساعة؟! ماذا أعطينا للآخرة؟ مع أن الآخرة خير وأبقى، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17].

    واتقوا النساء

    ونتقي النساء، كيف نتقي النساء؟ بم نتقي النساء؟نتقي النساء بتعليمهن بما يحب الله ويكره الله، ليلزمن البيوت، يذكرن الله ويعبدنه.نتقي النساء بعدم فتح باب الخلاعة والدعارة لهن.نتقي النساء بألا نجري وراء النساء، فيسلبن قلوبنا وعقولنا، ويصبح لا هم لنا إلا النساء.وقد أصيب من قبلنا بهذه المحنة، فاليهود أهل كتاب كان سبب هلاكهم ودمارهم النساء، وها نحن نركض في نفس الطريق من إندونيسيا إلى المغرب، في نفس المسلك: الدنيا والنساء ( فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ).وقد ذكر لنا الكعب العالي، فإذا به يباع في المدينة، كانت اليهودية إذا كانت قصيرة الجسم لا تظهر طويلة في الشارع تلبس حذاء كعبه عالي، الآن نساؤنا وبناتنا يلبسن هذا، كيف تم هذا؟

    طريق النجاة

    المهم يا معاشر المستمعين والمستمعات! أن نعلم أننا غارقون، ولا منقذ لنا إلا الله، وطريق الإنقاذ الصدق في الإيمان، ثم الإقبال على الله، فنطلب رضاه بسلوك المسالك التي أمرنا أن نسلكها في كلامنا .. في نومنا .. في يقظتنا .. في لباسنا .. في طعامنا .. في شرابنا .. في تجارتنا .. في فلاحتنا، في كل مظاهر حياتنا، وما عندنا شيء تركه رسول الله ولم يبينه، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ( ما مات رسول صلى الله عليه وسلم وترك شيئاً ينفع هذا الأمة وما دلهم عليه، ولا يضرها وما بينه لهم، حتى قال: علمنا كل شيء حتى الخراءة )، كيف نجلس في المرحاض؟ نجلس جلسة خاصة علمنا ذلك، وإذا بنا نعرض إعراضاً كاملاً، ولم يبق بيننا إلا القليل الذين يحاولون أن يسلكوا مسالك الهدى وأن يسلكوا سبل الخير.وكيف الطريق؟الطريق فقط أن نعود إلى المسجد، فالمسجد ملتقى أرواح المؤمنين من الملائكة، ومن الإنس والجن، بيت الله.كيف يا شيخ؟كهذا الجلوس. اسمع يا بني! واسمعي يا أمة الله! لو كان أهل كل قرية هم الآن جالسون هذا المجلس، فلا دكان مفتوحاً، ولا عمل ولا ولا.. غابت الشمس فهم في بيت الرب، يتلقون الكتاب والحكمة، فكل مسجد في أي حي من أحياء المدن غابت الشمس وهم في بيت الله، أسألكم بالله: هل يضيعهم الله؟هل يسلط عليهم وباء أو أعداء؟هل يبقى بينهم من تسول له نفسه أن يسرق أو يفجر أو يزني أو يعهر؟هل يبقى بينهم من يكيد ويمكر، أو يحسد ويغش إخوانه المؤمنين؟والله لا يبقى؛ لأنه العلم، والعلم معرفة الله، إذ كل ما نشكوه وتشكوه البشرية -كما قدمنا وقررنا- هو الجهل بالله وبمحابه ومساخطه وبما عنده وما لديه، فمن لم يعرف الله لا يطيعه، ومن لم يعرف الله لا يحبه، ومن لم يعرف الله لا يستجيب لندائه.أولاً: معرفة الله، كيف يمكننا أن نعرف الله يا معاشر المستمعين والمستمعات؟ ما الطريق؟الطريق أن نجتمع في بيته ويتلى علينا كتابه، وتبين لنا سنة نبيه، ونطالب بفعل الأمر وترك النهي، وبالتأدب والتخلق لما يحب الله ورسوله، ولنصبر على ذلك، والعام بعد العام وإذا بنا أمة ربانية، فيصبح حكامنا ربانيين، وعلماؤنا ربانيين، ونصبح في وضعية قد نسود فيها العالم، ولا نريد السيادة، وإنما نريد أن نقود البشرية لننقذها من جهنم والخلود في عالم الشقاء.البشرية الآن في أوروبا، وأمريكا، واليابان، والصين تستغيث وتستصرخ، قد أكلها الباطل والشر والدمار، فمن ينقذها؟ ومن يمد يده إليها؟ المؤمنون، الربانيون، العالمون؛ أولياء الله.والذي يعزيني أنا بالذات أن نقول: هذا جزاؤهم، فقد مكروا بالإسلام، وغشوا الناس وخدعوهم، وورطوا العالم الإسلامي في هذا الذل والعار، وهذا الجهل، وهذه الذنوب؛ فليبقوا على كفرهم، وفسقهم، وفجورهم، وضلالهم حتى يخلدوا في عذاب النار، وإن كان هذا لا يكون لكل واحد، فالطغمة التي تحاول ضرب الإسلام مجموعة خاصة، كجمعيات التنصير، وأغلب الشعوب هابطة لا تعرف إسلاماً ولا مسلمين.
    قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً...)

    من كتاب أيسر التفاسير

    قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا [البقرة:58-59]، يصلُّون؟ يجاهدون؟ يتواصلون؟ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة:59]، احذر يا عبد الله الفسق، احذرِ يا أمة الله الفسق! ما الفسق يا شيخ؟! الخروج عن طاعة الله؛ أن يأمرك الله بكذا فتخرج عن الأمر، أن ينهاك الله عن كذا فتتحداه وتفعله، والله لهذا هو الفسق.

    شرح الكلمات

    قال المؤلف: [ شرح الكلمات:(الْقَرْ يَةَ): مدينة القدس.(رَغَدًا): عيشاً واسعاً هنيئاً.(سُجَّدًا ): ركعاً متطامنين لله، خاضعين شكراً لله على نجاتهم من التيه.(حِطَّةٌ): فِعلة مثل ردة وحدة من ردت وحددت، أمرهم أن يقولوا حطة بمعنى: احطط عنا خطايانا، ورفع (حِطَّةٌ) على أنه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: ادخلوا الباب سجداً حطة لذنوبنا.(نَغْفِر ْ) بمعنى: نمحو ونستر.(خَطَايَاك ُمْ): الخطايا جمع خطيئة، الذنب يقترفه العبد.(فَبَدَّلَ ): غيروا القول الذي قيل لهم، قولوه وهو حطة فقالوا: حبة في شعيرة.(رِجْزًا): وباء وطاعون.(يَفْسُقُ ونَ): يخرجون عن طاعة الله ورسوله إليهم، وهو موسى ومن بعده].

    معنى الآيات

    قال المؤلف: [ معنى الآيتين: تضمنت الآية الأولى (58) تذكير اليهود بحادثة عظيمة حدثت لأسلافهم تجلت فيها نعمة الله على بني إسرائيل وهي حال تستوجب الشكر، وذلك أنهم لما انتهت مدة التيه وكان قد مات كل من موسى وهارون، وخلفهما في بني إسرائيل فتى موسى يوشع بن نون ، وغزا بهم العمالقة وفتح الله تعالى عليهم بلاد القدس أمرهم الله تعالى أمر إكرام وإنعام فقال: ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا [البقرة:58]، واشكروا لي هذا الإنعام بأن تدخلوا باب المدينة راكعين متطامنين قائلين: دخولنا الباب سجداً حطة لذنوبنا التي اقترفناها بنكولنا عن الجهاد على عهد موسى وهارون، نثبكم بمغفرة ذنوبكم ونزيد المحسنين منكم ثواباً.كما تضمنت الآية الثانية حادثة أخرى تجلت فيها حقيقة سوء طباع اليهود وكثرة رعوناتهم وذلك بتغييرهم الفعل الذي أمروا به والقول الذي قيل لهم، فدخلوا الباب زاحفين على أستاههم قائلين: حبة في شعيرة! ومن ثم انتقم الله منهم فانزل على الظالمين منهم طاعوناً أفنى منهم خلقاً كثيراً جزاء فسقهم عن أمر الله عز وجل، وكان فيما ذكر عظة لليهود لو كانوا يتعظون ].

    هداية الآيات

    قال المؤلف: [من هداية الآيتين: أولاً: تذكير الأبناء بأيام الآباء للعظة والاعتبار.ثانيا : ترك الجهاد إذا وجب يسبب للأمة الذل والخسران]، كما حصل لنا مع اليهود.[ثالثاً: التحذير من عاقبة الظلم والفسق والتمرد على أوامر الشرع]. كما تعرفون.[رابعاً: حرمة تأويل النصوص الشرعية للخروج بها عن مراد الشرع منها]. كما يفعل جماعتنا.[خامساً: فضيلة الإحسان في القول والعمل].

    قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر ...)
    من كتاب أيسر التفاسير

    شرح الكلمات

    قال المؤلف: [شرح الكلمات:(اسْتَسْ قَى): طلب لهم من الله تعالى السقيا، أي: الماء للشرب وغيره.( بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ): عصا موسى التي كانت معه منذ خرج من بلاد مدين]، فقد كان يرعى الغنم لشعيب عليه السلام، وتلك هي العصا التي امتحنه الله فيها قبل دخول مصر، وأصبحت ثعباناً يهتز كأنها جان.قال: [ وهل هي من شجر الجنة هبط بها آدم؟ كذا قيل، والله أعلم]، ما عندنا ما ننفي ولا نثبت.قال: [ والحجر هو حجر مربع الشكل من نوع الكذّان رخو كالمدر ] كالطين [ وهل هو الذي فر بثوب موسى في حادثة معروفة كذا قيل، أو هو حجر من سائر الأحجار؟ الله أعلم ] تعرفون الحجر الذي هرب بثوب موسى؟ بنو إسرائيل قالوا: موسى آدر، به أدرة. أي: خصيته منتفخة، فلهذا لا يغتسل معنا في ساحل البحر. فأراد الله أن يكذبهم، فدخل موسى وحده يغتسل ووضع ثوبه على حجر -صخرة- ولما خرج وإذا بالحجر يهرب .. يزحف بالثوب، ناداه موسى: ثوبي حجر .. ثوبي حجر، لا يسمع له، حتى دخل في بني إسرائيل، وشاهدوا موسى عرياناً وما به أدرة. وهذا جاء من سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]. هل هو هذا الحجر؟ جائز، والله أعلم. لما يذكر أهل التفسير القول ما فيه كتاب ولا سنة، ما ننفي، لكن نقول: الله أعلم.قال: [ ( فَانفَجَرَتْ ): الانفجار الانفلاق. ( فَانفَجَرَتْ ) انفلقت من العصا العيون ] الاثنتا عشرة عيناً.[( مَشْرَبَهُمْ ): موضع شربهم.( رِزْقِ اللَّهِ): ما رزق الله به العباد من سائر الأغذية.(وَلا تَعْثَوْا): العَثي والعِثي: أكبر الفساد. وفعله عثي كرضي، عثي يعثى كرضي يرضى، وعثا يعثو، كعدا يعدو]. أقبح الفساد، أو هو نشر الفساد. كيف ينشر الفساد الناس؟ يفتح. تعرفون ما يفتح؟ يفتح فمه؟ يفتح الفيديو، يفتح سينما.قال: [ ( مُفْسِدِينَ ): الإفساد العمل بغير طاعة الله ورسوله في كل مجالات الحياة ]. والله العظيم لكل من عمل بغير ما شرع الله ورسوله لهو مفسد في الأرض، ولن يفسد شخص ولا أقليم ولا أمة إلا بمعصية الله والرسول.قال: [( البقل ): وجمعه البقول سائر أنواع الخضر كالجزر والخردل والبطاطس ونحوها.( القثاء ): الخيار والقثه ونحوهما.( الفوم ): الحنطة، وقيل: الثوم لذكر البصل بعده ] والله أعلم. لكن الراجح أنه الحنطة لأجل الخبز، فهم يطلبونه.قال: [ ( أَتَسْتَبْدِلُو نَ ): الاستبدال ترك شيء وأخذ آخر بدلاً منه.( أدنى ): أقل صلاحاً وخيرية ومنافع كاستبدال المن والسلوى بالثوم والبقل.( مصراً ): مدينة من المدن، قيل لهم هذا وهم في التيه، كالتعجيز لهم والتحدي؛ لأنهم نكلوا عن قتال الجبارين، فأصيبوا بالتيه وحرموا خيرات مدينة القدس وفلسطين.( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ): أحاطت بهم ولازمتهم الذلة وهي الصغار والاحتقار.( والمسكنة ): هي الفقر والمهانة.( باءوا بغضب ): رجعوا من طول عملهم وكثرة كسبهم بغضب الله وسخطه عليهم -والعياذ بالله- وبئس ما رجعوا به.( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ): ذلك إشارة إلى ما أصابهم من الذلة والمسكنة والغضب، وبأنهم أي بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء وعصيانهم، فالباء سببية ].وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #63
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (56)
    الحلقة (63)




    تفسير سورة البقرة (27)

    ركنان أصيلان من أركان الإيمان ينبثق عنهما بقية الأركان هما: الإيمان بالله واليوم الآخر، فمن آمن بهما حق الإيمان وأتبعهما العمل الصالح استحق الأمن والفرح، هذه قاعدة عامة من لدن آدم إلى قيام الساعة، بما في ذلك اليهود، الذين كثيراً ما يراوغون، ويردّون أوامر الله، وينقضون مواثيقه، بل من عجيب أمرهم أن الله رفع فوقهم جبل الطور ليعملو بما في التوراة فخروا خاضعين، ثم ما لبثوا أن ارتدوا على أدبارهم.

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطعِ الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [البقرة:62-64] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!اذكرو أن هذه الآيات تنزل واليهود من سكان المدينة، واليهود -كما عرفتم- شعب يقال لهم: بنو إسرائيل، ثم عرفوا باليهود، وهؤلاء بينهم علماء من ذوي العلم والمعرفة؛ لأنهم أهل كتاب، ولكن حبهم العاجلة، ورغبتهم في الدنيا، وتطلعهم إلى الحكم والسيطرة والسيادة صرفهم صرفاً كاملاً عن الإسلام، ورضوا بالنار من أجل أن يصلوا إلى هدفهم الذي لن يصلوا إليه بإذن الله.وهذه السورة مدنية من أوائل ما نزل بالمدينة، فبدأت تذكرهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40]، اذكروا عهودكم لله ومواثيقه، ويستعرض عليهم ما كان عليه أسلافهم قروناً متعددة؛ من أجل هدايتهم .. من أجل رحمتهم والإحسان إليهم.وقد تقدم لنا الكثير وهو يقول لهم: اذكروا كذا .. اذكر يا رسولنا لهم كذا.وآخر ما ذكرهم به هو قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61] فهذا الموقف في الحقيقة يجعلهم ييأسون من رحمة الله بما سجل الله تعالى عليهم: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فلا تفارقهم وَالْمَسْكَنَةُ كالقبة عليهم لا يخرجون منها؛ بسبب كفرهم بآيات الله .. قتلهم للأنبياء .. عصيان، وتمرد، وخروج عن طاعة الله بلا حد.ومعنى هذا -كما قدمت لكم- أنه أيأسهم من الخير بالكلية حسب الخطاب الإلهي، لكن رحمة الله واسعة، والله غفور رحيم، والله تواب رحيم، فاسمعوا ماذا قال، وهو فتح لباب الرجاء لهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]. فلا تقنطوا ولا تيأسوا، آمنوا واعملوا الصالحات فينتفي عنكم الخوف، ويحق لكم الأمن، ويذهب الحزن، ويحل محله السرور والفرح، نِعمَ الباب فتحه الرحمن.

    المسلمون هم أهل الإيمان الحق

    إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:62]، وهم نحن إن شاء الله، فالذين آمنوا إيمان حق وصدق، لا إيمان نفاق وكذب .. آمنوا الإيمان المطلوب، الذي هو تصديق الله تعالى، وتصديق رسوله في كل ما أخبرا به، سواء كان مما تدركه العقول أو تعجز دونه العقول، وسواء أخبر الرحمن بخبر في الملكوت الأعلى أو الأسفل، في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، أو أخبر رسولُه صلى الله عليه وسلم وصح الخبر؛ لأن أخبار الله في القرآن لا يعتريها النقص ولا الزيادة، إلا أن أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ما هي إلا روايات تروى وأحاديث تؤثر، فلابد وأن يصح الخبر.فإذا صح الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه قال كذا، فمن كذبه كفر.لكن إذا كان الحديث ضعيفاً أو له احتمالات أخرى فلا يكفر، وإن كنا لا نرضى له هذا الموقف، ما دام قد بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لا يحمل على محمل الكفر؛ لأن الروايات فيها ما يقبل وفيها ما يرد كما تعلمون. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:62]، وهم المسلمون بحق وصدق.

    سبب تسمية اليهود بهذا الاسم

    (( وَالَّذِينَ هَادُوا ))[البقرة:62]، وهم اليهود.لِم قيل فيهم: (هادوا) وقيل فيهم: اليهود؟إما أن يكون الاسم مشتقاً من يهوذا بن يعقوب عليه السلام، يهوذا أخو يوسف وابن يامين، فأسقطوا النقطة عن الذال فأصبح دالاً: يهود، لكن الأصح أنه مأخوذ من قولهم: (هدنا إليك) من هاد يهود إذا عاد ورجع وتاب، وهم بالفعل في حادثة العجل في سورة الأعراف، جاء قول الله تعالى عنهم: (( إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا .. ))[الأعراف:156] الآيات، (هُدْنَا) أي: رجعنا، فهذا الأصل في كلمة (يهود).(( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا )) أي: رجعوا إلى الله وتابوا، وهو يعني اليهود.

    سبب تسمية النصارى بهذا الاسم

    (( وَالنَّصَارَى )) والنصارى هم المسيحيون إن صح التعبير؛ لأنهم ينتسبون إليه، أو الصليبيون كما هو حالهم، والصلبان في أعناقهم.هؤلاء هم النصارى. لكن من أين اشتق هذا اللفظ؟أقرب ما نقول: إنها من قرية الناصرة التي ولد فيها عيسى عليه السلام، إذ كانت بها والدته مريم عليها السلام، أو من النصر، أو المناصرة، فالكل جائز، والعبرة ليست بالاشتقاق، العبرة أن نعرف من هم النصارى، ألا هم الصليبيون؛ المسيحيون؛ الذين عبدوا عيسى عليه السلام وألّهوه، وجعلوه ثالث ثلاثة، سواء كانوا عرباً أو عجماً، بيضاً أو سوداً.

    التعريف بالصابئين

    (والصابين) هكذا قراءة ورش عن نافع، بإسقاط الهمزة: (والصابين)، ومن همز قال: (وَالصَّابِئِين )، والعرب تقول: صبأ فلان إذ مال عن دينه ودين آبائه وأجداده إلى دين محمد .. إلى لا إله إلا الله، يقولون فيهم: صابئة.والصابئة: فرقة من الناس كانت ديارهم بأرض الموصل، وهم ليسوا بيهود ولا بنصارى، يقولون: لا إله إلا الله، ولم يتابعوا المسلمين، ولا اليهود، ولا النصارى. هؤلاء هم الصابئة، وهم الصابئون والصابون.

    عظم منزلة الإيمان بالله واليوم الآخر

    وهؤلاء الفرق أهل الأديان: المسلمون واليهود والنصارى والصابئون، يقول تعالى -واسمع الخبر-: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:62]، كيف يؤمن بالله واليوم الآخر؟ يؤمن بوجود الله رباً وإلهاً، فلا رب غيره، ولا معبود سواه، بيده ملكوت كل شيء، وإليه المصير، المعبود بحق، الذي هو رب السماوات والأرض وما بينهما، رب العالمين، رب موسى وهارون، ورب عيسى ومحمد وعامة المرسلين، من آمن منهم بالله رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه. ولازم هذا أنهم انقادوا ومشوا في سبيل مرضات الله عز وجل. وهذه القضية أصبحت عندنا من الضروريات أن الإيمان بمثابة الروح، فإذا حل الإيمان في القلب اندفع العبد، فيمكن أن يغض بصره .. أن يسد سمعه .. أن يكف لسانه .. أن يمنع يده .. أن يوقف رجله لوجود طاقة عنده، فإن لم يكن مؤمناً أو إيمانه ضئيل وضعيف لا قيمة له، فلا يستطيع حتى كلمة الحق أن يقولها. مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:62] وهل هناك يوم أول ثم يوم آخر؟ نعم، الحياة الدنيا هي الأولى، والآخرة هي القيامة، اليوم الآخر الذي تنتهي فيه هذه الحياة، وتبتدئ حياة جديدة حياة الخلد والبقاء الأبدي، وهذه كالدورة فقط يقضيها الناس، وينتهون إلى دارهم الخالدة الباقية، إذ شاء الخلاق العليم هذا، فأوجدنا على سطح هذه الأرض مؤقتاً، ولما تنقضي الساعة والأجل يتحلل الكون، ويتبخر كل ما فيه، ويعود سديماً وبخاراً، وإذا بنا في العالم الثاني؛ اليوم الآخر، تمر السنة والشهر والأسبوع، ويوم بعد يوم، ويأتي يوم آخر، يوم ليس بعده يوم.والذين يؤمنون باليوم الآخر، هذا الجزء هو داخل في الإيمان، وأركان الإيمان ستة، هي: الإيمان بالله، وبملائكته، وبكتبه، وبرسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، ولكن الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر هما الطاقة القوية القادرة على أن تدفع بالإنسان حيث يموت في سبيل الله.فالذي يضعف إيمانه بالله يضعف عمله، والذي يضعف إيمانه باليوم الآخر يضعف عمله أكثر، ولا يقوى على أن يصلي ركعة لله؛ لأنه آيس من جزاء يتلقاه ويعطاه بعد نهاية الحياة، فهو لا يؤمن بنهايتها؛ ولهذا عندما تتتبّع القرآن تجد: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232]، إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، في النساء .. في الحيض: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228].يا معشر المستمعين والمستمعات! قووا إيمانكم بالله وبلقائه، أي: باليوم الآخر، فإذا حصل ضعف أو فتور في الركنين حبست يا ولدي، ولم تستطع أن تتحرك، فقوِ إيمانك بالله واليوم الآخر.وحسبنا أن الله اشترط للأمن والسرور والفرح هذا الشرط: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ .

    حقيقة العمل الصالح وشروطه

    وَعَمِلَ صَالِحًا [البقرة:62] وعمل عملاً صالحاً.وقد عرف أهل الدرس -زادهم الله معرفة- أن العمل الصالح هو الذي أمر الله بفعله، أو أمر رسوله بفعله، وأن يفعله عبد الله ولا يريد به إلا وجه الله، وهو ما يعرف بالإخلاص، أي: أن لا يلتفت إلى شيء وهو يؤدي ذلك العمل لله.ثانياً: أن يفعله حسب التعليم الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا لن يكون صالحاً.أعيد ما قد ينساه الناسون وهو أن العمل الصالح المزكي للنفس .. المطهر للروح .. المنتج للخيرات والبركات، هذا العمل أولاً: أن يكون قد شرعه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والدليل: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، هذا الحديث ربع الشريعة أو ثلثها ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، أي: مردود على صاحبه، فلو قام الليل كله في عبادة لم يشرعها الله لن يُجزَ بها أبداً خيراً، ولو أنفق كل ماله في غير ما أذن الله واستحب وشرع -والله- لن يستفيد شيئاً، ولهذا نجانا الله من البدع، فأهل البدع ينفقون الأموال، ويقضون الساعات بله الأيام والليالي ويخرجون بلا شيء، ولا حسنة، لِم؟ لأن ما عملوه ليس عملاً صالحاً، فما شرعه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا ) ما شرعناه، فهو رد على فاعله، سواء كان من أعمال القلوب أو الألسن أو الجوارح، كالجماعة الذين يجلسون في مجلس طيب مبارك! ويذكرون الله: (هو .. هو .. هو .. هو .. هو .. هو) ساعات.وقد حدث مرة في فرنسا أن الجيران الفرنسيين استدعوا الشرطة قالوا: ما الذي أصاب هذا الجار؛ لأنهم جالسين على سقف خشب ويضربون (هو.. هو.. هو) تهولت الدنيا، كالذين يذكرون: (الله .. الله .. الله .. الله .. الله .. الله) ساعتين أو ثلاثاً أو أربعاً.هل الله عز وجل شرع هذا الذكر؟!هل الرسول صلى الله عليه وسلم علمه أمته؟ بينه لزوجاته وبناته؟ علمه أصحابه؟ من أين لكم أنتم؟ فقط لأن فيه روحانية ولذة: (الله .. الله .. الله .. الله) فلا يعطون ولا حسنة.أصحاب الموالد .. الذبائح .. الأموال .. قناطير السكر، وأكياس الشاي، يظنون أنهم يثابون، ولا حسنة واحدة أبداً، سواء كان مولد سيد الخلق أو مولد سيد البدوي لا فرق بينها، كلها واحدة؛ لأن الله ما شرع الموالد.نعم. من ولد له ولد ذكر أو أنثى وفي اليوم السابع يذبح لله عز وجل؛ شكراً له على نعمة الولد، نعم، يثاب. على البنت شاة، وعلى الذكر شاتان، هناك من يقول: لا ينفع؟ ممكن يقولها عاقل؟ هذا تشريع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا المولد مشروع، أما بعد أن تمضي أربعون سنة ويقال: ذكرى مولد والدتي؛ لأنهم بيت غنى، فلا.الشاهد عندنا: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ).اسمعوا أغلظ لكم: لا يجوز لمسلم جالس الآن أو مسلمة يقوم من هذا المكان ولا يحفظ هذا الحديث، فقد تساهلنا كثيراً وضاع العلم، وكيف لا تحفظ هذه الكلمة، قلها بالبربرية .. بالإنجليزية، علمها أهلك: الرسول الكريم نبينا صلى الله عليه وسلم يقول لنا: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) تعجز عن هذه الكلمة، إذاً: كيف تعيش؟ لِم تعرف اللحم؟ والخبز كم يساوي؟!( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) إن قلت: ما فهمت معنى (ليس عليه أمرنا)؟ أي: ما أمرنا به، ولا دعونا إليه، ولا رغبنا فيه، ولا بيناه للناس، فهو بدعة، يعني: ابتدعت واخترعت.ما فهمت معنى ردّ! ما تفهم معنى ردّ! أي: مردود على وجهك، لا يقبل. أغلظت لكم أو لا؟والله إنها لخير لك من خمسين ألف ريال، يا من كنت لا تحفظ وقد حفظته، والله إنه أفضل من خمسين ألف ريال. هذا نور، ومن يوم أن عرفنا هذا الحديث لا يستطيع أحد يروج علينا بدعة أبداً، كيفما كانت ننفر منها ونهرب: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، اضرب به وجهه، لا تدعُني إلى باطل.نريد عملاً يزكي نفوسنا .. يطهر أرواحنا .. يوجد مادة النور في قلوبنا.ثانياً: أن تفعله كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تزد ولا تنقص، فإن زدت أو نقصت فيه بطل مفعوله وفسد، ولا تقدم ولا تؤخر، فإن قدمت أو أخرت أجزاءه بطل مفعوله ولا ينتج.وعندنا مثالان مركبات الكيمياويات: حبة الآسبرين كم جراماً فيها؟ خمسة جرامات، يقول الطيب: هذه اشربها بعد الأكل، فأنت قمت تقسمها على خمسة أقسام أو ستة وتأخذ جزءاً منها فقط، ينفع؟ لا ينفع. تقول: ماذا حبة، تأخذ عشر حبات مع بعضها البعض، ينفع أو يقتل؟ هذا مثال.أما المثال العملي: صلاة المغرب كم ركعة؟ ثلاث ركعات، فلو قمنا ونحن مسلمون، مؤمنون، وصالحون، هيا نصلي المغرب خمساً الليلة لله، وصلينا خمس ركعات، هل يوجد تحت السماء من يقول: صلاتكم صحيحة؟! لماذا نحن كفرنا .. أشركنا .. كذبنا رسول الله، ما هو ذنبنا؟ الفقيه يقول: لا، صلاتكم باطلة، بمعنى: لا تنتج لكم الحسنات، وما ولدت شيئاً؛ لأن مفعولها بطل لفسادها، ومن أين أتاها الفساد؟ من الزيادة، زدنا ركعتين.

    النقصان من دين الله كالزيادة فيه

    والنقصان كالزيادة، فلو قلنا: يا جماعة! نحن الآن في تعب وإعياء هيا نصلي المغرب ركعتين فقط، ونحن مسلمون، ربي ليس في حاجة إلى هذا الركوع والسجود، وصلينا ركعتين، هل يفتينا فقيه تحت السماء في الشرق والغرب بأن صلاتنا صحيحة، فيقول: صحيحة؟ والله لا يوجد من يقول ذلك.إذاً: الزيادة كالنقصان؛ لأنها مركبات أدق من الكيمياويات؛ لأنها وضعت لتنتج النور .. لتولد الكهرباء، ليست قضية هينة، أمن السهولة واليسر أن تولد أنت الكهرباء بدون أجهزتها وأدواتها؟ اضرب بعصاك وولّد!فهذه العبادة لتوليد النور، فإن لم تكن مما شرع الله والله لن تولدها، فإن لم تأتِ بها كما هي في صفتها .. في كميتها، والله لا تولده.العمل الصالح هو ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وراعى فيه فاعله الإخلاص، فإن أشرك بطل، وإن التفت إلى غير الله يريد أن يريه عمله ليثني عليه، أو يشكره، أو يجزيه به خيراً، أو يدفع عنه المذمة بطل العمل، واقرءوا: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ماذا؟ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]. والرسول يقول: ( إياكم والشرك الأصغر. قالوا: يا رسول الله! ما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء )، كأن يتصدق الرجل صدقة لله، ويريد أن يسمع بها الناس ويروها. يدخل في الصلاة يحسنها .. ينمقها .. يزينها حتى يقال: فلان يحسن الصلاة، هذا هو الرياء، وهو يبطل العمل.فلا يقبل الله تعالى إلا ما كان لوجهه خاصة، فإن التفت إلى غير الله فاطلب الأجر من غير الله.

    ضرورة التقيد بزمان العبادة ومكانها

    أرأيتم لو صلينا العشاء الليلة، وقال خادم الحرمين -أطال الله عمره-: غداً أهوال، صلوا الصبح حتى ما ترجعوا الليلة من بيوتكم. وصلينا الصبح بعد صلاة العشاء، هل يوجد تحت السماء من يقول: صلاتكم صحيحة؟ يا شيخ! ما فعلنا إلا الطاعة؟ أبداً، صلينا لله، الله ليس في حاجة إلى الزمان ولا المكان، صلاتنا ما بها؟الجواب: صلاتكم باطلة، وما معنى باطلة؟ لا أجر فيها، ولا ثواب عليها؛ لأن مولاها ما قبلها، والعلم عندكم؛ لأنها لا تزكي النفس، ولا تولد الطاقة النورانية؛ لاختلالها، وهذا هو سرها.الآن عرفتم ما هو العمل الصالح؟رقص! شطح! أضاحيك! ألاعيب! بدع وضلالات!العمل الصالح: هو ما شرعه الله لعباده لتزكية أنفسهم وتطهير أرواحهم ليقبلهم في جواره؛ لأن الله يحب المتطهرين، وهذه الطهارة لن تتم إلا على تلك العبادات التي شرعها الله وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم في الكيفية والعدد، والزمان، والمكان.ومثلنا غير ما مرة: لو عزمنا هذا العام أن نقف بأحد، وجبل أحد جبل عظيم، قال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( أحد جبل يحبنا ونحبه )، فلما جلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نهاية معركة أحد اضطرب، ماذا؟ قال: ( اسكن أحد ما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان )، فنادى الجبل: اسكن يا أحد، لم تضطرب؟ ما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان، وسكن، قلنا: هذا العام الوقفة في أحد. هل يقال: هؤلاء حجوا؟ لأن الوقفة تكون بعرفة. قلنا: هذا العام ننقلها إلى المدينة، فهي حرم، ومكان مقدس. والله ما حجوا أبداً، ولن يحدث هذا الوقوف في نفوسهم أقل من جرام نور.لابد من المكان أو لا؟( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقبرة والمجزرة وقارعة الطريق ومعاطن الإبل )، فلو صلينا حيث نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم تصح الصلاة في المقبرة، والمجزرة، ومعاطن الإبل، وقارعة الطريق. وقارعة الطريق حيث يقرع الناس الأرض بأرجلهم، أي: ممر الناس، فأنت تأتي وسط الطريق: الله أكبر، تصلي، والناس يقفون من هنا وهنا، ينتظرونك، آذيت المؤمنين، كيف يجوز لك هذا، صلاتك باطلة.والذي يصلي في معاطن الإبل، إذا هاج البعير ورفع رأسه وضربه برجله، فتدخل تصلي وأنت خائف ما تدري تتمها أو لا؟ لا يجوز.والشاهد عندنا: إذا راعى الشارع المكان فلابد من ذلك وإلا بطلت العبادة.الزمان، لو أردنا أن نقدم رمضان فنصومه في شعبان لظروف خاصة، وأعلنا: العام المقبل أيها المسلمون! الصيام في شعبان، إما لحر شديد يواجهنا، أو لكذا، وصمنا ثلاثين يوماً باسم الله، بإذن الله نيابة عن رمضان، هل في من يقول: صح صيامكم؟ والله لا يوجد واحد، قط، لِم؟ ماذا فعلنا؟ الزمان غير الزمان.إذاً: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا [البقرة:62]، هل عرفتم العمل الصالح؟ العمل الصالح يكون إذا توفرت فيه تلك الشروط.

    عاقبة أهل الإيمان والعمل الصالح من أهل الأديان

    قال تعالى: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البقرة:62]، فهو الذي يتولى الجزاء، وأجرهم: مثوبتهم مقابل عملهم عند ربهم، مذخور لهم ومخبأ، فيعطيهم منه في الدنيا، ويعطيهم كاملاً في الآخرة. فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]، إذاً: انتفى الخوف ماذا يكون بعده؟ الأمن، وإذا انتفى الحزن ماذا يكون بعده؟ السرور.إذاً: آمن ومسرور، هذه هي السعادة. السعادة أمن وسرور .. السعادة أمن وفرح، فرح وخوف ما هي بسعادة .. أمن وحزن ما هي بسعادة، أمن وسرور وفرح: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62].وهذا بيان الله عز وجل لكل البشرية، فمن أراد أن يأمن من عذاب الله، وأن يفرح بلقاء الله في دار السلام فعليه أن يؤمن حق الإيمان ويعمل صالحاً.وما السر في هذا؟ لأن الإيمان يدفع إلى العمل الصالح ويقويه، والعمل الصالح يزكي النفس ويطهرها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].وعاد السياق إلى اليهود، بعدما أزال ذلك الهم من نفوسهم، وقال: لا تيأسوا، لا تقنطوا، أنتم كغيركم، اسمعوا خبر الله: من آمن من اليهود .. من النصارى .. من المجوس .. من المسلمين وعمل صالحاً فلا خوف ولا حزن، والأجر مذخور لهم عند الله يوم القيامة.
    تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة ...)
    ثم واجههم فقال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:63]، اذكروا يا بني إسرائيل، اذكر يا رسولنا لهم، إذ أخذنا ميثاقكم، والميثاق هو العهد المؤكد الموثق، كما توثق الشاة بالحبل، توثقها: تربطها بحبل.إذاً: أخذ ميثاقهم، أين هذا الميثاق؟ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:63]، اذكروا الوقت الذي جئتم مع نبي الله موسى واجتمعتم، وطلب إليكم أن تحملوا التوراة، وتتحملوها، ليأخذ عليكم عهداً وميثاقاً أن تقرءوها وتفهموها وتعملوا بما فيها.فهؤلاء اجتمعوا وموسى هو الذي جمعهم عليه السلام ليأخذ منهم عهداً على أن يعملوا بالتوراة، أولاً: يقرءونها .. يفهمونها .. يعملون بما فيها، من سورة الأعراف قال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ [الأعراف:171].إذاً: ذكرهم بهذه الحادثة، ومع الأسف لما قال: هذا هو كتاب الله .. هذا هو التوراة، تعهدوا أن تقرءوا وتفهموا وتعملوا بما فيه، قالوا: لا نستطيع.أنت تعرف ظروفنا وأحوالنا والدنيا وأتعابها، كيف نلتزم، ما نستطيع.يا عباد الله! أعطوا عهداً لربكم، هذا هو كتاب هدايتكم .. كمالكم وإصلاحكم وسعادتكم، التزموا بعهد منكم. قالوا: لا نقدر.يا شيخ! لو عرض هذا على المسلمين اليوم يقولون: نقدر؟!حتى لا تفهموا فهماً بعيداً، الآن يعرض على المسلمين العودة إلى الإسلام، ما استطاعوا، قالوا: ما نقدر، هذه الظروف وكذا والأحوال، كيف نقص اليد، وكيف نعمل و.. كيف نجتمع للصلاة كلنا ونغلق أبوابنا؟!هل هذا واقع أو لا؟!طالبناهم فقط بما بين المغرب والعشاء، إذا مالت الشمس إلى الغروب وقف دولاب العمل، فأغلقت الدكاكين والمتاجر .. المزارع .. المصانع.إلى أين؟ إلى بيت الرب وليس بيت الحاكم.. إلى بيت الله بأطفالنا ونسائنا، ونجتمع من المغرب إلى العشاء كاجتماعنا هذا، ليلة آية وليلة حديثاً، أي: مع الله ورسوله، طول العام، فهل يبقى بيننا جاهل أو جاهلة؟ والله ما كان.أما النتائج فلا تستطيع أن تقدرها، فيختفي الظلم، والشر، والخبث، والفساد، والفقر، والبلاء والإسراف، كلها تنتهي؛ لعلمنا أن العالم العارف بربه لا يفجر .. لا يشهد شهادة الزور .. لا يزني بامرأة مؤمن .. لا يفسد عليه عبده، هذا أمر مسلم به.هل قالوا: نستطيع؟ دلوني، عام كامل ونحن نصرخ، فما استطاع أهل حي من أحياء المدينة أو أهل قرية أن يجتمعوا.عرفتم: أن بني إسرائيل لما قالوا: لا نستطيع يا كليم الله، فأمورنا ودنيانا وأشغالنا ... كيف نلتزم؟ ونخاف إذا التزمنا وخنّا يهلكنا الله ويعذبنا.فماذا فعل الله؟ ما كان من الله تعالى إلا أن نقض الجبل من أسفل ورفعه كالسحابة السوداء على رءوسهم: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الأعراف:171]، هل هو جبل الطور أو جبل آخر، هذا كله جائز، والمهم جبل نتقه الله من أسفل، وارتفع كالظلة على رءوسهم، والآن تأخذون أو لا؟ قالوا: نأخذ، وسجدوا سجدتهم، الآن في البِيع كيف يسجدون؟ اليهود لا يسجدون كما نسجد، يسجدون على خدودهم؛ لأن هذه السجدة نجاهم الله بها، لأنهم من الخوف ينظرون الجبل فوق وهم ساجدون، وإلى الآن يسجدون هكذا، فلما ارتفع، والآن تأخذون؟ قالوا: نأخذ، نطبق، ونقرأ، ونعمل بما فيه.

    تفسير قوله تعالى: (ثم توليتم من بعد ذلك ...)

    هل وفوا؟ قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة:64] أي: رجعتم لما كنتم تقولونه قبل العهد، فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [البقرة:64].قلت لكم: عرفتم هذه الحادثة، ذكرها تعالى في سورة الأعراف: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف:171]، هل تم هذا؟ وبعد ذلك هل اجتمعوا على التوراة فدرسوها .. قرءوها .. عملوا بما فيها كما هو حال المسلمين؟ ولا فرق، فنحن واليهود على حد سواء، فلهذا يقول علي بن أبي طالب : يهتف العلم بالعملإن أجابه وإلا ارتحلاحفظ: يهتف العلم بالعمل: يا عمل؛ فإن أجابه وإلا ارتحل.ومعنى هذا: أن العلم إذا لم تعمل به لن يبقى عندك، ولن يستقر في ذهنك ولا نفسك، إلا إذا طبقته، وعملت به، فالذين علموا في هذه الليلة: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، إذا لم يعملوا به انتهى، ينسونه، لكن إذا حُفظ، وكلما تعرض عليهم بدعة آه، ينظرون الرسول قال: ( من عمل عملاً )، لا ينسى هذا أبداً.إذاً: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:63]، هل يخاطب اليهود الموجودين أو الأولين؟! قدمنا أنهم أمة واحدة، أولهم كآخرهم؛ لأنهم انتماء واحد، ولا في فرق بين يهود اليوم واليهود الذين كانوا أيام الرسول، والذين كانوا أيام سليمان وداود أو موسى وهارون، أبداً لا فرق، وما داموا أمة واحدة .. منهجاً واحداً .. عقيدة واحدة، فخطابهم واحد. وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:63] وقلنا لكم: خُذُوا القرآن واحفظوه، وادرسوه، واعملوا بما فيه، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:63] عذاب الله وخزيه. وإذا بنا نقول: لا نستطيع.هذا واقعنا نحن يا مسلمون، أسألكم بالله: القرآن بين أيدينا أو لا؟ من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب هل اجتمع أهل قرية فقط، لا أقول: إقليم ومملكة، أهل قرية فقط، اجتمعوا على كتاب الله بنسائهم وأطفالهم يدرسون ويعلمون ويعملون بما فيه؟! دلوني، هل هذا موجود؟ أوما أخذ علينا الميثاق؟ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]، وهذه الآية من سورة المائدة آخر ما نزل، ومن المخاطب بهذا؟ اليهود؟ لا، والله، من هم؟ المسلمون. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ متى؟ لما قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]، فكل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقد أعطى عهداً وميثاقاً أن يعبد الله ولا يعبد معه سواه، ولا يقر أو يعترف بعبادة غير الله، حتى الموت.ثانياً: أن يمشي وراء رسول الله .. أن يطيع رسول الله في السراء والضراء .. في المنشط والمكره، وفي كل الأحوال، ولا يتقدمه، ولا يأتيه عن يمينه، ولا عن شماله، وإنما يمشي وراءه حيث وضع الرسول صلى الله عليه وسلم رجله وضع رجله هو.فهل عرفنا وطبقنا هذا؟!مرة ثانية: هل اجتمع أهل قرية بنية أن يدخلوا في رحمة الله عز وجل: النساء وراء، والأطفال أمامهن، والفحول أمام الجميع، والمربي ليلة آية تكرر تكرر حتى تحفظ، ثم يبين لهم معناها بلغة لسانهم، فهمتم ما قال ربكم؟ قالوا: نعم، قالت خديجة : لا، أنا ما فهمت. اسمعي يا أمة الله، معنى الكلام كذا وكذا وكذا، فهمتم، قال فلان: أنا ما فهمت. اسمع أعيد لك، الله يطلب منا أن نفعل كذا، أو نترك كذا، أو نؤمن بكذا، حتى يفهموا.وأخيراً، فهمتم ما أراد الله منكم؟ ماذا أراد؟قال: (أقيموا الصلاة) فلا يتخلفن رجل ولا امرأة إذا نادى منادِ الله: أن حي على الصلاة. وفي يوم آخر: الله يكره .. الله يسخط .. الله يبغض الذين يمشون بالنميمة بين المسلمين، ويقطعون أوصال المؤمنين والمؤمنات. عرفتم؟ قالوا: نعم. قرأتم الآية؟ قالوا: قرأنا.إذاً: لا يمكن أن يرى الله في قريتنا من ينقل كلمة سوء ليحطم بها فلاناً أو يمزق صلة فلان.أبعد هذا يبقى ربا .. يبقى زنى .. تبقى سرقة .. يبقى دش وأغاني وأباطيل؟! لن يبقى هذا أبداً.أحببت أن نفهم، لا نعيب على اليهود ما هم عليه ونحن غارقون أعظم من غرقهم، غارقون متى نثوب إلى رشدنا ونعود إلى ربنا، دلونا. الواهمون: الخلافة الإسلامية .. الحاكم المسلم! هراء .. باطل، كم مرت من سنين نقول: لو خرج عمر ونحن هكذا والله ما استطاع أن يقودنا، وسيفشل معنا.كيف إذاً؟نراجع أنفسنا: هل نحن مؤمنون؟ هل نحن صادقون في إسلامنا لله الوجوه والقلوب؟من قال: نعم؟ إذاً: بعد اليوم لا نسمع بكلمة سوء في قريتنا .. لا نرى منظراً باطلاً بيننا .. لا يحدث حدث سوء في وجودنا، وإن نظر حراماً في عشرين عاماً .. سرق سارق في ثلاثين سنة .. زنى زانٍ، هذا لا يلتفت إليه؛ لأن الشذوذ يقع، سنة الله.أما هبطنا إلى الحضيض؛ الربا .. الزنا .. الغيبة .. النميمة .. الخيانة .. الكذب.هل أعطيكم صورة أو لا؟يقال: هذا الشيخ المسكين عميل .. ذنب .. كذاب .. منافق .. كافر، كذا، لو تسمعون تسجيلاته تهربون من الدنيا. هذه صورة فقط، وإلا كل علمائنا وكل رجالنا في أي قرية أو بلد إلا ويناله النقد والطعن وكذا وكذا .. لا إله إلا الله.ما علة هذا؟ الجهل. ما قرأنا كتاب الله، ولا جلسنا بين يدي رسول الله وتعلمنا الهدى.هيا نرجع؟ لا نستطيع يا شيخ؛ فالأمور كما تعرف، وكيف نترك أعمالنا، ونغلق الدكان مع المغرب، ما هو ممكن، كيف؟ ما هو ممكن؟إذاً: كيف نرقى .. كيف نطلع .. كيف نكمل .. نكيف نأمن .. كيف نسعد؟الجواب: غير ممكن.والله تعالى أسأل أن يعافينا وإياكم. وصلى الله على نبينا محمد وصلى الله عليه وسلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #64
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )




    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (57)
    الحلقة (64)




    تفسير سورة البقرة (28)

    لم يكتف اليهود بالإعراض عن كلام الله وردّه، بل ظهرت فيهم صفة أخرى وهي الحيلة، وقد بين القرآن نموذجاً جلياً لهذه الصفة، وهو أنه سبحانه حرم عليهم الصيد يوم السبت، وكان يوماً تكثر فيه الأسماك، فاحتالوا بأن وضعوا الشباك يوم الجمعة لتمتلئ بالسمك يوم السبت، ثم يأخذونها يوم الأحد، فكانت عقوبتهم أن مسخوا قردة، وغدوا عبرة وموعظة لغيرهم.

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:63-66].

    عظم منزلة الإيمان بالله واليوم الآخر

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!أطرح هذا السؤال: لماذا ندرس هذا الكتاب؛ والكتاب هو كتاب الله، القرآن الكريم؟لا ندرسه لأجل أن نعرف ما حدث في الكون، ولا ما أصاب أقواماً سلفت، ولكن ندرسه للاهتداء؛ لأن نهتدي إلى الطريق الموصل بنا إلى سعادتنا وكمالنا في الدنيا، وفلاحنا وفوزنا في الدار الآخرة بالنجاة من النار، ودخول الجنة؛ دار الأبرار.فها نحن مع الحقيقة التي مرت بنا من قبل وهو بيان إلهي، وهو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ [البقرة:62]، هذه أمم ذات أديان، ونحن على رأسهم. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهم أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس. وَالَّذِينَ هَادُوا وهم اليهود. وَالنَّصَارَى وهم الصليبيون أو المسيحيون ما شئتم قولوا. وَالصَّابِئِينَ وهم ما بين هؤلاء وهؤلاء.الكل وعد الله هو: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62].البشرية يا أبنائي كلهم عبيد الله، ليس بينهم من هو ذو قرابة من الله بنسب ولا بمصاهرة، ولا .. ولا، ما هم إلا عبيده، أبيضهم وأسودهم، فمن سلك سبيل النجاة نجا، ومن أعرض عن سبيل النجاة فغوي هلك، فلا فرق بين الأبيض والأصفر، ولا بين الغني والفقير، ولا بين الأولين والآخرين، هذا حكم الله فلنتأمله، ولنعمل على أن نحقق مبادئ النجاة: الإيمان بالله ولقائه، وهو المعبر عنه باليوم الآخر، وبكل ما يتم ويجري ويحصل في اليوم الآخر.

    تطاير الصحف في اليوم الآخر

    قد جاءت الآيات والأحاديث مفصلة مبينة لتلك الأحداث الجسام، ومن بينها معاشر المستمعين: تطاير الصحف، فمن آخذ كتابه بيمينه ومن آخذ كتابه بشماله. فالآخذون كتبهم بأيمانهم هذه علامة نجاتهم، والآخذون كتبهم بشمائلهم هذه علامة خسرانهم.وجاء هذا في موضعين من كتاب الله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24]، هذه.

    وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا
    [الانشقاق:10-12] لِم؟ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [الانشقاق:13-15]. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:25-32]، لِم ما ذنبه؟ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:33-37] أصحاب الخطايا والذنوب.

    صفات أهل الإيمان

    المطلوب منا أن نحقق إيماننا، والإيمان دعوى يدعيها المنافق فيقول: مؤمن، ويدعيها البلشفي الأحمر ويقول: مؤمن، فلابد من تحقيق الإيمان.كيف أحققه يا شيخ؟ما عندنا إلا العرض الذي عرضناه على أبصار المؤمنين والسامعات من المؤمنات، نعرضه مرة ثانية.لوحة قرآنية، اسمع: إن وجدت نفسك بين هؤلاء الذين تسمع عنهم وتراهم فاحمد الله عز وجل، وإن وجدت نفسك غير موجود أو تظهر وتختفي فآمن من الآن، وادخل في الإسلام.العرض الأول من سورة الأنفال، يقول تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2]، وهذه الصيغة صيغة قصر، أي: المؤمنون بحق وصدق، لا بالادعاء والنطق، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، أما أن يذكر الله فيضحك الضاحكون، ويسخر الساخرون، ويلهو اللاهون، فلا إيمان. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ ذكره من ذكره: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وجلت قلوب السامعين: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] يرتفع منسوب إيمانهم من مائة وستين إلى مائة وثمانين، تعرفون مؤشرات الحرارة أو لا؟ كيف ترتفع إذا جاءت الحرارة، ولابد إذا تليت علينا آيات الله، واعظة مذكرة أو آمرة ناهية، أن يرتفع إيماننا. وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]. ومن باب التوضيح، ومن باب هداية إخواننا وطلب كمالهم وسعادتهم نذكر عيوبنا، ونزيح الستار عن بعضها؛ علَّنا نفيق من هذه السكرة. وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي: لا يتوكلون على غير الله، فنقول: الذي يعمل في بنك ربوي، وتقول له: أي بني! اخرج من هذا البنك حتى يخرج كل إخوانك، ويغلق البنك بابه، ويستريح أهله، ويدخلون في رحمة الله، فتكون أنت السبب. فيقول: أسرتي ومعاشي، كيف أترك؟ فنقول: توكل على الله .. فوّض أمرك إليه .. اطّرح بين يديه: ربي! أنقذني، فإنه يتولى إنقاذك.فإن قال أحد كما قلت، وبقي في تلك الحمأة فهذا ما توكل على الله، بل توكل على الراتب الذي يتسلمه.ونقول للذي فتح استيريو لبيع أشرطة الأغاني وأفلام الخلاعة والدعارة: يا عبد الله! هذا لا يصح من مؤمن يؤمن بالله، فأنت تؤذي المؤمنين والمؤمنات، تعرضهم لفتنة نفوسهم وقلوبهم، فاتق الله، واستبدل هذه الأشرطة ببيع الكزبرة والبصل والفلفل، ولا تبع ما يؤذي المؤمنين والمؤمنات. فإن قال: كيف أعيش؟ فهل توكل على الله أو على الدكان؟ هذا ما توكل على الله.والذين يستوردون مجلات الدعارة والخلاعة، ويبيعون جرائد تحمل الكفر في كثير من صفحاتها، وتقول له: أي أخي! أنت صاحب دكان تبيع أنواع البقلاوة فيكفيك ذلك، ولا تبع هذه المجلات التي تعرف أنها تحمل راية الدعوة إلى الباطل والشر والفساد، يقول: الزبائن، إذا لم أحضر هذه الجريدة أو المجلة لا يشترون، فأنا لا أستطيع. على من توكل هذا؟ على الدكان.وآخر: يا عبد الله! احجب امرأتك، وأبقها في بيتك، لا تجعلها تشتغل مع الفحول والرجال. يقول: هكذا العيش في الحياة، ماذا نصنع؟ نقول: توكل على الله، واترك امرأتك في بيتك، تعدّه لك وتهيؤه، وتسعدك فيه؛ خيراً من أن تكون جوالة بين الرجال من أجل راتب، فإن قال: لا أستطيع، الظروف والحياة هكذا. فهل توكل على الله؟!وسلسلة آخرها: فتح صالون حلاقة يحلق للفحول وجوههم: يا عم! يا خال! هذا لا ينبغي، الرسول يأمر بكذا، وأنت تعاكسه، أنت تحلق وجوه الفحول من أجل الريال والعشرة، نعم إن أراد أن تحسن له شعره حسِّن، أما أن تحلق له وجهه وشاربه وتتركه كالمرأة فهذا إثم لا يتحمل ولا يطاق، فاتق الله، قال: لا نستطيع، عيشي على هذا الدكان.وأخيراً: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4].معاشر الأبناء والإخوان! هل نحن إن شاء الله منهم؟إلى عرض آخر من سورة التوبة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ دخل الإناث هنا، لِم؟ الأمر خطير وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] وقد علمتم زادني الله وإياكم علماً أن الولاء هنا الحب والنصرة.وعلى كل مؤمن أن يحب المؤمنين: عمشاً .. غمصاً .. عجزة .. فقرة .. متسخين، قل ما شئت، مؤمن ينبغي أن تحبه، مؤمنة تحب كل مؤمن ومؤمنة، والنصرة: إذا قال عبد الله: وا إخوانه! قل: لبيك، ومد يدك وانصره.هذا هو الولاء: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، الصيني، والكَندي، والأوروبي، والإفريقي، والأسيوي، ليس هناك فرق؛ مؤمن صادق أحبه، وإذا استنصرك وطلب نصرتك فمد يدك وانصره، وبدون حب لا إيمان حق، مؤمن يكره عبيد الله وأولياءه كيف يكون مؤمناً؟مؤمن يبغض ويكره أولياء الله المؤمنين المتقين، والله ما هو بمؤمن، لِم؟ ما عرف الإيمان، وما استقر الإيمان في نفسه، وما فهم ما هو الإيمان. وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71]، ابدأ ببيتك يا عبد الله، إن شاهدت امرأتك ترتكب منكراً انهها، تترك معروفاً واجباً مرها لتفعله، ومن امرأتك إلى ابنك، وابنتك، وأبيك، وأخيك إذا كانوا معك، ثم اخرج من البيت إلى جيرانك، الذين تلاقيهم ويلاقونك في كل ساعات النهار، ثم إلى أهل العمل معك، إن كنت في دائرة أو مزرعة، ويبقى أخيراً السوق فقط والشوارع، فإذا رأيت منكراً، وعرفت أنه مما أنكره الله ورسوله؛ لأنه يجر من البلاء والخسران على المؤمنين، قل: يا عبد الله! هذا لا ينبغي، افعل كذا، فإنه خير لك. بأدب واحترام، وإذا مررت بمنكر يغشاه أخوك فقل: أي أخي! هذا لا يجوز، فهذا أنكره الشارع، قال الله كذا، وقال الرسول كذا.هذه خطوة من خطوات الإيمان: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ . وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].أعيد الآيات وانظر: هل نحن بينهم؟ وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71]، إن شاء الله .. رأيتمونا بينهم؟ الحمد لله. والذي ما رؤي إن شاء الله يرى.

    جزاء أهل الإيمان يوم القيامة

    أما الجزاء عند الله: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة:62]، لا في الدنيا ولا عند الموت، ولا في القبر، ولا في البرزخ، ولا في ساحة فصل القضاء بين يدي الله تعالى: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]، لا اليوم ولا غداً، فأولياء الله لا يصيبهم الحزن أبداً، فإن مات الولد يدفنه وهو يحمد الله، فإن جاع ربط عصابة على بطنه وهو يحمد الله، فلا حزن، ولا خوف أبداً، لا في الدنيا، ولا في الآخرة.أما أهل الخوف والحزن والعياذ بالله هم أعداء الله الذين ما عاشوا في رياض لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    أخذ الميثاق والوفاء به

    قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ [البقرة:63]، قلنا: ونحن أعطينا القرآن أو لا؟ أخذ علينا الميثاق أو لا؟ فهل وفينا لله، واقرءوا قول الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ [المائدة:7] متى؟ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]، فكل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، قد أعطى عهداً وميثاقاً أن يعبد الله وحده بما شاء وشرع أن يعبد به.فهل وفينا لله وأخذنا ما في القرآن؟الجواب معلوم يا أبنائي، ودعنا من أفراد قليلين واحد في المليون، هذه أمة ذات الألف مليون، هل حقاً أخذنا بكتاب الله، فقرأناه وتعرفنا إلى ما فيه من هدى وأحكام، وأخذنا نطبق ذلك على أنفسنا، ونستشهد بآيات ربنا، ونسبة الناجين منا نسبة قليلة، والله يقول لليهود: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ [البقرة:63]، لا تنسوا ما فيه من أمر ونهي، رجاء أن تتقوا: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:63].ثم قال لهم: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة:64] بعد ما أخذ عليهم العهد والميثاق والجبل فوق رءوسهم، يكاد يسقط عليهم، وعاهدوا وأخذوا، فما إن خرجوا من المحنة حتى أعرضوا وتولوا.وقال بعد ذلك: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [البقرة:64] كان يبيدهم كما يبيد الأمم والشعوب، لكن منة الله ورحمته اقتضت ألا يصيبهم بوباء يفنيهم به، أو يسلط عليهم من يعدمهم.

    تفسير قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ...)

    جاءت حادثة أخرى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [البقرة:65] أي: يوم السبت، فالأيام سبعة: أول يوم السبت، ثم الأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة.هذه الأيام كما علمتم أن الله عز وجل خلق في يوم الجمعة آدم، وأنزله إلى الأرض يوم الجمعة - ذكرى عظيمة هذه- وأن يوم القيامة سيكون يوم الجمعة، وقد قرأتم كيف أن الملائكة تكون على أبواب المساجد يكتبون القادمين إلى المسجد الأول فالأول، حتى إذا خرج الإمام طووا الصحف، ودخلوا يستمعون الذكر.فهذا يوم الجمعة عرضه الله تعالى على اليهود فرفضوا، وأفسد قلوبهم علماؤهم وقسسهم ورهبانهم، وعدلوا عن الجمعة إلى السبت.فلما أخذوا السبت مكابرين معاندين فرض الله تعالى عليهم ترك العمل يوم السبت، ومن آخر سورة النحل: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل:124] لو تركوا الجمعة كانوا آمنين، ولكن اختلفوا وقالوا: السبت، بحجة أن الله ابتدأ الخلق يوم السبت، وأن الله استراح يوم السبت، وحاشاه أن يستريح.ومن سورة (ق) يقول تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] أي: نصب أو تعب. فقال الضالون المضللون: هذا اليوم أولى بالاحتفال فيه! وترك العمل؛ لأنه يوم ابتدأ الله فيه الخلق، وختم به الخلق واستراح.فهل الذي يخلق العوالم في ستة أيام يطلب الراحة أو يتعب؟ ولكن هذا هو فساد القلوب والعقول، قالوا للرسول هذا! وردَّ الله هذه الفرية بقوله: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [ق:38-39].ففرض عليهم السبت، ومنعهم من صيد السمك في يوم السبت؛ لأنه يوم المساجد والبيع والعبادة، فاحتالوا على الصيد كما جاء ذلك في سورة الأعراف، فوضعوا شراك الصيد في البحر يوم الجمعة؛ ليجتمع فيها الحوت وتمتلئ يوم السبت، وصباح الأحد يأخذونها، وقالوا: ما صدنا يوم السبت! نحن على وعدنا مع الله، الشراك وضعوها بليلة، وأخذوا الحوت في اليوم الثاني، وهذه هي الحيل التي قال لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم: ( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ).والشاهد عندنا في أهل هذه القرية -وكانت مدينة على ساحل البحر- أن أهلها ارتكبوا هذا الجرم. فلنقرأ الآية الكريمة، قال تعالى من سورة الأعراف: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ [الأعراف:163] والقرية في عرف القرآن هي المدينة الكبيرة، مأخوذة من التقري الذي هو التجمع، وليست هي القرية باصطلاح الغربيين. وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163].فسقوا، ماذا فعلوا؟ اصطادوا، ارتكبوا جريمة، ونحن الآن عامة المسلمين: وإن زنى ما فسق! وإن كذب! وإن اغتاب، وإن سرق.ما هو الفسق؟ اصطادوا بالحيلة أيضاً، ما تحدوا الله، احتالوا، قال: فسقوا أم لا؟ وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163] هنا وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:164-166].إذاً: أهل المدينة انقسموا ثلاثة أقسام: قسم أنكروا وتبرءوا، وقالوا: هذه حيلة واعتداء على الشريعة بالحيل، فلقد صدتم، حيث وضعتم الشراك قبل السبت، وأخذتموها يوم الأحد، فتجمع الحوت يوم السبت، فأنتم صائدون، والله حرم العمل في هذا اليوم.وطائفة أخرى سكتوا، إما آيسون كأكثرنا، نقول: ليس هناك من يستجيب، ليس هناك من يقبل، اترك، خل الناس فيما هم فيه!وطائفة ارتكبت الجريمة.قال تعالى: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165] وهو أنه مسخهم قردة، فأصبحوا في الصباح يخرجون من بيوتهم قردة! ثلاثة أيام وهم في أبأس الأحوال، وأسوأ الظروف، وبعد ثلاثة أيام أصابهم الله بوباء؛ فهلكوا في يومهم، ثم دفعوهم إلى البحر، وكنسوا البلاد، وطهروها من رجسهم.وهذا قد ذكره تعالى في قوله: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65] بعيدين عن الخير أذلاء هالكين! وأنتم تعرفون القردة والعياذ بالله، نعم كان بالأمس يبتسم ويضحك، مرتفع القامة، يأكل ويشرب، وإذا به أصبح قرداً في الشوارع ثلاثة أيام، وابن عباس يقول: هذه سنة الله في من مسخهم، لا يعيشون أكثر من ثلاثة أيام.وبعضهم يقول: اليهود الآن قردة، لا ما هم قردة، القردة ماتوا، وإنما هم إخوان القردة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوه لبني قريظة لما طوقهم ناداهم: ( يا إخوان القردة والخنازير! ) ما قال: هم قردة هم إخوانهم.
    تفسير قوله تعالى: (فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين)
    قال تعالى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا [البقرة:66] أي: تلك القرية وَمَا خَلْفَهَا [البقرة:66] ما بين يديها من القرى والسكان يشاهدون، تعالوا، الرجل يجد امرأته قردة! يجد أخاه وعمه قرداً، ويشاهدون ثلاثة أيام. نَكَالًا أي: لينكل من الناس من يريد أن يخرج عن أمر الله، ويفسق عن طاعته.النكال: هو الذي يجعله ينكل، ويجفل، ويتأخر، وما يقدم على المعصية؛ لما شاهد من آثارها. لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا أي: ممن يأتون بعدها من الأمم والشعوب.ثالثاً: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:66]، لم المتقون فقط يجدون الموعظة في هذه؟ لأن قلوبهم حية، ونفوسهم طاهرة، فما إن يشاهدوا حدثاً كهذا إلا يتعظون به، فيبعدون عن ساحة الفسق والخروج عن طاعة الله ورسوله، ولا يرضون أبداً بفسق بينهم ولا فيهم، لما هم عليه من النور والبصيرة.أما الذين لا يتقون فلا يجدون عظة ولا عبرة، ما يتقون عذاب الله، ولا سخطه، ولا غضبه، منغمسون في المعاصي والجرائم، هل يجدون في هذه عظة؟ ما يجدون.المتقي حي، مؤمن، يتقي الله عز وجل، وأدنى حادثة ينتفع بها، والذين قلوبهم ميتة لا يفهمون، ولا يسمعون.

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معاشر المستمعين! نقرأ هذه الآيات من الكتاب.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:63-66].

    شرح الكلمات

    قال المؤلف: [شرح الكلمات: الميثاق: العهد المؤكد باليمين]، عهد يؤكده بالحلف بالله.[الطور: جبل أو هو الجبل الذي ناجى الله تعالى موسى عليه السلام.بقوة: بجد وحزم وعزم]، خذ الكتاب بقوة أي: بجد، وحزم، وعزم، لمعرفة ما فيه، والعمل به.[توليتم: رجعتم عما التزمتم القيام به من العمل بما في التوراة.اعتدوا في السبت: تجاوزوا الحد فيه، حيث حرم عليهم الصيد فيه فصادوا.قردة: القردة جمع قرد، حيوان معروف مسخ الله تعالى المعتدين في السبت على نحوه.خاسئين: مبعدين عن الخير، ذليلين مهانين.نكالاً: عقوبة شديدة، تمنع من رآها أو علم بها من فعل ما كانت سبباً فيه.لما بين يديها وما خلفها: لما بين يدي العقوبة من الناس ولمن يأتي بعدهم] من أمثالنا.[وموعظة للمتقين: يتعظون بها، فلا يقدمون على معاصي الله عز وجل]. هذه هي الكلمات الإلهية.

    معنى الآيات

    قال: [معنى الآيات الإجمالي: يذكر الحق عز وجل اليهود بما كان لأسلافهم ] الذين مضوا قبلهم أيام داود وسليمان، [ من أحداث لعلهم يعتبرون، فيذكرهم بحادثة امتناعهم من تحمل العمل بالتوراة، وإصرارهم على ذلك حتى رفع الله تعالى فوقهم جبلاً فأصبح كالظلة فوق رءوسهم، حينئذ أذعنوا]، وقد عرفتم كيف سجدوا على خدودهم؛ لأنهم ينظرون متى يسقط الجبل! وهذه السجدة يفضلونها على سجودنا، قالوا: لأن الله أنجى بني إسرائيل بها.قال: [فأصبح كالظلة فوق رءوسهم، حينئذ أذعنوا وأعطوا العهد غير أنهم تراجعوا بعد ذلك، ولم يفوا بما التزموا به؛ فاستوجبوا الخسران لولا رحمة الله بهم] فلولا أن الله أراد أن يبيدهم لأبادهم كعاد وثمود، لكنهم أبناء الأنبياء والمرسلين.قال: [كما يذكرهم بجريمة كانت لبعض أسلافهم، وهي أنه تعالى حرم عليهم الصيد يوم السبت، فاحتالت طائفة منهم على الشرع، واصطادوا، فنكل الله تعالى بهم، فمسخهم قردة، وجعلهم عظة وعبرة للمعتبرين].وهنا نذكر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي رواه أحمد بسنده الجيد عن أبي هريرة رضي الله عنه إذ قال -فداه أبي وأمي، والعالم أجمع-: ( ولا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ) ولو تتبع هذا الموضوع لوجدت ملايين المسلمين منغمسين في الحيل، فيستحلون محارم الله لا بالمواجهة.على سبيل المثال: السفور، لم تقول: السفور يا شيخ؟!لأن العالم الإسلامي وقع وتورط، وها هم يعملون الليل والنهار على إنهاء الحجاب عندنا، ونحن نعلم يقيناً من طريق أبي القاسم صلى الله عليه وسلم أن المرأة إذا سقط حجابها، واختلطت بالرجال عم الخبث، فلا عاصم إلا الله، وإذا كثر الخبث في إقليم نزل البلاء، ولا سعادة بعد ذلك.الخصوم عرفوا هذا، ونحن أغبياء ما عرفنا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول اسمعوا: ( اتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) كيف شربوا الخمر؟ كيف ارتكبوا الجرائم؟ كيف اشتروا الدنيا والمال؟ من أجل النساء! فكل من يدعو تحت ستار تحرير المرأة فإنما هو عامل من عوامل الدمار، تحركه أصابع الماسونية اليهودية.

    هداية الآيات

    قال: [من هداية الآيات: أولاً: وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق]، يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يفي بوعد أعطاه لله، وميثاق أخذه عنه الله، فيجب الوفاء بأي عهد تعطيه ليهودي، أو تعطيه لنصراني، وشعارنا: الوفاء بالعهود، من واعد .. من عاهد، سواء وثق العهد بالحلف أو لم يوثقه يجب الوفاء، فإن شاع بيننا خلف الوعد فاعلموا أننا راحلون إلى الهاوية!أيوبخ الله اليهود على نقضهم العهد ونحن لا؟ نقول: لا بأس، أيعقل هذا الكلام؟ نحن أحرى بأن نفي بالعهود؛ لأننا شاهدنا ما أصاب اليهود من خزي، وذل، وعار.وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق، سواء كان بين المؤمنين والمؤمنين، أو بين المؤمنين والكافرين.قال: [ثانيا:ً يجب أخذ أحكام الشرع بحزم، وذكرها وعدم نسيانها أو تناسيها].كيف يتم هذا يا شيخ؟! لا سبيل إلى تحقيق هذا إلا من طريق كتاب: (المسجد وبيت المسلم) .. إلا من طريق أن نعرف أننا مسلمون، وأننا غير اليهود، والنصارى، والمجوس، والمشركين، وأننا أمة ممتازة ذات شأن عظيم؛ فنترك العمل من غروب الشمس فلا دكان، ولا مقهى، ولا مصنع، ولا مزرعة، ونحمل بنينا وبناتنا ونساءنا إلى بيوت الله، ونوسع جامعنا؛ حتى يتسع لأهل الحي كلهم أو لأهل القرية أجمعين. ونجلس بين يدي الله كل ليلة طول العمر، ونحن ندرس كتاب الله، ونتعلم ما فيه، ونطبقه على أنفسنا، والله لا طريق إلا هذا.ثم يا شيخ! أنت تحملنا على ما لا يطاق! ما يطاق؟! ما يطاق الجلوس في المسجد؟! بين المغرب والعشاء ما الذي يتوقف؟! اليهود والنصارى يوقفون العمل، وينقطعون من الساعة السادسة، ونحن لم؟ أي عذر عندنا؟! هم قد يعذرون أما نحن فكيف نعيش على دين نجهله؟ على آداب وأخلاق لا نعرفها؟ على حقائق وشرائع وأحكام ما عرفنا منها شيئاً، لا قليلاً ولا كثيراً؟ كيف يصح؟!وأعود فأقول: جربوا، فاجتمعوا يا أهل القرية، على ليلة آية وأخرى حديثاً، سنة فقط وانظروا بأعينكم، وهاتوا علماء النفس وخبراء الكون، وليشاهدوا كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.إن ثبت عندهم في القرية من يزني بنسائها أو بنات إخوانه، أو يعرضهم للفتنة، أو يؤذي أخاه أو ابنه، أو يؤذي جاره، أو يشح برياله وأخوه جائع، اذبحوني! تنتهي مظاهر الفقر والخبث الذي ساد العالم الإسلامي.يتغير وضعنا بهذه الوسيلة الربانية، وسيلة الإيمان الحق، لنحقق إيماننا، ونترجمه عملاً ناصعاً، صادقاً، بيننا! أن نجتمع في القرية هكذا، النساء وراء، والأطفال دونهن، والفحول أمام الكل، والمربي أمامهم يقرأ معهم آية، ويتغنون بها جميعاً حتى تحفظ، ويقرءون حديثاً؛ فتنتهي المذهبية، والله ما يبقى من يقول: أنا مالكي .. أنا شافعي .. أنا زيدي، نحن مع الله ورسوله، قال الله وقال رسوله.تبقى حزبية ونظامية: نحن ننتمي إلى كذا؟ والله لا تبقى.تبقى وطنية: أنا من وطن كذا؟ لا وجود لها، أمة واحدة. قال الله وقال رسوله.يا علماء! احملوا هذه الرسالة وانشروها، لكنهم عجزوا وما استطاعوا، لو قام علماء المسلمين بحملة كما قمنا بها لكان المسلمون الآن كلهم في بيت الرب. كيف يكون حالهم؟ العالم يتحرك ويهتز: كيف أقبل المسلمون هذا الإقبال على بيوت الرب؟ ماذا يريدون؟!ولنترك الأمر لله.ومما هو هداية في هذه الآية الكريمة قال: [ ثالثاً: لا تتم التقوى لعبد إلا إذا أخذ أحكام الشرع بحزم وعزم]، ما هو إن شاء فعل، وإن شاء ما يفعل!قال: [رابعاً: حرمة الاحتيال لإباحة المحرم، وسوء عاقبة المحتالين المعتدين] والعياذ بالله تعالى رب العالمين. وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #65
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (58)
    الحلقة (65)




    تفسير سورة البقرة (29)


    اصطفى الله عز وجل من عباده رسلاً، وجعل توقيرهم توقيراً له سبحانه؛ لأن أوامرهم ونواهيهم وحي من الله، وفي قصة قرآنية آخرى يتجلى الجهل وسوء الأدب مع عباد الله المصطفين، كان أبطال هذه القصة بني إسرائيل! حيث قتل أحدهم وجُهل القاتل فأمرهم موسى بأن يذبحوا بقرة، فيضربوا المقتول ببعضها، لتعود إليه روحه -بإذن الله- ويكشف عن مرتكب الجريمة، فما كان من هؤلاء القوم إلا أن أكثروا الأسئلة، وأطالوا المراوغة، حتى فعلوا في نهاية الأمر، وكادوا ألا يفعلوا.

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:67-70] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!

    القصص القرآني من آيات النبوة المحمدية

    مثل هذا القصص يقصه رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب قط، وبعد أن تجاوز سن الأربعين، فهل يعقل أن يكون هذا من غير نبي ورسول يوحي الله إليه؟ لا يعقل أبداً، بل يستحيل!فلهذا القصص القرآني من آيات النبوة المحمدية، ولن يستطيع ذو عقل من العرب والعجم أن يرد هذه الحقيقة.وهذا الحدث الجلل مضى عليه آلاف السنين، فكيف يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفصل هذا التفصيل، وأهل الكتاب -وبخاصة اليهود وهم معنيون- يسمعون هذا بآذانهم، ويشهدون أنه الواقع الذي وقع في أمتهم؟!والله يقول لرسوله: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120] وفي هذا القصص فائدة جلية وعظمى أن الله يثبت بذلك رسوله كيف وقد رفع صوته في الأرض كلها يشهد أن لا إله إلا الله، والعالم كله ضده؟ فلهذا يجد في هذا القصص ما يقوي عزيمته، ويشد ساعديه، ويقويه في دعوته.ثم هذا القصص جاء في عرض أحداث كانت لبني إسرائيل، وهذه الأحداث العظيمة كلها تشهد بانحراف اليهود وضلالهم، وبعدهم عن الحق، وتشهد أيضاً بعنادهم، ومكابرتهم، وحسدهم، وذلك من أول ما قال: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا ... وإلى الموضع الذي نحن فيه وما زال القصص مستمراً.ومن بين ذلك القصص أو تلك الأحداث هذه الحادثة العظيمة؛ إذ يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: اذكر وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ [البقرة:67] أو اذكروا أنتم يا بني إسرائيل المعاصرين للنبي في المدينة! اذكروا وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67].وهذه الآيات تضمنت قصصاً، قيل: هي عبارة عن قصتين. ولا مانع أن تكون قصتين؛ إذ الأحداث لا حد لها، ولكن كونها قصة تقدم ما ينبغي أن يتأخر، وتؤخر منها ما ينبغي أن يتقدم؛ لأن القرآن ليس كتاب قصص، بل هو كتاب هداية، وتعليم، وإصلاح، وتربية للبشرية.وما دامت الأحداث الأولى أشد قساوة على اليهود فقد بدأ بها.

    سبب أمر بني إسرائيل بذبح بقرة

    قوله تعالى هنا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] لم؟ لأن أبناء أخ وجدوا عمهم ثرياً -ذا ثروة مالية كبيرة- ولا يرثه إلا ولد له، وما زال صغيراً، فقالوا: نقتل هذا الطفل وبعد أيام أو أعوام يموت العم الكبير، وقد أسن وشاخ، ونرث هذا المال، بخلاف إذا تركنا الولد يكبر، فإذا مات والده ورث المال وحرمنا منه!وسبحان الله! هذه الحادثة وقع لها نظير في قريتي التي نشأت فيها وتربيت: كان هناك رجل صعلوك كبير عنده ابن أخ، وهو عمه، فذبحه وألقاه تحت نخلة، وجاء يصرخ في القرية ويبكي: ابن أخي ذبح! واستمر البحث من قبل السلطة الفرنسية في ذلك الوقت، فما هي إلا جولة حتى اعترف بأنه هو الذي ذبح ابن أخيه، مع أن هذا الابن كان من تلاميذنا، بل من أحسنهم، فذبحه لأجل أن يرث المال الذي عنده، وحتى لا يقاسمه النخل الذي كان بينه وبين أخيه.هذا حدث في الإسلام أم لا؟ والله في الإسلام، وكما تسمعون! فلا عجب أن يحدث هذا في بني إسرائيل، وكانوا في تلك الأيام يعيشون على الجهل والضعف العقلي؛ لأني -والله أعلم- بحثت كثيراً فما وجدت من أهل العلم من ذكر هذه الحادثة أين وقعت، وكونها وقعت في التيه؛ في صحراء سيناء لا يعقل، فلا مال ولا توارث. أليس طعامهم المن والسلوى، وتظللهم السحب والغمام؟!وهذا فيما يظهر لي وقع في مصر أيام كان بنو إسرائيل هناك، فهذه الحادثة تمت في مصر قبل خروجهم من الديار المصرية، ومن عثر على هذا من أبنائنا من أهل العلم فليبشرنا، لأني أريد أن أعرف أين وقعت هذه الأحداث؟ أما أنها وقعت في سيناء فلا! فبعد سيناء مات موسى عليه السلام، وتولى أمرهم يوشع بن نون ، ولكن القصة تمت على عهد موسى وهو بطلها.قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] لم؟ لما قتل الجماعة ابن الشيخ الكبير ليرثوه أخذوه ورموه في قرية بعيدة عن قريتهم، وجاءوا يصرخون إلى موسى: ابننا قتل، أو أبونا قتل، أو عمنا، يقولون ما شاءوا، من قتل؟ وأصبحوا يطالبون بالدية من القرية التي وجد فيها الرجل مذبوحاً أو مقتولاً.فأوحى الله تعالى إلى موسى أن يقول لهم: اذبحوا بقرة، واضربوا الميت بجزء منها، سواء بعظمها أو بلسانها أو بأي جزء اضربوه به ينطق بإذن الله! ويقول: قتلني فلان أو فلان. ولا عجب! فعيسى عليه السلام أحيا الله على يده الموتى، وهذه من معجزات الأنبياء.

    جواب بني إسرائيل لموسى بعدما أمرهم بذبح البقرة

    لكن اسمع كيف ردوا عليه؟ هو يقول لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] وكلمة بقرة نكرة تتناول هذا الجنس؛ كبيرة .. صغيرة، صفراء .. سوداء، بقرة فقط. قالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67] أتهزأ بنا، وتسخر منا يا موسى؟!وهل هذه الكلمة يقولها مؤمن لرسول؟! يقولها صحابي لمحمد صلى الله عليه وسلم؟!نعم قال الصحابة بدون علم: راعنا يا رسول الله! وهذه الكلمة فيها معنى الرعونة، وهي بالعبرية كلمة سخرية واستهزاء، فاستغلها اليهود والمنافقون فكانوا يقولون: راعنا يا رسول الله! ويضحكون في قلوبهم، فأنزل الله تعالى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة:104] استبدلوا كلمة راعنا بانظرنا .. أمهلنا حتى نسمع عنك أو نفهم وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104]. والذي يستهزئ بالرسول كفر، والإمام مالك يرى إعدامه، وغيره من الأئمة يرون توبته ثلاثة أيام، فالإمام مالك يقول: ساب الرسول لا يستتاب، ويجب أن يعدم، وعنده شاهد قوي في العجوز التي كان لها عبد يسب النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، فما كان منها إلا أن جاءت وقتلته، وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فسره ذلك وهنأها.والشاهد عندنا: أن سب الرسول والاستهزاء والسخرية به كفر بواح، فانظر موقف هؤلاء اليهود: قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67] أتسخر منا وتستهزئ وتقول: اذبحوا بقرة؟! كيف يحيا بالبقرة إذا ضربناه بلحمها؟!ولا لوم ولا عتاب، والله يقول: قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ [البقرة:67] أي: قال موسى لأولئك المستهزئين: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] أتحصن بجناب الله وألوذ بحمى الله أن أصبح جاهلاً كالجاهلين.وهنا عدنا من حيث بدأنا، قبنو إسرائيل عاشوا شبه رقيق .. شبه عبيد، مستذلين مسخرين للفراعنة، فما درسوا، ولا تعلموا، ولا قرءوا دهراً طويلاً، فجاء موسى عليه السلام وأخوه هارون أيضاً لا يستطيعون أن يعلموا أمة موزعة هنا وهناك في القرى. فهذه مظاهر الجهل.وهنا نذكر قصة أبي ذر لما قال لـبلال : يا ابن السوداء! فشكاه بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) قلَّت أو كثرت، أي: ظلام الجهل، فما كان من أبي ذر إلا أن وضع وجهه على الأرض وقال لـبلال : والله لتطأن على عنقي!هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.فكل الذي نشكوه في أنفسنا، وفي غيرنا، وفي العالم مرده إلى ظلمات الجهل، والذين ما تهذبوا وما تربوا في حجور الصالحين لا يسلم حالهم أبداً، ولا تطمئن إليهم النفس. كيف يستقيمون في ألفاظهم .. كلماتهم .. حركاتهم سكناتهم .. أعمالهم؟ من هذبهم؟! فلهذا احمدوا الله على ما نحن عليه! قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]؛ لأن الجاهل هو الذي يسخر .. هو الذي يستهزئ .. هو الذي يقول ما ليس يعلم .. هو الذي يفعل بدون إرادة وعلمفهذا الجاهل يتخبط.فموسى يقول: كيف آمركم بشيء لم يأمرني الله تعالى به؟! ولولا علمي بأنكم إن ضربتم هذا الميت بقطعة من هذه البقرة حيي، وأجابكم، وأفصح عمن قتله ما قلت لكم.

    تفسير قوله تعالى: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ...)

    قال تعالى حاكياً عن قوم موسى أنهم قالوا له بعد ذلك: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68] وهذه عندنا أيضاً قبيحة: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ وأنتم ليس بربكم؟! هذا سوء أدب فاضح أم لا؟! ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أنا ربي وحدي .. خالقي .. رازقي .. مدبري، وأنتم: من ربكم؟ من خلقكم؟ من رزقكم؟ من دبر حياتكم؟!هذه من مظاهر الجهل. والمؤمن يستحي أن يقول مثل هذا الكلام، ورسول الله موسى بين أيديهم، وأنقذهم الله به، وشاهدوا تسع آيات تخر الجبال من هولها، وعند رؤيتها.ولهذا لا تبك يا رسول الله! لا تتمزق يا عمر من اليهود، فهذه حالهم منذ آلاف السنين وإلى اليوم، وإن درسوا في مدارس الدنيا، لكن ما زالت هذه الطباع مغروسة في غرائزهم، فلا تزول ولا تتبدل. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68] لم هذا التقعر؟ لم هذا التنطع؟! قال: بقرة، خذوها من الشارع .. أخرجوها من البستان، لفظ مطلق: بقرة! لكن لكونهم شاكين غير مؤمنين بصدق هذه القضية، وأنهم إذا ضربوا به الميت لا يحيا، فهذه عوامل الشك ظاهرة فيهم، أو يتملصون من هذه القضية لأنهم هم الذين ولغوا في الجريمة! وهم الذين قتلوا ونسبوا القتل للقبيلة الفلانية، حتى لا يفضحوا؛ لأنها فضيحة عظيمة؛ كيف يقتلون قريبهم ثم يتهمون قبيلة أخرى بالقتل؟! فمن هنا يتلوون ويتبرمون.قال: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68] ما هذه البقرة؟! قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ [البقرة:68] مسنة: كبيرة، فرضت أسنانها وقطعتها وَلا بِكْرٌ [البقرة:68] ولكنها عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68] وسط؛ ليست صغيرة ولا كبيرة، عوان بين الكبر والصغر، والفارض هي التي فرضت، فرض الشيء قطعه، ومنه الفرض القطع، قطعت أسنانها لكبر سنها، فلا هي فارض، ولا بكر ما أنجبت ولا ولدت. فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] بينتها لكم أم لا؟ قلتم: ما هي؟ قلنا: إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] ابحثوا في السوق .. في المزارع .. في محلات الأبقار، والتي تجدونها ليست مسنة ولا صغيرة خذوها واذبحوها.

    تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ...)

    ماذا قالوا؟ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا [البقرة:69] أي قيمة للون: صفراء .. بيضاء .. سوداء؟ الحكمة ليست في لون البقرة، الحكمة في أن يصدر أمر الله إلى الميت أن ينطق قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] شديدة الصفرة، يقال: أحمر قانٍ .. أخضر مدهام .. أبيض ناصع .. أصفر فاقع. تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69] فإذا نظر إليها المرء تعجبه وتفرحه، وتدخل السرور عليه لجمالها.وأين يجدون هذه؟!تقول الروايات: إن شيخاً كبيراً من بني إسرائيل كان عنده طفل صغير، فخاف إذا مات من يتولاه، وعنده عِجْلَة، فمر بمزرعة ذات أشجار ونباتات فرمى بالعِجْلَة هناك وقال: رب! استودعتك هذه العِجْلَة لولدي! تكبر عندك حتى تصبح بقرة، ويصبح ولدي عاقلاً ويأخذها. وتمضي الأيام ويكبر الطفل، ويصبح يقود البقرة بعد أن كانت عِجْلَة، وكانت صفراء فاقع لونها تسر الناظرين؛ فلهذا رآها القوم أعجبتهم وقالوا: هذه هي. فالولد ببركة دعوة أبيه قال: لن تذبح بقرتي على الخمسين ديناراً والألف دينار، لن أسمح إلا بملء جلدها ذهباً، فصاحوا وقاموا وقعدوا، لكن قد تعينت الآن فأين المهرب؟ فجمعوا حلي نسائهم وأموالهم وما عندهم واشتروا البقرة.قالت العلماء: وهذا فيه بركة دعوة الأب لولده، فلما دعا الأب الله عز وجل، واستغاثه، وسأله، واستودعه هذه البقرة ليعيش عليها ولده استجاب الله، وأصبح من أغنى بني إسرائيل! فجلد البقرة مملوء كاملاً بالذهب .. ميزانية دولة.

    تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا ...)

    قال تعالى حاكياً عنهم: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70] ألوانها مختلفة، وكلما نقول: هذه تظهر واحدة أخرى يقولون: ها هي هذه، ويبدو والله أعلم أنهم متهربون من القضية؛ خشية أن ينطق الميت ويقول: قتلني فلان من بني فلان؛ فلهذا يتخفون من القضية ويتهربون. وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] هذه الكلمة من أين جاءت؟ من الله، وما هم أهل لها. قالت العلماء: لولا أنهم قالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ لما وصلوا إليها، ولما وجدوها ولا عرفوها، وفي هذا بركة الاستثناء، وقد حرمه رجالنا ونساؤنا، فلو كان كل واحد منا إذا حلف يقول: إن شاء الله، أو إلا أن يشاء الله؛ لم يحنث، ولم يتلطخ قلبه بظلمة المعصية، ولكن مع الأسف قلَّ من يقول: إن شاء الله.وعندنا حادثة بعينها ذكرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أن سليمان عليه السلام لما كان يغزو ويفتح ويوسع الامبراطورية الإسلامية التي يحلم بها الآن اليهود متى يعيدونها؛ قال في ليلة من الليالي: ( لأطأن الليلة مائة جارية تلد كل واحدة ولداً يصبح رجلاً يقاتل في سبيل الله )، فأراد أن يكوِّن جيشاً أو فيلقاً من جماع ليلة! ونسي أن يقول: إن شاء الله. فعاقبه الله تعالى تأديباً له، فوالله ما ولدت واحدة، إلا واحدة جاءت بطفل نصفه مشلول، شبيه بالشلل النصفي الذي عرفناه في هذه الأيام؛ فوضعوه على السرير وجاء أبوه: هذا هو ولدك.قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ( لو قال: إن شاء الله لولدت كل واحدة ولداً ولقاتل في سبيل الله ). وقال تعالى: وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص:34] الآية.فلما قالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] هداهم الله، فاشتروا البقرة التي كانت عِجْلَة بمتنها ذهباً!

    تفسير قوله تعالى: (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ...)

    قال تعالى: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا [البقرة:71] قال لهم: إن ربي جل جلاله يخبركم فيقول: إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ موجودة، تأكل وتشرب، فما حرثوا عليها الأرض، ولا سنوا عليها السواني، وما ذللت بالخدمة والإرهاق، فلا ذلول تثير الأرض بالحرث، ولا تسقي الحرث أي: تسني بالسواني وتخرج الماء، وهذا ينطبق على بقرة الرجل الصالح الذي تركها في المزرعة تأكل سنين. مُسَلَّمَةٌ ما فيها عيب أبداً لا في قرن ولا في رجل، ولا شِيَةَ فِيهَا أي: لا صفة ولا علامة، فما فيها نقطة سوداء أو بيضاء أو كذا، لون واحد، حتى قرونها صفراء، وحوافرها صفر أيضاً، وما فيها علامة أخرى؛ ولهذا تاهوا في طلبها، فساقهم الله إلى بقرة هذا اليتيم. قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] ذبحوها بمعنى: اشتروها بمسكها ذهباً، وذبحوها طاعة لله ولرسوله.وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ فلولا أن الله ألهمهم بكلمة إن شاء الله لما انتهوا إلى هذا، وهذا يدل على أنهم كانوا يتهربون، فهم خائفون أن يفضح أمرهم؛ لأن الذين طالبوا بقتل القاتل هم القاتلون! وما كادوا يفعلون.

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون)

    نواصل القصة ونعود الآن إلى بداية القصة، قال تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا [البقرة:72] اذكروا إذ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:72] والتدارؤ: التدافع. فهؤلاء يقولون: قتل هؤلاء، وهؤلاء يقولون: ما قتلنا. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا هذا الشيخ الكبار الذي قتل ليورث، أو الابن الصغير هو الذي قتل حتى يورث عمه. فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ما كانوا قد عرفوا القاتل أم لا؟ عرفوه فهو منهم، وكانوا يغطون، ويسترون، ويتهمون الآخرين، وَاللَّهُ مُخْرِجٌ وقد أخرجه عما قريب.

    تفسير قوله تعالى: (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ...)

    قال تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73] اضربوا هذا الميت ببعض هذه البقرة، سواء كان باللسان أو بالرجل، والكلام في هذا لا يفيد شيئاً، المهم خذوا جزءاً منها وبسم الله اضربوا، فإنه ينطق! فضربوه فإذا به يشخب دماً وينطق: قتلني فلان!آمنت بالله. أخذوا جزءاً من البقرة سواء رجلها أو يدها أو قرنها أو لسانها بسم الله! وإذا بالغلام يتدفق دماً كما ذبحوه وهو ينطق: قتلني فلان وفلان، ووضعوني في مكان فلان وفلان. فهذه آيات الله الدالة على وجوده وعلمه وقدرته وحكمته، وتحقيق نصرته لأوليائه.قال تعالى: كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة:73] كهذا الإحياء يحيي الله الموتى، أليس هذا الرجل ميتاً؟ ميت، وبعد فترة من الزمن أحياه أم لا؟ أحياه. وهكذا في الموتى يوم القيامة! ويحيي الموتى في كل زمان ومكان متى شاء ذلك.قال: وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73] وهنا العقل شيء، والعلم شيء آخر، فالعلم أفضل، ولكن العقل إذا كان راجحاً سليماً -حتى ولو كان صاحبه جاهلاً- يستطيع أن يميز بين الحق والباطل .. بين الخير والشر .. بين القبيح والسيئ، لكن إذا فُقِد العقل فقد كل شيء! وإذا فَقد العالم عقله أصبح كالجاهل يخبط ويخلط.فقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73] فتعرفون موقفكم وما أنتم عليه من هذا التهرب والتفصي من الحق، وهذا البعد من الآداب.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    شرح الكلمات

    بسم الله الرحمن الرحيم.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ شرح الكلمات: البقرة ] ما معنى البقرة؟ قال: [ واحدة البقر، والذكر ثور، والأنثى بقرة ] والعوام إذا سبوا شخصاً بالجهالة يقولون: يا ثور! اسكت يا ثور! وللمرأة: اسكتي يا بقرة! يجوز هذا؟ والله لا يجوز، حرام، سوء أدب!وكلمة راعنا -وهي عربية بمعنى: انظرنا- ما رضيها الله لرسوله.قال: [ والذبح: قطع الودجين والمارن ]. الودجان: عرقان يكتنفان العنق، والمارن: هذا الذي يمشي فيه الماء والطعام، يجمعها ويذبحها، المارئ والمريء، فلهذا الذي يذبح شاة ولا يذبحها على هذه الطريقة لا تؤكل إلا بكراهة. وكذلك إذا قلصمها؛ فجعل هذه الحنجرة وتركها مع الرقبة، هذا كذلك تؤكل مع كراهة، فالذبح الحقيقي الشرعي أن يجمع بين الودجين والمارن، ويقطعهما قطعة واحدة.قال: [ والهزؤ: السخرية واللعب ]. أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67] تلعب وتسخر بنا.قال: [ الجاهل ] من هو الجاهل؟ قال: [ الذي يقول أو يفعل ما لا ينبغي قوله ولا فعله ] اضبطوا هذه: من هو الجاهل؟ هو الذي يقول ويفعل ما لا ينبغي قوله ولا فعله؛ حتى ولو كان يحفظ كتاب الله والتوراة! فالجاهل: الذي يقول ما لا ينبغي أن يقال، أو يفعل ما لا ينبغي أن يفعل. والذي يقول ما ينبغي أن يقال، ويفعل ما ينبغي أن يفعل هذا هو العاقل! فعقله عصمه وحفظه من التخبط والضلال.قال: [ الفارض ] ما هي هذه البقرة؟ قال: [ الفارض: المسنة. والبكر: الصغيرة التي لم تلد بعد. والعوان: النّصفُ، وسط بين المسنة والصغيرة ] العوان هي الوسط أو النصف في عمرها.قال: [ وفاقع: يقال: أصفر فاقع شديد الصفرة، كأحمر قان، وأبيض ناصع ] شديد البياض.قال: [الذلول: المريّضة التي زالت صعوبتها فأصبحت سهلة منقادة ] فذللوها بالعمل، وأصبحت سهلة الانقياد.قال: [تثير الأرض: تقلبها بالمحراث فتثير غبارها، بمعنى: أنها لم تستعمل في الحرث ولا في سقاية الزرع، أي: لم يُسنَ عليها؛ وذلك لصغرها ] أو لاحترام أهلها لها، فأبوا أن يتعبوها.قال: [ مسلّمة: بمعنى سليمة من العيوب كالعور والعرج] وما إلى ذلك.قال: [لا شية فيها: الشية: العلامة، أي: لا يوجد فيها لون غير لونها من سواد أو بياض ] أو حمرة مثلاً. هذه هي المفردات.

    معنى الآيات

    قال: [ واذكر يا رسولنا لهؤلاء اليهود ] من القائل؟ الله. لماذا لا نقول: واذكر يا محمد؟! انتبهوا، وقد وقع في هذه الغلطة الجلالان: السيوطي والمحلي ، عندما يقول: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ... قل يا محمد! قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] قل يا محمد! وهذه غلطة؛ لم؟ لأن الله تعالى قال: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] فهل يجوز أن تقول: يا محمد؟ لا يجوز. والله ناداه نداءات متعددة بـ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ... ! يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ... ! فكيف تقول أنت: يا محمد؟! كأنك لا تعترف برسالته.قال: [ واذكر يا رسولنا لهؤلاء اليهود عيباً آخر من عيوب أسلافهم الذين يعتزون بهم ]. فهم يريدون ألا يفارقوا ملتهم، ولا ما كان عليه أباؤهم وأجدادهم، انظروا إلى حال أجدادكم. فلو صح لكان العرب يعتزون بـأبي جهل والعاص بن وائل .قال: [ وهو سوء سلوكهم مع أنبيائهم؛ فيكون هذا توبيخاً لهم لعلهم يرجعون عن غيهم، فيؤمنوا بك وبما جئت به من الهدى ودين الحق. اذكر لهم قصة الرجل الذي قتله ابن أخيه استعجالاً لإرثه، ثم ألقاه تعمية في حي غير الحي الذي هو منه، ولما اختلفوا في القاتل قالوا: نذهب إلى موسى يدعو لنا ربه ليبين لنا من هو القاتل. فجاءوه فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] من أجل أن يضربوا القتيل بجزء منها؛ فينطق مبيناً من قتله. فلما قال لهم ذلك قالوا: قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67] فوصفوا نبي الله بالسخرية واللعب، وهذا ذنب قبيح، وما زالوا يسألونه عن البقرة ويتشددون حتى شدد الله تعالى عليهم الأمر الذي كادوا معه لا يذبحون، مع أنهم لو تناولوا بقرة من عرض الشارع وذبحوها لكفتهم ].ولهذا نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشديد، وكم وقع منا في هذه الفتنة، ففي الوضوء يدخل يغتسل ساعتين، وكلما غسل عضواً يقول: ما غسلت الثاني. من الوسوسة. وإذا جاء ووقف يصلي هكذا! وهو يضبط النية كي تقارن: الله أكبر! فنهينا عن التشديد: ( إن هذا الدين يسر، وما شاد الدين أحد إلا غلبه )، ( ويسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ) فهذه تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، فانظر كيف شدد الله عليهم لما شددوا.قال: [ ولكن شددوا فشدد الله عليهم، فعثروا على البقرة المطلوبة بعد جهد جهيد، وغالى فيها صاحبها فباعها منهم بملء جلدها ذهباً ].

    هداية الآيات

    بعد أن شرحنا الآيات ما هدايتها؟ هل نطلب الهداية من هذه الآيات أم لا؟ هل تخلو آية من هداية؟ والله ما كان!قال: [ من هداية الآيات: أولاً: بيان ما كان عليه قوم موسى من بني إسرائيل من العجرفة وسوء الأخلاق؛ ليتجنب مثلها المسلمون ]. عرفتم الفائدة؟ لم شرح لنا حال بني إسرائيل، وأظهر قبائحهم في سلوكهم؟ من أجل ألا نقع فيما وقعوا فيه، ومن أجل ألا نتورط كما تورطوا. والآن النبي ليس موجوداً، ولو كان موجوداً -والله- لسمعتم العجب أكثر من بني إسرائيل.وعندنا دليل قطعي: العالم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ أليس خليفته يبلغ عنه؟! وها هم يسخرون من العلماء ويستهزئون أكثر من سخرية بني إسرائيل! لعلي واهم؟ والله العظيم لَيُسخر من العلماء، ويستهزأ بهم، ويتهكم بهم، ويقال فيهم قبائح السلوك، وما هو واحد ولا عشرة ولا مليون؛ لأننا ما درسنا هذا الكتاب!أتلومنا يا شيخ! ونحن جهلة؟!أسألكم بالله كونوا على علم: أين الذين جلسوا في حجور الصالحين وتربوا عليهم؟ أشيروا إليهم.نحن الآن تلاميذ الفيديو والدش والشريط، وفي المدارس كما تعلمون الأساتذة من أمثالي همهم الراتب، والتلاميذ همهم متى يتخرجون، وهكذا .. فلا وجود لله عز وجل في أعمالنا، كيف يتخرج أبناؤنا؟ وأصعب من هذا البنات، يهون الأمر مع الذكور، أما مع الإناث فالآن مسابقة عظيمة: أية بنت تتخرج لتصبح موظفة! اللهم استر علينا.المهم من هداية هذه الآية الكريمة: [ بيان ما كان عليه قوم موسى من بني إسرائيل من العجرفة وسوء الأخلاق ليتجنب مثلها المسلمون ] قلتم: لا يستطيعون أن يتجنبوها .. ما عرفوها، هل اجتمعوا على هذا الكتاب ودرسوه؟ المقررات في العالم الإسلامي باستثناء المملكة -وليغضب من شاء أن يغضب- المقررات نتف وجزئيات بسيطة في التعليم لا وزن لها، فكيف يتخرج أبناء المسلمين عالمين بالكتاب والسنة؟! والمقررات عندنا إسلامية، ومع هذا والله يغمسون أنوفهم في الباطل، وتجد عجائب في المقررات لا يتفطن لها إلا ذوو الألباب! قال: [ ثانياً: حرمة الاعتراض على الشارع، ووجوب تسليم أمره أو نهيه، ولو لم تعرف فائدة الأمر والنهي وعلتهما ]. أقول: من هداية الآية: يحرم علينا أن نعترض على الشارع - على الله أو على رسوله .. على الكتاب أو السنة- ووجوب تسليم أمر الله وأمر الرسول ونهيه، وإن لم نعرف الفائدة كذلك، فليس شرطاً أن نعرف العلة، وما دام قد أمر الله أمر، ونهى رسول الله نهى، عرفنا العلة أو لم نعرف، إذ لا بد من التسليم؛ لم؟ لأن الشارع حكيم، وهو أستاذ الحكمة ومعلمها، فكيف إذن تظن في أمر أو نهي أنه خارج عن دائرة الفائدة والمصلحة! هذا مستحيل!إذاً: يحرم الاعتراض على الشارع، ويجب التسليم لأمره أو نهيه، ولو لم تعرف فائدة الأمر والنهي وما هي علته، المهم أن يصح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: [ ثالثاً: الندب إلى الأخذ بالمتيسر، وكراهة التشدد في الأمور ]. هل هذا عرفه المسلمون؟ فالذي تيسر من طعامك .. من شرابك فاحمد الله وكل واشرب. والذي تيسر من نعلك أو من ثوبك لم تتشدد وتطلب ما هو أعظم وما هو أعلى، وما هو أشقى؟!وهذا أبو القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع يقول له ربه: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، فكانت هذه السورة أحب إليه، والله إنه ليقرأ بها في اليوم مرتين أحياناً؛ لم؟ لما فيها من كلمة: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، فقالت أم المؤمنين الصديقة عائشة رضي الله عنها: ( ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما )، أنت تجد ثيباً تتزوجها بخمسة آلاف ريال فلم تتزوج بمائة ألف ريال يا عبد الله؟! أنا جاءني أحدهم يشتكي ويبكي، قلت: كيف تعطيه مائة ألف؟ أنت اشتريت هذه أمة؟! أنت تستحل فرجها بالمهر الذي هو مائة ألف ريال. يكفي خمسة آلاف .. لم تعطه مائة ألف؟! والعجب أنهم فقراء، ولو كانوا تجاراً .. أغنياء .. أمراء نقول: لا بأس، والله فقير يقول لك: مائة ألف! ماذا نصنع الآن؟ نطلق أم لا نطلق؟فخذ ما تيسر، ليس في المركب فقط، ولا في المسكن، ولا في الملبس، ولا في المأكل، بل في كل شيء، الذي يسره الله اقتنع وخذه.قال: [رابعاً: بيان فائدة الاستثناء بقول: إن شاء الله ] أما عرفتم هذا؟ الله أدب سليمان أم لا؟ وأدب المصطفى أم لا إذ قال له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] وقد جاءت أسئلة من اليهود جاءوا بها إلى مكة للمكر والخديعة، وسألوا الرسول عنها فقال: أجيبكم غداً. فعاتبه الله بانقطاع الوحي خمسة عشر يوماً، حتى أن امرأة أبي جهل في الشوارع تغني تقول: تركه .. قلاه. ونزلت سورة الضحى، وخففت عن آلام المصطفى وسرَّت عنه، وأقسم الله له أنه ما تركه أبداً: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:1-3]، ونزلت: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].وبلغنا في بلاد العرب والإسلام أنك إذا قلت: إن شاء الله، يقول: لا تقل: إن شاء الله، لا أصدقك، قل: نفعل كذا، فمنعوهم كلمة: إن شاء الله!قال: [ بيان فائدة الاستثناء بقول: إن شاء الله، إذ لو لم يقل اليهود: إن شاء الله لما اهتدوا أبداً، وما كانوا يهتدون إلى معرفة البقرة المطلوبة.خامساً: ينبغي تحاشي الكلمات التي قد يفهم منها انتقاص الأنبياء مثل قولهم: الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71] ] إذاً: قبلُ ما كان يأتي بالحق، فهذه دلالة خفية.قال: [ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71] إذ مفهومه: أنه ما جاءهم بالحق إلا في هذه المرة من عدة مرات سبقت ].معاشر المستمعين! إياي وإياكم والجهل، أزيلوا الجهل بدراسة الكتاب والسنة في بيوت الرب، والله يتولاكم.وصلى الله على نبينا محمد وآله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #66
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (59)
    الحلقة (66)


    تفسير سورة البقرة (3)


    الناس ثلاث أصناف: متقون، وكافرون، ومنافقون، وقد جاء في بيان حال المنافقين من الآيات أكثر مما جاء في الصنفين الأولين؛ لعظم خطر هذا الصنف على المجتمع المسلم، فهو يظهر الإسلام ويبطن الكفر، صيانة لدنياه ويظن أنه بهذا العمل يخدع الله ويخدع المسلمين، ولا يدري أنه يخدع نفسه، لأنه سيحاسب ويجازى على كل صغيرة وكبيرة اقترفها في حياته الدنيا، ثم تكون النار هي مصيره الأبدي.

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا مع كتاب ربنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها، وها نحن مع سورة البقرة، السورة الحاوية لألف خبر، وألف أمر، وألف نهي.وهذه السورة كان الأصحاب رضوان الله عليهم إذا حفظها أحدهم ولوه القضاء والحكم.وهذه السورة لا تقرأ على الموتى لطولها.وهي إحدى سورتين تظللان صاحبهما يوم القيامة: سورة البقرة وسورة آل عمران، وتسميان بالزهراوين.

    الفلاح للمتقين

    هذه السورة مفتتحة بقول الله تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:1-2]، وقد درسنا هذه الآيات، وخلاصتها من باب تذكير الناسين وتعليم غير العالمين: أن القرآن الكريم لا ريب ولا شك فيه، فإن كان هناك شك أو ريب في نفس أحد فليس السبب هو القرآن، إذ القرآن لوضوحه وبيانه وسلامة ما يحمله من الهدى والنور لا يتطرق إليه الشك ولا الريب بحال.وهذا القرآن يحمل هدى ولكن للمتقين الذين آمنوا بالله ولقائه وكتبه ورسله، فخافوه وأطاعوه بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فهؤلاء لهم في القرآن نور وهداية إذا هم اتقوا ربهم.وقد وصف الله المتقين بصفات نسأل الله أن تكون عندنا ونحن من أهلها، فقال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:3-4]، فيدخل مؤمنو اليهود ومؤمنو النصارى في حضرة المؤمنين المتقين.وهؤلاء المتقون قد قضى الله تعالى وحكم بأنهم هم المفلحون فقال: أُوْلَئِكَ السامون الأعلون عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ أي: متمكنين من ذلك الهدى، كأنما اتخذوه سفينة نجاة، وَأُوْلَئِكَ هُمُ لا سواهم، ولا غيرهم، الْمُفْلِحُونَ أي: الفائزون الناجون من النار، الداخلون للجنة؛ دار الأبرار.ولو سئلت: ما المراد من الفلاح والفوز الذي يذكره الله في القرآن؟ فقل له: أما سمعت هذا البيان من سورة آل عمران فالله يقول: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، هذا هو الفوز.وهذا صنف من الناس: مؤمنون متقون، من العرب ومن العجم، من المشركين ومن أهل الكتابين، آمنوا واتقوا واستقاموا، فحكم الله لهم بالفلاح.

    الختم على قلوب الكافرين

    هنا صنف آخر وهم الكافرون، قال الله تعالى عنهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7]. وهذا الصنف من الناس يشمل الأبيض والأسود، والعربي والعجمي، وهم -والعياذ بالله تعالى- قد كفروا، وكفروا بمعنى جحدوا وغطوا وستروا، أو كفروا عناداً ومكابرة فعرفوا وجحدوا.وهؤلاء المكذبون، الجاحدون، المعاندون، المكابرون منهم من هو متهيئ ومستعد لأن يقبل الهداية متى عرضت عليه، ومنهم أفراد يقلون أو يكثرون موجودون في كل زمان ومكان قد ضربوا بسهم عظيم، وتوغلوا في الجحود والعناد والمكابرة والفسق والفجور، فمضت فيهم سنة الله، فختم على قلوبهم، فما أصبحوا يفقهون أو يعقلون أو يفهمون أبداً، ولو حدثتهم عن الله وعن لقائه .. عن الإخاء .. عن المودة .. عن الرحمة .. فلكثرة فسقهم وفجورهم وضلالهم وشركهم أصبحوا لا يسمعون الخير، ولا يعقلون أو يفهمون، إذ ختم الله على قلوبهم، فلا يدخلها نور، ولا وعي، ولا فهم، ولا إدراك. وَعَلَى سَمْعِهِمْ أي: لا يسمعون نداء الخير أبداً.وجعل الله تعالى على أبصارهم غشاوة أي: ستراً عليها كالبياض الذي يصيب العينين، فصاحبه لا يشاهد شيئاً فهو أعمى.فهؤلاء قضى الله تعالى عليهم وحكم بكفرهم وعدم إيمانهم، وبخلودهم في دار الشقاء: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] لأنهم كفار في الدرجة الأولى، فمنهم من كفر عناداً ومكابرة، ومنهم من كفر تقليداً، ولكن توغل وضرب بسهم كبير في باب الكفر والضلال، وما أصبح يقبل الهداية، وفي سورة يس يقول تعالى: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [يس:10-11] أي: المؤمن الحي القابل للهداية، أما من تراكمت عليه ذنوبه وآثامه وجرائمه وموبقاته فإن هذا ما أصبح قابلاً للهداية، فلا تكرب عليه يا رسول الله ولا تحزن، ولم يقل له: لا تدعهم ولا تنذرهم؛ لأن هذا غيب، والرسول لا يعلم الغيب، فما يفرق بين أبي جهل وبين أبي طالب ، فمهمته أن ينذر وأن يبلغ، ولكن لما يشعر بالألم في نفسه والحزن من أجل أنهم أعرضوا وعاندوا وكابروا يخفف الله تعالى عنه بمثل قوله: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:10]، فهون على نفسك.إذاً: القسم الثاني من أقسام البشر الثلاثة هم الكفرة.

    تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)

    القسم الثالث هو قسم المنافقين، ولا رابع بعدهم. فالناس ثلاثة أصناف: مؤمنون متقون، كافرون فاجرون.والمنافق ن هم الذين ينطقون بالشهادتين ويأتون بالأعمال الصالحة ويصومون أمام المسلمين ويجاهدون، وهم مرضى القلوب، فيظهرون الإسلام بالنطق والعمل، ويبطنون الكفر والإلحاد في قلوبهم.قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ [البقرة:8-9] وفي قراءة سبعية (وما يخادعون) إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:9-10].وهؤلاء هم المنافقون، والسياق فيهم إلى كذا آية؛ لأنهم أخطر ما يكونون على المجتمع الإسلامي، فالكافر واضح صريح الكفر، لك أن تدعوه وترغبه، وتنذره وتخوفه، وإن كان قد توغل في الشر والفساد فلن يسمع نداءك، ولا يقبل دعوتك، وإن كان ما توغل في الفساد، وما عنده منافع في كفره يحافظ عليها فإن هذا قد يهتدي، وأما المنافق فهو يخاف أنه إذا أعلن عن كفره فإنه سيقتل أو يتوب، ولكي يحافظ على ماله وعلى شخصيته في المجتمع ماذا يصنع؟ تجده يتزيا بزي المؤمنين، ويأتي ما يأتونه من الأعمال الظاهرة كالصلاة والنفقة والجهاد، وهو مظلم النفس خبيث.

    من صفات المنافقين وعلاماتهم

    من التعاليم المحمدية؛ وأنتم تعلمون من هو محمد رسول الله، فهو أستاذ الحكمة ومعلمها، أنه أعطانا بطاقة لنا نحن بوصفنا رجال الدولة، وكل مؤمن يجب أن يحمي دولة الإسلام، وأن يحافظ على راية لا إله إلا الله .. محمد رسول الله، وأن يحافظ على الطهر، والصفاء، والأمن، والرخاء في ديار المسلمين.أعطانا بطاقة علنية، ما هي؟ اسمعوا أيها المجاهدون: ( آية المنافق ثلاث )، وبهذه العلامات نعرف بها المنافقين بينكم، والقرآن الكريم ما نزل يسمي المنافقين بأسمائهم؛ لأن النفاق ليس في أيام الصحابة فقط بل هو إلى اليوم، فماذا يسمي؟ إذاً يعطي الخبر العام.قال: ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ). وأنتم تعيشون في مجتمع يوجد فيه منافقون، فكيف نعرفهم حتى نتقيهم، وحتى ننذرهم أو نرغبه؟ كشف الرسول صلى الله عليه وسلم الستار عنهم بهذه البطاقة المحمدية.إذا كنت تحدث جارك أو من معك في العمل أو السفر، أو في المسجد وكلما يحدثك يكذبك؛ لأنه يريد أذاك وإرهاقك وتعبك، فهو كلما أخبرك كذبك، إذا جربت عليه المرة الأولى والثانية والثالثة والرابعة فهذا هو: ألق القبض عليه، هذا منافق.ثانياً: ( إذا وعد أخلف )، مثلاً: تجده يعدك قائلاً: نلتقي غداً إن شاء الله في الساعة الثانية عشرة ظهراً عند باب الكومة. فأنت لإيمانك إذا جاء الموعد ذهبت وجلست تنتظره هناك، وهو في بيته مع أولاده غير مبالٍ، يتلذذ ويقول: دعه في الشمس. هذه المرة الأولى. وفي المرة الثانية تتواعدان على أنكما تسافران غداً الساعة الواحدة ليلاً في المكان الفلاني، فذهبت أنت أيها المؤمن وجلست تنتظره وهو نائم مع زوجته وأولاده فرحان ومسرور. وهكذا: جربته المرة الأولى والثانية والثالثة .. فهذا هو المنافق الذي يبطن الكفر في نفسه، فما آمن بالله ولا بلقائه.والثالثة: ( وإذا اؤتمن خان )، إذا أمنته على فلس .. على عَرَض، على كلمة، تجده المرة الأولى يخون، والمرة ثانية يخون، والثالثة يخون، ولو وضعت عنده كل قوتك في جيبه، وقلت له: حتى أعود. ولما ترجع يقول: لعلك واهم، لست أنا الذي أعطيتني، وما وضعت عندي شيئاً أبداً. وهكذا كلما ائتمنته خانك، فإذا جرب في المرة الأولى والثانية والثالثة عرفنا أنه يتعمد الخيانة؛ لأنه يكره المؤمنين ويبغضهم، ويود خسارهم وهلاكهم.عندكم هذه البطاقة أو لا؟ تعرفون بها المواطن الذي يحمل النور في قلبه؛ نور الإيمان بالله ولقائه، أو هي مجرد صورة خالية فقط، والمؤمن الحق هو الذي لا يكذب إذا حدث، ولا يخلف إذا وعد، ولا يخون إذا ائتمن، نعم قد يحدث منه ذلك مرة في دهره، لكن أن يتكرر هذا منه فوالله لا يكون، إلا إذا كان قلبه ميتاً، يعيش في ظلام كامل، ظلام الكفر والشرك والعياذ بالله. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، والعلة: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]. (عذاب عظيم) ما حدد موعده، فيكون في الدنيا، ويكون في الآخرة.وهل المنافقون أيام الصحابة سعداء؟ والله لأشقياء، عذاب الخزي في الدنيا، وأما عذاب الآخرة فلا تسأل، وأيما مجتمع طاهر يوجد فيه منافقون إلا وهم في خزي وعذاب تام وعظيم، أما عذاب الآخرة فلا تسأل.

    فقدان الإيمان عند أهل النفاق

    قوله: وَمِنَ النَّاسِ من أين اشتق لفظ (الناس)؟الجواب: إما من ناس ينوس إذا تحرك، وإما من نسي ينسى، أو من الأُنس، وهذا كله محتمل، ولا معنى للاشتقاق، ولا حاجة إليه، فالناس هم الآدميون.لكن من هم في الآية؟ قال: مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:8]. والله تعالى يشهد لعلمه بما في قلوبهم وما في نفوسهم بأنهم غير مؤمنين، فقال تعالى: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] ولا تظن أن هذا خاص بالمنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاللفظ يدل على العموم إلى يوم القيامة وَمِنَ النَّاسِ أي: هم أناس شأنهم كذا وكذا؛ والمنافقون قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم انقرضوا وما بقي منافق في المدينة، فكلهم ماتوا وهلكوا، ولكن البشرية هي البشرية، وهداية الله هي هداية الله، وفي كل زمان ومكان يوجد منافقون.يقولون: آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:8] أي: بألسنتهم: أشهد أن لا إله إلا الله، وقد كان ابن أبي رئيس المنافقين يدخل على الرسول صلى الله عليه وسلم في الروضة، ويقول: والله إني لأشهد أنك رسول الله، فأنزل الله في القرآن: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المنافقون:1-2] يجتنون ويتقون ويستترون بها فقط حتى تحفظ أموالهم ودماؤهم لا أقل ولا أكثر، أما الإيمان فما حلّ قلوبهم ولا دخلها.

    الإيمان بالله واليوم الآخر هو أصل الإيمان

    يقول المنافقون: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:8]، هنا عرف الدارسون والسامعون والسامعات أن الإيمان بالله واليوم الآخر هو أصل الإيمان، وإذا حصل فيه أي ضعف انهار البناء وما بقي إيمان، ومعنى الإيمان بالله: كونه رباً لا رب سواه، وإلهاً معبوداً بحق لا معبود بحق غيره، وموجوداً، عالماً، قديراً، رحيماً، ذا صفات علا، وأسماء حسنى.وإذا وجد الإيمان بالله في قلب العبد هان عليه أن يلاقي ما يلاقي في الحياة، وأصبح أهلاً للكمال، وإذا ضعف هذا الإيمان وخفت نوره هبط، وإذا انطفأ أصبح حجراً ومن شر الخلق.فالإيمان بلقاء الله .. وبيوم القيامة .. وبالبعث والجزاء والدار الآخرة هو الذي يكيف حياة الإنسان، ومتى قوي إيمان العبد بأنه سيلاقي الله وجهاً لوجه، وسيسأله وسيستنطقه وسيحاسبه وسيجزيه بعمله الخير بالخير والشر بالشر، متى رسخت هذه العقيدة في صاحبها فإنه يستطيع أن يصوم الدهر، ويستطيع أن يرابط عشرات السنين، ويستطيع أن يخرج من ماله ويستطيع .. ويستطيع، كل ذلك لقوة هذا النور في قلبه، أما الذي لا يؤمن بحساب ولا جزاء ولا حياة أخرى ولا لقاء، سبحان الله! كيف يصبح ذا كمال وكيف يكون له قلب رقيق؟! وكيف توجد له عاطفة؟! وكيف توجد له رحمة؟ فوالله ما هو إلا شر من الثعابين والحيات.دائماً نقول: الذي لا يوجد في قلبه إيمان بالبعث الآخر والحياة الآخرة والجزاء بالنعيم المقيم أو بالعذاب الأليم، إذا لم يوجد هذا في قلب العبد والله لئن تنام إلى جنب أسد أو ذئب أو ثعبان، وقد تسلم وتقوم في الصباح وأنت بعافية، وإذا نمت إلى هذا المخلوق، واحتاج إليك والله ما تسلم، فلو احتاج إلى دمك امتصه، إلى لحمك أكله، إذ ليس هناك ما يمنع ذلك أبداً، فمن لا يؤمن بلقاء الله والدار الآخرة لا يوثق فيه ولا يصدق، ولا يؤتمن ولا ولا؛ لأنه شر الخليقة.وقد كنا نعجب أيام الاشتراكية في بلاد العرب ممن كان يتمدح بها بصوته العالي، وينظر إلى أهل العلم نظرة استهزاء وسخرية -والعياذ بالله-، والحمد لله قضى الله على الاشتراكية والشيوعية وأساسها: إن حرباً ظاهرة في بلاد الروس اللهم أنهِ وجودهم، وهم لا ينادون بالدين .. بالإسلام، بل ينادون بالقيم الإنسانية! ونحن نعجب من شخص لا يؤمن بالله ولا بلقائه كيف تكون له قيم ويحافظ عليها ويدعو إليها، وهذه كلمة باطلة فيها تدجيل وتضليل، فأي قيم هذه! وهو يعرض عن مصدر القيم ومنبعه وهو شرع الله وتعاليم الله وهداية الله في كتابه وحكمة رسوله، وقد جربناهم وعرفناهم أنهم من أخبث الناس وشرهم.نعم. الإيمان أركانه ستة: الإيمان بالله .. بملائكته .. بكتبه .. برسله .. باليوم الآخر .. بالقضاء والقدر، ولكن الركيزة المتينة هي الإيمان بالله واليوم الآخر، وليس بمعقول أن من آمن بالله رباً وإلهاً فإنه يكفر بالكتاب أو يكذبه بأنه أرسل رسولاً، أو يكذبه في قضائه وقدره وتدبيره لخلقه، هذا غير معقول! لكن قد يؤمن بالله ولا يؤمن بالبعث الآخر.ومن هنا: لو تتبعنا القرآن فإننا نقف على هذه الحقيقة، يقول تعالى: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، ويقول: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [الطلاق:2]، وحتى النساء في قضية الحيض يقول تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228]، فما يجحدن الحيض.وهنا أحب أن تركزوا على أن المحرك القوي الدافع للإنسان والموجه له هو الإيمان بالله وبلقائه، فمن ضعف إيمانه بالله أو بلقائه هبط، وإن انطمس النور وكفر بالله وبيوم القيامة أصبح شر الخليقة، فلا تأمنوه أبداً، وإذا به يفرغ تمام الفراغ من شيء اسمه رحمة أو إنسانية، والتمنطق بالإنسانية والقيم كله هراء وباطل، وانكشفت سوءاتهم وعرفهم البشر بكذبهم.

    تفسير قوله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون)

    قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8] ناس شأنهم كذا وكذا، أي: مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، ولِم يقولون: آمنا؟ قال تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9].وهل يستطيعون مخادعة الله وهو يعلم إسرارهم ونياتهم وخواطرهم، وهو خالق أعمالهم؟ لكنه الجهل، فكفروا بالله، فيفهمون هذا الفهم يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:9]، لكن الله تعالى رد عليهم فقال: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9].والخداع هو: أن تظهر الشيء النافع وتخفي الضار من أجل أن تخدع به غيرك، فهذا هو المخادع، تراه يريك زيتوناً ليغرر بك، وإذا هي حصاة حتى تبيت جائعاً.إذاً: هم يرون الله والمؤمنين أنهم مؤمنون يشهدون الصلاة ويخرجون إلى الجهاد مع رسول الله، وما هم بمؤمنين، فإن قيل لهم: لِم تفعلون هذا؟ قالوا: نخادعهم، فسوف تنتهي هذه الدولة وسوف يموت محمد صلى الله عليه وسلم ونعود إلى ما كنا، وما هي إلا أيام فقط. وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]، أي: من أين لهم الشعور والإحساس؟! فهم لا يبصرون، ولا يسمعون، ولا يفقهون، ولا يعقلون. كيف -إذاً- يشعرون بأنهم يخادعون الله وهو خادعهم؟! ما يشعرون.

    تعريف الإيمان وصفة المؤمن

    هنا مسألة علمية نحاول أن نحفظها إن شاء الله: ما هو الإيمان؟أهل العلم يقولون: الإيمان عقد بالجنان، أي: بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان.فمن اعتقد الحق من وجود الله، وعلم الله، وقدرة الله، ورحمة الله، وحكمة الله، واعتقد أن هذا القرآن كتاب الله، وأن من نزل عليه رسول الله، واعتقد أنه مجزي بعمله، ومحاسب به: إما نعيم وإما جحيم، فإن اعتقد هذا فليترجمه بكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.فهذا اعتقد الحق وعربن عليه، ودلل بالشهادة والنطق، فما أبقى الإيمان في قلبه بل صرح بأنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وآمن بكل ما أمر الله بالإيمان به، ثم دلل على صحة دعواه بأركانه، فصام، وصلى، وجاهد، وصابر، وتجنب ما حرم الله.فإن هو اعتقد الحق وأبى أن ينطق بالشهادتين فهو كافر وإن عرف، وما دام لم يعربن على إيمانه بالنطق بالشهادتين فهو كافر قطعاً، فلا يصح إيمان عبد ما نطق بالشهادتين، وإن قال: أنا عارف، وعرفت، وأنا مؤمن، ولم يقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله فهو كافر.فإن اعتقد الحق ونطق بالشهادتين، وأبى أن يدلل على ذلك بالأعمال الصالحة وترك المحرمات فهو فاسق؛ لأنه اعتقد الحق، ودلل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكنه لم يحرم ما حرم الله، ولم يحل ما أحل الله، ولم ينهض بما أوجب الله، فهذا الفاسق؛ لأن العقيدة سليمة، وأعرب عنها ودلل، لكن سلوكه وأركانه ما استقامت.ويبقى المنافق هو الذي يعتقد الباطل، ولا يعربن عليه، ولا يدلل بل يدلل على الحق فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدلل بالصلاة والجهاد، فهو منافق؛ لأنه ما يحمل الإيمان في قلبه، وهو -فقط- من الخوف شهد: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وفعل ما فعل المؤمنون من صلاة وجهاد وزكاة، واجتنب ما يجتنب المؤمنون من المحرمات والموبقات، لكنه منافق أبطن الكفر وغطاه وغشاه في صندوق قلبه، وأظهر ما يدل على أنه مؤمن.الخلاصة: المؤمن الحق هو الذي يعتقد الحق ويعربن عليه بالنطق، ويدلل على صحته بالأعمال.فإن اعتقد الحق ولم ينطق بالشهادتين ولم يعربن على أنه يعتقد الحق، فهذا نقول فيه: كافر.فإن اعتقد الباطل وعربن عليه بالشهادتين ودلل بالأعمال الصالحة، فهذا منافق؛ لأنه أبطن الكفر وغشاه وغطاه، وما أظهره لمنافع ومصالح دنيوية حفاظاً على مركزه .. على ماله .. على وجوده في المجتمع الإسلامي.وقد يوجد عندنا من هو ضعيف الإيمان، وعربن على إيمانه بالشهادتين بل يؤذن وفي كل صلاة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ولكن يرتكب المعاصي، ويترك الواجبات، وهذا يسمى الفاسق.

    الحكم على الناس بالنفاق لله وحده

    قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] من حكم عليهم بعدم الإيمان؟ الله، وأما أنا أو أنت أو الطبيب أو الشيخ فما يستطيع، والقلوب من يعلمها؟ الله فقط، أما نحن فلا نقول: فلان منافق، لا نستطيع، إلا إذا دللت بما أعطينا من برهنة: جربته يوم كذا، يوم كذا، وهو يكذب .. يكذب .. يكذب، وجربته في الوعود فيخالفها ويخلفها و.. و، وجربته أيضاً في الأمانة فخاننا وخان الدولة. إذاً: هذا منافق، ونترك للقاضي يحكم عليه.أما إذا ما استعملنا هذه الآلة التي أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما نقول في شخص: منافق؛ لأنه يبطن الكفر وما ندري، هل أنا اطلعت على قلبه، وشققت صدره! وحتى لو شققت فإنك ما تعلم، وهذا لا يعلمه إلا الله، فلهذا عاش المنافقون، ومع هذا ما فضحهم الله، وهم يخادعونه، فستر عليهم حتى يردوا موارد العذاب الأبدي أو يخرج من فتنة النفاق إلى نور الإيمان، ولو شاء لأنزل: يا أيها الذين آمنوا إن ابن أبي وإن فلاناً وفلاناً وفلاناً .. هؤلاء منافقون كافرون، ولأجهز عليهم رسول الله والمؤمنون وذبحوهم واستراحوا، لكن الله الرب، الرءوف، الرحيم علم أن كثيراً منهم سيعودون، وكم وكم من عائد عاد إلى الإيمان، ومن مات على الكفر فقد قضى وحكم أزلاً بأنه من أصحاب الشقاء، والعياذ بالله تعالى.فقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] قلنا: هذا لله أو لا؟!

    كيفية خداع المنافقين

    قوله: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:9]، كيف يخادعون الله؟ يظهرون لو أنهم مؤمنون به، فيغتسلون ويصلون ويجاهدون مع المؤمنين، وهذا خداع إذ يرون الله شيئاً ما هم بمؤمنين به، فالخداع أن تري الشخص ما يحب وتخفي وتجحد عنه ما يكره من أجل أن تتمكن منه، ولهذا الغش والخداع محرمان بين المسلمين.قوله: وَمَا يَخْدَعُونَ وفي قراءة: وما يخادعون إِلَّا أَنفُسَهُمْ ؛ لأن من ارتكب سيئة فهو الذي يجزى بها. أما الله عز وجل ماذا يفعلون معه؟ هذا إن قلنا: المخادعة على بابها، وإن قلنا: إن هذا من خدع يخدع فقط، فقد فرغنا من هذا التعليل، وهذا اللفظ يطلق ولا يراد به المفاعلة مثل: عاقبت اللص، هو عاقب وأنت تعاقب، عاقبت اللص بمعنى عاقبته، كذلك عالجت المريض، هل هذه مفاعلة هو يعالج وأنت تعالج؟ الجواب: لا. إذاً يخدعون الله، فيخادعون بمعنى يخدعون، والله منزه وبعيد عن خداعهم، ولا يصل إليه شيء. وإن قلنا: المخادعة على بابها فيصح؛ لأن الله عز وجل أيضاً خادعهم، ستر وما فضحهم، ولا سماهم بأسمائهم إلى حين، وفي نظرنا أنهم خدعوا الله، فأظهروا له الإيمان فهو يحسبهم مؤمنين، والله هو خالق إيمانهم وخالق قلوبهم، كيف ما يعرف؟ فما ينفعهم خداعهم لله. إذاً: ما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.

    تفسير قوله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً...)

    قال الله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10]. ما هذا المرض؟ هل هي هذه الأمراض المادية التي يعالج الإنسان منها كوجود خفقان في القلب أو انسداد؟ الجواب: لا، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: الشك، والشرك، والنفاق، والكذب، والحسد، والبغض، وما إلى ذلك من الأمراض التي لا تعالج بالأدوية والعقاقير النافعة.ومرض الكفر يذهبه الإيمان، ومرض النفاق يبرزه ويعالجه الصدق، ومرض الحسد يبعده الإيمان بقسمة الله عز وجل، وهكذا. وهذه الأمراض شأنها خطير، وإذا تأصلت في المجتمع فيا ويحه! فلا يسعد ولا يكمل، وكل منا مطالب بتطهير قلبه وتصفيته.وقد كررنا القول: المجتمع الإسلامي من المدينة النبوية إلى اندونيسيا توجد فيه أمراض كثيرة، لكن أمراض القلوب كالحسد والبغض والشح والكبر ما علاجها؟ نعم هناك مستشفيات لعلاج الأمراض المادية التي تعالج بالأدوية، لكن هذه القلوب لا تعالج إلا بالكتاب والحكمة .. بنور الله سبحانه وتعالى.والطريقة الحقيقية هي أن يجتمع أهل القرية في جامعهم بنسائهم وأطفالهم ورجالهم من المغرب إلى العشاء؛ وذلك كل ليلة وطول العام، بل وطول الحياة، فهذا نظام حياتهم، فيتلقون الكتاب والحكمة كل يوم، فهذا الذي يعالج تلك الأمراض، والله ما يبقي شكاً ولا نفاقاً، ولا يبقي ارتياباً، ولا يبقي حسداً، ولا بغضاً، ولا بخلاً، ولا شحاً، ولا .. ولا، إذ العلاج الوحيد: الكتاب والحكمة، قال تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، ولا تسأل عن فوائد ذلك المجتمع وما يتم له.لكن لا بد وأن نقدم قلوبنا للمربي، ولابد أن نجلس بين يديه كما جلس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين والمؤمنات بين يدي رسول الله، فزكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة، فإما أن ندخل هذا المستشفى الرباني الإلهي فنعالج قلوبنا طول العام وطول الحياة؛ لأن الطوايا تطغى، والأحداث تتكرر، وأعراض الحياة واضحة، لكن يومياً أهل القرية في جامعهم، وأهل الحي في المدينة في جامعهم، خالفوا الإنس والجن، وأقبلوا في صدق على ربهم، هذا هو العلاج. هل هناك علاج آخر؟ لا وجود له.نعم قد يوجد أفراد مجتمعون حول شيخ يزكيهم ويربيهم، لكن هؤلاء أفراد وليسوا الأمة كاملة، غير أهل قرية بنسائها وأطفالها، وهذا هو كتاب (المسجد وبيت المسلم).وإلى الآن ما بلغنا أن أهل القرية الفلانية قد اجتمعوا بنسائهم وأطفالهم ورجالهم كل ليلة من المغرب إلى العشاء، وواصلوا الاجتماع، والآن مضى عليهم ستة أشهر، وقلت لكم: والله نزور ديارهم لنشاهد أنوارهم، ولكن ما حصل بعد، فهل هناك من مانع؟ والله أبداً، ولا توجد حكومة في بلاد المسلمين تمنع هذا قط، بل والله ليأتين شيخ القرية والمسئولون ويجلسون معهم. فلِم ما نفعل؟ ما نستطيع. لِم ما نستطيع؟ الجواب: لأن الله كتب علينا هذا الهبوط، ولنبق دائماً في شقاوة وتعاسة وآلام.إذاً: القلوب تحتاج إلى علاج أو لا؟ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] نعم. المرض إذا ما يعالج يزداد، فعندما يظهر المرض في الجسم بادر إلى الطبيب، وبادر إلى الحمية والدواء، فإن أنت تساهلت وما باليت فإن المرض يستشري، والطبيب يقول: فات الوقت وما أصبح قابلاً للعلاج، وهذا هو حال الذين كفروا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] فتأصل المرض فيهم، وتمكن من قلوبهم، وكذلك النفاق فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا.قوله: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:10] العذاب: ألم يزيل عذوبة الحياة، فهناك جوع، عطش، برد، حر، إهانة، ضرب بالسياط، تغليل بالأغلال، وكل هذا يذهب عذوبة الحياة.والأليم هو الموجع، وهذا أيضاً لهم في الدنيا والآخرة.وهل المنافقون سعداء في الدنيا؟ إنهم يبيتون في كرب ويظلون في آخر، وإذا ماتوا يلحقهم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:10] بسبب ماذا؟ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] أي: بسبب كذبهم على الله، وعلى رسوله، وعلى المؤمنين، إذ يزعمون أنهم مؤمنون ويتمنطقون ويشهدون، وهم ليسوا بمؤمنين، كذبوا أو لا؟ والكذب هو: خلاف الظاهر، وقول خلاف الحق، ولو أن عنده شيئاً يقول: والله ما عندي. هذا كذب، يقول: فلان سافر وهو في بيته. وهذا كذب.إذاً: يدعون أنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين، فهم كاذبون.وهل يصح من مؤمن كذب؟ والله ما يصح، وهل مؤمن عرف الله ولقاءه يكذب أيضاً؟ نعم ممكن في العام والعامين، وإبراهيم عليه السلام كذب ثلاث مرات في أكثر من مائة وعشرين سنة، وما هو بكذب حقيقة بل تورية، فكون المؤمن كل يوم يكذب فهذا ما هو بالمؤمن، فافهموا هذا، واسألوا الله أن يثبتنا وإياكم.‏
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    شرح الكلمات

    قال المؤلف غفر الله له: [شرح الكلمات: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8]: من بعض الناس. مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:8]: صدقنا بالله رباً وإلهاً لا إله غيره ولا رب سواه. وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:8]: صدقنا بالبعث والجزاء يوم القيامة. يُخَادِعُونَ اللَّهَ [البقرة:9]: بإظهارهم الإيمان وإخفائهم الكفر. وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [البقرة:9]: إذ عاقبة خداعهم تعود عليهم لا على الله، ولا على رسوله، ولا على المؤمنين. وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]: لا يعلمون أن عاقبة خداعهم عائدة عليهم. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10]: في قلوبهم شك ونفاق وألم الخوف من افتضاح أمرهم، والضرب على أيديهم.فَزَادَه مُ اللَّهُ مَرَضًا: شكاً ونفاقاً وألماً وخوفاً حسب سنة الله في أن السيئة لا تعقب إلا سيئة] هذه سنة مطردة فما دام وجد المرض يزداد.[ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:10]: موجع شديد الوقع على النفس].

    معنى الآيات

    قال المؤلف غفر الله له: [مناسبة الآية لما قبلها وبيان معناها: لما ذكر تعالى المؤمنين الكاملين في إيمانهم، وذكر مقابلهم وهم الكافرون البالغون في الكفر منتهاه، ذكر المنافقين وهم المؤمنون في الظاهر الكافرون في الباطن، وهم شر من الكافرين البالغين في الكفر أشده، أخبر تعالى أن فريقاً من الناس وهم المنافقون يدعون الإيمان بألسنتهم، ويضمرون الكفر في قلوبهم. يخادعون الله والمؤمنين بهذا النفاق، ولما كانت عاقبة خداعهم عائدة عليهم كانوا بذلك خادعين أنفسهم لا غيرهم، ولكنهم لا يعلمون ذلك ولا يدرون به، كما أخبر تعالى أن في قلوبهم مرضاً، وهو الشك والنفاق والخوف، وأنه زادهم مرضاً عقوبة لهم في الدنيا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الآخرة؛ بسبب كذبهم وكفرهم].

    هداية الآيات

    قال المؤلف غفر الله له: [هداية الآيات: من هداية الآيات: التحذير لنا من الكذب والنفاق والخداع، وأن عاقبة الخداع تعود على صاحبها كما أن السيئة لا يتولد عنها إلا سيئاً مثلها]، والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #67
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري ) تفسير سورة البقرة - (60) الحلقة (67)


    تفسير سورة البقرة (30)



    القلوب لحمة رطبة، لكنها إذا قست غدت أقسى من الحجر، فكم من عيون ماء نبعت، وأنهار جرت من بين ثنايا صخور صماء، أما القلوب القاسية -يا ويحها- لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً، جافة قاحلة، وهكذا كانت قلوب بني إسرائيل، قلوباً سوداء مظلمة، محرّفة لكلام الله وآياته، تنكر الضوء إذا داعبتها خيوطه، ولهذا كان الطمع في إيمانها بعيداً.

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:74-75] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!قول ربنا جل ذكره: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:74] من المخاطب بهذا؟ إنهم بنو إسرائيل .. إنهم اليهود الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم بل وساكنوه في هذه المدينة.فهذه الآيات تكشف الغطاء، وتزيح الستار عن أمراض تلك الأمة وعللها، وأسقامها، وأوجاعها؛ إذ كما بلغنا وسمعنا، وفهمنا أن ابن أخ قتل عمه ليرثه، ثم أخذوا الجثة ووضعوها في حي قبيلة أخرى، ثم صاحوا: قتل شيخنا .. قتل أبونا، من قتله؟ هو في الحي الفلاني.فأوحى الله تبارك وتعالى إلى نبيه موسى عليه السلام أن يأمرهم بذبح بقرة، فإذا ذبحوها جاءوا بعظم منها كرجل أو لسان أو أي جزء، وضربوا القتيل به فإنه يحيا بإذن الله، وينطق، ويخبر عن قاتله.وقد أشرنا إلى أنهم كانوا يدفعون إلى هذا دفعاً، فلمَّا أخبرهم أن الله أمرهم أن يذبحوا بقرة قالوا تلك الكلمة البشعة التي هي كفر، وهي كونهم يقولون لرسول الله: أتسخر منا؟ أتستهزئ بنا؟ وقد عرفنا أن الاستهزاء والسخرية محرمان على المؤمنين، فلا يجوز أن يسخر مؤمن بمؤمن، ولا يستهزئ مؤمن بآخر، واقرءوا قول الله تعالى من سورة الحجرات المدنية لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [الحجرات:11].ثم لما أمرهم ورد فريتهم وباطلهم، وعزموا على أن يذبحوا البقرة قالوا: ما لونها؟ ما هي؟ أخذوا يشددون على أنفسهم؛ ولعل هذا من أجل التهرب من القضية؛ وخشية أن يفتضح أمرهم بين الناس؛ لأن الذين طالبوا بالقتل هم الذين قتلوا عمهم أو أخاهم، فخافوا أن يفضحوا، فقالوا: ما هي؟ فقال: إنها كذا وكذا، لا فارض ولا بكر؛ عوان أي: نصف بين ذلك، ثم زادوا فقالوا: ادع لنا ربك ليبين لنا ما لونها: صفراء .. سوداء .. بيضاء؟ قال: إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69]، وهكذا حتى ساقهم القدر إلى تلك العِجْلَة التي هي نتيجة دعوة الرجل المؤمن الصالح، ليرزق الله ولده بمال ما كان يحلم به، إذ ساوموه بالألف والألفين، ولم يبعهم إلا بملء مسكها ذهباً، واشتروها.وعرفنا أنهم قالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] فنفعهم الاستثناء، ولو لم يقولوا: إن شاء الله ما كانوا يصلون إلى نتيجة. وذبحوها وجاءوا بقطعة منها وضربوا الميت، فقام تشخب عروقه بالدماء كأنه الآن سقط، وهو يقول: قتلني فلان.

    تفسير قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة ...)

    هذه الحادثة حادثة جُلَّى وعظيمة، فهذا ميت مضى عليه كذا يوم، ثم يحيا حياة كاملة، وينطق ويقول: قتلني فلان، ثم يموت مرة أخرى! حقيقة الذين شاهدوا هذه الواقعة لانت قلوبهم .. خجلوا .. رجعوا إلى الصواب .. عادوا إلى الحق، لكن ما هي إلا فترة، فما إن مات أولئك الذين شاهدوا الحادثة وإذ قلوب أبنائهم وأحفادهم تقسو، بدليل قوله تعال: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة:74]، وهو يخاطب بني إسرائيل الأموات والأحياء؛ لأن الأحياء متشددون، متمسكون بعقيدة أسلافهم ونحلتهم وما هم عليه، فأصبحوا كأنهم مجتمعون والقرآن ينزل على الجميع، ويخاطب الحاضرين، والغائبين، والميتين. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ في قساوتها كَالْحِجَارَةِ [البقرة:74] والقلب قطعة لحم، وقساوته ليست في تلك اللحمة، قساوته فيما يرتكب صاحبه، فالذي يذبح عمه أو أخاه هل في قلبه رقة أو لين؟ هذا أشد من الحجارة، والذي يشاهد هذه الآيات عياناً ثم يفسق ويفجر، بل ويكفر هل في قلبه لين أو رقة؟! قلبه كالحجر. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ [البقرة:74] بل أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] من الحجارة، و(أو) هنا بمعنى بل.ثم بين تعالى أن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، صخور في الجبال تتفجر منها الأنهار وتتدفق، ومنها ما يخرج منه الماء ينابيع، وأما قلوب هؤلاء فلا رحمة، ولا عطف، ولا رقة، ولا.. ولا.. ولا.. العجب العجاب. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ [البقرة:74] كم من عيون تفجرت من الصخور الجبلية، ومنها ما ينبع منه الماء الرقيق العذب القليل. وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74] وحادثة الجبل الذي ارتفع فوقهم كأنه ظلة، كيف ارتفع؟ ارتفع لأن الله أمره فأطاعه وخضع وذل لأمر الجبار فارتفع، وفوق ذلك لما سأل موسى ربه أن يريه وجهه الكريم فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143] فهذا الجبل تجلى له الرحمن عز وجل فصار دكاً، أي: ذاب ذوباناً، وأصبح هباءً.وعندنا جبل أحد لما علاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أبو بكر وعمر وعثمان ماد تحته واضطرب، فقال: ( اسكن أحد؛ ما عليك إلا نبي وصدِّيق وشهيدان ) الصديق هو أبو بكر ، والشهيدان هما عمر وعثمان ، وهل ماتا في ساحة القتال؟ أين مات عمر وعثمان ؟ في المدينة، عمر في المسجد وعثمان قريباً من المسجد، لكنهما شهيدان أو لا؟ فمن الشهادة ما تكون في ساحة القتال، وإن من سأل الله تعالى الشهادة بحق أعطيها ولو مات على فراشه.ثم قال تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74] هذا توبيخ .. تأديب .. تحريك لقلوبهم .. فكشف النقاب عن صنائعهم المدمرة؛ المخربة، ومؤامراتهم اليهودية المنتنة؛ إذ حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، ولكن الله أذلهم وأخزاهم، فقوله: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74] معناه حيثما تحركتم للكيد والمكر برسولنا والمؤمنين فنحن على علم بما تحدثونه وما ترتكبونه، إذاً فخافوا الله.وانتهت هذه القصة.

    تفسير قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ...)

    قال تعالى يخاطب رسوله والمؤمنين: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة:75] الذي نعلمه، ويعلمه المسلمون أن الصحابة وخاصة المهاجرين مثل أبي بكر وعمر ومن إليهم كانوا يطمعون -حقيقة- في أن اليهود سيدخلون في الإسلام، بل كانوا يرجون رجاء أن اليهود سوف يدخلون في الإسلام، لم؟ لأنهم أهل كتاب يؤمنون بالله .. يؤمنون بلقائه .. يؤمنون بالوحي الإلهي .. يؤمنون بالتشريع الإلهي، فهم موحدون قبل كل شيء، وليسوا بمشركين، فما المانع أن يدخلوا في الإسلام جماعات؟!هذا الطمع كان بالفعل، ولو لم يكن كيف يخبر تعالى عن شيء ما كان؟! أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة:75] أي: يتابعوكم على دينكم الإسلامي. وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75]. ولنعد إلى الوراء، فقد كانوا يسمعون كلام الله ويحرفونه، فلما رفع الجبل فوق رءوسهم وسجدوا تلك السجدة ما التزموا، وما إن رفع الجبل عنهم عادوا وحرفوا ما سمعوا، فهم يحرفون الكلام من بعد ما سمعوه، وهم يعلمون أنهم محرفون.وهذا تسجيل إلهي على اليهود، فإنهم أهل مكر، وأهل تحريف وتضليل، فصفات النبي صلى الله عليه وسلم ونعوته بين أيديهم، فيحرفون الصفة، ويحرفون صاحبها.ولما يحتج عليهم إخوانهم: أليس هذا هو النبي المنتظر؟ يقولون: لا، ما زال لم يأت، ليس هذا، ذاك أزرق العينين .. طويل القامة .. سبط الشعر، فيحرفون صفات الرسول لأولادهم ونسائهم ويقولون: هذا لم يأت، وما خرج بعد. ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] أنهم محتالون يحرفون الكلم لأجل الحفاظ على حياتهم المادية الهابطة.وقد قررنا غير ما مرة أن تفكيرهم في إعادة مملكتهم التي كانت على عهد سليمان عليه السلام، وأنهم سادة أهل الأرض، وأنهم وأنهم ..، فهذا الذي جعلهم لا يمتزجون بأية أمة، وبقوا مستقلين إلى الآن استقلالاً بدنياً كاملاً.هكذا يقول تعالى لرسوله والمؤمنين، فيخفف عنهم ما في نفوسهم من تلك الرغبة التي كانت تدفعهم إلى أن يقول اليهود ما يقولون، قال لهم: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة:75] بمعنى: يتابعوكم إلى أن يؤمنوا بكم، ويؤمنوا لكم أي: يتابعوكم على دينكم الإسلامي. وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:75] وما زال يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75].

    تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ...)

    قال تعالى بعد ذلك: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:76] هؤلاء منافقوهم؛ إذ كان من اليهود بالمدينة منافقون أعلنوا عن إسلامهم، ويجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلون معه وهم كافرون؛ فقط من أجل التغطية، والتدليس، والتعمية، وللحفاظ على وجودهم، وعلى أموالهم وديارهم.فكان بينهم منافقون، وتقدم في أول السورة بيان نفاقهم.هؤلاء وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:76]، نحن وإياكم على دين حق .. ملة إبراهيم .. التوحيد، وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ [البقرة:76] وجلسوا في سقائفهم .. في دورهم .. في مجالسهم أنكر بعضهم على بعض: أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:76] لأنهم يقولون: والله إن هذا هو النبي، وهذه صفته .. هذه قامته .. هذا لونه .. هذا شعره .. هذا هو .. هذا هو، ويتلون عليهم صفات التوراة، فهذا يقولونه للمؤمنين لما يكونون بينهم وهم أقلية، فإذا خلوا في دورهم ومجالسهم يأخذون في اللوم والعتاب، ويقول بعضهم لبعض: أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:76] من العلم والمعرفة، وتؤكدون صفات النبي، وأنه هو النبي المنتظر، لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:76].والمعروف في عقيدة اليهود أنهم يصفون الله عز وجل بصفات النقص، منها أنه يعطي ويندم .. منها أنه ينسى. فهي صفات لا تليق بجناب الله عز وجل، وهي من صفات المحدثين والخلق، فانظر كيف قالوا: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [البقرة:76] يوم القيامة، فيغلبوكم؛ لأنهم سيقولون: يا رب! هؤلاء أخبرونا أن الإسلام دين حق، وأن محمداً رسول الله، وهؤلاء أنكروا هذا ..فاليهود فيهم أيضاً سذاجة وبساطة تفكير؛ وهذا ناتج عن الجهل، فما هم بالعلماء كما سيأتي، بل هم أميون، فيتصورون هذا التصور، ويرون أنهم ليس من حقهم أن يخبروا المؤمنين بأن هذا الدين الحق، وأن هذا النبي المنتظر، فتقوم الحجة يوم القيامة عليهم، فيقولون: لا، اجحدوا. ظناً منهم أنهم إذا جحدوا وما تكلموا أن هذا يخفى على الله عز وجل، ويحاجهم المسلمون يوم القيامة ويغلبونهم. فهذه سذاجة، وهي موجودة إلى الآن، وهي نتيجة عن الجهل المركب.واسمع ماذا قالوا، وما أخبر تعالى عنهم، قال تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي: الصادقين المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالُوا آمَنَّا هذا هو الدين الحق .. هذا الذي كنا ننتظره، ونستفتح به على الأمم، وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ أي: في مجالسهم الخاصة قالوا: كيف تفعلون هذا؟ أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي: بما علمكم الله، وأعطاكم من علم التوراة، فتخبروهم بتلك النعوت والصفات، فتزيدون في إيمانهم، وتقوية معتقدهم لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:76]؟ أين يُذهب بعقولكم؟هذا الكلام السري في خلواتهم، ولكن العليم الخبير أنزله قرآناً يقرأ، فيسمعه المسلمون واليهود وغيرهم؛ لأن الله علّام الغيوب.

    تفسير قوله تعالى: (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ...)

    قال تعالى: أَوَلا يَعْلَمُونَ [البقرة:77] أيقفون هذا الموقف، ويتكلمون بهذا الكلام، ويعتقدون هذا الاعتقاد الباطل أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [البقرة:77] كيف يخفى على الله هذا؟فهذه الآية تدل حقيقة على أنهم كانوا يجهلون صفات الله الحقة، وينسبون إليه ما هو من صفات المخلوقين من التردد، والعجز، والنسيان، وما إلى ذلك أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [البقرة:77].

    تفسير قوله تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ...)

    قال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] وهذا الذي كشف النقاب عن الحقيقة.وَمِنْه مْ أُمِّيُّونَ الأمي: المنسوب إلى أمه، فما درس، ولا تعلم، ولا قرأ، لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ أي: التوراة إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] إلا قراءة.وهذا الذي يعنيه الله عز وجل ويورده مع اليهود حصل لنا، فتدخل المسجد يوم الجمعة في العالم الإسلامي، تجد أمة تقرأ القرآن، والمصاحف بأيديها تتلو، ولا يعرفون من كلام الله شيئاً، ولا يعرفون إلا القراءة، بل وتجد من حفظة القرآن ملايين؛ يحفظون من البقرة إلى الناس -كما يقولون- عن ظهر قلب، ولا يفقهون منه شيئاً، وما لهم إلا التلاوة، والذي عاش عليه بنو إسرائيل انتقل إلينا، كما استعرضنا مواقف كثيرة، نحن وإياهم سواء، لم؟ لأننا بشر، فلسنا جنساً يخالفهم، ولا هم بجنس يخالفنا، فإن أقبلنا على الله عز وجل، واجتمعنا على أهل العلم، وتعلمنا ارتفعنا وسمونا، وعرفنا، واتقينا الله، فإن أعرضنا، وأعرض الله عنا هبطنا كغيرنا.اسمع هذا النعي الإلهي وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] أي: إلا قراءة.قال:تمنى كتاب الله أول ليلهوآخره لاقى حمام المقادرتلا: بمعنى قرأ.إذاً: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ أي: التوراة إِلَّا أَمَانِيَّ. وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] فمعلوماتهم، ومعارفهم، وما عندهم لم تتجاوز حد الظن، فلا يقين أبداً، ولا بصيرة.والآن حال المسلمين! أكثر ما عندهم ما هو إلا الظن، فلو كانت يقينيات لأقاموا دعوة الله، ولنصروا دينه، وأقاموا شريعته، ومن معايب الجهل أنه يفقد اليقين، فإذا علم حصل اليقين بعد العلم، فإذا كان جاهلاً كيف يوقن؟! أدنى هزة تفضحه. وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] أي: ما هم إلا يقولون بالظن، يظنون فقط، واليقينيات لا وجود لها، وعلة ذلك: أنه مرت عليهم فترات طويلة انعدم فيها العلم.وفي سورة الحديد يقول تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] قالت الصحابة: ما هي إلا سنيات واستبطأ الله قلوبنا، فنزلت هذه الآية: أَلَمْ يَأْنِ يحن الوقت لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] في كتاب الله وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].ونحن ما بين الرسول إلى اليوم ألف وأربعمائة سنة، فأيما أهل بلد أو إقليم أو دار نسوا ذكر الله، وتركوا معرفة الله، لا بد وأن يقع لهم ما وقع لغيرهم، فتقسو القلوب وتتحجر، وإذا قست القلوب من يرحم؟ من يرهب الله ويخافه؟ من يطمع فيما عند الله؟!ويأتي بعد ذلك الفسق، وهو الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    دواء قساوة القلوب

    معاشر المستمعين! قساوة القلوب وضع لها الرحمن دواء نافعاً، ومما يقضي على قساوة القلب: ذكر الموت والدار الآخرة، حتى إن بعض السلف كان يأتي إلى المقبرة ويجلس الساعات، ويتفكر في مصير إخوانه ومصيره الذي لا بد وأن يلحق بهم، فيرجع من المقبرة وقلبه رقيق ليّن كالزبدة، واقرءوا قول الله تعالى: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] أي: الدار الآخرة، فذكر مجموعة من أوليائه، وصالحي عباده وقال: أخلصناهم بخصوصية هي ذكرى الدار الآخرة.والشاهد من الحديث: ذكر الموت، ومن لم يتعظ بالموت فلا وعظه الله، وكفى بالموت واعظاً، فإذا ذكر الإنسان مصيره ومآله، وما ينتهى إليه شأنه وأمره يرق قلبه.ثانياً: قراءة القرآن بالتدبر والتفكر ومراجعة الآيات، فهذا من شأنه أن يرقق القلب.ثالثاً: الجلوس مع الفقراء والمساكين والنظر في أحوالهم، وهذا من شأنه أن يرقق القلب.أما الغفلة عن الدار الآخرة ونسيان الموت، والبعد عن الفقراء والمساكين، والعيش في الرفاهية وفي جماعات الثراء والغنى، فهذه عوامل تقسي قلب العبد، ومن قسا قلبه لا يرحم نفسه، فضلاً عن غيره.
    قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها ...) من كتاب أيسر التفاسير

    شرح الكلمات

    قال: [ شرح الكلمات:((نَفْسا )): نفس الرجل الذي قتله وارثه استعجالاً للإرث.((فَادَّار أْتُمْ فِيهَا)): تدافعتم أمر قتلها كل قبيل يقول: قتلها القبيل الآخر.((مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)): من أمر القاتل ستراً عليه دفعاً للعقوبة والفضيحة.((بِبَع ضِهَا)): ببعض أجزاء البقرة كلسانها أو رجلها مثلاً ].

    معنى الآيات

    قال: [ معنى الآيات: يقول تعالى لليهود موبخاً لهم اذكروا إذ قتل أحد أسلافكم قريبه ليرثه، فاختصم في شأن القتل، كل جماعة تنفي أن يكون القاتل منها، والحال أن الله تعالى مظهر ما تكتمونه لا محالة؛ إحقاقاً للحق وفضيحة للقاتلين، فأمركم أن تضربوا القتيل ببعض أجزاء البقرة، فيحيا ويخبر عن قاتله، ففعلتم وأحيا الله القتيل، وأخبر بقاتله، فقتل به ] قصاصاً [ فأراكم الله تعالى بهذه القصة آية من آياته الدالة على حلمه وعلمه وقدرته، وكان المفروض أن تعقلوا عن الله آياته فتكملوا في إيمانكم وأخلاقكم وطاعتكم، ولكن بدل هذا قست قلوبكم وتحجرت وأصبحت أشد قساوة من الحجارة؛ فهي لا ترق، ولا تلين، ولا تخشع على عكس الحجارة، إذ منها ما تتفجر منه العيون، ومنها ما يلين فيهبط من خشية الله؛ كما اندك جبل الطور لما تجلى له الرب تعالى، وكما أضطرب أُحد تحت قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ثم توعدكم الرب تعالى بأنه ليس بغافل عما تعملون من الذنوب والآثام، وسيجزيكم به جزاء عادلاً إن لم تتوبوا إليه وتنيبوا].

    هداية الآيات

    قال: [من هداية الآيات:أولاً: صدق نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتقريرها أمام اليهود؛ إذ يخبرهم بأمور جرت لأسلافهم لم يكن يعلمها غيرهم، وذلك إقامة للحجة عليهم ]. فما كان العرب يعرفون هذه الحادثة أبداً ولا غيرهم، ولا يعرفها إلا اليهود الموجودة في كتبهم، فيخبر بها النبي؛ إذاً هو رسول الله.قال: [ ثانياً: الكشف عن نفسيات اليهود وأنهم يتوارثون الرعونات والمكر والخداع ]. والله العظيم إلى الآن يتوارثون؛ الكبير يورث الصغير، والصغير يرث عن الكبير الرعونات والخداع والمكر.قال: [ ثالثاً: اليهود من أقسى البشر قلوباً إلى اليوم، إذ كل عام يرمون البشرية بقاصمة الظهر وهم ضاحكون ]. الحروب التي دارت في قروننا هذه ما وجدت حرب إلا وأصابع اليهود هم الذين أشعلوا نارها، لا الحرب الأولى ولا الثانية ولا الثالثة ولا المنتظرة، والعلة عرفناها؛ لأنهم يرون البشرية نجس، وأنهم هم الشعب المختار، وأن السيادة والحكم لن تكون إلا لهم. قال: [رابعاً: من علامات الشقاء قساوة القلوب، وفي الحديث: ( من لا يَرحم لا يُرحم )].
    قراءة في تفسير قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ...) من كتاب أيسر التفاسير

    شرح الكلمات

    قال: [ شرح الكلمات:((أَفَتَ ْمَعُونَ)): الهمزة للإنكار الاستبعادي، والطمع: تعلق النفس بالشيء رغبة فيه.((يُؤْمِنُوا لَكُمْ)): يتابعونكم على دينكم الإسلام.((كَلامَ اللَّهِ)): في كتبه؛ كالتوراة والإنجيل والقرآن.((يُحَرّ فُونَهُ)): التحريف: الميل بالكلام على وجه لا يدل على معناه، كما قالوا في نعت الرسول صلى الله عليه وسلم في التوراة: أكحل العينين .. ربعة .. جعد الشعر .. حسن الوجه، قالوا في التحريف: طويل .. أزرق العينين .. سبط الشعر ] حرفوا الكلمات.قال: [ ((وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا)): إذا لقي منافقو اليهود المؤمنين قالوا: آمنا بنبيكم ودينكم.((أَتُحَد ِثُونَهُمْ)): الهمزة: للاستفهام الإنكاري ] لا ينبغي هذا [ وتحديثهم إخبار المؤمنين بنعوت النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة.((بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)): إذا خلا منافقو اليهود برؤسائهم أنكروا عليهم إخبارهم المؤمنين بنعوت النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة، وهو مما فتح الله به عليهم ولم يعلمه غيرهم] من الأمم.قال: [((لِيُحَاجُّوكُم ْ بِهِ)): يقولون لهم: لا تخبروا المؤمنين بما خصكم الله به من العلم حتى لا يحتجوا عليكم به، فيغلبوكم وتقوم الحجة عليكم فيعذبكم الله.((أُمِّيُّو َ)): الأمي: المنسوب إلى أمه، كأنه ما زال في حجر أمه لم يفارقه، فلذا هو لم يتعلم الكتابة والقراءة] فهو أمي.قال: [ ((أَمَانِيَّ)): الأماني: جمع أمنية، وهي إما ما يتمناه المرء في نفسه من شيء يريد الحصول عليه، وإما القراءة من تمنى الكتاب إذا قرأه ]. أماني إما من الأمنيات أو من القراءة.

    معنى الآيات

    قال: [ معنى الآيات: ينكر تعالى على المؤمنين طمعهم في إيمان اليهود لهم بنبيهم ودينهم، ويذكر وجه استبعاده بما عرف به اليهود سلفاً وخلفاً من الغش والاحتيال بتحريف الكلام وتبديله، تعمية وتضليلاً حتى لا يُهتدى إلى وجه الحق فيه، ومن كان هذا حاله يبعد جداً تخلصه من النفاق والكذب وكتمان الحق ((وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا)) وهم كاذبون، وإذا خلا بعضهم ببعض أنكروا على أنفسهم ما فاه به بعضهم للمسلمين من صدق نبوة الرسول وصحة دينه، متعللين بأن مثل هذا الاعتراف يؤدي إلى احتجاج المسلمين به عليهم وغلبهم في الحجة.وسبحان الله! كيف فسد ذوق القوم وساء فهمهم حتى ظنوا أن ما يخفونه يمكن إخفاؤه على الله، قال تعالى في التنديد بهذا الموقف الشائن: ((أَوَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)).وم جهل بعضهم بما في التوراة وعدم العلم بما فيها من الحق والهدى والنور ما دل عليه قوله تعالى: ((وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ)) أي: إلا مجرد قراءة فقط، أما إدراك المعاني الموجبة لمعرفة الحق والإيمان به واتباعه فليس لهم فيها نصيب، وما يقولونه ويتفوهون به لم يعد الخرص والظن الكاذب].

    هداية الآيات

    قال: [ من هداية الآيات: أولاً: إن أبعد الناس عن قبول الحق والإذعان له اليهود ] واحلف على هذا ولا تتردد؛ إن أبعد الناس عن قبول الحق والإذعان له في العالم اليهود.قال: [ ثانياً: قبح إنكار الحق بعد معرفته ] ما أقبح حال المرء عندما يعرف الحق وينكره، وهذا طبع اليهود، يعرفون أنه الحق ولا يقبلونه، ويصرحون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإسلام هو دين إبراهيم، ومع هذا ينكرون ويكذبون.قال: [ ثالثاً: قبح الجهل بالله وبصفاته العلا وأسمائه الحسنى ] ومن أين أخذنا هذا؟ لأنهم يقولون: إن أنتم أخبرتموهم بنعوت محمد ولم تؤمنوا، يحتجون عليكم يوم القيامة، ويقولون: يا ألله! أخبرونا بأن النبي محمد نبي الحق، ودينه الدين الحق، ولم يؤمنوا! وهذا من ضعف عقولهم، أو من فساد إيمانهم؛ إذ يجعلون بعض الصفات البشرية للخالق كالعجز والنسيان والتردد والغفلة .. وما إلى ذلك.وهل المسلمون يعرفون صفات الله وأسماءه؟الجواب: ثلاثة أرباع لا يعرفون، لم لا يعرفون؟ لأنهم ما طلبوا .. ما قرعوا باب العلم وحرموه .. ما جلسوا بين يدي المعلمين والمربين. إن قرى بالآلاف .. بالملايين لا تجد فيها عالماً، فمن يعلمهم؟ الآن نحن في المملكة أحسن حالاً من غيرنا، والله يوجد ناس وقرى لا يعرفون أسماء الله.الآن نشتكي ونبكي؛ لأن العلم هذا ما يأتي بالوراثة كالطبائع والغرائز، يأتي بالتعلم، وقد قرر هذا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( إنما العلم بالتعلم )، ( ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، نرد على الرسول نقول: لا، لا العلم ليس بالتعلم! كيف يأتي! ( إنما العلم بالتعلم، وإنما الفقه بالتفقه )، ( ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ).قال: [ رابعاً: ما كل من يقرأ الكتاب يفهم معانيه ] وقد قلت لكم: تدخل مساجدنا في الشرق والغرب يوم الجمعة وهذه ظاهرة: تجد الناس بأيديهم المصاحف، يقرءون بأصوات، ولا (5%) يفهمون ما يقرءون، لماذا؟ لأنهم ما تعلموا .. ما سألوا، فلهذا هذا يصدق علينا بالحرف الواحد، ومنا أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] إذا لاح له معنى في آية ما هو يقيني أبداً، ظناً منه أن مراد الآية كذا أو كذا.والذي يقرأ وهو لا يفهم يعطى أجر القراءة أو ما يعطى؟ يعطى، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.إذا كان قرأ، فلوجود القراءة يُعطى الأجر، لكن هل هو عالم لما يقرأ؟ ما هو بعالم، فلهذا يخرج من المسجد ويكذب.وعلى كل حال أنا أقول: الحرف بعشر حسنات سواء كنت عالماً أو غير عالم، فالذي يقرأ الم ألف حرف، لام حرف، ميم حرف .. كل حرف بعشر حسنات، وكونه عالماً بالمعنى، وعاملاً بما دل عليه: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].قال: [ رابعاً: ما كل من يقرأ الكتاب يفهم معانيه فضلاً عن معرفة حكمه وأسراره، وواقع أكثر المسلمين اليوم شاهد على هذا، فإن حفظة القرآن منهم من لا يعرفون معانيه فضلاً عن غير الحافظين له ].ما هو السبب؟ مشغولون بالدنيا، فتنتنا هي هذه الحياة، ثم ما وجدنا من يوجهنا أو يرشدنا، فعشنا كالبهائم سارحين بالمسارح، وإلا فإن الدنيا لا تتنافى مع طلب العلم أبداً.من المغرب إلى العشاء ليس هناك عمل، غربت الشمس: الفلاح وضع المسحاة من على كتفه، والصانع وضع الحديد من يده، والتاجر أغلق باب تجارته، أين يذهب المؤمنون والمؤمنات؟ إلى بيوت ربهم. فمن المغرب إلى العشاء طول الدهر ما هو عام فقط، طول حياتنا، والله لا يبقى بيننا جاهل ولا جاهلة، ولا فرق بين المدينة والقرية، فالكل على حد سواء، لكن صرفونا وما انتبهنا، أسكرونا وما صحونا، وما عرفنا أن الجهل الذي أصابنا هو الذي قعد بنا، وهو الذي سلط علينا هذه المصائب والويلات والنكبات، وهو الذي حال بيننا وبين تحقيق ولاية الله عز وجل.فلهذا أكرر: إن أراد أهل قرية أو أهل حي في مدينة في العالم الإسلامي أن يحققوا ولاية الله لهم، وأن تزول مظاهر العجز، والضعف، والفقر، والخبث، والشر، والفساد، فالطريق الوحيد أن يرجعوا إلى الله كما رجع رسول الله وأصحابه، ويتعهدوا ملتزمين في صدق ألا يتخلف رجل ولا امرأة كل ليلة ما بين المغرب والعشاء في جامعنا، إلا إذا وجد عذر كمرض أو ما إلى ذلك، وكل ليلة نتعلم العلم ونعمل، فما تمضي سنوات إلا ولا يوجد في القرية ولا المدينة جاهل. ومن غير هذا الطريق يا معاشر المستمعين ما نصل إلى غايتنا من معرفة الله وطاعته.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #68
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (61)
    الحلقة (68)




    تفسير سورة البقرة (31)

    أنزل الله الكتب لتكون سراجاً منيراً للناس، وأعلاماً هادية لهم، وأملاً مشرقاً حين تدلهم الخطوب، وبدلاً من أن يعتصم بنو إسرائيل بكتابهم إذا بهم يعدون عليه تأويلاً وتحريفاً، زيادة ونقصاً، وهم في كل ذلك يحاولون إلصاقه بالوحي الإلهي، ولكن عبثاً يحاولون، فويل لهم، أما خشوا مكرهم أن يحيق بهم، وسيئتهم أن تهلكهم أم تراهم ركنوا إلى أمانيهم، وجهلوا أن الأماني لا تغني من الحق شيئاً.

    تابع تفسير قوله تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة ومع آياتها المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ * وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:78-81] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال السياق في الحديث عن بني إسرائيل .. عن اليهود الذين عايشوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة، وقد علمنا الله الكثير من أحوالهم الظاهرة والباطنة، وما زال السياق فيهم.قوله جل وعز: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] هو كما أخبر؛ والله العظيم إن من اليهود لأميين لا يعلمون من الكتاب إلا مجرد القراءة فقط، وأما المعاني .. أما الفقه .. أما المعرفة فلا نصيب لهم في ذلك، وهذا ذم وتقبيح لحالهم، وها نحن أيضاً أصبحنا مثلهم، فالذين يقرءون القرآن بالملايين ولكنهم لا يعرفون منه شيئاً، بل مجرد قراءة فقط.ومن هنا نسلّي أنفسنا ونعزيها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )، ها نحن في تلك الورطة، فأكثر المسلمين من إندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً لا يعلمون من الكتاب إلا مجرد القراءة فقط، فلا يعرفون عقيدة، ولا أدباً، ولا خلقاً، ولا حلالاً، ولا حراماً، ولا جهاداً، ولا حرباً، ولا سلماً، مع أن القرآن يحوي ذلك كله، فما هو السبب؟ السبب أننا ما جلسنا في مجالس أهل العلم، ولا أصغينا لأهل العلم، ولا رغبنا في أن نتعلم، فاكتفينا بقراءة القرآن، فالكثيرون يحسنون القراءة، ولكن لا معرفة، ولا فهم، ولا بصيرة.فماذا ترجو منهم؟ أترجو أن يكونوا ربانيين وأولياء لله وهم لا يعرفون ما أحل الله ولا ما حرم الله، لا يعرفون ما يحب الله ولا ما يكره؟ هذا من جهة.ومن جهة أخرى -وقد علمتم-: أمَّا حالَ أعداء الدين بيننا وبين فهم كلام الله؟ أما وضعوا تلك القاعدة وهي: أن تفسير القرآن الكريم صوابه خطأ، وخطؤه كفر؟ فحرموا المسلمين من أن يفسروا كلام الله، أو يتدبروه ويستخرجوا الهدى وأنوار الهداية منه، فأصبح القرآن يقرأ على الأموات، فمن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب لا يجتمع على القرآن إلا من أجل ميت يقرأ عليه.لما بعدنا عن الكتاب، وبعدنا عن السنة النبوية اكتفينا بمصنفات صنفها علماؤنا في مذاهبنا المتعددة، وأصبحنا لا نجتمع على سنة رسول الله وأحاديثه، وإذا تقدمنا نجتمع على السنة للبركة، فندرس صحيح البخاري للبركة، لا لمعرفة الآداب، والأحكام، والشرائع أبداً، بل للبركة، فما أصبح في القرية من يقول: قال الله، ولا من يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسادنا الجهل، وانتظمنا عدم المعرفة.ومن أراد أن يدلل، أو يبرهن، أو يجادل فنقول: لو كنا عالمين، ربانيين، أولياء للرحمن هل يسلط علينا الكفرة الفجرة، الفسقة، فيسوسوننا، ويحكموننا، ويسودوننا، ويفعلون ما يفعلون فينا، أيعقل هذا الكلام؟ ممكن يسلط الله أعداءه على أوليائه؟ هذه برهنة، وهذا دليل قطعي.وما زلنا نتهيأ أيضاً لمحنة أخرى؛ إذ انفجرت الثورات، واستقل العالم الإسلامي عن سيادة الكفر وحكمه، وقد عرفتم أن من ورث الحكم هم تلامذتهم، وخريجو كلياتهم وجامعاتهم، فكما قلنا: خرجوا من الباب، ودخلوا من النافذة، وإلى الآن ما بلغنا أن الإقليم الفلاني أصدر حكّامه أمراً بإقامة الصلاة إجبارياً على المدني والعسكري .. على الكبير والصغير، فلا ينبغي أن يوجد بيننا من يتهاون في الصلاة أو يضيعها أو لا يصلي، كيف ترون هذا؟ أصحيح أم باطل، أم لغتي بربرية لا تفهمونها؟نيف وأربعون دولة، ذات رايات، وجيوش، وطائرات، ما استطاعت دولة واحدة أن ترضي الله عز وجل بإقامة الصلاة؛ لأن الإنسان مخلوق للصلاة، والصلاة هي ذكر الله وشكره، فتلتقي مع ربك خمس مرات في مواعيد منتظمة على لباس خاص، في مكان خاص، خمس مرات، فهذه هي العبادة التي من أجلها خلق الإنسان، أما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]؟ فهل أمروا بإقامة الصلاة؟ لا، إذاً ما هو الفرق؟!مع أن الله تعالى يعلمهم ويخبرهم أن إقامة الصلاة من شأنها أن تقلل الفاحشة في الديار، وأن تبعد المنكر عنهم إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فلو أقاموا الصلاة في قرية .. في مدينة تقل الجريمة قلة عجباً، ممكن لا يبقى (5 %) مما كان يرتكب في الأسبوع أو في الشهر.حقيقة ما يعاب على بني إسرائيل أصبح يعاب علينا ونحن أهله، وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، إلا مجرد قراءة فقط، أو أمانٍ وظنون، لا يقين -أبداً- عندهم فيما أحل الله، ولا: فيما حرم، ولا فيما أوجب، ولا فيما نهى وترك.وهيا بنا نخرج من هذه الورطة، فنعتبر، كيف نعمل حتى لا يبقى في قريتنا رجل ولا امرأة إلا وهو يعلم ما في كتاب الله من حلال وحرام، وآداب وأخلاق، وشرائع عامة وخاصة؟قالوا: لا نستطيع. قلنا: كيف لا تستطيعون؟

    المخرج من فتنة المعاصي

    ما الحيلة يا شيخ؟ ما هو الطريق؟ ما السبيل؟أيها السامعون! الذين سئموا هذا الكلام، هذا الكلام لا يترك إلا إذا نفذ مراده، وطبق ما أريد به، وإلا حرام السكوت، ليس هناك وسيلة ولا سبيل يمكننا أن ننتقل به من هذه الورطة إلا أن نعود إلى بيوت الرب تعالى.وكيف العودة يا أبناء الإسلام؟ إنها كاجتماعكم هذا فأهل القرية ذات الثلاثة آلاف نسمة أو الألفين أو الألف أو أقل أو أكثر، يوسعون جامعهم حتى يتسع لكافة أفرادهم نساء ورجالاً، بالخشب والحطب، لا بالحديد، ولا بالإسمنت، ويجتمعون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، نساء وراء الستار، والأطفال أمامهن أو دونهن، والمربي بين يديهم، ليلة آية يقرءونها بصوت واحد، ويتغنون بها فتحفظ عن ظهر قلب، فيشرحها المربي ويبين مراد الله منها، ثم يضع أيديهم على المطلوب إن كان معتقداً اعتقدوه، وإن كان حراماً عرفوه وتخلو عنه، وإن كان أدباً تأدبوا به، وإن كان وإن كان .. والليلة الثانية بعدها: حديث من أحاديث نبيهم الصحيحة السليمة، وهكذا طوال العام! لا. طوال الحياة، وهل هذا يعتبر صعباً؟قلنا لهم: إن أعداءكم من أهل الملل الخاسرة الهابطة .. من أهل النار إذا غابت الشمس ذهبوا إلى الملاهي والمقاهي، والمقاصف، ودور السينما و.. و..، وأنتم لستم مثلهم، أنتم تريدون أن تنزلوا الملكوت الأعلى؟ تريدون أن تخلدوا في دار السلام؟ شأنكم غير شأنهم.إذاً: أنتم إذا غربت الشمس ذهبتم إلى بيوت ربكم، بنسائكم وأطفالكم، وما الذي يحدث لكم سوى أن تستنير قلوبكم، وتشرق بالزكاة نفوسكم، وتطهر أرواحكم، وتعلو آدابكم وأخلاقكم، وينعدم بينكم السوء، فلم يبق في القرية سوء، ولا باطل، ولا منكر، ولا جريمة، ولا قبح أبداً؛ لأنها سنن الله التي لا تتبدل، فالطعام يشبع .. الماء يروي .. النار تحرق .. الحديد يقطع .. العلم ينير القلب والسمع والبصر، فيمشي عبد الله في هداية الله، فلا يسرق .. لا يزني .. لا يكذب .. لا يغتاب، ولا ينمم .. لا يحسد .. لا يبغض.. لا لا، ولن تتخلف سنن الله.فهل نحن فاعلون؟يا شيخ! كيف نفعل؟ لو أن هناك كتاباً نبتدئ به.وجد كتاب: ( المسجد وبيت المسلم) وقد حوى ثلاثمائة وستين آية وحديثاً بمعدل السنة الكاملة.يا شيخ! وهل جربتموه؟درسناه هنا عاماً وثلث العام وحده، لنعلم الناس كيف يفعلون، لكن ولا حركة.. موت. كيف نخرج من هذه الفتن؟ ما نحن إلا نتهيأ لغضبة أخرى من غضب الرب، فإذا بنا في أسوأها وأقبحها. أنعجز عن هذا؟!إذاً وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ [البقرة:78] ومنا، بل كلنا أميون إلا من ندر منا، اليهود كلهم على الأقل خمسة ملايين، ومئات الملايين من هذه الأمة، اليوم ومن أكثر من ستمائة سنة وهم لا يعرفون من الكتاب إلا قراءته، ولا يجتمعون عليه، ولا يقول المؤمن: قال الله أبداً، ولا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.وحصل الذي حصل، وتم الذي تم، وإن أردتم أن تفتحوا أعينكم فإخوانكم الآن في شرق أوروبا جمهوريات إسلامية كيف ابتلعتها الشيوعية؟ كيف أصبحوا ملاحدة؟ كيف تم هذا؟ لو كانوا عالمين ربانيين -والله- ما استطاع العدو أن يكفرهم أو يصبغهم بصبغة الباطل والشر.قلنا: يا جماعة! المسلمون يتنصرون، وجمعيات التنصير عاملة عملها، وتستغل بلاد الضعف والحاجة والفقر فتبني المساجد، وتبني المصحات والمستشفيات، وتوزع الدواء، والمسلمون يتنصرون بالآلاف .. بالملايين!ماذا نصنع؟ هيا نجمع المال، وهيا لنعمل مؤسسة الإغاثة، التي تحول بين الصليبيين وبين نشر الصليبية.وقلت وما زلت أقول: ليست قضية فقر أبداً ولا حاجة، القضية أنهم ما عرفوا الله، وما أحبوه، ولا رغبوا فيما عنده، ولا رهبوا ما لديه من عذاب، فأدنى كلمة تلقى في قلبه تجد محلها؛ فالقلب فارغ ليس فيه نور ولا هداية، فقد عاش هو وأمه وأبوه وجده قروناً ما عرفوا الله بأسمائه وصفاته، أميون؛ لا يعرفون الكتاب إلا أماني، فأدنى شبهة تلقى في قلوبهم يذعنون لها ويخضعون.وإن كنتم جادّين أيها المسلمون علّموهم، فإذا عرف وأصبح عالماً لو يمزق ويقطع .. لو يصلب لا يرتد عن دينه، ما هي قضية مال وطعام ولباس.إذاً: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] وهكذا عقائد المسلمين (95%) ما هي إلا ظنون، ليس هناك عقيدة راسخة تجري مع الدم، وملتحمة مع اللحم لا تتبدل، ولا تتغير أبداً، مهما كانت الأحوال؛ لأنه ليس هناك يقينيات، ومن أين يأتي اليقين؟ بالدراسة .. بالعلم بقال الله وقال رسوله، ما قال زيد أو قال فلان وفلان، سبحان الله العظيم! هذه الآية كأنها نزلت فينا اليوم لا في اليهود.
    تفسير قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ...)
    قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:79] هذه محنة أخرى. هنا توعد الله عز وجل بالعذاب الأليم .. بالعذاب الشديد، وكلمة ويل في لسان العرب: العذاب الذي لا يطاق، وواد في جهنم يقال له: الويل، وجهنم كلها ويلات.فويل لمن؟ قال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:79] لم؟ ما الغرض؟ ما الهدف؟ ما القصد؟ قال: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:79] وإن شئت حلفت لكم: لقد وضعت كتب، وخرج بها أهلها عن دائرة الحق والإسلام تحت هذا الشعار.وعلى سبيل المثال: كم عدد مذاهب هذه الأمة؟توجد مذاهب لا يوجد فيها أكثر من (75%) حق، و(25%) باطل، ومن وضع هذا الباطل؟ أليس علماؤهم؟ بلى. لماذا؟ ليرأسوا، ويسودوا فقط، ويعيشوا على حساب تلك الأمة الجائعة.لعل الشيخ واهم أو ساهٍ!أتحداهم! لو قالوا: نعم، نحن نريد الحق لحضروا واجتمعنا، وقررنا الحق، وأبطلنا الباطل، لا كل أهل مذهب يحتفظون بمذهبهم، ويعضون عليه بالأسنان، ووضعت لهم المصنفات، ووضع لهم ما ينسب إلى الله، والله منه بريء، لماذا؟ ليسود أولئك العالمون، ويبقى لهم مكانتهم في المجتمع، وتبقى آراؤهم وأقوالهم، وهذا حصل في بني إسرائيل، والله ينعى هذا عليهم ويتوعدهم، والله لقد حصل في أهل الإسلام. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:79] هذا كلام الله .. هذا كلام رسوله .. هذا هو الإسلام .. ووضعت كتب في التصوف بالذات، لا علاقة لها بالشريعة، إنما أوهام وضلالات، وتنسب إلى الله: هذا هو كلام الله!وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) أعطيكم صورة لهذه، أخفف عنكم قليلاً من الآلام، خطيب يخطب الجمعة في بلاد عربية فسر لهم جحر الضب بالبنطلون، وجحر الضب معروف في الأرض، هل كان المسلمون سراويلهم ضيقة طويلة؟ لا. أبداً، الجيوش في تركيا العثمانية سراويلهم عريضة أو لا؟إذاً: لما دخل اليهود والنصارى هذا البنطلون دخلنا فيه، وصدق أبو القاسم.والإسلام لا يرضى للمؤمن أن تظهر إليتاه بارزتان، بل لا بد من ثوب، إزار ورداء يغطي به عورته، فما تصبح إليتاه ناتئتان ظاهرتان، فالإسلام لا يقبل هذا.فكان المسلمون بجيوشهم لا يدخلون في هذا البنطلون.يا شيخ! لقد دخلت فيه بناتنا.إذاً صدق رسول الله أو لا؟ والله إنه لرسول الله.وهكذا هو الويل لمن؟ ما هو للأبيض أو الأسود، عربي أو عجمي، لا .. لا لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:79] لم؟ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:79] وإن كانت رئاسة، وإن كانت رواتب، وإن كان ..، لكن هذا الثمن بالنسبة إلى الآخرة قليل، ولا قيمة له.فلو أن علماء المذاهب والطوائف عندنا يعرفون الطريق ويبكون، والله لاجتمعوا في يوم واحد، وما بقيت مذاهب بيننا أبداً، ولسلكنا مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ما دامت لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:79] فلا اتفاق ولا تلاقي أبداً.قال: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79] الذي يأكلونه من الحرام يستحيل إلى نار في بطونهم، وويل لهم -أيضاً- وعذاب من الكذب على الله عز وجل، ونسبة كلامهم إليه، والله منه بريء، ويدعون أفرادهم وأتباعهم إلى اعتقاد باطل، والله العظيم إلى اعتقاد باطل.

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ...)

    قال تعالى عن اليهود: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80]، ومن سورة آل عمران: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [آل عمران:24]، والكل واحد. لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا معناه أننا معترفون بذنوبنا وجرائمنا، وبظلمنا وفسادنا، وندخل النار، ولكن لأيام معدودة، لم يقولون هذا؟ ليخففوا الجريمة، ليخففوا عن أنفسهم وعن إخوانهم آلام الرهبة والخوف من الله، حتى يواصلوا البغاء، والسرقة، والإجرام، والربا، والباطل، فلا تخافوا، الحمد لله أنتم أمة الخير .. أمة الرحمة، من دخل النار يبقى فيها أياماً ويخرج، وهذا معناه: ابق يا زاني على زناك، ويا مرابي على رباك، ويا لص على لصوصيتك، ويا ساحر على سحرك.. لا تخافوا، ما تمسكم النار؛ لأنكم شعب الله المختار، إنما هي أيام معدودة.فهذا في بني إسرائيل أو لا؟والله لقد انتقل إلينا، وسلكنا مسلكهم، وكم من مشايخ، وكم من رؤساء يهونون على الناس الجرائم والموبقات، ويقولون: الجنة للمسلمين فلا تخافوا، ومن دخل النار يخرج منها، وسلكنا نفس المسلك.واليهود يقولون: كم عبدنا العجل؟ أربعين يوماً، مدة غيبة موسى فقط، فنعذب أربعين يوماً، وهذا هو التدجيل والتضليل؛ لأن أربعين يوماً تدرون كم؟ اليوم بألف سنة، والنتيجة أربعون ألف سنة، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، أربعون ألف سنة، هذه أيام معدودات؟!وهذا المراد منه التخفيف على المجرمين، والتهوين من الجريمة، ليرتكبوا الفواحش والمنكرات، وليأكلوا أموال الناس، وليضروا بالبشرية، ويحطموها، ويؤذوها، بسبب فتاوى علمائهم. وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ قل يا رسولنا .. قل لهم: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا [البقرة:80] عندكم عهد من الله .. صك أنكم لا تعيشون في النار إلا أربعين يوماً؟ هل عندهم؟ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا [البقرة:80] بل تقولون على الله ما لا تعلمون، أم هنا للإضراب فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80] أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون.لو اتخذتم عهداً من الله فالله لا يخلف وعده أبداً، وحاشاه؛ لأنه قوي قدير، والذي يخلف الوعد هو العاجز فيضطر إلى خلف الوعد، أما القوي القدير الذي بيده كل شيء ويملك كل شيء، كيف يخلف وعده؟! ما أخلف أحد عهده إلا للعجز والضعف القائم به، أما الله فهو غني غنى مطلق، فكيف يخلف عهده؟! فلهذا قال تعالى: فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ . أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80] هذه الحقيقة، أنكم تكذبون على الله، وتنسبون إليه ما لم يقله، ولم يقرره في كتابه، ولا على ألسنة رسله.وهذا التوبيخ لليهود، ونحن -أيضاً- متأهلون له فمنا من يقول كذلك، ففي بعض الطرق يعدون أتباعهم بالجنة رسمياً تماماً: إخوان الشيخ الفلاني لن يدخلوا النار! وإن كنتم لا تعرفون فهذا واقع في ديار الإسلام: إخوان سيدي فلان .. مريدو فلان كلهم إلى الجنة، ولا تمسهم النار، وإن دخلوها يخرجون منها بعد أيام.فاسمعوا كيف وبخهم الله بعدما أورد قولهم: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80] قال الله لرسوله: قل لهم .. اسألهم أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80]؟ الجواب: يقولون على الله ما لا يعلمون.لكن ما جرأهم على القول على الله؟إنه الجهل، فما عرفوا الله حتى لا يكذبوا عليه، ولا ينسبوا إليه ما لم يقل، فما ملأت معرفة الله في قلوبهم، ولا في أذهانهم، ولا في نفوسهم؛ فلهذا يقولون ويكذبون.

    تفسير قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ...)

    قال تعالى: بَلَى [البقرة:81] ليس الأمر كما تتصورون، وهذا للجميع .. للبشرية كلها بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة:81].

    معنى السيئة

    ما هي السيئة يرحمكم الله؟السيئة حركة عملية .. فعل، قد تكون كلمة .. قد تكون نظرة؛ تسيء إلى النفس البشرية .. إلى الروح، فتوضع فوقها كنكتة سوداء، والعياذ بالله.والسيئة تجمع على سيئات، والسيئة تؤثر في النفس البشرية، وسببها: كلمة حرمها الله .. نظرة حرمها الله .. لقمة حرمها الله، فإذا فعلها العبد انعكست على نفسه فأصبحت نكتة سوداء، والرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا أيما تبيين، ووضح أيما توضيح فقال: ( إذا أذنب العبد ذنباً ) تعرفون الذنب ما هو؟ ما يؤاخذ عليه العبد، والحيوان من أين نأخذه إذا هرب؟ من ذيله أو لا؟ من ذنبه، فكذلك نؤخذ بذنوبنا.( إذا أذنب العبد ذنباً ) سب إبراهيم .. نظر إلى امرأة زيد .. اغتاب فلاناً وهو غائب .. أدخل يده إلى جيبه فأخرج رياله، فهذا الذنب إذا أذنبه العبد نكت على قلبه نكتة سوداء، فإن هو تاب، وأناب، ورجع، صُقل الأثر، وزال ومُسح؛ لأن الروح كالزجاجة الصافية، فإذا لم يتب، وزاد ذنباً آخر، وضعت نكتة أخرى إلى الأولى، فإن ما تاب، ولا رجع، وزاد ذنباً ثالثاً وضعت نكتة أخرى .. وهكذا حتى تسودّ النفس، وذلكم الران الذي قال الله تعالى فيه: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] فإذا تغطى القلب بالسيئات أصبح المخلوق كالحيوان .. كالأفعى ينهش ولا يرحم .. كالثعبان يعض ويسمم .. كاللص يبقر البطن، ويأخذ الفلوس، انتهى. فلا يصدق، ولا يؤمن، ولا يعرف فضيلة ولا حق، فانطمس نوره.

    كواسب الإنسان

    مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة:81] أنتم تعرفون الكواسب يا معاشر الدارسين أو لا؟ ما هي الجوارح التي نجترح بها السيئات؟ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] ما هي جوارحك يا هذا التي تجترح بها؟ ما هي كواسبك التي تكتسب بها؟إنها سبعة: أولاً: السمع، وهل السمع يكتسب السيئة؟ نعم، كيف هذا؟ يسمع امرأة جاره تتكلم فيتلذذ بكلامها، ويبقى يسمع .. يسمع عاهرة تغني، وتلين الكلام، وترققه لتثير الغرائز والشهوات فينساب ويسمع، اجترح بأذنه أو لا؟ بآلة السمع .. يسمع الباطل، والغيبة، والنميمة، وسب الصالحين، وهو في المجلس يتلذذ بذلك الكلام.لعلي واهم! والله العظيم لَيَجلسون للطعن، والسب، والشتم في أولياء الله، والغافلون يضحكون. اكتسب أو ما اكتسب؟ اكتسب.ثانياً: البصر، البصر كاسبة أو لا؟ جارحة من الجوارح، فالذي ينظر إلى امرأة لا تحل له مما حرم الله عليه نظرة يتعمدها ليتلذذ بها فقد اكتسب ببصره السيئة، وانعكس على قلبه، أحب أم كره، فإما أن يتوب على الفور ويلهج بالاستغفار والندم، وإلا تنكت نكتة أخرى.يا شيخ! كيف تقول هذا ونحن ندعو إلى توظيف النساء، وقد وظفناهن في الدوائر .. في الفنادق .. في كل مكان، فكيف نغض أبصارنا؟آلله أمركم بهذا أم اليهود والنصارى؟ من يجيبني؟ الله الذي أمر؟!لقد عاش نساؤنا وبناتنا أكثر من ألف وثلاثمائة سنة ما توظفن، وعشن صالحات أو لا؟ الآن فقط إذا ما توظفت المرأة الحياة مرة، والجوع والفقر والفاقة .. هكذا؟!ومما علمناه أن طبيباً مختصاً في العظام والدماغ في مستشفى الطائف عنده امرأة غير موظفة، فلا يسمح لها بالوظيفة، ولا أن تخرج، قالوا: لم؟ قال: لا أرضى أن امرأتي تنظرون إليها، وتشتغل معكم. هذا ألماني كافر لكنه كأنه عرف، فاستدعيناه فجاء لفندق شيراتون وجلسنا معه ساعة، وعرضنا عليه الإسلام، وهو متهيئ، وبالفطرة عرف: كيف امرأتي تنظرون إليها؟يا شيخ! لعل هذا ليس بصحيح، أنا أسمع.. اسمع الله يقول: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، نقول: لا .. لا .. كيف نغض أبصارنا؟! كيف نمشي؟ كيف نعمل؟من قال هذه الكلمة كفر، كفر بالله، وانمحى اسمه من ديون المسلمين.غضوا، ما قال: أغمضوا. كيف تمشي؟ لما تشاهد المرأة أغمض عينيك.نعم! من اليسر عندنا -كما في المملكة- أن تغض بصرك؛ لأنه نادر ما تمر بين يديك امرأة كاشفة عن وجهها، أليس كذلك؟ لكن لما تكون في بلد نساؤه في الشوارع كيف تغض بصرك؟ فأنتم بين خيارين قلت لهم: إما أن تحجبوا نساءكم أو احجبوا رجالكم فقط. أما الاختلاط، وغض بصرك فما هو معقول، ولا يمكن أبداً، فكيف تغض بصرك؟!نعم! الحجاب مضروب، وكلما تشاهد امرأة غض بصرك، لكن إذا كنت معها في كل مكان فكيف تغض؟ إما أننا نحجب النساء، وهذا أرحم؛ لأن رحمة الله اقتضته، فالمرأة في بيتها قائمة بدولة: تغسل .. تنظف .. تطبخ .. تعمل .. تربي، عمل، وأنت يا فحل تقضي الساعات في المزرعة، أو المتجر، أو المصنع وتعود، أما أن تخرج المرأة وتخالط الأجانب والرجال وتقول: غضوا أبصاركم، كيف نغض أبصارنا؟! فهذا ليس بمعقول؟!إذاً: العين تكتسب بها بالنظر، فهي جارحة، وقد عرفتم أن مصيبة البصر أعظم، فالنظرة هذه تؤدي إلى الهاوية، وكم من نظرة أنتجت مقتلة ودماء تسيل، نعم! كل الحوادث من مستصغر الشرر.ثالثاً: اللسان، ولهذا يقول المثل المصري: لسانك حصانك؛ إن صنته صانك؛ وإن خنته خانك.دعك من هذا المثل، ها هو ذا رسول صلى الله عليه وسلم يقول، وقد أخذ لسانه بيده: ( كف عنك هذا، فقال الصاحب: أو إنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ )، والفتن كلها قائمة من طريق اللسان: الحروب، والبلاء، والنزاع، والصراع والطلاق، وكل الفتن مبدؤها باللسان.ولو التزمنا بمبدأ وهو: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، فمن كان منكم يا معاشر المؤمنين والمؤمنات يؤمن بالله والدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم أو عذاب أليم فليقل خيراً إذا تكلم أو يسكت، وإن وجد كلمة خير تنفع ولا تضر .. تطعم ولا تجوِّع .. ترفع ولا تضع قالها، وإن كانت تضر ولا تنفع لا يقولها.رابعاً: الأيدي .. أيدي السباع، الأيدي جارحة أو لا؟ هل هناك ضرب بدون يد .. سلب بدون يد .. قتل بدون يد؟ فاليد جارحة من أعظم الجوارح، ولا يحل لمؤمن أبداً أن يرفعها في غير حق، فضرب المؤمن .. كسلب ماله .. كقتله هذه محرمات وتتم باليد.خامساً: الرجلان .. الرجل، كيف الرجل؟ تجترح بها ماذا؟ الذي يمشي إلى دور الخنا والباطل والشر يمشي برجليه أو لا؟ برجليه. والذي يمشي إلى البدعة والخرافة ما يمشي برجليه؟ الذي يمشي إلى مجالس الغيبة والنميمة مشى برجليه، وهكذا .. الرجل جارحة يجترح بها الإنسان الذنب.سادساً: البطن، وهل البطن يكتسب به الإنسان السيئات؟ شرب الحشيش والأفيون، الكوكايين والدخان والشيشة هذا بماذا تتم؟ بالبطن أو لا؟ شرب الخمر .. أكل الخنزير .. أكل الحرام .. أكل الربا في البطن أو لا؟ فالبطن جارحة، وأية جارحة هذه! قاتلة.سابعاً وأخيراً: الفرج، ولهذا يقول أبو القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( من يضمن لي ما بين لحييه )، وهو الفم ( وفخذيه ) وورد أيضاً البطن.على كلٍّ البطن والفرج، والفرج أعظمها؛ لأن فاحشة الزنا ما فوقها فاحشة إلا القتل والكفر، أما اللواط ما نقول عنه؟ لم؟ كيف يوجد اللواط في المسلمين.وعندنا مثل: هذه الديار التي أهلها الله للنور والكمال، وأوجد فيها بيته، لماذا ما أوجد هذا البيت في المغرب أو في الهند أو في أوروبا واختار فقط هذه الديار؟ لأن هذه الديار ما عرفوا اللواط قط قروناً إلى عهد خلافة عمر ، فلما تولى عمر الخلافة رفعت قضية أن أعجميين في بلاد البحرين ارتكبوا هذه الجريمة. والخليفة عبد الملك بن مروان يحلف على المنبر، ويقول: والله لولا أن الله تعالى أخبر في كتابه عن فاحشة اللواط فما كان يخطر ببالنا أن الذكر ينزو على الذكر.ويؤيد هذه أن هذا البلاد ما عرفت بغلة فيها ولا بغل، فما وجد البغال في هذه الديار لم؟ لأن البغل يوجد من إنزاء الحمار على الفرس، تعرفون هذا أو لا؟ كيف يولد البغل؟ يُنزى الحمار المعروف بالداب على الفرس فتلد الفرس بغلاً، وهو حيوان بين الحمار والفرس، وهذه البلاد والعرب من أولاد إسماعيل من قبل لا يعرفون هذا، كيف ينزون الحمار عن الفرس! وأول بغلة دخلت الحجاز بغلة أهداها المقوقس ملك مصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مارية القبطية اسمها الدُلْدُل، عرفتم أو لا؟الآن لو تعرفون ما يجري في أوروبا: أندية خاصة باللواط، وهذه الفاحشة تترفع عنها الحيوانات، والله إن ذكران الحيوان ليترفعون عنها ولا يقبلونها، هل رأيتم جملاً ينزو على جمل؟ أو تيساً على تيس؟ فكيف بالإنسان؟!إذاً: فاحشة الزنا هذه هي السابعة، فمن حفظ جوارحه، واستعصم، وثبت زكت نفسه، وطابت وطهرت بأدنى الأعمال من الصالحات، ومن كان يخبثها ويلوثها ولو يبيت مصلياً ويظل صائماً، فزنية واحدة تمحو ذلك كله وتغطيه، لكن إذا هو تجنب السيئات، وحسبه أنه يؤدي هذه الواجبات، وبذلك تزكو نفسه، وتطيب، وتطهر.

    سوء عاقبة أصحاب السيئات والخطايا

    وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81]، كيف أحاطت به؟ اليوم وغداً و.. كما بينها الرسول، نكتة إلى نكتة إلى نكتة فتغطى القلب، فيصبح مظلماً؛ لا يعي، ولا يفهم، ولا يسمع.هذا معنى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ [البقرة:81] البعداء أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81].عرفتم من أصحاب النار؟ البيض أو السود؟ من هم؟ الذين أحاطت الخطايا بنفوسهم، ومن أحاطها بنفوسهم؟ هم؛ لأنهم ما رجعوا ولا تابوا، بل ولا سألوا، ولا عرفوا، ولا تعلموا ما هي السيئة، وكيف تحدث أثراً في النفس، لأنهم جهلة عاشوا في الغابات، والبساتين، والمصانع، والمتاجر، فما سألوا عن الله، ولا عرفوا. فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81] كم سنة يرحمكم الله؟ أبداً، عالمان لا يفنيان: عالم علوي دار السلام، وعالم سفلي النار، وباقي العوالم كلها تتبخر، فيبقى عالم الشقاء وعالم السعادة، وانتهت سنة الله في الخلق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #69
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (62)
    الحلقة (69)




    تفسير سورة البقرة (32)




    من أسلوب القرآن أنه يجمع بين الترهيب والترغيب، فهو يهدد من كفر، ويحذره عاقبة جحوده، وأن النار هي مصيره، خالداً فيها مخلداً، وبالمقابل يرغب المؤمن بأن له جنة عرضها السماوات والأرض، خالداً مخلداً فيها أبداً، ولكن ذلك لا يكون إلا للمؤمن، الذي حقق الإيمان اعتقاداً وقولاً وعملاً، فلا يضره شك الشاكين، ولا يؤثر فيه جحد الجاحدين.

    تابع تفسير قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة وآياتها المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:81-83]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اعلموا -والعلم ينفع- أن الإنس والجن -هذان العالَمان: عالم الإنس وعالم الجن- نسبتهم إلى الله أنه ربهم .. خالقهم .. مدبر حياتهم، فما هناك من يتعزز أو يترفع أو يتسامى بنسبة خاصة عنده إلى الله عز وجل، وفي الحديث: ( كلكم لآدم، وآدم من تراب ). فالله عز وجل يُدخل دار السلام .. الجنة .. دار الأبرار مِن الإنس والجن مَن تهيئوا لذلك، وطلبوه، وعملوا على الحصول عليه، سواء كانوا بيضاً أو سوداً، عرباً أو عجماً، أشرافاً أو أوضاعاً، إنساً أو جناً. ويدخل عالم الشقاء .. النار؛ دار البوار -أعاذنا الله وإياكم منها- مِن الإنس والجن مَن تهيئوا لها، وعملوا لها واستعدوا لدخولها.وها نحن مع أشرف الناس .. مع بني إسرائيل، حيث يقول تعالى لهم بعد ما أبطل دعاواهم ومزاعمهم وجهالاتهم: بَلَى [البقرة:81]، أي: ليس الأمر كما تزعمون أو تدَّعون أو تقولون: إننا لا نعذب بالنار إلا أياماً معدودة، فالقضية أن مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة:81]، وكلمة (مَنْ): اسم موصول من ألفاظ العموم، يدخل فيه الذكر والأنثى، والعربي والعجمي، والشريف والوضيع.قال: مَنْ كَسَبَ أي: بنفسه، وقد علمتم سابقاً الكواسب والجوارح السبع التي بها نكتسب ونجترح. فالسيئة هي: كل قول أو عمل أو اعتقاد يحدث السوء في النفس بالظلمة والخبث والعفن والنتن. فذاك هو السوء، والواحدة سيئة.وقوله: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ، أي: مع العلم بأنه يكون مريداً لا مكرهاً، مختاراً لا مغالَطاً، فمن كسب سيئة بعمده وإرادته فهذه هي السيئة التي تحدث له المساءة في نفسه، أما مع الإكراه فلا تكون سيئة.ومن كسب سيئة واحدة ثم توالت عليه السيئات واحدة بعد أخرى فقد أحاطت به، وقد مثل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الإحاطة عند قوله تعالى: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، إذ بين لنا أن العبد المكلف، العاقل، البالغ، المريد، المختار إذا اكتسب سيئة وقعت نكتة سوداء على قلبه، فإن تاب مسحت وصقلت كما تصقل الزجاجة، وإن هو لم يتب وزاد سيئة أخرى وقعت إلى جنب الأولى، وهكذا الثالثة، والرابعة، والخامسة حتى يغطى القلب، وذلكم هو الران الذي قال الله تعالى فيه: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، أي: يكسبونه بجوارجهم: بالسمع .. بالبصر .. باللسان .. باليد .. بالرجل .. بالبطن .. بالفرج.وهذا قضاء الله وحكمه، فلا تقل: أنا ابن الأنبياء .. أنا حفيد أو سليل الأشراف، فكل هذا لا قيمة له؛ إذ هذا الكلام وجهه الله تعالى رداً على مزاعم بني إسرائيل.وقال تعالى بعد ذلك: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81]، أي: أهلها الذين تصاحبهم ويصاحبونها أبداً، فلا مفارقة. وقد عرفتم أن نار الآخرة صورتها موجودة في النار التي نوقدها للطبخ والاستدفاء، فهي آية من آيات الله الدالة على النار التي هي عالم الشقاء، ومن غفل أو ما تبين كيف أن ذلك العالم كله جحيم .. كله نار فليرفع رأسه إلى الشمس، الكوكب النهاري المضيء، وليذكر ما قاله أهل العلم من أن كوكب الشمس أكبر من كوكب الأرض بمليون ونصف مليون مرة، فالشمس نار ملتهبة، ومن شدة حرارتها تصل إلينا بالصورة التي تعرفون، ولو جمعنا الإنس والجن -وكنا نقدر على ذلك- ووضعناهم في الشمس فإنهم لا يسدون عشر ما في الشمس، ويبقى ذلك العالم.فهذه هي الأرض قد ملأتنا وملأناها، وحملتنا موزعين فيها، ولو بعث أسلافنا الذين ماتوا لوقفوا في الأرض ووسعتهم!فإذا كانت الشمس لو جمعنا لها البشرية والجن ما سددنا جزءاً منها فكيف بعد ذلك تسألني عن النار أو عن أي عالم آخر؟!وهذا العالم بكواكبه ونجومه وشمسه كله يتبخر، ويصبح سديماً وبخاراً كما كان، وأما الجنة فتكون في الأعلى، ويكون عالم الشقاء في الأسفل.قال تعالى: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ والجمع: خطيئات، وهذا تنويع: السيئة والخطيئة، فلما يخطئ تحدث المساءة.وقوله: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فلم يبق ما يتعزز به المرء من نسب أو شرف أو قوة مالية أو بدنية أو .. أو .. لا، ما هو إلا حكم الله النافذ.

    تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)

    قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:82]، ما لهم؟ ما الخبر؟ اخبر عنهم! أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82]، أولئك هم الأشراف، السامون، الأعلون، وليسوا بالهابطين كأصحاب النار، فأصحاب الجنة هم الذين لا يفارقونها أبداً، وهم فيها خالدون.والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا صورة لندرك حقيقة العالم الآخر فيقول: ( مثل الدنيا في الآخرة كمثل أن يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع )، أي: ما هي كمية البلل التي علقت بالأصبع من النيل أو الفرات أو المحيط؟ وما هي نسبة ذلك البلل إلى البحر؟ إنها لا شيء.وبين لنا الله كذلك حال الناس؛ فأخبرنا أن آخر من يدخل الجنة يعطى مثل الدنيا مرتين، وأن هناك من يعطى مثل الدنيا عشر مرات من السابقين، أي: عشرة كواكب. ولا تقل: كيف؟ فإن المجرة كبيرة، وقد تستطيع أن تعد حصباء أو حصى الأرض ولكن لا تستطيع أن تعد الكواكب والمجرات، فقولوا: آمنا بالله!نحن الآن على الأرض بمثابة الجنين في بطن أمه سواء بسواء، ويوم نولد، ونخرج من بطون أمهاتنا هو يوم نفارق الحياة، ونخرج من الأرض، وتغمض العينان ويقال: مات فلان، فينتقل إلى العالم الآخر، ليرى العجب! والآن الدنيا كرحم، ها نحن فيها ما رأينا شيئاً، وما ولدنا بعد، فإذا مات أحدنا - وكلنا يموت- انتقل من هذا الرحم الضيق المنتن إلى عالم لا حد له ولا نهاية، واسمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن ما بين كتفي الكافر في النار كما بين مكة وقديد )، فهذا عرض الكافر في جهنم .. في عالم الشقاء المسمى بالنار.ويقول صلى الله عليه وسلم: ( ضرس الكافر في النار كجبل أحد )، كما في صحيح البخاري ، فعرفنا أن ضرس الكافر كجبل أحد! وتعجبنا من حال هذا الكافر أن ضرسه كجبل أحد فكيف بذاته؟! ولما قرأنا قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما بين كتفي الكافر في النار كما بين مكة وقديد ) عرفنا أن هذا الضرس يتلاءم مع شخصية وحال الكافر.وإن قلت: كيف أن هذه النار تُبقي عليهم؟قلت: عرفنا ذلك من الحديث السابق فأجسامهم بتلك الحال تأكلها النار خلال الدهر كله، قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:56]، فيحترق جلد الكافر، والجلد الآخر ينبت تحت الاحتراق، وهذه أجسامنا على ضعفها يحترق الجلد الأول، وينبت بعده جلد آخر؛ لأن العذاب في ذلك الجلد.فهل عرفتم إلى أين المصير أو لا؟ وأنه ليس وراء الجنة والنار عالم آخر، فقد انطوى الكون كله ولم يبق إلا عالمان: عالم الشقاء وعالم السعادة.

    صدق الأنبياء فيما يخبرون به

    فإن قال قائل: يا شيخ! مَن رأى الجنة ومَن رأى النار؟ فهذه أخبار غيب، فكيف تطمئن قلوبنا، وتسكن نفوسنا؟الجواب: أخبر الرحمن بآلاف الأخبار، فصدق في كل خبر، ولم يوجد خبر واحد أخبر الله به وما صح.وأخبر عن الجنة والنار ولم يبقَ للعاقل أن يقول: كيف؟ أو أن هذا غير ممكن؟!والمخبر هو خالق الصدق وقد أخبر بهذا، والمخبرون عنه هم رسله الذين اصطفاهم وهم في أرحام أمهاتهم بل وهم في أصلاب آبائهم وأجدادهم نطفٌ طاهرة قد أعدهم للإيحاء إلى الناس، وإبلاغهم ما أراد أن يبلغوا به. فهل الرسل يكذبون؟وإذا كنا نكذب الرسل فما بقي من يصدق في البشر، وقد انتهينا وهلكنا، فإذا قال الرسول: إن في السوق الفلاني كذا وكذا فإنه لا يصدق، وإن قال: مات كذا وكذا فلا يصدق، وهنا نكون قد انتهينا وأصبحنا شر الخلق. فلابد من الصدق والتصديق. ورسل الله عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر، ما منهم إلا ووصف دار السلام ودار البوار، أفيكون بعد هذا شك وارتياب؟!وأعظم دليل على ذلك موجود في الكتاب الذي تحدى الله به الإنس والجن، وما زال التحدي قائماً إلى الآن أن يأتوا بمثله، فهل استطاع جماعات الأدباء أن يعقدوا المؤتمرات، ويألفوا الكتب ليخرجوا على البشرية بكتاب يضاهون به كتاب الله؟ والله ما كان.وتحدى العرب على أن يأتوا بسورة فقط، فطأطئوا رءوسهم وانحنوا وما رفعوها إلى اليوم؛ ألف وأربعمائة سنة وزيادة، قال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة:23]، أي: استعينوا بمن شئتم إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24] فعجلوا قبل أن تلتهمكم.

    إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن الملكوت الأعلى

    ومع هذا عندنا الرائد الأعظم صلى الله عليه وسلم .. الرائد الذي ارتاد العالم الأعلى، فمن بيت أم هاني بجوار المسجد الحرام إلى المسجد الحرام إلى زمزم حيث أجريت له أول عملية جراحية للقلب تسمع بها الدنيا، فشق صدره، وغسل قلبه، وحشي بالنور والإيمان والحكمة، فتهيأ لأن يعيش في الملكوت الأعلى لحظات، فأسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، واقرءوا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1]، ومن المسجد الحرام إلى الملكوت الأعلى، والله لقد اخترق السبع السماوات؛ سماء بعد سماء، وانتهى إلى جنة المأوى، واقرءوا لذلك قول الله عز وجل يا أهل القرآن: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1]، تعرفون اليمين والحلف أو لا؟ أو كلكم بربر مثلي؟ هذه صيغة يمين أو لا؟ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2]، وصاحبنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:4-9]، هذا جبريل، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَه ُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:10-13]، مرة أخرى أين؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:14-18].فصعد إلى السماوات بالبراق، والتقى ببعض الأنبياء والرسل في السماوات، وتحدث معهم.وعاش تلك اللحظات في دار السلام، وذكر أنه رأى قصراً فيه حوراء، فقال: لمن هذه؟ قيل: هذا قصر عمر رضي الله عنه، وهذه حوراه. فما كان منه إلا أن أغمض عينيه، وقال: ( إني ذكرت غيرتك يا عمر ! )، وأنتم أيها الفحول ما زالت الغيرة موجودة أو ماتت؟! فالفحل لا يرضى ولا يقبل أن ينظر فحل آخر إلى امرأته بعينيه، وهذا عمر عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسيته، وعرف غيرته وفحولته، فاستحى أن ينظر إلى تلك الحوراء في ذلك القصر احتراماً لـعمر لما يعرف من غيرته، ( فقال عمر : أعليك يا رسول الله أغار؟! )، أي: أغار منك.أعيد القول: أيها الفحول! زيدوا في طاقات غَيرتكم، ولا تجعلوها كغِيرة النساء، فلا ترض أن يكشف الفحل عن امرأتك إلا في حال الضرر المتأكد للإنقاذ أو التطبيب والعلاج، أما أن تقدمها وهي تمشي معك في الشارع: هذه مدامي .. هذه مدامي! فهذا معناه: أننا أصبحنا شبيهين بالنصارى.فإن قال قائل: ماذا هناك إذا رأى وجهها؟أقول: كيف تقول: ماذا هناك؟! كأنك تقول: هذا ليس فيه شيء، فما سقطت الكواكب، ولا التهمت النار، ولا ولا ..، نعم هناك أعظم شيء وهو أن الله أمرها أن تستر محاسنها، وتغطي وجهها، وأنت تتحدى الله وتكشف له وجهها.فكيف تقول: ماذا هناك! والله طلب منها أن تغض بصرها، وطلب منك أيضاً أن تغض بصرك عن محارم الرجال.وكيف تقول: ماذا هناك! أتبطل شرع الله بكلمة: (ماذا هناك؟) بهذه الكلمة الهاوية الباطلة.وقد مر صلى الله عليه وسلم بالكوثر أيضاً، وهل هناك حوض يسمى الكوثر؟ إي والله، أخبر عنه خالقه واقرءوا: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، وعدد كيزانه كعدد النجوم، وقال هكذا جبريل في تربته، فأخرجها تربة رائحتها أطيب -والله- من ريح المسك، وهذا الكوثر أعطاه الله للرسول صلى الله عليه وسلم.فإن قال قائل: هل لنا أن نشرب منه؟نقول: نعم إن شاء الله نشرب في حالة نحن أشد فيها ظمأً وعطشاً، في حالة أن نكون من أهل دار السلام. وذلك في عرصات القيامة .. في ساحة فصل القضاء. وهذا الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضاً من اللبن .. وأشد برودة من الثلج.فإن قال قائل: ومن أين هذا الماء؟الجواب: إنه من النهر الذي في الجنة، وفيه مرزابان يصبان في هذا الحوض.وقد بلغنا: أن رجالاً يريدون أن يقدموا على الحوض ليشربوا فتردهم الملائكة، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أصحابي! فيقولون: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. قال: فأقول: سحقاً سحقاً سحقاً )، فيردون إلى العطش والظمأ في ساحة فصل القضاء.يا معاشر المستمعين والمستمعات! عما قريب تعيشون تلك الأحداث: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا [غافر:59]، وإننا في آخر أيامها، فانتبهوا!

    معنى الإيمان

    قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:82].إن سأل سائل: ما معنى (آمَنُوا)؟فالجوا ب: معنى (آمَنُوا): صدقوا تصديقاً جازماً، خالياً من التردد .. خالياً من الشك، وبعيداً من الريب، بكل ما أخبر الله تعالى به، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو المؤمن.وإذا أخبر تعالى عن وجوده .. عن علمه .. عن قدرته .. عن حكمته .. عن رحمته لم تجد في نفسك إلا التصديق الجازم بما أخبر الله تعالى.وكذلك إذا أخبر رسوله وصح الخبر؛ لأن الحديث دخلت فيه شياطين الأنس، فقدموا وأخروا، وزادوا ونقصوا، ولكن الله حماه، فهيأ له رجالاً في كل زمان ومكان، ينفون عنه ما ألصق به المبطلون، أما القرآن فمعصوم محفوظ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].فإذا أخبر الله أو أخبر رسوله وقلت: آمنت، فأنت المؤمن، فإن ترددت وقدمت رجلاً وأخرت أخرى وتساءلت: كيف؟ فما آمنت.

    بيان أركان الإيمان

    لقد جاء القرآن الكريم ببيان أركان الإيمان، وجمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث واحد، والواجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحفظها عن ظهر قلب، ولا يحل أبداً أن يعيش المؤمن خمسين سنة وهو لا يحفظ هذه الأركان.وهذه الأركان جاءت مبينة في القرآن الكريم، فآية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... [البقرة:177] جمعت حوالي خمسة أركان، وركن القضاء والقدر جاء في سورة القمر.أما حديث جبريل في صحيح مسلم فسنذكره لنتلذذ بذكره، وليحفظه السامعون، والذي ما حفظه يجري وراء الطلاب ويقول لهم: والله لتعلمونني هذا الحديث، حتى يحفظه.لما أكثر الصحابة من سؤال الرسول وأتعبوه وأرهقوه؛ فهم بشر. ماذا فعل الله عز وجل تأديباً لأوليائه، ورحمة برسوله؟ أنزل آية من سورة المجادلة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12]، أي: إذا كنت تريد أن تخلو برسول الله، فكيف يفعل الرسول! ففي كل دقيقة هناك واحد يريد أن يكلمه، فقال: من أراد أن يخلو بالرسول ليكلمه خاصة فعليه أن يدفع صدقة ويتفضل بنجواه. فتأخر الصحابة وما استطاعوا أن يخلوا به؛ لأن أكثرهم فقراء، وليس عندهم شيء، فرحمة من الله تعالى نزل التخفيف فقال: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [المجادلة:13]، فنسخ الله ذلك الحكم، وعرفوا لماذا كل من عنده سؤال لا يخلو بالرسول؟ فكيف سيعيش؟! وهذا في الخلوة.وفي الأسئلة أيضاً قال تعالى: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]، فليس كل من في قلبه شيء يسأل، فإن الرسول لا يطيق هذا، فلما أدبهم وأصبحوا لا يسألون كانوا يفرحون بقدوم الأعرابي إذا دخل يسأل، والأعرابي ليس عنده علم، فما تحضّر ولا تأدب، فيأتي يسأل، وعندما يسأل يرتاحون، ويسمعون الهدى.وبناءً على هذا شاء الرحمن جل جلاله أن يبعث بجبريل في صورة رجل قال واصفه: ( شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر )، أي: ليس فيه شيب، ( لا يرى عليه أثر السفر )؛ لأن المسافر في تلك الأيام إذا جاء من السفر يكون مليئاً بالغبار، و.. و.. ولا تسأل، ( ولا يعرفه منا أحد )، فدخل المسجد ومشى حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمهم كيف يجلس طالب العلم، قال: ( فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه ) فقواه الكامنة والباطنة جمعها، وأخذ يسأل، والصحابة يسمعون.وأول سؤال قاله: ( أخبرني عن الإيمان؟ ) أي: ما هو الإيمان؟ ( قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال الصحابة: فعجبنا له يسأله ويصدقه! ) إذاً هو أعلم أو ماذا؟.( قال: أخبرني عن الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت )، وهذه هي قواعد الإسلام الخمس، ولو سقطت قاعدة يسقط السقف ولا يبقى، ولا إسلام لمن سقطت قاعدة الإسلام منه.

    مرتبة الإحسان

    ثم قال: ( أخبرني عن الإحسان؟ قال: الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك )، الإحسان: أنك عندما تعبد الله بأنواع العبادات كالطواف .. أو السعي .. أو الوقوف في عرفة .. أو الاغتسال والوضوء .. أو الصلاة .. أو الصدقة، وعندما تباشر العبادة تفعلها وكأنك تنظر إلى الله، فإن عجزت عن هذا المستوى وما وصلت إليه فدونك المستوى الثاني، ولا عذر بعده، وهو أن تعبد الله بتلك العبادة وأنت تعلم أن الله ينظر إليك.ومن لم يعبد الله على حال من الحالين فما صحت عبادته ولا عبد الله، بل أساء وأفسد، وما أصلح ولا أحسن، إذ لابد للعابد عند مباشرة العبادة أن يكون مع الله كأنه يراه، فإن نزل عن هذا المستوى يُشعر ويعلم نفسه أن الله ينظر إليه، ومن ثَمَّ لا يقدم ولا يؤخر، ولا يزيد ولا ينقص، ولا يلتفت، حتى يكملها، ولهذا هذا الركن الواحد بدونه تسقط تلك الدعائم والأركان.فالإحس ن: هو إتقان العمل وتجويده حتى يكون منتجاً للطاقة النورانية .. مولداً للحسنات؛ لأن العبادة من حيث هي عندما تقول: سبحان الله! إن كنت مؤمناً، وعارفاً، وسبحت الله؛ نزهته وقدسته وكأنك تنظر إليه، أو أنت تعلم أنه يراك، فأنتجت هذه الكلمة مادة نورانية سماها الشارع الحسنة؛ لأن النفس تحسن وتجمل بها، فلا تقبح وتتعفن كالسيئة.فلهذا: يا عباد الله! كلنا في هذا الباب متخلف وما تقدمنا، فيجب أن نعبد الله في حالة من الحالتين: إما وكأننا نراه، فإن عجزنا عن هذا المستوى وما استطعنا فعلى الأقل نعبده ونحن موقنون أنه ينظر إلينا، ومن ثم لا نزيد ولا ننقص، ولا نخافت ولا نسارع، ولا نفسد العباده عنا، فتنتج الطاقة النورانية المطلوبة.إذاً عرفتم الإحسان؟ عرفتم الإيمان؟ الإسلام؟فالإيما ن عقيدة، والإسلام عمل؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إقام الصلاة، إيتاء الزكاة، صوم رمضان، حج البيت الحرام مع القدرة عليه. والإحسان معناه مثلاً أن الخياط الذي يخيط الثوب يجب أن يراقب الله وأن يحسن الخياطة وإلا غش الناس. وقد وصلنا إلى مستوى أن أصبح الخياط يقول: هذه خياطة السوق، وهذه خياطة الذمة. فخياطة السوق يبيعها في السوق، ويلبسها الفحل يومين .. ثلاثة ثم تتمزق، وهناك خياطة أخرى تسمى خياطة الذمة. وأسألكم بالله: أيجوز هذا؟ كيف يصح؟ ولا لوم ولا عتاب فما عرفنا الله بعد، ولا تعلمنا الهدى والطريق إليه، فنحن مشغولون بدنيانا.

    أمارات الساعة

    ثم قال: ( أخبرني عن الساعة؟ )، أي: أتدرون ما الساعة؟ وهي نهاية هذه الحياة الدنيا، ( فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما المسئول عنها بأعلم من السائل ). المسئول هو الرسول، والسائل هو جبريل، فقال الرسول: ما أنا أعلم منك، أي: أبداً ما المسئول بأعلم من السائل في هذه القضية، وهل جبريل يعلم متى الساعة؟ والله لا يعلم، قال تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف:187]، فالعالم العلوي ما عَرَف، وليس له أن يعرف؛ لحكمة إلهية أخفاها عن الملائكة .. عن الإنس .. عن الجن.ثم قال: ( أخبرني عن أماراتها )، يصح أن تقول: أماراتها أو إماراتها؟ والعوام يقولون: الأمارة. وأين الأمارة؟ الأمارة هي التي فيها الأمير. والإمارة: من أمر يأمر أمراً فهو آمر، والإمارة مكان الأمر والنهي. والأمارات جمع أمارة، بمعنى: علامة، والعامة يعرفون الأمارة والعلامة: أمارته وعلامته كذا وكذا.قال: ( أخبرني عن أماراتها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أن تلد الأمة ربتها )، والآن ليس عندنا إماء ولا عبيد. ويا ليتنا نكون عبيداً لله، صادقين في العبودية؛ لأن الإماء يوجدن أيام الجهاد؛ وذلك لما نحمل راية لا إله إلا الله وننشر الهدى، فمن وقف في طريق النور وأراد الظلم للبشرية نصفعه، وأسراهم عبيد لنا حتى يدخلوا في رحمة الله.وقوله: ( أن تلد الأمة ربتها ) معناه: يظهر الجهل ويعم، فالأمة تلد، ثم تلك المولودة تجد الأمة والتي هي أمها تباع في السوق فتشتريها فتصبح ربتها، للجهل واختلاط الأمر.ثم قال: ( وأن ترى الحفاة )، جمع: حافي، أي: ليس في رجليه نعلان ولا حذاء، ( العراة ) ليس فيه إلا ستارة تسمى: إزاراً أو رداء يرتديه، ( رعاء الشاء أو رعاة الغنم يتطاولون في البنيان ) وهذا قد وقع، فتجد من يقول: أيهم عمارته أطول، لقد بلغت عمارة فلان عشرين طابقاً .. ثلاثين طابقاً .. عشرة طوابق .. خمسة طوابق، عجباً لهذا الرسول! وليس هذا في المملكة والحجاز بل في العالم بأسره، فرعاة البقر في أوروبا يتطاولون بها، ورعاة الإبل يتطاولون بها؛ لأن هذا حكم عام.إذاً: قربت الساعة!قال: ( وترى الحفاة العراة العالة )، أي: الفقراء ( رعاء الشاء يتطاولون في البنيان )، أي: أيهم يكون بناؤه أطول وأعلى.والشاهد عندنا أنكم عرفتم الإيمان والإسلام والإحسان، ولو رجعت إلى البيت عليك أن تفكر فيما قلناه، فإذا غابت عنك كلمة فاسأل أي مؤمن وقل له: من فضلك! أنا نسيت كذا فذكرني. وبمجرد ما تعزم هذه العزيمة وتطبقها فإنك ستتعلم، أما أن نجلس ولا نحفظ، ولا نعمل، فما قيمة جلوسنا؟!

    أثر الإيمان في حياة القلوب

    أقول معاشر المستمعين والمستمعات: يقول تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:82]، بم؟ بما علمتم.وهذا الإيمان قررناه مئات المرات أنه بمثابة الطاقة الدافعة، وإذا نفدت الطاقة من السيارة فإنها لا تمشي، وبطارية السيارة إذا نفدت فإنها لا تشغل شيئاً بل تصاب بالحشرجة التي في الصدر، وصوتها كصوت المريض الذي يموت، فهذه الطاقة هي الإيمان، فإذا كانت صحيحة وسليمة وقوية فإنها تدفع صاحبها إلى أن يقوم الليل كله .. إلى أن يعتزل النساء طول حياته .. إلى أن يرابط في الجهاد فلا يخرج.والإيمان طاقة قوية حملت بعضهم على أن يخرج من ماله كله، ولولا هذه الطاقة الإيمانية ما استطاعها إنسان، وهذه الطاقة إذا سلمت من الحيف، والزيادة، والنقص، والخرافة وعرفتها كما عرفك الله، ثم قويتها وزدتها دائماً وأبداً فإنها تثمر وتنتج باستمرار.لكن بم تزيد هذه الطاقة؟من مظاهر زيادة هذه الطاقة أنك إذا شعرت بضعف في هذه الطاقة فقم وصلِّ ركعتين، أو أخرج من جيبك ريالاً أو ريالين وتصدق.فلما تشعر بفتور أو ضعف في طاقتك قوها بعمل صالح؛ ولهذا قالت العلماء: الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، فيوالي معصية بعد معصية فيخفت ذلك النور وينتهي.ولهذا عرض القرآن عرضين، فشاهدوا، هل تجدون أنفسكم -أيها المؤمنون- موجودين أو لا؟العرض الأول من سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ بصدق وحق الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4]، إن شاء الله معهم؟ما رأيتمونا؟ ما رأيتم أنفسكم؟ موجودون إن شاء الله.وأنت إذا قلت لأحدهم: يا سيد! كيف تبيع مجلات الخلاعة وصحف الباطل من أجل الريال! لا تبع هذا الباطل. يقول -مع الأسف-: الزبائن لا يشترون الأشياء الأخرى إلا إذا بعت هذه.قلنا: هل هذا توكل على الله أو على المجلة؟أين التوكل على الله: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #70
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (63)
    الحلقة (70)




    تفسير سورة البقرة (33)


    أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل بأن لا يعبدوا إلا الله وحده، ولا يعبدوا معه غيره، وهذا البند هو أكثر ما أكد عليه القرآن، ومع هذا نجد كثيراً من المسلمين لا يحققونه، ولا أدلّ على ذلك من انتشار الأضرحة، ومظاهر التعبد لغير الله، أما البند الثاني من الميثاق فكان متعلقاً بالإحسان إلى الوالدين، وهذا معنى يشمل كل ما يسمى أحياناً بما في ذلك صلة أهل ودّهم.

    تابع تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:81-83]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

    تدسية النفس بكسب الخطايا والسيئات

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81-82]، هذا قضاء الله .. هذا حكم الله، وقد عرفنا -والحمد لله- الآية التي تحمل هذا الحكم الإلهي، وأصبح من الضروريات عندنا معشر أهل هذا الدرس! وهو قول الله تعالى بعد ذلكم الإقسام العظيم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فكن ابن من شئت فإن نسبتك إلى الآباء والأمهات لا تغني عنك شيئاً، وما هو إلا أن تزكي نفسك فتنجو من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، أو تدسيها فتذل، وتهون، وتخسر في الدنيا والآخرة.أعيد هذا الحكم وتأملوه، وأعيدوه، وتحدثوا به، وبلغوه اليهود والنصارى والمجوس والمشركين؛ إذ الكل عبيد لله، خلقهم ورزقهم، وإليه مصيرهم، أحبوا أم كرهوا، فتَجاهلهم لا يجدي ولا ينفعهم، فهم مخلوقون مربوبون، يجب أن يتعرفوا إلى خالقهم وربهم، وهذا حكمه فيهم بعد أن أقسم تعالى بأعظم إقسام: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، هذه تسعة أيمان، حتى أقسم بنفسه.لكن على ماذا أقسم؟ أقسم على هذا الحكم الذي لا ينقض بحال من الأحوال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: نفسه، فطهرها وطيبها حتى تكون كأرواح أهل الملكوت الأعلى صفاءً وطهراً، وَقَدْ خَابَ خسر مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10].وكأنكم تسمعون رسول الله وهو ينادي: ( يا بني فلان! يا بني فلان! أنقذوا أنفسكم من النار )، حتى قال: ( يا فاطمة ! إني لا أغني عنك من الله شيئاً ).والآية تبين لنا الآن ما تدسى وتزكى به النفس، فقال تعالى: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81]، تدست نفسه، وخبثت، وتلوثت فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81].إذاً: النفس تتدسى وتخبث بالسيئات، وبتلك الأقوال والأعمال والاعتقادات التي حرمها الله، وأودع فيها مادة الخبث، وما من عبد يفعلها إلا وتخبث نفسه، وخالق السم في العقرب والأفعى هو جاعل هذه التدسية في الكذبة يكذبها عبد الله.

    تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح

    بم تزكو النفس؟قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82]، فبين لنا ما تزكو به النفس، وهو الإيمان والعمل الصالح.فسبحان الله العظيم! أبعد هذا نطلب مزيداً؟!أيحلف الجبار على أن من زكَّى نفسه فاز، فزحزح عن النار وأدخل الجنة، ومن دساها فقد خاب وخسر، ونطلب غير ذلك؟!بين الله لنا الفوز بقوله: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، وبين التدسية أيضاً ومعنى الخسران فقال: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].

    تعجيل التوبة من الخطايا

    معاشر المؤمنين والمؤمنات! إذاً: هذه الآية تخاطب بني إسرائيل .. اليهود الذين كانوا يجادلون رسول الله في المدينة، فلما ادعوا تلك الدعاوى أبطلها الله، وبين أنه لا قيمة للنسب. بَلَى [البقرة:81] أي: ليس الأمر كما تدعون، كيف إذاً يا ألله؟! قال: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81]، لأن الخطايا لا تأتي إلا بعد أن تكون خطيئة، فلهذا إذا اقترفت ذنباً فعجِّل بالتوبة وإلا فستتوالى الخطايا، والتوبة تجب على الفور بإجماع هذه الأمة؛ لأنك إذا أذنبت وتساهلت فسوف تتوالى الخطايا، وتحيط بنفسك، وحينئذ يكون قد فُرغ منك، ولن ينفعك شيء.قال: فَأُوْلَئِكَ [البقرة:81] البعداء أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81]، فالنار عالم، وما عالمنا هذا إليه إلا كقطرة ماء في المحيطات الخمسة، واللسان فقط يقول: النار، وكوكب الشمس المضيء؛ الملتهب، الذي هو أكبر من الأرض بمليون أو نصف مليون مرة، لو كان هو النار فلن تملؤه البشرية ولو كانت مثل هذا خمسين مرة، لكن هذا الكوكب سيحترق وينطفي، والنار وراء ذلك.

    التلازم بين الإيمان والعمل الصالح

    قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82]، فلولا الإيمان ما عمل عبد الله العمل الصالح، وإياك أن تتصور إيماناً بدون عمل صالح، أو تتصور عملاً صالحاً بدون إيمان، فإنك ما أصبت الحق.كيف هذا؟إذا وجد الإيمان الحق المطلوب فأنت تجري وتطلب أهل الأرض: دلوني على عمل يحبه ربي .. دلوني على ما يكره مولاي. فلا تستطيع أن تؤمن بالله ولقائه ولا تعمل ما يرضيه، ولا تترك ما يسخطه، هذا مستحيل.فالإيمان بمثابة الروح، وإذ حيي العبد أمكنه أن يسمع ويبصر، ويقول ويعمل، لكن قبل الحياة كيف يعمل؟ لا يستطيع.فلا تتصورن وجود إيمان حق بدون عمل صالح، إلا لمن آمن ومات مباشرة. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم أدركه الموت، فلا اغتسل، ولا صام، ولا صلى.أما أن تتصور أن إنساناً أو جاناً يعيش مؤمناً اليوم واليومين .. والعام والعامين ولا يطلب مرضاة ربه بالعمل الصالح، وترك سخطه بالعمل الفاسد، فوالله ما كان ولن يكون، ومن عنده دليل فليأتنا به؟فكونك تجد عملاً صالحاً بدون إيمان هذا لا يمكن، ولا يمكن أن يكون العمل -حقيقة- صالحاً وناتجاً عن غير إيمان بالله ولقائه، فلهذا هما مقرونان في كل آيات القرآن: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، حتى إذا ذكر الصالحات أولاً يأتي بالإيمان بعد ذلك: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، أي: والحال أنه مؤمن.إذاً: هذه الآية الكريمة تكفينا وتكفي أهل الأرض، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله عن سورة (والعصر): لو ما أنزل الله تعالى إلا هذه السورة لكفت. لأن الله عز وجل أقسم بالعصر، وله أن يحلف بما يشاء. فحلف على أن هذا الإنسان مخلوق في خسر، واستثنى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].

    تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ...)

    الآن مع هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى وهو يخاطب نبيه فيقول: اذكر لهم، أي: لهؤلاء المتعنتين الخصوم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83]، ومن الذي أخذ ميثاق بني إسرائيل؟ الله.ما هو الميثاق؟ الميثاق هو العهد المؤكد بالأيمان .. العهد المغلظ المشدد الموثق بالأيمان، كأن يقول: والله لا أخلف وعدي معك، أو لأفعلن ما قلت، أو لأنهضن بما كلفت.قال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وبنو إسرائيل -يرحمكم الله- هم اليهود.ولم قيل فيهم: بنو إسرائيل؟ ذلك لأن جدهم إسرائيل: عبد الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، هم بنو إسرائيل.ومن عجائب الحياة أن هذا النوع من البشر احتفظ بجنسيته، فلا يقبلون من يدخل في دينهم، ولا يدعون الناس إلى دينهم، ومن شك فليسأل أبناءنا وإخواننا الذين لهم الآن خمسة وأربعين سنة مع اليهود، بل من قبل: هل حاولوا أن يدخلوا فلسطينياً في اليهودية؟ أبداً، وقد يعيشون في أوروبا .. في آسيا .. في أفريقيا ولا يدعون أحداً لأن يدخل إلى دينهم، ولا يقبلون من ينتسب إليهم، إلا نادراً ولأغراض سياسية، ولا يقع هذا إلا مرة واحدة في مائة سنة.فلهذا يخاطبهم الله بهذا اللقب: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فليس فيهم دخيل، لم هذا؟ لأن علماءهم غشوهم، وأحبارهم ضللوهم بأنهم هم الشعب المختار عند الله .. وأنهم هم أفضل المخلوقين من بني آدم، وهذا كان في أيام الطهر والصفاء، نعم! فضلهم الله على العالمين، وهم عباده، وله أن يفضل من يشاء؛ ففضلهم لما كان فيهم من أنوار الهداية الإلهية، ولما كان في كل بيت منهم يوجد نبي، لكن لما انتكسوا وهبطوا، وقتلوا الأنبياء والعلماء، وحرفوا دين الله لعنهم الله. والمغضوب عليهم هم اليهود؛ لأنهم عرفوا الحق وأعرضوا عنه، وهم المغضوب عليهم في سورة الفاتحة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]. ولم غضب عليهم؟ لأنهم حرفوا كلام الله، وأفسدوا دين الله، ونقضوا العهود مع الله، فلعنهم الله، وغضب عليهم.ومن يسلك سلوكهم يحل محلهم؛ إذ البشرية كلها جنس واحد، وفي الحديث: ( كلكم لآدم، وآدم من تراب )، ( لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى )، ولم التقوى؟ لأنها تزكي النفس وتطهرها، فالمتقي هو الذي يعمل بمزكيات نفسه ومطهراتها من الإيمان والعمل الصالح، ويعيش يتهرب ويتجنب مدسيات النفس من الشرك والمعاصي، فهذا ولي الله الذي ينزل الملكوت الأعلى، سواء كان أبيض أو أسود.

    أخذ الميثاق من بني إسرائيل

    قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83]، فما مضمون هذا الميثاق؟ وما هي بنوده ومواده؟من الجائز أن تكون الوصايا العشر، والوصايا العشر يعتز بها اليهود اليوم، ومنذ عهد موسى، ولكن اعتزاز المسلمين اليوم ومنذ ألف سنة بالقرآن أكثر، ولكن بلا عمل.فاليهود إلى الآن لو تتصلون بهم وتدارسونهم لوجدتهم معتزين اعتزازاً بالوصايا العشر وهي وصايا الرب تعالى، وقد أخذ عليهم فيها العهد والميثاق.أما نحن فقد أعطانا الوصايا العشر، وزادنا العشرات بل المئات، فهل أخذنا بتلك الوصايا.اسألوا المؤمنين: هل عرفوا هذه الوصايا؟ وأين هذه الوصايا؟إنها عشر وصايا تعدل وصايا بني إسرائيل وتفوق بحسب مستوانا وقربنا من ربنا.هل تسمعون عن الوصايا العشر؛ لتعرفوا هل أنتم نفذتم الوصايا أو لا؟ أو ليس لكم حاجة؟!أعوذ بالله! كيف نأكل ونشرب ونحيا إذاً ونحن لا نعرف هل مرضي عنا أم مسخوط علينا؟!وها نحن نقرأ فقط من باب العرض التلفازي، فشاهدوا أنفسكم هل طبقتم هذه الوصايا العشر أو بقيت وصايا ما كملناها، ومن ثم نعزم ونصحح العزم على أن نطبقها؛ إذ هي ليست وصايا من الصعوبة أنها مستحيلة، لا، أبداً، فما كلفنا الله بما نعجز عنه.لقد جاء ذكر الوصايا العشر في سورة الأنعام، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم. وسورة الأنعام لما نزلت جملة واحدة زفها سبعون ألف ملك نزلوا معها. وكم طالبنا وصحنا عشرات السنين: هذه السورة يجب أن يفرض حفظها ودراستها في كل معهد .. في كل مدرسة .. في كل كلية في العالم الإسلامي. ومع هذا:لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تناديبسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153].لمن هذه الوصايا؟ أليست للمؤمنين المسلمين؟كم وصية؟ عشر وصايا.كيف حالكم معها؟ نحمد الله، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، إما أن توفي الكيل والميزان أو تطفف.والشاهد عندنا: ليس بنو إسرائيل وحدهم أخذت عليهم المواثيق والعهود، بل نحن أكثر منهم، وتقدم لكم أن من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقد أعطى العهد والميثاق لله أن ينهض بكل تكليف، وأن يترك ويتجنب كل محرم ومنهي عنه، وإلا خان عهده ونقضه.

    أخذ الميثاق بعبادة الله وترك عبادة غيره

    وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83] بنوده: أولاً: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83].أول بند هو ألا يعبدوا إلا الله، وهذا لازم أن يعبدوا الله أولاً، ثم لا يعبدون معه غيره، فليس معناه: لا تشرك فقط، ولا يقال: لا تشرك إلا إذا كنت تعبد، ومعنى هذا: اعبد الله وحده، وهو معنى لا إله إلا الله.وهذه هي المادة الأولى أو البند الأول في هذا الميثاق الإلهي، الذي أعطاه بني إسرائيل على عهد موسى.وقوله: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ جملة خبرية معناها الإنشاء، أي: اعبدوا الله وحده.فإن قال قائل: يا شيخ! كيف نعبد الله وحده؟الجواب: اسأل أهل العلم: بم يعبد الله، وكيف يعبد؟ ولا بد أن تسأل: كيف يُعبد الله، وكيف أعبده؟ ومن لم يسأل لم يعرف، ومن لم يعرف هل يقال فيه: عبدَ الله؟ كيف عبده؟! فلا بد وأن يسأل أهل العلم، والله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].فكل من لا يعلم يجب أن يسأل حتى يعلم، وكل من سئل وهو يعلم عليه أن يُعلِّم حتى يعلم السائل ما طلب.ومن هنا المفروض أن أمة الإسلام وإن بلغت خمسمائة مليون لا يوجد بينها رجل ولا امرأة جاهل. صح هذا أم كذب؟ هذا هو الواجب، فلا ينبغي أن يعيش من المسلمين رجل أو امرأة العام والعامين والعشرة الأعوام وهو لا يعرف كيف يعبد الله، ولا بم يعبد الله! لأنه مأمور؛ فالله هو القائل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فنسأل أهل الذكر، والذكر هو القرآن: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1].هذا إن كنتم لا تعلمون، أما إذا كنت عالماً فلا تسأل، وإنما تهيأ فقط لأن تُسأل فتُعلِّم.لكن متى يفيق النائمون؟ ومتى يصحو السكارى بحب المال والدنيا؟ ومتى يصبح العالم الإسلامي نساء ورجالاً كلهم علماء؛ فيعرفون ربهم معرفة تثمر لهم حبه في قلوبهم، فيحبون الله أكثر من أنفسهم، وأموالهم، وأهليهم، وتصفو لهم خشيته في قلوبهم، فيرهبونه، ويرتعدون من ذكره، ثم يطيعونه.فإذا أحل لنا الحلوى نأكل: بسم الله .. وإذا حرَّم الدخان والشيشة امتنعنا .. وإذا أمرنا أن نلبس خاتم الفضة لبسناه .. وإذا نهانا عن خاتم الذهب تركناه، وهكذا فعل وترك، والفعل مستطاع وفي قدرة الآدمي إن خلا من علل وأمراض، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.ماذا نقول: هل من عودة؟ نعم، عائدون!هل هناك طريق قريب يا أبنائي؟!الطريق البعيد هو أحلام الغافلين من أمثالنا كأن يقول: هذا يوم تكون الخلافة! ونحن نعمل على إيجاد الخلافة الإسلامية.لكن متى توجد الخلافة؟!وإذا وجد الخليفة نكفره، ونرميه بقواصم الظهر حتى لا يطاع، وهذا هو واقعنا.أنا قلت غير ما مرة: لو أن عمر رضي الله عنه خرج في هذا المجتمع فلا يستطيع أن يفعل شيئاً أبداً، فالقلوب متفرقة، والأهواء والرغائب متنازعة، والشهوات عارمة، فكيف يجمعهم؟!إذاً علينا أولاً: أن نؤمن، وأن نحقق إيماننا بالله ولقائه، فإذا آمنا وحيينا فحينئذ كلف يا عمر ! ومر فإنك تطاع، أما ولا إيمان حق فكيف يكلفنا؟!

    طريق النجاة

    إذاً: ما هي الطريق؟أيها المفكرون! يا علماء الإسلام! نبحث عن طريق للخلاص والنجاة، فقد كونا منظمات وجمعيات فما نفع! فما الطريق؟وهنا عدنا من حيث بدأنا، فعلينا أن نسلك مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.ماذا كان يفعل في مكة وهو محاصر، كان إخوانه مضطهدون يعذبون أمامه، وهو قد منع من المسجد الحرام، فجمع المؤمنين في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، وما جمعهم في هذه الدار لأكل البقلاوة، والحلاوة، والرز، واللحم، لا والله، إنما جمعهم ليعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، ويطهرهم من أدران الأوساخ، والشرك، والمعاصي، والذنوب.ثم هاجر إلى المدينة النبوية في السنة الثالثة عشرة من البعثة، فنزل بديار عوف بن مالك بقباء، ونزل هناك مع زميله .. مع رفيقه .. مع خليله، وإن قال في الحديث: ( لو كنت متخذاً غير ربي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن حسبي خلة ربي ). وما مضى عليه أسبوع إلى ثلاثة عشر يوماً حتى بنى مسجد قباء، فبنى المسجد في سبعة أيام أو ثمانية أيام، وبنى هذا المسجد ليجمع المؤمنين والمؤمنات -وهم أقليات- من أجل أن يعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم.أصحيح هذا الكلام أم لا؟ والله إنه لصحيح. وخرج من دار عوف بن مالك في موكب النور، وبطون وأفخاذ وقبائل الأنصار تقول: عندنا يا رسول الله! هنا النزول .. هنا النزول .. انزل عندنا، فيقول: ( اتركوا القصواء فإنها مأمورة ). فيمسكون بخطامها: انزل! لا .. لا، اتركوها، فتمشي وتمشي، والناس وراءه وأمامه، والدنيا كلها فرح، ولم لا ورسول الله بينهم؟ حتى وصلت إلى تلك الروضة وبركت، فأرادوا أن يقيموها فقال: ( دعوها فإنها مأمورة. هنا يبنى المسجد ).ودار أبي أيوب بينه وبين المسجد خمسة أمتار أو ستة.وبنى المسجد، فطلب عوناً من ربه، والله كأنكم ترونه وهو يحمل الحجارة على كتفيه، من هو هذا؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو يتقاول بتلك الكلمة:اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرةوالناس يقولون معه؛ حتى يتشجعوا على البناء ومواصلة العمل:اللهم لا عيش إلا عيش الآخرةفاغفر للأنصار والمهاجرةوبنى المسجد، وأي مسجد هذا؟ هو هذا الملاصق لحجراته، وبنى بعد ذلك الحجرات، واشترى هذه التربة من يتامى، إلا أن أولياء اليتامى قالوا: لن نأخذ ثمناً، نحن سندفع الثمن.ولم بنى المسجد؟ ليجمع المؤمنين والمؤمنات؛ فيعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم.وجمعهم أم لا؟ وتعلموا أم لا؟والله ما اكتحلت عين الوجود بخريجي مدرسة أو جامعة أو مسجد كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الواحد منهم يزن الدنيا!وسأعطيكم نماذج لتعرفوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تخرجوا من المسجد، لا أقل ولا أكثر:لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي الخلافة أبو بكر ، وكان يسكن في العوالي، فإذا به يسمع جارية تقول: آه! أبو بكر الآن ولي أمر المسلمين، فمن يحلب لنا؟ نعم كان أبو بكر يحلب لأهل الحي أغنامهم، فقال: لا يا بنيتي! ما زلت أحلب لكم.انظروا إذا تجدون في العالم هذا النوع من البشر!ونحن يعلق أحدنا خيطاً عسكرياً فيرتفع رأسه في السماء، ولا يعرف شيئاً.وأما إذا حصل على مليون ريال فحدث ولا حرج!وهذا سلمان الفارسي يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ( سلمان منا آل البيت )، كان أبوه -عليه لعائن الله- هو الذي يوقد نار الشرك، أي: المسئول عن تأجيج النار التي تعبد في بلاد فارس، وهو القيّم على الإله.فأنقذ الله هذا الولد بعدما تجرع الغصص، وتذوق آلام الحياة وأتعابها، فما وصل إلى المدينة حتى بيع عبداً مرتين أو ثلاثاً، وهو يتنقل من إقليم إلى إقليم يسأل عن الهدى، فما اطمأنت نفسه إلى عبادة النار، وقد وجد من رجال المسيحية بصراء عقلاء مَن يرشده قائلين: إننا في انتظار نبي آخر الزمان. فيقول: صفوه لي وأعطوني علاماته. حتى قالوا: يوجد في قرية ذات نخيل وسبخة يقال لها: يثرب. فتنقل حتى وصل المدينة بعد عشرين سنة.فلما حكم عمر أو أبو بكر ولاه ولاية البصرة، فجاءت قافلة تجارية كبيرة من الشام ودخلت البلاد، فوضعوا أمتعتهم، وأناخوا إبلهم، أو ربطوا بغالهم وحميرهم، فليس هناك سيارات ولا قطارات يومئذ.وجاء سلمان وفي يده عصا.قالوا: من هذا؟ هذا لا نعرفه. تعال يا حمال.قال: ماذا تريدون؟قالوا: احمل معنا هذه الأمتعة إلى الفندق. فوالله لقد حمل حقيبتين أو ثلاثاً، واحدة على رأسه، وأخرى بيمينه وأخرى بشماله، ومشى إلى الفندق، فمر بهم بصري: يا جماعة! ويلكم هذا والي المدينة.قالوا: الله؟! قال: نعم. فأخذوا: يا والي! لوجه الله سامحنا. قال: اسكتوا، والله لا أضعها حتى أصل إلى الفندق.أرأيتم خريجي المسجد النبوي أم لا؟! وحسبنا هذا.فإن أردنا أن نصل إلى السماء، وننزل الملكوت الأعلى فهذا هو الطريق، فلا حزبية، ولا تكتلات، ولا تجمعات ولا أحلام، ولا تكفير، ولا عمل، إلا أن نعرف ربنا المعرفة الحقة، فنعرف كيف نعبده، وبماذا نعبده، والطريق يكون في العودة إلى بيوت الله؛ فلا كبر، ولا غطرسة، ولا مال، ولا شرف، بل نجتمع في بيت ربنا في الحي أو القرية، الغني كالفقير، العالم كالجاهل، الذكر كالأنثى، إلا أن النساء وراء الستارة، والفحول أمامهن، وكل ليلة وطول العام ندرس ماذا؟ تاريخ أفلاطون ! وسياسة نابليون ! ندرس قال الله وقال رسوله. وبعد عام .. عامين فقط تتجلى أنوار تتحير لها عقول البشر: كيف استقامت هذه الأمة؟! أين درست؟ ماذا تعلمت؟هذا هو الطريق.وهل هناك طريق آخر؟والله لا أراه، والتجارب كافية، فدعونا، وقد صحنا منذ ستين سنة وما تحركنا، وما زلنا في أماكننا! والآن معاشر المستمعين! أنتم في مسجد رسول الله أم لا؟ في دار النبوة أم لا؟ هل تسمعون غير الحق والهدى؟ والله ما كان ولن يكون.وإن قلتم: ها نحن مع اليهود، والله يقول لهم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83] أولاً: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83] وثلاثة أرباع المسلمين يعبدون الأولياء، فهذا يحلف بهم، وهذا يعكف على قبورهم، وهذا ينذر لهم، وهذا يدعوهم ويستغيث بهم، وإن خَفَّ هذا نوعاً ما لانتشار الدعوة. فثلاثة أرباع المسلمين لا يفكرون في لقاء ربهم، ولا يسألون عن محابه ولا مساخطه، ولا ما هو المصير ولا المنتهى، فهم مشغولون بالطعام والشراب والنساء، وهكذا! فكيف نعود؟من جديد نعود إلى المسجد، وكتاب: (المسجد وبيت المسلم) هذه هي الحيلة التي يسرها الله، وأعلناها للمسلمين، وما بلغنا أن قرية أو مدينة أو أهل إقليم في الشرق أو في الغرب عرفوا هذه الحقيقة واجتمعوا على هذا الكتاب إلى الآن!لعلي واهم .. لعلي غافل؟!وقد يقول قائل: ما هذا؟ وماذا ينفع؟تعال أتحداك! هيا نجمع أهل قرية سنة بنسائهم ورجالهم يتعلمون الهدى، ثم ننظر إلى حالهم بعد العام كيف سيكون! فإن وجدت من يقول: فلان زنى اذبحني، أو فلان قتل فلاناً، أو غش فلاناً، أو خدع فلاناً، أو سب أو شتم.إنني أتكلم عن علم، والشاهد في نفسي، فقد عشت ستين سنة أو سبعين والله ما ضربت مؤمناً، ولا أخذت ريالاً لمؤمن، ولا شتمت ولا سببت، لم هذا؟ عرفت فقط، وأمثالي بالملايين عرفوا، فالذين ما عرفوا لا يمكن أن تعول عليهم أبداً في أن يستقيموا، مستحيل.العلم نور، والعلم روح وحياة، وبدونه لا تأمن جاهلاً أبداً، ومن شك فلينظر أحوال المسلمين حكاماً، ووزراء ومسئولين، وكل دولة فيها عشرات المسئولين في وزارة المال .. وزارة الصحة .. وزارة التعليم .. وزارة كذا وكذا فأين آثار ذلك؟! لأنهم ما هم بأهل .. ما هم بصراء .. ما هم واعون .. ما هم عارفون بالله .. لا يبكون من خشيته .. لا يبيتون يتململون ودموعهم تسيل يطلبون رضا الله. فكيف تعول عليهم؟! وكيف يستقيمون؟!

    مظاهر الإحسان إلى الوالدين

    قال تعالى: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83] الإحسان إلى الوالدين، ومن سأل: كيف أحسن إلى والدي؟ ومن هم والداي؟ ذكران أو إناث أو أب وأم؟الوالدان: الأم والأب، والأم يجوز أن يقال لها: الوالد والوالدة أيضاً، كالحائض، إذ ليس هناك رجل حائض حتى نقول: المرأة حائضة، بل حائض. كذلك هل يوجد رجل يلد من بطنه؟ لا يوجد. إذاً: المرأة نقول فيها: الوالد .. هذه الوالد، بمعنى الوالدة.ما هو الإحسان إلى الوالدين؟في أربع كلمات:أولاً: إيصال الخير إليهما. والخير: الطعام .. الشراب .. الكساء .. السكنى .. المروحة، وكل خير تصل به إليهم.ثانياً: كف الأذى عنهما، حتى ولو كان كلمة غضب: أف! فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، ومنع الأذى تماماً حتى كلمة تحدث المساءة في نفسيهما لا تقال.ثالثاً: طاعتهما في المعروف، فإذا قالت أمك: طلق هذه لا تصلح عندنا، طلقها، لم؟ لأن إبراهيم عليه السلام قال لإسماعيل: غير عتبة بابك. فغير أم لا؟ وذلك عندما جاء إبراهيم من الشام؛ من القدس يتعهد تركة ولده إسماعيل في الوادي الأمين، وقد تزوج جرهمية، إذ نزلت هذه القبيلة عندهم، فجاء فسأل: أين بعلك؟ أين زوجك؟ قالت: ذهب يطلب لنا الرزق. قال: من أين؟ قالت: يصيد غزالاً .. أرنباً. إذ ليس عندهم إلا اللحم والماء فقط، فلا يوجد لديهم عنب أو فاكهة أو خبز. وإلى الآن يقول أهل العلم: يستطيع أهل مكة أن يعيشوا على اللحم والماء، ولا يستطيع أي شعب أو بلد أن يعيش على هذا!فقال: كيف حالكم؟ قالت: إننا في بؤس .. إننا في شقاء .. إننا في كذا.قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه!فجاء إسماعيل بعد يوم أو يومين من الصحارى وهو يحمل الغزلان والضباء: السلام عليكم! قالت: وعليكم السلام. قال: هل زارنا أحد؟ فراسة .. تباشير النبوة. قالت: نعم. قال: ماذا قال؟ قالت: يقرئك السلام ويقول لك: كذا وكذا، قال: ذاك أبي، وقد أمرني بفراقك، الحقي بأهلك! فطلقها أم لا؟!ثم غاب عاماً آخر، وجاء إبراهيم زائراً فقال: السلام عليكم، كيف الحال؟ قالت: إننا في خير .. إننا في نعمة .. في فضل الله .. في رحمة الله .. في بيت الله.إي! هذه خلاف الزوجة الأولى، الأولى كأنها خريجة جامعة تريد الوظيفة والمال.قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له يثبت عتبة بابه. أي: يركزها.ثم جاء إسماعيل فقال: هل زارنا أحد؟ قالت: نعم. ماذا قال؟ يقول: كذا وكذا. قال: ذاك أبي، وقد أمرني بأن أثبتك في البيت. لتنجب بعد ذلك عدنان أبا سيد المرسلين.هذا درس علمي لا تجده في جامعات الدنيا.فنقول: إذا كان أبوك صالحاً وأمك صالحة وقالا: طلق هذه، فيجب أن تطلق؛ لأنهما عرفا عنها، فلا تصلح لك، ولئلا تنجب لك الأولاد.أما إذا كان الأبوان كما نحن عليه الآن أهل أهواء، ودنيا، وشهوات، وغيرة، وحسد فلا تطعهما، فإن قالا: طلق. فلا تطلق، قل: هي امرأة مؤمنة، تقية، صالحة، متحجبة فلم أطلقها؟وهذه النقطة خير من خمسين كيلو غرام ذهب لمن يعلم، ويعي، ويحفظ.إذاً: ثالثاً: طاعتهما في المعروف، وهو ما عرفه الشرع من عبادات وطاعات .. من خير وإحسان، أما إن أمرا بمنكر فـ (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ).قالت أمك: لا تصلِّ فهل تطيعها؟! قالت: لا بد أن تشرب الحشيش؟!فوالله لا طاعة لها: ( إنما الطاعة في المعروف )، والقرآن يصرح بهذا: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].رابعاً: صلة من تربطهم بك رحم واحدة، فالذين يرتبطون مع أمك أو أبيك برحم تصل الجميع.خامساً: أن تصل من كان صديقاً لأبيك أو أمك، فمن كانت لأمك صديقة ثم ماتت أمك، فزرتها فوجدتها، فينبغي أن تحسن إليها وتكرمها؛ لأنها صديقة أمك. وجدت أن فلاناً كان صديقاً لأبيك رحمة الله عليه، فتحبه وتكرمه، وتبجله، وتعظمه؛ لأنه كان صديقاً لوالدك.وانظر إلى هذا المنظر: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجع من مكة حاجاً؛ وقد كان يغزو عاماً ويحج عاماً، هكذا ثلاثين أو أربعين سنة، فنام في الطريق وإذا بأعرابي يقول: يا مؤمن! أعطني شيئاً. فنظر إليه وقال: من أنت؟ قال: أنا ابن فلان صديق عمر . فأعطاه عمامة كان يربط بها رأسه في الليل، وأعطاه حماراً كان يروح عليه، أي: يركب الجمل ساعتين وثلاثاً ثم يخفف عليه فيركب الحمار، فأعطاه العمامة والحمار، فجاء مولاه نافع : يا سيدي! كيف تفعل هذا؟ هذا أعرابي تكفيه حفنة من تمر أو قرص عيش، فكيف تعطيه عمامتك؟! قال: يا نافع ! هذا والده كان صديقاً لـعمر . وفي الحديث: ( من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه ).وكل هذا لتتماسك الأسر والعائلات والسكان، ويصبحوا كالجسد الواحد.معاشر المستمعين! حسبنا ما سمعنا. والله نسأل أن يوفقنا للعمل. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #71
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (64)
    الحلقة (71)




    تفسير سورة البقرة (34)


    نص القرآن على ميثاق أخذه الله من بني إسرائيل، لم يكن ميثاقاً عادياً، لقد كان شاملاً كاملاً، تتقاسمه العبادة والمعاملة: توحيد الله، والإحسان إلى كل من الوالدين، وذي القربى، واليتامى، والمساكين، والإحسان في القول، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لكن هؤلاء القوم نبذوا كل هذا وراء ظهورهم إلا قليلاً منهم، والمؤسف أن أمة القرآن قد أصابها هذا الداء.

    تابع تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ... [البقرة:83-85] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

    أخذ الميثاق بعبادة الله وحده وعدم الإشراك به

    معاشر المستمعين! كنا قد عرفنا أن الميثاق هو العهد المؤكد باليمين؛ من التوثيق الذي هو الربط والحزم بشدة.والله عز وجل هو الذي يقول لليهود الذين يمثلون بني إسرائيل: اذكروا إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83].وهذا الميثاق له بنود، وقد تكلمنا عن بند واحد.فالبند الأول من البنود التي تضمنها الميثاق: ألا يعبدوا إلا الله: أولاً: يعبدون الله بما شرع أن يعبد به.ثانياً: ألا يشركوا في عبادته غيره، وهذا معنى لا إله إلا الله.فلو سئلت عن معنى لا إله إلا الله، فإنك تقول: لا يستحق العبادة إلا الله، وبحكم أنك شهدت أنه لا معبود بحق إلا الله فوجب عليك أن تعبده، وإلا فإن شهادتك باطلة!ثانيا: ألا تقر عبادة غيره، وإلا ما معنى أنك تشهد على علم أنه لا يعبد إلا الله، وفي نفس الوقت تقر بعبادة سواه؟!وهذه القضية المهمة يا ليت إخواننا يفهمونها، فأنت تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فعلى أي شيء أقمت شهادتك؟ قطعاً ستقول: على علم، فأنا لا أشهد أن إبراهيم بن فلان أو أن خالداً ضرب فلاناً إلا إذا رأيت هذا، فالإخبار شيء، والشهادة شيء آخر، فأنا أشهد على علم أنه لا يستحق العبادة إلا الله.إذاً: فما دمت تشهد على علم فينبغي أن تعبد الله، وإن لم تعبده فشهادتك باطلة. وأنت تكذب!ثانياً: أن تعبده وحده، ولا تعبد معه سواه، وإلا تناقضت من أول يوم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وفلان! ثالثاً: لا نقر عبادة غير الله، ولو نُسأل عن عبادة اليهود .. النصارى .. المجوس .. عبدة عيسى .. عبدة الملائكة .. عبدة الجن .. عبدة الكواكب؛ نقول: هذه عبادة باطلة، ولا نقرها أبداً؛ لأنهم عبدوا ما لا يستحق العبادة، فالعبادة يستحقها الخالق للعبد .. الرازق للعبد .. الكالئ والحافظ له إلى نهاية أجله. أما الذي ما خلق، ولا رزق، ولا حفظ فكيف يعبد! وبأي منطق وبأي حق؟ إنها عبادة باطلة!إذاً: أول بند من بنود هذا الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل وهم في جبل الطور أو في غيره هو ألا يعبدوا إلا الله.

    أخذ الميثاق بالإحسان إلى الوالدين

    ثانياً: قال تعالى: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83] أي: وأن يحسنوا بالوالدين إحساناً عاماً بالآباء والأمهات، وقد عرفتم أن من الإحسان بالوالدين أن يصل بالخير إليهما.وهنا لطيفة: لم قال: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وما قال: وإلى الوالدين إحساناً؟(إلى) حرف جر تصل به إلى الغاية، فقال: (وبالوالدين)، ومعنى هذا: إذا احتاج الوالد، بل ولو لم يحتج، فلا تضع أمامه الكأس وتقول: اشرب! بل خذ الكأس بيدك وضعه في يده. ولا ترم السجادة وتقول له: افترش، لا! افرشها أنت وقل له: اجلس! ولا تركب في السيارة وتقول له: اركب، بل أنت تفتح الباب وانتظر حتى يركب. وهذا دل عليه حرف باء الإلصاق، فما قال: وأحسنوا إلى الوالدين، إنما قال: أحسنوا بالوالدين. فالباء باء الإلصاق، فليكن الخير الذي تقدمه لهم كأنك تلصقه بهم. ومن ذلك لا تقل: يا أبت! المشلح في المشجب البس واخرج، فهذا لا يجوز، بل ائت به أنت وألبسه إياه، حتى تكون قد أحسنت به.فهل فهم الأبناء هذه: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]؟

    صور الإحسان إلى الوالدين

    قد عرفتم أن الإحسان بالوالدين يدور حول أربع مسائل:الأولى: أن تصل بالخير إليهما من الطعام .. الشراب .. الكساء .. المركوب .. السكن .. الدواء، تصل به إليهما، ما داموا محتاجين إليك وأنت في غنى عنهم.ثانياً: أن تكف الأذى عنهما، حتى ولو كانت كلمة نابعة أو صوتاً مرتفعاً، والله عز وجل يقول: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] فهذه الكلمة محرمة، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يواجه بها أحد أبويه، فإنها من كبائر الذنوب، فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23] أما أن ترفع صوتك لا، فليكن صوتك منخفضاً دون صوتهما، ومن كان غير مربَّى ولا مهيأ فليتربَّ من الآن، ويخفض صوته عند أبويه، وليكن صوته دون صوتهما وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24] وقد مثلت لكم: افرض أنك طويل وأبوك دونك في الطول، فحاول إذا مشيت معه أن تتقاصر؛ حتى لا تفوقه في الطول، وإذا مشيت معه فلا تمش أمامه بل امش وراءه أو إلى جنبه وأنت متطامن، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وكن ليناً هشاً جداً، لا قسوة ولا شدة ولا غلاظة، وإنما لين وتطامن.ثالثاً: طاعتهما في المعروف، فإذا أمرك أبوك أن تقول أو تفعل أو تعتقد؛ فانظر إذا كان أمره من أمر الله ورسوله فيجب أن تطيعه ولا تتردد، وإن كان أمره مناقضاً لأمر الله ورسوله فأمر الله أولاً! فأنت فُرِض عليك طاعة الوالدين نظراً إلى المعروف الذي قدماه لك، والإحسان الذي بذلاه لك، فأمك حملتك تسعة أشهر، وأنت من صلب أبيك؛ من مائه فكيف إذاً لا تشكر هذا النعيم؟! ولكن شكر الله أولى؛ لأنه خالقك، وخالق أبويك، وخالق الكون لك.وقوله: ( إنما الطاعة في المعروف ) هذا الحكم يتناول أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتناول إمام المسلمين، فالكل لا طاعة إلا في المعروف، ومن قال: وكيف تقول والرسول صلى الله عليه وسلم؟! فليسمع، أقرأ عليه مادة في هذا الكتاب الكريم إذ يقول تعالى للنساء في آية البيعة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ... [الممتحنة:12] فانظر كيف قيد العصيان بالمعروف، وهذا معناه فرضاًً: لو أمر الرسول بغير طاعة الله فلا يطاع! وهذا من باب الفرض فقط لتعليم الخلق، وإلا حاشى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر بغير ما في رضا الله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]. فكل أقضيته وأحكامه وسننه كلها من الله عز وجل، وهذا من باب: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12] أما إن أمرك بغير المعروف فلا حق لك في الطاعة، فكيف إذاً في غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!فإذا أمرك أبوك بألا تصلي فهل تطيعه؟! إذا أمرك ألا تشهد صلاة الجماعة فهل تطيعه؟! إذا أمرك الحاكم أن تشرب خمراً فهل تطيعه؟! إذا أمرك أن تقتل عمراً فهل تطيعه؟! إذا أمرك أن تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل تطيعه؟! الجواب: لا، ( إنما الطاعة في المعروف ).رابعاً: صلة الرحم التي تربطك بهما كجدك وابن أخيك وبقية الأقارب سواء كانوا من الأدنين أو من الأباعد، فما دامت الرحم جمعت الكل فلا بد من هذه الصلة.وأخيراً: بر صديقهما. فإذا كان لأبيك صديق أو لأمك صديقة فينبغي أن تبر هذا الصديق وهذه الصديقة لبر أبويك! وفي الحديث: ( إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه )، وقد ذكرت لكم حادثة عبد الله بن عمر في طريقه من المدينة إلى مكة عندما نزل منزلاً، وإذا بأعرابي يقف ويطلب من ابن عمر مساعدة، فيعطيه عمامته وحماره، والعمامة كان يستعملها في الليل يشد بها رأسه لينام، والحمار يروح به على نفسه، لما يملّ من ركوب الجمل يركب الحمار، والمسافة عشرة أيام في الطريق. فلما أعطى الرجل الحمار والعمامة سأله مولاه نافع : كيف يا مولاي تعطيه مع أن حفنة التمر تكفيه، وليس أن تعطيه هذه العمامة التي تستعملها في ليلك، وهذا الحمار الذي تروح به على نفسك؟! فقال ابن عمر له: إن أباه كان صديقاً لـعمر ! وهذا بعد موت عمر .وبهكذا يوثق الإسلام الروابط بين الأسر .. بين الأصدقاء .. بين الجيران .. بين .. بين .. لتصبح أمة الإسلام أمة واحدة، وقوة واحدة، وحق لها؛ لأنها تحمل راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، والتي يبغضها الأبيض والأسود والعجم. فإذا لم تتماسك وإذا لم تقوَ لا تستطيع حملها أبداً؛ ولهذا اسمع كيف أمرنا الله بصلة الأرحام: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36].أريد أن يفهم المستمعون أن هذه الأمة غالية عزيزة؛ لأنها أسعد أهل الأرض وأطهرهم .. لأنها مهيأة للسماء والنزول في الملكوت الأعلى .. لأنها عدو لكل كافر وكافرة، ومشرك ومشركة. وهي القائدة الرائدة السائدة فلا بد وأن تكون جسماً واحداً، وإلا فلا تقوى أبداً على أن تخوض هذه المعارك مع الإنس والجن.ولهذا كل ما يدعو إلى الفرقة حرام، ولو تتبعت المعاملات المحرمة من أولها إلى آخرها في البيع .. في الإيجار .. في الشراء .. في كل المعاملات؛ تجدها تدور على شيء واحد، وهو ألا يحصل أو يحدث خلل في قلوب المؤمنين! فهذه المعاملات التي بين الناس كل معاملة محرمة، وعلة تحريمها أنها توجد الضغينة في قلوب المؤمنين، وتوجد العداء والبغضاء بينهم، وكل ما يسبب العداء والفرقة حرام!وما أخذ على بني إسرائيل أخذ علينا نحن.

    أخذ الميثاق بالإحسان إلى الأقارب

    قال تعالى: وَذِي الْقُرْبَى [البقرة:83] قرابة الإنسان معروفون، وهي جمع قريب، واليتامى جمع يتيم، فاليتيم يجب أن يحسن إليه، وهذا قد أخذ الله به عهداً على بني إسرائيل، ونحن أيضاً أخذ علينا ذلك، كما في آية النساء السابقة وهي لنا وليست لبني إسرائيل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36] عشرة حقوق! فهذا الميثاق فيه عشر مواد، وتسمى هذه الآية بآية الحقوق العشرة، حتى الجار ثلاثة جيران: جار قريب، وجار بعيد، وجار قريب من جهة وقرابة من جهة أخرى. فالجار اليهودي أو النصراني يجب أن نحسن إليه ولا نسيء إليه!

    أخذ الميثاق بالإحسان إلى اليتامى

    قال تعالى: وَالْيَتَامَى [البقرة:83] اليتامى: جمع يتيم.من هو اليتيم يا عباد الله؟!هو من فقد أباه لا من فقد أمه، فالذي مات والده إذ هو العائل والمنفق والقيم؛ فأصبح هذه الغلام يتيماً لموت والده، ويستمر يتمه حتى يبلغ سن التكليف، وهذا اليتيم يجب أن يجد بين المواطنين مأمناً حيث لا يخاف أبداً، ويجد بينهم رزقاً حيث لا يجوع ولا يعرى، ويجد بينهم مدرسة تربيه؛ حتى يتخرج ربانياً صالحاً، فلا يهمل ويطرح في الشوارع ليعيش على الجهل.وحسبنا أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ) أرأيتم كيف يرغب أم لا؟ ( أنا وكافل اليتيم كهاتين ) مقترنان السبابة والوسطى.فاليتيم يجب وقد فقد أباه ألا يفقد شيئاً مما كان يغدقه عليه أبوه ويعطيه إياه؛ من تربيته .. من الحفاظ عليه .. من إطعامه .. من كسوته .. من من .. فهذا شأن اليتامى.والحمد لله هذه البلاد وفق الله أهلها إلى إنشاء -وما عرفنا هذا في أي بلد- دور اليتامى، والمفروض أن يكون كل بلد فيها دار لليتامى الذين فقدوا الآباء، فدار اليتامى في المدينة تخرج منها مسئولون، حيث يؤخذ الغلام إلى الدار فيجد من يربيه ويعلمه ويطعمه ويعينه، حتى يبلغ سن الرشد، وبعد ذلك يخرج فيذهب حيث شاء، فإن عجزنا عن بناء دور اليتامى فعلى الأقل كل مؤمن يرعى هذا الحق مع من يراه يتيماً في جواره أو في قريته أو في حيه.أما إضاعتهم .. أما أخذ حقوقهم .. فلا تجوز، ولكن وللأسف الشديد إنهم يأخذون حقوقهم، ويأكلون أموالهم، ويلهونهم، ويعبثون بهم؛ فقط لأنه فاقد والديه أو فاقد أبيه.والشاهد عندنا في هذا البند أيضاً: وَالْيَتَامَى .

    أخذ الميثاق بالإحسان إلى المساكين

    قال تعالى: وَالْمَسَاكِينِ [البقرة:83] أخذ على بني إسرائيل العهد والميثاق بالإحسان إلى المساكين.ما هو المسكين؟المسكين هو الذي أذلته الحاجة والمسكنة، فلا يجد غذاء ولا كساء ولا دواء، فهذا ينبغي أن يحسن إليه، فإن لم تجد ما تحسن إليه فعلى الأقل ابتسم في وجهه، ولا ترفع صوتك عليه، ولا تظهر في مظهر أنك متفوق عليه، والقائد الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول: ( ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق )، ومن لم يجد ما يتصدق به فالكلمة الطيبة صدقة، فإذا قال المسكين: يا أبتاه! أو يا أباه! أنا جائع فعليك أن تطعمه، فإن لم تجد ما تطعمه فقل له كلمة طيبة ينشرح لها صدره، وتطمئن نفسه، أما أن تدفعه بقوة وتقول له: اذهب ليس عندنا، فهذا خطأ، ونستغفر الله منه، ونتوب إليه.والواجب ألا يشعر المسكين في القرية أو الحي أو المدينة بأن فيه ضعفاً أو أنه يهان أو لا يبالى به، بل يجب أن يحترم كما يحترم الأغنياء.وهذه تعاليم الله لعباده، فإن هم وفوا بهذه العهود كملوا وسعدوا، وإن أعرضوا عنها وأهملوها فحسبهم الذل والعار الذي يلاقونه.

    أخذ الميثاق بالقول الحسن للناس

    قال تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] هذا بند آخر: قولوا للناس الحسن لا القبح، فإذا ناديت الشخص فقل له: يا أبتاه! إن كان أكبر منك .. يا أخاه! إن كان مساوياً لك .. يا ولدي! أو يا بني! إن كان أصغر منك.أما أن يقول أحدنا: يا أعمش! يا أعرج! يا طويل! يا بدوي! يا كذا! فهذا حرام ولا يجوز! ولا يحل أبداً. بل لا بد وأن تقول الحسنى في القول والعمل لهذا المؤمن.وكلمة (الناس) عامة تشمل حتى الكافر، فهل إذا مر بك كافر وقال: يا فلان! ناولني كأساً أشرب، تقول: يا ملعون! لا أعطيك؟! فهذا لا يجوز أبداً؛ لأن الله قال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا والكلمة الحسنة هي التي يظهر أثرها في وجه من تتكلم معه.أما الإساءة فهي محرمة، ومن هنا لا ينبغي لا سب ولا شتم، ولا تعيير، ولا تقبيح، ولا سخرية، ولا لمز، ولا همز، فكل هذا محرم عنها في كتاب الله. واقرءوا آخر سورة الحجرات: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].وأنتم تسمعون وتعرفون ماذا يحدث في مجتمعاتنا من السخرية والاستهزاء بالفقراء .. بالأغنياء .. بالجهال .. والله بالعلماء! وما سر هذا؟ إنه الجهل، فوالله ما علمناهم، وما ربيناهم، وما ضممناهم إلى حجور الصالحين؛ فكانت النتيجة أن تخرجوا ضائعين تائهين، فلا أدب ولا خلق ولا معرفة. وماذا ترجو من شخص ما جلس طول حياته بين يدي مرب يربيه ليلة من الليالي؟! ماذا تريد أن يكون؟!فإن عرفنا العلة فهيا إذاً من جديد نتربى، فإن قلتم: لا نستطيع، أقول: لم لا تستطيع؟ هل هذا حمل ثقيل لا تطيقه؟ يقولون: لا نستطيع؛ نحن عندنا أعمال، فهذا عنده مصنع، وهذا عنده متجر، وهذا عنده مزرعة، فكيف نعمل؟قلنا: اعمل من صلاة الصبح، فصلِّ الصبح في بيت الرب واحمل فأسك أو مطرقتك أو نقودك وإلى السوق والمزرعة واعمل إلى غروب الشمس، أما يكفي هذا النهار كاملاً؟! فإذا مالت الشمس إلى الغروب غير ثيابك في بيتك، واصحب زوجتك وبناتك وأولادك إلى بيت الرب، واجلسوا، ويجلس لكم ربانيّ ذو علم وحكمة ليعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك كل ليلة ولطول العمر.أسألكم بالله: هل هذا فيه مشقة أو تكليف ما يطاق؟!قولوا لي: اليهود .. النصارى .. الملاحدة .. العالم بأسره إذا غابت الشمس تركوا العمل، وذهبوا إلى المقاهي والملاعب، والمراقص، والمقاصف، ودور السينما أم لا؟أما نحن فلسنا مثلهم، والفرق بيننا وبينهم كالذي يريد أن يهبط إلى أسفل الأرض، وآخر يريد أن يطلع إلى أعلى السماء فهل يستويان؟ هذا هبوط بسهولة، فلا يتكلف ولا يجهد نفسه، أطلق نفسك يهبط إلى أعماق الأرض، لكن تطلع كيف تشق الملكوت. فرق كبير أم لا؟!وفرق آخر: المؤمنون أحياء، والكافرون أموات، فهل تكلف الميت أن يسمع ويبصر ويعقل عنك، ويعطي ويأخذ؟! هذا ميت! وأما المؤمن فحي، يسمع ويبصر، ويأخذ ويعطي، لوجود الحياة فيه.فإن قال قائل: لم يكرر الشيخ هذه القضية؟ قد مللناها وسئمنا منها، فهو في كل درس يعيدها؟قلنا: هذا هو سؤالكم؟! هو هذا! وأنا قلت لكم: والله لا سبيل لإنقاذ هذه الأمة وقد غرقت إلا بالعودة إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كلفناها أن تبني المدارس والكليات! فليس عندها أموال، وما كلفناها أن توقف الفلاحة أو التجارة، فإنها لا تستطيع؛ لأنها ستجوع، وما قلنا هذا أبداً، فقط من المغرب إلى العشاء نرجع إلى الله في بيته، وليس في بيتنا أو بيت أخيك فتقول: لا يتسع لنا، ضايقتمونا! نقول: في بيت الرب جل جلاله، وعظم سلطانه، النساء وراء الستار، والأولاد دونهن، والفحول أمام الكل، وهم يتلقون الكتاب والحكمة، قال الله وقال رسوله، فلا مذهب أبداً، ولا حزب، ولا جماعة، ولا وطنية، بل قال الله يا عباد الله! وقال رسوله يا مؤمن!أسألكم بالله يا من فهمتم عني: هل بعد عامين .. ثلاثة .. أربعة هل يبقى في القرية جاهل أو جاهلة؟والله ما كان أبداً، وإن لم يكتبوا، وإن لم يقرءوا، فهذا العلم لا يتوقف على الكتاب والقراءة، إنما يتوقف على الفهم، والعمل، والتطبيق، فإذا أصبح أهل القرية علماء هل تتصور أن يوجد في القرية من يزني؟ أن يوجد في القرية من يخون ويغش؟ والله لا يوجد، هل يوجد في القرية من يموت جائعاً وهم شباع؟ والله لا يكون. أن يوجد في القرية من يمشي عارياً حافياً وهم منتعلون مكسوون؟ والله لا يكون، فلا يستطيعون أبداً.وفوق ذلك هل يستطيع الإنس أو الجن أن يذلهم أو يقهرهم وهم أولياء الله؟ والله لا يستطيعون. أقسم بالله؛ لأنهم أولياء الله، وليست قضية بركة فقط، إذا استووا على هذا المستوى من الفهم والإدراك والعلم؛ هؤلاء يكونون أقوى الناس طاقات بدنية .. أقوى الناس مالاً .. أقوى الناس عملاً.إذاً: عرفتم لم نكرر هذا القول؟فإن قيل: متى نسكت؟نقول: لما يبلغنا أن الإقليم الفلاني نهض علماؤهم وأخذوا يجمعون النساء والرجال والأطفال في بيوت الرب تعالى من المغرب إلى العشاء، فالدكاكين مغلقة .. المقاهي مغلقة .. العمل وقف، أين الأمة؟ في بيت الرب! ليلة قال الله، وليلة أخرى قال رسول الله، فيحفظون الآية ويتغنون بها، ويدخرونها في نفوسهم، ويحفظون الحديث، ويتلذذون بكلام رسولهم، ويفهمون معنى تلك الحكمة، وتأخذ آثارها تتجلى في منطقهم .. في لباسهم .. في أكلهم .. في شربهم؛ حتى تصحوا الأمة، وما كلفنا هذا شيئاً، ولا نطلب من أهل القرية ريالاً واحداً أبداً، ولا تخافوا!إذاً: لا تلوموا الشيخ: لم يعيد هذا القول ويكرره! ونحن كمن ضاعت دابته، وهو طول عمره ينادي عنها ليحصل عليها! فهل يسكت؟!إذاً: قال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] فيا بني إسرائيل! ويا أبناء الأنبياء وأحفاد المرسلين! قولوا للناس حسناً، ولا تسيئوا إلى البشر، ولا تقولوا البذاء والمنطق السيئ، ولا سخرية ولا كذب.ألسنا نحن أحق بهذا؟ نعم. أمرنا كما أمروا، وآية الحقوق العشرة موجودة في سورة النساء.

    أخذ الميثاق بإقام الصلاة

    قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:83] يا بني إسرائيل! أقيموا الصلاة، فأُخِذ عليهم عهد من الله في عهد موسى بأن يقيموا الصلاة.وما معنى يقيموا الصلاة؟أي: يؤدونها أداء حسناً صالحاً حتى تنتج لهم الطاقة النورانية، وحتى تولد لهم النور في قلوبهم، وهذا النور إذا كثر يظهر على البصر .. على السمع .. على المنطق .. على اليد .. على الرجل، فيصبح عبد الله كالملك، فلا ينظر إلا حيث يأذن الله له بالنظر، ولا يسمع إلا حيث يأذن الله له بالسماع، ولا يأكل إلا حيث أذن الله له بالأكل، ولا ينطق إلا حيث أذن الله تعالى له أن ينطق، فغشاه النور؛ ولأن أكبر مولد للنور والمعبر عنه بالحسنات هو إقام الصلاة! فأكبر مولد ليس الصيام ولا الحج ولا العمرة، بل إقام الصلاة!وهنا نقول: يا شيخ! إخوانك في الشرق والغرب بعد أن استقلوا من سلطة الكفر وخرج المستعمرون من ديارهم فاستقلوا وكونوا الدويلات: الدولة الباكستانية .. الأفغانية .. الأندونيسية .. الدول العربية، دول! فهل سألوا أهل العلم: نحن الآن استقللنا فعلى أي شيء نقيم هذه الدولة؟ هذه الدولة لله أليست لله؟ نعم، نحن عبيد لله. كيف نقيمها؟ ابعثوا إلى العلماء واسألوهم عرباً أو عجماً؛ فيقول لهم العالم: أنتم الآن استقللتم، وأردتم أن تقيموا دولة، وإن الله عز وجل قد وضع لها أربع دعائم .. أربع ركائز، فأقيموا دولتكم على هذه الدعائم، فإنها تقوى ويشتد أمرها، وتصبح قادرة على إسعادكم، وتطهيركم، ونجاتكم.فهل سألوا؟ دلوني.أقول: دعني من أبنائي الأحداث! أنا أخاطب الكبار ذوي اللحى البيضاء! لما استقل إقليم في الشرق والغرب هل سأل: كيف نقيم دولة الإسلام؟فكوّنا دويلات منهارة، فلا سعادة، ولا طهر، ولا صفاء، ولا مودة، ولا محبة، ولا إخاء، كأننا ما ذقنا طعم الإسلام، ولا تحلينا بحلية الإيمان! ما السبب؟!هل تذكرون دعائم الدولة الإسلامية؟يوجد في القرآن الكريم ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، وكل آية هي نور يضيء الظلام، وخذ آية واحدة من هذه تجد فيها دعائم الدولة الإسلامية، وقد جاء من سورة الحج بين الأنبياء والمؤمنون: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الحج:1] هذه السورة في وسطها جاء قول الله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] استقلوا أم لا؟ حكموا الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]. كم قاعدة هذه؟ أربع. (أقاموا الصلاة)؛ لأن إقام الصلاة هو الذي يطهر المجتمع .. هو الذي ينفي الخبث .. هو الذي يبعد المنكر .. هو الذي يشيع المعروف بين المواطنين، أما أي وسيلة أخرى فوالله إنها لا تجدي! ولو توزع على المواطنين يومياً الأموال والله لن تزكيهم ولن تطهرهم! ولن ينتهي الخبث والظلم والشر والفساد، فما هناك عامل إلا أن تقام الصلاة، وإذا أقيمت الصلاة في القرية .. في المدينة .. في الإقليم فنصف الميزانية التي كانت معدة للأمن كلها يستغنى عنها.قالوا: يا شيخ! النصف كثير؟نقول: نعم، والله لأكثر من النصف، ولا نحتاج إلى قوى أمنية أبداً، فكل مؤمن حامي للحمى، وحارس للفضيلة! وذلكم لأن الله المشرع الحكيم طابع الطبائع، وغارز الغرائز، وخالق الأنفس هو الذي قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لم يا ألله؟! علل! إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].وكم كررنا هذا وقلنا: هيا بنا نمشي إلى المحافظ أو مدير الشرطة في أي بلد، ونقول له: أعطنا قائمة بأسماء المجرمين في هذا الأسبوع: السارق والساب والشاتم .. فإن أعطانا قائمة أقول له: أقسم بالله! لن نجد بين هؤلاء المجرمين أو الظالمين نسبة (5%) من مقيمي الصلاة، و(95%) من تاركي الصلاة والمصلين، وإلى الآن ما زلنا نطالب وما تحداني واحد، وهذا الكلام قلناه في الشرق والغرب!الله يقول: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] ونحن نشاهد المقيمين للصلاة ما عصوا الله، ولا فسقوا عن أمر الله، ولا آذوا، ولا اعتدوا، ولا زنوا، ونجد الأذى والاعتداء والعنترية والفساد كله من تاركي الصلاة، والمتهاونين فيها.ماذا تقولون يا أهل الإسلام في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] لم لما يستقل إقليم ما يقيم نفسه على إقام الصلاة؟ وهل إقام الصلاة يعوق الأمة من العمل؟!إن الصلاة مقسمة تقسيماً إلهياً: أولاً: صلاة الصبح، هل صلاة الصبح تعوق عن العمل؟والله إنها لتنشط عليه، والله إنها لتساعد عليه، أقسم بالله! لأن الشعب الحي قبل الفجر وهم في يقظة، صلوا الصبح واندفعوا وراء أعمالهم، يشتغلون ساعتين .. ثلاث ساعات، أما الكفار فنائمون، لا يبتدئون العمل إلا في الساعة الثامنة.أما صلاة الظهر ففي الساعة الثانية عشرة وعندها يتوقف العمل، والذين يشتغلون من السادسة حتى الواحدة ليس هؤلاء ببشر، لكن عند الثانية عشرة أو الحادية عشرة يتوقف العمل، فصلاة الظهر تقع في وقت الراحة، فيزدادون قوة.وأما صلاة العصر فيمتحنهم الله بها، فإذا قال المؤذن: الله أكبر! وقف العمل، وأقبلوا على الله واقفين بين يديه، فهذه الطاقة تساوي طاقة الذرة.والمغرب والعشاء وقت الراحة، فلا عمل، والمؤمنون في بيوت ربهم يصلون المغرب والعشاء.فإقام الصلاة فقط يرفع من قيمة الشعب، ويعلي مكانته، ويحقق له الكمالات، ونحن مع الأسف ما أجبرت دولة رعيتها على إقام الصلاة!

    أخذ الميثاق بإيتاء الزكاة

    أما جباية الزكاة من المواطنين فما استقلت دولة وأمرت بالزكاة أبداً، بل عوضوا عن الزكاة بالضرائب، والفادحة أنك تعجب للضريبة فأحياناً تجدها نصف المال!لم ما نطالب بالزكاة ليرضى الله أولاً! وفيها بركة أفضل من الضرائب مليون مرة، لأنها طاعة لله، قالوا: لا .. لا .. لا، ليس هناك زكاة. ومعنى هذا: ما تذكروا الله ولا الإسلام.هل وجد في أي بلد رجال تعدهم الحكومة ليأمروا الناس بالمعروف وينهوا عن المنكر ويمشون في الأسواق .. في المقاهي؟ لا، أبداً. فكيف حال دويلاتنا الإسلامية؟!والذ يؤسف له أنه لو ما أوجد الله هذه الدولة على يد عبد العزيز رحمه الله لكنا نُعذر؛ فما عرفنا، لكن والله ما استقل إقليم من إندونيسيا إلى موريتانيا إلا وهو يعرف عن هذه البلاد! وأن الصلاة فيها إجبارية، والزكاة إلزامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له رجال في القرى .. في المدن .. في كل مكان، فلم لا نعمل هكذا؟ معاشر المستمعين! متى نعود إلى الله فيعود الله إلينا؟ ما وجدنا حيلة إلا هذه، فهيا بنا: إذا مالت الشمس إلى الغروب نأتي إلى بيوت الله بنسائنا وأطفالنا ونبكي بين يدي الله، وسوف يوجد الله تعالى لنا من يعلمنا الكتاب والحكمة وفي أي مكان، فإذا علم الله رغبتنا، ورأى صدقنا فسوف يهيئ لكل قرية من يعلمهم الكتاب والحكمة.
    تولي بني إسرائيل مع أخذ المواثيق والعهود عليهم
    قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ [البقرة:83] بعد هذا الميثاق في هذه البنود العظيمة رجعتم وراء إلا قليلاً؛ وهذا من حكمة الله، فلا يطلق الحكم العام، إذ يوجد من بني إسرائيل من استقاموا حتى لقوا الله، ولكن العبرة بالأكثرية، فأكثرهم نقض هذه المواد، ورماها وراء ظهره، ومن ثم سلط الله عليهم المحن والرزايا والبلايا، فأذلهم البابليون، وأذلهم الرومان، وفعلوا بهم حتى أصبحوا -والعياذ بالله- أذل الخلق.وكذلك المسلمون لما أعرضوا عن هذه العهود وتولوا، كيف أصبحت حالهم؟ أما استعمرتهم بلجيكا .. فرنسا .. إيطاليا .. وهولندا العجوز استعمرت مائة مليون مسلم! فما الذي فعل بالمسلمين هذا؟الجواب: أعرضوا عن هذه العهود والمواثيق، فتكبروا، وتجاهلوا، وأعرضوا عنها، هكذا إلا القليل، والقليل لا قيمة له؛ لأن الفتنة إذا جاءت عمت، والقليل يدخل الجنة بالبلاء الذي أصابه.قال: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:83] كما هي حال المسلمين الآن حيث الإعراض، فليس هناك من يفكر أبداً أن يعود إلى الله، وخاصة المسئولين في العالم الإسلامي، فقد أعطوا عرضهم تماماً ولا التفات إلى هذا الدين! سبحان الله! هذه الآيات تنزل في بني إسرائيل لتصبح في يوم من الأيام كأنما نزلت في المسلمين! وهذه هداية القرآن، فالآيات تخاطب اليهود، والقرآن ينزل وهم في المدينة فتكشف الغطاء، وتزيح الستار، وتريهم أسوأ أحوالهم علَّهم يتوبون إلى الله ويرجعون. نعم آمن البعض منهم وأسلم، ودخلوا في رحمة الله، لكن أكثريتهم أعرضت إعراضاً كاملاً.وتمضي القرون، وتصاب أمة الإسلام بما أصيبت به أمة بني إسرائيل، وتصبح الآيات منطبقة على المسلمين بالحرف الواحد! فنتلوها فقط من أجل أن نعرف أننا نحن الذين نقضنا هذه العهود ونكثناها: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا .. [البقرة:83] رجعتم عن هذا النور وعن هذه الهداية إلى الظلام والباطل إلا قليلاً منكم، والحال أنكم معرضون؛ لأن الذي تولى إذا كان قلبه ما زال حياً .. ما زال يفكر في العودة .. ما زال يفكر أن يتوب؛ هذا فيه خير، لكن إذا أعرض تماماً فمعناه: لا يعود إلى الحق والصواب أبداً.والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما نتلو ونسمع. وصلى الله على نبينا محمد.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #72
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (65)
    الحلقة (72)




    تفسير سورة البقرة (35)

    كانت لبني إسرائيل دولة، لكنها ما لبثت أن انهارت، وذهب اليهود شذر مذر، واستقر ببعضهم القرار في المدينة وعقدوا الأحلاف مع قبيلتيها، فكانت الحروب، وسفك الدماء، والتظاهر بالإثم والعدوان، ونقض اليهود ميثاق الله، حيث كان قد نهاهم عن كل ذلك، لكن اليهود كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فكانت عاقبتهم وكل من يسلك مسلكهم الخزي في الدنيا، وأشد العذاب في الآخرة.

    تابع تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:83-85] والعياذ بالله تعالى.

    الخطاب لبني إسرائيل شامل للبشرية

    أعيد إلى أذهان السامعين والمستمعين والسامعات والمستمعات: إنه لا فرق بيننا وبين بني إسرائيل وبين كل آدمي على صدر هذه الأرض، فنسبتنا إلى الله واحدة، ونحن عبيد لسيد واحد، فقط مَن آمن وعمل صالحاً ارتقى، وسما وعلا، وارتفع فوق الذين ما آمنوا ولا عملوا الصالحات، أما الاعتبار بالجنس فلا اعتبار له أبداً: عربي .. عجمي إسرائيلي .. فارسي .. قل ما شئت، فالكل عبيد الله.والله عز وجل لما يوجه هذا الخطاب لبني إسرائيل فإنه من باب أن تهتدي البشرية عليه، لا أنه خاص بمجموعة من اليهود كانوا في المدينة! من أجلهم فقط ينزل الله هذه البيانات؟ لا والله، ولو كان من أجلهم نسخه؛ لأنهم انتهوا، ولكن هذا الكتاب -القرآن الكريم- يتضمن هداية البشرية أبيضها كأسودها .. عربيها كأعجميها .. أولها كآخرها.والسر يا معاشر المستمعين والمستمعات أن الإيمان طاقة تدفع صاحبها إلى أن ينهض بالتكاليف، فالمؤمن بحق حي، يقوى ويقدر على أن يسمع .. على أن يعقل .. على أن يأخذ .. على أن يعطي .. على أن يصوم أو يفطر، فهو مؤمن حي، فهذه الحياة تحمله وتدفعه وتعينه على أن يستخدم المواد المزكية للنفس المطهرة لها.لكن ما هذه المواد المزكية للنفس المطهرة لها؟هذه المواد لا يضعها إلا الله، فلو تجتمع البشرية كلها على أن تضع عملاً ما على أن من فعله تزكو نفسه وتطهر، والله ما استطاعت ولا قدرت عليه، وبيان ذلك: هل تستطيع البشرية أن تجعل الحصباء، والرمال، والطين والتربة غذاء للإنسان فتدس فيه مادة الفيتامينات ويتغذى به الآدمي؟ هذا مستحيل.ومن أودع تلك المغذيات في الفواكه، والخضار، والخبز، واللحوم، وأخلى التراب، والطين، والحجارة، والأخشاب منها؟ إنه نفسه الذي إذا قال لكم: قولوا: سبحان الله، وقلتموها مؤمنين بالله، وكان لها أثر على نفوسكم بالطهر والصفاء، كما أنه إذا حرَّم كلمة فلأن فيها مادة مخبثة للنفس أشد من مادة السم الموجود في العقرب والأفعى، وما قالها عبد تمرداً على الله، وفسقاً عن أمره إلا اسودت نفسه، وأصيبت بالظلمة والعفن والنتن، وهذه سنن الله.فلهذا لما يُذكِّر بني إسرائيل كأنه من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة، فهو لنا نحن كذلك، ونحن الذين انتفعنا به، فمن رفع تلك الأمة إلى عنان السماء وإلى مستوى لم تبلغه أمة؟ والله ما هو إلا هذه الهداية الإلهية.

    ميثاق العبودية ألا تكون إلا لله

    ما هذا الميثاق وماذا تضمن؟وإن كنا قد تدارسنا هذا الموضوع مرتين، لكن سنعيده ليستقر في أذهاننا، ولننظر هل أخذنا والتزمنا بهذه العهود والمواثيق أو ما زلنا لم نلتزم؟!أولاً: قال الله تعالى: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83] فأول ميثاق: (لا تعبدون إلا الله).معشر المستمعين والمستمعات! هل فينا أو بيننا من يرغب أن يعبد مع الله غيره؟ ما فينا.ولكن بيننا من لا يفهم، فإذا أراد مثلاً أن يقوم يقول: يا ألله ورجال البلاد، فلا يفهم أنه عبد غير الله. وتسقط المسبحة فيقول: يا ألله ويا رسول الله، فما عبد الله وحده.كيف نصنع إذاً؟الطريقة أن يأتوا إلى مجالس العلم في بيوت ربهم وطول عمرهم فلا يتخلفون ليلة واحدة؛ ليتعلموا الهدى، وليعرفوا ما تزكو به النفس وما تتدسى به، أما بدون العلم فإنك قد تجد من يقول: أنا لا أعبد إلا الله، وهو يعبد مع الله غيره.ما هي العبادة؟ وكيف يعبد الله؟ وكيف يعبد غير الله؟لا بد من العلم، ومن لم يتعلم لا يسلم من الوقوع في هذه السراديب والمهاوي، ولا عذر لأحد، فإياك أن تقول: أنا شيخ كبير، وهذا فقير، وأنا بدوي، لا، لا بد وأن تسأل أهل العلم حتى تعلم، فلا تحمل كتاباً، ولا قرطاساً، ولا تقرأ، ولا تكتب، فقط اسأل أهل العلم واعمل بما تعلم، ولا تزال تعلم وتعمل حتى تصبح من أولياء الله، وأنت لا تفرق بين الألف والباء، فليس من شرطه الكتابة والقراءة أبداً، ولا توقف عملك، ولا سانيتك، ولا حرثك، ولا مزرعتك، فكما تذهب وتقضي حاجتك عند الحاجة أو تسد جوعتك عند الجوع، تذهب إلى العالم حولك تقول له: علمني كيف أذكر الله. فإن أعرضت يا بني فالله في غنى عنك، وأنت الذي تصاب بالمحنة.

    فضل الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين

    ثانياً: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]، ثالثاً: وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [البقرة:83].كيف أنتم مع هؤلاء أيها المستمعون والمستمعات؟!هل أحسنتم إلى والديكم وما أسأتم إليهم؟!هل أحسنتم إلى قراباتكم من العمة إلى الخالة .. إلى العم والخال، وما أسأتم إليهم لا بسب ولا شتم ولا أذى؟واليتامى كيف حالكم معهم؟ هل تهينونهم .. تأكلون أموالهم .. تسخرون منهم أو تعطفون عليهم وترحمونهم وتبشون في وجوههم وتهشون، وتطعمونهم إذا جاعوا، وتكسونهم إذا عروا؟والمساكين اللاصقين بالأرض فلا دينار ولا درهم هم إخوانكم، فأحسنوا إليهم، ولو بالوجه الطلق، والعبارة الطيبة، أو دس في كفه ريالاً أو قرصاً من الخبز.فهذا المسكين هو أخوك، وهو عبد الله تحت الامتحان، قد ينجح في يوم من الأيام ويصبح ولياً للرحمن، وما أفقره الله إلا ليبتليه .. ليمتحنه هل يصبر فيتخرج ولياً من أولياء الله أو ينتكس والعياذ بالله؟

    الوصية بالقول الحسن للناس

    قال تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] أبيض الناس كأسودهم، عربيهم كأعجميهم، فالكل اسمه ناس: يهودي .. صليبي .. بوذي، ولا تقل لهم سوى القول الحسن، أما الشتم والتعيير، والقدح، والاستهزاء، والسخرية كما نفعل مع إخواننا المؤمنين فلا، فهذا الشتم، والسخرية، والاستهزاء، والتكبر لا يصح حتى على اليهود والنصارى .. حتى على المشركين عبدة الأصنام والفروج والأهواء، فطبعنا ونظام حياتنا وسبيلنا الإحسان، لم؟ لأننا رشداء .. علماء .. ربانيون، ومستوانا ليس بهابط كالكافرين والمشركين، الذين لا يفرقون بين الخير والشر، نحن علماء وأولياء، فتتجلى هذه الحقائق في سلوكنا: لا ظلم .. لا اعتداء .. لا بغي .. لا عدوان .. لا، لا، وكل مظاهر الباطل لا توجد فينا؛ لأننا أولياء الله. وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا أي: لا قبحاً.وقد عايشنا أمتنا وعرفناها، ومن يوم أن بعدت عن بيوت الرب وكتاب الله وهدي رسوله وهي تعيش على أسوأ الأحوال، والله إنك لتسمع السخرية، والاستهزاء، ومظاهر الكبر على إخوانهم وفيما بينهم، وليس مع اليهود والنصارى.وما سبب هذا؟ السبب أنهم ما عرفوا .. جهلوا.ولم جهلوا؟ لأنهم ما طلبوا العلم.ومن منعهم وصدهم؟ أهواؤهم وشهواتهم ودنياهم، إذاً: فهي عائدة عليهم، ولا عذر أبداً.

    أخذ الميثاق بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة

    قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:83]، يا بني إسرائيل! يا معشر المسلمين! أقيموا الصلاة، هل قال: وصلوا؟ قال: (وأقيموا الصلاة) لم يا رب؟! نصلي يكفي؟ لا، أنت لا تدري يا عبد الله أن هذه العملية مركبة تركيباً كيميائياً وضعه العليم الحكيم، وإذا لم تؤدها كما هي ظاهراً وباطناً بكل جزئياتها فإنها لا تولد النور، ولا تثمر لك الحسنات، ولا تزكي نفسك ولا تطهرها.والأدلة عندنا أنك ترى أحدهم يخرج من الصلاة وإذا به يكذب .. يخرج من الصلاة وإذا به يشرب الحرام ويأكل الحرام .. يخرج من المسجد! بل في المسجد يسب أخاه. وهذه الأمور واقعة في حياة كثير من الناس فأين آثار الصلاة؟! ولم ما زكت نفسه؟ الجواب: لأنه ما أداها على الوجه المطلوب الذي من شأنه أن تولد النور له في قلبه.وإليكم هداية الله توجه إلى رسوله ليأخذها أتباعه منا: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، أي: اقرأ ما أوحي إليك من الكتاب، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه الكتاب، وعلمه جبريل، وحفظه يؤمر بأن يقرأ، وأنتم: لا .. لا، مشغولون فلا نقرأ.(اتل) ماذا؟ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا ألله؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].هنا عدة خطوات: الخطوة الأولى إلى سماء الكمالات .. إلى الرقي .. إلى دار السلام .. إلى الطهر والصفاء: تلاوة القرآن، لا على الموتى .. لا من أجل الحصول على المال الدنيوي، وإنما من أجل التدبر والتفكر، واستخراج درر المعاني وأنوار الآيات؛ لتحيا عليها، وتكمل في آدابك، وأخلاقك، وقلبك، وعباداتك.الثاني : إقام الصلاة، وهذا البند لا يقل عن البند الأول؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].

    ولذكر الله أكبر

    الثالثة: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، ومعنى (ذكر الله) ألا تغفل ساعة، ولا نصف ساعة، ولا دقيقة، إلا إذا شغلت بكلمة: السلام عليكم، أو: يا غلام! أحضر كذا، أو: يا فلانة! قدمي كذا. فما دمت فارغاً فأنت مع الله بقلبك ولسانك.ولعل قائلاً يقول: إن هذا لا يتأكد، ولا يتحقق!فنقول: ولو كان لا يتحقق فهل يأمر الله به: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ [الأحزاب:41] كم؟ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، وإذا كان الله العظيم يقول: (كثيراً) كم -إذاً- يكون نصيبك المطلوب حتى لا تنسى الله أبداً؟وهذا عبد الله بن عمر قال: ( كنا نعد -أي: نحسب- لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد قوله: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، مائة مرة )، هذا في المجلس الواحد، أما مجالس الطامعين في دار السلام بالأحلام والأوهام فيجلسون الساعة والساعتين والثلاث على موائد اللهو واللعب، لا يذكرون الله فيها، ويجلسون مجالس الأكل والشرب وأنواع الطعام فيهرفون، ويتحدثون، ويتضاحكون، ويتكلمون، ولا يذكرون الله.وتجد سيارة الحافلة من المدينة إلى دمشق، لا تخرج من المدينة إلا والأغاني، والمزامير، وأصوات العواهر تهيج النفوس إلى دمشق، فمن أي جنس هذه الأمة؟ آلله أذن بهذا؟! وكذلك تجد الفيديو، والتلفاز، والصحن الهوائي، آه، يا ويحهم .. يا ويلهم: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14]، فالله بالمرصاد ينظر ماذا نعمل، ويراقب تحركاتنا قائمين أو قاعدين، نائمين أو يقظين، وهذه هي الخطوة الرابعة من هذا التوجيه الإلهي: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45] خيره وشره، حقه وباطله، صحيحه وفاسده، ومعنى هذا أنه يجزيكم بصنيعكم؛ لأنه الحكيم العليم.

    المعاصي سبب لتسلّط الأعداء

    لكن هل ظهرت آثار هذا التهديد أو لا؟اليهود الذين توجه إليهم هذه النداءات سلط الله عليهم البابليين في زمن ما ففعلوا بهم الأعاجيب: مزقوهم .. شتتوهم .. دمروهم .. بقروا بطونهم، وحولوا بيت المقدس التي بناه إبراهيم عليه السلام إلى مخرأة، فكان الجندي البابلي في تلك الحملة إذا جاءه الغائط ودفعه يذهب إلى المسجد ليبول ويخرأ فيه، وهذا يحصل مع أبناء الأنبياء .. أبناء إسرائيل.ثم تابوا فتاب الله عليهم، وباب الله مفتوح، فتكونت لهم دولة داود وسليمان فسادوا العالم أجمع، فهل سادوه بالسحر .. بالخرافات والتضليل .. بالأهواء والشهوات .. بالمزامير والطبول؟! أسألكم بالله بم؟سادوه بالاستقامة على منهج الحق، إيمان الصدق والاستقامة، فأحلوا ما أحل الله، وحرموا ما حرم الله، ونهضوا بما أوجب الله، فسادوا وارتفعوا، وكانت الإمبراطورية الأولى في العالم.ثم مائة وخمسون عاماً وظهر فيهم الترف، فأخذوا يهبطون حتى عرفنا عنهم أنهم هم الذين صنعوا الكعب العالي، وبعض الناس لا يفهم هذه اللغة، ما هو الكعب العالي؟ امش للدكاكين واسأل، قل لهم: أريد كعباً عالياً لابنتي، وقد يستوردونه من إسرائيل، مع أن الرسول يحذرنا.لم صنعوا الكعب العالي؟ لأنها قصيرة وهي تريد أن تظهر أمام الشبان والفحول أنها طويلة، فيصنع لها صانع الأحذية حذاء كعبه طويل، فتمشي به، فتشاهد من بعيد: هذه زليقة.وجزى الله أحد الدكاترة حيث قال: يا شيخ! ليست القضية أنها ترتفع وتعلو، لا، هذا الكعب العالي يجعلها تتمايل وتتغنج في مشيتها، وهذا موجود ومشاهد عندكم.إذاً: فسلط الله عليهم الرومان فاكتسحوهم .. شردوهم .. مزقوهم، حتى شردوا إلى المدينة فتركوا بلاد العسل والزبدة؛ بلاد الشام، ونزلوا في هذه الصحراء ذات النخيل، والسبخة، والحر، والبرد.ولم لجئوا هنا؟ لجئوا إلى العرب لأنهم كرماء، ولأنهم بنو عمهم سيرحمونهم.لكن كيف شردوا، وفرقوا، وطردوا، وتسلط عليهم الرومان الكفرة؟لأنهم فسقوا عن أمر ربهم .. نقضوا العهود والمواثيق، وفعلوا كما فعل العرب والمسلمون في هذا العصر، فسلط الله عليهم فرنسا، وإيطاليا، وأسبانيا، وبلجيكا، وهولندا، وبريطانيا، فالله بالمرصاد.وجاء الإسلام فوجدهم شذر مذر، ملعونين مضطهدين، فإذا مشى اليهودي أمام الصليبي يكاد يأكله من تغيظه عليه، يقول: هذا قاتل إلهي. ومع هذا فتح الله لهم باب الهداية والرحمة، وناداهم، وعرض عليهم كل درجات الكمال وسبل السلام، فتكبروا، وقالوا: لن نتابع هذا الرجل، ولن ندخل في دينه؛ لأننا سنذوب فيه، ولن يبقى لنا وجود، وسينتهي بنو إسرائيل، فلا مملكة، ولا دولة، ولا سلطان، وهذا كلام رؤسائهم وأحبارهم وعلمائهم، وهو حق، فلو دخلوا في الإسلام لن يبقى يهودي، فحافظوا على النسمة الهالكة ونجحوا بعض الشيء، وكونوا دولة إسرائيل.هل هناك دولة تسمى إسرائيل أو لا؟ نعم موجودة.وأين كونوها؟ في فلسطين .. في قلب العالم الإسلامي.كيف يتم هذا؟ أنت تقول الخيال فلا وجود لهذه الدولة أبداً، كيف يمكن هذا الكلام؟ لو يأتي جيل بعد جيل لا ينكر ذلك، أما الآن فهي موجودة، وقد أذلت العرب والمسلمين، ودسّت أنفوهم في التراب.كيف يتم هذا يا شيخ؟هذا يتم حسب نظام الله في الكون وتدبيره في خلقه، أيفسق المسلمون ويفجرون، ويعتزلون دين الله بالمرة في أكثر بلادهم ثم يباركهم ويرفع من قيمتهم؟ فسلط الله عليهم حفنة من اليهود لعلهم يرجعون، فهل رجعوا هذه الأيام؟ ما رجعوا، وما زالوا في غمرة ساهون.قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:83]. عرفتم هاتين الدعامتين؟!

    معنى إقامة الصلاة

    إقامة الصلاة معناها: لا يُشاهد رجل سواء كان عسكرياً أو مدنياً، شريفاً أو وضيعاً، عالماً أو جاهلاً، فقيراً أو غنياً، شريفاً أو وضيعاً، فلا يمكن أن يقر وجود مؤمن لا يشهد الصلاة في بيوت الله، فإذا قيل: حي على الصلاة وقف دولاب العمل.والله لقد كان أحدهم في يده الإبرة وما كانت الآلات كالآن، فالخياط يخيط بالإبرة والخيط، يقول هكذا يغرز الإبرة في الثوب، ولما يسمع حي على الصلاة لا يكملها .. لا يتمها.والآخر يرفع الميزان ويضع البضاعة فإذا سمع حي على الصلاة وقف.ومن شك في هذا فليقرأ من نور الله من سورة النور: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37]، حق هذا؟ ولولا هذا كيف سادوا العالم، واتسعت دولتهم في المدينة حتى رمت جناحها على أقصى الغرب وأقصى الشرق في خمسة وعشرين سنة فقط؟!والآن في بلاد العالم بأسره ليس هناك دولة أبداً تأمر جيشها أو أفرادها بالصلاة كأنهم ضد الله أو لا يؤمنون بالله.أنت حاكم أو لا؟ هذه مهمتك، فهذا الشعب خلق ليصلي؟ وبالله عظيم ما خلق إلا ليذكر الله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، لا لشيء آخر، وكونك تحرث وتصنع فهذا -والله- من أجل أن تصلي، فضيعت الصلاة وتركت، وكان من نتائج تركها انتشار: السرقة .. الزنا .. القمار .. الكذب .. الغش .. السفك للدماء .. القتل.فإن قيل: يا شيخ لم تبالغ؟أقول: أبالغ! أليس هذا موجوداً؟ ما سببه؟ الإيمان وذكر الله؟! هل المؤمنون الذاكرون لله يسفكون الدماء ويفجرون بالنساء؟ أتحداكم، من يقول هذا؟!ولقد أرانا الله عز وجل هذه الدولة، وجعلها آية من آياته، فأقيمت فيها الصلاة إجبارياً بين المدنيين والعسكريين وكل مؤمن، فهل حط هذا الأمر من قيمتها؟ وهل عوقها عن الأكل والشرب؟ وهل جر إليها المحنة؟ والله ما أفادها إلا أمناً وطهراً، فما المانع إذن من أن نفعل مثلهم؟ولقد جبيت الزكاة حتى صاع الشعير. ولم لا نجبي الزكاة باسم الله؛ ليرضى الله عنا؟ وإن فرضنا بعد ذلك الضرائب فللضرورة وأفتى بها العلماء، أما أن تعطل فريضة الله .. قاعدة الإسلام، وتغفل عنها الحكومة ورجالها، والأمة معرضة، فهذا معناه باللغة الواضحة أننا رفضنا الإسلام، وما اعترفنا به.

    تولي وإعراض بني إسرائيل عن الالتزام بالمواثيق والعهود

    قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [البقرة:83] أي: توليتم وأعرضتم عن هذه التعاليم العشرة، إلا قليلاً منكم لازموا باب الله، وثبتوا على ما هم عليه، ونعم. كل بلد .. كل أمة .. كل جيل لا بد أن يبقى فيه الربانيون الصالحون. وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:83] أي: لما توليتم، فلو كان في نفوسكم الرغبة إلى التوبة .. الرغبة إلى العودة .. الرغبة إلى أن نراجع طريقنا كما كنا، فلا بأس، لا .. لا، فتوليتم وأنتم معرضون إعراضاً كاملاً؛ لا تريدون هذا الإسلام.وهذه التوجيهات الربانية إلى يهود بني إسرائيل في المدينة هي نبراس هداية لنا، وسلّم رقي ونجاح لأمة القرآن. وكذلك كان، فقد أديت هذه الحقوق -كما أمر بها الله وبينها- في تلك الأمة السعيدة ذات القرون الذهبية الثلاثة، وما كان يعقل أن مواطناً لا يصلي أبداً؛ رجل أو امرأة، فالإعدام سبيله، فلها خُلقنا!ثم لما تقام الصلاة فلسنا في حاجة إلى قوى الأمن، والشرط، والبوليس، والجواسيس، لا، كل مؤمن ومؤمنة رباني، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وتمضي العشرون سنة لا تحدث حادثة، وإن حدثت لاختلال يكون في صاحبها في عقله أو في إيمانه، أما أن مؤمناً يتكلم مع الله، ويجلس بين يديه، ويناجيه، ويبكي بين يديه كل يوم وكل ليلة خمس مرات ويعصيه فلا يمكن، ولا يحصل هذا أبداً.

    تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ...)

    الآن يذكر الله تعالى بني إسرائيل، ومن باب: إياك أعني واسمعي يا جارة يقول لهم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:84]. عرفتم الميثاق أو هو ميثاق الأمم المتحدة؟! ما هو الميثاق؟الميثاق هو العهد المؤكد باليمين، وقد قلت لكم: من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد أعطى العهد والميثاق من نفسه والتزم، فإن خان فقد أهلكته خيانته، والله يقول: وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ [المائدة:7]، متى؟ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]، هذا خطابه لنا.وهنا قال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:84] في أي شيء؟ لا تَسْفِكُونَ [البقرة:84] أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، فأنتم شعب الله كما تقولون، وأبناء الأنبياء والمرسلين، فكيف يقدم أحدكم على قتل أخيه؟ وليس شرطاً أن يكون أخوه من أبيه وأمه بل يكفي أن يكون يهودياً، فأنتم أبناء الأنبياء قد أخذ الله عليكم ميثاقاً: ألا يقتل يهودي يهودياً لا تَسْفِكُونَ [البقرة:84].ثانياً: وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ [البقرة:84] فإذا شنت الغارة في الزمن الأول وإلى الآن يخرجون من هم في بيوتهم ويحتلونها.والقض ة تعود إلى أن اليهود لما نزلوا المدينة في الجاهلية هاربين لاجئين أو منتظرين النبوة المحمدية كما جاءت بها التباشير في الإنجيل والتوراة، كانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وكان أهل المدينة من الأوس والخزرج، وهم قحطانيون من اليمن، ولم جاءوا من اليمن؟لما فسق أولئك الأقوام عن أمر الله، وخرجوا عن طاعته غرَّق ذلك السد وهدمه، وانتهى ذاك الطهر وذاك النعيم فشردوا، لقد كانت بلادهم زروعاً ونخيلاً .. وكانت وكانت، جنات عن يمين وشمال، فلما شربوا الشيشة والحشيشة وغنوا ابتلاهم الله بحيوان يقال له: جربوع أو يربوع أخذ يأكل الخشب من تحت الأرض حتى ثقب السد وتدمر، فهاجروا تلك الأراضي، والتحقوا بالشام وبتبوك، ومكث الأوس والخزرج في المدينة.الشاهد عندنا: كانت القبيلتان أحياناً تقوم بينهما حرب لمدة أربعين سنة، ومن يصلح، فلا أمم متحدة، ولا أمم متفرقة، والبلاد متباعدة، فأربعون سنة والنار مشتعلة بين قبيلتين من أسرة واحدة؛ ولهذا امتن الله عليهم بقوله: فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [آل عمران:103]، بعدما كانوا متعادين متحاربين. فاليهود لضعفهم وعجزهم وهم في وسط العرب أقاموا عدة تحالفات، فبنو قينقاع وبنو النضير تحالفوا مع الأوس، وبنو قريظة تحالفوا مع الخزرج، ومعنى حالفوهم: دماؤنا واحدة، وأرواحنا واحدة، فإذا عدى علينا عدو فأنتم معنا ونحن معكم. فهذه هي الأحلاف.فلما تطول الحرب بين الأوس والخزرج يقاتل اليهود بعضهم بعضاً، فأحلاف الخزرج يقاتلون أحلاف الأوس، فيتسبب ذلك في قتل اليهودي لأخيه اليهودي، وإذا هاجموهم وأخرجوهم من الحي واحتلوا ديارهم كذلك اليهودي يحتل دار اليهودي ويخرجه من بيته.واسمع كيف يوبخهم الرحمن: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا [البقرة:84] أي: بأن لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:84] كيف تخرج يهودياً من بيته وتسكن أنت فيه؟ فأين الرحمة وأين الأخوة؟ وأنتم أبناء الأنبياء أولاد إسرائيل.قال: تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [البقرة:84] فهذا العهد وهذا الميثاق أخذ عليهم في جبل الطور، وبعضه جاء في التوراة: يا بني إسرائيل! نأخذ عليكم عهداً وميثاقاً أنه لا يقتل إسرائيلي أخاه، ولا يخرجه من داره أبداً، وإذا أسر أخوه يجب أن يفاديه ولو بأن يبيع فراشه وكساءه.سبحان الله الرحمن الرحيم، فهذه كرامة الله لأولئك الأنبياء والصالحين، فهؤلاء أحفادهم وأولادهم، يعطف الله عليهم أكثر من عطف الأم على ولدها، وما عرفوا هذا.

    تفسير قوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ...)

    قال تعالى مخاطباً اليهود وهم يسمعون على عهد النبوة، والقرآن ينزل: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ [البقرة:85] أي: الموجودون الآن .. الحاضرون في المدينة، ماذا تفعلون؟ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ [البقرة:85] كما هو الواقع، فها أنتم الآن تقتلون أنفسكم، فاليهودي المناصر للأوس يقتل اليهودي المحالف للخزرج، وذلك بمقتضى الاتفاقية، وبموجب الحلف. وتخرجونهم من دياركم، فإذا استولى الأوس على إقليم .. منطقة يطردونهم، وينزلون في ديارهم، ويذهب أولئك إلى الصحراء.قال: تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [البقرة:85]. ينتصرون عليهم بالإثم والعدوان، فالأوس والخزرج ليس عندهم نبوة أو رسالة أو شريعة أو قانون وإنما قوانين جاهلية، وكلها باطل.قال: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ [البقرة:85] إذا ما تفهمون هذا فعندنا له بيانات، فاليهود إذا اختطف يهودي من فلسطين أو من فرنسا، فإنهم يعرفون أن من اختطفه هم الفلسطينيون العرب فيفادونه بعشرين عربي .. بثلاثين .. بمائتين، وأنتم تسمعون بهذا، ولو تطالبوهم بألف واحد فلا يمكن أن يتركوا اليهودي أسيراً، لم؟ طاعة لله، فقد أمر الله بهذا: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ .قال: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ [البقرة:85] وهذا واقع، فالآن لو يختطف يهودي من ذوي المنصب ويطالب خاطفوه بإطلاق خمسين أسيراً أو مائة سجين يقولون: تفضلوا، خذوا. وهذا إيمان، فآمنوا بالله وأطاعوه في هذه القضية.وقوله: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ [البقرة:85] أي: بالملايين، فالمفاداة ليست دائماً بالأشخاص، إنما تكون بالأموال، فلو يبيع قميصه ولا يترك اليهودي أسيراً تحت مشرك، أبداً، لا حياة عندنا إذا سكتنا عن هذا، فهكذا كانوا، وما زالوا.

    الكفر ببعض الكتاب وعاقبته

    ثم قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]. فالله وبّخهم، وهذا الاستفهام للتقريع والتأنيب والتأديب والتوبيخ. أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ تبيحون قتله وإخراجه من داره لا بأس، وإذا أسر تفاديه بأموالك ولو تجوع الدهر كله، فهذا إيمان ببعض وكفر ببعض.وهيا نطبق هذه الآية على المسلمين كيف حالهم؟نضرب مثلاً: أهل القرية صائمون إيماناً بالله ولا يصلون، ويصلون تلك الصلاة ولا يزكون، فهذا إيمان ببعض وكفر ببعض وإلا لا؟! أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ .ثم قال: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:85]. الله أكبر! عجب هذا القرآن، أسألكم بالله: هل هناك أذل وأخزى من المسلمين؟ لا إله إلا الله! فما توعد بعذاب النار ولا ولا، لا إله إلا الله! خزي، هل هناك أذل من العرب والمسلمين؟ لا سيما أيام الاستعمار فقد كانت أذل المخلوقات، وإلى الآن ما زال خزيهم واضحاً، لا ينكره عاقل أبداً.قال: إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وسببه أننا نعمل ببعض الشريعة ونترك بعضها كأننا أحرار، أو نعترض على الله، فالذي يناسب هوانا وشهواتنا نفعله، والذي يتعارض معها نتركه، والله لو يسمع المؤمنون بهذا وهم في مجلس لتمرغوا على الأرض، لكن ألف سنة والقرآن يقرأ على الموتى، ويقرأ على العبرة أن هذا في اليهود، والمدرس لهم يقول: هذا في اليهود، ولا يلفت النظر إلى أن هذا هو واقعنا نحن، واليهود انتهوا.قال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85] إذاً فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85].فمن يقول بأنه مؤمن يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله وأنه من أهل الجنة، فهذا الكلام باطل باطل باطل، فالنسبة لا تغني شيئاً، وإن أردت أن تصدقني فانظر إلى من يقول: إني شبعان والبطن مملوءة، فأنا معي في جيبي ألف ريال وأنت ليس عندك شيء، فهل ينفع هذا الكلام؟ لا ينفع.قال: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ [البقرة:85] من يردهم؟ الله، إلى أين؟ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85] أي: أقساه وأمره، فما هو عذاب الخزي في الدنيا أو الفقر فيها.

    الاعتصام بالدين هو المخرج

    سبحان الله العظيم! هذه الآية لم ما تبلغ إلى العالم الإسلامي؟!ما الطريق وكيف نبلغها؟ دلونا يرحمكم الله.الطريق هو أن نؤمن الإيمان الحق، ونطلب الله في بيته، فنأتي إليه بأطفالنا ونسائنا ورجالنا، ونعكف في بيته وأكفنا إليه، وأصواتنا تتضرع بين يديه، وكل ليلة وطول الحياة حتى ينقذنا، وليس معنى هذا فقط أن نكتفي بالبكاء فمن أين تأتي الدموع إذا القلب قاسي؟ فلا بد من تلقي الكتاب والحكمة كما نتلقاها الآن، والكتاب والحكمة هي قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فتنمو المعارف وتفيض أنوارها على القلوب وعلى الجوارح، ونصبح حقاً أحياء، وهذا هو الطريق.وأنا موقن لو أن أهل إقليم التزموا ما قلت، فلا نفارق بيت الله كل ليلة، والله ليأتين أمراؤهم ومسئولوهم ويجلسون معهم.فالأمير أو الضابط -كما يقولون- يلتفت لا يجد أحداً فيسأل: أين ذهب الناس؟ فيقال له: في بيت الله. فيقول: لم؟ فيقال له: من أجل الرحمة الإلهية. فييأس ويقول: خليهم، ثم والله ليأتين ويصبح يسبقهم، ويعين له مكاناً يجلس فيه.فإذا ما نحن تعرفنا إلى الله فعرفنا وعرفناه، واطرحنا بين يديه، فرفعنا وأصبحنا علماء ربانيين؛ أولياء، فلو كادنا أهل الأرض لن يستطيعوا أن يزلزلوا أقدامنا.فإن قالوا: يا شيخ كيف تقول هذا؟نقول: غزا جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة غزوا بلاد الروم، فاستقبلهم الروم بمائتي ألف مقاتل، وهم ثلاثة آلاف، فثلاثة آلاف يقاتلون مائتي ألف، ومع هذا نصرهم الله. بل قال إمامنا الأعظم صلى الله عليه وسلم: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر )، فخرج من المدينة باثني عشر ألفاً بعد أن تجمع روم أوروبا بكاملها يزحفون، فما إن وصل تبوك حتى أيسوا، وصدرت القرارات الجمهورية والحاكمة: لا فائدة من قتال محمد فاتركوه، وعاد بسلام مع رجاله إلى المدينة.كذلك المؤامرة التي تمت منذ ثلاث سنوات لإطفاء نور الله، فمن صرفها؟ الذي لا يقول: إن الله هو الذي صرفها فهو كافر، وليخرج من المسجد. فالله هو الذي صرف تلك المحنة وتلك المؤامرة التي كانت من أجل إطفاء نور الله، فلم يبق من يرفع رأسه بلا إله إلا الله.ومعنى هذا: أيما مؤمنون صادقون يحتمون بحمى الله، ويقيمون دين الله، ويعيشون على نور الله لو كادهم أهل الأرض أجمعون فلن يستطيعوا أن يزلزلوهم، ولكن إذا فسقنا عن أمره، وخرجنا عن طاعته، وعبثنا بشرعه، وأخذنا البعض، وآمنا ببعض، فهذا يصلي وهذا يغني، فلنتهيأ ليسلط علينا أحقر الناس وأذلهم.أما سلط الله اليهود على ألف مليون مسلم أو لا؟ ومن هم؟ اليهود. وكم عددهم؟قالوا: خمسة ملايين بنسائهم وأطفالهم ورجالهم أذلوا العالم الإسلامي بكامله.هل هذا منام أو يقظة؟!قولوا: آمنا بالله، آمنا بالله، آمنا بالله.

    الله محيط بكل شيء

    وآخر الخطاب: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85] معناه: هيا نتحصن ونستر أنفسنا أمام الله: فمن كان يكذب فلا كذب .. ومن كان يسرق فلا سرقة .. ومن كان يحسد فلا يحسد .. ومن كان يؤخر الصلاة عن وقتها فلا يؤخرها .. ومن كان يرغب في كشف وجه امرأته فلا يكشفها .. ومن كان يحتال ويغش في معاملته فلا يغش ولا يحتال .. ومن كان لا يذكر الله في كل أحايينه فمن الآن لا ينسى ذكر الله .. وهكذا؛ لأنه يراقبنا: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].ومن أصيب بفقر أو مرض فليفرح بذلك ويقول: رب هو الذي طهرني. فيتلذذ بالجوع، ويتلذذ بالبرد؛ لأنه يعيش مع الله، والله ليكونن في حال أطيب وأسلم وأسعد من حال الذي يتمرغ في الذهب والحرير. فإذا اتصل بالله، وعرف أن سيده هو الذي ابتلاه، والله لتكون حاله أسعد من أهل الدنيا. وصلى الله على نبينا محمد.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #73
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (66)
    الحلقة (73)




    تفسير سورة البقرة (36)


    عجب أمر هؤلاء اليهود، أنزل الله عليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل والأنبياء، وجاءهم النور من كل اتجاه ومع هذا أعرضوا، اصطفاهم الله، وخصّهم بتشريعات فيها عزهم، وكرامتهم، وصيانة دمائهم وأعراضهم، ومع هذا خالفوا، لقد باعوا دينهم بدنيا قليلة، فكان جزاؤهم العذاب الأليم، والخزي والهوان والذلة في الدارين؛ الدنيا والآخرة.

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

    الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:86-88].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

    إيمان اليهود ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [البقرة:86] من هؤلاء الذين أشير لهم بلام البعد، إذ هم في متاهات لا حد لها؟(اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة) أي: استبدلوا الآخرة بالدنيا، وهم يؤمنون بالآخرة، ويعرفون ما فيها، وما يتم فيها للناس، ومع هذا استبدلوا الآخرة بالدنيا؛ لأن الدنيا عاجلة حاضرة بين أيديهم، وكل ما فيها يشاهدونه، فأعمتهم عن الآخرة أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [البقرة:86]، فهل هناك في أذهاننا مما سبق حتى أشير إليهم بهذه الإشارة وهو عيب لهم؟سبق أن عرفنا أنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.فإن قيل: لم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؟الجواب: لأن الآية إذا كانت تدعوهم إلى تحقيق رغائبهم الدنيوية قالوا: أهلاً وسهلاً ومرحباً، هذا كلام الله .. وحي الله .. تنزيل الله ومن ثم يعملون، وإذا كانت الآية تريد أن تبعدهم عن شهواتهم، وأطماعهم، وأهوائهم، وتحول بينهم وبين رغائبهم كفروا بها، ولم يعملوا بما فيها.ولهذا مثل سبق لنا، فقد أخذ عليهم في التوراة وعلى لسان موسى عليه السلام: أن لا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من داره، وأُعطوا على هذا العهد والميثاق، وأَعطوهم أيضاً العهد والميثاق، وإذا بالأيام والقرون تمضي فيقعون في هذه الفتنة، فتجد اليهودي يقتل أخاه اليهودي، ويخرجه من داره ليسكنه.

    سبب هروب اليهود إلى بلاد العرب

    وسبب هذا أنهم كانوا شبه لاجئين في هذه الديار، فقد نزحوا من بلاد الشام لمِا كان ينالهم من الاضطهاد والتعذيب والتنكيل من أعدائهم المسيحيين الصليبيين؛ لأن الصليبيين كانوا يرون أن اليهود هم الذين قتلوا إلههم، والذي يقتل إلهك أو نبيك وأنت مؤمن به فإنك لا تفتح عينيك فيه، ولا تحب أن تراه أو تسمع كلامه.والنصارى يعتقدون إلى اليوم أن اليهود هم الذين قتلوا السيد المسيح بل صلبوه أولاً وقتلوه، والله عز وجل أبطل هذه الفرية فقال: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157].والقضية كما علمتم أنهم عزموا حقاً على قتل عيسى، فطوقوا منزله بالشرط والدرك ورجال الأمن، كما هو حال دولة يهود، فلما أبى عيسى أن يفتح الباب دخل رئيس الشرطة في عهدهم، فما إن دخل حتى رفع الله تعالى عيسى إليه من روزنة المنزل وإلى السماء والملكوت الأعلى، فانتظر رجال الشرطة خروج رئيسهم لينظروا ماذا فعل، فلما استبطئوه دخلوا، وما إن دخلوا حتى ألقى الله تعالى عليهم الشبه في رئيس الشرطة، فما إن رأوه حتى قالوا: هذا عيسى، والتفوا حوله وكبلوه بالحديد أو بالحبال وأخرجوه، وصدر الحكم بصلبه وقتله، وبالفعل صلبوه على الأخشاب وقتلوه.فانظر! فمن السخف، والجهل، والعمى، والضلال كيف أن الإله يُقتل؟ وما فائدة إله يقتله أعداؤه؟ كيف يرحمه؟ كيف يدخله الجنة؟ كيف ينصره؟ كيف .. كيف، وهم قد قتلوه وصلبوه. أرأيتم، ويا ليت قساً من القسس بيننا يسمع هذا الكلام فيتململ ويتغايظ، فهذا واقعه.وإن قال لنا: كيف تقولون مثل هذا الكلام؟ قلنا له: ها أنت تعلق صورة الصليب في عنقك تتبركون بها، وتذكركم بعداوة اليهود؛ فهم الذين صلبوا عيسى وقتلوه.وقد أرانا الله تعالى آية أيام كنا في باب المجيدي، فقد سمعنا في الإذاعات أن بولس الثامن رئيس الكنيسة العالمية أصدر بياناً قال فيه: إن اليهود برآء من دم السيد المسيح، فاهتز العالم كيف مضت ألفا سنة إلا عشرين عاماً والنصارى يعتقدون أن اليهود قتلوا إلههم، والآن يصدر هذا البيان، فهل هذا الرجل مسحور بالمال .. بالسحر، وكيف أن رئيس الكنيسة في العالم يقول ويصرح بمثل هذا التصريح؟!فهللنا وكبرنا وقلنا: الحمد لله، هذا هو معتقدنا، وبهذا نزل كتاب الله إلينا، إذ الله يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، وأغمضوا أعينهم، ودسوا رءوسهم في الرمال كالنعام، وما زالوا يعتقدون أن اليهود هم الذين قتلوا السيد المسيح.إذاً: هؤلاء اليهود نزلوا هذه الديار لعلتين واضحتين بيناهما كثيراً:الأولى: اضطهاد الرومان لهم؛ لأنهم قتلة إلههم.والثانية: انتظار النبوة التي بشرت بها الكتب الإلهية: التوراة والإنجيل، وهي أن نبياً قد أظل زمانه، وأنه يخرج من جبال فاران، أي: جبال مكة، وأن مهاجره قرية ذات سَبِخة ونخيل تسمى يثرب، فقالوا: ننزح إلى هذه الديار انتظاراً للنبي الجديد فنؤمن به، ونلتف حوله، ونسترد أمجادنا، ونعيد مملكتنا.عرفتم إذاً علتي دخولهم المدينة، أو عندكم شك فلا تستطيعون أن تتحدثوا بهذا أو أن هذه خرافة؟ كلا والله لن تسمعوا هنا سوى ما هو حق، فلا خرافة، ولا ضلالة، ولا باطل.والآيات أمامنا، غداً -إن شاء الله- تقرر هذه الحقيقة.والشاهد عندنا: أنهم تواجدوا في المدينة وفي تيماء وفدك نازحين، ولما كانوا في المدينة كانوا ثلاث قبائل: بنو النضير، وبنو قينقاع، وبنو قريظة، وكانت الحرب تدور بين الأوس والخزرج حتى تدوم عشرات السنين، وهاتان القبيلتان من قح العرب، نزحوا من اليمن بسبب خراب سد مأرب، فشاع الفقر والضعف فنزحوا إلى الشام والشمال، فحالف بنو النضير وبنو قينقاع الأوس، وحالف بنو قريظة الخزرج، أو العكس، وكانت إذا اشتعلت نار الحرب كان الأحلاف يقاتلون مع أحلافهم، فهذه فطرة الناس؛ لأنهم أيضاً يقاتلون معهم، فلما يبدأ القتال كان اليهودي يقتل أخاه اليهودي الآخر، وإذا هاجموهم في القرية وأخرجوهم من ديارهم كان اليهودي يخرج أخاه اليهودي من داره، ثم لما تنتهي الحرب يفادون إخوانهم بالدينار والدرهم، يقولون: لا يحل لنا أن نترك إخواننا أسرى في أيدي العدو فلا بد من الفداء، فيفادونهم حتى بلباس نسائهم إيماناً بالله وطاعة لهم، فقد فرض الله علينا هذا، فانظر كيف يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فمن جهة يقتلون إخوانهم ويخرجونهم من ديارهم، ومن جهة أخرى لا بد من مفاداة الأسرى.وقد رأينا هذا في أيامنا هذه بأعيننا، فإذا اختطف الفلسطينيون يهودياً فإنهم يفدونه بعشرين .. بمائة .. بستمائة عربي، ولا يسمحون أن يتركوا أسيراً بل يفادونه بالملايين إذا طولبوا بالمال، ويفادونه بالأسرى الذين عندهم ولو بالمئات، كل هذا إيماناً بالله وبشرع الله، فالله قد فرض على بني إسرائيل أن يفادوا إخوانهم، فلا يسمحون أن يبقوا في يد العدو العام والعامين والسنين، ولو يبيعون حلي نسائهم كله، فهذا عجب، والقرآن يخبر بهذا.وهل يختلف ما حدث عما هو واقع؟والله ولا قيد شبر أو قيد شعرة؛ لأنه كلام الله .. وحي الله، فلنقرأ لهذا قول الله عز وجل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:84-85].

    تحذير المسلمين من مشابهة اليهود في أخلاقهم وطبائعهم

    قلنا: القرآن كتاب هداية .. كتاب إنجاء من الغرق، وإخراج من المحن والفتن .. كتاب إسعاد وإكمال، فهل المسلمون اليوم ما سلكوا مسلك اليهود؟ الجواب: سلكوه وأعظم، فأسرانا لا نفاديهم، ولا نستطيع أن نعطيهم فلوساً أبداً، واليهود يفادون أسراهم، فهم أشرف؛ لأنهم يفادون أسراهم بالملايين، ونحن نقول: دعه في الأسفل، كيف نجمع المال، وكيف نفادي ونعطي الأموال للعدو من أجل أن يطلق فلاناً أو فلاناً، خليهم، فهذا هو الواقع.ثانياً: هل طبقنا شريعة الله كاملة؟!نعم، الصلاة لا بأس يصلون، لكن الزكاة لا يزكون، كذلك الصيام لا بأس يصومون، ولكن كشف العورات والسوآت، وتبرج النساء واختلاطهن بالرجال، وانتشار الزنا لا بأس، يقولون: هذا فيه مضايقة على الشعب، فدعوهم.وتتبعوا غير ذلك، فإنكم ستجدون أن أكثر المسلمين هذا صنيعهم، كأنهم يؤمنون ببعض الآيات ويكفرون بالبعض الآخر، فهل يلامون أو لا يلامون؟ أو هم أشراف وسادة الدنيا لا يلامون؟ اليهود وهم أبناء الأنبياء، وهم بنو إسرائيل عليه ألف سلام ومع هذا وبخهم الله وقبح سلوكهم .. عيّرهم .. انتقدهم .. توعدهم .. لعنهم، ونحن لا، يكفي أنه مسلم.وهل أصاب المسلمين ذل وخزي في الدنيا أو لا؟آه، نعم أصابهم، وهذه آية من آيات الله، ومن عجب أن سلّط عليهم حفنة من اليهود لا يساوون واحداً ونصف في المائة من المسلمين، فخمسة ملايين أذل الله بهم ألف مليون، ومن ينظر بعيني العلم والبصيرة يشاهد ما أقول، أليس المسلمون ألف مليون من إندونيسيا إلى موريتانيا، واليهود خمسة ملايين؟!وليس اليهود هم الذين أذلونا، لا والله، ما هم ومَن هم! ولكن الله قواهم وسلطهم علينا، وخذَّلنا وأنزلنا في الحضيض؛ لتتجلى هذه الآية في الكون؛ لأننا نؤمن ببعض ونكفر ببعض.وقد وجد من يقول: ما يلائم الطبع، والفطرة، والحضارة، والمدنية، والسير وراء أوروبا هذا هو الدين، وما عاكس ذلك وخالف فلا نريده، ولا نريد أن نعود إلى التخلف والوراء والرجعية و.. و، فالزمان تقدم، والعلم تطور.وأنتم تسمعون هذه اللغة، ووالله العظيم إن هذه حال المسلمين، والمؤمنون الصادقون يتململون، ويبكون ويرفعون أكفهم إلى الله أن يجيرهم من خزيه وعذابه، ولكن إذا حلت النقمة تحل بالجميع، والمؤمنون يثابون على ابتلائهم ومحنتهم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، لكن الأخذ بالعموم لا بد منه.الآن عرفتم هداية القرآن أو لا؟لا تفهموا فقط إلا قول من يقول: هذا من شأن اليهود، وهذه حال اليهود، فهم الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فجازاهم الله بالذل، والعار، والخزي، وعذاب الآخرة، أما نحن فلا، فهذا القرآن نزل في اليهود، نعم هذا صحيح، لكنه نزل علينا لا عليهم .. وهذا الكتاب نزل على نبينا، وهو كتاب الله إلينا، فيه هدى وموعظة للمتقين.والله لقد عاشت أمتنا أربعة .. خمسة .. ستة قرون، والمفسرون -فقط- يقولون: هذا نزل في اليهود .. هذا نزل في أهل الكتاب، ونحن ما نزل فينا؟ نعم، نحن نزل علينا؛ من أجل إكمالنا وإسعادنا .. من أجل هدايتنا .. من أجل ترقيتنا واصطفائنا؛ لأنه فقط يلوم اليهود، ويعتب عليهم، فهذا كتاب البشرية جمعاء، والإنسانية كلها، والحمد لله زال ذلك الظلام والجهل، وأصبحنا نفسر كلام الله على مراد الله، فهذه نعمة والحمد لله.

    تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ...)

    قال تعالى في الطابع الأخير: أُوْلَئِكَ [البقرة:86] أي: البعداء الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [البقرة:86] في الدنيا والآخرة، وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86] لا في الدنيا، ولا في الآخرة.وقد يقول قائل: هذه الآية في الآخرة؟ نقول: نعم في الآخرة، وفي الدنيا كذلك، وهذا الأسلوب الحكيم.قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ أي: أعطوا الآخرة بما فيها من نعيم مقيم وأخذوا الدنيا.وهل لهذا من أمثلة عندنا؟فكم من إنسان يتخبط في الربا .. في الزنا .. في القمار .. في الجرائم، قد نسي الآخرة، ويتلذذ في الدنيا فقط، فيلبس الحرير، ويتختم بالذهب، أما يقال فيه: اشترى الحياة الدنيا بالآخرة وإلا ما معنى: استبدال الدنيا بالآخرة؟!تجده يقول: دعنا يا فلان؛ فالدنيا ماضية، دعنا نتنعم، هي أيام فقط وتنتهي، فكل واشرب وغنِّ وفرفش، فيبيت هو وزوجته وأولاده على الخمر، فهؤلاء من الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة.قال: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [البقرة:86] أي: يوم القيامة وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86] أي: يوم القيامة، والدنيا أيضاً.وإن قلت: هاهم انتصروا. نقول: هل انتصر اليهود على إيطاليا .. على اليونان .. على سويسرا .. على من انتصروا؟ على المسلمين.لكن السؤال: كيف انتصروا على المسلمين؟الجواب : لأن الله أراد أن يري عباده آية من آياته، فلو انتصر اليهود على إيطاليا فهذا معقول، أما أن ينتصروا على ألف مليون مسلم فهذا لا يعقل؟ وليس هم الذين انتصروا بل الله تعالى هو الذي نصرهم؛ ليرينا آياته فينا علَّنا نفيق ونرجع، ولكن ما زلنا سكرى، فلا إفاقة.وكم قد دعونا إلى اجتماع يعقده رؤساء وحكماء العالم الإسلامي في الروضة، فيتعاهدون ويبايعون خليفة لهم ويطبقون شرع الله.قد يقولون: كيف لنا أن نعرف هذا؟قلنا لهم: هذه الدولة بناها الله، وجاء بـعبد العزيز فطبق شريعة الله وسادها الأمن، وسادها الطهر، والصفاء، والكتاب موجود، والسنة قائمة، فخذوا وتفضلوا.وقد قلت غير مرة: وجدت هذه الدولة في عالم مظلم؛ لتكون حجة الله على المسلمين، فلا يستطيع أن يقول قائل: كيف نعمل؟ كيف نطبق هذه الشريعة؟ لقد مضى عليها الدهر والأحاديث موضوعة وكذا وكذا، فدعونا من هذا، وخذوا القانون الذي يتلاءم مع المجتمع من فرنسا أو إيطاليا، كيف نعرف نحن؟!ولقد أراهم الله هذه الدولة؛ فأهل البادية والإبل والغنم يعيشون في أمن وطهر وصفاء لم تر الدنيا مثله إلا أيام القرون الذهبية، فلا هيدروجين، ولا ذرة، ولا ملايين الجيوش .. ولا ولا، وبدأت هذه الدولة بحفنة الشعير ورأس الماعز فلا بترول، ولا ذهب، ولا فضة، وكانت البلاد فوضى، فالنار مشتعلة: الجرائم .. القتل .. الشرك .. الباطل.. العجب، وفي سنيات معدودة أصبح الرجل يمشي من أقصى الجزيرة إلى أقصاها لا يخاف إلا الله.وفي عشر سنوات .. عشرين سنة قد يقام حد الزنا مرة واحدة، وهذا نادر جداً، فكيف تحقق هذا؟ هل بالسحر أو بالقوة والمدافع؟! الجواب: والله ما تحقق هذا إلا بفضل الله وبتطبيق شرع الله، قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، ماذا فعلوا؟ أقاموا الحفلات والزغاريد، وشربوا الخمر، والرقص في حفلات عيد استقلال!!أما تعرفون أعياد الاستقلال أو لا؟ كم يشرب فيها من براميل خمر؟ كم وكم، وكم تترك فيها الصلاة وكم .. هذا هو عيد الاستقلال.أما قرءوا هذه الآية؟!الآن أكثر من خمسة وأربعين عاماً، وجواسيسهم وعيونهم ومسئولوهم يسمعون هذا ويعرفون، ونحن نصرخ: استقل هذا الإقليم من الاستعمار البريطاني، فيجب عليه أن يقيم دولة قرآنية أهلها مسلمون.

    دعائم الدولة الإسلامية

    فإن قال قائل: كيف نقيم الدولة؟نقول له: تعال نطبق آية واحدة من كتاب الله، فالله يقول: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، فإذا استقل الإقليم يقول حاكمهم: اسمعوا أيها المواطنون! خلقنا لنعبد الله، وهذا سر حياتنا، ومن اليوم لو يُشاهد أحد يترك الصلاة يعاقب بالموت، فلا فرق بين عسكري ومدني، وغني وفقير، لا بد وأن نشهد الصلاة في بيوت الله، ولا يتخلف عنها إلا مريض أو ذو عذر، وتقام الصلاة، ولو أقيمت الصلاة أربعين يوماً فقط في أقطارنا التي استقلت لتجلت الأنوار والطهارة والأمور التي هي عجب، لكنهم أماتوها، فما أقيمت الصلاة.أقول: لعلي واهم!من يقوم ويقول: نعم قد أقمنا الصلاة في ديارنا بمجرد أن استولينا على الحكم وأصبحنا حاكمين؟أقول: لا يوجد أحد.آه، يا هؤلاء! يا أهل لا إله إلا الله! إن الله تعالى يقول: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ [الحج:41] أي: حكمناهم، فأصبحوا متمكنين من حكم البلاد، وماذا فعلوا؟ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41]، فلا يتخلف عنها عاقل بلغ سن الرشد؛ رجلاً أو امرأة، كيفما كان.أما كررنا هذه الكلمة في القرى الضائعة!كان إمام المسجد هنا يقرأ كل صباح قائمة بأسماء أهل الحي أو القرية، ويسجل من حضر ومن لم يحضر.لكن تعال معنا وادخل إلى الثكنة العسكرية وشاهد هل تقام الصلاة فيها أو لا إلى الآن؟لو دخلت إلى الثكنات العسكرية في العالم الإسلامي لوجدت خمسمائة يصلون وخمسين ألفاً لا يصلون، ولا تجد جنرالاً أو قائداً يقول: لم ما صلى فلان، أبداً.أما الزكاة في هذه البلاد فقد جبيت، ولو يحدثكم الشيوخ الكبار لقالوا: لقد كانت الزكاة تؤخذ من التمر والشعير ورءوس الغنم، وليس هناك من أموال عند هذا الشعب، فهو مقطوع عن الدنيا تماماً، ومع هذا جبيت الزكاة إيماناً بالله، وطاعة لله ورسوله، وبارك الله في ذلك الصاع، وذلك الغنم.أما دولنا الأخرى فلا زكاة جبيت، ولكن فرضت الضرائب، فأثقلوا كواهل المواطنين بالضريبة، وأما الزكاة فلم ينظروا إليها، لأنها تذكر بالله، فهي تُفهِم أن هناك ديناً وشرعاً ألا وهو الإسلام يجب أن يطبق ويعمل به من أجل إكمال الشعب وإسعاده.وأما الأمر بالمعروف فهل هناك أفراد تسند إليهم هذه المهمة فيقال: يا فلان! أنت في قريتك إذا شاهدت من يتخلف عن الصلاة .. من يغني .. من يعبث .. من يقول كذا فاستدعه إلى المكتب ويؤدب. لكن لا شيء من ذلك، بل من شاء أن يفسق علناً فليفجر كما يحب، دعه فهو مواطن، فالدولة ما منعت هذا.معشر المستمعين! هل نبكي أم نفرح ونضحك؟!أما أصابع الحاقدين والحاسدين فهي في هذه البلاد تعمل ليل نهار أن ينتهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووالله لولا أن الحكام أولاد عبد العزيز -وفيهم هذه البقية من الخير- لانتهى هذا الأمر من عشرين سنة، فهؤلاء الحاقدون يحرضون على ترك الصلاة ويقولون: لم هذا النداء؟! ولم تغلق أبواب المتاجر؟ ولم .. ولم؟ فهم يعملون الليل والنهار.ولهذا نسأل الله أن يبقي هذه البقية، فأولاد عبد العزيز هم بركة الآباء في الأبناء، ولو يكون ما يريده الحاقدون لرأيتم ماذا سيفعل الماسونيون؛ لخرجوا في الشوارع يغنون، ولخرجن النساء كاشفات؛ عاريات.إذاً: نبكي أو نسكت؟! وماذا نعمل مع قول ربنا: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85] فهذا توبيخ وتقريع. فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:85-86].

    تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ...)

    قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:87] مَن المخبر؟ إنه الله.يقول تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ هو موسى بن عمران .. موسى الكليم .. موسى رسول الله عليه السلام، آتيناه الكتاب الفخم .. الكتاب الجليل .. الكتاب العظيم، لأن (أل) هنا تدل على هذا المعنى، ألا وهو التوراة، والتوراة مشتقة من النور، مِن: ورى الزند إذا أوقد النار وأشعلها، فهو كتاب نوراني أنزله الله للهداية، ولتبديد الظلام، فهو النور.قال: وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [البقرة:87] أي: واحداً بعد واحد، فما يذهب رسول إلا ويأتي من بعده رسول ثانٍ، ويأتي بعد الثاني رسول ثالث وهكذا، هم سلسلة من الأنبياء والرسل من أجل ماذا؟ حتى يغني الشعب، ويرقص، ويأكل البقلاوة والبطاطس، ألهذا بعث الرسل؟ لا، إنما من أجل تطهير النفوس .. تزكية الأرواح .. إعداد الأمة إلى السمو والكمال حتى لا ترى منظر سوء، ولا تشاهد حادثة مؤلمة، فلا خيانة، ولا تلصص، ولا إجرام، ولا كذب، ولا كفر، ولا شرك، ولا باطل، كأنهم يعيشون في السماء بطهرهم وصفائهم، فيكملون ويسعدون. وهذه هي مهمة الرسل.

    سبب تتابع الرسل

    ولم قفّى بالرسل واحداً بعد واحد؟الجواب: لهداية الخلق .. لإصلاح الأمة .. لتطهيرها .. لإعدادها للسماء، والنزول في الملكوت الأعلى بعد نهاية هذه الحياة. فهذه منة الله، وهو المخبر بهذا الخبر، يقول: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [البقرة:87]، وعدد الرسل -كما علمتم- ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، أولهم نوح، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، أما الأنبياء فبلغ عددهم مائة ألف وأربع وعشرون ألف نبي، فالرسول يُتابع ويُطاع، وأما النبي فيُؤمن به، وتُقبل هدايته وإرشاده، ولكنه لا يقنن، ولا يشرع، ولا ينزل عليه تشريع، بل هو يتبع الرسول الذي أرسل قبله.

    سبب نسبة عيسى عليه السلام إلى أمه مريم

    قال: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [البقرة:87] عيسى هذا هو عيسى ابن مريم. ومريم هي العذراء بنت حنة امرأة عمران .فإن قيل: لم قال: عيسى ابن مريم ولم يقل: عيسى بن سعيد أو عثمان؟ والعامة منا يقولون: الله ينادي الإنسان يوم القيامة بأمه، ولا يناديه بأبيه، ويقولون: إن منكراً ونكيراً لما يجلسان العبد يسألانه عن أمه لا عن أبيه: أنت فلان بن فلانة، أو يا فلان بن فلانة، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا * يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:70-71] يعني: بشيخهم فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [الإسراء:71] ويقولون أيضاً: يدعو الله الناس بأمهاتهم لا بآبائهم ستراً على عيسى حتى لا يفضح في عرصات القيامة أنه ما له أب. وغير ذلك من الكلام الذي ملئوا به الكتب.الجواب: الشاهد عندنا في عيسى ابن مريم أن عيسى لم يكن له أب، فمريم لم يتزوجها فحل، ولم تنجب كما تنجب النساء بواسطة المني، وإنما عيسى كان بكلمة الله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]. فجبريل روح القدس نزل ونفخ في كم مريم، أي: كم الدرع، فسرت النفخة حتى انتهت إلى رحمها، وقال الله: كن يا عيسى فكان، وفي ساعة واحدة جاءها المخاض يهزها، والطلق يدفعها إلى النخلة لتلد عندها، فلا عام ولا تسعة أشهر أبداً، بل كان بكلمة التكوين، وعيسى ابن مريم هو آخر أنبياء بني إسرائيل، وآخر رسلهم.قال: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:87] أي: الدلائل .. البراهين .. الحجج .. المعجزات، فكل ما يبين الطريق إلى الله أعطاه الله لعيسى، فمن أراد أن يدخل دار السلام فليمش وراء عيسى، فقد أعطاه الله البينات .. المعجزات .. الحجج .. البراهين، ومنها: أنه يحيي الموتى بإذن الله.ومن الروايات في ذلك: أن ولداً مات وحمل على النعش، فكانت الأم تصرخ، والناس في طريقهم إلى المقبرة فقالت: يا روح الله! ادع الله لي أن يرد عليَّ ولدي. فدعا الله وقال: يا فلان! تعال لأمك. فقام في النعش، وأزال الغطاء، وهبط ومشى مع والدته. فقال اليهود: هذه مؤامرة. فقد تآمرت هذه العجوز مع عيسى وقالت له: تعال في الطريق، وأنا أصرخ بك، وأنت قل له: اهبط واحيا فهو يحيا.

    الكفار يقلبون الحقائق

    أتعرفون قلب الحقائق؟!والعرب قد بلغوا المنتهى في طريق المكر والحيل، لكن الله أخبر بنفسه: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ... [المائدة:110]. أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد نادى من نادى في المقبرة وأجابه حياً.والشاهد عندنا في قوله: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:87] أن اليهود قالوا: بسحر ابن مريم، وأنه ابن زنا .. وليس له أب و.. ، مع أنهم يشاهدون الآيات. فلا تتألم يا رسولنا من كفر اليهود، وهذه هي حالهم مع نبي من آبائهم .. نبي من أهلهم .. نبي بعث فيهم، فرسول الله عيسى قالوا فيه: ساحر .. دجال .. ابن زنا، وقالوا وقالوا، فكيف يؤمنون بك يا محمد؟ وهذا كله يسلي به الله، ويسري به عن نبيه من آلامه وحزنه، وقد كان عمر وغيره من أصحاب رسول الله يعجبون: كيف أن اليهود لا يؤمنون بمحمد والإسلام؛ فهم أهل كتاب يقرءون التوراة، ويعرفون كل شيء، ويؤمنون بالله ولقائه؟! والله كانوا يعجبون. أما قرأنا: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] أي: فكيف تحزن أيها المؤمن من عدم إيمان هذه الأمة التي هذه صفاتها؟!وفي قوله: وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ سؤال: هل بعث رسول من الله واستجاب له اليهود مع التقفية بالرسل؟الجواب: أما على عهد داود وسليمان فقد استجابوا لكن بالهراوة والحديد والنار، فالجن أخضعهم الله لداود ولسليمان. أما اليهود فكانوا يقولون: آمنا. ولكنهم في البيوت يضحكون ويسخرون، وقد قالوا في سليمان: إنه ساحر.فإن قيل لهم: إن سليمان قد أعطاه الله ما لم يعط غيره، فقد سخر الله له الجن يستخدمهم في الصناعة، وفي غوص البحر واستخراج اللآلئ .. وفي كذا وكذا، فما زالوا يقولون: ساحر، وليس برسول. وإلى الآن يقولون: سليمان ساحر، هو منا نعم، ولكنه كان يستعمل السحر، ولهذا هم الآن ينشرون السحر، ووالله لقد وصلوا إلى المدينة، وبلغنا أن بعض السحرة تحاول الهيئة أن تلقي القبض عليهم لكنهم كالشياطين يتلونون، وكل سحر في العالم لا بد أن تجد فيه أصابع اليهود، فهم الذين صنعوه، وقد برزوا في هذا الباب، حتى سحروا النبي صلى الله عليه وسلم، ووجد السحر عند بئر ذروان حتى أصبح الرسول يتكلم بالكلمة ولا يفهم ما يقول، فظل يوماً .. يومين في حيرة، قد سحره لبيد ببناته الشيطانيات.إذاً: اليهود كلما جاءهم رسول كفروا به، وهكذا هم، فقط لا يريدون إلا الدينار، والدرهم، والشهوة، وهذا هو مبدؤهم وما هم عليه، فهم الذين نشروا أنواع الشر والباطل في العالم.أتعرفون أوروبا أو لا؟ لقد شاهدت بعيني امرأة الحاكم الفرنسي لما يأتي إلى القرية والله كان على وجهها هذا الخمار الخفيف الذي عندنا، وتستحي. ومن ثم انسلخت الأوروبيات، وخرجن عاهرات كاشفات! والله إن اليهود هم وراء كل خراب في العالم؛ لأنهم يريدون أن يصلوا إلى هدف عال، وهو أن يحكموا العالم، والطريق أن يفسدوا الأديان، والأخلاق، والآداب، والكمالات الروحية؛ لتصبح البشرية لا همَّ لها إلا الفروج والرقص والطعام، ومن ثَمَّ يسوقونهم لأن المال بأيديهم.وقد نجحوا في ذلك، وما زالوا حتى تظهر أنوار الإسلام ويطأطئ العالم رأسه.

    تأييد الله لعيسى بجبريل

    ثم قال: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:87] روح القدس هو جبريل فهو إلى جنبه يسترشده .. يبين له .. يعين له ما يقول .. يشفع له عند الله، فلا يفارقه تأييداً؛ لأنه وحده، فاليهود كلهم أعداؤه، فعيسى كان يعيش مع والدته، ومجموعة من الحواريين على رءوس الأصابع، وبعد ذلك اضطروا إلى الجبال وهربوا، فأيد الله عيسى بسيد الملائكة .. بجبريل عليه السلام .. بروح القدس.كان حسان بن ثابت شاعر الدعوة .. شاعر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون واليهود يهجون النبي صلى الله عليه وسلم، فمن يدافع عن رسول الله؟! كان حسان بن ثابت يهاجم الشعراء المجرمين والرسول يقول: ( اهجهم، ومعك روح القدس ). فنبينا أيده الله بـحسان ، وحسان أيده الله بجبريل؛ روح القدس.

    موقف اليهود من الرسل

    وكل هذه الآيات يذكرها الله تعالى من باب كشف عورات اليهود، وإزاحة الستار عن أمراضهم وأسقامهم ومحنهم لعلهم يرجعون، وهذا هو السر، فهو لا يريد التعيير والانتقام منهم، ولو أراد أن ينتقم لمسخهم قردة وخنازير كما فعل بأسلافهم على ساحل البحر، ولكن رجاء أن يهتدوا لتقوم الحجة عليهم بهذه البينات.ثم قال لهم: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ [البقرة:87] أي: كلما جاءهم رسول بما لا تحبه أنفسهم كأن يأمرهم بالتقوى، والصبر، والصلاة فالكبر سبيلهم، فإذا جاءهم بما لا تهوى أنفسهم أي: بالأمر بالصلاة، والطهر، والصفاء، والعدل، والرحمة، ففريقاً كذبوه وفريقاً يذبحونه.ولم ما قال: ففريقاً كذبتم وفريقاً قتلتم، إنما قال: تَقْتُلُونَ [البقرة:87]؟الجواب: لأنهم ما زالوا مستعدين للقتل، فلو يبعث الله ألف رسول فإنهم يحاولون قتله، والبرهنة على هذا أنهم حاولوا قتل نبينا صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، فمرة سقوه السم بالفعل، ومرة سحروه، ومرة تآمروا على قتله بأن يطلقوا عليه صخرة رحى من السطح على رأسه وهو جالس تحت الأرض، وهذا يعتبر في مقام القتل، فلهذا نحن لا ننكر أن اليهود أرادوا قتلوا نبينا، ولكن الله ما مكنهم.أما السحر فقد أخبر الرسول عنه وقال: ( هذه أكلة فلانة في خيبر، تكاد تعمل في أبهري كذا ) الحديث.والشاهد عندنا، انظر ماذا يقول تعالى عنهم: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ [البقرة:87] والآن العرب والمسلمون إذا جاء الحاكم بغير ما يهوون تجدهم يقومون عليه بانقلاب في الليل ويقولون: كيف يأمر بالصلاة والزكاة والمعروف؟ وقد فعلوا وإن كنا لا نسمي، فقد ظهر حاكم في يوم من الأيام ودعا إلى الإسلام والصلاة .. وما شعرنا إلا وقد قلبوا عصاه، وجعلوه بهلولاً في الشوارع، لا يعرف الحق من الباطل؛ لأنهم ألفوا الرقص، والعبث، والحرام، واللهو، فهم لا يريدون إسلاماً أبداً، وهذا طبع من يألف الشر والمنكر فيصبح وصفاً لازماً له، فلا يرضى بما يقوله العلماء، فإذا جاء العالم إلى بلدهم يأمرهم بالتوحيد يقولون: هذا وهابي، ويعلنون الحرب عليه في أي بلد إسلامي.وفي بداية الدعوة الإصلاحية كان الذي يدعو إلى التوحيد يقولون عنه: هذا وهابي ويلعنونه. لكن لما انتشرت الدعوة بوسائط جعلها الله من: ظهور الإذاعة، وانتشار الكتاب، واستقلال العرب والمسلمين، وتطور الاتصالات زالت تلك الأوهام والخرافات.وعندن هنا العقبي مات وما زالوا يقولون عنه: إنه وهابي. والعوام يحكون فقط، يقولون: هذا مذهب وهابي خامس.وهنا حكاية: فعندما كنا أطفالاً ندرس في الكُتَّاب، ولما بدأت الدعوة جاء بعض الإخوان من الحج ومعهم كتاب للشيخ محمد بن عبد الوهاب تغمده الله برحمته الذي يسمى الأصول الثلاثة، وهي رُسيلة صغيرة يفهمها العامي والطالب، فيها ثلاثة أصول ينجو بها صاحبها من الشرك والخرافة والضلالة.فأحد أقربائنا كان في العاصمة فجاء بهذه الرسالة ووزعت، بل وطبعت في مطبعة في الجزائر. فقدمتها للشيخ الذي نتعلم عنده القرآن، رحمة الله عليه، فتصفحها وقلبها ونظر فيها ثم قال: يا أبا بكر ! هذه الرسالة طيبة .. وهي حق، ولكن صاحبها يقولون عنه: إنه صاحب مذهب وهابي خامس. والله كما تسمعون!إذاً ما الفرق بيننا وبين بني إسرائيل؟ ولو كانت فيها مدائح وقصائد وأباطيل وو .. لغنينا بها، أما أن تحمل لا إله إلا الله والتوحيد فلا وألف لا.المهم نستغفر الله لنا ولهم ولسائر المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #74
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (67)
    الحلقة (74)




    تفسير سورة البقرة (37)

    ما أتعس الإنسان الذي يرى النور والهدى فيغطي عينيه وقلبه، وما أضلّه حين يبحث عن الأعذار الواهية، هكذا كان اليهود، يعتذرون بصمم قلوبهم، فكانت عاقبتهم اللعنة، لم لا، وهم يجدون القرآن مصدقاً لما عندهم من الحق. لم لا، وهم يعرفون رسول الله أكثر من أبنائهم. لم لا، وهم كانوا يستفتحون قتالهم بذكره ونبوته، وبدل أن يسارعوا إلى الإيمان بعد هذا كله إذا بهم يكفرون ويجحدون ويعرضون.

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة:88-90] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال الحديث عن بني إسرائيل الذين كانوا يسكنون هذه المدينة الطيبة المباركة، والقرآن كتاب هداية وإصلاح، فلهذا إذا ذم الله عز وجل خُلق إنسان فهو مذموم في كل إنسان، وإذا أثنى الله على خُلق إنسان فهو أيضاً محمود في كل إنسان، فالقرآن كتاب هداية وإصلاح للبشرية عامة؛ لأن المنزل عليه والمبعوث به أرسله الله إلى الناس عامة كافة، وحسبنا أن نقرأ قول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] فلا يفهمن فاهم، ولا يقولن قائل: هذا نزل في بني فلان، أو نزل في فلان ونحن لا علاقة لنا بذلك، فهذه النظرية باطلة، وقد اعتنقها وقال بها من سبقنا من علمائنا ممن هبطوا وأصبحوا يقرءون القرآن كأنما يقرءون على الموتى، ولا علاقة للأحياء به، وهذا خطأ كبير، وله ظروفه وعوامله وأسبابه، والحمد لله أن فتح الله علينا، وعرفنا أن هذا الكتاب كتاب هداية وإصلاح لكل البشرية.

    معنى قوله تعالى: (قلوبنا غلف )

    قال تعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] وقرأ ابن عباس : (غُلُفْ). والمعنى إما أنهم قالوا: قلوبنا مملوءة بالعلم والمعرفة، قلوبنا أوعية مملوءة تفيض بالمعارف، فلسنا في حاجة إلى ما يقوله هذا الرسول. ومعنى هذا: أنهم يريدون التخلص .. التنحي .. البعد من القرآن الكريم؛ ليبقوا على كفرهم والعياذ بالله تعالى.وقطعاً أن الذين يقولون هذا هم علماؤهم .. أحبارهم .. رجال الدين عندهم والعلم، أما العوام فهم يساقون كالبهائم، لا يستطيعون أن يستقلوا برأي ولا بفهم. وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] وقد فسر هذا بمعنيين: إما أنها في أغطية وأغشية لا تستطيع أن تسمع ما تقول ولا تفهم، فلا تتعب نفسك يا محمد.أو أنهم يقولون: قلوبنا ملأى بالعلوم والمعارف قد ورثناها عن آبائنا وأسلافنا، وهذا كتاب الله بين أيدينا فلسنا في حاجة إلى أن نسمع لك أو نأخذ عنك. وعلى كلا الحالين هم لا يريدون الإسلام بل يريدون البقاء على اليهودية والبدعة التي ابتدعوها، والله ما جعل يهودية ولا نصرانية، فقد قالوا هذه القولة فرد الله تعالى عليهم بقوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67] فكلمة يهودية .. نصرانية بدعة ابتدعها اليهود والنصارى، أما الله فما شرع يهودية ولا نصرانية قط.فهم يتهربون بقولهم: إن قلوبنا عليها أغطية وأغشية لا تستطيع أن تصل إليها يا محمد بكلامك، وقد يقول هذا عالم، ويقول الآخر: لسنا في حاجة إلى ما تقول، فقلوبنا ملأى بالعلوم والمعارف ورثناها عن الأنبياء من بني إسرائيل، ومعنى هذا: اصرف عنا وجهك، ولا توجه إلينا هذا الكلام. وكل هذا من أجل الحفاظ على ملتهم الهابطة الباطلة، ولتبقى اليهودية اللعينة، ويبقى لهم ما ادعوه من أنهم شعب الله المختار.وقد علم المستمعون والمستمعات القضية التي ما زلت أعيدها تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين: وهي أنهم مصممون على عودة مملكة بني إسرائيل، وهذه هي الحقيقة، فقالوا: إن نحن دخلنا في الإسلام ذبنا فيه، وما بقي لنا وجود، وهو كذلك؛ فالإسلام من دخل فيه انتهت عنصريته ووطنه وكل ذلك، فهو مسلم أبيض .. أسود .. طويل .. قصير .. عربي .. عجمي .. شريف .. وضيعمسلم: أي: أسلمت قلبي ووجهي لله، فإذا أمرني أن أصوم صمت، وإذا أمرني أن أفطر أفطرت، وإذا أمرني أن أسكت سكت الدهر كله، وإذا أمرني أن أتكلم تكلمت لأني عبده، فقد أسلمت له قلبي ووجهي: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92] فللهروب من هذه الحقيقة أخذوا يصطنعون الدعاوى والأباطيل، وهم في حقيقة أمرهم يريدون أن يعيدوا مملكة بني إسرائيل، إذ لو قبلوا الإسلام ودخلوا فيه ما بقيت مملكة ولا ملك لبني إسرائيل.فإن قيل: هل هناك من برهنة أو تدليل على هذه الحقيقة؟الجواب: الواقع أكبر دليل، أما كونوا دولة إسرائيل، وأوجدت في قلب العالم الإسلامي .. في أرض القدس .. في المسجد الأقصى؟فإن قيل: ولم -إذاً- ما قالوا: مملكة، وقالوا: دولة إسرائيل؟قلنا: لم يقولوا: مملكة؛ حتى يتحقق لهم الأمل يوم يحكمون العرب من النيل إلى الفرات، فيومئذ يعلنون عن مملكة إسرائيل، ومنذ سنوات كان معنا طالب استشهد في الأفغان من الصالحين المربين، وبأذنه سمع موشي ديان وقد قام خطيباً في المجلس اليهودي، فلما خطب بهر السامعين من رجال اليهود، فقام أحدهم وقال: أنت الملك .. أنت .. فقال: اسكت اسكت، لم يحن الوقت بعد. لا تقل: ملك ولا مملكة. لكن ذلك يوم يحكمون من النيل إلى الفرات، وهذه خطوة أولى فقط، فمملكتهم إمبراطورية عالمية، وسليمان عليه السلام قد حكم العالم الموجود يومئذ من الشرق إلى الغرب كـالإسكندر .فهذا الأمل يعملون له الليل والنهار، وقد مشوا فيه خطوات عجيبة فتحقق لهم وجود دولة إسرائيل ولم يكتمل بعد حتى يطلق عليها مملكة بني إسرائيل، فلهذا فاوضوهم .. صالحوهم .. ادخلوا معهم في ما شئتم، فلن تنتفعوا قط لما يحملونه من أمل في إعادة مملكة بني إسرائيل.والحمد لله من عشرات السنين ونحن في الدرس نقول للعرب: تفاوضوا معهم .. صالحوهم .. خذوا فرصة على الأقل تزيلوا آلامكم وأتعابكم، ويأمن إخوانكم، فإن اليهود لن يستمروا على مصالحة، ولا عهد، ولا عقد، فكلما عاهدوا عهداً نقضوه، فخذوا فقط فرصة حتى يلتئم إخوانكم، وتعالج جراحاتهم، وإذا تقويتم، واتفقتم، وسدتم فسوف تقاتلون، لكنهم يقولون: لا، هم الذين يقاتلون. فيضحك العرب، فهم لا يفهمون هذا. وهذا شأن من يعرض عن كتاب الله عز وجل، ويصبح أجهل الخلق.

    معنى قوله تعالى: (بل لعنهم الله بكفرهم)

    قال الله تعالى: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:88] ليس الأمر كما يقولون، وإنما طبع الله على قلوبهم بسبب كفرهم، فأبعدهم عن الرحمة .. أبعدهم عن ساحة الخير .. أبعدهم من أن يدخلوا في رحمة الله، ويصبحوا أولياء مع المسلمين والمسلمات، وهذا هو السر، فليس السبب أن قلوبهم غلف، بل السبب أن الله لعنهم بسبب كفرهم، وعنادهم، ومكرهم، فطبع على قلوبهم فهم لا يؤمنون.

    معنى قوله تعالى: (فقليلاً ما يؤمنون)

    قال: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88] إما أن تقول: الإيمان القليل هو إيمانهم بالله عز وجل أو إيمانهم بالبعث الآخر، أو إيمانهم برسل الله على التخير والاختيار، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، أو قل: قليلاً من يؤمن بالرسل، فالذين آمنوا ودخلوا في الإسلام عدد لا يزيد عن العشرة وإن صاروا عشرين، وهم يعرفون معرفة حقيقية، ورضي الله عن عبد الله بن سلام وأخيه، فهم مجموعة قليلة وهم كذلك إلى الآن.أما النصارى فيدخلون في الإسلام، والله لو وجدوا دعاة حق وعليهم النور لدخل الناس في دين الله أفواجاً، لكن اليهود تمضي مائة سنة ولا يدخل واحد في الإسلام، ومع أنهم يفهمون لغة الإسلام فإنهم لا يدخلون؛ لأنهم يريدون إعادة مملكتهم، وإعادة مجدهم، وأنى لهم ذلك، فهذا من باب المستحيل، وقد لعنهم الله، وأخزاهم، وأذلهم إلى يوم القيامة.
    ظهور دولة بني إسرائيل من جديد

    أما إن قال قائل: هاهم ظهروا من جديد وسادوا وحكموا في مكان ما؟فالجواب: أما قال تعالى وقوله الحق: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:163-167]، فهنا أعلم الله عز وجل: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ [الأعراف:167] يا رسول الله، أعلم بماذا؟ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167] فمن قال: هاهم قد ارتفعوا نقول له: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112].والشاهد عندنا في حبل الله أن يدخلوا في الإسلام، وحبل الناس أن يتفقوا مع دولة كبيرة كبريطانيا أو فرنسا فتؤمنهم، وهذا الذي حصل، فما أقاموا دولة إسرائيل إلا بالمعاهدات التي كانت تربطهم ببريطانيا، وفرنسا، وأوروبا وأمريكا، ولو أن الأوربيين والأمريكان يتخلون عن اليهود ساعة واحدة للصقوا بالأرض. إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112] والحبل هو ما به يربط العهد والميثاق: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112].فإن قال قائل: إن الله تعالى يقول: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167] أليس كذلك؟ فها هم قد حكموا وسادوا ورفعت الذلة عنهم، فما هو الجواب؟الجواب: قول الله تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وحبل الله هو الإسلام، فلو دخلوا في الإسلام ما بقي ذل، ولا هون، ولا دون، ونجوا، لكنهم ما دخلوا في الإسلام، ومع ذلك عزوا في هذه الأيام بسبب حبل من الناس، فبريطانيا هي التي شجعتهم وقوتهم، وأتت بهم وساعدتهم، وأعطتهم دولة إسرائيل، وأوروبا الآن كلها تدين لهم، وهي خاضعة لسلطانهم، وأمريكا فوق ذلك؛ لأنهم ملكوا قلوب الرجال، وتسلطوا عليهم بالأموال، وسادوا العالم بالمال، فهذا حبل قوي، فقولوا: صدق الله العظيم، آمنا بالله .. آمنا بالله.ولو تكتشف أمريكا مؤامرة يهودية لنسفها وتدميرها فإنها سترفع يدها وتلعنهم، وتلعنهم كذلك أوروبا فوالله سيصبحون أذل الخلق، ولن يستطيعوا أن يثبتوا وجودهم وعزهم كما هم اليوم، فقط لو يتمزق هذا الحبل، ونحن ننتظر تمزقه، وذلك عندما يستقيم أمر المسلمين، ويعودون إلى الله عز وجل.فلهذا لما ترفع القضايا إلى الأمم المتحدة، وتجد العجب من الناس بمناشدتهم أمريكا .. أمريكا، والصحيح أن يقولوا: يا ألله! يا ألله! ولا يقولوا: أمريكا. فيا ألله! لو أن المسلمين عادوا إلى الطريق المستقيم، وأسلموا حق الإسلام والله لتتخلين عنهم أمريكا وأوروبا. وإنما هي أسباب، كأن يكتشفوا مؤامرة أن اليهود يريدون أن ينسفوا أوروبا، فإذا تخلت عنهم أوروبا وأمريكا فمن لهم؟! قد وقعوا بين أيدي المسلمين أذلاء، مهانين، مداسين بالنعال.هل عرفتم هذه القضية السياسية المحضة؟فالله عز وجل يخبرنا في سورة الأعراف فيقول: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ [الأعراف:167] يا رسولنا لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167] ومعنى سوم العذاب: ألوان العذاب.فإن قال قائل: ها هم أعزة، فأين وعد الله؟ لم ما نفذه الآن؟الجواب: أنسيت قوله من سورة آل عمران: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112] ووجدوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112] فهذه الآية مخصصة لعموم آية الأعراف ولا نقول: ناسخة، فهي مخصصة لذلك العموم وهو: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ فيرفع الذل والمسكنة عليهم، وحبل الله هو وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] ألا إنه الإسلام الحق، فلو دخل اليهود في الإسلام لأصبحوا أطهاراً، أصفياء .. لله أولياء .. سادة العالم، لأنهم أبناء الأنبياء وأولاد المرسلين، لكن هذا الحبل رفضوه .. مزقوه .. حاربوه، وأعلنوا الحرب عليه منذ أن بعث رسول الله إلى اليوم؛ كل ذلك خشية أن يذوبوا في نور الإسلام، وينتهي أمر وجود بني إسرائيل.يا أيها المستمعون! اليهود يحاربون الإسلام خشية أن يذوبوا فيه، ويعلِّمون أطفالهم، والله لكتب اللغة عندهم ككتب اللغة عندنا، من القاموس وغيره، فيأتون بعبارات تهاجم الإسلام والمسلمين، وتحذر اليهودي واليهودية من قبول هذه الملة أو الرضا بها أو السكوت عنها، فإنها تقضي على وجود بني إسرائيل.وكتبنا مرة رسالة في هذا الباب، فكتب اللغة عندهم إذا ذكروا محمداً أو أحمد أو إسلام يأخذون في شرحها والتنكير لها، وتقبيحها، وتحذير بني إسرائيل منها.إذاً: حبل الناس موجود، وسبب وجوده: فسقنا .. فجورنا .. جهلنا .. ضلالنا .. هبوطنا .. تمزقنا فهو الذي أوجد الحبل. أرأيتم لو كنا كما كنا في القرون الذهبية أمة واحدة، فلا حزبية، ولا فرقة، ولا انقسام، ولا تشتت، فقط مسلم، وأمرنا واحد: لا إله إلا الله، ونحن على ذلك ثلاثمائة سنة، فهل يستطيعون أن يوجدوا حبلاً يربطهم أو يشد من أعصابهم؟ لا يستطيعون، لكن لما تعاونوا علينا فضللونا، وجهلونا، وأبعدونا عن نصر الله ورحمته، وأصبحنا بدل الدولة دويلات، وبدل الأمة أمما، وبدل المذهب الواحد مذاهب.ويكفي أن القرآن يقرأ على الموتى، فالروح الذي فيه الحياة صرفناه إلى الموتى، وحرمنا منه الأحياء، والسنة لا تقول: قال الرسول! اسكت، قل: قال سيدي فلان، وقال الشيخ الفلاني.فمن هم الذين أعطوا اليهود حبلاً متيناً وخنقونا به؟ إنهم نحن وبأيدينا.لكن متى يتمزق هذا الحبل؟ ومتى تتنكر أوروبا لليهود كما تنكر هتلر ؟هذا ضربنا به مثل، فهتلر غضب على اليهود وأذلهم، وقتل منهم الآلاف لما أراد الله ذلك، فلو أن المسلمين فزعوا إلى الله عز وجل ولاذوا بجنابه، وعادوا إلى طريقه المستقيم لكانت مؤامرة تظهر في العالم ضد أمريكا سببها اليهود، فيقضون على اليهود.كذلك أوروبا لو اكتشفت أن اليهود يعدون حرباً ذرية للقضاء على أوروبا، وتظهر البينات، فإن أوروبا سيطاردون اليهود ويذبحونهم، ويقلونهم في الزيت كما كانوا يفعلون معهم، وينتهي أمر اليهود، لكن لن يكون هذا حتى توجد أمة الإسلام، وتستحق ولاية الله عز وجل، فالقضية -إذاً- بأيدينا، والله أعطانا هذا، فإن شئنا قوينا اليهود وورثناهم وملكناهم، وإن شئنا أذللناهم وأهناهم، فالأمر جعله الله في أيدينا، الحمد لله.هذه نعمة الإسلام .. أنوار الإسلام .. بركة الإسلام الذي جهلناه، وحاربناه في أنفسنا وفي بيوتنا وأسرنا وفي ديارنا. وسنفيق متى يأذن الله عز وجل.قول ربنا عز وجل وهو يقول لرسوله ولنا: وَقَالُوا أي: اليهود قُلُوبُنَا غُلْفٌ قال تعالى: لا، بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:88] فليس في قلوبهم العلم الفياض الزائد عن الحاجة، وليست قلوبهم مربوطة ومغشى عليها، وإنما القضية هي أن الله لعنهم فطبع على قلوبهم حتى لا يدخلوا في رحمة الله، بل طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون. قال: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ وبناءً على هذا: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88] أي: قليلاً ما يؤمنون بالمعنيين السابق ذكرهما: إما لا يؤمن منهم إلا أفراد قلائل وهذا هو الحق، وإما إيمانهم قليل، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، يؤمنون بالرسالات الإلهية والأنبياء والرسل، لكن كفروا بعيسى، وكفروا بمحمد، وجعلوا سليمان ساحراً، وقتلوا الأنبياء، أو يؤمنون بالبعث الآخر، والدار الآخرة، والجنة والنار، ولكن لا يؤمنون بالعمل لها، وإعداد النفوس طيبة طاهرة لتدخل الجنة وتنجو من النار، فهو إيمان جزئي، بنسبة واحد إلى ألف.
    تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ...)

    مجيء القرآن مصدقاً لما مع اليهود في كتبهم

    قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ [البقرة:89] التنكير في كتاب للتفخيم والتعظيم، فهو كتاب لا يوزن بميزان، وكتابه هذا هو القرآن العظيم. وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:89] فقد جاءهم به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، من عند الله، فقد أوحاه إليه في ثلاث وعشرين سنة، فالوحي ينزل، والقرآن يتوالى حتى كمل، وأصبح كتاب الله في الأرض كما هو في السماء، في اللوح المحفوظ، عدد سوره مائة وأربعة عشر سورة، فيها ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، وأما كلماته فعشرات الآلاف، فهذا كله كلام الله، جاءهم من عند الله.قال: مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:89]، ما مع اليهود؟ معهم أن الله لا إله إلا هو، ولا رب سواه .. أن الله عز وجل أعد دار النعيم لأوليائه، ودار العذاب لأعدائه، فهذا الكتاب فيه الدعوة إلى الإخاء .. إلى المودة .. إلى الصدق .. إلى العدل .. إلى الرحمة .. إلى .. وما معهم من عقائد سليمة صحيحة بقيت في التوراة إلا جاء بها القرآن، ما تنافى معها ولا أبطلها أبداً، بل صدقها، وما ابتكروه واخترعوه ولفقوا به وشرحوا به التوراة وأضافوا إليها فالقرآن بريء منه، بل كشف الباطل وأبانه للناس. وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ عظيم مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ أي: لما في التوراة من أصول الإيمان وحقائق الدين.

    اليهود يستفتحون على العرب قبل الإسلام

    قال: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ [البقرة:89] أي: من قبل أن يأتيهم الكتاب العظيم وهو القرآن الكريم.وقوله: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ لماذا ( قبلُ ) مرفوعة؟ أليست (مِن) جارة؟ والأصل أن تقول: من قبلِ، فمِن حرف جر؟الجواب: هنا قاعدة خاصة في (قبل وبعد): فإذا ذكر المضاف بعدهما جرتا، فمثلاً نقول: وإن كانوا من قبلِ نزول الوحي، فلا بد أن نقول: من قبلِ، وإذا حذف المضاف، ونوي معناه دون لفظه بنيت قبل وبعد على الرفع، فنقول: وإن كانوا من قبلُ، والمعنى: من قبل وجود الرسول ونزول الوحي.قال: يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89] معنى يستفتحون عليهم: يخبرونهم بالنصر والفتح عليهم، وقد كان اليهود في المدينة إذا غاضبهم العرب أو دخلوا معهم في صراع ولو جدلي يقولون: اسمعوا! إن نبياً قد أظل زمانه، ولاح في الأفق تباشير وجوده، وسوف نؤمن به، وننضم إلى أمته، ونقاتلكم وننتصر عليكم، فانتظروا، ولا تستعجلونا. وكانوا يقولون هذا على علم واعتقاد؛ لأنهم ما تبين لهم أن هذا النبي سيكون من أولاد إسماعيل، وقد كانوا يحلمون أنه يكون منهم.فكان اليهود يقولون: إن نبياً قد أظلنا زمانه وقرب منا، وسوف نؤمن به ونقاتلكم، وننتقم منكم، وأنتم الآن تستضعفوننا لأنا أقلية بينكم، ومحصورين في دياركم، لكن انتظروا يوماً سيأتي يبعث فيه نبي آخر الزمان، ونقاتلكم معه قتال عاد وإرم، فهذا معنى قوله: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ أي: من قبل نزول الوحي المحمدي وبعثة الرسول النبي الأمي، ومعنى يَسْتَفْتِحُونَ : يطلبون الفتح، والفتح هو النصر.وأنتم تعلمون أن فرنسا فتحت ألمانيا، ومعنى فتحتها: أنها دخلت بلادها، وانتصرت عليها.لكن يستفتحون على من؟ قال: عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89] أي: الذين كفروا بالله وبتوحيده، وهم المشركون من كل فئات العرب وقبائلهم، الذين كانوا يعايشونهم ويعيشون معهم قبل البعثة المحمدية.والعرب كانوا قد كفروا، فما كانوا كما كانوا على عهد إسماعيل وأحفاده وأولاده، فقد جاءتهم الأصنام والتماثيل فعبدوها، ولعنة الله على عمرو بن لحي فهو الذي جاء بها من الشام.إذاً: فهذا القرآن يسجل كفر العرب قبل الإسلام: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا .

    الحسد أورد اليهود مهالك الخزي والهوان

    قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة:89] فلما جاء اليهود ما عرفوا وما كانوا ينتظرونه، ووجدوه من أولاد إسماعيل قالوا: لن نؤمن به، فلا ينتقل الشرف من أولاد إسحاق إلى أولاد إسماعيل أبداً.فإن قيل لهم: هؤلاء بنو عمكم؟قالوا: وإن كانوا بني عمنا.وهذا هو الحسد الذي مزقنا كما مزقهم، وشتتنا كما شتتهم، فوالله لولا الحسد لدخل المسلمون كلهم تحت راية لا إله إلا الله، أما يريدون الإسلام؟ فرفعت راية لا إله إلا الله فأصبح كلهم مسلمين، لكن الحسد: كيف يصبح هؤلاء يحكموننا؟!وقد سمعنا مداحاً يمدح: يا سعودي يا يهودي!!لا إله إلا الله، سبحان الله العظيم! الحسد يفعل هكذا؟ نعم.يا شيخ! لا تعجب، أما قتل هابيل قابيل، أخاه ابن أمه وأبيه؟ فقتله الحسد: كيف أنت يقبل الله منك صدقتك وأنا لا يقبلها مني؟ هل أنت أفضل مني؟ هل أنت خيراً مني؟ فقتله.فكذلك اليهود ما منعهم من الدخول في الإسلام إلا الحسد، فالحسد عامل قوي، وها أنتم تعيشون بين إخوانكم في الشرق والغرب حتى أهل البيت الواحد يتحاسدون.وخذوا قاعدة: الحسود لا يسود، وإن ساد اليوم فسوف يتحطم ويذل غداً. ولهذا أنزل الله سورة كاملة يعلمنا فيها كيف نتعوذ من الحسد، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5].

    قراءة سورة الفلق تمنع الحسد بإذن الله

    أيها المستمعون! هل لكم في فائدة عظيمة خير لكم من أن تعودوا إلى بلادكم بشيك فيه خمسمائة مليون دولار أمريكي؟! وهذا فيما أظن هو أغلى شيء هذه الأيام.إن أولي النهى والبصائر -والله- ليفرحون بهذه الفائدة كفرحنا بالبقلاوة والدجاج المشوي والشاي الأخضر و.. أو أشد.لما سُحِر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وقد سحره حاسده اليهودي لبيد بن الأعصم عليه لعائن الله وبناته شيطانات السحر، وقد قلت لكم: إن السحر موجود في المدينة، ونعجب لوجوده؛ لأن الساحر يقتل حيث بان سحره، ولكن لمكرهم ما استطاعت الهيئة أن تعثر عليهم، فهم يهاجمون البيوت ولا يعرفون. فاليهود هم الذي ينشرون السحر في العالم، وهم ممتازون في هذا الباب.فلما سحر النبي صلى الله عليه وسلم وتأثر به عدة أيام والله عاصمه، أنزل الله هذه السورة: الفلق، فما تعوذ متعوذ بمثلها قط، وهذه السورة ما إن تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ذاب ذلك السحر والحسد، وهي خمس آيات.قال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] رب الفلق هو الذي يفلق رءوس اليهودي، ويسلطنا عليهم عما قريب، وذلك لما نسلم.فالله يفلق الظلام الدامس فيفجر منه الضياء، وإذا الأنوار تلح، والأضواء في الشرق والغرب.ومن رب الفلق؟ الله. ولو اجتمع العالم كله على أن يستعجلوا الليل بساعتين قبل انقضائه فيفجرون الفجر لا يستطيعون، فرب الفلق هو الله.فهذا المتعوذ قد تحصن بالله، والذي يقوى على هذا الكون يستطيع أن يحفظك إذا لذت بجنابه، واحتميت بالإيمان.قال: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2] هل الله تعالى يخلق الشر؟ نعم الله يخلق الشر والخير، أما خلق النار والجنة؟! أما خلق الظمأ والعطش والري وو؟! فهو خالق كل شيء لحكم عالية. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ من الشرور.قال: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] أي: إذا كان القمر في السماء فإنه يضيء المنطقة أو البلد، وإذا به يغيب ويحل محله الظلام، فأتيحت الفرصة للسراق، والمجرمين، واللصوص، والحيات، والعقارب، والثعابين في الظلام، وهنا عليك أن تفزع إلى الله، فتتعوذ من شر غاسق إذا وقب.وهنا فائدة يذكرها بعض أهل التفسير من السلف فيقولون: إن هذا يشمل أيضاً إذا انتصب ذكر الفحل وحينئذ عليه أن يستعيذ بالله منه، فقد يوقعه في معصية الله، وإذا هاجت الغريزة والشهوة وانتصب ذكر الفحل ففي هذه الحال عليه أن يفزع إلى الله وإلا حمله على الفسق، ومن هنا استعذ بالله دائماً بهذه السورة: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3].قال: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4] والنفاثات هن الساحرات اللاتي ينفثن في العقد والخيوط بتعليم شياطين السحر لذلك، والنفاثات جمع نفاثة، فتجدها تعقد العقدة وتنفخ فيها وتقول كلمات الكفر، والشيطان يقويها، وتسحر بها من شاءت، إلا من عصمه الله، وقد سُحر حتى نبي الأنبياء ورسول المرسلين.قال: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5] فهذه خمس آيات أنزلها الله لعباده المؤمنين من أجل أن يستعيذوا بربهم من هذه الشرور العامة، الطامة، الهالكة، المهلكة.

    ما يمنع العين

    إذا رأيتَ عائناً يحمل السم في عينيه، فالله هو الذي خلق ذلك فيه كما خلق السم في العقرب والأفعى، فالعقرب ليست هي التي أوجدت سمها، بل هو الله الذي أوجده بتدبيره وقضائه في خلقه، فإذا وجد شخص في القرية .. في المدينة .. في الفصل .. في المسجد عنده هذا المرض، فنقول له: يا عبد الله! كف أذاك وشرك عن عباد الله. فإن قال: لا أستطيع؟ نقول له: لا، خذ هذا الدواء، فإذا نظرت إلى شيء وأعجبك فقل: تبارك الله .. ما شاء الله. وهنا سمك لا يتحرك، ولا ينطلق، ولا ينفع شيئاً، قال تعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39] فعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أعجبه شيء ولو كان طفلاً رضيعاً .. ولو مشيك .. ولو عمامتك على رأسك، فعليه أن يبادر إلى هذه الكلمة فيقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، تبارك الله! فلا يصل إلى ذلك الشيء المعجب به شيء، فقد أمن.فيا عباد الله! من أعجبه شيء مثل: بناية .. سيارة .. أكلة لذيذة .. شخص جميل .. كذا، فليبادر بكلمة: تبارك الله .. ما شاء الله، ويضع سداً مانعاً لا يصل إليه حسده.وهل هذا العلاج يوجد عند غيرنا؟ والله لا يوجد، ولكننا ما طلبناه .. ما سألنا عنه وما عرفناه، فألف مليون لا يعرف هذا! ممكن مليون من الألف مليون؛ لأنهم لا يجتمعون على كتاب الله.إذاً من أعجبه شيء فليبرك وليقل: ما شاء الله، ولا يضره حينئذ شيء، فيأمن.الحمد لله أنّى ما خلقت هذا في عيني، بل الله خلقه، فلله الحمد والمنة، وحتى لا يعذبني أعطاني هذه المناعة، فقل: تبارك الله ما شاء الله! لن يضر أخاك شيئاً.فمن هنا إذا وجدت حاسداً ورأيته لم يترك، وخفت من بلائه وعذابه فإنك تقرأ هذه السورة: بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5] ولن يضرك، فهو لو استعمل هذه المناعة لانتهينا، لكن أكثرهم لا يستعملها.وكنا نعرف في القرى: فلاناً معيان، فإما أن تمر بغنمك وإلا عليك أن تذهب بعيداً. فما عندنا المناعة.أما الآن فقد أعطانا الله المناعة بأن نقول: تبارك الله .. ما شاء الله.ونحن إذا ما قالوها نقرأ هذه السورة، فكان المؤمنون والمؤمنات يتحصنون بها من أذى الحسدة إذا شاهدوهم.إذاً: مضى زمان ونسي المسلمون هذه المناعة مع أنها خمس آيات، لكن الكسل والعجز بدل ما يقرأ هذه السورة تجده يقول: خمسة في عينيك، فمن التعب لا يقول: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] ويقرأها كاملة بل يقول: خمسة في عينيك. فمضت قرون، ونسوا أن هذه الآيات الخمس هي التي تدفع الحسد، وظنوا أنها الأصابع، فيقولون: خمسة في عينيك.وجاءت أيام فمن التعب صوّروا الكف فقط عند باب البيت أو وراء السيارة، فما تتعب حتى تقول: خمسة، اجعلها صورة، وقد وجدت هذه الكف في أمام المنازل الجميلة، وفي السيارات لتدفع الحسد .. لتدفع العين، وهي والله لا تدفع أبداً، والذي يدفع هو أن تقرأ الخمس الآيات إيماناً ورجاءً في الله أن يدفع عنك العين والحاسد بهذه الآيات، لكن كونك من الكسل تقول هكذا، ولا تقرأ فلا تنتفع، حتى ولو كنت تعرف أن معناها خمس آيات في عينيك، لكن مع الأسف أنسانا الشيطان هذا كله، وأبقى لنا الأصابع، فإذا قلت هكذا هل يرد العين؟ والله ما يردها.ونتائج كل ذلك أن أمتنا هبطت. أما كانت تستخدم الآيات لصلاحها، فجهلتها وما عرفتها، وأصبحت تشير بالأصابع، وعجزت حتى عن الإشارة بالأصابع فجعلتها صورة في البناء أو في غيره.

    معنى قوله تعالى: (فلعنة الله على الكافرين)

    قال تعالى: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89] فما قال: فلعنة الله عليهم أي اليهود، لا. لعنة الله على الكافرين من يهود، أو نصارى، أو عرب، أو كل كافر، وهذا من عجائب القرآن، فما قال: لعنة الله عليهم، بل كل كافر؛ لأن لعنة الله كانت من أجل الكفر؛ فإذا كفر الشريف كما يكفر الوضيع فالكل لعنة الله عليه، إذ نسبتنا إلى الله واحدة: عبيد لمالك واحد، وسيد واحد. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #75
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (68)
    الحلقة (75)




    تفسير سورة البقرة (38)

    يكشف القرآن عن صفة قبيحة لازمت اليهود، وهي التعصب المطلق، فبدلاً من قبول الحق، وهو الإسلام والقرآن، عاندوا وجحدوا لا لشيء إلا لأن التوراة أنزلت عليهم، وأنها كتابهم، بخلاف القرآن الذي أنزل على غيرهم! وتصرفهم هذا ليس مستغرباً فقد عبدوا عجلاً صنماً رغم معايشتهم لمعجزات موسى، وكان أخذهم للتوراة والتسليم بما فيها بعد أن رفع جبل الطور على رءوسهم، لكن رءوسهم هذه لم تعقل!

    تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91-93].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال السياق الكريم في الحديث مع بني إسرائيل، وهو حديث التأنيب والتقريع إلى جانب الدعوة إلى الحق والانخراط في سلك المؤمنين، والله يدخل في رحمته من يشاء.فقول ربنا جل ذكره: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ [البقرة:91] القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضوان الله عليهم، إذ هم الذين كانوا مع اليهود في المدينة، وإلى الآن لو قلت ليهودي: آمن بما أنزل الله، فإنه يقول لك: أنا مؤمن بما أنزل الله، أي: بالتوراة، وأنا لست في حاجة إلى غيرها، وإلى أن تقوم القيامة؛ لأن شأنهم واحد .. كلمتهم واحدة .. وجهتهم واحدة، فلهذا تخاطب هذا بما تخاطب به الأولين من أربعة آلاف سنة، وهذا شأن بني إسرائيل.قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [البقرة:91] أي: بالقرآن، وهم يعرفون أن القرآن أنزله الله، ويعرفون أن النبي أمِّي، والأمي أنى له أن يتكلم بالعلوم والمعارف، ثم إن القرآن قد احتوى على ما في التوراة من حقائق الشرع والدين، كالإيمان بالله، ولقائه، والبعث الآخر، والجزاء بالنعيم المقيم والعذاب الأليم، فكل هذا حواه القرآن وهو في التوراة.ولا ننسى أنهم لحسدهم لبني إسماعيل، وللخوف من أن يذوبوا في روح الإسلام كرهوا الإسلام وحاربوه وحاربوا أهله إلى اليوم، وتقدم هذا في السياق الكريم، وكل ذلك بغياً وحسداً من عند أنفسهم: كيف نصبح أتباعاً لولد إسماعيل، ونحن أشرف أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.قال: قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا [البقرة:91] انظر إلى العصبية في قولهم: (علينا) أي: نحن بني إسرائيل، أما عليكم يا أبناء إسماعيل فلا وألف لا. والدين لا يرضى بالعصبية، فالبشرية كلها نسبتها إلى الله واحدة، وهم عبيد لمالك واحد هو الله، والتحيز من اليهود ظاهر: نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا .قال: وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ [البقرة:91] لم ما قال: وكفروا أو ونكفر بما وراءه؟ الجواب: لأن كفرهم مستمر فيقولون هذه الكلمة، ويكفرون بما وراء القرآن.قال: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:91] القرآن حق، ومصدق للذي معهم في التوراة كما قدمنا من عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة .. من وجود عالم شقاء وعالم سعادة .. من التوحيد وألا يعبد إلا الله .. من الإيمان بكتب الله ورسل الله، فهذه كلها موجودة في التوراة.إذاً: كفرهم بالقرآن يلزم منه كفرهم بالتوراة؛ لأن القرآن يقرر ما في التوراة ويثبتها، وهم يقولون: القرآن باطل لا نؤمن به، فإذاً كفروا حتى بالتوراة، وهكذا السيئة تجر سيئة، والخطأ يقود إلى خطأ.قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا فقط وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ [البقرة:91] أي: بما ادعوه أنه أنزل عليهم من التوراة وهو القرآن الكريم، كأنهم قالوا: نكفر بالقرآن، ولا نعترف به، ولا نأخذ به في هدايتنا وصلاحنا.قال: وَهُوَ الْحَقُّ والحال أنه الحق مُصَدِّقًا من ربهم، وكررنا القول في مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ أن الذي معهم في التوراة لا إله إلا الله، وأن الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل مقرر في التوراة .. وأن الإيمان بالبعث الآخر في التوراة .. وأن الحق، والعدل، والخير، والمعروف، والإحسان، والبر كلها موجودة في التوراة، فالقرآن مصدق لما معهم، فالمفروض لا يكفرون به، إذ ما فيه منافاة بين ما يؤمنون به وبالقرآن الذي دعوا إلى الإيمان به، ولو كان هناك تصادم أو تعارض فقد يعذرون، فالقرآن مصدق لما معهم.إذاً: بكّتهم، وأخزهم، وقل لهم: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ [البقرة:91] فهل التوراة فيها الإذن بقتل الأنبياء والعلماء؟ والله ليس فيها، فلم -إذاً- تقتلون الأنبياء، وقد قتلوا زكريا وولده يحيى، وتآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وادعوا أنهم قتلوا عيسى، وبالفعل صلبوا من شبه لهم، بل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في بعض الأيام كانوا يقتلون سبعين نبياً، وفي المساء كانت أسواقهم قائمة للبيع والشراء كأن شيئاً ما وقع. إذاً فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ [البقرة:91] وهم يعترفون بأنهم قتلوا عيسى؛ لأنه ساحر وكذا وكذا، وقتلوا زكريا، وقتلوا يحيى، وقتلوا غيرهم، فهل الإيمان الحق بكتاب الله التوراة النورانية يسمح بقتل الأنبياء؛ إذاً ما أنتم بالمؤمنين بالتوراة، وحقاً هم كفار بالقرآن وبالتوراة؛ لأن إيمانهم صوري، فهم مؤمنون بالتوراة لكن هل صدقتم الله فيما جاء فيها؟ وهل امتثلتم أوامر الله فيها؟ وهل امتثلتم نواهي الله فاجتنبتموها في التوراة؟ إذاً ما معنى هذا الإيمان بالتوراة؟فهذا هو التقريع والتوبيخ، فقل لهم يا رسولنا: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91].
    تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم موسى بالبينات ...)

    مجيء موسى بالبينات

    هنا الآن جولة أخرى أيضاً مع اليهود، قال تعالى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ [البقرة:92] ولك أن تقول: قل يا رسولنا لهم: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ [البقرة:92] أي: بالمعجزات، ومعجزات موسى عليه السلام تسع آيات.وأولى تلك الآيات أن العصا تستحيل إلى حية تهتز كأنها جان، وأما يوم المباراة العظمى فإن تلك العصا ابتلعت وتلقفت كل ما ألقاه السحرة في تلك الساحة من الثعابين والحيات، فتلقفتها بكاملها، ويده يدخلها في جيبه ويخرجها بيضاء كأنها -والله- فلقة قمر.وأعظم آية شاهدوها في صالحيهم مع فرعون كانت هي انفلاق البحر، وهي كونه يضرب البحر الأحمر بعصاه: باسم الله، فينفلق اثنتي عشرة فلقة، أي: اثني عشر طريقاً، لكل قبيلة تسلك طريقها. فأية آية أعظم من هذه؟والحجر الذي يحملونه معهم يضربه بعصاه فتتفجر منه اثنتا عشرة عيناً حتى لا يصطدم بعضهم ببعض، وكل قبيلة تشرب من عينها الخاصة.فهل هذه الآيات وغيرها جاءتكم فآمنتم؟!وهذا هو التقريع .. التوبيخ.. التأنيب، ولكن من لم يشأ الله هدايته ما اهتدى.

    اتخاذ بني إسرائيل للعجل إلهاً

    قال تعالى بعد ذلك: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:92] بعدما خرجوا من البحر ونجوا من فرعون وحكمه، ونزلوا بالساحل، استدعي موسى عليه السلام -كما عرفتم- إلى جبل الطور لمناجاة الله تعالى، بل ذهب ليأتي بالدستور الذي يحكم به بني إسرائيل.وهذه الجملة الحمد لله كررناها مئات المرات، لعلها تنقل إلى العرب والمسلمين لكن ليس هناك من ينقل.لما استقل بنو إسرائيل، وقد كانوا محكومين بحكم فرعون دهراً طويلاً، فلما خرج بهم موسى بعد أن ظهر على فرعون وقهره نزلوا على الساحل، فكيف يحكمهم موسى؟ وما هو الدستور، وما هو القانون؟ فقال: اجلسوا أنا أذهب إلى ربي وآتيكم بالدستور.ونحن نقول لإخواننا المسلمين: لما استقل الإقليم الفلاني من هولندا وبريطانيا وفرنسا فهل بلغكم أن إقليماً استقل فقال: يجب علينا أن نطلب دستور الإسلام فنذهب إلى العلماء: يا علماء الأزهر! يا علماء الحرمين! اجتمعوا وضعوا لنا دستوراً، وعجلوا كيف نحكم هذه الأمة .. هذا الشعب؟ هل فعلوا؟ ما فعلوا.إذاً: موسى أذكى منهم، وأعلم منهم، ولكن نحن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بهذا، ولكن إلى الآن ما اجتمع علماء أي بلد وقالوا: لابد من وضع دستور إسلامي، مصدره قال الله وقال رسوله، وما أجمع عليه أئمة الفقه الإسلامي من تلك الزمرة النورانية في العهد السالف، ويحكمون المسلمين بشرع ربهم، فإن افتقروا فهذا الذي أعطاهم .. وإن استغنوا فهذا الذي أعطاهم .. وإن مرضوا وصحوا فيقول لهم: نحن الحاكمين غير مسئولين عنكم، هذا دينكم وشريعتكم، ونحن حكمناكم بها فلا تلومونا، وليس هناك من يلومهم. فسبحان الله! مظهر من مظاهر القرآن الكريم أن يترك موسى بني إسرائيل على الساحل -والخليفة فيهم هارون عليه السلام- ويقول لهم: اجلسوا حتى آتيكم بالدستور.واسمعو قوله تعالى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:92] فما هذا العجل الذي اتخذوه من بعد موسى؟سبق أن عرفنا هذا وكررناه مع المستمعين والمستمعات ونعيد تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين: كان بينهم رجل -وما من حقنا أن نقول: رجل أبداً فهو ممسوخ- هو السامري ، فجاء إلى نساء بني إسرائيل وقال لهن: هذا الحلي الذي عندكن هو حلي القبطيات. ولا يبعد أن نساء بني إسرائيل لما أعلمن بالرحيل والخروج من مصر احتلن على القبطيات الغافلات، واستعرن منهن الحلي من الذهب والفضة، ولما خرجن خرجن بذلك الحلي، واليهود كما تعرفون يحبون الذهب.فـالسامري قال: هذا الحلي لا يحل لكنَّ استعماله، فكيف تستعملن ما حرم الله، فهذا غش وخيانة، وأنصح لكن أن تجمعن هذا الذهب وأحرقه أنا، وتبرأ بذلك ذممكن. وهذا كلام معقول، لكن هو يريد غير هذا، فجمع الحلي وصاغ منه عجلاً -الذي هو ابن البقرة وليس شرطاً أن يكون ثوراً- فصنعه بالصياغة صياغة الذهب، ولما ذهب موسى قال لهم: هذا هو إلهكم وإله موسى، قد نسيه.وانظر إلى بلاهة اليهود وغباوتهم، وإلى الآن كما قلت: فيهم أغبياء العجب؛ كيف قال لهم: هذا هو إلهكم وإله موسى، قد نسيه؟! أما قال تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [طه:89] ولو كان رباً حقاً لسألوه: أنت الله؟ لقال: نعم. أين ذهب موسى؟ ذهب إلينا مثلاً. لكن قبلوا، والتفوا حوله يعبدونه.أما هارون عليه السلام فهو مسئول الخليفة الذي استخلفه فيهم، وقد صاح فيهم: يا عباد الله! لا تكفروا، يا عباد الله! هذه فتنة .. هذا كذا، فكانوا يضحكون، إلا من نجَّى الله عز وجل من ذاك الشعب الذي قوامه ستمائة ألف، وما نجى إلا القليل.فهذا الذي أراده تعالى بقوله: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [البقرة:51] أي: اتخذتموه إلهاً، لكن الله ما قال: إلهاً، فهو معروف، وهل يصح أن تقول في العجل: إله؟ والآدمي أو السلطان لا يقال فيه: إله، فكيف بالعجل! وهذا من عجائب القرآن.قال: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ [البقرة:51] أي: من بعد غياب موسى؛ لأن موسى ذهب إلى جبل الطور، ولا أدري كم المسافة من هذه المنطقة التي نزلوا فيها إلى جبل الطور وقطعاً هي في سيناء.

    تعريف الظلم

    قال: وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ أي: والحال أنكم ظالمون، نعم ظالمون؛ لأن الظلم -كما عرفتم زادكم الله معرفة- وضع الشيء في غير موضعه.لم لا يحفظ أبناؤنا وإخواننا هذه الكلمة، ولماذا يتركونها فقط للطلاب؟! يعني: هل يتعب أحدنا إذا قال: الظلم وضع الشيء في غير موضعه؟وهنا مثال على ذلك: لو قام أحدكم الآن ودفع إخوانه: خلوني أنام هنا، ويطرح في حلقة العلم نائماً. فهذا ظلم ووضع للشيء في غير موضعه.كذلك الذي يأتي إلى باب المسجد ويشمر عن ثيابه ويأخذ يتغوط، تقول له: كيف تفعل هذا؟ يقول لك: أنا خرجت من المسجد، والشارع ممر المسلمين والمسلمات يجوز تلويثه، تقول له: وهذا المرحاض في الحمام لماذا وضع؟! فوضع البول في هذا الموضع ظلم، وهو وضع للشيء في غير موضعه.كذلك الذي يدعو غير الله فيقول مثلاً: يا سيدة! الغوث الغوث. هذا وضع للنداء في غير موضعه؛ لأن الذي ناداه لا يسمعه، ولا يراه، ولا يقدر على إمداده وإعطائه، فهذا النداء ينبغي أن يكون للسميع العليم، الذي يسمع نداءك ويراك في مكانك، ويقدر على إسعافك وإنقاذك، والذي يعكف على صنم أو كوكب أو قبر أو إنسان يعبده، فهذه العبادة ما وضعها في موضعها؛ لأن هذا المخلوق لا يعبد. إذاً: هذا ظلم.ولقمان الحكيم كان يقول لابنه وهو يربيه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13] لم يا أبتاه؟ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فالظلم يتفاوت، فالذي يبول في المسجد ظلم، والذي يذبح فلاناً ظلم، لكن شتان ما بين هذه وهذه، فالظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولكنه يتفاوت.فأعلى مستويات الظلم الشرك؛ لأنه أخذ حق الرب تعالى الذي استوجبه بخلقه للعوالم وما فيها، وبخلقك أنت وإيجادك وإمدادك، ثم هذا الحق الذي من أجله خلقك وهو أن تعبده كيف تصرفه إلى غيره، فأي ظلم أفظع من هذا؟فالله هو الذي خلقني ورزقني وخلق كل شيء في الكون من أجلي خلقني لأعبده، وتركته يخلقني ويرزقني ويحفظني وو.. ثم إذا بي أعبد غيره، فهذا أفظع أنواع الظلم.إذاً اسمعوا الله تعالى يقول: وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ والحال أنكم ظالمون بوضعكم العبادة في عجل، وهي ملك لله الرحمن الرحيم الخالق الرازق المدبر.فإياك أن تظلم، وهذا إعلان أبي القاسم صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح يقول: ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، وحملهم على سفك دمائهم واستحلال حرماتهم ).
    تفسير قوله تعالى: (وإذا أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ...)

    أخذ الميثاق على بني إسرائيل

    قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:93] أي: اذكروا يا بني إسرائيل أو اذكر لهم يا رسولنا وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:93] أتدرون ما الميثاق؟ ليس بميثاق الأمم المتحدة، إنما الميثاق هو العقد الموثق بالأيمان، فهو حبل متين، والله عز وجل هو الذي أخذ الميثاق من اليهود: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:93] بأن لا تعبدوا إلا الله .. بأن تحلوا ما حرم الله وتحلوا ما حرم الله .. بأن تطيعوا موسى وأنبياء الله، فهذا عهد وميثاق أن يعبدوا الله بما شرع لهم، وكلفهم به.

    قصة رفع الطور

    قال: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:93] الطور جبل بسيناء، فما رفعه عليهم أجمعين، ولا على الذين في المدينة، والزمان كان ثلاثة آلاف سنة، وإنما كما قلت وعلمتم أنهم نحلة وملة واحدة يؤاخذون به كلهم، فذنب أحدهم اليوم يؤاخذ به الأولون، والأولون يؤاخذون بذنوبهم؛ لأنهم على عقيدة واحدة. وهذه القضية هي أن موسى عليه السلام لما وقعت فتنة عبادة العجل، وتورطوا، وجاء موسى وصاح فيهم ووبخهم، وقرعهم، وتابوا، وندموا، وقد قام موسى فيهم كالأسد، وأخذ العجل وأحرقه، ثم برده بالمبارد ونشره حتى أصبح تراباً وذره في البحر؛ حتى لا يبقى للعجل أثر يتعلق به قلوبهم.فهنا اختار موسى منهم سبعين رجلاً من خيارهم يذهب بهم إلى الله عز وجل ليكلمه في جبل الطور، ويطلب التوبة لهؤلاء الذين زلت أقدامهم، فهؤلاء يمثلون الشعب الإسرائيلي، فلما وصلوا وسمعوا كلام الله ما ارتضوا وقالوا: نريد أن نرى وجه ربنا. وعرض عليهم تحمل المسئولية فرفضوا، فما كان من الله تعالى إلا أن رفع الجبل فوق رءوسهم؛ نقضه من أسفله ورفعه كالسحابة: هيا خذوا، وتعهدوا والتزموا، فخروا ساجدين، وهي سجدة إلى الآن يفضلونها على الذهب، فسجدوا على خدهم الأيمن أو الأيسر، وتركوا الآخر ينظرون إلى الجبل من جبنهم وخوفهم، وهم الآن يسجدون في بِيعهم -أي: مساجدهم- هذه السجدة.فالتزموا باللسان وقالوا: سمعنا وعصوا، فهذا ما أخبر تعالى به عنهم في هذا السياق وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة:93] أي: جبل الطور.وقلنا لكم: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا [البقرة:93] بمعنى أطيعوا، يقال: فلان لا يسمع لي، أي: لا يطيعني، وليس من السماع بالأذن. وقوله: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ هي التوراة فيها حكم الله .. فيها شرائع الله .. فيها ما تقوم به الحياة .. فيها ما تكملون وتسعدون عليه، فالتزموا، وجاء من سورة الأعراف: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف:171].فأعطوا عهداً وهم تحت الحجر أو تحت الجبل ثم نقضوه كأن لم يكن شيء والعياذ بالله، فهم أنقض الخلق للعهود.ونعود للسياسة؛ فمنذ أربعين سنة ونحن نقول للعرب: يا عرب! عاهدوا اليهود -وإن كان هذا الكلام لا يعرفه إلا العقلاء- فعاهدوهم معاهدة سلمية حتى تتقووا وتتجمعوا وتصبحوا أمة واحدة ربانية قوية، ولا تقولوا: إذاً كيف ننقض عهد الله؟ لا، لا. والله لينقضونه لكم، فهم مفطورون ومجبولون على نقض العهود. فلا تخافوا، أعطوهم فرصة لتستفيدوا منها، فإخوانكم يُرفع عنهم العذاب، والبلاء، والشقاء، وأنتم تتقوون وتصنعون وتتحدون، فإذا قويتم على نسفهم وإبادتهم فحينئذ سوف ينقضون العهد، ولا تخافوا أنتم وتقولوا لي: كيف نعطيهم عهداً وميثاقاً، وبعد ننقض هذا؟! نحن لا ننقض العهد أبداً، وإذا عاهدنا نموت ولا ننقض، لكن العدو هو الذي سينقضه؛ وذلكم لأن الله تعالى قال: أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100] فهذا شأنهم، وانظر كيف رفع الجبل فوقهم، وأعطوا العهود والمواثيق أن يفعلوا بما في التوراة، وما هي إلا أن خرجوا وإذا بهم يحلون ويحرمون ويعطلون بما تقول أهواءهم وشهواتهم. قال: قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [البقرة:93] فهم لا يقولون هكذا: سمعنا، بل يقولون: سمعنا وعصوا، وهذا أمر مفروغ منه.

    معنى قوله تعالى: (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم)

    قال تعالى بعد ذلك: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93] ومعنى أشربوا: تغلغل حب العجل في نفوسهم كما يشرب الثوب من الماء، ويدخل في كل جزئياته.وأي عجل هذا؟هذا العجل هو الذي صنعه الحداد أو الصائغ السامري .. هذا العجل الذي ادعى أنه هو الله .. هذا إله بني إسرائيل وموسى ضاع عنه وتاه وما عرفه، وهذا العجل قد عبدوه قرابة الشهر؛ لأن غيبة موسى كانت أربعين يوماً، فتمكن حب العجل من قلوبهم. فإن قال قائل: يا شيخ! هل هذا صحيح؟نقول: لا تسأل، نسأل الذين يشربون الشيشة والأفيون وو.. هل تمكن حبها من قلوبهم أو لا؟ ومن قال: لا، فليرم بالتجارة خارج المسجد.فهذه سنن الله في الخلق، والذي عرف أن هذا الأمر باطل ومنكر ثم يفعله ويستمر يفعله فسوف يأتي بطابع خاص به، ولا يتحول عنه أبداً.فتلك النظرة، وتلك الالتفافة، وذلك الاجتماع حول العجل وهم يصرخون، وينادون، ويرقصون، حتى قيل -وهو حق-: إن حفلات المتصوفة مأخوذة من الحفلات اليهودية، فتجد الرقص والرقص حتى تصعق المرأة، وهم يستغيثون بالأولياء، وفي الأخير يقولون: هذه عبادة، أي: مأخوذة عن بني إسرائيل، عبدة العجل .. وقد بقيت عند اليهود أيضاً.والشاهد في قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة:93] أي: عجل الذهب، ولهذا إلى الآن اليهود هم الشعب أو الأمة التي لا تعرف أبداً إلا الذهب، وهم الذين أسسوا البنوك.مع العلم أن الله عز وجل حرم عليهم الربا في التوراة بصراحة اللفظ ووضوحه، وندد القرآن بهم، واستحلوا الربا بعد علمهم بحرمته، ولكن قد يعذرون؛ لأنهم يريدون أن يحققوا أملهم في مملكة بني إسرائيل، فكيف الوصول إليها وهم شعب عدد سكانه خمس ملايين فقط، فلا يعادلون سكان القاهرة ولا باريس، فكيف يحكمون العالم؟!

    وسائل اليهود في إخضاع العالم

    إذاً لابد من استعمال وسائل من شأنها أن تخضع العالم لهم، فاستعملوا:أولاً: السحر، وكثيراً ما أقول بدون علم- أنا متوقع ولا تقولوا: الشيخ جازم-: أنهم يسحرون بعض الساسة والمسئولين في العالم الإسلامي؛ لأنهم متنكرون؛ فلديهم جوازات عديدة: فرنسي .. سويسري .. أمريكاني، ويجتمعون في اجتماعات الأمم المتحدة، وممكن يكلفون من يصب الشاي أو القهوة، ويجعل فيها مادة مسحرة، هذا ممكن، فهم أهل السحر، والسحر هو تحويل القلب من كرهه إلى حبه، فكما يكره الرجل امرأته، والمرأة تكره الرجل، فهم أيضاً سحروا الناس من الأوروبيين وغيرهم، وجعلوهم يحبونهم، وعلى الأقل لا يسبون، ولا يشتمون، ولا يتغيضون، ولا ولا ولا.. وهذا حاصل، ولا يبعد.ثانياً: استعملوا المال من الدينار والدرهم، فعرفوا أن العالم يخضع لسلطان المادة والمال، فابتكروا فكرة البنوك وأسسوها، ووضعوها، وهم قائمون عليها في الشرق والغرب، وضربوا العالم ضربة ليس لها نظير، فالربا إذا شاع وأصبح من مبادئنا ومن سياستنا السياسية والاجتماعية، فهو الذي يقضي على المحبة، والألفة، والأخوة، والولاء بين المسلمين.ولو فعلوا من السحر ما فعلوا فإنهم لا يستطيعون أن يفرقوا بين المؤمنين كلهم، نعم قد يسحر شخص أو عشرة ألف، لكن الربا معناه: لا تبقى سلفة، ولا قرض، ولا مضاربة، ولا تعاون ولا ولا.. وكل ما نحتاج إليه هو البنك. فتلك الرابطة القوية التي تربط بين المواطنين في أي شبر من الأرض لما حل محلها البنك ما أصبح هناك من يسلف أحداً، ولا من يقرض أحداً، وحتى الذين يسلفونهم أو يقرضونهم لا يردّون، فهناك دعوة شيطانية: يأتيك ويقول: أقرضني. فتقرضه، ولا يرجع أبداً، وبذلك تمزقت أواصر الأخوة بين المسلمين. أرأيتم لو كان المسلمون على حقيقتهم فهذا المال الذي لا يودعونه في البنك ماذا سيصنعون به؟إذا جاءني إبراهيم أو سليمان أو عثمان وهو أخي المؤمن عبد الله الذي لا يفارق بيت الله وقال: أريد أن تقرضني كذا إلى سنة، والله ليفرحن المؤمن، فيحصل على أجر أعظم من أجر الصدقة، واستراح من ذلك المال الذي هو مودع في صندوقه، وانتفع به أخوه، وذلك الذي استقرض يعيش ليل نهار يحافظ على عهده وميثاقه، فما إن يحين وقت القضاء، وتدق الساعة إلا وهو يقرع الباب: هذا مالك يا أخي. فانظر إلى الصلة كيف قويت.كذلك لو رغبت في أن ينمو مالك، فيأتيك أخوك الحاذق، اللبيب، الفطن، الصابر، الصادق يقول: أريد أن أفتح متجراً فأعطني ما عندك، لا تبقه هكذا، ولك نصف الربح أو ثلثه. فيفرح المؤمن ويبتسم، ويقول: الحمد لله؛ لم يبقى هذا المال مدفوناً عندي أو مودعاً في البنك لا قدر الله؟! فيعطيه أخاه ويبارك الله فيه، وينفعه، وينفع نفسه.لكن هذه الحال الآن قد انتهت، فأصبح الذين لهم أموال يضعونها في البنوك، ولا يوجد قرض ولا سلفة، فهبطنا، حتى أن من أقرضته لله لا يرد أو يماطلك، وتقطعت صلات الأخوة الإسلامية بيننا، وكل ذلك بسبب بنوك الربا.ثم أنا أعجب من هذا الصوت! ففي كل البلاد الإسلامية لا يوجد واحد من الخطباء والمدرسين وغيرهم يقول: يا مسلمون! تعاملوا بالربا إن كنتم تريدون كسب المال وجمع الثروة، فوالله ما قال هذا أحد، لا في العجم، ولا في العرب ولا ولا .. فكيف وقعنا في هذا؟ من يعلل لنا هذه الظاهرة؟ولو كانت هناك فتاوى أذنت وأباحت فإنه قد يعذر الناس، فالله قال، وقالت العلماء، لكن ليس هناك.إذاً: كيف نعرف هذا ونعصي الله، ونفسق عن أمره، ونخرج عن طاعته ونتحداه، ونرابي مع المرابين؟!الجوا عندنا: لأننا أعرضنا عن الله فأعرض الله عنا، فعيشوا كما تريدون. وقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93] هذه الباء هي باء السببية؛ إذ لو كانوا مؤمنين موقنين ربانيين والله ما أحبوا العجل، ولا عبدوه.والآن نقول: الذين يعلمون ويرتمون في الربا ما سببه؟ والله إنه لكفرهم بشرائع الله وتعاليمه، فما عرفوا وما أيقنوا، وما كل من قال: أنا مؤمن فهو مؤمن، فالإيمان نور في القلب يولد طاقة تجعل المؤمن حياً، فيسمع ويبصر ويعطي ويمنع، فإذا اهتز ذاك الإيمان، وتحلل وتخلل، وأصبح ضعيفاً كالذي يؤمن ببعض ويكفر ببعض فإنه لا ينتفع به.قال: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بسبب ماذا؟ بِكُفْرِهِمْ فالباء باء السببية فلما كفروا بنعم الله عليهم .. كفروا برسالاته ورسله .. كفروا بلقائه، وتنكروا له .. غطوا .. جحدوا .. فحصل هذا بكفرهم.

    معنى قوله تعالى: (بئسما يأمركم به إيمانكم ...)

    أخيراً يوجه الله تعالى لرسوله هذا الأمر فيقول لهم: قل يا رسولنا أيها المبلغ عنا، قل: بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ [البقرة:93] فإذا كان إيمانكم يأمركم بالربا، وقتل الأنبياء، وعبادة دون الله فبئس هذا الإيمان، فقبحه بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:93] أي: كما تزعمون وتدعون.

    تحذير المسلمين من مشابهة ومتابعة بني إسرائيل في مخالفاتهم الشرعية

    ما أحوج المسلمين إلى هذه الآيات أن يجتمعوا عليها ويقرءوها ويتفهموها، فهذا من باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة)، فإذا كان بنو عمنا قد تورطوا فهبطوا، ولعنوا، واحترقوا، والقرآن يذكر ما أنزل الله بهم؛ أليس معنى هذا: إياكم أن تسلكوا مسالكهم! إياكم أن تمشوا في طريقهم! إياكم أن تقفوا مواقفهم! فإنكم ستهلكون كما هلكوا.هذه ورقة أعطانيها مؤمن يتألم، وفيها أن هذا الكاتب في هذه الجريدة يقول: صوت المرأة عورة! خرافة شائعة. كم من مرة قلنا: إن صوت المرأة عورة آلاف المرات، فهل نكذب أن صوت المرأة عورة، وما معنى عورة؟ هل هو شيء يستحى من سماعه فينبغي أن يستر كما تستر العورات، والعورة ليس معناها السوءة.أيها العامي! كل ما يستحى من كشفه هو عورة تستر كعورة البيت، وهي النافذة، وهذا قال: صوت المرأة عورة خرافة!اسمعوا! روى الشيخان ومالك وأهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أنابه شيء في صلاته فليسبح ) أي: يقول: سبحان الله، فإذا قرع عليك الباب أحد أو ناداك بأعلى صوته: يا فلان! وأنت في الصلاة فلا تقطع الصلاة، واحذر فإنك تتكلم مع الله فلا تعرض عنه وتقبل على هذا المخلوق، فهذه مصيبة لا حد لها، وقد أرشدنا العليم الحكيم صلى الله عليه وسلم أن نقول: سبحان الله، فيفهم طالبك ومناديك بأنك مشغول مع الله فيسكت وينتظر. ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( التسبيح للرجال والتصفيق للنساء )، وفي لفظ: ( والتصفيح )، هكذا، ممكن هذا الصوت يطرب. اسمع! الصوت هكذا يطرب أو لا؟ هذا هو التصفيق، أما التصفيح فهو يضرب بظهر اليد فلا يطرب، والتصفيح للنساء.أيكم أيها الفحول واصدقوني: يرضى أن تتحدث امرأته مع أجنبي؟الجواب: والله لا نرضى أن يسمع صوتها أجنبي.فأين قولهم: من ادعى أن صوت المرأة عورة أنه يقول بالخرافة، وهذه جريدة إسلامية تكتب هذا العنوان، ولا ندخل معهم في كلام، فلقد هبطوا ونزلوا من علياء الكرامات إلى حضيض التراب، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ [النحل:21] فلهذا نتركهم لله.وصوت المرأة عورة عندنا.تقول الصديقة : الديوثة من النساء التي يسمع ضيفها صوتها في حجرتها. وما زالت الطاهرات إلى الآن ما يرفعن أصواتهن إذا هناك ضيوف في البيت.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #76
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )




    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (69)
    الحلقة (76)




    تفسير سورة البقرة (39)

    ادّعى اليهود أن الجنة خالصة لهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم للمباهلة، فلم يفعلوا، ولن يفعلوا؛ لأنهم يدركون فداحة سيئاتهم، وعظم جرائمهم، ولهذا يتمسكون بالحياة، ويعضون عليها بأسنانهم، ولا فرق عندهم بين حياة كريمة وأخرى دنيئة، المهم أن يبقوا على ظهر البسيطة، يتنفسون، ويأكلون، ويشربون، ولا يدركون هم وغيرهم من المشركين أنهم لو عمّروا ألف سنة فإن مصيرهم في نهاية المطاف إلى جهنم وبئس المصير.

    تفسير قوله تعالى: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:94-98] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! بالأمس كنا مع ربنا تعالى وهو يقرّع اليهود ويؤنبهم، ويكشف الستار عنهم، ويضعهم أمام ما تأهلوا له من الخزي، والهون، والدون.ولا بأس أن يؤنب أو يقرع أو يؤدب من يطغى، ويتمرد، ويفسق، ويفجر، فهذه سنة الله في الناس، وقد قرّع اليهود وأنّبهم كما في الآيات.

    مباهلة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود

    ها نحن الآن مع قول ربنا جل وعز وهو يقول لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: قُلْ أي: لليهود الذين يجادلون ويعاندون، إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94] فاليهود قد ادعوا أن الآخرة لهم وقالوا: لسنا في حاجة إلى هذا الدين، وإلى هذا الرسول والكتاب، فنحن شعب خصنا الله عز وجل بنعيم الجنة والدار الآخرة، ولسنا في حاجة إلى أن نؤمن بك، ولا إلى أن نمشي وراءك، وإلى أن نأخذ بكتابك وما جئت به من الدين، لسنا في حاجة إلى هذا كله.أما قال اليهود: قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] أي: مملوءة بالعلم والمعرفة فما نحن في حاجة إلى ما تدعونا إليه.أما ادعوا أنهم هم أهل الجنة، وأنهم إن دخلوا النار لا يبقون فيها أكثر من أربعين يوماً، وهي مدة عبادتهم للعجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24]. فأحبارهم يكذبون، ويلفقون الكذب، ويكتبونه، ويهمشونه على التوراة، والعوام يقلدون ويقولون: لن تمسنا النار أكثر من أربعين يوماً، ولهذا إن فجرنا .. إن رابينا .. إن قتلنا الأنبياء .. إن عذبنا العلماء كل هذا مغفور لنا، وقد نؤاخذ به مدة محدودة أربعين يوماً ثم نعود إلى الجنة. والرب تبارك وتعالى يقول لرسوله قل لهم: إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ [البقرة:94] والدار الآخرة هي نعيم الدار الآخرة في دار السلام، فالمعنى: إن كانت لكم الدار الآخرة -لا لغيركم- خالصة من دون الناس؛ أبيضهم وأسودهم .. أولهم وآخرهم فهيا تمنوا الموت، وهذا يسمى بالمباهلة، فتعالوا واسألوا الله تعالى أمامنا الموت: اللهم أمتنا -يا ربنا- لندخل الجنة؛ دار السلام. فاسألوها صادقين من قلوبكم لتوافق ألسنتكم، وانظروا فإنكم تموتون.فوالله ما استطاعوا، وعجزوا، وخافوا، ولو وقفوا في صف واحد وقالوا أمام رسول الله: اللهم إنا نسألك أن تتوفانا الآن لنستريح من أعباء الدنيا وتكاليفها، ومحنها، ولندخل الجنة دار السلام، لو قالوها لما بقيت فيهم عين تطرف.

    مباهلة الرسول صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران

    حدث للنصارى مباهلة -أيضاً- في مسجدنا هذا؛ ليتقرر عندنا أن اليهودية بدعة من البدع، ما جاء بها كتاب ولا بعث بها رسول، وأن النصرانية -والله- ما هي إلا بدعة مبتدعة، ما جاء بها عيسى ولا غيره.والنصارى كانوا يسكنون في جنوب الجزيرة؛ في نجران، فسمعوا بالدعوة الإسلامية، فجاء وفد منهم مؤلف من ستين فارساً، جلّهم علماء، ونزلوا ضيوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوزعهم على المؤمنين، ودعاهم للمباهلة، فقالوا: باسم الله، فمن كان منا على الحق لا يموت، ومن كان منا على الباطل يهلك.وبالفعل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بـفاطمة والحسنين إلى المسجد، فما إن شاهد النصارى تلك الزمرة النورانية حتى انهاروا وقالوا: لا نباهل، وقال قائلهم: والله لو باهلتم هؤلاء ما بقيت فيكم عين تطرف.فذلوا، وخضعوا، وضرب عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية، وعادوا إلى ديارهم، وقد جاء هذا من سورة آل عمران، إذ قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:59-61]. فخافوا كما خاف الآن اليهود، وما استطاعوا المباهلة.
    دعاء اليهود على أنفسهم بالموت

    الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ أي: الجنة خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [البقرة:94] فالآن موتوا لكي تستريحوا، فلم الحصاد والزرع، والتجارة، والآلام، والأمراض، والأوجاع وأنتم أهل الجنة، فمن الآن: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94].
    تفسير قوله تعالى: (ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم ...)

    اليهود بين تمني الموت وما قدمته أيديهم

    سبق الله تعالى اليهود إلى ما في صدورهم .. إلى ما يريدونه فقال لرسوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ [البقرة:95] بـ(لن) الزمخشرية إن شئتم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا لم؟ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، فما من جريمة إلا اقترفوها، وحسبهم من ذلك قتلهم الأنبياء والعلماء .. استباحتهم الربا والمحرمات، فالخبث بكامله قد انغمسوا فيه، ومع ذلك يتمنون الدار الآخرة، فهم مؤمنون بها، فكيف يتمنون الموت، أليلقوا في أتون الجحيم؟!فأخبر تعالى بما يعلمه من قلوبهم، ومن طبائعهم، وما فطروا عليه: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95] أي: لا يخفى عليه من أمرهم شيء، وهم ظالمون، فسجل عليهم الظلم، ووالله إنهم لظالمون.والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالله أرسل الرسل وأمر بحبهم، وتبجيلهم، وتعظيمهم، واتباعهم، والانقياد لهم، وهم ذبحوهم .. كذبوهم .. قتلوهم .. مكروا بهم، وهذا ظلم.والله تعالى أمرهم بطاعته وطاعة رسله، ففسقوا عن طاعته وعن طاعة رسله، وأي ظلم أفظع من هذا؟!وهم ظالمون والله عليم بهم، فلهذا لا يستطيعون أبداً أن يتمنوا الموت وأن يقولوا: اللهم توفنا الآن، فإنا أولياؤك وعبيدك، مع أنهم كانوا يدّعون أنهم أولياء الله، والبشرية كلها نجس، وهم أقرب الناس إلى الله، فلهذا ترفعوا وسادوا وارتفعوا ولم يرضوا لأحد أن يدخل في دينهم.لكن الله أبطل فريتهم .. أبطل دعواهم فقال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة:95] أي: إلى يوم القيامة، فما جاء يوم من الأيام وتمنوا الموت، فما هناك من هو أجبن من اليهودي، لا يقوى على الموت أبداً؛ لما يعرف من مصيره المظلم؛ ولما يعرف أين ينزل بعد موته في الدركات السفلى من عذاب الله.قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة:95] بسبب: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95].

    لا تمايز بين الخلق إلا بالتقوى والعمل الصالح

    نحن أيها المستمعون والمستمعات ماذا قدمت أيدينا؟ أو نقول هذا في بني إسرائيل فقط!وكذلك نحن إذا قدمنا الخير نثاب عليه، وإذا قدمنا الشر نجزى به، وليس عندنا امتيازات خاصة أو وعود من الله عز وجل أو صكوك أننا إذا فسقنا .. فجرنا .. كذبنا .. ترابينا .. سببنا .. شتمنا فلا نؤاخذ، ليس هناك من ذلك شيء.وقد قيل: الدنيا مزرعة الآخرة، فمن زرع الآن البرتقال، والرطب، والعنب فسوف يحصد ذلك يوم القيامة، ومن زرع الشوك، والسدر، والحنظل وما إلى ذلك فسوف يجني ما زرع، فمن زرع اليوم الإيمان وصالح الأعمال سوف يحصد رضوان الرحمن، وسكنى الجنان. ومن زرع الكذب، والخيانة، والكبر، والحسد، والتعالي، والظلم، والشر، والفساد والله لن يحصد إلا مثيله، ولسنا بأشرف من اليهود أبداً.والحقيقة أن نسبتنا إلى الله واحدة فنحن عبيد إلى سيد، فكونه بيَّضك وسوَّدني .. قصَّرك وطوَّلني .. أغناك وأفقرني هذا لا قيمة له، فهو ابتلاء فقط في العمل، أما نسبتنا فهي أننا عبيد لله، فمن أطاعوا سيدهم، وخنعوا، وخضعوا له، وذلوا، واستكانوا رفعهم، ومن تكبروا عنه، وتعالوا، وحاربوه أذلهم وأهانهم. ولا فرق بين أحد وأحد إلا بتقوى الله عز وجل، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قرر هذه الحقيقة وعلمناها فقال: ( لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى )، وقال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

    النفس البشرية بين التزكية والتدسية

    قد قررنا وعرفنا -أيها السامعون- حكم الله في البشرية، واسمعوا الله تعالى يحلف لكم لتطمئن نفوسكم، وتسكن قلوبكم إلى صدق هذا الخبر، بسم الله الرحمن الرحيم: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]. فإن قال قائل: لم تحلف يا ربنا؟ فالجواب: لتعرفوا حكمنا في البشرية، فتسلكوا سبل النجاة، وتبتعدوا عن طرق الهلاك والخسران، فمن أجلكم حلف الرب تعالى.لكن ما هذا الحكم الذي حلف من أجله؟اسمع واحفظ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] واطوِ الصحيفة.فقوله: (قد أفلح) هل الرئيس .. الشريف .. الغني؟! الجواب: ( من زكاها) أي: زكى نفسه، ومعنى (زكاها): طيبها وطهرها بأدوات التزكية والتطهير التي وضعها الله لذلك، والفلاح هو الفوز، يقال: فلان فاز أي: نجح في الصفقة التجارية الفلانية .. نجح في الامتحان، ومعناه هنا: أُبعد عن النار، وأُدخل الجنة؛ دار الأبرار.والله سبحانه وتعالى هو الذي بين لنا هذا الفوز، وقد قال من سورة آل عمران: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] هل هناك: إلا نفس فلان وفلان أو إلا أنفس بني فلان؟ لا يوجد، وهذا الحكم لم يتخلف، ولذلك الحكم الثاني أيضاً -والله- لا يتخلف قال تعالى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]. فوجب على كل مؤمن ومؤمنة .. عرب وعجم أن يحفظوا هذا الحكم الإلهي.إذاً صدر الحكم على البشرية ونصه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فهنا يتم تقرير المصير وليس في يوم القيامة، وكل عاقل مكلف بلغ سن الرشد هو الذي يقرر مصيره بيده، قال الحاكم العدل رب العالمين: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] فأسند الفلاح والتزكية له، أي: أفلح من زكى نفسه وخاب من دسى نفسه؛ لأن النفس الزكية، الطاهرة، النقية هي التي يقبلها الله في جواره، وهي التي يرضى بأن تسكن في دار السلام.أما النفس الخبيثة المنتنة العفنة فلا يرضاها الله أبداً، ولا يتلاءم معها الطهر والكمال في دار السلام، إنما يتلاءم معها حفر الجحيم، ولظاها، ولهبها، ودخانها.وهنا مثل عامي: فلو يدخل الآن علينا رجل قد تلطخت ثيابه بالبول، والخر، والأوساخ، والدموع، والدماء فهل تفسحون له ليجلس معكم؟ أكثركم سيقول له: اذهب .. اخرج .. خذوه .. طهروه، هذا لا يدخل هنا! وهذا المعنى واضح.كذلك الذي يأتي بنفس عفنة، منتنة، كيف يدخل الجنة؟! وقد قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14].فإن قال قائل: لم الأبرار في النعيم، والفجار في الجحيم؟فالجواب: الأبرار لبرورهم، والفجار لفجورهم، فالأبرار المطيعون الذين زكوا أنفسهم وطهروها مآلهم إلى الجنة، والفجار الذين فجروا عن تعاليم الله، وفسقوا، ولطخوا أرواحهم، وخبثوها، هؤلاء يتلاءم معهم أتون الجحيم.اسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نادى بني هاشم رجع إلى ابنته وقال: ( يا فاطمة ) فيناديها باسمها العلم وهي تسمع ( إني لا أملك لك من الله شيئاً فأنقذي نفسك من النار )، أي: آمني واعملي الصالحات.إذاً: هذه الآيات كلها هي فينا، وهي كذلك في اليهود، فإنهم لما ادعوا أن الجنة لهم قال تعالى لهم: هيا اطلبوا الموت حتى تدخلوا، لكنهم -والله- لا يطلبونه.ولو نطالب به نحن فإن الصالحين الطاهرين يفرحون بدار السلام، ولو ندعى إلى الجهاد لتسابق المؤمنون إلى دار السلام.

    سوء ما قدمه اليهود من أعمال

    نعود إلى السياق الكريم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ [البقرة:95] أي: الموت، أبداً لم؟ بما والباء سببية، أي: بسبب ما قدمته أيديهم من ذبح الأنبياء والعلماء، وأكل الربا، وإباحة الزنا، والخيانة والغش، والخداع، وكل أنواع الجرائم التي انغمسوا فيها، وما زالوا فيها إلى الآن.

    سعة علم الله بأحوال عباده

    قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95] فيجزيهم بحسب ظلمهم يهوداً كانوا أو غير يهود .. عرباً أو عجماً .. في الأولين أو الآخرين.وهل هناك ظالمون لا يعلم الله بهم؟!يقول قائل: بعض الظالمين عندهم حيل وستائر عجيبة لا يطلع الله عليها.تقول له: يا هذا! الله تعالى يقول: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].ومن ذلك على سبيل المثال أن تظهر فتاة من على السطح، أو ينكشف الستار عنها وهي على الجمل فتجد من الناس من يتكلم معك وهو يخون ويسترق النظر.فإن قال قائل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟! هل هذا معناه أنه لا يجوز لنا أن ننظر إلى النساء؟! وقد قالت إحدى الصحف: القول بأن صوت المرأة عورة خرافة، فدعوها تغني.أقول: نحن نمشي مع بني إسرائيل خطوة خطوة إلا من سلم الله عز وجل، فالذين يقولون: صوت المرأة ليس عورة، أما يعلمون أن الله يقول: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ [غافر:19] فالعين تخون، وخيانة العين تكون بالنظر إلى شيء حرمه الله، ولقد كتب الله تعالى صالحات الصالحين وسيئات المسيئين في كتاب المقادير قبل أن يخلقهم، فكيف هذا يسأل: كيف أن الله يعرف أو لا يعرف؟!
    تفسير قوله تعالى: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ...)

    حرص اليهود والمشركين على أي حياة

    قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إذ هو الذي يجابه هؤلاء الطغاة من اليهود قال له: وَلَتَجِدَنَّهُ مْ وهذه اللام موطئه للقسم المقدر: وعزتنا، وجلالنا يا رسولنا لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]. وإخواننا الفلسطينيون هم الذين يعرفون أن اليهودي أجبن وأذل ما يكون. لم؟ لأنهم خائفين من الموت؛ لأن وراء الموت جحيماً، وسموماً، وعذاباً أليماً، وهم موقنون أشد اليقين بأن جزاءً لابد منه للكسب الدنيوي، فلما تلطخوا بكل أنواع الجرائم لا يتمنون الموت، ولا يرضى أحدهم أن يموت.أما أهل دار السلام فوالله إنهم يطربون، وقد كان أحدهم يرقص فرحاً بالموت كما في بدر وأحد.إذاً: كل من كان ملطخاً بالذنوب والآثام فإنه لا يفرح بالموت، ولا يطرب له فضلاً عن أن يتمناه، وكل من زكت نفسه، وطابت، وطهرت فهو يفرح بالموت، ولو رأى رؤيا تبشره بالموت لفرح، فالجنة خير، فالدنيا فيها مشاق وآلام، وأتعاب، وأمراض، وسقم، وفي الجنة نعيم مقيم، يأكلون ويشربون تفكهاً فقط، لا يمرضون، ولا ينامون .. ولا يكبرون، ولا يهرمون، ولا ولا .. أما طعامهم وشرابهم فيتحول إلى عرق وجشاء رائحته أطيب من ريح المسك، قد خلقهم الله على هيئة لا تقبل الفناء أبداً، فكيف لا يفرح العاملون الصالحون بالجنة والموت.قال: وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] هل قال: (على حياة) أو (على الحياة)؟ قال: (على حياة) أي: ولو كانت أخس حياة وأرخصها، فهي نكرة في سياق نفي تفيد العموم، فهم أحرص الناس على أوسخ حياة، وأقلّها، وأدناها، فليست حياة العز والكمال والسعادة، وهذه لا يلامون عليها، فأرخص حياة يقبلونها: وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96].وهناك نوع آخر من البشر يحبون الدنيا، والحياة، والخلود قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة:96] فمن المشركين والمجوس والنصارى و.. من يود أن يعيش ألف سنة، وممكن أن يوجد حتى بين المسلمين الضائعين من يود أن يعيش ثمانين عاماً .. مائة عام.قوله: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة:96] فما قال: وكل المشركين، فهذا العليم العظيم يعرف النفسيات والطباع، فيوجد من المشركين من يود أن يعيش ألف سنة، أما اليهود فلا يريدون الموت أبداً، لا يتمنونه، ولا يريدونه بحال من الأحوال؛ لعلمهم بالمصير المظلم الذي سيصيرون إليه بعد أخذ أرواحهم؛ لأنهم يؤمنون بالبعث والجزاء والدار الآخرة.أما المشركون فمنهم من لا يؤمن بلقاء الله بالمرة، فلهذا يكره الموت ويريد أن يعيش ألف سنة.قال تعالى: وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] لو يعمر الإنسان مليون سنة ممكن لا يعذب لهذا العمر؟ فلا ينفع، فمن الآن أحسن، وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ والزحزحة هي الإبعاد.قال: وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ أَلْفَ سَنَةٍ فلو عمر أحدهم ألف سنة، فهل هذا التعمير، وهذا الطول في العمر يبعده عن النار؟ لا يبعد عن النار، طال العمر أو قصر، إنما يبعده عنها زكاة النفس وطهارتها فقط.

    وسائل تزكية النفس

    إن قال قائل: يا شيخ! أنت تقول: زكاة النفس، فدلنا يرحمك الله على أدوات التزكية أين توجد وأين تباع وفي أي صيدلية؟ وهذا السؤال ضروري للعقلاء الذين ما علموا: ما دامت القضية منوطة بتزكية أنفسنا فمن فضلك دلنا على هذه الأدوات والعقاقير التي نزكي بها أنفسنا، أو ليس هناك عقاقير ولا أدوية؟الجواب: والله توجد، والصيدلية هي صيدلية الله ورسوله، وقال الله، قال رسوله؛ الكتاب والسنة، فإنك تجد فيهما كل أدوات التزكية من كلمة: لا إله إلا الله إلى إماطة وإزالة الأذى من طريق المؤمنين والمؤمنات.فكل عبادة من أعمال القلوب أو الألسن أو الجوارح هي عبارة عن أداة تزكية للنفس البشرية وتطهيرها، ولا بد من استعمالها حسب الشروط التي وضعت لها؛ إذ لابد من مراعاة الكيفية فلا تقدم ولا تؤخر، ومراعاة الزمن فلا توقعها في غير زمانها، ومراعاة العدد، فلا تزيد ولا تنقص وإلا ما تنتج.وأعظم أداة في تزكية النفس البشرية وتطهيرها ذكر الله، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] وذكر الله شرطه أن تكون في مكان طاهر، وأن يتحد قلبك ولسانك معاً، فعندما تقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم فلابد أن يكون قلبك مع لسانك، فإن قلت بلسانك وقلبك غافل فإن ذلك لا ينتج، ولا يولد الطاقة، وإن ذكرت فقط بالقلب واللسان فذلك لا ينفع، ولا ينتج.إذاً لابد من توافق القلب واللسان، ومن هنا كانت الصلاة أعظم مولد للنور أو للطاقة النورانية، فلا توجد عبادة أكثر توليداً للحسنات وللطاقة النورانية من الصلاة أبداً، وبعض السامعين لا يعرفون كيف تولد الصلاة النور؟ كالماكينة الصغيرة التي تولد الكهرباء وتدور الآلات، فإذا خربت لا تولد.فالصلاة أعظم مولد للطاقة النورانية، واقرءوا إن شئتم: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا ألله؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] أي: في توليد هذه الطاقة، إلا أن الصلاة لا تنتج نتاجها، وتؤدي ثمارها إلا إذا استوفت شروطها.وقد بينا سابقاً أن للصلاة شروطاً لابد من استيفائها، ومن ذلك الطهارة، والتي تشمل: طهارة المكان، وطهارة البدن، وطهارة الثياب، فأنت في الصلاة كيف تقف أمام الله، وتتكلم معه، وأنت نجس؟ هذا لا يجوز، وكيف تقف في مكان نجس وتناجي الله في الصلاة، فهذا لا يصح، وكيف تقف في الصلاة وجسمك ملطخ بالقذى والأذى، وتتكلم مع الله، هذا حرام -يا عبد الله- وعليك أن تتطهر.والصلاة إذا كان لها وقت معين كصلاة العشاء بقي عليها ثلثها فلو قلتم: هيا نصلِّها الآن، فهذه الصلاة لا تولد لك النور، ووالله لا تولد حسنة، فهي كالعملية الفاشلة؛ لأنه يشترط لها وقت تقع فيه، وإلا ما أنتجت. والوقت ضروري لأية عبادة مربوطة بوقتها، ومن ذلك أيضاً: ( الحج عرفة ) الذي هو تاسع شهر ذي الحجة، فلو اتفقت الأمة بملوكها ورؤسائها أن الحج هذا العام يقع في المدينة، وعلى جبل أحد الذي هو أشرف من عرفات، فوقف الحجاج على جبل أحد لقلنا لهم: حجكم غير صحيح، ولا يصح هذا الحج.وكذلك لو قالوا: هذا العام الحر شديد، فدعنا نعمل الحج هذا العام في الشتاء، ووقفوا فعلاً في الشتاء فهل يقال: حجوا؟ كلاء والله ما حجوا.وهكذا كل عبادة وضعت لتزكية النفس وتطهيرها بما تولده من الحسنات لابد وأن يراعى فيها أن يكون الله قد شرعها لذلك، ولهذا لو أن مليون بدعة أنفقت فيها مالك كله، وتبدد طاقاتك وجهدك كله، فهذه والله لا تولد جرام حسنة؛ لأن البدعة ما شرعها الله، والذي لم يشرعه الله من يوجد فيه المادة النورانية؟ من يقوى؟ وهذا والله ليس بممكن.وهل يستطيع أحدنا أن يوجد مادة الغذاء في الرمل .. في الحصى .. في الطين .. في التراب؟ لا يستطيع؛ لأن الله ما أودعها هناك، إنما أودعها في البطيخ، والعنب، واللحم، والخبز.وهل يستطيع البشر -لو اجتمعوا كلهم- أن يوجدوا عبادة ولو بالقول على أن من عملها تزكو نفسه عليها وتطيب وتطهر؟ الجواب: لن يستطيعوا، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] فهذا الأمر لله وحده.ولهذا الصلاة لو توقعها في غير وقتها فإن الفقيه يقول: بطلت، ونحن نقول: ما أنتجت. فالصلاة عندما تنقص شروطها أو تقدم أو تؤخر فيها يقول الفقيه: صلاتك باطلة يا ولد. ولو تصلي أمام فقيه، ولا تطمئن في الركوع، ولا السجود يقول الفقيه: صلاتك باطلة. ونحن لا نقول: باطلة، إنما نقول: لا تزكي نفسك، ولا تولد لك النور الذي هو الحسنات، فأعد صلاتك.وهكذا كل العبادات.

    أهمية الإيمان والعمل الصالح

    نعود إلى السياق الكريم قال: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] أي: تعميره الألف سنة والمليون لا يزحزحه من عذاب الله.وما الذي يزحزح عن العذاب؟الجواب: الإيمان وصالح الأعمال؛ لأن الإيمان يدفع إلى اكتساب الحسنات، والحسنات هي التي تزكي النفس وتطهرها. واقرءوا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107]، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [البروج:11]، فتجد الإيمان والعمل الصالح، فالإيمان يقوي نفسك وقدرتك على أن تصلي وتصوم وتجاهد وتتصدق، وتلك الأعمال الصالحة هي أدوات التزكية .. هي التي تنظف القلب البشري وتطهره. والسيئات هي التي تصيب القلب بالظلمة، والنتن، والعفونة.واسمع رسول الله يقول: ( إذا أذنب العبد ذنباً ) أي: اقترف خطيئة سيئة، وسمي الذنب ذنباً لأنه يؤخذ به الإنسان كما يؤخذ الحيوان من ذنبه، ونحن نؤاخذ بذنوبنا، والحيوانات تؤخذ بذيولها وأذنابها.قال: ( إذا أذنب العبد ذنباً وقع نكتة سوداء في قلبه )، كهذه، ( فإذا تاب ونزع صقل ذلك المكان وطهر ) كالزجاجة المشرقة إذا وقع فيها شيء ما لطخها، ومن الممكن أن تمسحها ويزول على الفور، ويبقى النور والإضاءة، وكذلك قلب الإنسان أو نفسه.قال: ( وإذا لم يتب وأذنب ذنباً آخر وقع إلى جنب النكتة الأولى )، وهكذا تتزايد الذنوب حتى تتسع الرقعة، فالذنب إلى الذنب إلى الذنب بلا توبة، ولا مسح ولا صقل حتى يلطخ القلب كله، ويحجب عن الإيمان، وعن عمل الصالحات.قال صلى الله عليه وسلم: ( فذلكم الران الذي قال الله فيه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] ) ولهذا من لطف الله بأوليائه ورحمته بعباده المؤمنين أنه شرع لهم التوبة الفورية، فإذا شعرت بالذنب فعلى الفور قل: أستغفر الله وأتوب إليه. وابتعد عن الخطيئة ينمحي ذلك الأثر، وقل: آمنت بالله.فإن أنت أصررت وما باليت، وواصلت الذنب إلى الذنب، فسيأتي يوم لو تعرض عليك التوبة -والله- ما تقبلها، بل لو قيل لك: استغفر الله. تهزأ وتسخر. أما سمعنا الله تعالى يقول من سورة النساء: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] لمن؟ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17]. قال: (من قريب) لأنه إذا واصل في الذنب فإنه سينطبع في نفسه طابع، ويصبح لا يرضى إلا ذلك الذنب. واسألوا الذين تعودوا الأفيون والكوكاين تجدوهم يقولون إنهم الآن يستعملون الإبر، ولا ينفع أن يأخذ بدلها حبة.وكذلك هو حال الذي قد تعود اللواط .. السرقة .. الخيانة، فهذا شأنه.قال بعض علماء النفس: الذي تعود السرقة وتمرن عليها، لما يلقى عليه القبض، وتوضع الحديدة في يده ويمشي، فتعرفه بأنه سارق، وأنت في ذلك الوقت تخاف وترتعد وتقول: يا ويله. لكن السارق في ذلك الوقت يفكر كيف يسرق مرة ثانية! وكذلك عندما يصل إلى السجن تجده يفكر كيف يسرق إذا فكوه بعد عام أو عامين؟ فانظر بماذا يفكر هو، وبماذا تفكر أنت، فتجد العكس.والله سبحانه وتعالى خالق الأنفس، وطابع الطبائع، وغارز الغرائز هو الذي يقول: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17].وإذا واصل الجريمة فقد يحال بينه وبين التوبة قال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، الآن! لا، قد فات الوقت .. فات الأوان يا بني: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، فإذا حشرجت في الصدر، وقال الطبيب: ودعوا أخاكم، فلو استغفر وتشهد، فوالله لا ينفع، فقد انتهى أمره.وهذا من باب الرحمة المحمدية، يقول: ( إن الله يقبل توبة العبد .. )، والله لحق، لكن لا يستطيع أن يتوب عبد غرق في بحور الآثام والذنوب، فسفك الدماء، ومزق الأعراض، ودلوني على واحد تاب من هذا النوع، فما عنده قابلية التوبة، لكن إن تاب هل يرده الله؟ لا والله: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، فإن حشرجت في الصدر، وعرف المودعون والزوار فحينئذٍ لا عودة، قد انتهى أمره.وهكذا يقول تعالى وقوله الحق: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] أي: التعمير: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96]، فالله أسأل أن يتوب علينا وعليهم، وأن يغفر لنا ولهم، وأن يرحمنا وإياهم، وصل اللهم على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #77
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (70)
    الحلقة (77)




    تفسير سورة البقرة (4)

    أخبر سبحانه وتعالى عن المنافقين أنهم إذا قال لهم المؤمنون: لا تفسدوا في الأرض بالمعاصي وموالاة الكافرين كان جوابهم بأنهم هم المصلحون لا غيرهم، وأن صلاحهم ظاهر للعيان، فلا يمكن إنكاره، فإذا قال لهم المؤمنون: آمنوا كما آمن الناس، أجابوا بأن من آمن هم سفهاء العقول، الذين لا رشد لديهم ولا بصيرة، فرد الله عليهم دعواهم بأنهم هم أهل السفه والجهل، ونفاه عن المؤمنين.

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السياق الكريم ما زال في كشف عورات المنافقين، وإظهار ما هم عليه من الخبث والنفاق.وقبل ذلك نشير إلى ما سبق من أن الناس ثلاثة أصناف: مؤمنون أتقياء، كافرون مشركون، منافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.

    طائفة المؤمنين المتقين

    الطائفة الناجية الكاملة السعيدة هي طائفة المؤمنين المتقين، الذين قال تعالى فيهم: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:3-5]، أي: الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار.إيمان، وتقوى، وإنفاق في سبيل الله عز وجل، وإيمان بكل ما أمر الله بالإيمان به من الكتب والرسل، والدار الآخرة وما فيها من حساب وعقاب وجزاء، فالمتصفون بهذه الصفات هم المفلحون، وهم الذين يجدون في القرآن الكريم الهداية، ويهتدون بها وينتفعون.

    صنف الكفار

    الفريق الثاني: الكفار، أي: الجاحدون لله تعالى في وحدانيته، في إلوهيته، في أسمائه، في صفاته، في عباداته، وكل كافر مشرك، وكل كافر ظالم.وخلاصة القول: أن من لم يؤمن بالله ولقائه وما أمر الله تعالى بالإيمان به من شأن الغيب، فهذا هو الكافر، بمعنى الجاحد المكذب، وقد يكون كافراً كفر عناد، والعياذ بالله.وهذا الصنف من الكفار قد علم الله أن منهم من يموت على كفره، فيصر على الجحود والمكابرة والتكذيب، حتى يموت على كفره فيخلد في عذاب النار.والرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقول له ربه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7]، علمنا: أنه ليس من حق أحد أن يقول: إذاً من ينذر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم ينذر الذين كفروا فمن ينذر؟ وعلمنا أن الله عز وجل أخبره بأن بين الكافرين أفراداً ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وعميت أبصارهم، فلا يدخلون في رحمة الله.إذاً: واصل دعوتك وإنذارك للناس، وإن أصر أناس على الكفر فلا تحزن؛ لأن منهم من كتب الله أزلاً شقوتهم وشقاءهم على بعض.ولا يقولن قائل: إذاً: لِم الإنذار والتخويف والترغيب والترهيب ما دام قد حكم الله بشقائهم وموتهم على الكفر؟نقول: لا تقل هذا، فلم يقل الله تعالى: إن أبا لهب ، إن عمرو بن فلان .. إن فلاناً، لو أنزل تعالى فيهم قرآناً بأسمائهم ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعب، ولا يشقى ولا يأتيهم إلى أبوابهم، ولا يطالبهم، لكن الله عز وجل أمره بأن ينذر ويبلغ ويدعو، فلما رأى أناساً مصرين معاندين مكابرين هون عليه تعالى ذلك، وقال: لا تحزن ولا تأسف عليهم، فقد كتب الله شقوتهم أزلاً.ثم ذكرنا -ولا ننسى- أنهم ما ولدوا كفاراً معاندين، وإنما ولدوا على الفطرة، ثم أخذت الشياطين تزين لهم الباطل وتحسنه لهم، فكفروا وأشركوا، ثم تعمدوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام، وأخذوا يتوغلون في الفتنة، ويسعون فيها ليل نهار، يستهزئون، ويسخرون، ويكذبون، ويعاندون، فما زالوا كذلك والنور ينطمس، والفطرة تفسد شيئاً فشيئاً، حتى ختم الله على قلوبهم، فما أصبح يجد الإيمان منفذاً إلى قلوبهم، فقد ختم عليها بالكامل، وعلى سمعهم ما يسمعون، أي: ما أصبحوا يرتاحون لسماع الحق، فيسمع كل شيء إلا إذا ذكرت لا إله إلا الله أو محمد رسول الله أو الإسلام فلا يسمع.وقد جاء من سورة هود قول الله تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ [هود:20]. وأيام الطفولة والصبا والطلب، كنا نعجب كيف ما يستطيعون السماع؟! كيف له أذن يسمع وما يقدر وما يستطيع؟ً وما وجدنا من نسأل، فبقي في أذهاننا العجب: كيف لا يستطيعون السماع؟ وتمضي الأيام، وبلغنا أشدنا وعاصرنا الأحداث والمشكلات، فتحقق ذلك، فأصبحنا لا نقدر على سماع هذا الكلام، والله ما أستطيعه.وشاء الله أن أسافر من المدينة إلى الديار المغربية بطريق البر، فركبنا السيارة من القاهرة إلى تونس، وفي طريقنا ليلاً في الأراضي الليبية سمعنا إذاعة صوت العرب، وفيها أكاذيب وأباطيل وحقائق، فسمعت لأول مرة أن الملك سعود -تغمده الله برحمته- مر بموكب من مواكبه وإذا ببدوية على حمارة فأمرهم فاختطفوها له! والله لا إله إلا الله، كيف يقال هذا الكلام! كيف يسمع؟ لصالح من هذا الكلام؟! فمن ثم ما أصبحت والله العظيم أطيق سماع صوت العرب.وأنتم تعرفون إذا أبغضتَ إنساناً أو إنسانة -كما يقولون- ما ترتاح لكلامهم، يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [البقرة:19] لِم؟ ما يقدرون أن يسمعوا الكلام الحق.إذاً: له سمع وما يستطيع، له بصر وعليه غشاوة وبياض فما يبصر، ما سبب هذا؟ المشي خطوة خطوة في الضلال، وفي الخبث، وفي الشر، وفي الفساد، حتى يأتي الطبع والختم، وحينئذٍ يصبح لا يعقل، ولا يفهم، ولا يفكر.فما هي -إذاً- زبدة هذا؟ أن نتحاشى الإسرار والاستمرار في الباطل، فإنه يقودك إلى أن تصبح تنكر الحق، وهذه هي الثمرة التي يجنيها أهل القرآن، فمن أذنب ذنباً ووقع فيه فليعجل بالتوبة إلى الله، حتى يمحى ذلك الأثر ويزول، أما الاستدامة والاستمرار فيؤدي به إلى أن يفقد حاسة السمع والبصر والعقل، والآيات تكشف هذه الحقيقة.

    صنف المنافقين

    الصنف الثالث: المنافقون. من هم المنافقون؟قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، يعلنون عن إيمانهم: آمنت بالله وبلقائه، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ومع ذلك الله يحكم بعدم إيمانهم؛ لأنه خالق طباعهم وغارز غرائزهم، فهو الذي يقلب القلوب، فعلم أنهم ما هم بمؤمنين، يقولون: مؤمنون، مسلمون، آمنا، في المجامع والمحافل وبين الناس. وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]. أي: ما اعتقدوا عقيدة الحق، أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن هذا الكلام كلام الله، وأن لقاء الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، فما اعتقدوا وما صدقوا، ما استساغوا أبداً العقيدة الصحيحة، واضطرتهم الظروف التي يعيشون فيها، حيث ظهر الإسلام وعلا، وأصبح له دولة في المدينة، وهم منافقون من المشركين ومن اليهود، ومنافقو اليهود أكثر.إذاً: فها هو تعالى يكشف الستار عنهم من أجل علاجهم، وهل نفعهم هذا؟ إي نفعهم، فما مات الرسول صلى الله عليه وسلم -وهي عشر سنوات فقط- وما بقي منافق في المدينة، وما سبب ذهابهم؟ عدد قليل منهم مات، وأكثرهم عرفوا الحق واتبعوه بواسطة هذه الدعوة الربانية، وهذه الآيات القرآنية.قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8] ناس، ما يسميهم مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، إذاً: لِم يقولون هذا؟ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:9]، يظهرون الإيمان باللسان وبالأركان، أما العقد والجنان فهو فارغ، ففيه الكفر، ما آمنوا أبداً بلقاء الله، ولا أن هذا رسول الله، ولا أن هذا كلام الله.إذاً: يخادعون الله، فيظهرون له وللمؤمنين أنهم مؤمنون، وهو يخادعهم، فهو ما أنزل قرآناً فيه: إن فلاناً وفلاناً منافقون كافرون، بل ستر عليهم وما فضحهم حتى يمضي أمر الله وحكمه فيهم.قال تعالى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]، فلو كانوا يحسون أو يعقلون أو يفهمون ما يرضون بالنفاق، فإما أن يصرحوا بكفرهم ويلتحقوا بالكافرين، أو يقاتلوا وإن تحطموا وخسروا، أو يؤمنوا ويسلموا، لكنهم فقدوا الشعور الحي الحق النافع، والإحساس الحقيقي ما عندهم، وسببه ظلمة الجهل وأنهم جهال، وأكثرهم مقلدون أتباع لرؤساء الفتنة من شياطين المنافقين من العرب واليهود في المدينة.وزادهم بياناً فقال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10]. مرض الشك والشرك والنفاق والحسد والكبر، وتلك العلل والأسقام إذا تجمعت في القلب حالت بين العبد وبين الاستقامة على منهج الله.إذاً: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] هذه الجملة ليست دعائية، بل هي الواقع، لماذا؟ المرض إذا لم يعالج ويترك وتزيد أسبابه وعوامله يزيد ويزيد حتى يهلك صاحبه: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] حسب سنته؛ في أن من يصاب بمرض في جسمه وقلبه إذا لم يعالج فيبرأ ويشفى، واستمر على استعمال عوامل المرض وأسبابه ينمو ويزداد المرض، فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا حسب سنته، أكل ملعقة ثم مات، فإذا زاد ملعقة أخرى وثالثة ورابعة هلك.وتوعدهم الله علهم يرجعون إلى الحق ويئوبون إلى الصواب، فأخبر وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:10]، أي: موجع يذهب بعذوبة حياتهم، لم يستعذبوا طعاماً، ولا شراباً، ولا مناماً، ولا نكاحاً، ولا راحة أبداً، فهو عذاب من شأنه أن يذهب تلك العذوبة، ولهذا يسمى العذاب الأليم الموجع، الذي يحمل الألم الشديد، وعلل تعالى ذلك؛ لأنه يريد هدايتهم، فقال: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10]، أي: بسبب كذبهم على الله وعلى المؤمنين وعلى رسول الله، والمنافق إذا حدث كذب، وذلك الكذب كان حائلاً بينه وبين قبول دعوة الحق والاندماج في جماعة المسلمين، فهم يصرفون أنفسهم عما طلب منهم من الهدى بالكذب، فكانت النتيجة هذا الوعيد الشديد، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:10] بسبب ماذا؟ بتكذيبهم، قرئ: (يُكذِّبون) و(يَكذِبون).
    تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)
    قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11]، من القائل لهم؟ الله. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11]، ننظر أن هناك رؤساء النفاق يوجدون في حي بني فلان في بني فلان، هؤلاء لهم صلات بالمشركين في مكة وفي غيرها، ويعملون على تأليبهم على رسول الله والمسلمين.أو شخص مؤمن صادق الإيمان وأخوه، أو أبوه، أو عمه، أو جاره، يشاهد فيه مظاهر الاستهزاء والتلاعب وعدم الإيمان، فينصح له: يا فلان! لا تفسد في الأرض، فهذه الأرض أرض الطهر، كيف توالي الكافرين؟! كيف تخلو بهم وتتحدث معهم؟! كيف توءاكلهم؟! ما حالك؟ ما شأنك؟ ما أنت بمؤمن؟!يردون عليهم: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]، لِم؟ نحن ما ندري هل هذه الدعوة تنتصر؟ غداً تنكسر ويحكمنا الفلانيون والفلانيون، كيف يكون موقفنا وموقف أولادنا ونسائنا؟ فنحن نريد أن نعمل عملاً يجدينا وينفعنا، فاتصالنا بفلان وفلان من أجل أنه ربما يقع الذي يحوجنا إليهم، فنحن في هذا مصلحون ولسنا بمفسدين. وليس الرسول هو الذي يقول لهم هذا، هذا يقوله المؤمنون لبعضهم، ممن له أخ أو قريب من المنافقين: لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11].والإفساد في الأرض معاشر المستمعين والمستمعات! لا يكون بحفر الأرض أو إسقاط المباني أو هدم الجبال، بل الإفساد في الأرض يكون بمعصية الله ورسوله، فارتكاب المعاصي، وغشيان المحرمات، وترك الواجبات والله لهو الفساد.وجاء في غير ما موضع: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56] فالفساد في الأرض هو أن يعطل شرع الله وقوانينه التي شرعها وأنزلها لإسعاد البشرية وإكمالها .. لإبعاد البلاء والشقاء عنها .. لتحقيق سعادتها في الدنيا والآخرة، فمن رفض تلك القوانين الإلهية والشرائع الربانية وعمل بضدها، فأحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله، وترك ما أوجب الله، وفعل ما حرم الله فهذا هو المفسد في الأرض. وهذا القرآن عجب، جملة كهذه: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [الأعراف:56] كيف يفسدون فيها؟ بموالاتهم للكافرين ولرؤساء النفاق، وهذا ينتج عنه ترك طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وينتج عنه الإصرار على الكفر وزيادة النفاق والمنافقين، وهذا فساد في المدينة أو لا؟ هو الفساد بعينه، لكن بعبارة موجزة العجب: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11].وهل هذا الآن موجود؟ إيه، ما أكثر الرؤساء والزعماء والفنيون وأرباب العلوم و.. و.. و.. يعتقدون أن بنوك الربا مما تفتقر إليه الأمة وتحتاج إليه، وهذا إصلاح وليس بفساد أبداً، ويفتحون مصانع للخمور ويصدرونها ويبيعونها ويدعون أن حياة الأمة متوقفة على هذا: هل تريدون أن تلصق الأمة بالأرض أو تمد يديها للكفار؟ فيستبيحون الربا: صنعاً، وشرباً، وبيعاً.يصرفون المؤمنين عن تعاليم الله ورسوله، ويضعون خططاً في مناهج التعليم، حتى أصبح في العالم الإسلامي حصة التوحيد؟ لا، حصة الدين حصة أو حصتين في الأسبوع -باستثناء هذه المملكة- فيأخذ الطالب الشهادة الأولى والثانية والثالثة وهو ما عرف معنى لا إله إلا الله، ويدعون أنهم في هذا مصلحون: كيف يرتقي الشعب؟ كيف يخرج من دائرة التخلف إذا لم نحفظ ونعمل ونقرأ ونتعلم؟ ودعونا من كلمة دين، واعبدوا الله كما شئتم.فأفسدوا مناهج التربية والتعليم في العالم الإسلامي تحت هذا الشعار: نحن مصلحون. نريد رقي الشعب وتحركه وتحرره لا اللصوق بالأرض والهبوط. فهمتم هذا أو لا؟ لأن هذا القرآن ما نزل لثلاثة أيام فقط أو لأيام المدينة: عشر سنوات، هذا كتاب الهداية الإلهية إلى يوم القيامة.فكثير من المعاصي الكبيرة والجرائم أوقعوا فيها أمة الإسلام تحت هذا الشعار: نحن مصلحون، أنتم تتصورون أننا نفسد بل نحن نصلح، وهذا لصالح الأمة، وصالح الشعب.يبقى: هل هم على علم؟ منهم من يعرف أن هذا العمل ضد شرع الله وقوانينه، ومنهم المقلدون الجامدون يقلدون غيرهم ويقولون ما لا يعلمون.

    تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)

    قال تعالى: أَلا [البقرة:12] ألو. لماذا دائماً نقول: ألو؟ أسري عليكم، لأنكم ألفتموها، فبناتكم ونساؤكم ورجالكم حتى الطفل الصغير: ألو، فهم معناها، وتأتي (ألا) شبيهة لها، لكن ما فهمنا. أَلا [البقرة:12] اسمع، أحضر مشاعرك وحواسك فالأمر والخطب عظيم، فهي تقال عند إلقاء الأخبار باستعداد النفوس لقبولها وأخذها، فاسمع ماذا قال تعالى؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:11-12] هذه الكلمة ما قالها علي بن أبي طالب أو أبو بكر ، وما قالها حتى رسول الله، هذه قالها الله ربهم ورب كل شيء ومليكه والأعلم بهم أكثر من أنفسهم. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12] المفسدون لأي شيء؟ إذا عرفنا الإصلاح بم يكون نعرف الفساد بم يكون. وأصل الفساد هو ما يفقد الشيء ثمرته الطيبة، تقول: فسد الطعام، فسد الخبز، فسدت الفاكهة، بمعنى: طرأ عليها ما أفقدنا طعمها ولذتها ومنفعتها، فأصبحت لا تجدي ولا تنفع.إذاً: العمل بشرع الله وقوانينه يسعد الإنسان في هذه الدنيا وفي الدار الآخرة وإذا أعرضنا عن ذلك القانون وأهملناه وتركناه واستبدلنا به غيره فمعنى هذا أننا نعمل على الفساد، ونحن المفسدون، ولا تتردد.قال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12] لم ما يشعرون؟ ماتت أحاسيسهم، وتجمدت، وتلبدت، فما يذكرون الله، ولا يناجون الله، ولا يقفون ساعة بين يديه، ولا يقرءون كتابه، ولا يذكرون لقاءه، ولم يطلبوا حبه ولا معرفته، فمن أين لهم العلم والمعرفة والشعور؟ فقد فقدوا حتى الشعور كالبهائم.عرفتم هذه؟ من المخبر يرحمكم الله؟ الله. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12].وكل من أراد أن يعطل شرع الله فيبطل الصيام، الصلاة، الزكاة، الحجاب، الأمن وغير ذلك، فمعناه أنه يفسد في البلاد وهو لا يشعر بذلك، وكل من يعمل على أن يعبد الله في القرية .. في البلد .. في الإقليم بما شرع بعد معرفة لا إله إلا الله محمد رسول الله فهو عامل على إصلاح البلاد، وهو من المصلحين والصالحين، ومن أراد أن يحول المسلمين إلى أن يصبحوا كالكافرين حتى في الزي والذوق والفطرة والطعم فهذا -والله- يفسد بمعاول الفساد، ويدمر البلاد.

    تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ...)

    ثم قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا [البقرة:13] من القائل؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] المنافق اليهودي يقول له أخوه ممن آمن: آمن كما آمن عبد الله بن سلام، أنت أعلم منه؟ وأنت أعرف منه بدين الله؟ فيقول: نعم، نؤمن كما آمن السفهاء! ماذا أصابنا! هل أصابنا الجنون؟ كيف نؤمن إيمان فلان وفلان؟!فيردون هذه الدعوى على إخوانهم بهذه الجملة التي ذكرها الله، والله حرفياً قالوها: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13].أقسم لكم بالله! إن كثيرين من العرب والمسلمين إذا قيل لهم: لم ما تحجبون بناتكم ونساءكم كما في السعودية؟ يقولون: هم متخلفون. لم ما تجبون الزكاة؟ يقولون: دعك من هذه المسائل الرجعية، فالضرائب سدت مسدها وهي أقوى وأكثر نفعاً. لم ما تصومون مع السعودية؟ يقولون: دعنا من المتخلفين والرجعيين، ونحن عندنا آلات وعندنا مراصد وعندنا.. كيف نمشي وراءهم؟ والله كما تسمعون. لمَ ما تطبقون حدود الله؟ يقولون: نطبق حدود الله، نقطع اليد! نترك المواطن يعيش هكذا بيد واحدة! كيف يشتغل؟ كيف يعمل؟ هذه السعودية تفعل، يقولون: دعنا من هؤلاء الرجعيين الجامدين، سوف يأتي يوم يفيقون ويخرجون من هذه الورطة.فهمتم أو ما فهمتم؟ والله إني لعلى علم مما أقول.لكن ما هو السبب؟ جهال، فما بكوا ليلة بين يدي الله، وما جلسوا في حجور الصالحين، ولا تربوا بين أيديهم. كيف يعلمون؟ كيف يشعرون؟ كيف يوقنون؟ ما هي أسباب ذلك؟ من مدرسة مدنية أو عسكرية أصبح جنرالاً أو وزيراً، فكيف يعرف الله؟ كيف يخشى الله؟ قد تتحدث معه وتذكره فلا يتذوق لكلامك طعماً أبداً، بل يتهمك بالقصور: أنت هابط، وإن جاملك يقول: الظروف.وما العلاج يا شيخ؟العلاج أن نتوب إلى الله، وأن نطرح بين يدي الله، آمنا به رباً، يملك كل شيء ويدير الكون كله، اطرحنا بين يديه: ارفعنا، أعزنا، أكرمنا، سودنا، وقد فعل، أيام لا فلسفة ولا كذب ولا ولا.. وإنما قال الله وقال رسوله، فرفع الله تلك الأجيال الثلاثة إلى سماء الكمال البشري، وقد قلت وحلفت: ما اكتحلت عين الوجود بأمة أعدل، وأرحم، وأطهر، وأعز، وأقوى، وأكمل من تلك الأمة التي ما كانت تعرف إلا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم. أأنتم مصدقي أو لا؟ راجعوا التاريخ الحقيقي، وليس المزور.إذاً هيا نجرب، والله! لو أن أهل قرية في العالم الإسلامي، عدد سكانها ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف، واسمحوا لنا أن نجرب: هل صحيح أن هذا النور الإلهي يهدي .. هذا الروح الإلهي يحيي؟ حتى نعرف الحقيقة. ويتعانق أهل القرية وباسم الله فقط إذا مالت الشمس إلى الغروب وضع الفلاح المسحاة ووضع المنجل فتوضأ وجاء بامرأته وبناته وأولاده إلى المسجد، والصانع رمى المرزبة أو الحديدة وتوضأ وجاء، والتاجر أغلق باب المتجر، وجاءوا بنسائهم وأطفالهم ورجالهم إلى بيت ربهم، إلى المسجد الجامع، فيجلسون جلوسنا هذا، والنساء وراء الستائر، ومكبرات الصوت عندهن، والأولاد في صفوف بين النساء والرجال في آداب، وليلة آية، وليلة حديثاً، فيمر العام الأول والثاني والثالث، يا شيخ! كثير؟ والله ما هي إلا سنة، وما نحتاج إلى سنين، سنة فقط يذوقون طعم الإسلام، ويعرفون لذة الإيمان، فتتجلى فيهم حقائق منها: ألا يبقى بينهم من يفكر في أن يزني بامرأة أخيه أو بنته، ولا يبقى فيهم من يأتي بالحشيشة ويوردها ويبيعها لأفراد القرية، ولا يبقى بينهم من يمد لسانه فيسب أو يشتم أخاه، ولا يبقى بينهم من يترف أو يسرف وحوله فقراء ما شبعوا، ولا يبقى بينهم من يهجر بيت الله أو يقال: فلان لا يصلي أو امرأته لا تصلي، وكل هذه المظاهر تنتهي.كيف هذا يا شيخ؟ كيف! ألم يسم الله كتابه روحاً؟ أما سماه نوراً؟ فالذي حيي وأنار الله الطريق أمامه تقول: كيف يسعد أو كيف يكمل؟! ما هو معقول هذا أبداً! أيمكن أن تقول في الذي يأكل: كيف يشبع؟! وفي الذي يشرب الماء: كيف يرتوي؟! تعطل سنن الله أنت؟وهذا فقط ما استطاع المسلمون يفعلونه، ولعل هذه الدعوى ما بلغتهم، أنا أعرف أنها ما بلغت، فهذا الصوت جديد، كتاب (المسجد وبيت المسلم) كم له عندهم؟ سنة وبعض الأشهر. ولو طبقنا هذا في قرية من قرانا في العالم الإسلامي لشاهدنا أنوار كتاب الله وهدي رسوله، وعرفنا كيف نتقاسم آلامنا وسعادتنا.إذاً: ما دمنا هكذا لم نلوم الحكام؟ لم ما طبقوا الشريعة؟ لم ما نفذوا كتاب الله؟ نلوم في الهواء، ما هم أهل مثلنا. هل عرفوا كما عرفت أنا وأعرضوا؟ هؤلاء يحرقون بالنار، لأنهم ما عرفوا. جلسوا بين يدي من؟أسألكم بالله: تعرفون زعيماً، رئيساً، وزيراً .. جلس مجلسكم هذا؟ سنتين، ثلاث يتعلم الهدى؟ هات، أتحداك. فلو جلس هذا لكان بصيص نور في تلك الوزارة، فلا يسمع عنه إلا الهدى، ولا يعرف عنه إلا الخير، وإن كان في حدود ضيقة؛ لأنه وحده.عوامنا ضلال، فجار، فاسدون أفسد من الحكام، ما السبب؟ الجهل، فما عرفوا الله حتى يحبوه، وما عرفوا الله حتى يخافوه، وما عرفوا محاب الله حتى يتملقوا بها إليه، وما عرفوا مكارهه يسمعون فقط كلاماً هنا وهناك، وما استقر في أذهانهم، ولا أنار قلوبهم، كيف تريد منهم ذلك؟! وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] من هم السفهاء؟ أصحاب العقول الخفيفة التي ما تحسن التصرف ولا التدبير كالمرأة في المال والولد، قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] من هم؟ المرأة والولد. قالوا: اسكت، أعط المرأة، الآن ذوقوها، فالمرأة الآن تتحكم، وهي التي في يدها المال، وما يعاني أزواج الموظفات، عندنا بلاد النور والرحمة، أما البلاد الأخرى إذا ما تصفعه على خده هو في خير.. ولما رضي واحد منا أن يعلم ابنته لتتوظف، أعلمها لتعبد الله، تريد الوظيفة؟ لا، لا أحرق ابنتي أبداً، ولا أشقي زوجها ولا أقاربها.هذا الكلام تتذوقونه؟ والله إني لأقول على علم: لو يحضر هنا ألف خريج كليات السياسة والله ما استطاع أن يقف أمام الحق، هذا ليس كلاماً عادياً، وما نحن في حاجة إلى هذا، نحن في حاجة إلى ربانية، وإلى أن نكون أولياء الله، فإذا رفعنا أكفنا إلى الله لن يردها خائبة، ونريد أن نشعر بسعادة وطهر وصفاء، وتصبح الآخرة أحب إلينا من أوساخ الدنيا.قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] سبحان الله! وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] مع أنهم ساسة لهم اتصالات بقريش واتصالات بالكافرين حتى بالروم والشام، أليس كذلك؟ ومع هذا قال: لا يعلمون، ما عندهم علم حقيقي يقيني، فما عرفوا الله، وما عرفوا ما عند الله ولا آمنوا بلقاء الله، فمن أين يأتيهم العلم؟ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] لا الذين قالوا لهم: أنتم سفهاء أو نؤمن كما يؤمن السفهاء. وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13].قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وقال: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] اللهم لا لا، لا يستوون. وقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]. قالوا: نعم. العلم علم الهندسية والفيزياء والتقنية وعلم وعلم.. تلك صناعات، ما نجمع الأمة كلها بنسائها وأطفالها على مواد كهذه، ولا ينجح منها إلا خمسة في المائة، نختار مائة شاب ونغمسه في مادة من هذه المواد يتخرج تقني، أما أن نجعل مواد الهدى والنور من الابتدائي إلى الجامعة كلها عن المادة، فأين الروح، وأين الإسلام؟ عرفتم أو لا.والله العظيم! إن المواد المادية التي تدرسونها أربع سنوات في روسيا أو بريطانيا، والله العظيم ليتعلمها المؤمنون أصحاب النور في أربعين يوماً. وقد مررت هذه الأيام وزوروني جزاهم الله خيراً مدننا الصناعية عندنا -زادها الله قوة- وتجولنا فيها، قالوا: انظر هذا الفريق، هذه المهنة في أيديهم، قال: قالوا لنا: يحتاج إلى أربع سنوات حتى يتعلمها أولادكم أو أفرادكم. قال: والله تعلموها في أربعة أشهر، وهم الذين أمامك، لتعرفوا أني أتكلم عن علم. التمريض، الطب، اجمع لك مائة بنت وأكثر ما يكون ثلاثة أشهر إلا وهي ممرضة، وتدرس الأخرى عشرين عاماً ممرضة وهي لا تطيع الله ولا رسوله، ولا تحسن العمل، أليس كذلك؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] فلان وفلان. قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ .. [البقرة:13] لو علموا أنهم سفهاء: لا رشد، ولا بصيرة، ولا علم، ولا هدى ما وقفوا هذا الموقف، لكن ما علموا.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    شرح الكلمات

    قال المؤلف: [شرح الكلمات: الفساد في الأرض: الكفر وارتكاب المعاصي فيها]. ما الفساد في الأرض يا شيخ؟ الكفر، وارتكاب المعاصي فيها بترك الواجبات وفعل المحرمات من الغش إلى الخدع إلى اللواط إلى الجرائم.قال: [الإصلاح في الأرض] ما هو؟ بالفئوس والحراثات، أما كيف الإصلاح؟ قال: [يكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح]، بالإيمان الصحيح الذي إن عرضناه على الكتاب وقع عليه: أنت مؤمن. الإيمان الصحيح والعمل الصالح، أي عمل صالح؟ كل ما شرع الله لنا أن نقوله وأن نعمله طول حياتنا فهو العمل الصالح، وما عداه فاسد. قال: [وترك الشرك والمعاصي]، لو نؤمن ونعمل صالحات ونحن نأتي الشرك ونأتي المعاصي، فهذا ليس بصلاح، ولا بد من التخلي أولاً عن هذه المصيبة وهي الشرك في عبادة الله والذنوب والمعاصي، وبعد الإيمان والعمل الصالح ينير الحياة.ما معنى: (لا يشعرون)؟ قال: [لا يدرون ولا يعلمون].ما معنى: (السفهاء)؟ قال: [جمع سفيه، خفيف العقل لا يحسن التصرف والتدبير]، كالسفهاء الذين عندهم مال ولا يعرفون كيف يتصرفون، بعد عام أو عامين أنفق كل الذي عنده.

    معنى الآيات

    قال: [معنى الآيات: يخبر تعالى عن المنافقين]. من هم المنافقون يا أبناء الإسلام؟ الذين يبطنون ويخفون الكفر ويظهرون الإيمان. بلسانه يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقلبه يقول: لا إله والحياة مادة.قال: [يخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين: لا تفسدوا في الأرض بالنفاق وموالاة لليهود والكافرين، ردوا عليه قائلين: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] في زعمهم، فأبطل الله تعالى هذا الزعم، وقرر أنهم هم وحدهم المفسدون لا من عرَّضوا بهم من المؤمنين] كـعبد الله بن سلام وغيره، بل هم المفسدون، فدافع الله عن أوليائه، [إلا أنهم لا يعلمون ذلك، لاستيلاء الكفر على قلوبهم]، ما يعلمون أنهم مفسدون، ولا أن المؤمنين مصلحون بسبب أن الكفر استولى على قلوبهم، غشاها وغطاها ما أصبحوا يعلمون ولا يفهمون.قال: [كما أخبر تعالى عنهم بأنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين: اصدقوا في إيمانكم وآمنوا إيمان فلان وفلان مثل عبد الله بن سلام ] تعرفون عن عبد الله بن سلام شيء؟ هذا حبر اليهود في المدينة، ورزقه الله كان يرتقب متى يأتي محمد المدينة، من يوم ما سمع به في مكة وهو ينتظر، وما إن جاء الرسول صلى الله عليه وسلم حتى جاءه وطرح عليه ثلاثة أسئلة فقط فآمن، ولما آمن وحسن إيمانه وإسلامه قال للرسول: تعال! نمتحن اليهود، أجلسني وراء الستارة واسألهم عني، فجاء كبار اليهود. ما تقولون في عبد الله بن سلام ؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، أعلمنا، أشرفنا. فقال لهم عبد الله بن سلام : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قالوا: هذا كلام ما يقال، ولهذا قال الرسول: ( إنهم قوم بهت ).وعبد الله بن سلام بشره الرسول بالجنة، فقد رأى رؤيا أن السلسلة نزلت من السماء فيها حلقة، فأخذ فيها وتمسك، فعبر له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنك على الإسلام وتموت عليه فأبشر بالجنة.قال: [ردوا قائلين: أنؤمن إيمان السفهاء] أي: الذين لا رشد لهم ولا بصيرة؟ [فرد الله تعالى عليهم دعواهم وأثبت السفه لهم، ونفاه عن المؤمنين الصادقين، ووصفهم بالجهل وعدم العلم]، وهو كذلك.

    هداية الآيات

    قال: [من هداية الآيات: أولاً: ذم الادعاء الكاذب، وهو لا يكون غالباً إلا من صفات المنافقين]. فهذه الآيات تهدينا، تبصرنا، تعلمنا بأن الادعاء الكاذب الذي يدعي ما ليس عنده، هذا الادعاء الكاذب صاحبه يتصف بصفات المنافقين، فلهذا ما ندعي ادعاء الكاذب، نحن أهل الصدق، ولا نعرف إلا الصدق.تعرفون أنه لما هزمتنا إسرائيل كم من مرة كنا نقول: قواتنا الضاربة. كلام نتعجب منه، وإذا بجماعة اليهود في ليلة من الليالي سلبوهم كل شيء، أين قواتنا الضاربة في الأرض؟ هذا الادعاء الكاذب باطل، فاعرف منزلتك وقدرك، ما عندك قوة اتصل بذي العرش، بت راكعاً ساجداً يمدك بالقوة، أما أن تتنكر، وتغمض عينيك، وتظل في المعاصي والجرائم وتقول: قوانا الضاربة في الأرض. نفعت؟ ما نفعت. والآن لولا الله ثم وجود مؤمنين ومؤمنات في العالم الإسلامي لكانت الفرصة متاحة لليهود والنصارى أن يسودوننا أسوأ سيادة. انتبهتم؟ ولن نستطيع أن ندفعهم، لم؟ لأن الله غير راضٍ عنا، إذاً يسلطهم كما سلطهم أمس، سلطهم أو لا؟ أما حكمونا؟ أما سادونا؟ أين ممالك الهند؟ أين الممالك الإسلامية؟ ما هي ألف ومائة ألف، ملايين وضعتها بريطانيا تحت رجليها. أين ملايين المسلمين في إندونيسيا؟ هولندا العجوز وضعتها تحت رجليها. أين أبطال المغرب الإسلامي؟ أين هم؟ أذلوهم، وكسروهم، وحطموهم. أين أين أين؟ فعل الله ما فعل، هو الذي فعل، ما هي بريطانيا ولا فرنسا، والله لو كنا أولياءه فاجتمعوا كلهم ما نالوا منا منالاً. هل عرف الناس هذه السنة الإلهية؟ ما عرفوا.في أُحد ثلاثون مؤمناً جعلوا رماة في جبل، فعصوا رسول الله ونزلوا فضربهم الله ضربة ما ذاقوا مثلها، ونبيهم كسرت رباعيته، وشج وجهه، ونحن نعيش على الفسق والفجور وينصرنا الله، والله لولا لطف الله ورحمته ووجود مؤمنين ومؤمنات يبكون بين يديه لكانت الفرصة متاحة لليهود ولغيرهم، الهزيمة مرة.يا شيخ! لم تقول هذا؟ توبوا، أقبلوا على ربكم، وتجردوا له، وادخلوا بيوته، وتخلوا عن معاصيه، ستكونون أنتم سادة الدنيا، ويركع لكم العالم ويسجد. قال: [ثانياً: الإصلاح في الأرض يكون بالعمل بطاعة الله ورسوله، والإفساد فيها يكون بمعصية الله ورسوله.ثالثاً: العاملون بالفساد في الأرض يبررون دائماً إفسادهم بأنه إصلاح وليس بإفساد].وصلى الله على نبينا محمد.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #78
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (71)
    الحلقة (78)




    تفسير سورة البقرة (40)

    اعتذر بعض اليهود عن الدخول في الإسلام ببغضهم لجبريل، وزعموا أنهم يحبون ميكائيل، وأنه لو كان هو من ينزل بالوحي على رسول الله لآمنوا، فقرعهم الله بأن من يعادي ملكاً فإنما يعادي الله سبحانه، وأن الوحي الذي ينزل به جبريل فيه الهدى والنور، والبشرى للمؤمنين، وفيه التصديق بالكتب السابقة، فما قاله هؤلاء فيه معاداة لله ومشيئته، ورسله وكتبه، ومن كان كذلك فإن الله عدو له.

    القرآن كلام الله المعجز

    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ * وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:97-100] .. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!هذا الكلام الذي سمعناه هو كلام الله، وملايين الناس لا يؤمنون بالله.كلام الله .. أيعقل أن يوجد كلام بدون متكلم؟ والله ما كان، ولن يكون.لكن كيف ينكر وجود الله؟الجواب: المنكرون لوجود الله هم اثنان:أحدهما: ينكر بلسانه، ليستمر في غيه وضلاله .. في شهواته وأطماعه، حتى لا يقف عند حد.وآخر ما عرف .. ما بلغته الدعوة واضحة صريحة .. ما حملت إليه الدعوة المحمدية، فهو لا يعرف.ثم هذا الكلام الذي نسمع قد حواه كتابه، وليس مجرد كلمات تقال هنا وهناك، بل هو كتاب كريم.ومما يدلك على كرم هذا الكتاب: أن البكر تستطيع في خدر بيتها أن تقرأه أمام أبيها وبين إخوتها، ولا تشعر أبداً بأن هناك ما ينبغي أن تستحيي منه، فهو مثلاً يعبر عن الجماع بالمباشرة: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، ولن تجد في القرآن -وهو عشرات الآلاف- كلمة واحدة تسيء وتؤذي أبداً، فهذا كلام الله.وفيه آلاف الأخبار، وعشرات الآلاف، ولا يمكن أن لا يصدق في تلك الأخبار خبر واحد.وفيه من الحكم ما تعجز العقول البشرية حتى عن محاكاته، فهذا كلام الله.ثم كيف ينكر ويكذب برسالة الذي نزل عليه هذا القرآن .. هذا الكلام الإلهي، وهو أمي؛ لا يقرأ ولا يكتب، فكيف يكذب برسالته، ويقول القائل: لست رسولاً، ولن نؤمن برسالتك ولا بنبوتك، ولكن الأطماع .. الشهوات .. الأغراض .. حب الحياة والدنيا، هي التي تحمله على هذا، وإلا لو نظرنا من حيث العقل، والمنطق، والذوق، والفطرة البشرية فهو أمي يقرأ كلام الله، ونحن نسمع ذلك الكلام الطاهر، الحكيم، العزيز، البين، فهل نستطيع أن نقول: أنت لست برسول الله، وهذا الكلام ممن؟!

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

    ها هم اليهود -عليهم لعائن الله- تورطوا في حب الحياة .. وقعوا في فتنة حب الحياة الدنيا، وإن أحدهم يود أن يعيش ألف سنة، بل آلاف السنين، حتى لا يموت، ولنستمع إلى ما سبق أن قرأناه من كتاب ربنا في شأنهم.

    دعوة اليهود إلى المباهلة وتمني الموت

    قال تعالى في المباهلة العظيمة، تلك المباهلة التي أسكتتهم وقطعت ألسنتهم، فهم يتبجحون بأنهم أولياء الله .. أحباء الله .. الجنة لهم .. هم شعب الله المختار .. أبرّ الخليقة .. البشرية نجس، وهم.. وهم، فقيل لهم: تعالوا نتباهل، ونرفع أكفنا إلى الله، ونسأله: من كان منا على باطل فليهلكه الله على الفور. فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة في مجمع بين الناس، فتمنوا بقلوبكم واسألوا الله تعالى الموت ينزل بكم الآن إن كنتم صادقين فيما تدعون وتقولون، وتهرفون، وتكذبون من الدعاوى الباطلة.نعم هم يدعون أن الجنة لهم، وأنهم شعب الله المختار، وأنهم أحباء الله، وأنهم أولياؤه، وأن البشرية كلها سافلة وهابطة لا قيمة لها عند الله، فإذا كنتم كما تزعمون فتمنوا الموت لتموتوا الآن، وتستريحوا من أعباء الدنيا، وتستريحوا من المعاش الضيق .. من الآلام والأمراض .. من الحروب والفتن، فالجنة خير من الدنيا بمليون مرة، بلا مناسبة: ( إن سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ).فلما أكثروا من التبجح بين العرب بأنهم.. وأنهم، أنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم، قل لهم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ [البقرة:94] وقطعاً هي الجنة، أما الدار الآخرة ففيها النار أيضاً .. عالمان: عالم الشقاء، وعالم السعادة.قال: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ [البقرة:94] فلا يدخل الجنة أبيض ولا أصفر، لا عرب ولا عجم إلا أنتم، فتعالوا: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94]، وليحضروا بعلمائهم، وليرفعوا أكفهم، وليسألوا الله تعالى أن يميتهم ليدخلوا الجنة إن كانوا صادقين. فوالله ما استطاعوا .. فشلوا، وخافوا، وهربوا.

    كراهية اليهود تمني الموت لسوء ما قدمت أيديهم

    يقول الله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95]، ولن يتمنوه يا رسولنا، فاتركهم، ودعهم وحالهم، فلا يصلحون للمباهلة، فإنهم لن يتمنوا الموت أبداً إلى يوم القيامة، ولا يأتي يوم يتمنون فيه الموت، حتى ولو كان أحدهم في أعماق السجون والزنازن يقول: لا أريد الموت. ولو كان أحدهم قد قتله الفقر، والتعب، والذل، والمهانة، ولا يزال يقول: لا.. لا، ولا يتمنى الموت. لِم؟ لعلمهم بجرائمهم التي تدخلهم جهنم، وتصليهم نارها، وأنهم ليسوا بأهل للجنة، لقد قدموا من الجرائم ما لا يتفق أبداً مع دخول الجنة بحال من الأحوال.وقد عرفنا من كتاب ربنا أنهم قتلوا الأنبياء والرسل، أرأيتم من يقتل نبياً كيف يسعد؟!فقتلوا زكريا عليه السلام وقتلوا ولده يحيى عليه السلام، وحاولوا قتل عيسى، وصلبوا من شبه لهم وقتلوه، وحاولوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم، فمرة بإطعامه السم، ومرتين بالمؤامرة عليه ليقتلوه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في بعض الظروف كانوا يقتلون سبعين نبياً في اليوم، وفي المساء كانت أسواقهم عامرة، طافحة بالبيع والشراء والضحك، كأن شيئاً ما وقع، وقد قتلوا سبعين نبياً.كما أنهم استباحوا ما حرم الله عليهم، ومن أعظم ما ندد القرآن بهم في أكلهم الحرام: الربا، فهم الذين استباحوه وأباحوه، وهم الذين ورطوا العالم فيه أيضاً، وقد قلت لكم: إن البنوك العالمية منشؤها أصابع اليهود، حتى لا تبقى رحمة، ولا صلة، ولا سلف، ولا قرض، ولا تعاون بين الناس؛ لأنهم عبدة الدينار والدرهم، ويكفي أنهم قد عبدوا العجل.قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا لِم يا رب؟ بسبب ما .. قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95]، وقد قدمت أيديهم الجرائم: الفسوق، والفجور، والكفر، والباطل، والشر، وذنوب لا تعد ولا تحصى، وأصحابها مكتوب عليهم: أنهم في جهنم، فكيف يتمنون أن يدخلوا النار؟! ولو يبقى في الدنيا مليون سنة جائعاً مريضاً ولا يدخل جهنم، وهو كذلك: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95] من الظلم، والشر، والخبث، والفساد. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95] فسوف يجزيهم بظلمهم، قد أشركوا بالله .. كفروا بالله .. قتلوا الأنبياء .. حاربوا الأولياء، ما تركوا جريمة إلا ولغوا فيها، وانغمسوا في أوضارها، فكيف يتمنون الموت؟ لن يتمنوه أبداً؛ ولهذا يلاحظ خوفهم من الموت بصورة عجيبة، والذين يخالطونهم ويعايشونهم ويساكنونهم يشاهدون هذا، فما يريد أن يموت.

    حرص اليهود والمشركين على أدنى حياة في الدنيا

    قال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] أدنى حياة .. أرخصها .. أقلها .. أدناها .. أسفلها يحرصون عليها، كما قلت لكم: أحدهم مريض، فقير، في السجن، ولديه آلام ولكن لا يقول: الموت خير أبداً، يريد أن يعيش على أية حال كان، فهو حريص على الحياة. وَلَتَجِدَنَّهُ مْ يا رسولنا! إن طلبت ذلك، وأردت الوقوف عليه لتجدنهم أَحْرَصَ النَّاسِ مطلقاً عَلَى حَيَاةٍ وإن كانت رخيصة، والنكرة هنا تدل على عموم فأدنى حياة المهم لا يموت؛ لأنه إذا مات انتقل إلى عالم الشقاء ليخلد فيه أبداً، ولا أمل في الخروج، فلا شفاعة تنفع ولا شافع يوجد؛ لأنهم كفروا.وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96]، فهذا الحب للحياة يشاركهم فيه الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولقائه، ولا يؤمنون بما عند الله، وما أعده لأوليائه من نعيم مقيم فوق السماوات السبع في دار السلام، وهؤلاء الكفار كذلك يود أحدهم لو يعمر ألف سنة.فأمثال هؤلاء لو قاتلهم المؤمنون ينتصرون عليهم، فالذي يحب الحياة مهزوم، ولا شجاعة له، ولا إقدام، ولا .. ولا، يقتله خوفه، بخلاف المؤمن بالدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم، تجده يتمنى على الله متى يقرع باب دار السلام، فهذا يرقص عند قدومه على المعركة، وقد شوهد كثير من الصحابة يهتزون اهتزازاً فرحاً بلقاء الله.وهذا السياق وقفنا عليه ودرسناه في الدرس الماضي.
    تفسير قوله تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ...)

    كراهية اليهود لجبريل عليه السلام

    الآن مع قول ربنا جل ذكره: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [البقرة:97]، قل يا رسولنا، أيها المبلغ عنا، قل لـابن صوريا الأعور ومجموعة من علماء اليهود الذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، وقالوا: يا محمد! ما من نبي نبأه الله، ولا رسول أرسله الله إلا أوحى إليه، وأعطاه من الآيات والمعجزات ما تسد به رسالته، وأنت من الذي يوحي إليك ويأتيك بالوحي، فعلمنا حتى نؤمن برسالتك، ونتبعك، ونمشي معك؟فقال لهم: أنا كذلك يأتيني رسول ربي؛ جبريل عليه السلام.قالوا: يأتيك جبريل؟قال: نعم.قالوا: إذاً: لن نتابعك، لو قلت: ميكائيل، نعم، أما جبريل فلا، هو عدونا، لا ينزل إلا بالحروب والدماء والقتال، فلهذا لا نستطيع أبداً أن نؤمن بك، ولا أن نتابعك.

    التحذير من سلوك مسلك اليهود

    هذه الأفكار يستنتجها، ويولدها، ويلقيها لليهود أحبارهم ورؤساؤهم الذين هم مسيطرون على العوام ليستغلوهم، فيستعبدوهم.وهذه الفتنة -أيضاً- كانت في النصارى، فرجال الكنيسة يشوهون الإسلام للعوام من النصارى حتى لا يدخلوا فيه، ويفعلون معهم الأفاعيل، وبلغنا أنهم يشترون منهم صكوك الغفران، فإذا عندك مليار .. ملياران من الدولارات، يستطيع رئيس الكنيسة يعطيك صكاً بأنه مغفور لك، وضع هذا المال للكنيسة -فقط- لنشر المسيحية.والرسو الكريم -اسمع ما يقول، واحفظ ما يقول- يقول لنا: ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )، فهو يخبر بالواقع، ويتلقى الوحي من الله، قال: لتتبعن أي: أيها المسلمون طرق من قبلكم، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم.وقد وجد -أيضاً- في المسلمين رؤساء أديان في المذاهب المختلفة يشوهون الإسلام ويصرفون عنه أهله بالأباطيل والتراهات من أجل أن يستغلوا أولئك العوام والجهال ليقدسوهم، ويكرموهم، ويعبدوهم، فيحلون لهم الحرام، ويحرمون عليهم الحلال، ولو نفتح صفحة لهذه الأحداث لرأيتم العجب.إن وجود مذاهب في الإسلام، وطرق مختلفة لا يرضى به الإسلام، فالقرآن يقول: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:102-103]، ولقد بلغ عدد المذاهب في العالم الإسلامي أكثر من سبعين مذهباً، وسببها أن الرؤساء يريدون أن يستغلوا أتباعهم، فهناك مذاهب قليلة -كما يقولون: حفنة من الناس- لِم لا يدخلون مع أهل السنة والجماعة، فهم جماعة تعدادهم خمسة إلى مائة بالنسبة إلى المسلمين، وقد رضوا بأن يعيشوا مستقلين يقولون: مذهبنا، قد سيطر عليهم رؤساء الدين، وأئمة المذهب العارفون به، حتى يبقى لهم مركزهم ومكانتهم بين إخوانهم، فلا يسمحون لهم أبداً أن يدخلوا في جماعة المسلمين، وإن شئتم حلفت لكم بالله.وهؤلاء لو كانوا مجردين من الهوى، والدنيا وأطماعها، وحب الرئاسة والسيطرة أو الملك والحكم، والله ما رضوا أبداً ولا أربعين يوماً أن يعيشوا منقسمين على المسلمين، بل لوجدتهم يتباحثون معهم يقولون لهم: بينوا لنا الطريق؟ هذا ما عندنا فسددونا وصوبونا، وأنتم أكثرية ونحن أقلية، وهل هذه الأقلية هي التي على الحق ونحن على الباطل؟ للأسف لا يسمح لهم بهذا أبداً، والكتب تؤلف في ذلك وتدرس، وكل كتاب يدعو إلى استقلال تلك الجماعة، وأن لا تتصل بالجماعات الأخرى، وأحياناً يكفرون بعضهم بعضاً، وينسبونهم إلى الكفر، والزيغ، والخروج من الإسلام.فهذا واقع قد أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لابد وأن يقع: ( لتتبعن سنن من قبلكم -أي: طرائق من قبلكم- شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ).وهنا أضحككم وأنفس عليكم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفس على أصحابه: يذكر أن أحد العلماء كان يخطب في مسجد، ففسر هذا جحر ضب بالبنطلون! أي: السراويل الطويلة، وهذه السراويل ما كان المسلم يلبسها قط، حتى الجيوش الإسلامية -والله- ما كانت تلبسها، وآخر جيش إسلامي في الخلافة العثمانية كان يلبسون السراويل الواسعة والعريضة، وقد شاهدناهم، ولا يمكن أن تكون السراويل -كما هي الآن- مضغوطة، فتظهر إلية الرجل، فقال هذا الخطيب: هذا البنطلون هو جحر الضب، فالكفار قد دخلوا فيه، ونحن دخلنا فيه بعدهم، وهو كذلك! لأن جحر الضب لا يمكن أن يدخل فيه إنسان، ولو دخلوا لدخلنا مثلهم، مع أن هذا البنطلون ضيق تبرز فيه إلية المؤمن، وقد كان الحياء يمنع المسلمين من هذا، لكن لما لبسه الغرب وتجملوا به تبعناهم كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) .فكان اليهود مُستغَلين لرؤسائهم، فقد كفروهم .. مسخوهم .. منعوهم من دار السلام.وجاء النصارى كذلك، فرجال الكنيسة -والله العظيم- إلى الآن يصرفون الناس عن الإسلام، مع علمهم أن الإسلام هو سبيل الله .. وأن فيه النجاة، ويدلك على هذا أنك تجد مع الوقت أن من رؤساء الكنائس من يؤمن، وإذا عرف الحق فإنه يبكي، ويشكو لك هذا، وما كان منا للأسف إلا أن اتبعناهم.أما في داخل أهل السنة والجماعة فتجد الطرق: هذا قادري، هذا رحماني، هذا عيساوي، هذا زيدوني .. هذا نقشبندي .. هذا عيدروسي، هذا كذا، وفي أيام الغفلة والجهل كل جماعة وطريقة كأنهم هم المسلمون، وغيرهم لا، فلا ولاء، ولا حب ولا .. إلا قولهم: هؤلاء من إخواننا.وجاءت أيضاً الأحزاب والجمعيات، وكل حزب يطعن في الحزب الثاني، من قبل رؤسائهم، حتى تبقى لهم المجموعة، وتحت أيديهم.لا إله إلا الله: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع )، وكان ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبب هذا حب الدنيا والشهوات والجري وراءها، من الفروج، والأموال، واللباس، والمنصب، وكل هذا يعمي الإنسان ويصمه، ويجعله لا يرى إلا شهوته، فيكذب، ويحلف بالباطل، ويخون ويفجر، حتى يحقق هذا الهدف الهابط؛ الساقط، وهذا شأن اليهود، ونحن مشينا وراءهم.

    نزول جبريل عليه السلام بالقرآن مصدقاً للكتب السابقة

    يقول تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ [البقرة:97] أي: أن القرآن العظيم جاء به جبريل، ونزله على قلب سيد المرسلين. فالقرآن يلقى من طريق الوحي .. بواسطة الوحي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم فيفهم، ويعي، ويحفظ، ويقول، وينطق.قال: نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:97]، لا أن جبريل باختياره استغل الموقف وجاء بالوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو بأمر الله عز وجل، فهو الذي أرسله، ونزل القرآن على قلبه.قال: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [البقرة:97] من هو المصدق لما بين يديه؟ القرآن. وما الذي بين يديه؟ الكتب السابقة، فلو تأتي إلى التوراة أو الإنجيل أو الزبور فتحذف منها الأباطيل والتراهات، والزيادات، والشروح فسيبقى النور الإلهي، وهو أولاً نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته، فهي والله لموجودة إلى الآن، وهم يهمشون ويشرحون بأن هذا ما وجد بعد، وأنه سيوجد فيما بعد، وأن هذا وصفه يختلف مع هذا، ويؤولون ذلك للناس.وقوله: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أي: في أصول الدين من الإيمان بالله، والبعث الآخر .. دار السلام .. دار البوار والعذاب .. إحقاق الحق .. إهباط الباطل .. العدل .. فكل الكمالات التي في تلك الكتب يصدقها القرآن، ولا يرد منها شيئاً، ولا يكذبها، بل يقويها ويدعمها، فكيف لا يكون كلام الله ووحيه.ولو تنافى مع ما عندكم من التوراة والإنجيل لقلنا: هذه أباطيل أو خرافات، لكننا وجدناه يصدقها، ويوقع على ما فيها من أصول الدين: من التوحيد، وعبادة الرحمن، والإيمان بالله، ولقائه، وكتبه، ورسله.

    القرآن كتاب هداية وبشرى للمؤمنين

    ثم قال: وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97]، ومن يستطع أن يقول: لا يوجد هدى في القرآن؟ والله لا يقولها ذو عقل، ولا ذو دين ومروءة، والله ما أخذ عبد بالقرآن في عقيدته وآدابه وأخلاقه وعباداته وضل أبداً.ما من إنسي ولا جني يأخذ بما في هذا الكتاب كما هو إلا وكمل، وسعد، ونجا، ووصل إلى رضا الله عز وجل ورضوانه، على شرط أن يفهم كلام الله ومراده، وهنا يحتاج إلى رسول الله المبين .. المفسر .. الشارح، ولا تقل: أنا أستغني عن الرسول بالقرآن؛ لأن الله قال: (فيه هدى) فهذه غلطة منكرة وفاحشة، فهل يستطيع أي إنسان بدون أن يقرأ سنة الرسول وبيان الرسول أن يفهم عن الله كل كلامه؟!وهذا هو سر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فلا بد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالهدى والله لفي هذا الكتاب، وما أخذ به عبد أبيض ولا أسود وضل أبداً، ومن لم يأخذ به لا يهتدي ولن يهتدي، إذ الهدى هو العلامات التي تصل بك إلى هدفك، فأنت مثلاً إذا كنت ذاهباً إلى بيت فلان، فالهداية تكون بالعلامات المؤدية إليه من الشارع الفلاني، والباب الفلاني، والطريق الفلاني.فالكتاب يحمل هداية، تهدي العبد السائر إلى رضوان الله حتى يدخل الجنة.قال تعالى: وَبُشْرَى [البقرة:97] هل البشرى للمغنين .. لأصحاب الأموال .. للكافرين؟ لا، لا! بل: وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97]، بشرى بسعادة الدنيا والآخرة، وأعظمها الزحزحة عن النار، ودخول الجنة؛ دار الأبرار، كما قال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ .. [البقرة:25] إلى آخر الآيات. فبشرهم يا رسولنا.والقرآن يحمل البشرى بالسعادة والكمال للمؤمنين؛ لأن المؤمنين أحياء، والحي يسمع ويبصر، يعقل ويفهم، فلما نودوا إلى الله أجابوا، وسلكوا الطريقة، فرضيهم الله وأرضاهم، أما الكافر فميت، فكيف تكون له بشرى وهو لا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، ولا يعتمر، ولا يرابط، ولا يجاهد، ولا يتقي سيئة من السيئات، ولا يتجنب باطلاً من الأباطيل.نعم القرآن هو بشرى للمؤمنين الكمّل في إيمانهم .. الصادقين فيه .. الموقنين: وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97].

    تفسير قوله تعالى: (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ...)

    قال تعالى الآن رداً على ابن صوريا الأعور وجماعته الذين قالوا: نعتذر، فما دام يأتيك جبريل نحن لا نستطيع، فهذا عدو بني إسرائيل، ولو كان ينزل عليك ميكائيل فنحن معك؛ لأنه يأتي بالمطر والرحمة .. وما إلى ذلك، أما هذا الذي يأتي بالدماء والحروب فلا، لا. والذي زين لهم هذا هو الشيطان.وهذه فرية؛ حتى يستطيعوا أن يردوا على الرسول، ويعتذروا أنهم ما قبلوا دينه لهذا الغرض. فقال تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98]، فأسكتهم وقطع أنفاسهم.قوله: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ هل يوجد عدو لله؟ وكيف هذه العداوة؟أصل العداوة مأخوذة من عدوة الوادي، فالوادي في الوسط، وهناك الطرف الآخر الذي يسمى عدوة، فالذي لا يلتقي مع الله والفاصل بينهما عدو لله، فالله يأمر بالخير، والرحمة، والهدى، والطهر، والصفاء، واليقين، وذاك يأمر بالشر والخبث، والفساد، فلا يلتقيان، كل عدو للآخر، فالله يأمر بالخير، وهو يأمر بالشر .. الله يأمر بالصدق، وهو يأمر بالكذب .. الله يأمر بالطهر، وهو يأمر بالخبث. فيصبح عدواً لله.قال: وَمَلائِكَتِهِ وما داموا يقولون: جبرائيل عدونا، فعدو الملائكة عدو لله، وهذا ملك ربنا، ينزله على من يشاء من عباده بالوحي الإلهي وأنت تقول: هذا عدو، ومن يقول: إن جبريل عدو لنا يكون قد كفر بالله.قال: وَرُسُلِهِ وهم كذلك، يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض، فعيسى رسول الله حاولوا قتله وصلبه، وقالوا: ساحر، وقالوا: ابن زنا، وقالوا فيه الأعاجيب، وكل هذا لأن عيسى جاء ليؤدبهم .. ليحل الحلال، ويحرم الحرام. واليهود هم أرباب الدنيا، والمال، والشهوات قالوا: هذا سينغص علينا حياتنا، ويفسد وجودنا، فلا تصدقوه، وقد قال عيسى: ( بعثت إلى خراف بني إسرائيل )، فلما تاهوا بعثه الله إليهم لهدايتهم وهو منهم، فأمه مريم الإسرائيلية، فحاولوا قتله وطاردوه، وطردوا أتباعه؛ لأنهم فقط ضد الشهوات والأهواء والأطماع وحب الدنيا.فكفروا برسل الله، ومن كفر برسول واحد فقد كفر بعامة الرسل، ومن كفر بكتاب واحد من كتب الله فإنه يعتبر كافراً بكل الكتب، ومن كفر بملك واحد من ملائكة الله فقد كفر بملائكته.وعندنا نحن أكثر من أربعين ألف آية، ومن كذب بآية واحدة فقد كفر، وليس بكتاب كامل كالتوراة أو الإنجيل، فمن قال: لا أومن بآية واحدة من القرآن، فوالله لقد أجمع المسلمون على كفره، وهو ليس بمؤمن. فكيف إذاً بالذي يكذّب بالكثير.فإن قيل: ولِم خص جبرائيل وميكائيل وأفردهما بالذكر، وهم يدخلان في الملائكة؟الجواب : لأن المحنة دارت عليهما.وجبريل فيه لغات أفصحها: جبريل وجبرائيل وجبرين بالنون، وكذلك في ميكائيل لغات أفصحها: ميكائيل وميكال وميكئل.وجبريل معناه: عبد الله، وميكائيل معناه: عبيد الله، وكل ما فيه إيل: إسرافيل .. عزرائيل فهو كعبد الله وعبد الرحمن وعبد العزيز، إذ الكل عباد الله، ولهذا (إيل) الأخيرة معناها: الله، كما نقول: عبد الله، عبد العزيز، عبد الرحيم، عبد الحكيم.قال: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] أي: فقد كفر، والله عدو للكافرين، فدخل ضمن من يعادي الله عز وجل، والعياذ بالله!وهل يوجد كافر ليس عدواً لله؟! هذا غير ممكن؛ لأن معنى العداوة أن الله يحب كذا، والكافر يحب غيره، والله يكره كذا وهو يحب غيره، فهذه هي العداوة، فصديقك هو الذي يوافقك فيما تحب وفيما تكره، فإن كنت أنت تحب كذا وهو يحب شيئاً آخر، فما يمضي عليكما يومان .. ثلاثة أيام حتى تتضاربا، ولا تتفقا أبداً.إذاً: فالكافر عدو الله؛ لأنه يحب ما يكره الله، فالله يكره الزنا، والكافر يحبه .. الله يكره الظلم، والبغي، والعدوان، والكافر يحب الظلم، والبغي، والعدوان، ويريده، إذاً: فقل ما شئت: إن الكافر عدو الله بلا خلاف.

    كيف تكون ولياً لله

    لكن من هو الذي يكون ولياً لله لا عدواً لله؟ هو الذي يوافق الله في محابه ومكارهه.وهذه الفائدة أعطيناها للسامعين -من فضل الله- من سنين، فمن منكم أيها المستمعون يرغب في أن يكون ولياً الله فيأخذها.إذاً من أراد أن يكون ولياً لله، راغباً في ولاية الله، فإليه الطريق إلى ولاية الله: إذا وافقت الله فيما يحب وفيما يكره فأنت وليه، فقط جاهد نفسك، وروضها، وأدبها حتى تحب ما يحبه الله، وتكره ما يكره الله، فقط وافقه تكن وليه، فإن عاكسته وخالفته كنت عدواً لله، فالموافقة هي الولاية.فإن قال قائل: يا شيخ! في ماذا نوافقه؟ في حب البقلاوة والدجاج المشوي أو في ماذا؟الجواب: يا بني! موافقة الله تكون في ما يحب وفي ما يكره، وأقسم بالله: إن الله ليحب أشياء ويكره أخرى، والقرآن شاهد، فكوني أريد أن أكون وليه فأوافقه على ما يحب وعلى ما يكره، يجب عليّ أن أسأل أهل العلم أو أقرأ القرآن لأعرف ما يحب الله وما يكره، فما عرفت أنه يحبه أحببته، وإن كان عدواً لي قد ذبح أبي، وما عرفت أنه يكرهه كرهته، ولو كان الدينار والدرهم.فلابد -إذاً- من أن نعرف يوماً بعد يوم جميع ما يحب الله، ونعرف كذلك جميع ما يكره الله، ونحن كلما علمنا أن الله يحب شيئاً أحببناه، وجاهدنا أنفسنا حتى نحبه، وكلما عرفنا أن الله يكره شيئاً كرهناه؛ لأننا نريد ولاية الله.وهنا: لابد من طلب العلم، فما هناك حيلة أبداً، لابد وأن نسأل ما يحب الله من الاعتقادات .. من الأقوال والكلمات .. من الأفعال والحركات .. من الصفات والذوات.على سبيل المثال: لو أن أباك ارتد وكفر، فإن هذا الرجل يكرهه الله، ويجب عليك أنت أن تكره أباك، فليس أبوك، وقد خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال آبائهم؛ لأنهم كانوا على الكفر فكرهوهم.فإذا عرفت أن الله يكره فلاناً فيجب أن تكرهه ولو كان ابنك، وإذا عرفت أن الله يحب فلاناً فيجب أن تحبه وتُكرِه نفسك على أن تحبه، ولو كان أعمش، أعمى، والدماء تسيل والقيوح، وقل ما شئت من العيوب الخلقية، فما دمت قد علمت أن الله يحبه فيجب أن تحبه، فبهذا تتحقق ولاية الله للعبد، وهي أن يوافقه في محابه ومساخطه، فنحب ما يحب، ونكره ما يكره في حدود ما نعلم.بلغنا أن الله يحب (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، فنقولها في الليل والنهار؛ لأن ربنا يحبها.بلغنا أن الله يكره صوت المغنية، وصوت النائحة، فلا نجد أغنية أبداً تنشرح لها صدورنا، أو تميل إليها نفوسنا إلا ونبغضها؛ لأن الله يبغض هذا الصوت.وهكذا معاشر الأبناء والإخوان: ولاية الله تكون في موافقة الله؛ بدليل قوله عز وجل: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:63] من هم يا رب؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فإذا آمنت فهنيئاً لك، وبقي أن نتقي أن نكره ما يحبه الله، أو أن نحب ما يكره الله، وبذلك تتم الولاية: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فيتقون ما يكره الله فلا يعتقدونه، ولا يقولون به، ولا يعملونه، ويتقون أن يسخطوا الله بترك ما يحب من الطاعات. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى أصحابه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #79
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (72)
    الحلقة (79)




    تفسير سورة البقرة (41)

    الفسق، الكفر، نقض العهود، مخالفة الشرع.. وغيرها كثير من الصفات التي يتمتع بها اليهود، وبيّنها القرآن، فهم يرون الآيات واضحات جليات كالشمس، ثم يعمهون عنها، ويعاهدون ثم ينقضون، أما الكتب السماوية المنزلة فتراهم يضعونها وراء ظهورهم، معرضين عنها، مخالفين لها، وكأنهم لا يعلمون شيئاً.

    تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون)

    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها، وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ .. [البقرة:99-102] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا كتاب الله، وهذه كلمة الله جل جلاله وعظم سلطانه، والواسطة في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عليه أنزل هذا الكتاب الكريم، ولنستمع إلى هذه الكلمات الإلهية.

    المراد بالآيات البينات

    يقول تعالى وهو يخاطب رسوله ومصطفاه محمداً صلى الله عليه وسلم، يقول: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [البقرة:99] حقاً حقاً، فالله هو الذي أنزل على رسوله آيات بينات، وهي آيات القرآن الكريم، إذ لفظ الآية قد يطلق ويراد به المعجزة الدالة على صدق النبي، والمقررة لنبوته ورسالته، وقد يكون بمعنى الآيات التي تحوي الهدى، وتحمل الشرائع والأحكام.والمرا من الآيات هنا آيات القرآن العظيم، وهي ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، وكل آية هي علامة على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فكل آية كأنما تصرخ: يا عباد الله! إنه لا إله إلا الله الذي أنزلني وأن محمداً عبده ورسوله إذ أنزلني عليه، والآية هي العلامة الهادية إلى الشيء، فالآية أنزلها الله، وهو موجود، عليم، حكيم، قوي، قدير، فلا يعبد إلا هو، فهي تقول: لا إله إلا الله. والذي أنزلت عليه لن يكون إلا رسول الله. فتقول: محمداً رسول الله.ولهذا كل الشرائع والأحكام والعبادات تدخل ضمن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمن أراد أن يدخل في رحمة الله فليقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم يغتسل ويصلي، وهو مستعد لتحمل أعباء هذه الملة، فإن كانت جهاداً جاهد، وإن كانت صياماً صام، وإن كانت زكاة زكى .. وهكذا؛ لأنه عرف عن علم وشهد شهادة عالم أنه لا إله إلا الله، فلم يعبد إلا الله، وليعبد الله بما يريد الله أن يعبد به.إذاً: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [البقرة:99] واضحة فيما تدل عليه، فلا غموض، ولا خفاء، ولا لبس، ولا إشكال، ولا .. فهي بينة كالشمس، فالقرآن لا توجد فيه آية غامضة أبداً، بل آياته واضحة وضوح الليل والنهار.

    معنى قوله تعالى: (وما يكفر بها إلا الفاسقون)

    قال: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، أي: وما يجحد بتلك الآيات البينات ويغطيها، ويسترها، ويتجاهلها إلا القوم الفاسقون.فإن قيل: ما السر؟ ما العلة؟ ما الحكمة؟ أيها المناطقة! لِم لا يكفر بها إلا الفاسقون؟الجواب أيها الأحباب: لأن الفاسقين غرقوا في الأهواء، والشهوات، والأطماع، والأموال، والدنيا، فإذا جاءت الآية تريد أن تمنعهم من شرب الكأس يكفرون بها .. جاءت الآية تريد أن تصرفهم عن اللهو، والباطل، والعبث، لا يقبلون .. جاءت الآية تأمرهم بالعدل وهم ظلمة لا يقبلونها .. جاءت الآية تأمرهم بالاستقامة فلا يريدونها؛ لأنهم ألفوا الاعوجاج والحياة عليه.فقوله: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا [البقرة:99] أي: وما يجحدها ويتنكر لها بعد أن عرفها، وعرف ما تدعو إليه، وتهدي إليه: إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]. والفاسقون: جمع فاسق.فإن قيل: لِم ما قال: (والفاسقات)؟الحم د لله .. الحمد لله .. الحمد لله. أكرمنا الله، فعرف أننا ذوو غيرة، فلا نقبل أن يتحدث الناس عن نسائنا، أو يتكلم عن حلائلنا، أبداً، ومن إكرام الله لهذه الأمة أن لا يدخل النساء في كل كلام.وقد سمعنا ما جاء في تلك الورقة التي يقول فيها أحدهم: صوت النساء عورة! خرافة.فإن قيل له: لِم يا عم خرافة؟الجواب: لأنه يريد للمرأة أن تحاضر، وتخطب، وتتكلم في المذياع والتلفاز بصوتها الرفيع، وهي تلوي رأسها بعد أن تحسن حالها وشعرها، وتجعل الأحمر في خديها، فلهذا الغرض فقط!! فما قالوا: ليس بعورة إلا لهذا! فهم يريدونها أن تعهر وتفجر، وتخرج من دائرة كمالها وحشمتها واحترامها إلى أن تصبح صعلوكة من صعاليك النساء، تجادل وتخاصم، وتحاضر، فكشفهم الله، وعرفنا خباياهم.ونحن نقول: من منع المرأة أن تتكلم للضرورة .. تتكلم للحاجة الماسة التي لابد منها، وإذا تكلمت في حدود المصلحة، ولو تزيد كلمة فإنها تكون قد عصت ربها، وفسقت عن أمره.وكثيراً ما بينا هذا، وعرفه الصالحات، فإذا قرع أحد بابها فإنها تقول: من، ولا تقل: (مِـيِين) وهذه الإمالة لا وجود لها في لسان العرب، فهذا الحرف لا يمال، إنما يمال: موسى .. عيسى، أما أن تقول: (مِـيين) هكذا بالإمالة فلا، بل تقول: (مَنْ) قاسية هكذا. فإن قيل لها: أين زوجك؟ فإن كانت تعرف تقول: في البيت .. في السوق .. في المسجد. ولا تزيد على الجار والمجرور حرفاً واحداً أبداً، فإن زادت كلمة أخرى فهي آثمة، كأن تقول: عفواً قد يكون الآن في السوق .. مع الأسف في مثل هذا الوقت لا يكون في السوق.. إذاً ممكن الآن في طريقه إلى كذا. فهذا الكلام حرام.فإن قيل: من أين لك يا هذا يا شيخ؟ فإنك تدعي هذه الدعاوى الباطلة، فدلل وبرهن من قال الله .. وقال رسوله؟الجواب: نعم، أما قال الله تعالى للأميرات أزواج محمد وبناته: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:32-33]، ومعنى قوله: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا أي: ما فيه الحاجة، أما أن تسترسل في الكلام مع الأجنبي فقد فتحت له باب المحنة.ويغالطون ا ويقولون: ماذا هناك؟ ونحن نعرف أن الفحل إذا سمع صوت الأنثى فإنه يهتز وتتحرك أعطافه.ومع ذلك يقول: لا.. لا، هذا ليس بمعقول.نقول: هؤلاء يخادعون ويغالطون من؟! فهذه الغرائز غرزها الله .. هذه الطبائع طبعها الله، فمن يبدل خلقة الله، ويقول: ماذ هناك إذا تكلمت معها أو ضاحكتها أو صافحتها؟نعم، إذا كان هذا الفحل لا يرى طاعة لله .. لا يرى فسقاً عن دين الله، لا يرى غيرة .. فسيقول: ماذا هناك؟أما إذا كان يحافظ على زكاة نفسه حتى لا تتحول إلى خبث، وإلى زكاة نفس تلك المؤمنة حتى لا يحولها إلى خبث، فهو يحاول أن يقلل ما استطاع من كلمه وحديثه مع هذه المؤمنة.والشاهد غرقوا في الفسق.ومعنى الفاسق: خارج عن الطاعة. مأخوذ من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وسميت الفأرة فويسقة؛ لأنها تخرج من جحرها على أهل البيت، وتريد أن توقد عليهم النار، أو تأكل عجينهم.فمن فسق عن أمر الله أي: عدل عنه وخرج عنه فقد فسق، ولا يزال المرء يفسق يوماً بعد يوم حتى يطبع على قلبه، فلا يسمع نداء، ولا يعرف إجابة إلى هدى، فقد انتهى أمره لمغالاته في الفسق، وهذه الحقيقة واضحة.

    الإسلام يحذر من الاستمرار في المعصية ويدعو إلى التوبة الفورية

    الذي يألف شيئاً ويعتاده زمناً طويلاً يتعذر عليه أن يتركه، وقلّ من يستطيع أن يترك عادة تعودها وأشربها في دمه ولحمه، فلهذا الإسلام يحذر من الاستمرار على المعصية، ففرض التوبة وشرعها وأوجبها، وأوجب أيضاً الفورية فيها، لا تقل: سأتوب بعد يوم أو عام، أو بعد شهر أو كذا كذا، كل هذا باطل، فإذا زلت القدم وسقطت، وفعلت المعصية، فمن ثم وأنت تصرخ: لا إله إلا الله قل: أستغفر الله، وأتوب إليه، وكلك عزم على أن لا تعود إليها، ولو صلبت، وذبحت، وقتلت، وهذه هي التوبة على الفور.أما أن تقول: سأتوب فهذا حرام، فمن يحييك غداً حتى تتوب.وكلنا يعرف آية سورة النساء فهي محفوظة لدى المؤمنين والمؤمنات، وفيها بيان كافٍ شافٍ، إذ قال تعالى وقوله الحق: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] فالله هو الذي تكرم وامتن وأنعم، فجعل التوبة عليه واجبة، وأوجبها على نفسه، فهو يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، وتعهد بذلك لأوليائه وعباده فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17].ولنتأمل هذا الهدى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ فأثبتها وأوجبها على نفسه تفضلاً منه وامتناناً، ولا يوجب على الله مخلوق من المخلوقات شيئاً، بل هو الذي أوجب على نفسه بنفسه بهذه الصيغة: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ والسوء هو ما يسيء إلى نفسك، كأن يقع عليها مثل الدخان، فتسود وتظلم، ثم تعفن وتنتن وأنت لا تشعر، لكن لما تتلطخ النفس وتخبث يظهر ذلك حتى في البهائم، ولا يبقى سراً مكتوماً، فيظهر أثر ذلك في سلوكك .. في منطقك .. في مشيتك .. في معاملاتك .. في حياتك كلها، كالمرض يظهر في سلوك المريض، فيصبح لا يقوى على الكلام .. لا يقدر على الأكل .. لا يستطيع النوم .. لا يقوى على المشي، فأعراض المرض قد ظهرت فيه، فإذا مرضت النفس والله ليظهرن ذلك في سلوك هذا المسكين، كما يظهر المرض في جسمه سواء بسواء.إذاً: ما يسيء هو السيئة وهو السوء.قال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17] أي: ما يسيء إلى نفسه.وعلى سبيل المثال: فإن الكذب.. السب والشتم .. الخيانة .. الغش .. السرقة .. الكبر .. العجب، كل هذه تسيء، وغيرها من سائر الذنوب والمعاصي وتحدث أثراً سيئاً على النفس البشرية التي هي السلطان في الجسم.ثم قال: بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، فهو يعمل المعصية وهو لا يريد أن يتحدى الله، أما الطغاة والجبابرة الذين يعلمون ويريدون أن يتحدوا الله قائلين: افعل ما تشاء فأنا ضدك، فهذا لن يتوب الله عليه، ولا توبة له.وإنما المقصود بأهل التوبة من يعملها مع نوع من الجهل، وقد فسرنا ذلك غير ما مرة، فتجده يقوله: ها هو الشيخ الفلاني يفعل كذا، وأنا مثله؟ وآخر يقول: لو كان هذا حراماً فكيف تأذن به الحكومة؟ وآخر يقول: إن شاء الله إذا تزوجنا نترك هذه المعصية، وآخر يقول: إذا توظفت إن شاء الله كذا، فهذه أنواع الجهالة، لا أنه يتحدى الله فيقول: أمرتني وأنا لا أفعل، وافعل ما تشاء. فذاك صاحبه لا توبة له، فلهذا تأمل هذا القيد: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]. وقد تجد من يقول: ممكن هذا غير حرام، فها هو فلان يفعله، فيسهل عليه أن يفعل هذا. هذا هو نوع الجهالة.ثم قال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، والقرب نسبي، فمن الجائز أن المرء قد يقارف ذنباً عشر سنوات ويمكن أن يتوب منه، ومن الجائز أن يقارفه مرة ولن يتوب، ففي ليلة واحدة فقط يسهر في مخمرة ومزناة ثم يخرج لا يعرف الله.فما دامت أن القضية بهذه الصورة فلا ينفعك إلا الفورية في التوبة، والإسراع على الفور، فأنت لا تضمن أنك تعيش عشر سنوات أو عشرين سنة، ولا تضمن أنك تتوب أو لا تتوب، ولا تضمن شيئاً أبداً، لأنك في قبضة الله، ولست في قبضة نفسك، والله قد أرشدك إلى أن تتوب على الفور.ولهذا بالإجماع أن التوبة لا تؤجل حتى الحج .. حتى رمضان. فإذا زلت القدم، ووقعت على الأرض فقل: أستغفر الله وأتوب إليه.

    المراد بقوله تعالى: (الفاسقون)

    قول ربنا: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا [البقرة:99]، فما قال: إلا اليهود أو إلا النصارى .. إلا المشركون .. إلا الأغنياء .. إلا الفقراء. إنما قال: إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، والسر في هذا أن الذي يتوغل ويمشي في طريق الضلال دهراً طويلاً يتعذر عليه أن يعود، فلا يستطيع؛ فلهذا الذي يفسق ويفسق في: الزنا .. الربا .. قتل النفس .. الخيانة .. الكذب .. ألـ .. ألـ، يصبح غير قابل للتوبة، فيكفر بالقرآن قائلاً: دعنا من هذا، أنا لا أؤمن بهذه الكلمات التي تمنعنا، وتحول دون رقينا وسعادتنا، وكل هذا نشاهده ونسمعه.أما الإنسان النقي الطاهر سواء كان يهودياً أو نصرانياً فإنه إذا سمع آيات الله تتلى، وفهم ما تدل عليه، وتهدي إليه، فإنه يقبلها، ويرغب فيها ويحبها، وليس هناك موانع.أما من كانت لديه موانع كحال رؤساء الكنائس والبيع اليهودية، وحال رؤساء مشايخ الطرق، وكذلك هو حال رؤساء الشعوب، فهم لا يريدون أن تخرج الشعوب من أيديهم؛ لأنهم استغلوهم، وتحكموا فيهم، فلا يقبلون هدى الله لذلك.والمراد في قوله: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99] هم فساق اليهود، فما كل اليهود يرفضون آيات الله، ولكن فيهم أمثال ابن صوريا الأعور وفلان وفلان الذين لهم سلطة يتحكمون بها في الشعب اليهودي فيرفضون الآيات، ويكفرون بها؛ لأنها تحول بينهم وبين مرادهم، وهذا ما هو ببعيد أبداً، فإنك تجده بيننا، والذي توغل في أية معصية لا يستطيع أن يتخلى عن المعصية، ولا يؤمن بالآيات.
    تفسير قوله تعالى: (أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم ...)

    سجية اليهود وطبيعتهم في نقض العهود

    قال تعالى: أيفعلون .. أيقولون .. كذا.. كذا أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ [البقرة:100]، هذه شهادة الله على بني إسرائيل، فهم كلما عاهدوا عهداً جاءت جماعة أخرى ونقضته: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]، سواء كان فريقاً كبيراً أو صغيراً. ومن هنا لا تثق في أي معاهدة يهودية أبداً، وإن اضطررت إلى أن تعقد معاهدة فعاهد، واكتب، وأشهد، لكن إياك أن تطمئن فتقول: بيننا وبينهم عهد، والله إن احتاجوا إليك وقدروا عليك ما تركوك لأجل العهد؛ لأنهم طبعوا على نقض العهد، ولقد كان الله يخاطبهم والجبل فوقهم، ومع ذلك نقضوا العهد، فكيف -إذاً- تطمئن إلى عهودهم.هذا الموضوع تكلمنا فيه بحمد لله، وقلنا للعرب: يا عرب! توبوا وأسلموا، وحدوا دولتكم، وحدوا قوانينكم، فأمتكم أمة واحدة، ودينكم دين واحد، فلا مذهبية، ولا فرقة، ولا وطنية، ولا نعرات خارجة عن دائرة الحق، بل أمة واحدة، وما عليكم إلا أن تجتمعوا، وسوف يهرب اليهود منكم، فوالله ما إن يسمعوا بوحدة المسلمين الحقة فلن يبقى يهودي يطالب بإسرائيل، ولا يبقون فيها، بل يرحلون.فإن قالوا: ما زلنا غير مستعدين للإسلام والوحدة و.. و.نقول: لا مانع من التدريج. وبإمكانكم أن تعاهدوا اليهود، وتعقدوا بينكم وبينهم معاهدات سلم وعدم اعتداء حتى يخف الألم على إخوانكم الفلسطينيين، وتزول همومهم، ومخاوفهم، فأمنوهم على الأقل، ولا تقولوا: إذا عاهدناهم لا نستطيع أن ننقض العهد، وهذا معناه أننا أعطيناهم فلسطين للأبد، نقول: هذا الكلام باطل؛ لأنهم هم الذين سينقضون العهد، وليس أنتم، فهذا طبعهم، وهذه غرائزهم، وهكذا عاش أسلافهم إلى اليوم.وقلنا: إن شككتم فانظروا إلى حال رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإنه لما نزل المدينة مهاجراً وتقدمه فحول هاجروا إليها قبله، وأصبح الإيمان في كل بيت، فعقد الاتفاقيات والمعاهدات على السلم وعدم الاعتداء، فهل أنتم أعلم من رسول الله الذي معه الله والملائكة، ولله جند السماوات والأرض، ومع هذا كان من الحكمة والرشد والعقل والمعرفة عقد اتفاقية مع اليهود من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريضة، ونصوصها موجودة، ولو تقرأها تجد فيها العجب، ولا تستطيع أمة الآن تقوم بهذا.

    نقض يهود بني قينقاع للعهد

    وأول من نقض العهد هم بنو قينقاع، فقد كان لديهم صائغ، نسميه قين أو حداد بلغتنا الدارجة، فهذا الصائغ وهو يصوغ جاءته امرأة مؤمنة تريد أن تشتري وتصنع، فكانت جالسة محتشمة، وعليها حجابها وملاءتها، فجاء هذا اليهودي الخبيث يضحك من خمارها على وجهها يقول: لِم أنت مغطية وجهك؟ لم أنت كذا؟وهذا الكلام يقوله الآن الذين ينتسبون إلى الله والإسلام.يقول اليهودي: لِم أنت هكذا؟ ما هذا التجمد والتحجر؟ كأنه يعيش اليوم؛ فاغتاظ كيف تحجب نفسها، وكيف تغطي جمالها ووجهها. فأبت أن تلتفت إليه أو تتكلم معه، فجاء من الوراء، وأخذ ملاءتها وربطها مع غطاء رأسها، فلما قامت انكشفت عورتها، وصعقت على الأرض تصرخ: واإسلاماه، فشعر بها أهل السوق من المؤمنين، فجاءوا فرفسوه على الأرض، ومن ثم جاء رجال بني قينقاع ودارت فتنة ما هدأها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن نقض يهود بني قينقاع للعهد، وأراد أن يقيم حكم الله فيهم، فشفع لهم أحد رجالات الأنصار، فأعطاه الرسول إياهم، فأجلاهم من المدينة لنقضهم العهد، فما قتل أحداً، ولا سلب مال أحد، فأخرجوا، ونزلوا بالشام بأرض تسمى أذرعات.

    نقض يهود بني النضير للعهد

    أما بنو النضير فقد دامت المعاهدة معهم أكثر من أربع سنوات، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم مع رجال له كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي يطالب بموجب الاتفاقية أن يعطوه مالاً ليسدد دية مقتول، والاتفاقية تقول: أننا نتعاون حتى على تسديد الديات، فإذا لزمت اليهود دية فالرسول يساهم فيها، وهم كذلك، فلما حصل أن مسلماً قتل شخصاً ظنه كافراً وهو مسلم من بني عامر، فجاء يطالب بالمساهمة في الدية.فقالوا: تفضل يا أبا القاسم اجلس، ففرشوا له الفراش وأجلسوه تحت جدار مع أصحابه، وأخذوا يتآمرون: هذه فرصة، وهذا اليوم يوم السعد، واليوم ننهي هذه المشكلة، فقالوا: ائتوا بمطحنة -رحى، معروفة عندنا- وألقوها على رأسه من السطح، فإن قيل لنا في ذلك قلنا: لقد سقطت. وما زالوا كذلك وهم يبحثون كيف يرفعون المطحنة كيف يرسلونها في داخل البيت، فنزل الوحي: قم يا رسول الله. وأخذ رداءه وخرج هو ورجاله؛ فوصل الرسول إلى المدينة، وأعلن الحرب عليهم، فقد نقضوا العهد، وهل هناك نقض أكثر من أن يريدوا أن يقتلوا رئيس الدولة؟!فأجلب الرسول على بني النضير برجاله، وطوق المنطقة واستسلموا وانقادوا، واقرءوا قول الله تعالى من سورة الحشر: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:1-2].لكن أين أولو الأبصار؟؟يا رب! لا يوجد أحد، فما اعتبر العرب ولا المسلمون، وهذه الآيات ما تقرأ إلا على الموتى.نعم لقد نقضوا المعاهدة بأيديهم فطوقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستسلموا، وما قال: اقتلوهم ولا مرغوهم في التراب، ولا أذلوهم، لا، إنما هي عدالة السماء، ونور الله، وما كان منه إلا أن قال لهم: ( اخرجوا واحملوا معكم ما تستطيعون حمله )؛ فأخذوا كل شيء من الفرش والأسرة، والعيدان، وآلات الطبخ .. وحملوا كل ما يستطيعون، حتى إن بعضهم أخذ شباك النافذة فينزعه ويأخذه معه، وبعضهم لديه خشب ممتاز فيهدم البيت ويأخذ الخشب على البعير: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ .

    نقض يهود بني قريظة للعهد

    أما بنو قريظة في جنوب المدينة فقد استسلموا وانقادوا وعرفوا ما جرى لإخوانهم من بني قينقاع وبني النضير، فثبتوا يتحينون الفرصة لينتقموا ويشفوا صدورهم، ثم جاءت محنة الأحزاب المؤامرة الكبرى، التي ما بلغنا مؤامرة في التاريخ تشبهها إلا مؤامرة الخليج، وإن كان الناس لا يعرفون هذا، فلا نظير لتلك المؤامرة؛ لإنهاء الإسلام وإطفائه.فهذا الزعيم حيي بن أخطب النضري عليه لعائن الله، ما إن خرج مع بني عمه ونزلوا في خيبر في فدك في تبوك في الطريق إلى الشام، قال: والله لأبيتن لكم، ولأنهين هذا الدين وهذا الرسول، وأخذ يركض بين قبائل العرب في الشرق .. في الجنوب .. في الغرب .. في مكة: هيا بنا ننهي المشكلة، فحزب الأحزاب وجمع القوات من الشرق والغرب، وطوقوا المدينة تطويقاً كاملاً، وحشر الرسول ورجاله في جبل سلع خمسة وعشرين يوماً، فلما شاهد بنو قريظة الحصار انضموا إلى المؤامرة ودخلوا مع الأحزاب بوسائط معروفة، وأصبحوا ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكشفوا النقاب عن وجوههم، وشاء الله عز وجل أن يطرد الأحزاب شر طردة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:9-10]، ليس معنى من فوق: من السماء، وليس معنى من أسفل: من تحت الماء، وإنما ذلك بالنسبة للمدينة من جهة الفوقية والسفلية. وهكذا: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:10-11]، وما هي إلا خمسة وعشرون ليلة وإذا بريح الصبا لا الدبور، قال صلى الله عليه وسلم: ( هلكت عاد بالدبور، ونصرت بالصبا )، ريح شمالية شرقية، وهذه الريح لو شاهدتموها لا تسألوا، ففي أول الأيام والليالي برد لا حد له، كأنكم في أوروبا حيث الناس يرتعدون أيام الشتاء، وإذا بهذه الريح -والله- تقتلع الخيم وتضربها، وتقلب القدور التي فيها طعام الجيش، فما كان منهم إلا أن أعلن رئيس المؤامرة -رضي الله عنه الآن- أبو سفيان الرحيل، ونادى المنادي بالرحيل في الليل، فقال الرسول: ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا )، أي: من الآن نحن الذين نغزوهم، وليس هم الذين يغزوننا.أما بنو قريظة فلم يذهبوا مع الأحزاب، لأنهم مقيمون في المدينة، فصلى الرسول صلى الله عليه وسلم الظهر، وإذا بجبريل على فرس الحيزوم: ( يا رسول الله وضعت السلاح؟! أما نحن فما وضعنا السلاح، انطلق إلى بني قريظة، وأذن مؤذن في داخل المسجد: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة )، فلبسوا دروعهم وحملوا سلاحهم إلى بني قريظة، وحاصرهم رسول الله، وما سمعوا كلمة إلا واحدة: يا إخوان القردة والخنازير فقط، وفاوضهم وفاوضوه، واتفقوا على تحكيم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات: أن يقتل الرجال، ويسبى النساء والأطفال؛ لأنهم رضوا بحكمه ووافقوا، فلما حكم سعد قال الرسول: ( لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات ).فجمع الرجال مكبلين، مسلسلين هنا في المناخة في طرف المسجد، وحفرت لهم حفرة، والسيف يقطع الرءوس، فلا إهانة، لا سب، لا شتم، لا.. لا.. تطهير فقط، وكانوا قرابة السبعمائة رجل، والنساء والأطفال وزعوا على المؤمنين، وما هي إلا أيام حتى دخلوا في رحمة الله وأصبحوا مسلمين.فهل عرف المسلمون هذا؟ ما عرفوه أبداً.إلى الآن في غضب: كيف تتم مفاوضات، وكيف يرضى بهذا؟ تفضلوا، لا نستطيع.عجائب التاريخ! قلنا لهم: يا هؤلاء! ليست القضية قضية تراب، وأرض، وفلسطين، القضية أن يدخل البشر في دين الله، ونحن مطالبون بأن نغزو أوروبا وأمريكا والصين واليابان، وندخل الناس في رحمة الله، وليست القضية قضية أرض لا نعطيها لليهود!! وأي قيمة للأرض والتراب والطين؟ولكن هذا الكلام لا يفهمونه، وما عرفوه بعد، فهل جلسوا هذا المجلس وتعلموا؟فهم لا يعرفون.الشاهد عندنا في قوله تعالى: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، فاحذر يا عبد الله الفسق، واحذري يا أمة الله الفسق، والفسق هو: الخروج عن طاعة الله ورسوله بترك الواجب وفعل الحرام، فمن أخذ يترك الواجبات، ويتخلى عنها واحداً بعد واحد، وأخذ ينغمس في المعاصي، ويرتكبها معصية معصية، فسيأتي يوم يكفر بالله ولقائه، لا بآياته فقط.وما قال: إلا اليهود .. إلا بنو فلان.. لا، قال: إِلَّا الْفَاسِقُونَ ليحذر من الفسق ويبين نتائجه، فإن الفاسق يوماً بعد يوم يعمى البصيرة، ولا يصبح يعرف شيئاً، ويكذب الله ورسوله وبآياته.ثم قال تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]، فما يجمعون على نقضه، ولابد فريق ينقض ويسكتون، وهذا الذي يحصل.

    تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ...)

    قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:101]، أي: ولما جاءهم رسول عظيم الشأن .. رسول جليل القدر .. رسول فوق الرسل .. رسول إمام الرسل، ليس رسولاً عادياً قد لا يبالون به أو لا يصدقونه. وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ وهذا التنكير في لغة العرب يدل على التعظيم.وهذا الرسول ليس يحيى، بل هو محمد صلى الله عليه وسلم.وقد جاءهم بالفعل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]؛ فهو إلى اليهود والنصارى، والبوذيين، والمشركين، والمجوس، وكل الملل والنحل، فهو رسول الله إليهم.وتريدون دليلاً أو برهنة؟من يوم أن توفي الرسول من قبل حوالي أربعة عشر قرناً، ما جاء رسول أو نبي في الأرض كلها؛ لأن الله أعلم أنه ختم النبوات بهذه النبوة، وختم الرسالات بهذه الرسالة، فلهذا ما جاء رسول، وهذه وحدها تجعل العاقل يشهد أن محمداً رسول الله، فما كانت البشرية تمضي عليها السنون وعشرات الأعوام وليس فيها نبي ولا رسول، فلابد من نبي ينبئها ويخبرها؛ لأنها خلقت لتعبد الله، وتذكره، وتشكره، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].قال: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:101] ما الذي حصل؟ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [البقرة:101]، وكتاب الله هنا التوراة .. الإنجيل، إذ فيهما نعوت الرسول وصفاته واضحة كالشمس، حتى المكان الذي يخرج منه: بين جبال فاران .. مدينة طيبة .. بلد تسمى يثرب .. أرض سبخة فيها كذا، ففيها نعوت كل من يفتح عينيه يرى الرسول. ومع هذا عموا عمى كاملاً، وأنكروا نكراناً كاملاً.ثم هذا الرسول مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فلو جاء بدين يتناقض مع دينهم لقالوا: لا نقبل هذا، هذا جاء يحرم علينا ما أحل الله، أو يحل لنا ما حرم الله، أو يأمرنا بما لا نطيق، فهذا ليس بدين الله، وقد يكونون معذورين، لكنه والله جاءهم بما عندهم، فكل الأديان قامت على لا إله إلا الله، وأن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وبين رسوله الذي أرسله، وكل الأديان مجمعة على هذا، وكل الأديان تعرف أنه لابد من لقاء لله عز وجل، وأنه لابد من الجزاء على الكسب الدنيوي، وأنه إما عالم شقاء أو عالم سعادة فلابد منهما، وأن الظلم حرام، والخبث حرام، والسرقة حرام، والربا حرام .. و.. و.. وكل المحرمات عندنا محرمة في الكتب؛ لأنها ضارة بالناس، فلا يحرم الله إلا ما يضر بالناس.إذاً: مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فليس هناك تناقض ولا منافاة ولا مضادة، فلم لا يقبلونه؟ قال: (نبذه) النبذ: الرمي، فلا تلتفت إلى ما يقوله هذا الرسول فارمه وراء ظهرك، (نبذه فريق) كبير منهم، وهذا الفريق هم الرؤساء المستغلون للشعب اليهودي، الذين يعيشون على حسابه فهم الذي يرفضون الحق.وبعض البهاليل يقولون لـأبي عبد الله وأبي سالم : كيف تجعلون القرآن وراء ظهوركم؟ فيأتون يشتكون إلي يقولون: الله يقول: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران:187]، فكيف يجعل هؤلاء القرآن وراء ظهرهم؟فقلنا لهم: معنى جعله وراء ظهره أي: ما عمل به؛ لأنهم وضعوه وراء ظهورهم، فما الفائدة أن يضعوه وراء ظهورهم، فلا يلتفتون إليه ولا يقبلون عليه، وإخواننا هؤلاء مضطرين لكبر سنهم يتكئون على العمود، والمصاحف خلفهم في الدولاب. لكنهم أصروا وقالوا: لا تعطه ظهرك، فالله يقول: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ !وهذا سوء فهم؛ فقوله: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ معناه: ما عملوا به، ولا قرءوه، ولا فتحوه، ولا ولا؛ لأنه جاء ضد أهدافهم وأغراضهم.ثم قال: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:101]، أي: لا يعلمون شيئاً، لا صفة الرسول ولا نعته ولا صفة الإسلام ولا أمة الإسلام ولا.. ولا، فهذه النعوت حتى للأمة موجودة.وماذا فعلوا؟تركوا التوراة؛ لأنها تتفق مع القرآن وتمشي معه، ولجئوا إلى السحر والباطل، فالشياطين كتبت كتاباً؛ شياطين الإنس مع شياطين الجن على عهد سليمان، ودسوه تحت السرير بواسطة آصف ، فلما مات سليمان أخرجوا الكتاب وصاحوا في الأمة: انظروا لقد كان سليمان يحكمكم بهذا الكتاب الذي فيه السحر، فسليمان ليس بنبي ولا برسول بل هو ساحر، ولهذا استخدم الإنس والجن، وتحكم في العالمين بالسحر، وهذا الكلام سيأتي الحديث عنه إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #80
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (72)
    الحلقة (79)




    تفسير سورة البقرة (42)

    عرف السحر منذ قديم الزمن، يوم أن تعلمه الناس على يد هاروت وماروت، ورغم أن هذين الملكين نصحا الناس بعدم تعلمه، وأنهما فتنة للناس، وأن السحر كفر بالله تعالى، إلا أن كثيرين أصروا على تعلمه وتعليمه وممارسته، فتعلموا كيف يفرقون بين الرجل وزوجه، وكيف يفسدون حياة الناس ومعايشهم، ولكن كل هذا ليس بمعزل عن قدرة الله ومشيئته، أما أولئك فقد خسروا جنة عرضها السموات والأرض.

    تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين عل ملك سليمان...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.وقراءتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102-103].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!قول ربنا جل ذكره: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، هذا كلام الله جل جلاله وعظم سلطانه .. هذا إخبار الله عز وجل عن بني إسرائيل .. عن اليهود، والسياق فيهم من قبل ومن بعد.

    اتباع اليهود لما تتلوه الشياطين

    يقول تعالى: وَاتَّبَعُوا أي: واتبع اليهود من بني إسرائيل ما تتلوا الشياطين، وقد سبق أن عرفنا أنهم لما وجدوا التوراة لا تتصادم مع القرآن، بل وجدوها متفقة معه في أصول الدين: في إثبات النبوة، والتوحيد، والبعث والجزاء، فلما وجدوها متفقة معه رموها وراء ظهورهم، أي: تخلوا عنها، وما أصبحوا يحتجون بها، ولا ينقلون منها؛ لأنهم وجدوها مثل القرآن، فهم كانوا يعتزون بها، ويجادلون ويتكلمون، ويقولون: نحن أولو كتاب وأولو علم، ولسنا في حاجة إلى هذا العلم، ولا إلى صاحبه، لكن لما وجدوا التوراة تتفق تمام الاتفاق مع القرآن الكريم في أصول الدين تركوها.ومعنى: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران:187]، خلوها وراءهم، ولا يقبلون عليها لا بالقراءة، ولا بالأخذ منها والاحتجاج بها؛ لأنها تمشي مع القرآن، إذ القرآن كلام الله، والتوراة كلام الله.فماذا يفعلون بعد؟ قال تعالى عنهم: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، لكن ما هذا الذي اتبعوه؟تقول الأخبار السليمة الصحيحة: أن سليمان عليه السلام لما حصل له ذلك الحادث، وترك قول: إن شاء الله، وغفل تلك الغفلة، ففي تلك الأثناء استغل شياطين الجن ومردتهم تلك الفرصة فاجتمعوا وكتبوا كتاباً يحمل أصول السحر ومبادئه وآثاره، وكان كاتب سليمان عليه السلام هو آصف بن بلخيا ، فاستطاعوا بواسطته أن يدسوه تحت كرسي سليمان، ولما توفي سليمان عليه السلام استخرجوا ذلك الكتاب، وأشاعوا في عالم الجن والإنس أن سليمان عليه السلام كان ساحراً، وكان يحكم الإنس والجن، ويتصرف ذلك التصرف العظيم بواسطة السحر، فأبعدوا عن الناس والجن أن سليمان كان نبياً رسولاً، وكان يسود الناس بقدرة الله وتوفيقه، وعونه، وتسخيره، حتى إن الله سخر له الجن، وسخر له الريح، وكلام الله شاهد: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ:10].. الآيات من سورة سبأ: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ [الأنبياء:82]. فهذا الكتاب وسعوه، وشرحوه، وأضافوا إليه، وأصبح اليهود سحرة العالم.قال الله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أي: على عهد ملك سليمان، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إن سليمان لم يكن نبياً، ولا رسولاً، فكيف تذكره مع المرسلين، وإنما كان ساحراً يحكم الإنس والجن بالسحر.. فأبطل الله هذه الدعوى بقوله: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ .
    نفي الكفر عن سليمان عليه السلام
    قال تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، نفى الله تعالى عن نبيه ورسوله سليمان الكفر، وهل يبقى لأحد أن يتكلم بعد ذلك؟ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ بل هو أحد المرسلين الثلاثمائة والأربعة عشرة، ووالده كذلك: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل:15]. فانظر كيف كفر اليهود بتكفيرهم نبي الله ورسول الله.ونحن عندنا قاعدة عامة: من قال لأخيه المسلم: يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان الذي قال صدق فيما قال والمقول فيه حقاً كافر نجا، أما إذا كفر مؤمناً غير كافر فقد كفر، فكيف بالذي يكفر أنبياء الله ورسله؟!وهذا الذي جاءت به السنة: ( من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما ).إذاً: فكيف بالذين يكفرون أنبياء الله ورسله، وكيف بالذين يكفرون أولياء الله وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله، ونبرأ إليه أن نكفر مؤمناً أو مؤمنة.والكفر يكون بإنكار وتكذيب الله .. بإنكار وتكذيب رسول الله .. بجحود ما شرع الله وما قنن لعباده، أما مجرد معصية، حتى ولو كانت قتل نفس فصاحبها لا يكفُر ولا يكفَّر، إذ الكفر لابد فيه من استباحة ما حرم الله، وعدم اعتقاد أن هذا حرمه الله.إذاً: قوله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، ولكن كفر اليهود الذين كفروا سليمان.

    قصة الملكين هاروت وماروت

    قال تعالى: (( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ )) أي: بالعراق (( هَارُوتَ وَمَارُوتَ )) وهذه القصة علماء هذه الأمة المعتبرون ما أنكروها، ولا داعي لإنكارها، ولا كذبوها، وقالوا بها، إلا أنها لم ترفع إلى الحضرة النبوية، ولم يثبت فيها كلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاعت بين الأصحاب كـابن عمر رضي الله عنهما وابن عباس وفلان وفلان، وأغلب الظن كما يقول أهل العلم أنهم رووها عن كعب الأحبار أحد علماء بني إسرائيل الأجلة، الذين أسلموا ودخلوا في الإسلام، فيكون هذا مأثوراً منقولاً عنهم ولا غرابة.لكن ما هذه الحادثة التاريخية؟تقول الرواية: إن الملائكة عليهم السلام تعجبوا من بني آدم كيف يفجرون؟ كيف يكذبون؟ كيف يقتل بعضهم بعضاً؟ كيف.. كيف؟ لما يشاهدون ما يجري بين الناس من السوء والشر والباطل، فتحدثوا فيما بينهم وتعجبوا، فقال لهم الرب تبارك وتعالى: أنتم تتعجبون من بني آدم كيف يخرجون عن طاعة ربهم، ويفسقون عن أمره؟! فهيا اختاروا اثنين منكم، ونغرز فيهم غرائز بني آدم، ونطبعهم بطابع البشرية، وننزلهم إلى الأرض، ويعيشون كما يعيش بنو آدم، وانظروا هل يعصون الله، ويخرجون عن أمره أو لا؟ قالوا: يا حبذا، فاختاروا ملكين هما: هاروت وماروت، ونزلا إلى الأرض، وما هي إلا أيام أو أعوام حتى انغمسوا، فهذا زنا، وهذا كذب، وهذا .. فارتكبوا كبائر الذنوب.فخيرهما الله عز وجل بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فإن شئتما أن تبقيا هنا هكذا في هذه الحياة ولا تعذبان في الدار الآخرة، وإن شئتما جازيتكما، فرضيا بالبقاء، وأخذا يعلمان السحر بأرض بابل من العراق، فيلهمان إلهاماً وليس بوحي من الله، فإذا جاءهم من يريد أن يتعلم السحر ينصحان له، فيقولون له: لا تكفر، فإن الذي يتعاطى السحر، ويعمل به يخرج من ملة الإسلام، ويكفر تماماً، ويصبح في عداد الكافرين، فإن أصر على أن يتعلم ليتخرج ساحراً، وليأكل بالسحر ويشرب علموه أو وكلوه إلى شيطان مارد يعلمه ما به ينمسخ، ولا يصبح في قلبه ذرة من إيمان، فيعلمه سيئات يرتكبها، يتقزز منها الإنسان، وبعدها يصبح ساحراً ماهراً.ولنستمع إلى الآية الكريمة إذ قال تعالى: (( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ )) بل كفر من كفروه، وهم اليهود، (( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ )) هم الذين ((كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ))، وما هناك حاجة إلى أن تقول: (ما) نافية، (( وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ))، فالحادثة ثابتة، فما تنفى بـ(ما) أبداً، فهي موصولة: والذي أنزل على الملكين، لكن ليس إنزال وحي وإنما إلهام، فكما أوجد الله السم في العقرب والأفعى أوجد فيهم هذا الفهم، وأصبحوا يعلمونه الناس.(( وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ )) الموجودين (( بِبَابِلَ ))، وبابل بلاد بأرض العراق، ودخلها أناس وعرفوها من أهل المجلس، وهي ديار الخليل وآبائه عليه السلام، لكنه هاجر منها إلى أرض الشام: (( بِبَابِلَ )) هكذا: (( هَارُوتَ وَمَارُوتَ )).

    حكم الساحر

    قال تعالى: (( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ )) ذكراً أو أنثى، إنسياً أو جنياً؛ لأن لفظ (أحد) نكرة في سياق النفي فتعم (( حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ )) فيقولان: انتبه يا هذا وتفطن لموقفك، فأنت مقدم على بلاء، ونحن لسنا برسل الله، أو معلمي الهدى والخير، لا: (( نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ )) ومن هنا أجمع أهل السنة والجماعة على أن الذين يتعاطى السحر يكفر، فمن أخذ يتعلم السحر ويعمل به ويسحر به قد كفر، ولعله لا يصل إلى مستوى يستطيع أن يفرق به بين المرء وزوجه، أو يستطيع أن يقتل به، أو يفقد الرجل عقله أو قلبه، فلن يصل إلى هذا إلا بعد أن يتعاطى من المكفرات ما يمسح الإيمان من قلبه.وإن كان هناك ساحر يأتي ويقول لنا: أنا مؤمن، أنا كذا، أقوم الليل، ولكنني أسحر، وأستطيع أن أفرق بين كذا وكذا؛ لا يستطيع لأن حد الساحر ضربة بالسيف، ولهذا مالك رحمه الله إمام دار الهجرة، وإمامنا في مدينة الرسول، يرى أن الساحر حيث بان سحره، وظهر منه وعلم، فإنه يقتل، ولا يستتاب، ولا تقبل له توبة؛ لأن الحكم الشرعي أن الشخص إذا كفر وارتد يهودياً أو نصرانياً أو سب الله والرسول أو كذب الله أو الرسول فإنه لا يقتل على الفور، والحكم الشرعي أنه يستتاب ثلاثة أيام؛ فيدخل السجن أو الحبس، وتعرض عليه التوبة ثلاثة أيام، فإن تاب تاب الله عليه وخرج، وإن أصر على معتقده الباطل، وعلى إرادته الكافرة وارتد فإنه يقتل كفراً لا حداً، ومصيره مصير كل كافر وكافرة، إلا الساحر فإن الإمام مالك يقول: لا يستتاب؛ لأنه يعمل في الخفاء، فيقول: أنا تائب، وما رأينا رجلاً يسحر، فالسحر في الظلام والخفاء، فلهذا لا معنى لتوبته واستتابته لأنه قد يقول: تبت إلى الله ولن أعود إلى هذا الإثم أبداً، ثم يخرج من السجن، وإذا به يثير الفتن.وأكثر علماء الأمة على أن الساحر إذا قتل بسحره يقتل، فإذا أفسد عضواً؛ كأن يصيب إنساناً بالشلل أو بفقد بصره فإنه يقتل، فإذا لم يقتل ولم يصب ما هو كالقتل في الدية، فهذا يعزر ولا يقتل، وهذا الذي عليه جمهور أهل الملة الإسلامية.فقوله تعالى: (( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ )) أي: هاروت وماروت: (( حَتَّى يَقُولا )) ناصحين: لا تكفر يا عبد الله. ومن هنا: من شك في أن من يتعاطى السحر، ويعمل به، ويصنعه، وينشره بين الناس كاليهود فقد كذب الله وكفر، فالساحر كافر.

    انتشار السحر في بلاد المسلمين وكيفية العلاج

    العجيب أن السحر شائع الآن بين المسلمين في الشرق والغرب، ولا عجب! أما شاعت السرقة، والزنا، والربا، والكذب، والخيانة، وعقوق الوالدين، وبيع المحرمات، والسحر أيضاً من جملتها! وعلة ذلك كما علمتم أنها الجهل .. عدم البصيرة .. انطفاء نور الإيمان.وخذوا هذه الحقيقة: فالإيمان نور، فإذا ضعف يصبح المؤمن مريضاً، يرى ولا يرى، يحس أحياناً ولا يحس، يشعر ولا يشعر، وهنا في إمكانه ومن السهولة عليه أن يعصي الله ورسوله.أما مع العلم والبصيرة، فالناظر في الأحداث التي تقع في التاريخ، يمكن في مائة سنة أن عالماً يفجر أو يرتكب كبيرة من كبائر الذنوب، فالنور الإلهي الذي في قلبه لا يستطيع أن يفجر معه، والرجل الذي يمشي في الظلام ممكن أن يطأ على حية .. يمكن أن يطأ على شوك .. يمكن أن يجلس على عذرة؛ لأنه لا بصيرة له في الظلام، لكن صاحب النور، والذي بين يديه نور وهو ماش هل من الممكن أن يدوس حية تنهشه، أو أن يجلس على عذرة وقذر؟ الجواب: لا، لأنه على نور، فإذا خفت النور، وأصبح ساعة وساعة، فإنه ساعة ما يخفت يقع في المعصية ويرتكبها.ولهذا نعيد القول: كل الذي تشكوه البشرية هو الجهل بالله عز وجل، وبمحابه، ومساخطه، وبما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه، والله لهذا هو العلة.فمن أراد أن يطهر المجتمع من الرذائل .. من الأوساخ والقاذورات .. من الشرك، والكفر، والمعاصي، والذنوب، فالطريق الوحيد أن يعلمهم الكتاب والحكمة، كما كان رسول الله في هذا المسجد يفعل: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فالرجل كالمرأة، والصغير كالكبير، فإذا عرف وانشرح صدره ولاحت الأنوار له لا يرتاح أبداً إلا إذا دخل في عبادة الله، وتضيق به الأرض إذا نسي الله.وأقسم بالله لا علاج لإنهاء هذه الخبائث، والشرور، والمفاسد في الأرض إلا أن يعرف الله، وتعرف محابه ومكارهه، وما عنده وما لديه، والطريق: قال الله وقال رسوله، فلا علم وراء الكتاب والسنة، وعلى شرط أن يقوم بذلك علماء ربانيون يخلفون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، فيعلمون الكتاب والحكمة ويزكون النفوس والأخلاق والآداب ويهذبونها.

    افتتان الناس بهاروت وماروت

    قال تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فتنة؟ نعم، فتن الله بهم البشرية كما فتنهم بالشياطين، و اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، فهو الذي خلق السموم في الحيات وهو خالق الأسباب والمسببات، وهذا الذي يقتضيه الابتلاء في دار الابتلاء، إذ ليست هذه دار الجزاء، فلابد من وجود خير وشر، وخبث وطهر، وصلاح وفساد؛ للامتحان.قال تعالى: فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا أولئك الذين آثروا الكفر على الإيمان، والباطل على الحق، والشر على الخير يتعلمون من هاروت وماروت علماً يفرقون به بين المرء وزوجه، ولم ما قال: بين المرء وزوجته؟ الجواب: لأن الرجل يصبح زوجاً إذا تزوج، والمرأة تصبح زوجاً إذا تزوجت، فإذا قرنت أحدهما مع الآخر قلت: زوجان.قال: فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا ماذا؟ مَا أي: شيئاً: يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ألا إنه السحر.

    توقف ضرر السحر على إذن الله ومشيئته

    قال تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فرد الأمر له، نعم، الله هو الذي خلق السم فالعقرب تقتل والأفعى تقتل، وإذا شاء الله أن السم لا يقتل فلا يقتل، وكم من لديغ وملسوع ما مات، وكم ممن لدغ فمات، والله هو الذي خلق النار فتحرق بسنة الله، ولكنها -والله- ما حرقت إبراهيم، وبطل مفعولها؛ لأن الله قال لها: يَا نَارُ فقالت: لبيك وسعديك، قال: كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فبردت، ولم تبرد بروداً قاتلاً كالثلج، بل بردت برداً سالماً وسليماً.وكذلك الحديد يقطع، فبه نذبح النعجة أو البقرة أو الإنسان، وكم من آلاف ذبحوا، ولما أخذ إبراهيم مدياه ووضعها على عنق ابنه إسماعيل ما قطعت، كالعصا: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].إذاً قوله: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ مطلق إلا بإذن الله ، فإذا كتب الله في كتاب المقادير: أن فلاناً يسحر ويتقلب قلبه عن زوجه، ويصبح يبغضها ولا يحبها، ويطلب البعد منها، فهذا كان بتدبير الله وقضائه وقدره، وقد يكتب كذلك أنه يأتي إلى فلان ويعلمه الرقية والتعوذات فيتعوذ بها ويشفى ويبرأ ويعود كما كان، فهو كالمريض يمرض، يُمرضه الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، ثم لما يتم وعد الله يشفيه بحبة أسبرين أو بكأس عسل، أو بكية من نار، فهذا تدبير الله في دار الابتلاء؛ لأن هذه الحياة ليست بخالدة وباقية، فقط دار ابتلاء، فمنهم من ينجو ويكمل ويسعد، ومنهم من يهبط ويُخفض. وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: إذا أذن الله كان الضرر، فإذا ما أذن تجده يسحر ويسحر ويعطيه ويسقيه فلا ينفع.ولا تتألموا فهذا نبي الله ورسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بن الأعصم اليهودي، وهذا شاهد للجمهور أن الرسول ما أمر بقتل لبيد ؛ لأنه ما قتل، ولا كسر عضواً، ولا أفسد من الرسول شيئاً، إلا أنه ظل يومين .. ثلاثة أيام يخيل إليه أشياء ما قالها أو قالها، وما هي إلا ثلاثة أيام أو أقل وإذا بسورة الفلق تنزل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5]، فتلاها ثلاث مرات، فزال كل ذاك الذي كان في ذهنه والحمد لله. فما تعوذ متعوذ بمثل سورة الفلق في هذا الباب، فـلبيد بن الأعصم اليهودي ما قتل، وبئر ذروان الذي ألقي فيه السحر كانت قبل ثلاثين سنة موجودة.

    غلبة تعلم السحر على اليهود

    قال تعالى: (( وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ )) الذين يذهبون إلى السحرة في تل أبيب، ليسوا في تل ألبيب هم موجودون في بلاد العرب أيضاً، واليهود موجودون في كثير من بلاد المسلمين، وما زالوا إلى الآن يعلمون السحر ويحرضون أيضاً على تعليمه، حتى قلت غير ما مرة: أخشى أن يكون كثير من المسئولين في العالم الإسلامي قد سحروهم، فلهذا تراهم يسوسون أمة الإسلام ولا يتكلمون عن الإسلام أبداً كالمسحوريين! وهو مسلم يحكم أمة مسلمة، ولا يتكلم معها بالإسلام، ولا يتداول الكلام معها، ولا يفعل شيئاً، كما يسحر الرجل عن امرأته، ولا يبعد هذا؛ لأننا مختلطون بهم، وإذا ما اختلطنا بهم في البلاد اختلطنا بهم في الخارج: في الفنادق والجمعيات والمنظمات، واليهود قد برزوا في هذا الباب، عليهم لعائن الله.ولقد عرفنا أن الساحر كافر خارج من الملة، فما يتعلمه قد يبدو أنه نفعه بريال أو بعشرة أو بمليون، لكن هذا ليس هو النفع الحقيقي، فكل الناس يأكلون ويشربون ويلبسون، فما امتاز عنهم، ولكن كما أخبر الحق عز وجل: يتعلمون الذي يضرهم لا الذي ينفعهم.

    من تعلم السحر ليس له نصيب يوم القيامة

    قال تعالى: (( وَلَقَدْ عَلِمُوا ))، أي: عرفوا وفهموا من طريق التوراة والقرآن والإنجيل، وهذا الخطاب لليهود: (( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ))، فالذي يشتري هذا العلم، ويسهر على تعلمه، وينتقل من كلية إلى كلية، أو من سرداب إلى سرداب؛ إذ ما يتعلمون هذا في الكليات علناً، بل يتعلمونه في الخفاء: (( لَمَنِ اشْتَرَاهُ )) وطلبه، ودفع الثمن له: (( مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ )) أي: من نصيب، فالخلاق بمعنى النصيب، فما له من حظ ولا نصيب يوم القيامة، آيس من رحمة الله.أسألكم بالله: لو أن أهل القرى عندنا والمدن في العالم الإسلامي درسوا هذه الآيات دراستنا هذه وسمعوا، هل يتعاطون السحر؟الجواب: والله لا يتعاطوه، لكنهم للأسف ما علموا وما عرفوا، بل وجدوا من يسهل لهم القضية ويخفف الآلام عنهم، فوقعوا في السحر الذي هو الكفر وهم لا يشعرون، وأكثرهم لا يفهم أنه كافر أبداً، ويصلي ويصوم.ولقد علم بنو إسرائيل وعلم اليهود وعلمنا نحن الآن: (( لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ))، فلا حظ له ولا نصيب في دار السلام؛ الجنة دار الأبرار؛ لأنه كافر شر الكفر.قال تعالى: (( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ )) قَبُحَ هذا الثمن الذي باعوا به أنفسهم، فشرى بمعنى باع: (( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ )) فباعوها رخيصة للشياطين؛ لتصبح في النار ومآل النار.

    أهمية العلم للوقاية من السحر والضلال

    قال: (( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ))، فمن هنا الذين يتعاطون السحر من اليهود وغير اليهود والله لو كانوا يعلمون ما وقعوا في هذه الفتنة، ولا تورطوا في هذه المحنة أبداً.ومن هنا نعود إلى ما قلناه: هيا نعلم، فبدون علم لا تطمئن إلى أن ابنك أو امرأتك أو أمك أو أباك يستقيم على منهج الله، فلا رياء، ولا نفاق، ولا كذب، ولا ظلم، ولا سحر، ولا باطل، فهو جاهل، وهيهات هيهات، فلا يمكن، ومن أراد أن يتأكد -كما نقول- يسأل المسئولين في أي بلد عن المجرمين بالقتل والجرائم و.. و.. هل تجد بينهم عالماً ربانياً؟ والله لا تجد، وإن وجدت في خمسين سنة فالشواذ لا حكم لهم، ولن تجد فاعلي الجرائم والموبقات والمهلكات إلا جهلة وإن صاموا وصلوا، وهذه الآية نص قطعي قال: (( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )).فهيا نتعلم.ولسان الحال: كيف نتعلم؟ وما الطريق يا شيخ؟ أليست المدارس والحمد لله فيها من العلم ما يكفي، فكيف تطالبنا بأن نتعلم؟!الجواب: نحن نقول: هذه المدارس ما أسست من أجل أن يعبد الله وحده .. ما أسست من أجل التهذيب للآداب والأخلاق .. ما أسست لأجل تطهير النفوس وتزكية الأرواح، إنما أسست للمادة، حتى ولو كان الذي اقترح المدرسة ربانياً صالحاً، فنحن لما جئنا بأولادنا ما جئنا بهم ليتعلموا كيف يعبدون الله؛ إنما جئنا بهم ليتعلموا كيف يتوظفون.هل هناك من يرد علي من الأبناء؟!الواحد منا يبعث ابنه ويقول له: تعلم .. تعلم حتى تصبح كذا وكذا.وتساهلنا وقلنا: إن كان هذا في الذكور فلا بأس، خلهم يطلبون الدنيا، لكن المصيبة وقعت كذلك في البنات؟! فيأتي بابنته ويبعث بها إلى المدرسة ويقول لها: تعلمي. هل لتتعلم الحياء، والآداب، والأخلاق، والاحتشام؟ لا.. لا.. لا.. تعلمي لتكوني كذا وكذا .. لتتوظفي في الوظيفة.أين آثار العلم: أما يوجد زنا، وفجور، وحشيشة، وخمور، وسفك الدماء، والجرائم ..؟ليس هناك من آثار للعلم؛ لأن العلم ما أريد به وجه الله، واعرفوا هذا وافهموه، وسوف تعلمون يوم القيامة.ومن احتج علينا بقول الفقيه المالكي، وهو أحد العلماء الفطاحلة الأجلاء من علماء الأندلس حيث قال: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، وهذا يتناقض مع ما قلته أنا الآن في الظاهر، وهو في الباطن -والله- لا تناقض؛ لأن الذي تعلم -حقاً- علماً عرف به الله عز وجل وجلاله، وكماله، ومحابه، ومساخطه، وأصبح عالماً حقاً، والله لن يكون علمه إلا لله.لكن هذه العلوم المادية التي نتعلمها لا تتجاوز معرفة كذا للحصول على الوظيفة، فيتخرج كل عام في العالم الإسلامي خمسة ملايين خريج، والله لن تجد فيهم إلا نسبة (1 أو 2%)، والباقون ما تخرجوا لله، بل من أجل الوظيفة؛ لأن هذا العلم ما هو واف كافٍ، والذي جعله لا يكفي ولا يفي حال الامتحانات والشهادات، فيدخل الأستاذ يعلّم، ويصرف جهده في المادة التي يدرسها فقط، والطلاب عقولهم منصبة على تلك المادة: كيف ينجحون فقط؟ وقلَّ من يريد أن يعبد الله أو يتخلق بالإسلام، وآداب الإسلام.إذاً: من طلب العلم لله لو طلبه لغير الله وعلم لأصبح العلم يدعوه إلى الله، لكن إذا كان العلم فتاتاً وجزئيات، والله لو يأتي عالم من أولئك الذين نعنيهم ما صح لي أن أجلس إليكم وأحدثكم، فلو يظهر عالم من أولئك العلماء لا يستطيع مثلي أن يجلس في مسجد رسول الله ويتكلم عن الله، وهذا يدلكم على أن العلم الآن علم سطحي، ما هو عميق في النفوس، وما أثر فيها، فلهذا الخريج همه الوظيفة والعمل الدنيوي، وليس همه أن يبيت يتململ ويبكي بين يدي الله.قال تعالى: (( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )) لو علموا ما شروا بإيمانهم الكفر، ولما اشتروا جهنم وعذابها بأوساخ الدنيا وآثارها، لكن ما علموا، وإن كانوا يقرءون، ويكتبون، ويخطبون، فلا ينفع هذا.
    تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون)

    معنى الإيمان

    وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا [البقرة:103] قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا هذا عرض الله على عباده، فاليهود يقولون هم مؤمنون، والإيمان شيء آخر، فآمنوا معناها: صدقوا بوجود الله، وبعلمه، وحكمته، وقدرته، وعرفوا أنهم عبيده يتصرف فيهم كيف يشاء، ويسخرهم كما يشاء، فذلوا له، وانكسروا بين يديه، وأصبحوا لا ينظر أحدهم إلا بإذن ربه .. لا يتكلم كلمة إلا بإذن مولاه .. لا يأكل لقمة إلا بإذن مولاه .. لا يتحرك، ولا يذهب، ولا يجيء إلا في نطاق إذن ربه له؛ لأنه عبده، فهذا هو الإيمان.أما دعوى أنا مؤمن فلا تنفع هذه أبداً، بل مؤمنون بيوم القيامة، والبعث والجزاء، وبكتب الله، والله يقول: لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .. بالقرآن العظيم .. بما جاء به موسى وعيسى والأنبياء عليه السلام.

    معنى التقوى

    قال: وَاتَّقَوْا ومعنى وَاتَّقَوْا : اتقوا مساخط الله، واتقوا أي موقف يقفه العبد فيغضب الرب، ويبعده عنه، واتقوا أي: جعلوا بين مساخط الله وأنفسهم وقاية، بالسمع والطاعة، وبفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه.يا عباد الله! بم يتقى الجبار ذو الجلال والإكرام، الذي يقبض السماوات بيده، والأرض في يده، الذي يقول للشيء: كن فيكون، الذي خلق الموت وخلق الحياة، ورفع الكون وأوجده، كيف يتقى إذا غضب؟ هل نتقيه بالحصون والأسوار وبالجيوش الجرارة؟! إن هذا لا يقينا شيئاً أبداً، وإنما نتقيه بالإسلام له، فأعطه قلبك ووجهك، وأسلم له أعز ما تملك؛ ألا وهو القلب والوجه، فقلبك لا يتقلب دائماً إلا في مرضاته، ووجهك لا ينظر إلا إليه، ولا يلتفت إلى غيره: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125].يتقى الله -يا عباد الله- بالإسلام، أي: إسلام القلب والوجه، فلا تنظر إلا بإذنه، قال: لا تنظر، فغمض عينك، فلا تأكل إلا ما أذن لك أن تأكل، ولا تلبس إلا ما أذن أن تلبس.. وهكذا، وبهذا يتقى الله.

    المقصود بالمثوبة

    قال: لَمَثُوبَةٌ [البقرة:103]، المثوبة من الثواب، أي: عطية وجائزة يكرمه الله بها فهي مثوبة من عند الله، أما مثوبة فلان وفلان كمائة ألف ريال أو مليون فلا تكفي، ولا تنفع، والمثوبة والعطية إذا كانت من الله: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هي دار السلام؛ الجنة.يا عباد الرحمن! أين هذه الجنة؟الجنة قد ارتادها أبو القاسم، أعظم رائد عرفته الدنيا والبشرية، ارتادها ووطئ أرضها بقدميه، ورأى حورها، وقصورها، وأنهارها، وما يجري فيها من ذلك الكمال المعد لأولياء الله، فقط فوق السبع الطباق: السماء الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، وفوق السابعة دار السلام، والمسافة بسيطة، مسافة: سبعة آلاف وخمسمائة عام للطائرة حتى تصل إليها!الله أكبر، من بيت أم هانئ من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، وفي لحظات إلى الجنة دار السلام، وجاء يصفها كما وصفها خالقها جل جلاله وعظم سلطانه، فهذه هي المثوبة التي عند الله، وليست امرأة، ولا كرسي، ولا وظيفة، وهذا ابتلاء، فالمثوبة هي الجنة عند الله.قال: خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:103]، فهيا نتعلم، وإذا أردنا في الشرق أو الغرب فنلزم المواطنين والمواطنات كل ليلة في مسجد الحي أو القرية طول العام ننفض أيدينا، ونغسل ثيابنا نتوضأ، ونأتي بيت الرب، وكل ليلة لا يتخلف إلا مريض أو امرأة مريضة أو نفساء، والنساء وراء الرجال، ونتعلم الكتاب والحكمة بكل هدوء وسكينة واستقرار، ويوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، فلا يبقى جاهل ولا جاهلة في القرية أو في الحي، وينتهي الخبث، والشر، والفساد، والظلم، والطغيان و.. و.. ونصبح كالكواكب في السماء؛ يرهبنا الإنس والجن بسهولة.فإن قالوا: لا نستطيع هذا، نقول: إذاً: ابقوا على ما أنتم عليه، والحكم لله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •