تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 45 الأولىالأولى 123456789101112 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 898

الموضوع: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )




    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (14)
    الحلقة (21)




    تفسير سورة البقرة (111)

    إن عقد النكاح بين الرجل والمرأة قد ينتهي بالطلاق أو بموت أحد الزوجين، من أجل ذلك فقد شرع للمرأة التي يموت عنها زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشراً، فلا تتزين ولا تخرج من بيتها، فإذا انتهت عدتها جاز لها أن تتزين وأن تمس الطيب وأن تخرج من بيتها، ومتى ما كانت المرأة في عدتها فلا يجوز الحديث معها أو عنها في النكاح، إلا أن يكون الكلام من قبيل التلميح والتعريض دون التصريح، فإذا انتهت العدة جاز لها أن تخطب وتُنكح.

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:فهيا بنا نتلو الآية التي درسناها بالأمس:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:233].

    حكم إرضاع الزوجة والمطلقة ولدها

    أولاً: هل يجب على المؤمنة أن ترضع ولدها؟الجواب: نعم. وإن كانت مطلقة فإنه يجب عليها إرضاعه اللبأ فقط، فإذا أرضعته الرضعات الأولى لا يجب عليها بعد ذلك، إن شاءت أرضعته أو أخذه والده وأرضعه حيث يشاء، فإن اتفقت مع زوجها على إرضاعه بنفقة معينة أرضعته، وإلا سلمت له ولده، أما إن كانت تحته فيجب أن ترضعه كما تطبخ وتكنس البيت، فذلك خاص بالمطلقات.والحد الأعلى لمدة الإرضاع حولان كاملان، وهما عامان تامان.فإن بلغ العامين وأرضعته مرضعة شهرين أو ثلاثة فهل هذا الإرضاع بعد العامين يحرم النكاح؟الجواب: لا، فلا قيمة له، لحديث: ( لا رضاع بعد فصال، ولا يتم بعد احتلام )، إذا احتلم الولد هل يبقى يتيماً؟ هو يتيم قبل احتلامه، فإن احتلم وبلغ فما أصبح يتيماً، أصبح رجلاً.أما إذا أرضعت الولد قبل نهاية العامين فتصبح المرضعة أمه وبناتها أخواته، وأولادها وإخوانه، وزوجها كأبيه.. وهكذا، لكن الرضاع بعد انتهاء الحولين لا يضر.فقوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ [البقرة:233] صيغة مضارع مستقبل ولكن معناها الأمر، يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، إن كانت تحت الزوج فهذا الإرضاع واجب، وإن كانت مطلقة فالرضاع الواجب هو اللبأ الذي في اليوم الأول والثاني، وبعد ذلك تتفق مع زوجها المطلق لها على النفقة وترضع.

    مدة الرضاعة وحكم أخذ الأجرة عليها ومن تجب عليه


    وحد الرضاع حولان؛ لقوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، وإذا قال: يكفي يا أم فلان، يكفيه سنة فأعطينيه فله ذلك، وممكن لسنة ونصف، أو عشرين شهراً، فيأخذ ولده إذا ما أراد أن يتم الرضاعة.ويجوز للمرضع الأجنبية التي ترضع هذا العبد أن تأخذ الأجرة، وإذا اختلف الأب مع المرأة في النفقة، فهي قالت: ألف ريال في الشهر، وهو قال: خمسمائة؛ فإنه يرجع إلى حال الرجل: إذا كان غنياً له مال وراتب فلا بأس، وإذا كان لا يملك ذلك فينظر إلى حاله؛ نظراً إلى قول الله تعالى: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:233]. وأفاد قوله تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233] أنه تجب نفقة الأقارب على بعضهم في حال الفقر. كما أفادت الآية الكريمة أنه يجوز للوالد أن يرضع ولده من مرضعة غير والدته، لقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233]، أعطها أجرتها للأيام الماضية، وخذ ولدك وأرضعه حيث شئت.

    تفسير قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ...)

    والآن مع الآية الآتية:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:234]، يوفون أيامهم، من الذي يوفيهم؟ الله، الله الذي يوفيهم أعمارهم وأيامهم وما كتب لهم، كما قال لعيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران:55]. وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:234]، ما المراد بالأزواج؟ الزوجات؛ لأن الزوجة بالتاء الأنثى والزوج بدون تاء ذكر، لكن الأصل أن الزوج الذكر والأنثى، الرجل زوج إذا كانت معه امرأة، وهي زوج أيضاً إذا كان معها رجل، فكل واحد منهما هو زوج، إذا خفت اللبس والإيهام بين الناس قلت: زوجة بالهاء، لتفرق بين الرجل والمرأة، فقوله تعالى: وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:234] يعني: زوجات، مات الرجل وترك امرأة أو امرأتين أو أكثر. ‏

    حكمة زيادة العشر الليالي في العدة

    قال تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، ما معنى: (يتربصن)؟ ينتظرن، لا يستعجلن النكاح، يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ [البقرة:234]، لا يتزوجن أو يعرضن أنفسهن للزواج أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، عشر ليال، فلم العشر الليالي هذه؟ فالشارع حكيم، فلم زاد عشر ليال؟قالت العلماء: الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: النطفة حين يصبها الرجل في الرحم تبقى أربعين يوماً نطفة، وأربعين يوماً علقة، وأربعين يوماً مضغة، فهذه أربعة أشهر، فزاد الله العشر الليالي إذ هي التي ينفخ فيها الروح، ويكون ذكراً أو أنثى.

    لطائف في قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً)

    قال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ [البقرة:234]، منكم أيها المؤمنون والمؤمنات، فهذا ما يدخل فيه كافر ولا كافرة، أنتم يا أهل القرآن. وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:234]، ومعنى يذرون: يتركون، وهذا الفعل -يا طلبة العلم- لا ماضي له، الفعل المضارع منه والأمر موجودان، والماضي لا وجود له، لا يقال: وَذَر، فـ(ذر): اترك، ومنه قوله تعالى: ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91]، فعل لا ماضي له؛ لثقله على اللسان هجره العرب، فأصبح منه مضارع وأمر دون الماضي، فيذرون بمعنى: يتركون، يذر بمعنى: يترك، ذره: اتركه.


    معنى قوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف)

    وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، أي: عشر ليال، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234] هذه الآية الأولى.الآن عرفتم ما فرض الله علينا أيها المؤمنون أو لا؟قال لنا: والذين يتوفاهم ربهم منكم ويتركون نساء تحتهم على هؤلاء النسوة أن يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً، فإذا بلغن أجلهن وانتهت الأربعة أشهر وعشر ليال فما الواجب؟قال: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:234]، ماذا يفعلن بأنفسهن؟ هل ينتحرن، أو يخرجن عاريات؟إن التربص الذي سبق ذكره معناه: الانتظار، ينتظرن فلا يتعرضن للخطبة ولا للزواج ولا يتزين أو يتجملن لا بالكحل ولا بالعطر ولا بالحلي ولا بالثياب الفاخرة أبداً، يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً، هذا هو الإحداد، أحدت فلانة لموت زوجها فهي محدة، أحدت بمعنى: منعت نفسها عن التفكير في الزواج، وعن كل ما يريده منها ذلك.لو قالت لها امرأة: يا فلانة! هل تتزوجين؟ فإنها تغلق أذنيها فلا تسمع، أو تقوم من المجلس، ولا تكتحل ولا تستعمل زينة مهما كانت، حتى الحلي تسقطه، حتى تستكمل أربعة أشهر وعشر ليال. فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:234] أيها المؤمنون فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:234]، وهذا أسنده إلينا نحن الفحول، فالمرأة بهلولة ضائعة، لكن أباها أو أخاها أو عمها إذا شاهدها تتعرض للرجال أو تتزين فإنه يؤدبها، ولهذا قال تعالى: فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:234] أيها الرجال، ابنتك مات زوجها فهي في عدتها محدة، لا تسمح لها أن تمس طيباً أو تتجمل أو تسمع الأغاني، فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234] إذا تآمرتم معها وسكتم فعرفتموها تطل على النافذة وترغب في الزواج فيا ويلكم.

    حكم الحداد على الزوج وغيره

    واسمعوا هذا الحديث النبوي الشريف، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً )، والحديث مجمع على صحته.( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر )، أما إذا كانت يهودية أو نصرانية كافرة فشأنها، ( أن تحد ): أن تمتنع من الزينة والتعرض للرجال فوق ثلاث ليال؛ مات أبوها أخوها عمها ولدها فلا بأس لثلاث ليالٍ فهي في كرب، لا تلبس جميلاً ولا تكتحل، فهي معذورة في هذه الثلاث الليالي، وفوق الثلاث ليال حرام عليها، ( إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً )، أي: عشر ليالٍ.فالسنة بينت معنى الآية، الآية مجملة؛ لأن الله تعالى قال: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] كيف يتربصن؟الرسول بين بأنه: ينتظرن حتى تنقضي هذه المدة وبعد ذلك يتطيبن، يكتحلن، يلبسن الحرير، يلبسن الحلي، ويسمحن لمن يريد أن يخطبهن، ولا يحل لمؤمن أن يخطب امرأة وهي في العدة كما سيأتي في الآية بعد هذه. إذاً: نعيد تلاوة الآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] هذا هو الإحداد، ثم فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234] لا تخرج لترقص، فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234]، وغير المعروف أن تفعل المنكر، فتخرج تغني في الشارع.فإذا انتهت المدة فلا بأس أن تكتحل، أن تلبس سواراً، أن تلبس ثوباً جديداً، هذا هو المعروف، ولكن إذا جمعت مغنيات لترقص، تقول: انتهينا الآن من الإحداد! فهل يجوز هذا؟ ما هو بمعروف، هذا منكر.أو تخرج في الشوارع تغني وتقول: أنا انتهت عدتي فتزوجوني، فهل نسكت على هذا؟ سبحان الله العظيم! إنما قال تعالى: فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234] لا جناح عليكم يا فحول فيما فعل هؤلاء النسوة بالمعروف، أما مع المنكر فلا، لا حق لهن.

    تفسير قوله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ...)


    ثم يقول تعالى -والكلام كله حلقات متصلة-: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:235] أيها الفحول فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة:235]، اللهم إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا [البقرة:235]، عجب هذا القرآن!اسمع هذا الإعلان: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:235]، أيها المؤمنون، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:235] في أي شيء؟ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [البقرة:235]، التعريض غير اللفظ الصريح، يا أم فلانة! لنا رغبة عندكم، يا أم عبد الله! لنا حاجة عندكم، فأي حاجة هذه؟ هل دجاجة أو بقرة؟ لا ندري، هذا التعريض، يقول: يا فلان! أنا مسافر إن شاء الله وسأعود بعد خمسة أشهر أو ستة، وإن شاء الله سوف نتقابل، فما مراده بالمقابلة؟ ممكن أنه يريد خطبة ابنتك، هذا التعريض، رفع الله الحرج فيه لعلمه بحرصنا ورغبتنا في المرأة الصالحة، هذه كانت امرأة سيدي فلان العالم الرباني أو الغني الثري، وأموالها كثيرة، كل واحد يطمع أن يتزوجها، علم الله هذا. وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:235]، حتى ما تنطق به يعرفه، لا إله إلا الله! فالذي عرض نطق، وهناك من لا يعرض، لكن في نفسه إنه إذا انتهت عدة فلانة فسأخطبها، عرفه الله، ونهاه أن يقول كلمة غير التعريض. ‏

    معنى قوله تعالى: (علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سراً إلا أن تقولوا قولاً معروفاً)

    وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ [البقرة:235] الله هو خالق الغرائز وطابع الطبائع؛ عرف ما يجري في نفوس البشر، فقال: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ [البقرة:235]، فلهذا منع وحرم أن تقول: زوجني فلانة. وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة:235]، اللهم إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا [البقرة:235]، لا تواعدها بالسر أنك ستتزوجها إلا أن تقول القول المعروف كما قدمنا، كأن نقول: لنا عندكم حاجة، نحن كذا، نحن نحترمكم، نعرف كمالكم، فيفهم ذلك باللحن.

    معنى قوله تعالى: (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله)

    قال تعالى: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا [البقرة:235] وهو التعريض المعروف، ثم ختم الآية بقوله: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، أنت عرضت ولوحت، ولكن إياك أن تعقد عليها وقد وافقت ووافق أهلها قبل نهاية العدة: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235] والأجل كم؟ أربعة أشهر وعشر ليال، هذه إذا كانت مات زوجها، وإذا كانت مطلقة فقط فكذلك لا يحل أن تعزم عقدة النكاح قبل نهاية العدة.

    خلاف العلماء في عقوبة العاقد على المعتدة

    الإمام مالك يقول: يفرق بينهما ولا يتزوجها حتى الموت عقوبة لهما، والجمهور يقولون: يفرق بينهما، فإذا انتهت العدة فله أن يتزوجها من جديد.مالك قال: لا تحل له بعد ذلك عقوبة له؛ لتعدي حدود الله، امرأة ما زالت في حكم ذات الزوج وما انتهت عدتها وأنت تعقد عليها وتبني بها؟! إذاً: عقوبة له أولاً فإنه يتم الفصل بينهما، لا يمكن أن يرضى مؤمن بالبقاء عنده، هي حرام عليه، لكن بعد الانفصال وذهاب المدة الجمهور يقولون: لا بأس أن يتزوجها من جديد، ومالك يقول: لا، عقوبة له حتى لا يفعلها واحد آخر، يُحرم منها.

    معنى قوله تعالى: (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ...)

    قال تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، وأخيراً: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:235] ما هذه التعاليم؟ هل يمكن أن يكون كلام بشر؟ مستحيل، فليقنن صاحب التقنين ما يقنن، فإنه لا يعرف هذا السلوك.هل يستطيع أن يقول: إن الدولة عالمة بما في قلوبكم، فالذي يخرج عن القانون ليعبث فسوف نفعل به ونفعل؟ من يدريه ومن يطلعه؟ لكن هذا الله جل جلاله، فلهذا لن يكون هذا الكلام إلا كلام الله، مستحيل أن يكون كلام بشر.يقول تعالى: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، حتى تنتهي عدة المطلقة أو عدة المتوفى عنها زوجها، وإذا وسوس لها وعقد عليها قبل نهاية العدة فيجب أن يفرق بينهما، وتذهب إلى أهلها ويذهب إلى أهله مع اللوم والعتاب والتأديب، وإن رفعت القضية فلا يعاودها أبداً، ما دام عصى الله وفسق وخرج عن طاعته وعقد عليها وهي ما انتهت عدتها ليحزن أهل الميت، فهذا لا تعود إليه عقوبة له؛ لأن سر كون العدة أربعة أشهر وعشراً يؤكد هذا، فإذا مات ابني أو أخي وترك هذه المرأة، فهل يسرني أن تتزوج بعد سبعة أيام أو ثمانية، هل أستطيع أن أنظر إلى وجهها، بل أعتبرها خائنة لي ولأهلي، فبرحمة الرحيم جعلها تعتد أربعة أشهر ثلث السنة، فما يبقى في الغالب حزن ولا كرب ولا هم، فحزن الموت يدوم شهراً أو شهرين ويزول.أنا حزنت على أمي أكثر من سنتين، وحزنت أيضاً على صديق لنا كذا سنة، وحزنت على صهري وعمي الذي مات في البقيع، ومنذ سنتين أو ثلاث وأنا دائماً معه في المنام، ولكن هذا عواطف خاصة، لكن الأمر العام أنه كيف يموت الرجل وتذهب امرأته تتزوج بعد شهر أو بعد عشرين يوم؟! نحن في كرب وهم وهي تزغرد وأهلها يطعمون الطعام ويزغردون، أيجوز هذا؟إذاً: قولوا: آمنا بالله، هذه الشريعة الإلهية ما أعرضت عنها أمة إلا هبطت، ولا نسيتها أو تناستها وأعرضت عنها إلا هلكت، والواقع شاهد، لا تطالبني بالدليل يا عبد الله، أين أمة الإسلام السائدة الرائدة قائدة البشرية؟ أصبحت تحت نعال اليهود والنصارى.أعرضوا عن نور الله، فماذا يصيبهم؟ ولولا أن الله وعد رسوله بأن لا يهلك أمته لكنا استوجبنا العذاب الدائم منذ سنين، ومنذ قرون، لكن لطف الله ورحمته وبركة هذا النبي صلى الله عليه وسلم.أمة أعرضت عن كتابها بالمرة لا تفقه ولا تدرس ولا تعلم، ومن يتعلمه يتعلمه ليقرأه على الموتى، وما زلنا إلى الآن نقول: كيف لا تجوز القراءة على الميت؟ يجب أن نقرأه على الأحياء لتنمو حياتهم وتزدهر، ويعرفوا ربهم والطريق إليه، لا ليدخل الميت الجنة بقراءتنا.

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات


    سأتلوا الآيتين مرة أخرى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:234]، ما الذي يفعلنه في أنفسهن؟ التحلي والكحل والزينة.. وما إلى ذلك، ولكن بالمعروف، مسموح لها أن تكتحل وتلبس الجديد النظيف وتلبس الحلي في يديها، لكن إذا قالت: نغني الآن؛ فهذا ما هو بمعروف عندنا هذا، أو تكشف عن رأسها وتقول: أنا خرجت من العدة! فنقول: ولكن هذا غير معروف عندنا. وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234] وخبير بما يعملن أيضاً، لكن الله دائماً يذكر الرجال ويغفل شأن النساء لأن الفحول ما يرضون أن يذكر نساؤهم بينهم، عرف الله هذه الغريزة التي غرزها في فحول الرجال، والذين هبطوا يجلس نساؤهم معهم، تجده في دار السينما وزوجته إلى جنبه، لكن أولئك أموات غير أحياء، فالله عز وجل ما يذكر النساء إلا من ضرورة، يخاطب الأمة في فحولها: (يا أيها الذين آمنوا)، ما يقول: (ويا أيتها المؤمنات)، إذ النساء تابعات للرجال.فالإسلام الحق والإيمان الصدق رجاله فحول ما يسمحون أن تذكر نساؤهم بينهم أبداً، فمن هنا يقول تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ [البقرة:234] ومن يعمل؟ من يتزين ويكتحل؟ هل الرجال أو النساء؟ وما قال: (والله بما تعملن يا مؤمنات خبير)، بل قال: (بما تعملون)، ونحن مسئولون كما قلنا، أبو البنت أو أخوها يجب أن يرعاها، ما يسمح لها أن تتعرض للنكاح وهي في العدة.والآية الثانية: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:235]؛ لعلمه تعالى بغرائزنا وطباعنا، فأحدنا قد يعلم أن فلانة امرأة كذا مات زوجها فيبدأ يتطلع، ويكن ذلك في نفسه، قطعاً هذا موجود، ولهذا قال: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ [البقرة:235]، والتعريض غير المواجهة والمصارحة، مثاله: يا فلان! إننا نرغب في صحبتكم أو في جواركم. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ [البقرة:235]، ما تخفون على الله، والله! لقد علم أنكم ستذكرونهن، وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا [البقرة:235] كرر هذه القضية مرتين، فلا إله إلا الله! لأن هذا عام في المحدة والمطلقة.فأنت طلقت زوجتك يا إبراهيم، فهي ما زالت في عدتها، وما طلقتها إلا لتأديبها، وتريد قبل نهاية العدة أن ترجعها، فيأتي الآخر ويتزوجها، كيف تنظر إليه؟ ترويع المسلم حرام، فكيف بأن تأخذ فلذة كبده، المطلقة تكون في عدة، وكثير من الفحول يطلقون تأديباً لها لشهر أو شهرين، وقبل أن تنتهي العدة يراجعها، فتكون قد تأدبت، فإذا كان المؤمن لا يحترم هذا ويخطبها ويتزوجها وهي في عدتها فذلك جرم كبير، بل حتى لو خطبها وهي في العدة، ولو ما تزوجها في العدة، حرام عليه أن يخطبها في عدتها حتى بالتعريض، التعريض يجوز للمرأة المتوفى عنها زوجها. وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، كتاب من؟ كتاب الله، كتاب العقد، كتاب الطلاق، كتاب النكاح؛ الأجل المحدد الذي هو أربعة أشهر وعشر ليالٍ أو انقضاء العدة إن كانت مطلقة. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235] في كل شيء، مادام يعلم ما في أنفسنا فكيف لا نحذره، فلا نقول الكلمة حتى نعلم أنها من رضاه، لا نمشي المشية حتى نعرف أنه أذن فيها، لا ننام النومة ولا نستيقظ حتى نعلم رضاه، هذا هو الحذر، هذه هي المراقبة، ما نعيش وكأنه لا رب لنا ولا ولي لنا ونتصرف بأهوائنا وعقولنا.كيف وهو يقول: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:235]، فمن زلت قدمه وتاب إلى الله تاب عليه وغفر له ورحمه. لهذه الجملة أثرها، فمن الجائز أن يقع الإنسان في ورطة بأن يتصل بذوي المرأة ويقول: نريد نتزوج بفلانة إذا انتهت عدتها، فإذا عرف هذا وندم واستغفر الله عز وجل فالله تعالى يغفر له، والله غفور رحيم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (15)
    الحلقة (22)




    تفسير سورة البقرة (112)

    من الأحكام التي تنبني على عقد النكاح أن من تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول بها وقبل أن يفرض لها مهراً فله أن ينفق عليها بالمعروف حتى تتزوج، وهذا من قبيل الإحسان والمعروف، كما أن من طلق زوجه قبل الدخول بها وبعد أن حدد لها مهراً فإن لها نصف ذلك المهر، وأما إن طلقها بعد الدخول بها فإن لها كامل المهر المسمى بينهما، ولهما أن يتعافيا كل بحقه عند الآخر، فللزوج التنازل عن كامل المهر ولو لم يدخل بها، وللزوجة التنازل عن نصف المهر عند عدم الدخول، أو بالمهر كاملاً عند الدخول بها.

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع سورة البقرة، وها نحن مع هذه الآيات الكريمات، إنها ثلاث آيات، وقبل الشروع فيها نستذكر ما درسناه بالأمس حول قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُ نَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:234-235].

    وجوب إحداد زوجة المتوفى وحكمة مشروعيته

    قد ذكرنا الإحداد: وهو ملازمة المرأة البيت الذي توفي فيه الزوج، فلا تخرج إلا من ضرورة، ولا تبيت إلا فيه، وإن خافت أو ما وجدت عائلاً فلتنتقل إلى بيت آخر، وتلازمه حتى تنتهي عدتها، وتمتنع عن الخِطبة، فلا تسمح أن يخطبها رجل كائناً من كان، وعن التزين والتجمل حتى بكحل العينين وأحمر الخدين، والخضاب في الكفين، والسوار في العنق، والأسوار في اليدين، هذا الإحداد، يقال فيها: محدة؛ أحدت على زوجها.ما هي العلة، ما السر، ما الحكمة؟ لمشاركة أهل الميت في مصابهم، عاشت مع ابنهم أو أبيهم دهراً طويلاً، وما إن فقدته وأغمضوا عينيه حتى هرولت لتتزوج وتغني؟! أهذه هي الصحبة؟! فهذا تدبير الله عز وجل، تشارك الأسرة بكاملها في همها وكربها وحزنها.وهل يجوز للمؤمنة أن تحد على أخيها أو على أبيها أو على ابنها؟نعم يجوز، ولكن ثلاث ليال فقط، فإن زادت ليلة رابعة فملعونة، أما الزوج فأربعة أشهر وعشراً، لمَ العشر هذه؟ ما السر يا علماء الأسرار؟لأن في العشر هذه ينفخ روح الولد، ويكتب عمله وأجله، وشقي أو سعيد، فقولوا: آمنا بالله.

    حكم خطبة المعتدة من طلاق

    وهل تجوز خطبة المعتدة من طلاق؟ الجواب: لا تجوز، فإذا كانت في العدة وهي مطلقة فحرام أن يخطبها الخاطب؛ لأنها في حكم الزوجة، بدليل أنه لو مات زوجها ورثته مع أولاده، ولو ماتت ورثها زوجها مع أولادها.ولو أن أحمق أو جاهلاً أعمى خطبها وتزوجها قبل أن نهاية العدة، فبعد شهر أو شهرين تزوجها؛ فإنه يفرق بينهما، ثم بعد ذلك يرى مالك ألا يجتمعا أبداً، لم يا مالك ؟ قال: عقوبة وتأديباً له وزجراً لغيره، هذا الذي خرم الشريعة ومزقها نحرمه من هذه، نقول: اذهب، لا تتزوجها أبداً، وهذا كلام معقول جداً.وغيره قال: إذا انتهت العدة وفصلنا بينهما ومضت فترة فممكن أن يعود إليها.


    وجوب مراقبة الله تعالى والحذر من نقمته

    وقوله تعالى في ختام الآية الكريمة: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235]، ماذا تفيدنا هذه الجملة العظيمة؟ تفيدنا مراقبة الله تعالى، يا ابن الإسلام! إياك أن تغفل ساعة وأنت بين يدي الله في كل حالاتك، فراقب الله عز وجل؛ فارهبه وخفه، كلما حاولت نفسك أو شيطانك أن يبعدك عن رضا الله فانتبه واستغفر الله؛ لأنك لست وحدك، الله معك: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تغوط خرج إلى الصحراء ولا يكشف عن جسمه حتى يصل إلى الأرض حياء من الله عز وجل.
    تفسير قوله تعالى: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ...)
    والآن مع هذه الآية الكريمة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] هذه آية، تأملوا لعلكم تفهمون كلام الله، هو أفصح من كلامنا وأوضح من كلامنا.قوله تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236]، مثلاً: عقد عليها، وقالوا: البناء إن شاء الله سيكون بعد الحج، وفي شوال طلق، وما مسها، فهل حرام عليه هذا؟ كلا، بل جائز: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236]. وكيف نفرض لها فريضة؟ المراد المهر تفرضه أنت، تقول: علينا لك عشرة آلاف ريال، فهنا فرض لها، أو أنهم عندما عقدوا قالوا: المهر ثلاثون ألفاً تسلم عند البناء، وأحياناً لا يفرضون لها، يعقدون ويقولون: إن شاء الله سيكون المهر عند البناء.

    معنى قوله تعالى: (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين)

    وقوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236]، الموسع صاحب السعة في المال، والمقتر صاحب الضيق في المال، هذه المتعة الواجبة لامرأة تزوجها رجل وطلقها ولم يسم لها مهراً، يجب أن يمتعها بمتعة بحسب حاله: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا [البقرة:236] واجباً عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236].هنا القرآن حمال الوجوه، فإذا كانت المطلقة قبل البناء مسمى لها مهر فسيأتي أن الله أعطاها النصف، فتأخذ النصف وترد النصف؛ أو تستلم النصف لأنها ما استلمت بعد، فإن طُلقت قبل البناء ولم يسم لها مهر فما الواجب؟ الواجب: المتعة، يقدرها القاضي أو الجماعة؛ ينظرون إلى دخله من زراعته، من تجارته، من وظيفته، عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا [البقرة:236] أي: المتعة بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:236]، ما هناك إهانة ولا عنترية ولا: يا كلبة، ولا يا كذا من ألفاظ السوء والمنكر، بل بالمعروف، ولا يعطيها كيس شعير فيه نخالة أكلها السوس أيضاً، أو يعطيها عشرين ألفاً محالة فيها على أحد في لندن، لا بد من شيء معروف، لا يخرج عن الآداب الإسلامية: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236]. لكن أكثر المسلمين لا يعملون بهذا، دلوني على رجل طلق امرأته ولا حقوق لها عليه، ثم بعث لها بجارية تخدمها، أو بعث لها بشيك فيه عشرة آلاف ريال تستأنس بها ما دامت ما تزوجت، أو حتى بتيس أو كبش، هذا معدوم، لم؟ ما عرفنا، ما قرأنا، ما فهمنا قوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] المحسن لا يكون الشيء واجباً عليه ويفعله وكأنه واجب، فمن الآن أسأل الله أن لا تطلقوا نساءكم، ومن طلق فليطبق هذه الآية، فحين تنتهي العدة يعطيها شيئاً يقول: هذه المتعة متعناك بها، فتسجل له، ويكون قد امتثل أمر الله عز وجل.نعيد الآية: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:236] أيها المؤمنون الربانيون، أهل القرآن والإيمان إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236].

    تفسير قوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ...)

    ثم قال تعالى في الآية الثانية: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237] ما معنى المس؟ هل باليد، هل المراد: مس رأسها أو كتفها؟المراد به الوطء، والقرآن كلام الله كلام عالٍ، تستطيع البنت البكر في خدرها التي لا تستطيع أن تتكلم مع الرجال أن تقرأه على أبيها وتسمعه، إذ ما فيه أبداً كلام فاحش، سبحان الله العظيم! أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237]، المراد بالمس الوطء، لمَ قال: المس والمسيس؟ تأدباً، حتى لا نلفظ بألفاظ السوء.فالفتاة البكر العذراء لا أحد أكثر حياء منها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أشد حياءً من البكر في خدرها، هذه البكر قالت العلماء: لو تقرأ القرآن على أبيها أو أمها فلن تستحي؛ لأن هذه ألفاظ ما تثير في نفسها شيئاً، فلا إله إلا الله! فهل هذا القرآن نقرؤه على الموتى نوبخهم به؟! لا حول ولا قوة إلا بالله! وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ [البقرة:237]، أي: الأزواج، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:237]، ألفاً أو عشرة أو مائة، فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237] إذاً: فعليكم نصف ما فرضتم.


    معنى قوله تعالى: (إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى)

    قال تعالى: إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]، فبعض الفحول ما يسترجع منها شيئاً، أمهرها عشرة آلاف وطلقها قبل البناء والمسيس، فمع السلامة، لا يقول لها: ردي علينا نصف الصداق، ويجوز له ذلك، ولكن أراد أن يتكرم، وخاصة إذا كان ما هو في حاجة إلى هذا المبلغ. كما أن قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237] يعني أن الأب أيضاً يقول: ما نحن في حاجة إلى مالك، خذه كله، ابنتنا ما زالت عندنا، ما مسها أحد، فخذه كله، فهذا يجوز، لا يمنع الله تعالى الإحسان بين المؤمنين، فأحسنوا، والحمد لله.وأخيراً: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، ولي الزوجة، الزوج، كلكم من يعفو منكم أحسن، كيف يدعونا الله إلى العفو؟ وأن تعفوا خير لكم، أقرب للتقوى.

    معنى قوله تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير)

    وأخيراً: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237] عجب هذا! يعني أن فلاناً صديقنا ومحبنا زوجنا ابنته، وشاء الله فطلقناها، فلا عداوة ولا بغضاء، سبحان الله العظيم!أما العامة عندنا فإذا طلقوا بنتهم فذاك البيت لا ينظرون إليه ولا يكلمونه، هذا واقع أو لا؟ يصبح عدواً، والله يقول: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، قبل أن يزوج بعضكم بعضاً أما كنتم تتوادون وتتحابون وتتقاربون حتى زوجتم؟ فهذا الفضل كيف ينسونه؟!وهذا أيضاً له علة، وهي أن الفحول منا من يوم هبطنا من علياء السماء لا يحسنون الطلاق، ولا يعرفون كيف يطلقون، هذه علة هذا، الطلاق الذي شرعه الله وقال فيه: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229] هو أن الرجل يعيش مع المرأة العام والأعوام، فإن وجد نفسه متأذياً منها، ما أطاق الحياة معها، ما استطاع، وهو ولي الله، والله ما يرضى لوليه أن يؤذى، فحينئذ أذن الله تعالى في أن يطلقها لأجل رفع الضرر عنه، وقد تكون هي متضررة، هي التي تبكي وتتألم، ولم تصبر، فيطلقها لوجه الله، لأنها أمة الله ووليته، فما يرضى أن تعيش متألمة وهي أخته في الله والإسلام، فيعطيها حقوقها ويمتعها ويطلقها، هذا الطلاق على هذه الصورة ما يوجد عداوة بين البيتين أبداً، العداوة توجد بين البيتين حين يطلقها عناداً وظلماً، أو تطلق هي كذلك، وهكذا سلسلة الكمال حلقة حلقة، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، وهل الحية تلد غير الحية؟ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36].
    تفسير قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين)

    مناسبة الآية الكريمة لما قبلها

    يقول تعالى وقوله الحق: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238].يا عباد الله، أيها الفحول، أيها المؤمنون والمؤمنات! ما السر في الأمر الآن بالمحافظة على الصلوات؟ الجواب: لأن المحافظة على الصلوات هي التي تهذب الأخلاق وتروض النفوس وتوجد الطمأنينة والذكاء والطهر والصفاء في الإنسان، أما تارك صلاة والمتهاون بالصلاة فوالله! لا خير يرجى منه. فهو تعالى وضع أيدينا على مصدر الكمال والطهر، وإلا فما علاقة هذه الآية بسابقتها؟فإذا أردتم أن يكون مجتمعكم طاهراً نقياً متحاباً متعاوناً فحافظوا على الصلوات عامة والصلاة الوسطى خاصة؛ لأن الصلاة تنهى فاعلها عن الفحشاء في القول والفعل، وعن المنكر في ذلك، وإذا انعدم الفحش والمنكر حل محلهما الطهر والصفاء والمودة والإخاء، فحافظوا يا عباد الله على الصلوات بصورة عامة، والصلاة الوسطى بصورة خاصة.

    المراد بالصلاة الوسطى

    وما هي الصلاة الوسطى؟منهم من يقول: الصبح، ومنهم من يقول: العصر، ولكن نقول: الوسطى هي بين اثنين فالظهر بين الصبح وبين العصر، والعصر بين الظهر وبين المغرب، والعشاء بين المغرب وبين الصبح، إذاً: كلها وسطى، إذاً: فحافظوا عليها كلها، وورد في الحديث: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر )، في حرب الخندق، حيث المناوشة بالسهام وكذا، فما صلى العصر إلا بعد المغرب برجاله، هذا قبل أن تنزل كيفية الصلاة في الحرب، فقال صلى الله عليه وسلم: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر )، ومالك يقول: إنها صلاة الصبح، والمخرج النفيس: أننا نحافظ عليها كلها، أخذاً بقوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ [البقرة:238]، وكل صلاة هي وسطى؛ ولأنها خمسة أوقات فلا بد من واحدة وسط، لكن لفظ الوسطى أيضاً يدل على الفضلى لا بمعنى الوسط، على الفضلى ذات الفضل والكمال.ومن هنا تدور الأقوال على العصر والصبح؛ لحديث: ( من صلى البردين دخل الجنة )؛ لأنكم أيها العمال تتغدون الساعة الثانية والنصف، والعصر في الثالثة، فيقول أحدكم: ننام ساعة وبعدها نصلي، فما حافظ على الصلاة، وصلاة الصبح وقت لذيذ النوم، فكيف يستيقظ، فلذا قال صلى الله عليه وسلم: ( من صلى البردين دخل الجنة )، ضمانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تقل: كيف؟ وقد تقول: إذاً: يزني ويفجر ويكذب ويصلي البردين! فأقول: والله! ما يستطيع، لو صلى الصلوات الخمس موقناً مؤمناً فهل سيرضى بالفجور والباطل؟ مستحيل.فلهذا اعرفوا ماذا يقول الحكيم صلى الله عليه وسلم: ( من صلى البردين ) حافظ عليهما طول عمره ( دخل الجنة )، إي والله؛ لأن هذا الذي يحافظ على هاتين الصلاتين إيماناً واحتساباً وقد حافظ على غيرهما زكت نفسه وطابت وطهرت، فأنى له أن يرضى بالتلوث بالذنوب والآثام؟ وإن سقط مرة اغتسل وتنظف عشرة أعوام، فآمنا بالله وبرسوله!

    معنى قوله تعالى: (وقوموا لله قانتين)

    يقول تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، أين نقوم لله قانتين؟ في الصلاة، وهل يصح أن نصلي صلاة الفريضة جلوساً؟ لا يصح، إلا المريض، أما الصحيح فلو صلى الفريضة جالساً فصلاته باطلة بالإجماع، ومعنى باطلة أنها لا تولد الطاقة، ما تنتج النور في النفس، وجودها كعدمها، بطل مفعولها فهي فاسدة لا تنتج.إذاً: وقوموا لله في الصلاة قانتين، والمراد من القنوت هنا السكوت، إذ كانوا قبل هذه الآية يتكلمون في الصلاة، يسلم عليه فيقول: وعليكم السلام، تقول: أين الدابة؟ فيقول: عند الباب، تقول: تعشيتم؟ فيقول: لا أو نعم، يتكلمون بالضرورة، فلما نزلت هذه الآية سكتوا، فمن تكلم بأمور الدنيا الخارجة عن الصلاة فصلاته باطلة بالإجماع فاسدة، كيف فسدت؟ ما تنتج وما تولد له الطاقة النورانية، اختل أداؤها وبطل مفعولها.فأصبح بهذا أنه لا يصح الكلام في الصلاة إلا إذا كان لإصلاحها، كما لو أن الإمام قام للخامسة فقلنا: سبحان الله، سبحان الله، فما عرف، فنقول: هذه خامسة، ويجوز هذا؛ لأن هذا الكلام لصالح الصلاة، فإن كان لصالح الصلاة فلا بأس وعلى قدر الحاجة أيضاً.أما الضحك مطلقاً والكلام لغير الصلاة فمبطل للصلاة بالإجماع، وجاز التبسم، إذا ابتسم المؤمن فلا حرج أن يظهر أسنانه بين شفتيه، لا يقول: هاه هاه أو يقهقه، فحينئذ تبطل الصلاة بالإجماع، وبعض أهل العلم يقول: وضوؤه باطل أيضاً، والصحيح أن وضوءه لا يبطل. حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] واقفين ساكتين، لا بيع ولا شراء ولا كلام في أمور الدنيا أبداً.


    تفسير قوله تعالى: (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً ...)

    ثم قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ [البقرة:239] هذه صلاة الخوف: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، صلوا على أرجلكم أو أنتم راكبون على الخيول والدبابات والطائرات إن خفتم من العدو، وصلاة الخوف مفسرة في سورة النساء، كيف؟ يقسم القائد الجيش فرقتين، فرقة تصلي، والأخرى تحرس، فتصلي هذه ركعة وتذهب تحل محل تلك، وتأتي الطائفة الثانية فتصلي ركعة وتعود، وتأتي الأخرى فتصلي مع الإمام ركعة وتسلم.ولها صور عدة، وإذا ما أمكن ذلك فإنهم يصلون وهم على الدبابات والخيول، أو يصلي وهو يجري على الأرض يطارد العدو والرمح بيده وهو يصلي، فعل هذا أصحاب رسول الله.وهل هذا يفعله المؤمنون؟ تستطيع أن تقول: إن (55%) من العالم الإسلامي ما يصلون أبداً، وما الدليل؟ الدليل الهبوط، كيف هبطنا من علياء السماء بعدما كنا قادة الدنيا وسادتها ومربيها ومعلميها؟ أصبحنا تحتهم، ما سبب هذا؟ انطفأت تلك الأنوار من قلوبنا، أضعنا الصلاة ومنعنا الزكاة. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، معنى (رجالاً): على أرجلكم، ليس المعنى: ضد النساء، (رجال) تمشون وتصلون، (أو ركباناً) على أية دابة أو على أي مركوب.

    معنى قوله تعالى: (فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون)

    فَإِذَا أَمِنتُمْ [البقرة:239] زال الخوف واستقرت الحال؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:239].فابتداءً صلوا كما علمكم الله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، بتلك الصورة الخاشعة الباكية الدامعة، ثم مع ذلك اذكروه بألسنتكم وقلوبكم، اشكروه على نعمة أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذا العلم ما هو بهين، فبكم تقدرون هذا العلم؟ والله! لا يقدر بشيء، لو قيل لك: انس الفاتحة وسنعطيك مليار دولار فوالله لا تقبل، الفاتحة أغلى، فكيف بمعرفتك الله والملكوت الأعلى والدار الآخرة وما فيها، ومحاب الله ما هي، ومكارهه ما هي، وأولياءه من هم وأعداءه من هم، فهذه العلوم هل كانت أمك أو أبوك يعرفانها في الجاهلية؟ إذاً: علمكها الله، فاشكروا الله عز وجل على ما علمكم: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:239].
    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    الأحكام المتعلقة بالمطلقة قبل المسيس

    هيا نقرأ الآيات، وتأملوا ما فهمتم:قال تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236]، هذه الآية الأولى، فماذا تحمل هذه الآية؟هذه الآية متعلقة بالمطلقة التي لم تمس، وقد بين تعالى في آية أخرى أنه لا عدة عليها، وهي آية الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ [الأحزاب:49]، فالمتعة واجبة هنا، وقلنا: المتعة للتي لم يسم لها فرض، والتي سمي لها فرض لها نصف الفرض، إن شاءت فلتأخذه كله أو تعفو.الآية الثانية: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237]، في هذا اللفظ تدخل المطلقة قبل المسيس، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:237] أي: سميتم لهن مهراً، فالواجب ما هو؟ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237]، إن كان عشرة آلاف فأعطها خمسة آلاف وخمسة لك، وإن أخذت هي العشرة فقل: ردي علينا خمسة آلاف؛ لأنك عدت كما كنت ما مسسناك، فهاتي الخمسة الآلاف، إلا أن يعفو الفحل الكريم، فيقول: ما نحن في حاجة إلى هذا. أو هي كذلك أو أبوها ووليها يقولون: ما نقبل منك هذا، خذه كاملاً، ما ترد علينا شيئاً، ابنتنا عندنا ما مسها شيء.من فتح هذا الباب الرحماني؟ الله، هل هذا من وضع البشر؟ مستحيل، هذا أكرم من البشر، ومع هذا ما يقرءون الكتاب، إلى الآن أود أن يقول أحدنا: يا شيخ! أنا دائماً إذا جلست في المسجد قبل الصلاة أقول لأي مؤمن: من فضلك تعال اقرأ علي شيئاً من القرآن، أو يقول: نحن في البيت نتغدى أو نتعشى فنقول لأحدنا: يا سيد! من فضلك أسمعنا شيئاً من القرآن. أو يقرأ القرآن ويأتي إلى الشيخ يبحث عنه في اليابان أو في الصين، يقول له: ما فهمت مراد الله من هذه الآية، علمني ما يريد الله منا؟ لكن فهذا لا وجود له.ودعنا من هذا، لم ما يجتمع أهل المدينة في مساجدهم بين مغرب وعشاء كل ليلة يدرسون كتاب الله؟ أم أنه ليس فيه أجر؟ حسبهم أن يذكرهم الله في الملكوت الأعلى، ومن يذكره الله هل يشقيه أو يسلط أعداءه عليه؟ فكم خلا من قرن ونحن هاربون من القرآن! ثمانية قرون أو أكثر، وقد وضعوا لنا قاعدة فقالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ، فإذا الشيخ أصاب فهو مخطئ، إذاً: حرام عليه أن يفسر كلام الله، وإن أخطأ فقد كفر! فمن يستطيع أن يقول: قال الله، فألجمونا بلجام من حديد.إذاً: ماذا نصنع بالقرآن؟ الجواب: نقرؤه في المقبرة، ما دام أننا لا نفسره ولا نفهم ما قال الله، ولا ما أمر به ولا ما نهى عنه، إذاً: ماذا نصنع بالقرآن؟ قالوا: اقرءوه على الموتى ليدخلوا الجنة، فختمة بعشرة آلاف ريال، يجمع عشرين طالباً يختمون المصحف، ويعطيهم ألفاً ألفاً حتى يدخل ميتهم الجنة، ولو كان تارك صلاة، وأيام كانت دور البغاء في العالم العربي إذا ماتت البغي فإنهم -والله- يأتون بالطلبة يقرءون القرآن عليها في بيت الزنا!لأن الأمة هبطت، كيف نقر عاهرة على الزنا ونسكت ونغمض أعيننا؟ وفوق ذلك نأتي بالقرآن يقرأ في بيت العهر! ما الدليل على هذا؟ الدليل بالبرهنة القاطعة: ألم تستعمرنا هولندا في إندونيسيا وبريطانيا في الشرق الأوسط والشرق الأقصى وممالك الهند وفرنسا في شمال إفريقيا؟ كيف لكفار يحكموننا؟ كفار حكموا العالم الإسلامي، كيف يتم هذا؟ لأن الأنوار الإلهية انطفأت من نفوسهم.أولاً: احتالوا عليهم قروناً فأبعدوهم عن هداية الله وأنواره، فلما عموا وضلوا أمسكوهم كالدجاج، فمن يطلب دليلاً بعد هذا الدليل؟ لا إله إلا الله.يقول تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236]، فإن مسها أو جامعها فما الحكم؟ عليها العدة ولها المهر بكامله، لكن هنا ما جامعها ولا فرض لها فريضة، فما الحكم؟قال: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236]، ما قال: متعوهن خمسة آلاف أو ألفاً، وما قال: ألف دينار في وقت ليس فيه الدنانير، قال: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236]، ويقرر هذا القضاة إن كانوا موجودين أو جماعة المسلمين يقررون هذا.الآية الثالثة: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:237]، والحال أنكم قد فرضتم لهن فريضة، فما الحكم يا رب؟ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237]، وإذا أحببت أن تترك لها ذلك، أو أحببت هي فلا بأس: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237].وأخيراً: وأن تعفو خير لكم، تزداد المحبة والاتصال بينكم: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، هذا الذي انعدم في العالم الإسلامي، دلوني على رجل صاهركم وطلق ابنتكم، وتبقى المودة كما كانت يزوركم وتزورنه وتهدونه الفواكه، بل تنقطع العلاقة، ويصيرون أعداء. ولهذه علة، هي أن الطلاق ما هو الطلاق المرضي لله عز وجل والمشروع، طلاق جهل وظلام، فلهذا ما ينتج عنه الإحسان ولا البر، وهل عرفتم الطلاق المحبوب لله؟ هل قوله لها: أنت طالق بالثلاث، لا تدخلي البيت، هل هذا الطلاق الذي شرعه الله؟ إن الله تعالى يقول: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، يطلقها ويتركها في عدتها، فإن ندمت أو ندم رجع إليها، فإن انتهت العدة فإنه يستطيع أن يتزوجها من جديد، فإن طلقها أصبح لها طلقتان، فإن زاد الثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره.


    ما يهدمه الزواج بالثاني من طلاق الأول

    وهنا لطيفة: رجل طلق امرأته طلقتين، طلقها الأولى ثم راجعها وعاش عاماً أو عامين ثم طلقها الثانية وانتهت عدتها وتزوجت، ولما تزوجت تطلقت أو مات زوجها، فهل للزوج الأول أن يتزوجها؟ الجواب: نعم له أن يتزوجها، ولكن هل تبقى الطلقتان أو يستأنف؟الجواب: تحتسب الطلقتان، فلو زاد واحدة بانت منه بينونة كبرى، لا يقل: الحمد لله، جدد العهد الآن من جديد؟ لا، ما زلت مطالباً بالأوليين، لم تطلق مرتين تؤذي هذه المؤمنة؟ إذاً: إذا طلقت الثالثة ينكسر أنفك ولا تحل لك حتى ينكحها زوج غيرك. فالعقد الثاني يهدم الطلقات إذا كان طلقها ثلاث مرات وتزوجت بعده، لكن إذا طلقها مرة أو مرتين وتزوجت وأراد أن يتزوجها فإنه يحسب عليه الطلقة أو الطلقتان؛ لأنها في ذمته.

    الأمر بالمحافظة على الصلوات وبيان كونها عصمة للمجتمع

    وقوله تعالى: حَافِظُوا [البقرة:238] أيها المؤمنون والمؤمنات عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، وعصمة المجتمع من الخلط والخبط، والفجور والكفر، والفساد والشر هو في إقام الصلاة.والبرهان على ذلك أنه استقل لنا ثلاث وأربعون دولة من إندونيسيا إلى موريتانيا، فهل لما تشكلت الحكومة قالوا: الصلاة فريضة الله يجب أن نفرضها على المواطنين سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، فلا يحل لمواطن ألا يقيم الصلاة، هل حصل هذا؟ فما السر؟إنها أصابع الماسونية وجماعات التنصير الموجهة القائدة للعالم تنسي هذا من قلوب المؤمنين، ومن خطر بباله ذلك فإنها تمسحه؛ لأنهم إذا أقاموا الصلاة عادوا من جديد لقيادة البشرية وسيادتها، على الأقل سادهم الأمن والطهر والصفاء.أنا أقول: لنمش في أي بلد إلى محافظ المدينة أو مدير الشرطة، ونقول: أعطنا قائمة بالجرائم التي ارتكبت في هذا الشهر، فهذا سرق، هذا سب فلاناً، هذا ضرب فلاناً، أقسم بالله! لن نجد في مرتكبي تلك الذنوب والآثام نسبة أكثر من (5%) من المقيمين للصلاة؛ والباقي من المصلين ومن تاركي الصلاة؛ لأنني أشاهد الذي يحافظ على الصلوات في أوقاتها في جماعة المسلمين خمس مرات ما يزني، ما يفجر، ما يأكل أموال الناس بالباطل، ما يسب ولا يشتم، مؤمن ملأ قلبه الإيمان، فما يقع في المهاوي والمهالك.والذي لا يصلي يركب حتى الذئاب، ويأكل حتى الكلاب، أو يصلي ويخرج من المسجد وليس له من النور جرام واحد، صلاته باطلة، ما أنتجت النور ولا ولدته أبداً، يخرج من المسجد عند الباب يسب الدين، يخرج من المسجد يلعب بالكيرم والورق ويلعب الدمنة، أين آثار الصلاة؟وصدق من قال: لو صلى ما غنى، يصلي العشاء ويمشي ليجلس أمام تلفاز، فعاهرة تغني وتلوح بيديها وهو يضحك، فهل صلى هذا؟ أين آثار الصلاة؟وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (16)
    الحلقة (23)




    تفسير سورة البقرة (113)

    شرع الله عز وجل لمن مات عنها زوجها أن تعتد في بيته أربعة أشهر وعشر ليال، وإن أوصى لها الزوج أن تتم الحول في بيته فلها ذلك، وهذا من الإحسان والمعروف، فيكون لها عند ذلك أن تقتصر على العدة وتخرج بعدها أو تتم الحول كما أراد لها الزوج، وأما المطلقة فإن لها متاعاً بالمعروف حسب حالها من الدخول بها أو عدمه، ومن تسمية المهر وعدمه، وكل هذا بينته الشريعة أكمل بيان.

    تفسير قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على عهدنا مع تفسير كتاب الله عز وجل في مثل هذه الليلة.والآيات المباركة التي ندرسها معاً إن شاء الله هي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلِلْمُطَلَّقَ اتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:240-242].أذكركم بالموعود على لسان سيد كل مولود؛ لتستبشروا خيراً، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله أن جعلنا من أهل هذا الموعود على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    توفي الله تعالى عباده وبعثهم بعد الموت

    قول ربنا جل ذكره: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ [البقرة:240]، أي: يموتون، من يتوفاهم؟ الله، إذ قال تعالى وقوله الحق من سورة الزمر: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42]، والذي يباشر إخراج الروح من الجسد هو ملك الموت، ويستلمها ملائكة معه، فإن كانت النفس تقية طاهرة زكية عرج بها إلى الملكوت الأعلى، وسجل اسمها في كتاب يسمى: عليين، وينزل بها الملائكة في موكب عظيم لمحنة القبر، فحين يتم نجاحها تعود الروح على الملكوت الأعلى؛ لتسرح في الجنان ساكنة مطمئنة إلى أن تنتهي هذه الدورة، ويخلق الله تعالى البشر خلقاً جديداً، فحين تكتمل أجسامهم ترسل تلك الأرواح ولها دوي، فما من روح إلا وتدخل جسدها، ذلك أنه تنبت الأجساد كما ينبت البقل، والبقل كالبصل، والثوم، والخردل، فحين تكتمل الأجساد وتنبت نباتاً يرسل الله تعالى الأرواح، أرواح السعداء من عليين، وأرواح الأشقياء من سجين، فلا تخطئ روح جسداً، فينفخ إسرافيل النفخة الثانية فإذا هم كالجراد المنتشر.والشاهد في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ [البقرة:240]، أي: يموتون، ولكن من يتوفاهم ويوفي آجالهم وأعمارهم؟ الله عز وجل، قال تعالى: مِنْكُمْ [البقرة:240] يا معشر المؤمنين لا من غيركم من الكافرين والمشركين، هؤلاء ما هم بأهل للتشريع والبيان؛ لأنهم كفروا الله وجحدوه، وكفروا رسوله وأنكروه، وكذبوا بكتابه ورفضوه، ما هم بأهل لهذا، مِنْكُمْ [البقرة:240] معشر المؤمنين، فالحمد لله أن كنا أهل شأن عند الله، ينزل كتابه علينا ويبين لنا الطريق ويهدينا السبيل؛ لنكمل ونسعد، فالحمد لله.

    معنى قوله تعالى: (وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج)

    وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:240]: يتركون زوجاتهم، ماتوا عنهن، والأزواج هنا: النساء، بمعنى: الزوجات؛ لأن الخطاب للفحول، فإذا مات الفحل فما لزوجته؟قال تعالى: وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ [البقرة:240]، يوصون وصية لأزواجهم، قبل أن يموت يوصي أبناءه، إخوانه، أعمامه، أقاربه: إن فلانة تبقى في البيت سنة كاملة إن رغبت في ذلك، لا تزعجوها، لا تقلقوها، هي زوجي وأنا زوجها، أوصيكم أن تبقى بعدي أربعة أشهر وعشرة أيام أو تبقى فوقها سبعة أشهر وعشرين يوماً، إلا إذا أحبت أن تخرج فمع السلامة. وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240]، وتأكل وتشرب كما كانت، وتنام، هذا إحسان عظيم، فهل عرفه الناس؟ تعتد بأربعة أشهر وعشر ليال، وتكمل السنة في بيت زوجها مع أولاده، مع بناته، مع أولادها، لا تزعجوها سنة، وإذا أرادت أن تخرج قبل السنة إذا أكملت أربعة أشهر وعشر ليال فشأنها، لكن من باب مراعاة الإحسان الذي يعيشه المسلمون، وهو شعارهم، فدعوها في بيت زوجها حتى تكمل السنة ثم مع السلامة.

    خلاف أهل العلم في نسخ الآية بسابقتها

    ومن أهل العلم من يقول: إن هذه الآية منسوخة، وناسختها الآية السابقة. وقد يقال: كيف تنسخ اللاحقة بالسابقة؟! نقول: لا حرج، أما قال تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [البقرة:142] وقد قال تعالى في الآية بعدها: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] إلى آخر الآيات، فهذه الأخيرة مقررة للأولى، فقد قالوا ذلك بالفعل بعدما نزلت، ولا حاجة إلى هذا. والذي ذهب إليه إمام المفسرين ابن جرير الطبري أن الآية ليست منسوخة، وتوجيهها كما علمت، ورجح هذا ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ولم يفصح ابن القيم تلميذه.إذاً: لا بأس أيضاً أن تنزل آية ثم تنزل أخرى، والأولى تنسخ الثانية؛ لأن كتابتها يأذن جبريل فيها للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول له: اكتب الآية الفلانية في الموضع الفلاني، وتنزل الآية وتبقى سنة وسنتين ثم تنزل الآية الأخرى وتكتب معها بعدها، إلى أن نزلت آخر آية من كتاب الله: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281] هي آخر آية من كتاب الله، وآخر سورة نزلت هي سورة النصر.إذاً: نعود إلى السياق الكريم، وتهيئوا لتعملوا إن شاء الله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً [البقرة:240]، يوصون لزوجاتهم، ويمتعونهن بهذا الوصية متاعاً، بحيث تبقى المرأة مع أولادها، أو أولاد زوجها من زوجة أخرى، أو مع أبيه حتى تكمل أربعة أشهر وعشر ليال، ولا تخرج أبداً من البيت إلا لضرورة، ولا تبيت إلا في بيتها؛ مراعاة لمصيبة أهلها، هم حزينون متألمون، وهي تخرج وتتعرض للزواج؟! لا يتلاقى هذا أبداً مع المروآت والكمالات، وإنما تمكث أربعة أشهر وعشر ليال وهي في بيت زوجها مع أولادها إن كان له أولاد، فإن انتهت الأربعة أشهر والعشر فلا بأس بأن تكتحل، أن تتجمل، أن تقبل من يخطبها للزواج. ثم قال تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:240]، لا يضع الشيء إلا في موضعه، فهذا التبيين أثره، فالله تعالى عزيز قوي، لا يمانع في شيء يريده، حكيم يضع كل شيء في موضعه.إذاً قوله تعالى: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240]، أي: إلى العام، غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، أي: لا تخرجوهن، فإذا انتهت السنة فإن شئتم أخرجتموها، وإن شاءت خرجت هي.


    معنى قوله تعالى: (فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف)

    فَإِنْ خَرَجْنَ [البقرة:240] أثناء المدة؛ فلا حرج، إن خرجت فيها المرأة فلا بأس، لكن من الإحسان إلى هذه المؤمنة أن تبقوها في بيتكم لتكمل السنة وتخرج إن شاءت، فإن أرادت أن تخرج بعد نهاية العدة التي هي أربعة أشهر وعشر ليال فلها ذلك، فقد أذن لها سيدها: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:240] من التجمل، والتحسين، والتعرض للخطاب للتزوج.وقوله: فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ [البقرة:240]، هذا القيد دائم، أذن لها في أن تتحسن، وتتزين، لكن في حدود معقولة، لا تخرج إلى الشوارع وهي متطيبة لتفتن الناس، بل بالمعروف، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:240].فهذه الآية الأولى اعلموا أن القول الراجح فيها أنها ليست منسوخة، لا بآيات المواريث ولا بالآية التي تقدمت، وإنما هي محكمة.

    إرشاد الآية الكريمة إلى الإحسان بين المؤمنين

    وما فائدتها؟ الإحسان بين المؤمنين والمؤمنات، لا أن تنتهي أربعة أشهر وعشر فيقال لها: اخرجي عنا، نريد أن نؤجر الغرفة، فهنا الإرشاد: أعطوها فرصة أخرى، هذه أمكم، هذه امرأة أبيكم، امرأة أخيكم، امرأة عمكم، أعطوها فرصة حتى تكمل سنة وهي تتناول الطعام والشراب معكم، فإن تمت السنة فمع السلامة إذا أرادت أن تخرج، وإن هي رغبت بأن تخرج قبل السنة فالباب مفتوح حيث أذن لها سيدها، فإن خرجن فلا جناح، لا إثم ولا حرج.ومعنى هذا: إذا أوشك الفحل أن يموت فإنه يوصي أبناءه أو إخوانه: فلانة أتركوها معكم سنة، لا تزعجوها، وإذا أرادت أن تخرج فلتخرج، فهل هذا يتنافى مع الأدب؟ مع العلم؟ مع الرحمة؟ مع الحكمة؟ هذا مظهر من مظاهر الدعوة الإسلامية ومنهجها السليم.واسمعوا الآية الكريمة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240] في الأربعة الأشهر والعشر الليالي، هذه فريضة واجبة من أنكرها كفر، ومن أهملها يؤدب حتى يتوب، لكن في الزيادة على أربعة أشهر وعشر ليال، أراد الله تعالى للمؤمنين أن يعيشوا على المعروف والإحسان، إذ قد توجد امرأة غريبة، جاءت من ديار بعيدة فمات زوجها وما عندها أولاد، فيقول إخوان الزوج أو أعمامه: عودي إلى بلادك، فهنا يقول الهدي القرآني: ارحموها، لتجلس سبعة أشهر أخرى وعشرين ليلة حتى يفرج الله عنها، فإن أكملت السنة فلكم ذلك، وقبله تأكل وتشرب معكم، أما كانت مع أخيكم أو أبيكم؟ فلم تطردونها إذاً؟ وإن هي آثرت ورغبت في الخروج فلا بأس، فالآية -إذاً- محكمة، وأدت فضيلة عظيمة.

    تفسير قوله تعالى: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين)

    ثم قال تعالى في الآية الثانية: وَلِلْمُطَلَّقَ اتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:241]، ما هناك عنترية، مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:241] المعتاد بين الناس، لا أن تقول هي: لا بد أن تشتري لي فلة في لندن، أو تشتري لي سيارة بمائتي ألف، بل بحسب الحال، فإذا كان ذا مال فقد يمتعها بخادمة تخدمها، بسيارة تركبها، بشقة من شقق المنزل تسكنها إحساناً إليها.

    ما يجب للمطلقة قبل الدخول بها دون تسمية المهر

    وهنا نعود إلى جملة المطلقات: المطلقة الأولى: هي التي لم يبن بها الفحل، أي: الرجل، عقد عليها وما أعطاها المهر بعد ولا سماه، وشاء الله أن يطلقها قبل الدخول عليها وقبل البناء بها، حيث ندم، أو هي غضبت وصاحت على أبيها أنها ما تريد أن تتزوج، يحدث هذا، ونحن -كما تعرفون- نعيش على البر والإحسان، فما دامت قد صرخت وقالت: دعني يا أبي، لن أتزوج، طلقني، فيقول: يا فلان! هذه البنت متأثرة، حزينة، ستؤلمك، فطلقها، فيقول الزوج: مرحباً، ويطلقها، وذو الإحسان والبر يفرح، يقول: كيف نزعج هذه المؤمنة؟! ما دام أنها ما أرادتني وكرهتني فإني أطلقها، فإن طلقها قبل البناء، ولم يكن قد سمى لها مهراً ولا أعطاها، إذاً: ما لها إلا المتعة، يجب أن يمتعها بسيارة، طيارة، فلة، ثياب، خاتم من ذهب، سوار، متعة واجبة، والشارع حكيم، إذاً: لا حق لي أن أقول: لم؟ لأن الله تعالى هو العليم الحكيم، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:49]، جربوا هذا يا معشر المؤمنين.فهذه المتعة بالمعروف لا بد منها هنا؛ لأنها طلقت وما أخذت مهراً ولا نصفه، ولا عدة عليها، لا شهر، ولا حيضة، ولا ثلاثة أقراء؛ لأن العدة خشية أن يكون في رحمها جنين، وهذه ما مسها الزوج، فتعتد لماذا؟ هذه الآية من سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:49] بالعقد، ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]، من قبل أن يطأها ويجامعها، وعبر بالمسيس عن الجماع لأن الآداب الرفيعة تأبى ذلك، تأبى أن يقول: من قبل أن تجامعوهن. لا ينبغي هذا، وفي الحديث: ( الحياء كله خير )، ( الحياء من الإيمان )، لا خير فيمن لا حياء له، إذا رحل الحياء رحل الإيمان، فقووا الحياء ونموه في أبنائكم وبناتكم، وابدءوا بأنفسكم فإنه لا خير فيمن لا حياء له.والذين يجلسون أمام شاشة التلفاز وعاهرة تغني، وقرينها شيطان يقبلها ويحتضنها، وأهل البيت يضحكون هل يبقى فيهم حياء؟ أعوذ بالله! يرحل الحياء ويتبعه الإيمان، انظر إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم لشدة حيائه رأى رجلاً أمامه يدعو: يا رب .. يا رب .. يا رب، بدون أن يتوسل إلى الله بحمده والثناء عليه وتمجيده والصلاة على نبيه، يقول مباشرة: رب أعطني كأنه هو السيد، فاستحى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: يا عبد الله لا تقل هكذا، افعل كذا وكذا، غلبه الحياء، فالتفت إلى أصحابه عن يمينه أو عن شماله وقال: ( لقد عجل هذا ) يعني: استعجل، ( إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه جل وعز والثناء عليه ثم يصلى على النبى صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء )، أما أن يقول مباشرة: رب أعطني؛ فهذا سوء أدب.وكان صلى الله عليه وسلم إذا بلغه شيء عن أصحابه يرقى المنبر ويخطب الناس ويقول: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا )، أما نحن فنقول: يا كذاب! يا كذا! ولا لوم ولا عتاب؛ فما ربينا في حجور الصالحين، ما تربينا في بيوت الله، تربينا في بيوت الشياطين المقاهي والأسواق والملاهي والسينما، فماذا ترجو منا؟ لا تلمنا يا هذا، ولكن نبكي لحالنا.والمهم أن ذلك هو حكم المطلقة قبل البناء، لا عدة تجب عليها، لا يوم ولا عشرة، من يومها تتزوج، ويجب لها المتعة بحسب يساره وإعساره، ولا بد من المتعة لهذه المطلقة.


    ما يجب للمطلقة قبل الدخول بها بعد تسمية المهر

    المطلقة الثانية: طلقت قبل البناء، ولكن سمى لها مهراً، أمهرها عشرين ألف ريال، وقبل الدخول حصل ما حصل فطلقها، أو هي طلبت الطلاق، أو هو ندم، فما الحكم؟هذه لها نصف المهر، ولا متعة لها، يكفيها أنها أخذت عشرة آلاف ريال وما مسها الزوج، ولا عدة؛ لأنه ما بنى بها، فمن عقد عليها الرجل وأمهرها مهراً وسماه أو أعطاها إياه، وأراد الله ألا يتزوجها فطالبت بالطلاق، أو طلق هو لأسباب، فما الحكم؟ يعطيها نصف المهر، إلا أن تتنازل وتقول: هو لك بكامله يا فحل، أو يقول: هو لك يا فلانة، وهذا يقع من المؤمنين والمؤمنات ممن يعيشون على هذه الكمالات، لا يزعجها، لا سيما إذا كان هو ما رغب فيها، إذا لم يرغب في هذه المؤمنة فمن الأدب ألا يسترد منها شيئاً، وكذلك هي من أدبها إذا كانت هي التي رغبت عنه أن ترد إليه ما أعطاها، فسبحان الله! آمنا بالله، فهذا تشريع من؟ هل تشريع نابليون ؟ هذا تشريع الله. والمسلمون اليوم يدرسون القوانين الكافرة الملحدة البلشفية، ولا يدرسون كتاب الله، فكيف نسمو؟ كيف نرقى؟ كيف نخرج من ذلنا وهواننا ودوننا؟ ونحن مفارقون تمام المفارقة لأصول الكمال وسلالمه، لم لا يعرف المسلمون هذا؟قال تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237]، اللهم إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، وقد فتح الله علينا الآن بما لم يفتح به على غيرنا، وقلنا: إذا كان هو الذي رغب عنها وما أرادها؛ فهو الذي يقول: المهر لك كاملاً، وإذا كانت هي التي رغبت عنه وما أرادته، بكت أمام أبيها وأمها تقول: ما أريده يا أبي؛ إذاً نقول لها: تنازلي عن نصف المهر له.

    ما يجب للمطلقة بعد الدخول بها

    المطلقة الثالثة: هي التي معنا في الآية الكريمة، بنى بها وصارت أم أولاده، وأخذت مهرها وانتهت من عشرين عاماً مثلاً، قال تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَ اتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241].

    فائدة قوله تعالى: (حقاً على المتقين) ونحوه

    وقوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] استنبط منه فقهاء الملة الذين أوتوا فقهاً في كتاب الله، قالوا: هذا يدل على أن المتعة ليست واجبة لهذه، وإنما هي مستحبة، والسر من أين؟ من قوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، وغير المتقي قد لا يفعل، فما هي بحق عليه، ما عنده عواطف ولا أحاسيس ولا شعور، وهو يتخبط بالمعاصي، ما نلزمه بهذا فهو في أمور أعظم، لكن المتقي والمحسن ذاك الذي يرغب في أن يحب ويبجل ولا يهان، ولا يذل، فيتنازل عن المال وقشوره؛ لتبقى له كرامته بين الناس.هذه المطلقة حين تنتهي عدتها يمتعها بخادم كما يقولون، أو بثياب جديدة، بشيء من الذهب، بشيء من الفلوس حسب حاله، ومع السلامة يا فلانة، ونلتقي إن شاء الله في الجنة.

    هبوط المسلمين بعد إعراضهم عن آداب القرآن الرافعة لهم

    هل نستطيع أن نفعل ذلك الذي ذكر؟ كلا. بل حالنا: يا فاعلة! يا كذا! ونحوه من السب والشتم والتعيير، فلا إله إلا الله! أين نحن؟ هبطنا وقد كنا في علياء السماء، أيام كان نور الله يغمرنا، وحكمة محمد تقودنا سدنا وارتفعنا، وحين تخلينا عن الكتاب والسنة هبطنا، فمن يرفعنا؟ وهل القرآن يرفع؟اسمعوا الآية التي فيها الرافعة، الرافعة عندنا الآن هذه ترفع الصخور والسيارات من الباخرة، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [الأعراف:175] يا رسولنا نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175]، هل تعرفون الحية حين تنسلخ من جلدها، تتركه أبيض نقياً وتخرج منه بزفرتها وسمومها.إذاً: الانسلاخ من القرآن وضعه على الرفوف فقط، أما المحاكم فلا يوجد فيها مصحف، فهل هذا انسلاخ أو لا؟ تركناه وراءنا. فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175]، أي: من الآيات، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175]، لم؟ لأن المناعة زالت، كان في صيانة وحصانة بكتاب الله ووحيه، ولما تركه وراءه سهل على الشيطان أن يجري وراءه ويمسكه. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175]، عبارة عجيبة هذه! فهل تعرفون الغي والغواية؟ إنها أوساخ، فكان من الوسخين في أرواحهم ونفوسهم وسلوكهم.قال الله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176]، بالآيات؛ إذ هي الرافعة، وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:176]، لصق بها، ما يرفع رأسه إلى السماء، كحالنا الآن: الدولة الإسلامية فيها عشر وزارات كلها تتكلم عن الدنيا، ما هناك من يتكلم عن الآخرة أبداً، فهذا خلود إلى الأرض أو لا؟ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176]، وهل الهوى يتبع؟ إنما يتبع هواه الهالك، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176] هذا كلام الله، هذا قرآن من سورة الأعراف: كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176]، في ماذا؟ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ [الأعراف:176] وتجري وراءه يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176]، الماء في الحوض، والظل ظل الشجرة، والكلب تحته وهو يلهث.فمنذ انسلخ المسلمون من كتاب الله بمكر أعدائهم وكيدهم وتركوه وهم يلهثون، والله! لن يستريحوا، فقولوا: صدق الله العظيم، قولوا: آمنا بالله!إذاً: المطلقة الثالثة: هي التي يكون قد بنى بها زوجها وطلقها، هذه لها مهرها كاملاً؛ وإن بقي منه شيء فلا بد منه وجوباً، ويمتعها بحدود سعته وضيقه، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]. وإن كان صعلوكاً فقال لها: اذهبي عنا، وما أعطاها، فماذا تعمل؟ لا تحاكمه عند القاضي؛ لأن هذه من السنن والآداب، لا يحاكم عليها الشخص، لكن المتقين والمحسنين يوبخون فقط، يلقاه مؤمن فيقول له: كيف تخرج فلانة بيديها عارية، حتى الكسوة ما كسوتها؟ فيذوب من الحرج، فمثل هذا يعلم ويعطي المتعة.

    صفات المتقين وحقيقة التقوى


    ذلك معنى قوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَ اتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، فمن هم المتقون يرحمكم الله؟ أشيروا إليهم؟ أين يوجدون؟ ما سماتهم؟ ما صفاتهم؟المتقون: هم الذين آمنوا بالله إيماناً يقينياً؛ حتى أثمر لهم ذلك الإيمان حبه تعالى في قلوبهم فأصبحوا يحبون الله أكثر مما يحبون أنفسهم وأموالهم وأهليهم والناس أجمعين، وأثمر لهم شيئاً آخر وهو الخوف منه، أنتج لهم الخوف منه فلا يستطيعون أن يعصوه ولا أن يخرجوا عن طاعته، بل إذا ذكر الله تعالى بين أيديهم اضطربت نفوسهم وتحركت قلوبهم، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الحج:35]، هؤلاء المؤمنون الذين آمنوا إيماناً حقيقاً يقينياً صادقا، من شأن هذا الإيمان أن ينتج لهم الخوف والحب، ومعنى هذا: أن المؤمن الصادق الإيمان ليحب الله أكثر من كل شيء، ووالله! إنه ليخاف الله، حتى الكلمة يخاف أن يقولها وهي تغضب الله، لقوة الإيمان.ثانياً: التقوى: هي معرفة محاب الله ما هي من الاعتقادات والأقوال والأعمال، يبقى طول حياته يسأل: ماذا يحب ربي؟ حتى يعرف محاب الله من أجل أن يفعلها له ويقدمها له، ثم يسأل عن مكاره الله: ماذا يكره ربي؟ فيقال: يكره كذا، كذا، كذا فيعرف ما يكره، ولا يأتيه إلا مكرهاً، ذلكم المتقي، وهؤلاء هم المتقون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهم أولياء الله تعالى.

    أثر قصر الولاية على الأموات دون الأحياء

    وقد عاشت أمتنا في دورها وبلادها قروناً لا يعرفون ولياً لله إلا من مات، منذ القرن السابع تقريباً لا نعرف ولياً إلا من مات وبني على قبره قبة، ووضع على قبره تابوت من خشب ووضع عليه الحرير على اختلاف ألوانه، وكان عليه السادن، هذا الولي، وقد انتشرت دعوتنا اليوم فاختلف الحال، ولكن قبل خمسين سنة لو تدخل أعظم مدينة في العالم الإسلامي، وتنزل من الطائرة أو الباخرة، وتدخل البلاد، وتستقبل أي واحد من البلاد وتقول له: يا سيد! أنا جئت زائراً لهذه البلاد، فمن فضلك دلني على ولي من أولياء هذه البلاد لأزوره، فوالله! ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن في القاهرة أو دمشق أو مكة أولياء أحياء أبداً! فما هو سر هذا؟ حجبوا الولاية عن الأحياء حتى يزني بعضهم بنساء بعض، ويأكلوا أموال بعضهم، ويضربوا وجوه بعضهم، ويغش بعضهم بعضاً كأنهم غير مسلمين، في حين أنه إذا وقف على قبر يرتعد، ويا ويحك إذا قلت: الولي الفلاني كذا، يبجلون ويعظمون الأموات تعظيماً عجيباً، حسبك أنهم ينقلون إليهم المرضى، ويعكفون حولهم بالزيارات كأنهم آلهة، وأما المؤمنون منهم فمن استطاع أن يذبح جاء يذبح من أجل الريالات.ثم قالوا -كما في حاشية الحطاب على خليل -: من قال: أنا ولي فإنه يخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة، إذاً: قل: أنا عدو الله لتسلم! أعوذ بالله، أعوذ بالله! إذاً: ماذا نقول يا شيخنا؟ قل: أنا عدو الله، فمن لم يكن ولياً فماذا يكون؟ يكون عدواً.فكل المؤمنين أولياء ولكن بينهم تفاوت كبير، وعندنا مثال حي، وهو الرتب العسكرية، فهي كثيرة، فأول ذلك الجندي، ومنها عريف، ملازم، ملازم ثان، كذا كذا.. إلى جنرال، فكذلك أولياء الله بقدر حبهم لله وخشيتهم منه يتفاوتون، والمثل الواقع: أبو بكر الصديق سيد الأولياء على الإطلاق، والناس من دونه واحداً بعد واحد إلينا، فمستوانا ليس بواحد، ونحن في الحلقة لسنا كلنا على رتبة واحد، بل نتفاوت، هذا يصوم الخميس والإثنين، ونحن نصوم ثلاثة أيام من الشهر مثلاً، هذا يزكي فقط، وهذا كل يوم يده في الريالات يوزع، فهل هم على مرتبة واحدة؟ هذا يصلي ثلاثين ركعة في اليوم، هذا يصلي سبعين ركعة، يتفاوتون، لكن اسم الولاية حق، فكل مؤمن تقي هو لله ولي.فلهذا ما نستطيع أن نسب مؤمناً أو نشتمه أو نغشه أو نخدعه أو نأخذ ماله بحيلة أو بقوة أو نضربه، لأننا أولياء الله، كيف نزني بابنته ونفسدها عليه؟! ولكن المسلمين ما عرفوا، ما بلغهم قول الله تعالى: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، لو عرف المسلمون هذه لسادهم الطهر والصفاء، وعمتهم المودة والإخاء والمحبة والولاء، وأصبحوا حقاً أولياء الله كجسم واحد، فمن يبلغهم هذا؟ أين العلماء؟ أين طلاب العلم، أين المسئولون والحكام والبصراء؟ هيا بالمؤمنين إلى سعادتهم.

    طريق الوصول إلى ولاية الله تعالى

    والطريق الذي نكرره حتى الموت أو نمنع ونلجم بلجام، ونقول: إنه -والله- لا طريق إلا هذا، هو أن أهل القرية إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف دولاب العمل، رمى الفلاح مسحاته من يده، والمنجل من يساره، وأغلق باب الدكان التاجر، وتوضئوا وجاءوا بنسائهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، ويوسعونه بالخشب والحطب؛ حتى يتسع لأهل القرية كلهم، وأهل المدن ذات المناطق العديدة والأحياء المتعددة، أهل كل حي لهم شيخ الحارة أو الحي، فيوسعون مسجدهم، وإذا دقت الساعة السادسة مساءً أغلقت الحياة أبوابها، وتطهر الرجال والنساء، وجاءوا بنسائهم وأطفالهم إلى بيوت ربهم، ويجلسون جلوسنا هذا، ما هناك كراسي، ولا شراب ولا أغان، يجلسون في بيوت ربهم، يجلس لهم عالم بكتاب الله وحكمة رسوله، ويلقنهم المعرفة، فليلة آية يتغنون بها، يرددونها حتى تحفظ، وتنشرح لها صدروهم، فتجد أنوارها في قلوبهم وأبصارهم، ثم تشرح لهم، يبين لهم ما أراد الله من هذه الآية، توضع أيديهم على المطلوب، يقول لهم: هل سمعتم يا أبنائي وإخواني وأخواتي؟ فعودوا بعد الصلاة إلى بيوتكم واذكروا هذا ولا تنسوه، واعملوا به ولا تهملوه. وغداً حديث من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، يتغنون به، يحفظونه، يعلمون مراد الرسول منه، وينوون العمل ويطبقون، وهكذا يوماً آية ويوم حديثاً، فبعد عام كيف يصبحون؟ ما يبقى فيهم زان ولا عاهر، ولا كذاب ولا دجال ولا لص، يصبحون أولياء الله. هذا هو الطريق، والله! لا طريق سوى هذا إن أردنا أن نكمل وأن نعود إلى كمالاتنا، أما سائر الأنظمة والقوانين والتوجيهات فهراء لا تنفع.قد تقول: يا شيخ! كيف عرفت هذا؟ فأقول: أنا قرأت ما دعا به إبراهيم وإسماعيل ربهما وهما يبنيان البيت: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، واستجاب الله، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، فالذين تخرجوا على هذه الدراسة أمثال الصديق والفاروق وذي النورين وفلان وفلان لم تكتحل عين وجود برجال مثلهم من عهد آدم إلا من كان من الأنبياء والمرسلين، فاقرأ كمالاتهم وانظر إليها كيف هي.فأين العلماء؟ أين الدعاة؟ أين المبلغون؟ لقد كتبوا وقالوا: هذا هراء، كيف نجتمع من المغرب إلى العشاء؟ فقلت: لم يجتمع اليهود والنصارى من المغرب إلى نصف الليل في المقاهي والملاهي ودور الباطل والمنكر، وأنتم ما تستطيعون أن تجلسوا ساعة ونصفاً؟ثم قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ [البقرة:242]، أي: كهذا التبيين، فهل هناك أعظم من هذا؟ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:242]، تنمو عقولكم وتصبحون أهلاً لأن تعرفوا عن الله عز وجل، يوماً فيوماً حتى نصبح نعرف أحكام الله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (17)
    الحلقة (24)

    ترجمة العالم الواعظ المعمَّر أبو بكر الجزائري (رحمه الله تعالى )




    تفسير سورة البقرة (114)

    ضرب الله عز وجل مثلاً بمن خرجوا من ديارهم من بني إسرائيل فراراً من الموت فأماتهم الله عز وجل ثم أحياهم، فكان ضرب هذا المثل في هذا السياق توطئة للأمر الإلهي للمؤمنين بالجهاد في سبيله من أجل أن يعبد وحده سبحانه، ومن أجل رفع الظلم عن المظلومين، ثم أمرهم سبحانه وتعالى أن يقرضوه قرضاً حسناً لأجل إعداد العدة والإنفاق على الجيوش التي تخرج مجاهدة في سبيل الله.

    تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في دراسة كتاب الله في هذه الليلة؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا الرجاء، فأنت ربنا وولينا، ولا رب لنا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:243-245].

    ذكر حادثة إماتة الفارين من بني إسرائيل من الطاعون

    معاشر المستمعين والمستمعات! هذا الاستفهام: أَلَمْ تَرَ [البقرة:243] موجه إلى من؟ إلى من أنزل الله عليه كتابه، واصطفاه ليبلغ عنه شرعه ودينه، هذا الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أي: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا حادثة مضت في التاريخ؟ هذه الحادثة كانت في بني إسرائيل على عهد حزقيل عليه السلام، ولعلهم طولبوا بالجهاد، فجبنوا وآثروا الدنيا على الآخرة، فأصابهم الله بوباء طاعون، عافانا الله وإياكم وسائر المؤمنين، ففروا هاربين من تلك المدينة، وهذه المدينة في شرق واسط، يقال لها: داوردان، عاصمة مدينة كبيرة يسمونها في الزمان الأول بالقرية، ففروا هاربين وكانوا ثلاثين ألفاً أو يزيدون، إذا قال تعالى: وَهُمْ أُلُوفٌ [البقرة:243].إذاً: فأماتهم الله عز وجل موتة واحدة، ثم سأله عبده ونبيه حزقيل إحياءهم فأحياهم أجمعين، حادثة من أحداث التاريخ، والله! لكما تسمعون: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ [البقرة:243]، خرجوا حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ [البقرة:243] بأمر التكوين: مُوتُوا [البقرة:243]، فماتوا عن آخرهم، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243].

    دلالة الآية الكريمة على تعرض القاعدين عن الجهاد للبلاء


    وهذا المثل الصالح لكل أمة تجبن وتقعد عن الجهاد في سبيل الله، قد يصيبها الله بوباء، قد يصيبها بجدب وقحط، قد يصبها بمحنة مقابل عصيانها، والحامل عليه هو الخوف من الموت، مع أن الموت كتبه الله على كل نفس، وله ساعة محدودة لا تتقدم ولا تتأخر.وهذه الآية نزلت أيام كان المؤمنون يدعون إلى الجهاد، حيث أعلنت الحرب على الإسلام والمسلمين من كل جهات الدنيا، ولا بد من أن يقاتلوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ ليعلمهم ما ينبغي أن يكونوا عليه، ألا وهو الصبر والجهاد، فإن الفرار من الموت لا يقي من الموت، يفرون منه وهو ملاقيهم، فر الرجل من الموت هارباً وإذا الموت يلاقيه في طريقه، فلم إذاً؟

    معنى قوله تعالى: (إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)

    أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا [البقرة:243] فماتوا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243]، حقاً وصدقاً إن الله لصاحب فضل عظيم على الناس: أولاً: وهبهم حياتهم، وأوجد وجودهم.ثانياً: أوجد لهم هذا الكون بكامله، ومقومات الحياة من الهواء والغذاء والماء، ثم يحيي ويميت، يعطي ويمنع، يعز ويذل، هذه العطايا الإلهية لم لا تشكر؟ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [البقرة:243] فضل عظيم، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243]، ولم لا يشكرون؟ لأن الشياطين تمنعهم من أن يشكروا، تصرف قلوبهم وألسنتهم وجوارحهم عن طاعة الله عز وجل، وشكر الله كما يكون باللسان بأن نقول: الحمد لله معترفين بنعمه علينا؛ نشكره أيضاً بطاعته بفعل ما يأمرنا بفعله، وترك ما يأمرنا بتركه، ويكون أيضاً بصرف النعمة فيما من أجله أنعم الله تعالى بها على العبد، صرف النعم فيما وهبها الله لعبده أن تصرف فيه، هذا هو الشكر. ولهذا تقرر وبيننا وعلمنا أن الشكر أولاً يكون بالاعتراف بالقلب، اعترف بالنعمة لله عز وجل، ثم ترجم ذلك بلسانك، وقل: الحمد لله، ثم اصرف تلك النعمة فيما من أجله أنعم الله تعالى بها عليك، وإياك أن تصرفها فيما يغضبه ولا يرضيه عنك.

    الإرشاد النبوي بشأن دخول أرض الطاعون والخروج منها

    وهنا يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الطاعون الذي يوجد الآن في هذه الأزمنة؛ ذكر أن سببه بقية من بقايا أصيب بها طائفة من بني إسرائيل، مضى زمان على البشرية وما وجد هذا المرض، وأول ما وجد في بني إسرائيل في طائفة منهم، قد تكون هذه الجماعة التي فرت من الوباء.إذاً: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا وقع الطاعون بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا وقع بأرض وأنتم لستم بها فلا تقدموا عليها )، وهذا ما يعرف الآن بالحجر الصحي، أي: المنع الصحي؛ حتى لا ينتشر الوباء، هكذا يقرر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عن الطاعون: إنه بقية مرض أو رجس أصاب طائفة من بني إسرائيل بذنوبهم عقوبة من الله تعالى لهم. وبناء على هذا أيها المؤمنون: إذا نزل هذا الوباء في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه، فقد خرج هؤلاء فأماتهم الله، خرجوا هاربين، إذاً: فأنزل الله بهم الموت فماتوا، ثم أحياهم للعظة والعبرة، وإذا نزل ببلاد وأنتم خارجها فلا تدخلوا عليهم.

    تفسير قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم)

    ثم قال تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:244]؛ لأن الآيات في الحث ودفع وتهييج المؤمنين ليقاتلوا في سبيل الله، فلا يمنعهم الجبن والخوف والخور من القتال، فها هي ذي أمة سبقتكم، أهل مدينة بالألوف، لما جبنوا عن القتال وخافوا من الموت أماتهم ثم أحياهم، فالآجال محدودة لا تزيد ولا تنقص، فما على المؤمنين إلا أن يطيعوا ربهم، فإذا قال إمامهم أو قال رسولهم: هلم إلى الجهاد لا يمنعهم الخوف من الموت أن يطيعوا رسولهم أو إمامهم ويجاهدوا معه.فمن هنا قال تعالى: وَقَاتِلُوا [البقرة:244] أيها المؤمنون، قاتلوا الكافرين، المشركين، والظالمين، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:244]، ما هي سبيل الله؟ نقاتل من أجل إعلاء كلمة الله، أي: من أجل أن يعبد الله تعالى وحده، فالقتال الشرعي الواجب المفروض فرض كفاية أو عين هو ما كان لإعلاء كلمة الله، وهذا يظهر في أن يعبد الله تعالى وحده، وأن يرفع الظلم عن المظلومين، فالمظلومون إذا كانوا مؤمنين أولياء لله عز وجل فعلى إمام المسلمين أن يقاتل الظالمين حتى يخلص المؤمنين من اضطهادهم وعذابهم.ويشهد لهذا قول الله تعالى من سورة الأنفال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، قاتلوا المشركين الكافرين، وليستمر قتالكم لهم إلى غاية، وهي ألا يبقى فتنة، أي: لا يبقى من يفتن في دينه وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ [الأنفال:39]. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:244]، سميع لأقوالكم، عليم بأحوالكم، فلا يخفى عليه أمركم، فمن جبن أو خاف أو تأخر فلا يظن أن الله لا يعلمه، فهو يعلم حاله، ومن قال كلمة تثبط عن الجهاد، أو توجد فشلاً في المجاهدين فالله سميع لقوله، عليم بحاله، أي: فراقبوا الله عز وجل؛ راقبوه حتى تتمكنوا من طاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه، هذه تعاليم علمها الله المؤمنين، فعملوا وفازوا وسادوا وطهروا وكملوا، وهم كذلك إلى اليوم وإلى يوم القيامة، متى وجد مؤمنون صادقون في إيمانهم فهذه الآية تتلى عليهم فينتفعون بها، وترفع من شأنهم، وتعلي من مكانتهم.

    تفسير قوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة ...)


    ثم يقول تعالى لهم: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، تهييج وإثارة، من هذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً؟ لأن الجهاد متوقف ابتداء على المال، ولهذا ما ذكر الأمر بالجهاد إلا وقدم المال على النفس، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:10-11]؛ لأن المال به تعد العدد ويحضر السلاح، وتسير به السرايا والمجاهدون، فليس من المعقول أن يخرج المجاهدون بلا مال ولا طعام ولا سلاح، فكيف يجاهدون؟ فالخطوة الأولى: هي الجهاد بالمال، ولهذا يقول تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، الحسنة هنا بسبعمائة، الدرهم بسبعمائة درهم، بخلاف الصدقات الأخرى فهي بعشر حسنات، لكن درهم الجهاد بسبعمائة، ومن هذه السورة في آخرها جاء قول الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، أي: إلى ألف ألف.إذاً: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ [البقرة:245] تعالى لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، وقد بينها في آية في هذه السورة، ضرب لذلك مثلاً ليفهم ويفهمه الكبير والصغير: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [البقرة:261]، حبة بر غرزها في الأرض فأنبتت سبع سنابل، كل سنبلة فيها مائة حبة، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].إذاً: هنا تعالى يقول بعدما حذر من الخور والجبن والتخلف عن الجهاد بما بين للرسول بقوله تعالى: ألم ينته إلى علمك حادثة كذا وكذا المتعلقة بأولئك الذين هربوا فارين من الموت فأنزله الله بهم؟

    معنى قوله تعالى: (والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون)

    ثم يقول تعالى: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ [البقرة:245]، يقبض عن العبد المال امتحاناً له وابتلاءً له أيصبر أو لا يصبر؟! فلذا لنعلم أنه ما أصاب عبداً فقر وقلة ذات يد إلا وقد ابتلي هل يصبر أو لا يصبر، فإن هو لم يصبر فسرق، وفجر، وكذب؛ فهذا في عداد الهالكين الهابطين، فإن هو صبر وثبت على عقيدته وإيمانه وصلاح نفسه وخلقه وآدابه؛ فسوف يفرج الله ما به بعد عام أو أعوام، وعد الله لا يتخلف، المهم أنها فترة يبتلى فيها هل يصبر على قضاء الله وحكمه أو يسخط ويضجر ويخرج عن آدابه وعن دينه وعقيدته. ومن أعطاه ووسع عليه رزقه وماله فوالله! إنه لممتحن هل يشكر أو يكفر؟ فإن اعترف بالنعمة للمنعم، وحمده وأثنى عليه وواصل ذلك، وأنفق المال في مرضاته ولم ينفقه ضده ولا في معصيته؛ فهذا نجح وفاز، وإن هو -والعياذ بالله- كفر تلك النعمة وصرفها ضد الله عز وجل وما شكر الله فإنه يسلبها إن شاء ويعذبه في الدنيا والأخرى.هذه قاعدة لا تتخلف: ما رأيت فقيراً إلا علمت أنه مبتلى هل يصبر أو يفجر ويسخط، فهو تحت الامتحان، فإما أن ينجح في هذه المحنة، وإما أن يخسر خسراناً كاملاً، وما رأيت غنياً ذا مال وسعة في رزقه وإلا علمت -وإن شئت أقسمت بالله- أنه متحن أيشكر المنعم فيزيده أو يكفر فيسلبه ويعذبه، وقد تدوم مدة الامتحان والابتلاء، ليست يوماً أو أسابيع، قد تدوم سنوات. وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]، العودة إلى الله، إذاً: فيا لخيبة عبد يبتلى فلا يصبر، يا لخيبة عبد يمتحن فلا يشكر وهو عائد إلى الله، فالصابر والضجر، والشاكر والكافر، الكل عائدون إلى الله بعد موتهم، هذه الآيات التي رفع الله بها قدر المؤمنين والمؤمنات أيام كانوا يدرسونها ويعملون بما فيها.
    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    خبر بني إسرائيل الفارين من الموت


    يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [البقرة:243]، هذه الرؤية ليست بصرية، بمعنى: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، ولو قال: آلاف لكان جمع قلة، لكن قال: ألوف، جمع كثرة، حتى قيل: إنهم ثلاثون ألفاً، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]. ولا ننس أن سبعين رجلاً من بني إسرائيل خرجوا مع موسى إلى جبل الطور؛ ليعلنوا عن توبتهم للمصيبة التي فعلوها، وهي شركهم -والعياذ بالله تعالى- وعبادة العجل، فأماتهم الله عن آخرهم وهم في الجبل، وبكى موسى فأحياهم الله عز وجل، والذي يميت السبعين يميت الآلاف، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].إذاً: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [البقرة:243]، عرفنا فضله في إحيائنا وإماتتنا، في إيجادنا وإعدامنا، ما منا إلا وهو يعيش في نعمة الله، فكيف ننسى هذا الفضل وننكره ونتنكر لخالقه وواهبه ومعطيه؟! فلو ذكر هؤلاء هذه الفضائل والإنعامات لما كانوا يفرون من القتال، ولما كانوا يهربون من الوباء، بل كانوا سيصبرون.

    أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله تعالى

    إذاً: ثم وجه الله الأمر إلى المؤمنين الذين نزلت فيهم هذه الآيات لتعلمهم وتربيهم فقال تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:244] أيها المؤمنون.فالقتا في سبيل الله، لا في سبيل الوطن والمال والدنيا والتراب والمنصب والجاه والمراكب والسفن، لا يقاتل المؤمنون إلا من أجل أن يعبد الله تعالى وحده، وأن يرفع الظلم عن أوليائه، فإذا ظلم أولياء الله واعتدي عليهم فعلى المسلمين أن يقاتلوا الظلمة المعتدين من أجل تخليص إخوانهم أولياء الله من عذاب الكافرين والمشركين.ثم معاشر المؤمنين! هذا القتال يجب أن يكون تحت إمرة إمام بايعه المؤمنون، وأعطوه زمامهم وقادهم، هو الذي يدير هذه المعارك ويقود إليها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما كان خلفاؤه خليفة بعد خليفة، ينبغي ألا يكون القتال فوضى كل جماعة تقاتل وتدعي أنها تقاتل لإعلاء كلمة الله، أو لرفع الظلم، هذا لا يرضاه الله عز وجل؛ لأن نتاجه وثماره ما هو إلا خسران، لم لا يبايع المسلمون إمامهم على طاعة الله وطاعة رسوله؟ وحينئذٍ يجب عليه إذا أتيحت الفرصة وتهيأ الظرف للقتال أن يقاتل بهم في سبيل الله، ومن تأخر تليت عليه هذه الآية الكريمة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ [البقرة:243] خرجوا حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:243]، الوباء والطاعون أنزله الله بهم عقوبة لهم ففروا، ابتلاهم بالطاعون؛ لأنهم دعوا إلى الجهاد فجبنوا وخافوا، وأبوا أن يقاتلوا مع رسولهم ونبيهم، فلما أصابهم الله بالوباء هربوا خارجين، ظنوا أنهم ينجون من ذلك، فأماتهم الله، آية من آياته لعباده، ثم أحياهم بعد ذلك، وهذا من فضل الله وإنعامه عليهم، وإلا لكان يميتهم ولا يحييهم.ومن هنا قال تعالى للمسلمين المحمديين: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:244]، كيف تحاولون أن تهربوا من الجهاد وتتكلموا بضده أو تفكروا في غيره وهو سميع لأقوالكم، عليم بأحوالكم؟

    الحث على الإنفاق في سبيل الله تعالى

    وبعد هذا فتح باب الاكتتاب: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، إذ ما كان عند الرسول بيت مال، كان الجهاد على حساب المؤمنين، يتنافسون ويتسابقون، وحسبنا أن عثمان رضي الله عنه جهز ألف مقاتل، حسبنا أن الصديق في غزوة تبوك أخرج من كل ماله، وأن عمر خرج بنصف ماله، ما كانت الأموال كما هي الآن في دار تسمى مال الدولة، بل ينفقون من جيوبهم، فنصروا الجهاد حتى طهروا هذه الجزيرة من الشرك والمشركين، ما مات الرسول حتى لم يبق على سطح هذه الجزيرة مشرك أو كافر، ببذلهم وإنفاقهم وقتالهم.

    بطلان القتال بغير بيعة إمام

    أقول: لا يصح لجماعة في بلد ما بدون بيعة إمام تبايعه أمتهم أو في إقليم أن يقاتلوا في سبيل الله، هذا القتال لا يصح شرعاً، وباطل وعواقبه خسران واضح وبين، إن أردتم أن تقاتلوا في سبيل الله لإنقاذ البشرية من الشرك والكفر فبايعوا إمامكم، والتفوا حوله، فيربيكم وينمي طاقاتكم، فإذا أصبح قادراً على القتال فإنه يعسكر على حدود إقليم الكفار ويراسلهم، يقول: هل تدخلون في الإسلام؟ فإن قالوا: نعم ومرحباً بدين الله دخلوا في دين الله بلا قتال، وحكمنا شرع الله فيهم وبينهم، وسادهم الطهر والصفاء، فإن هم رفضوا الدخول في الإسلام طالبناهم بالانضمام إلينا والدخول تحت ذمتنا؛ ليسمحوا لنا أن ننشر دين الله بين أفرادهم؛ لأن الذي يمانع هو الحاكم وجيشه، والأمة المسكينة لم تبقى محرومة من دين الله؟ افتحوا لنا المجال، ادخلوا في ذمتنا وفي حمايتنا، ونحن نحميكم ونقاتل دونكم، ونحفظ أموالكم وأعراضكم ودماءكم وعقائدكم أيضاً، فإن رفضوا فلم يبق -إذاً- إلا إعلان القتال والدخول في المعركة، والله ناصر أوليائه وهازم أعدائه، هذا هو القتال الشرعي الذي ينبغي أن يكون.أما أن تخرج جماعة في أقاليمنا التي لا تحكم بالإسلام ويكفروا الحكام ثم يدخلوا في معارك فيقتل المؤمن المؤمن والمسلم المسلم؛ فهذا -والله- ما أذن الله فيه ولا هو بجهاد أبداً.الجهاد: أن نبايع إماماً بيعة شرعية على أن يسوسنا بشرع الله، ويقودنا بكتاب الله وسنة رسوله، هذه الإمام هو الذي يجاهد برجاله إن كانت الفرص متاحة، إذا رأى نفسه قادراً على أن يجاهد في سبيل الله زحف بسفنه أو دباباته أو سياراته، ويطالب أهل الإقليم المجاور لهم أن يدخلوا في الإسلام أو يدخلوا في ذمة المسلمين؛ لينشر الإسلام بينهم، أو يقاتلوا، والآية المبينة لهذه من سورة التوبة من آخر ما نزل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، هذا نظام الإسلام الرباني، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، وهكذا في ظرف خمس وعشرين سنة بلغ الإسلام إلى أقصى الشرق وأقصى الغرب تحت هذا النظام.أما جماعة تقوم على الحاكم بعد أن تعلن عن كفره وما بايعت إماماً ولا التفت الأمة حولها، ولا وافق عليها أهل الإقليم؛ فهذه هي الفتن بعينها.فالمفروض: أن نطالب الحكام بتحكيم الشريعة بالموعظة والكلمة الطيبة الحسنة، من باب تنبيههم، تعليمهم، أما أن نعلن الحرب ولا إمام ولا قيادة، ويقتل المؤمنون بعضهم بعضاً؛ فهذا ظلم وفسق وخروج عن طاعة الله ورسوله، وعواقبه لا تساوي إلا الدمار والخراب.يقول تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9]، أي: قاتل بعضهم بعضاً؛ فما هو موقف المسلمين؟ بينه الله تعالى فقال: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]، على إمام المسلمين أن يتدخل في هذا القتال بين طائفتين، فإن كانت إحداهما ظالمة قاتلها حتى ترجع إلى الصواب وتعود إليه بالمفاوضات وبيان الحق، وبيان الهدى، وإذا كانت مظلومة رفع الظلم، وإذا كانت مضطهدة رفع اضطهادها، فإن أبت طائفة إلا القتال فليقاتلها المسلمون مجتمعين؛ حتى ترجع إلى الحق وتقول به. وأخيراً سأتلو هذه الآية الكريمة وتأملوها: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243] بعد أن ماتوا، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243]، وَقَاتِلُوا [البقرة:244] أيها المؤمنون فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:244] أي: من أجل أن يعبد الله تعالى وحده، ولا يعبد معه سواه، ومن أجل رفع الظلم عن المظلومين، إذا أمة ظلمت واعتدت فعلى المسلمين أن يرفعوا هذا الظلم بقتالها، وهو في سبيل الله؛ لأن المظلومين من المؤمنين المتقين أولياء الله، فكيف يسكت المؤمنون ويرضون بالعدو الكافر أن يضطهدهم أو يعذبهم، والظالمون أنفسهم لا نرضى بظلمهم، بل نرفعه. ودعا الله تعالى المؤمنين إلى البذل والعطاء، إلى الإنفاق لأجل إعداد العدة وتسيير السرايا التي تقاتل في سبيل الله، فقال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، والله! ما هو في حاجة إلى أموالنا، ولكن هذه الأموال من أجل إعلاء كلمة الله ورفع الظلم عن المظلومين.فالمؤ نون يبذلون أموالهم وينفقونها، وقد يخرج أحدهم من ماله كاملاً ولا حرج، وقد يخرج من نصف ماله؛ لأن الله يعوضه ويضاعف له أضعافاً كبيرة، وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245].
    أحكام متعلقة بالمعتدات والمطلقات

    أقسام المعتدات


    نتناول هنا مراجعة وبياناً لأحكام المعتدات من النساء، وذلك أن المعتدات على أقسام:أولاً: معتدة تحيض، فعدتها ثلاثة قروء، سواء قلنا بالأطهار أو بالحيض، الكل خير، إلا أن الاعتداد بالأطهار أخف على المعتدة، فزمنها أقل، حتى تستريح وتتزوج، لكن الاعتداد بالحيض في صالح الزوج أيضاً، تبقى المدة أمامه طويلة عله يراجع، ففي ذلك فائدة لهذا ولهذا؛ ولهذا لا فرق بين أن نقول: بالأطهار أو بالحيض. هذه واحدة.الثانية: التي لا تحيض لكبر أو صغر، إما عجوز فوق الخمسين ما تحيض، أو صغيرة بنت تسع أو عشر سنوات ما تحيض، فعدتها ثلاثة أشهر: وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، تسعون يوماً، ثم هي حرة تتزوج بمن شاءت إذا ما راجعها زوجها فيها.الثالثة: المتوفى عنها زوجها، تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام، بعدها لها أن تلبس الحرير وتكتحل وتتعرض للخطبة والزواج، لكن في الأربعة أشهر وعشرة أيام تلزم بيتها لا تخرج منه إلا من ضرورة قصوى. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، هذه الآية من أهل العلم من قال بنسخها، وأنها منسوخة بآية سبقت: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، وآثرنا القول بعدم النسخ، وقد رغب فيه كثير من الصحابة والتابعين والأئمة، فقلنا: لبثها في بيت الزوج أربعة أشهر وعشر ليال هذا هو الواجب، وبعدها يستحب لأهل الميت أن يبقوا هذه المؤمنة التي مات زوجها تأكل وتشرب حتى تكمل السنة إذا أرادوا أن يحسنوا ويعملوا بهذه الوصية الإحسانية: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240]، فتزيد سبعة أشهر وعشرين يوماً وهي في بيت زوجها الذي توفي، فإذا انتهت السنة تخرج حيث شاءت، وإن أرادت أن تخرج بعد الأربعة أشهر وعشر ليال فلها ذلك، لكن إن قالت: أنا ألفت هذا المنزل وهؤلاء أبنائي أو إخواني سنبقى معكم حتى يفرج الله، فيقال حينئذ: أكملوا لها السنة، وتبقى الآية ليست منسوخة بل محكمة، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، تبقى في بيتها أربعة أشهر وعشر ليال لا تختضب ولا تكتحل ولا تتعرض للزواج أبداً، وإن فعلت فهي آثمة وفاسقة ويجب عليها أن تتوب؛ لأن الله قال: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]. فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:234] من التعرض للزواج أو التزوج، لكن تبقى مدة إكمال السنة من باب الإحسان، فإذا ما رغبت أن تخرج من هذا البيت، وقالت: سأبقى معكم حتى تكتمل السنة وبعد ذلك يفرج الله عني؛ فمن الإحسان أن نبقيها، تأكل مع الأسرة وتشرب وتنام حتى تكمل السنة، فهذا إحسان أمر الله به ووصى به: وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:240]، ما دامت قد أكملت أربعة أشهر وعشرة أيام فلها أن تخرج، لكن إن قالت: سأبقى معكم حتى أكمل سنة ويفرج الله عني، أليس من الإحسان والرحمة والمودة أن تبقى هذه؟ فالآية -إذاً- محكمة وليس بمنسوخة.المعتدة الرابعة: المرتابة، من الريب، هذه ليست كبيرة في السن، وما هي بصغيرة، ولكن مع الأسف ما حاضت.قال أهل العلم: تتربص وتنتظر تسعة أشهر، فإن كان هناك حمل فبها ونعمت؛ لأن عدم الحيض سببه الحمل، فإذا ما حاضت في الشهر الأول، ولا في الشهر الثاني، ولا في الثالث ولا في الرابع فلعله حمل، فإن مضت تسعة أشهر وما حملت فلا حيض ولا حمل، إذاً: حين تستوفي تسعة أشهر مدة الحمل تعتد بثلاثة أشهر، فتكمل سنة وبعد ذلك تتزوج، هذه المرتابة الشاكة، انقطع حيضها لأي شيء، أو لعلها حبلى في بطنها جنين ماكث، فما تحيض مع الجنين أبداً، وقد يتأخر الجنين سنتين، يستقر وما ينمو ويبقى في الرحم.إذاً: قالت الفقهاء -رحمة الله عليهم-: هذه هي المرتابة الشاكة، عدتها سنة، تمكث تسعة أشهر عسى أن تكون حاملاً في بطنها جنين، وبعد تسعة أشهر إذا ظهر أنه ما هناك حمل فإنها تأخذ في العدة، تعتد بثلاثة أشهر كالآيس من الحيض، فهنا أربع معتدات.

    أقسام المطلقات من حيث ما يجب لهن

    والمطلقات أقسام:أولاً: المطلقة إذا طلقت قبل المسيس، قبل أن يمسها زوجها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:49]، إذا تزوج الرجل المرأة وطلق قبل الدخول عليها فلا عدة عليها، فإن لم يسم لها صداقاً فلا صداق لها؛ لأنه ما سمى لها شيئاً، إذاً: فماذا تعطى؟ تعطى المتعة، يمتعها الزوج الذي طلقها بحسب حاله فقراً وغنى، إعساراً ويساراً.ثانياً: مطلقة طلقها قبل أن يمسها وقد سمى لها مهراً، فلها نصف المهر، إلا أن تتنازل عنه كله، أو يتنازل هو عنه كله، وقد ذكرنا اللطيفة أمس: وهي أنه إذا كانت هي التي طالبت بالطلاق فمن الخير أن تقول: تنازلنا عنه، ما دمت أنا نجوت بنفسي، فمن الخير أن تكون هي التي تعفو، وإذا كان الزوج هو الذي أراد طلاقها وما رغب وأخزاها وأذلها بين النساء فمن الخير أن يترك المهر كله لها، أما الآية فالله تعالى يقول: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، ففتح الله علينا وقلنا: يعفو الرجل إذا كان هو الذي رغب في طلاقها، أليست هي تشعر بمهانة؟ يعقد عليها وقبل أن يدخل بها يطلقها، فمن الخير أن يتنازل عن النصف، وإذا كانت هي كرهته وما أرادت أن تتزوج، وهو يكرب لهذا ويحزن؛ فمن الخير أن تتنازل هي عن النصف.ثالثاً: مطلقة كان قد بنى بها ودخل عليها وطلقها، فهذه إن سمى لها مهراً فلها مهرها كاملاً، وإن لم يسمّ لها مهراً فلها مهر مثيلاتها من الشريفات والوضيعات والغنيات والفقيرات، هذه تزوجها وما سمى لها المهر لا مليون ولا ألف، ثم طلقها بعد الدخول بها والبناء حتى بعد الولادة، فما الحكم؟ تعطى مهر مثيلاتها، القاضي ينظر إلى هذه الأسرة: هل هي أسرة فقيرة، أو غنية شريفة، أو وضيعة، فيعطيها مهر مثيلاتها من جنسها، هذه هي الرابعة.فهذه خلاصة هذه الآيات، وهذا فقهها، والله تعالى أسأل أن يحفظنا وإياكم وأن يراعانا وإياكم ما حيينا.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (18)
    الحلقة (25)

    ترجمة العالم الواعظ المعمَّر أبو بكر الجزائري (رحمه الله تعالى )




    تفسير سورة البقرة (115)

    يذكر الله عز وجل قصة بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام، وأنهم طلبوا من نبيهم أن يختار لهم ملكاً من بينهم ليقاتلوا تحت لوائه العمالقة، وبينوا له سبب استعدادهم للقتال وذلك لاسترداد أوطانهم وما سلب منهم، فلما عين لهم رجلاً منهم ليكون ملكاً عليهم بدءوا بالتلكؤ والتساؤل، إذ كيف يكون لطالوت الملك عليهم وليس صاحب مال وافر فيهم، فبين لهم نبيهم أن الله عز وجل هو الذي اختار لهم طالوت وميزه عليهم بمزيد من العلم والقوة.

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على عادتنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع هاتين الآيتين المباركتين، وإليكم تلاوتهما:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:246-247].

    حث المسلمين على الجهاد بتذكيرهم بإماتة الله تعالى الفارين من الموت

    أعيد إلى أذهان المستمعين من المؤمنين والمستمعات من المؤمنات ما جاء في الآيات الثلاث في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ [البقرة:243] وما بعده، فقد عرفنا -زادنا الله معرفة- أن هذه الآيات نزلت في بداية الجهاد الإسلامي، فسورة البقرة من أوائل ما نزل بالمدينة، وهي قطعاً مدنية، والجهاد يتطلب المال والنفس، وإذا لم يكن مال ولا رجال فكيف يكون الجهاد؟ والنفس قد يعتريها الخور والخوف والضعف، وتعجز عن القتال، والجهاد قتال، والأمة مقبلة على قتال الأبيض والأصفر، وهذا الذي تم.إذاً: فقال الله تعالى لرسوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا [البقرة:243] فماتوا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243] لِم خرجوا من ديارهم؟ لأن الوباء الطاعون -عافانا الله وإياكم والمسلمين منه- وقع، فخرجوا هاربين من الموت يظنون أنهم إذا خرجوا من مدينتهم نجوا من الموت، ولا أشك أن هذا مسبوق بطلب رفضوه، وإن لم يذكر، فلعل أحد أنبيائهم طلب منهم أمراً فرفضوا فأصابهم الله تعالى بهذا المرض؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عنه: إنه رجس أصيب به طائفة من بني إسرائيل، فهذا هو مرض الوباء، فلما جبنوا ابتلاهم الله بهذا الوباء ففروا هاربين منه يظنون أنهم ينجون، وما إن خرجوا حتى قال لهم: (موتوا) بكلمة التكوين فماتوا وأنبيائهم يشاهدون، ثم قال لهم: (قوموا) فحيوا عن آخرهم.فهل نفعكم الفرار من الموت؟ ما نفع، هل امتناعكم عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والجهاد كان له عاقبة حميدة؟ لقد كانت من أسوأ العواقب، إذاً: هذا من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة)!هذا حدث في بني إسرائيل وقصه الله للعبرة، يقول تعالى: ألم ينتهِ إلى علمك يا رسولنا كذا وكذا؟ ليفهم هذا المؤمنون وليعرفوا مركزهم وموقفهم.

    عظيم فضل الله تعالى على الناس


    إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243]، وتجلى فضل الله عز وجل في خلقه لهم، وفي إنجائهم وإحيائهم بعدم موتهم، أليس هذا أعظم فضل، ماتوا فأحياهم عن آخرهم، لو شاء لتركهم إلى الأبد. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [البقرة:243] أبيضهم وأصفرهم، إذ ما منا إلا وهو يتقلب في نعم الله، من استطاع منا أن يوجد لنفسه عيناً أو أذناً، أو شفة من الشفتين، أو لساناً ينطق به، أو هواء يتنفسه، فضلاً عن الطعام والشراب؟ ففضل الله علينا عظيم، والمطلوب أننا لا نبكي بل نحمد الله عز وجل، وذكرتكم وما انتفعتم ولا انتفعنا؛ لأن قلوبنا مصابة بالغفلة، قلت: منذ فترة تغدينا مع رجل مؤمن في مدينة بريدة، فمن ساعة أن وضع الطعام والرجل يقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله؛ حتى فرغ الأكلة من طعامهم، ولا يقل لنا قائل: هذا تنطع أو هذا ابتداع، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما فعل هذا! فهذا كلام ليس بصحيح، بل نحن مأمورون بذكر الله وشكره، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن أنه يتوب إلى الله ويستغفره في اليوم مائة مرة. والشاهد عندنا: أننا لو ننظر في صدق إلى ما نحن فيه من نعم ما وسعنا أن نسكت أبداً، بل لن نقول إلا: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.فماذا أراد الله بقوله: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243] أليست دعوة إلى الذكر وإلى الشكر؟

    أمر المسلمين بالجهاد لعبادة الله تعالى وحده

    ثم قال بعد هذه التوجيهات: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:190]، هل المراد بنو إسرائيل؟ لا، بل المسلمون، إذ نزلت الآيات لهدايتهم وتربيتهم، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:190] أيها المؤمنون.وعرفنا أن القتال في سبيل الله هو من أجل أن يعبد الله تعالى في الأرض وحده، يعبد بما شرع من عبادات، من أجل أن ينتقل أهل الأرض إلى السماوات؛ لأن أهل الأرض إذا لم يعبدوا الله تعالى بما شرع لهم فإنهم ينزلون إلى الدركات السفلى، ويخلدون في العذاب الأبدي في الطبقات السفلى من الكون، فإذا هم عبدوا الله تعالى عبادة شرعية حقيقية زكت أنفسهم وطابت أرواحهم، وحينئذٍ يرفعهم الله إليه إلى الملكوت الأعلى، فهذا سر العبادة، مع ما تفيضه على العابدين من مودة وإخاء وطهر وصفاء، وعدل ورحمة، وتنتهي مظاهر الخبث والظلم والشر والفساد، ولا يبقى لها أثر.
    إحاطة علم الله تعالى وسمعه أقوال المرجفين
    وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا [البقرة:244] أيها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:244]، إذ هذه الآيات الأولى في الجهاد، ولا تسأل عن الطابور الخامس وعن الإعلام في المدينة، اليهود يقولون كذا، والمشركون يقولون كذا، يقولون: هذا جاء لإيقاع الفتنة بينكم، هذا كذا، يريدكم كذا، فقال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ [البقرة:244] لأقوالكم الهابطة أقوال السوء، عَلِيمٌ [البقرة:244] بما تكنونه من مكر برسولنا وكيد لعبادنا المؤمنين، فهذه تلصقهم بالأرض، فما دام تعالى سميعاً لأقوالهم، عليماً بأعمالهم؛ فسوف ينزل بهم نقمه، أو يكشف الستار عنهم ويفضحهم؛ لأن الآيات في بداية المعركة بعد معركة بدر مباشرة.

    الحث على الإنفاق في سبيل الله تعالى

    ثم حثهم وحضهم وهيجهم على الإنفاق في سبيل الله، فبِم يقاتل رسول الله وهو ما يملك ديناراً ولا درهماً، فإذا قال المهاجرون: هيا يا رسولنا قال: أين طعامكم وشرابكم وسلاحكم؟ فلهذا قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، الدينار بسبعمائة دينار، بل بألف، وبالفعل أخرجوا أموالهم وأنفقوها في سبيل الله، وكم من مؤمن كان يأتي ويقول: يا رسول الله! أجاهد معك، فيقول: لا أستطيع حملك: لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التوبة:92]، فيرجعون وهم يبكون من الحزن لأنهم ما استطاعوا أن ينفقوا.إذاً: مَنْ ذَا الَّذِي [البقرة:245]، هذا الاستفهام للتهييج والإثارة، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، والمال ماله وهبه لنا، وقال: أقرضوني أضاعف لكم القرض، وإلا فالمال -والله- ماله، ومن رحمته وإحسانه أنه يعطينا ويستقرض منا، فالناس الآن قد يفعلون هذا، يعطي لأخيه مالاً ويحتاج إليه، فيقول له: أقرضني، لكن الله عز وجل واسع الفضل عظيم، فالدينار بسبعمائة وبألف: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] مع أن أنفسهم وأموالهم منه وله، وهبهم واشترى منهم لغناه ولفقرهم، بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111]، لا أحد، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، هل عرف المسلمون هذه الآية؟ ما سمعوا بها؛ لأن هذه السورة ما تقرأ على الموتى أبداً، ما هي مثل يس، والواقعة، والملك، ولذا ما عرفوها، ولو عرفوا هذه ما صح لأحدهم أن يحتسي شراباً يضعف عقله أو بدنه، ولما استطاع مؤمن أن يدخل أي ضرر على نفسه؛ لأن النفس هذه ليست له، حيث باعها، وهي أمانة في عهدته لله عز وجل؛ فلهذا لا يحل لمؤمن أن يدخل على نفسه أذى، لا على عقله ولا على جسمه بعظامه ولحمه؛ لأنها أمانة مودعة عنده، ويوم يطلبها المؤتمن تقدم له.والذين يحتسون السموم ويشربون المخدرات ويهدمون بنيانهم في المعاصي والجرائم والسهرات وما إلى ذلك، هؤلاء أضاعوا أمانة الله أو لا؟ لو نادى إمام المسلمين: (حي على الجهاد)؛ قال أحدهم: مع الأسف؛ أنا مريض! لماذا تمرض، لم تدخل المرض على نفسك، أليست أمانة لله، أما بعت نفسك واشتراها الله، فكيف إذاً تعمل هذا بجسمك؟ أما المال فلا تسأل، فالذي ينفق درهماً ريالاً قرشاً في معصية الله أعوذ بالله منه، هو شر الخلق، أيعطيه مولاه ويشتري منه ثم ينفق ضده؟ فتأمل: وهبك مالك ونفسك، ثم اشتراهما منك وتركهما أمانة عندك، فحين يطلبهما تعطيه، وإذا بك تنفق ماله ضده فيما يكره، وتتحداه، والله! لو يشعر العبد المؤمن بهذا الشعور لأغمي عليه.فلهذا كل من ينفق ديناراً ودرهماً في معصية الله وقف هذا الموقف الشائن الذي هو أسوأ موقف، ونبدأ بالذين يشربون الدخان والشيشة والكوكائين والهروين، والذين ينفقون أموالهم على الزنا والعهر والباطل، والذين ينفقون أموالهم في القمار واللهو والباطل، حتى الإسراف في الأكل والشرب لا ينبغي، فالقصد.. القصد، هذا مال الله، ما هو بمالك، فلا تسرف.إذاً: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، وبينتها سورة البقرة، إذ قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، قال ابن عباس : إلى ألف ألف، وألف الألف مليون.


    ابتلاء الله تعالى عباده بقبض الرزق وبسطه

    ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]، أيها المؤمنون! اعلموا أن الله يقبض الرزق على من يشاء ويقلل ماله وطعامه وشرابه ابتلاءً له هل يصبر أو يسخط، ويبسط ويوسع على من يشاء امتحاناً أيشكر أم يكفر، ومن هنا: إذا طلب منك مولاك فأعطِ، فإنَّ منْعك العطاء لا يغنيك ولا يدفع الفقر عنك أبداً؛ لأن الإغناء والإفقار هو الذي يديرهما ابتلاءً وامتحاناً، وبهذا تشجع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفتم كيف كان ينفقون، فاللهم اجعلنا من محبيهم.

    تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله ...)
    بعد هذا جاء السياق الآتي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [البقرة:246]: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا الحادثة الآتية والقصة الآتية، وهي عبرة يعبر بها المؤمنون بحور الضلال والشقاء والخسران. ثم من أين لرسول الله أن يقص هذا القصص ويأتي بهذه الأحداث كأنها الآن تقع بينهم، هذه علامة أنه رسول الله، ومن أنكر رسالته فهو أحمق مجنون لا قيمة له.هل استطاع اليهود أن يردوا كلمة واحدة من هذا؟ الآية تنزل واليهود بطوائفهم الثلاث، وهم علماء والعرب جهال، هل استطاعوا أن يردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة واحدة؟ ما استطاعوا؛ لأنه يتلقاه غضاً طرياً من الملكوت الأعلى. أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ [البقرة:246]، ما المراد بـ(الملأ)؟ الملأ: الجماعة الذين يملئون عينيك وقلبك بالمهابة، وهم أشراف الناس وساداتهم وأغنياؤهم وأهل الحل والعقد منهم، الذين يملئون العين والقلب. مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:246] أي: من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، مِنْ بَعْدِ مُوسَى [البقرة:246]، أي: من بعد وفاة موسى بقرون، متى؟ لما أغناهم الله بعبادتهم وطاعتهم وصلاحهم واستقامتهم على دين الله عز وجل، ثم دخلهم الربا والزنا والكعب العالي، كالمجتمع الإسلامي اليوم، وهو يتهيأ للنقمة الإلهية.إذاً: سلط الله عليهم البابليين، فشردوهم.. مزقوهم.. طردوهم من بلادهم.. ساموهم الخسف، لِم يا ربّ تفعل بهم هذا؟ أليسو أبناء أنبيائك؟ الجواب: نعم، ولكن عصوني وفسقوا عن أمري، خرجوا عن طاعتي وحاربوني، فأذقتهم هذا البلاء، وإن كانوا أبناء الأنبياء. أما أذاق الله أمة محمد أطهر الأمم وأصفاها البلاء والعذاب والشقاء؟ أين الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي؟ حولوهم إلى شر الخلق، أين الأندلس جنة الإسلام الخضراء؟ تحولت إلى صلبان وشياطين.وأخيراً: أما استعمرتنا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وبلجيكا، أين ممالك الهند الإسلامية؟ وضعتها بريطانيا تحت حوافرها، لما فسقنا عن أمر ربنا، وخرجنا عن طاعته أمضى الله تعالى فينا سننه، ولله سنن لا تتبدل ولا تتحول، ما نحن بأشرف من بني إسرائيل، بنو إسرائيل أبناء الأنبياء سلط الله عليهم البابليين من جهة العراق وهم في فلسطين وما حواليها، فشردوهم، فعلوا بهم كما يفعل اليهود اليوم بالمسلمين في فلسطين سواء بسواء، أهذه خيالات أو حقائق؟ أما شرد إخواننا الفلسطينيون فنزلوا في كل مكان؟ بسبب ماذا؟ بسبب الخروج عن منهج الحق ومنهج الطاعة لله ورسوله، فمن أكل السم مات أحب أم كره، أليس كذلك؟قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [البقرة:246] عليه السلام إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، أخذوا يتحمسون، طالت مدة الاستعمار، وأخذوا يفكرون، ونبتت نابتة قوية شجاعة، فقالوا لنبيهم: ابعث لنا ملكاً، وهذا النبي قيل هو: شمويل أو شمعون، والعبرة ما هي بالاسم، حسبنا أنه لو كان الاسم فيه فائدة لذكره الله تعالى، فهو نبي من أنبيائهم، الأول حزقيل الذي كان في عهد الوباء، وهذا شمويل. ‏

    أهمية بيعة الإمام في الجهاد

    وهنا تأمل قوله تعالى: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، ولا تقولوا: الشيخ جنّ! أقول: لو عرف هذا إخواننا الفلسطينيون معرفة يقينية وإيمانية فوالله! لأخرجوا اليهود منذ أربعين سنة، فكيف؟ يبحثون عن ملك يملكونه وإماماً يقودهم ويطيعونه، فإذا قال: صوموا صاموا، وإذا قال: هلِّلوا هلَّلوا، وإذا قال: اجلسوا جلسوا، لا يزال يترقى بهم حتى يصبح له قوة لا تقهر، لكن ما فعلنا، فما هي النتيجة؟ لا نجاح ولا فوز.وأوضح من هذا أنا قاتلنا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وبلجيكا وأخرجناهم من بلادنا، فهل أقمنا دولة إسلامية؟ ما السر؟ ما بايعنا إماماً ربانياً يقودنا إلى حياض الكمال في الدنيا والجنة في الآخرة، كل يريد أن يكون هو الملك الحاكم، وحين لا يتعين إمام فالفوضى، ينجح الشعب ويستقل ويرفضون كلمة إمام وملك، بل يبحثون عن أي ملك يريدون ذبحه، حتى لا يقيموا دين الله، والهروب من بيعة إمام هو الهروب من أن يعبد الله عز وجل، ما يريدون أن تقام الصلاة ولا تجبى الزكاة، ولا يحجب النساء ولا يمنع الربا، ولا يفرض الجهاد أبداً، فيموت النساء والرجال والأطفال ويستقل الشعب من فرنسا أو إيطاليا وهم يتنكرون للإسلام.فأسألكم بالله: هل سعدوا في أي بلد؟ هل طابوا وطهروا، وتآخوا وتلاقوا؟ كلا، بل كان الخزي والعار والشنار والحرب، وما أفقنا، وآخر رمية أيام الجهاد الأفغاني، وأقول: إنه جهاد فيه دخن وتغضبون أنتم، وتقولون: ماذا فيه؟ فقولوا ما شئتم، فوالله! إن فيه لدخناً، وعاقبته عاقبة السوء، ونتائجه مرة.كنت أقول: لا يحل لمؤمن أن لا يراه الله في ذلك الجهاد، إما بنفسه إن كان أهلاً لذلك، أو بماله إن كان له مال، أو بدعوة إخوانه إلى أن يساعدوا وينفقوا، أو بدعائه صباح مساء لإخوانه، ومع هذا ذهبنا إليهم وبينا لهم، وانتدبنا شيخنا الباز حفظه الله وأطال الله عمره، وذهبنا إليهم ودخلنا معسكراتهم وقلنا: اجتمعوا على إمام وبايعوه، وحدوا كلمتكم وصفوفكم، فقال أحدهم: هذه الجبهة الفلانية صاحبها جعلها مصيدة للفلوس! ما إن سمعنا هذه الكلمة من قائد من قوادهم حتى انهارت قوانا، وعرفنا مصيرنا.وبعد أن انهزمت روسيا وتحطمت بجهاد المؤمنين والمؤمنات بالدعاء وبالإنفاق في سبيل الله، وأعظم بلاد أنفقت هي هذه البلاد، وهزم الله روسيا، بعد ذلك هل استطاع إخواننا أن يقيموا دولة إسلامية؟ هل أقيمت بينهم الصلاة؟ هل حطمت مشاهد الشرك والباطل والخرافات؟ كلا، لِم؟ ما بايعوا إماماً على قيادتهم إلى رضوان الله عز وجل.فهذه الآية عجب أو لا؟ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا [البقرة:246] لا نقاتل بدون إمام، ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] من أجل أن يعبد الله ويحكم شرعه في عباده.

    معنى قوله تعالى: (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا)


    فقال لهم النبي عليه السلام: (هل عَسِيتُمْ) كما في قراءة سبعية، هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]، ومعنى هذا أنه يقول: أنا أتوقع أنكم إذا كتب عليكم القتال لا تقاتلون، عرف ظاهرهم وباطنهم، و(عسى) للترجي، وقد صدق، فقد فرض الله عليهم القتال وانهزموا، آلاف رجعوا منهزمين وما قاتل إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدة أصحاب بدر كما سيأتي بيان ذلك في الآيات.فهل عرفتم الآن أنهم يطالبون بإمام يقودهم؟ في إمكانهم أن هذا يولي هذا وهذا يبايع هذا، وتظهر الفوضى والهزيمة من أول يوم، ولكن عرفوا أنه لا بد من بيعة إمام، وهذه الانتفاضات التي يسمونها في بلاد العرب والمسلمين جماعة كذا وتطالب بالحكم وبدون بيعة أمتهم لهم؛ مآلهم التمزق والتشريد والدمار والخراب، لا بد من بيعة إمام، لِم هذه البيعة؟ ليأمر فيطاع وينهى فيطاع، لتجتمع كلمة الأمة، إذا قال: الله أكبر كبروا جميعاً، أما أنه يقول: الله أكبر وهذا يغني فكيف يقودون أمة؟

    معنى قوله تعالى: (قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا)

    فهؤلاء قال لنبيهم: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، فقال: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] والحال أنا أخرجنا من ديارنا وأبنائنا، ما لك يا نبي الله؟ كيف لا نقاتل؟ وهو يعرفهم ظاهراً وباطناً، فما هم بأهل لأن يقاتلوا.وصح هذا، فقد خرج يقودهم طالوت فانهزموا ورجعوا إلى ديارهم يصعقون، وما استمر مع طالوت إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر.والآن هؤلاء الذين يطالبون بالجهاد والله العظيم! ما هم بأهل، لِم؟ ما ربوا في حجور الصالحين؟ ما تكونوا تكويناً ربانياً سليماً صحيحاً، فما ينقادون، فثلاثة أنفار منا يطعن كل واحد منهم في الآخر، يسب ويشتم ويعير، ولو سمعتم ما يقال في هذا الشيخ الذي يحدثكم لسمعتم عجباً، يقولون: ذَنَب وعميل وكذا، لا إله إلا الله! والله! ما أنا بذنب، ولا بعميل إلا لله عز وجل، ويقولون كذلك، قالوا: السعودية بنت له عمارات، والله العظيم! ما بنت لي لبنة واحدة، لكن أمة هابطة هذا شأنها، ما يستحي المؤمن أن يتكلم وهو لا يعلم، وهذا سبب فتنتنا: نتكلم بدون علم، قيل وقال، وقد حرم الله هذا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.فهل عرفتم سر الإمامة أو لا؟ لتكون الكلمة واحدة والطاقة واحدة، لا أن كل واحد يقول ويعمل كما يشاء، فما نستطيع أن نجاهد حينئذ. قال تعالى: قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246].

    معنى قوله تعالى: (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين)

    قال تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا [البقرة:246]، رجعوا إلى الوراء هاربين إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [البقرة:246]، أربعمائة من ثلاثين ألفاً أو أربعين ألفاً، وامتحنهم -كما سيأتي- بنهر الأردن، قال لهم: نحن في زمن عطش في الصيف، سوف نمر بنهر، وقد منعكم الله من الشرب منه فلا تشربوا إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249]، غرفة فقط ليبرد قلبه؛ امتحاناً لهم، وما إن وصلوا إلى نهر الأردن حتى كبوا عليه كالبهائم وما نجا إلا ثلاثمائة وأربعة عشر، هذه عدة قوم طالوت وكانت عدة أهل بدر، والباقون انهزموا، وهؤلاء المؤمنون الصابرون بقيادة هذا البطل الكريم طالوت نجحوا ومزقوا جيش البابليين وهزموهم.

    تفسير قوله تعالى: (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ...)

    قال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [البقرة:247] بعث لكم طالوت ملكاً عليكم يسوسكم ويقودكم حيث تقاتلون وتنتصرون، وتستردون دياركم ومركزكم في العالم، قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247]، قالوا: طالوت هذا لا يصلح، ما هو من أولاد لاوي ولا من أولاد يهوذا، هذا من أولاد بنيامين ، نريد ملكاً من أصالة وجدارة كأولاد يهوذا الملك فيهم، أو من أولاد الأنبياء كبني لاوي ، أما بنو بنيامين فلا.ولو كان لهم عقول فهل سيقولون هذا الكلام لنبي؟ هل يعترضون على نبي طالبوه بأن يسأل الله لهم وأعطاهم فيقولون: لا، كيف يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه، نحن أبناء يهوذا وأبناء لاوي، كيف نقبل هذا؟وهل المسلمون اليوم يختلفون؟ لو كانوا مؤمنين صادقين -كما قررنا هذا منذ أربعين سنة- لاجتمعوا في هذه الروضة وبايعوا إماماً لهم وأخذوا القرآن دستوراً لهم، وأصبح العالم الإسلامي تحت راية واحدة ولا يكلفهم شيئاً أبداً.فهل بعد ذلك سيمرضون، أو يفتقرون، أو يصابون بماذا؟ والله! لترتفعن راية لا إله إلا الله في العالم، وخاصة في هذه الظروف، فما المانع أن يجتمع أربعون نفراً أو خمسون من الحكام ويقولوا: بايعنا فلاناً على كتاب الله وسنة رسوله، أنت إمام المسلمين ونحن ولاة وقادة الجيوش في العالم الإسلامي، لِم ما يفعلون؟ ما يستطيعون، فإذا كان هناك أحزاب وجماعات في كل بلد ما اتفقوا؛ فكيف تتفق الدول؟ ما السر إذاً؟ ما ربينا في حجور الصالحين، ظلم الجهل هو الذي هبط بنا. قال تعالى: قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247]، قالوا: هذا فقير ما عنده ثروة ولا مال، وما هو من أبناء الملوك ولا أبناء الأنبياء، ما هو بمعقول يا حزقيل أو يا شمعون!

    معنى قوله تعالى: (قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم)

    قال تعالى: قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:247]، المفروض أنه ما دام أن الله اختاره فهل يبقى لنا كلام؟ وإنما تكلموا لأنهم فساق وظلمة، لأنهم في وقت هبوطهم، أبعد أن يقول: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ [البقرة:247] يبقى واحد يتردد؟ آمنا بالله. قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247]، كان أطولهم قامة، وقيل: هو ابن عجوز، وهذه العجوز لما بلغت ستين سنة سألت الله أن يرزقها ولداً، فرزقها الله هذا الولد طالوت، ولعل طالوت مأخوذ من الطول باللغة العبرية، حيث كان أطولهم؛ لأن الله قال: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247]، كان أعلمهم وأقواهم بدناً، وهذا اختيار الله عز وجل للملك، فيجب أن يكون من العلماء من الأفاضل من أهل القوة البدنية والعقلية، أما ذو مناكب ضعيفة ونوليه فإنه يعجز ويشتت الأمة، هذا تدبير الله عز وجل.

    لطيفة في الدلالة على جواز حب الوطن

    وأذكر هنا لطيفة في قولهم: وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، قالت العلماء: حب الوطن فطري في الإنسان، واسمع هؤلاء لما قالوا: أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا [البقرة:246] يعني: الشوق إلى ديارهم والعودة إليها، ويقوي هذا ويبلوره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان خارجاً من مكة مهاجراً وغادرها استقبلها وقال: ( إنك لأحب البلاد إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت ).وأما حديث العامة: (حب الوطن من الإيمان) فهذا حديث باطل، يكتبونه في اللوحات وكذا، وما هو بحديث، ليس بحديث أبداً، ولكن حب الوطن فطري غريزي، فالإنسان حيث وجد يتوق ويشتاق إلى ذلك المكان، أما أنه من الإيمان فليس من الإيمان.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (19)
    الحلقة (26)

    ترجمة العالم الواعظ المعمَّر أبو بكر الجزائري (رحمه الله تعالى )




    تفسير سورة البقرة (116)

    بعد أن تبين لبني إسرائيل اصطفاء الله عز وجل لطالوت وتمليكه عليهم، وما أنزل عليه من التابوت الذي فيه ميراث موسى وهارون عليهما السلام، والسكينة التي وعدهم الله إياها، بعد ذلك خرج طالوت بجنوده حتى وصلوا إلى نهر، فابتلاهم الله عز وجل بالشرب منه، فشربوا منه جميعاً سوى نفر قليل أطاعوا أمر ملكهم ولم يشربوا، وهم الذين واجهوا العمالقة بقيادة جالوت، فهيأ الله داود عليه السلام لملاقاة جالوت فقتله ونصر الله عز وجل عباده المؤمنين على قلتهم، وهزم أعداءهم على كثرتهم وقوتهم.

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في دراسة كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) اللهم حقق لنا هذا الموعود.

    ذكر ما كان من خبر بني إسرائيل بعد وفاة موسى عليه السلام


    أعيد تلاوة الآيات السابقة التي درسناها فتفكروا وتذكروا، فلها ارتباط بالآيات الآتية: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [البقرة:246] ملأ بني إسرائيل: أشرافهم -كما عرفنا- من علماء وأخيار، مِنْ بَعْدِ مُوسَى [البقرة:246] أي: بعد وفاة موسى بقرون، إذ يعقوب عليه السلام كان بأرض فلسطين، ثم لما أخذ ولده يوسف عليه السلام وبيع كما علمتم، واشتراه العزيز بالديار المصرية، وشاء الله عز وجل أن يجمع بين يوسف وإخوته ويعقوب، ثم كانت فترة نورانية ما غشيها ظلام الفسق والفجور والخروج عن طاعة الله ورسله، ثم بعث الله موسى عليه السلام وطالب فرعون بأن يخرج ببني إسرائيل من الديار المصرية، وامتنع فرعون وأراه الله الآيات التسع، وكسر الله فرعون وهزمه وخرج موسى ببني إسرائيل، ولما خرج بهم كان الذي وقع؛ لأنهم ما تربوا تربية إسلامية في حجور الصالحين، فكانوا جبناء وخرافيين، ما إن شاهدوا قوماً على ساحل البحر الأحمر يعبدون العجل حتى قالوا: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، وحصل أن الله حرمهم من دخول الديار الفلسطينية وكتب عليهم التيه أربعين سنة لعصيانهم، لعدم طاعتهم لله ولرسوله، ومات موسى وهارون عليهما السلام في زمن التيه، وتولى بني إسرائيل يوشع بن نون، هذا تلميذ موسى عليه السلام.وقادهم ودخل والحمد لله الديار المقدسة، وأدب العمالقة وانتصر وكانت الدولة، فمضت فترة والناس في رخاء وطهر وصفاء، فجاءت الشهوات والأهواء والأطماع ففسقوا عن أمر الله، وخرجوا عن طاعته، وأعرضوا عن ذكره وكتابه كما هي حال المسلمين في فترات من الزمان معروفة، فسلط الله عليهم العمالقة، فشردوهم، شتتوهم، مزقوهم، أذلوهم، أهانوهم، ولما نبتت نابتة جديدة قالوا: إلى متى ونحن مشردون؟ هيا بنا نطالب نبينا شمويل بأن يعين لنا ملكاً ونقاتل تحت رايته ونسترد ديارنا وبلادنا.

    طلب بني إسرائيل من نبيهم تولية ملك عليهم للقتال

    اسمع القصة كما ذكرها تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] اختره لنا، وقدمه لنا وابعثه لنشاهده.قال تعالى: قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]، قال: أتوقع أنه متى فرض الله عليكم القتال لا تقاتلون؛ لعلمه بضعفهم وخورهم واختلافهم وهبوطهم، وكان حكيماً، وكيف لا وهو نبي الله؟فردوا عليه قائلين: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، قال تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا [البقرة:246] مهزومين معرضين إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [البقرة:246] ثلاثون ألفاً أو خمسون ألفاً ما صبر ولا رضي بالقتال منهم سوى ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، هذا الواقع. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا [البقرة:246] هاربين معرضين عن المواجهة إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [البقرة:246].

    إخبار بني إسرائيل بتولية الله تعالى طالوت الملك عليهم

    وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [البقرة:247]، طالوت هذا بعض الروايات تقول: إنه ابن عجوز، ويلقب بابن العجوز؛ لأن والدته كانت كبيرة السن وشاخت وما ولدت، وتوسلت إلى الله بأسمائه وصفاته فرزقها الله هذا الولد، فكان يعرف بابن العجوز، وكان طويل القامة؛ بحيث إذا وقفت تريد أن تمس رأسه فإنك ترفع يدك حتى تضعها على رأسه، فسمي (طالوت) من الطول، وقوله: (ملكاً) أي: إماماً يقودكم إلى الجهاد.ولا ننس أنه لا بد من قيادة رشيدة، لا بد من إمامة، لا يصح للمسلمين أن يقاتلوا متفرقين مختلفين، فينهزمون وينكسرون، لا بد من إمامة تظللهم رايتها فيأتمرون بأمرها وينتهون بنهيها، هذا الذي شاءه الله، وقد قلنا لكم: لما قاتل المسلمون من إندونيسيا إلى موريتانيا المستعمرين الغربيين ما قاتلوهم تحت قيادة ربانية شرعية، فلما انتصروا على العدو الكافر ما أقاموا لله دولة ولا سلطاناً، ما أقاموا حتى الصلاة ولا جبوا الزكاة، ولا حرموا أدنى شيء مما حرم الله، لِم؟ ما السر؟ ما هناك إمام قائد رباني يأمر وينهى، بل جماعات وأحزاب ونعرات، فما استطاعوا أن يقيموا دولة إسلامية، والحبيب صلى الله عليه وسلم يعلمنا: ( إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم )، أيما جماعة لا بد لهم من أمير حتى لا يختلفوا ويلعن بعضهم بعضاً، فكلمة المسلمين يجب أن تكون واحدة؛ لأنهم يحملون راية الإنس والجن كلهم أعداء لها، ما يريدون أن يعبد الله وحده، أو تقوم شريعته أبداً، فلا بد أن تكون تلك الأمة متحدة الكلمة، متحدة الرأي، متحدة الشريعة، فالخلاف شر كله، فانظر: ما قاتل بنو إسرائيل جماعات جماعات ومنظمات كما هو الحال الآن، قالوا: ابعث لنا ملكاً نقاتل تحت رايته.فنظر نبي الله شمويل إلى ضعفهم وعدم تربيتهم وخورهم فقال: ما أنتم بقادرين. فقالوا: كيف؟! وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، وصدق الله وصدق عبده ونبيه. قال تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [البقرة:246]، فلهذا يجب أن يتربى المؤمنون في حجور الصالحين على الكتاب والسنة، على النور الإلهي، وإلا فهم غثاء كغثاء السيل، فأنى يقودون العالم ويسودون البشرية؟

    ترفع الملأ من بني إسرائيل واعتراضهم على تمليك طالوت

    وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا [البقرة:247]، كان المفروض أن يقولوا: آمنا بالله، مرحباً، الحمد لله، فنبيهم ما قال: أنا بعثته، بل قال: إن الله بعثه بوحيه، قال: عين لهم فلاناً يقودهم.فلما كانوا في ذلك الهبوط الخلقي والروحي والعلمي قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا [البقرة:247]، ما هو من أبناء يهوذا الذين فيهم الملك ولا من أبناء لاوي الذين فيهم النبوة، بل هو من أولاد بنيامين أخي يوسف، فلن نقبل هذا! فهل هذا الكلام يقوله مؤمن؟ يردون على رسول الله ونبيه، لأنهم جهلة بعداء عن الأنوار الإلهية، فواجهوا نبي الله بهذه الكلمات. قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247]، نحن أحق بالملك منه؛ لأننا أبناء الملوك أو أبناء الأنبياء، وليس هو من هؤلاء ولا من هؤلاء، ولم يعطَ المال الكافي.

    اصطفاء الله تعالى لطالوت وبيان ما حباه به من الشمائل

    فقال نبي الله شمويل: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247]، وهنا: من أراد أن يأمر أميراً فلا بد أن ينظر إلى بدنه وقوته وإلى علمه وإدراكه، العلم الذي نعني غير الثقافة الغربية الأوروبية، فتلك أوساخ، المراد العلم الرباني: العلم بالله تعالى وبمحابه ومكارهه، وكيف تؤدى تلك المحاب، وكيف تجتنب تلك المكاره، العلم بما عند الله لأوليائه، وما لدى الله لأعدائه، هذا العلم مع قوة البدن، يكون قادراً على البيان والكلام والمشي والقيام، أما المريض والضعيف فما ينفع في هذا الباب. قال: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:247] لا تعترضوا على الله، الله يعطي ملكه من يشاء، العبيد عبيده وهو الذي يملِّك من شاء من عبيده، وقد اصطفى طالوت واختاره من بينكم لأهليته للقيام بهذه المهمة: قيادة الجيش لإنقاذ البلاد من المستعمرين. وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247]، واسع العلم والمعرفة والقدرة، عليم بكل ما يحدث في الكون قبل أن يكون، فليسلم له، فإذا اختار الله زيداً أو إبراهيم لم يبق للجهلة الحق في أن يقولوا: لا، وهو سبحانه الواسع القدرة والعلم والإحاطة بكل شيء، العليم بخفايا الأمور، والظاهر والباطن عنده سواء، فما ينبغي أن يردوا هذا عليه.

    تفسير قوله تعالى: (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم ...)


    الآن مع قوله تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ [البقرة:248] من نبيهم؟ شمويل، ماذا قال لهم؟ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [البقرة:248] العلامة الدالة على أن الله اختاره واصطفاه وملكه أمركم ليقودكم، آية ذلك وعلامته: أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة:248].التابوت: صندوق خشب من نوع راقٍ، وقد يكون مطلياً بالذهب في بعض جوانبه لرفعته، هذا التابوت ماذا فيه؟ قال: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:248]، ما هي السكينة؟ذهب بعض أهل التفسير -ولعلهم ينقلون عن بني إسرائيل- فقالوا في السكينة: إنها حيوان كالهر له جناحان وذنب كالهر، ولعينيه شعاع .. إلى آخر ما وصفوا في هذا، وهذا مروي عن بعض المفسرين كـمجاهد ، ومجاهد أهل لذلك، لكن ما دام أنه مروي عن بني إسرائيل فقد يكون خرافة.وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم السكينة، أما قال للذي كان يقرأ سورة الكهف وقد ربط فرسه في شجرة، وإذا بسحابة تتغشاه، فجعلت الفرس تنفر منها، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه حصل له كذا وكذا، فقال: ( تلك السكينة تنزلت للقرآن ) ، أي: ملائكة.وفي حديثنا الذي نعيده قال صلى الله عليه وسلم: ( إلا نزلت عليهم السكينة )، فأسكنتنا وجعلتنا هادئين ساكنين، إذاً: السكينة الهدوء والطمأنينة والاستقرار، وعدم الاضطراب وعدم الخوف، وعدم القلق.فهذا التابوت ماذا قال تعالى عنه؟ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:248] أي: لقلوبكم، بمجرد أن يوجد هذا التابوت بينكم تهدأ نفوسكم وتسكن وتطمئن بسبب هذا التابوت الذي يحوي من الآثار كذا وكذا وكذا. وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى [البقرة:248]، فيه عصا موسى، فيه نعاله، فيه التوراة التي أخذت منهم، فيه آثار من هارون، هذه كانت مجموعة في صندوق مطلي بالذهب وكانوا يعتزون بها، إذا وجدت فيهم سكنت نفوسهم، هذا التابوت لما استولى عليهم العمالقة أخذوه إلى ديارهم، وبقي عندهم في معرض التحف، ومن تدبير الله عز وجل أنهم -والعياذ بالله تعالى- أصابهم داء البواسير وأصابهم قحط، فتساءلوا فقالوا: هذا بسبب تابوت بني إسرائيل، فهيا نرده عليهم، هكذا تقول الرواية، فوضعوه في عربة تجرها الخيل أو البغال، ووجهوها نحو بني إسرائيل، فساقتها الملائكة حتى وصلت بها إلى مجتمع بني إسرائيل، إذ قال تعالى: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة:248]، ولا مانع أن تكون الملائكة تقود العربة وتوجهها، وإلا فكيف لحيوان أن يعرف الطريق من منطقة إلى منطقة؟ ولا مانع أيضاً أن الملائكة تأخذ الصندوق بما فيه وتضعه بين أيديهم، ولا منافاة بين هذا وذاك، إذ هذا فعل الله وتدبيره. فهذه آية: أن الله تعالى ملك عليهم طالوت، هذه أعظم آية، ففجأة يجدون التابوت بين أيديهم، فلا يبقى شك واضطراب في نفوسهم، هذه أكبر آية وعلامة على أن الله قد ملك طالوت عليهم حقاً: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [البقرة:248] عليكم أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ [البقرة:248] من أين يأتي؟ من عند العدو من بلاد بعيدة، فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:248] بمجرد أن يقع بينكم تسكن نفوسكم، وتهدأ القلوب وتنتهي المخاوف وتنتهي الهزائم المعنوية لوجود هذه البركة؛ لأن هذا التابوت فيه آثار موسى وهارون، منها: العصا، منها نعل من نعالهما، وثوب من ثيابهما.قال: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة:248]، فما قالوا: كيف؟ المهم أنه وضع بين أيديكم، وصل بإذن الله عز وجل وتدبيره. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:248]، وإذا كنتم كافرين لا تؤمنون بالله وبآياته فماذا نصنع؟ وهذه والله لأكبر آية تدل على أن الله قد ملك هذا العبد الصالح طالوت عليهم، لماذا؟ ليجمع كلمتهم ويقودهم إلى الجهاد لإنقاذ ديارهم وأهلهم.

    تفسير قوله تعالى: (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر ...)

    فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ [البقرة:249] انفصل وقاد الجنود، قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [البقرة:249] مختبركم، ممتحنكم؛ لأنكم أخلاط، امتحان بنهر في شدة القيظ وشدة العطش، قيل: هذا النهر هو نهر الأردن، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة:249] اللهم إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249] أطفأ بها لهب العطش. ومشى الجيش بقيادة الملك طالوت عليه السلام، وبعد يوم أو يومين وصلوا إلى دائرة الامتحان، وكانوا عطاشاً، ما إن وصلوا إلى النهر حتى أكبوا عليه يكرعون، ونسوا ما أخذ عليهم من العهد، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [البقرة:249]، بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذا القليل أنه ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو وأربعة عشر على خلاف، على عدة أصحاب بدر الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عير أبي سفيان ، وكتب الله القتال وجمع بينهم في بدر، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنكم على عدة قوم طالوت )، وبينهم قرون عديدة. قال تعالى: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249]، لما جاوزوا النهر وشربوا وقربت المواجهة قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249] ما نستطيع، وهذه هي الهزيمة، قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ [البقرة:249] هم المؤمنون الموقنون، وعبر بـ(الظن) عن (اليقين) لأنه غيب، ما هو بمشاهدة، فيعبر عنه بالظن والمراد به اليقين. قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ [البقرة:249]، هم الذين يؤمنون بلقاء الله بعد الموت ويوم البعث والنشور، أي: المؤمنون بلقاء الله وباليوم الآخر، ما هم بملاحدة ولا كفار ولا مشركين، فماذا قالوا؟ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، علماء حلماء، ولهذا عبروا بهذا التعبير لنور إيمانهم ومعرفتهم، ليسوا كأولئك الرعاع السفلة، بل ثبتوا وقالوا: سنقاتل، كم من فئة قليلة في التاريخ غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين الذين يثبتون على طاعته وطاعة القيادة، ويقاتلون من أجل الله ومن أجل إعلاء كلمته.

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    نسرد الآن ما جاء في التفسير بما فيه من العلم الكثير.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيات: لقد فرض الله تعالى على المؤمنين القتال، ودارت رحى المعارك بداية من معركة بدر، وكان لا بد من المال والرجال الأبطال الشجعان، فاقتضى هذا الموقف شحذ الهمم وإلهاب المشاعر لتقوى الجماعة المسلمة بالمدينة على مواجهة حرب العرب والعجم معاً، ومن هنا -لمطاردة الجبن والخوف وهما من شر الصفات في الرجال- ذكر تعالى حادثة الفارين من الموت ] في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [البقرة:243] [ التاركين ديارهم لغيرهم، كيف أماتهم الله ولم ينجهم فرارهم، ثم أحياهم ليكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم، فالفرار من الموت لا يجدي، وإنما يجدي الصبر والصمود حتى النصر.ثم أمر تعالى المؤمنين بعد أن أخذ ذلك المنظر من نفوسهم مأخذه فقال: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:244]، ولما كان المال المقدم في القتال فتح الله لهم اكتتاباً مالياً وضاعف لهم الربح في القرض بشرط خلوصه وطيب النفس به، ثم قدم لهم هذا العرض التفصيلي لحادثة أخرى تحمل في ثناياها العظات والعبر لمن هو في موقف المسلمين الذين يحاربهم الأبيض والأحمر وبلا هوادة وعلى طول الزمن، فقال تعالى وهو يخاطبهم في شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، يريد: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا بإخبارنا إياك قول أشراف بني إسرائيل بعد وفاة موسى لنبي لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله؛ فنطرد أعداءنا من بلادنا ونسترد سيادتنا ونحكم شريعة ربنا؟ونظراً إلى ضعفهم الروحي والبدني والمالي تخوف النبي أن لا يكونوا صادقين فيما طالبوه به فقال: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:246] بتعيين الملك القائد أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]؟! فدفعتهم الحمية فقالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله والحال أنا قد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ وذلك أن العدو وهم البابليون لما غزوا فلسطين بعد أن فسق بنو إسرائيل فتبرجت نساؤهم واستباحوا الزنا والربا، وعطلوا الكتاب، وأعرضوا عن هدي أنبيائهم؛ سلط الله عليهم هذا العدو الجبار فشردهم فأصبحوا لاجئين.وما كان من نبي الله شمويل إلا أن بعث من تلك الجماعات الميتة موتاً معنوياً رجلاً منهم هو طالوت وقادهم، فلما دنوا من المعركة جبنوا وتولى أكثرهم منهزمين قبل القتال، وصدق نبيهم في فراسته إذ قال لهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]. هذا ما تضمنته الآية الأولى من هذا القصص. أما الآية الثانية فقد تضمنت اعتراض ملأ بني إسرائيل على تعيين طالوت ملكاً عليهم؛ بحجة أنه فقير من أسرة غير شريفة، وأنهم أحق بهذا المنصب منه، ورد عليهم نبيهم حجتهم الباطلة بقوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247]، كان هذا رد شمويل على قول الملأ: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247]. وكأنهم لما دمغتهم الحجة، وهي أن الله تعالى قد اختار طالوت وفضله عليهم بهذا الاختيار، وأهله للولاية بما أعطاه وزاده من العلم وقوة الجسم، والقيادات القتالية تعتمد على غزارة العلم وقوة البدن بسلامة الحواس وشجاعة العقل والقلب، أقول: كأنهم لما بطل اعتراضهم ورضوا بـطالوت طالبوا -على عادة بني إسرائيل في التعنت- طالبوا بآية تدل على أن الله حقاً اختاره لقيادتهم، فقال لهم .. إلى آخره، وهي الآية الآتية ]. قال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:248].قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية الكريمة:قد أصبح بشرح الكلمات معنى الآية واضحاً، وخلاصته أن شمويل النبي أعلمهم أن آية تمليك الله تعالى لـطالوت عليهم أن يأتيهم التابوت المغصوب منهم، وهو ] أي: التابوت [ رمز تجمعهم واتحادهم ومصدر استمداد قوة معنوياتهم؛ لما حواه من آثار آل موسى وآل هارون؛ كرضاض الألواح ] التي تكسرت لما غضب موسى ورمى بها فتحطمت، [وعصا موسى ونعله، وعمامة هارون، وشيء من المن الذي كان ينزل عليهم في التيه، فكان هذا التابوت بمثابة الراية يقاتلون تحتها، فإنهم إذا خرجوا للقتال حملوه معهم إلى داخل المعركة ولا يزالون يقاتلون ما بقي التابوت بأيديهم لم يغلبهم عليه عدوهم.ومن هنا وهم يتحفزون للقتال جعل الله تعالى لهم إتيان التابوت آية على تمليك طالوت عليهم، وفي نفس الوقت يحملونه معهم في قتالهم فتسكن به قلوبهم وتهدأ نفوسهم، فيقاتلون وينتصرون بإذن الله تعالى.أما كيفية حمل الملائكة للتابوت فإن الأخبار تقول: إن العمالقة تشاءموا بالتابوت عندهم إذ ابتلوا بمرض البواسير وبآفات زراعية وغيرها، ففكروا في أن يردوا هذا التابوت لبني إسرائيل، وساق الله أقداراً لأقدار، فجعلوه في عربة يجرها بقرتان أو فرسان ووجهوها إلى جهة منازل بني إسرائيل، فمشت العربة فساقتها الملائكة حتى وصلت بها إلى منازل بني إسرائيل، فكانت آية وأعظم آية، وقبل بنو إسرائيل بقيادة طالوت ، وباسم الله تعالى قادهم، وفي الآية التالية بيان السير إلى ساحات القتال ].قال تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية:إنه لما خرج طالوت بالجيش أخبرهم أن الله تعالى مختبرهم في سيرهم هذا إلى قتال عدوهم بنهر ينتهون إليه، وهم في حر شديد وعطش شديد، ولم يأذن لهم في الشرب منه إلا ما كان من غرفة واحدة، فمن أطاع ولم يشرب فهو المؤمن، ومن عصى وشرب بغير المأذون به فهو الكافر، ولما وصلوا إلى النهر شربوا منه يكرعون كالبهائم إلا قليلاً منهم. وواصل طالوت السير فجاوز النهر هو ومن معه، ولما كانوا على مقربة من جيش العدو -وكان قرابة مائة ألف- قال الكافرون والمنافقون: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249] فأعلنوا انهزامهم، وانصرفوا فارين هاربين، وقال المؤمنون الصادقون وهم الذين قال الله فيهم: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، كانت هذه الآية في بيان سير طالوت إلى العدو، وفي الآيتين التاليتين بيان المعركة وما انتهت إليه من نصر حاسم للمؤمنين الصادقين ].


    قراءة في تفسير قوله تعالى: (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً ...) من كتاب أيسر التفاسير

    يقول تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250]، دعاء صادق وهم صادقون، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:251-252].

    معنى الآيات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيات: لما التقى الجيشان: جيش الإيمان وجيش الكفر والطغيان؛ طالب جالوت ] جالوت الكافر طالب جيش طالوت بالمبارزة، قال: من يبارزنا؟ وكانوا إذا اصطفت الصفوف يخرج بطل يقول: من يقاتلني، وهذا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان شائعاً، والآن انتهى؛ لأن الحرب بالرصاص والصاروخ، ولهذا فالجيوش الآن كلهم جبناء، ما هناك مواجهة.قال: [ طالب جالوت بالمبارزة، فخرج له داود من جيش طالوت ]، داود هذا هو أبو سليمان الذي ملكه الله، [ فقتله، والتحم الجيشان ]، إذا انتهت المبارزة بقتل أحد المبارزين الآخر تلتقي الفئتان، وهذا البراز علته التهييج والإثارة، وأنتم تعرفون هذا من كرة القدم على شاشة التلفاز والناس يتمايلون، فهذا سر المبارزة، فالصفوف من هنا وهناك، والمبارزة قائمة وهم يتحمسون، ما إن يسقط أحدهما حتى يندفع بعضهم على بعض بتدبير الله عز وجل.قال: [ فنصر الله جيش طالوت ، وكان عدد أفراده ثلاثمائة وأربعة عشر مقاتلاً لا غير ]، التحم الجيشان فنصر الله جيش طالوت الملك على بني إسرائيل، وكان عدد أفراد جيشه ثلاثمائة وأربعة عشر مقاتلاً لا غير؛ [ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل بدر: ( إنكم على عدة أصحاب طالوت )] بوحي الله الذي يتلقاه، [ وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، فهزم الله جيش الباطل على كثرته، ونصر جيش الحق على قلته. وهنا ظهر كوكب داود في الأفق بقتله رأس الشر جالوت ، فمن الله عليه بالنبوة والملك بعد موت كل من النبي شمويل والملك طالوت ] عليهم السلام، [ قال تعالى: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [البقرة:251].وختم الله القصة ] اللطيفة الظريفة، هذه التي ينبغي أن تدرس في كليات الحرب، وما يعرفونها، ويدرسون ضلالات أوروبا وأوساخ روسيا في أغلب كليات الحرب.[ وختم الله القصة ذات العبر والعظات العظيمة بقوله: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة:251] بالجهاد والقتال؛ لاستولى أهل الكفر وأفسدوا الأرض بالظلم والشرك والمعاصي ] أليس كذلك؟ إي والله العظيم، حتى لا تقول: لم يأمر الله المؤمنين أن يقاتلوا؟ فقتالهم هذا لرفع الظلم وإحقاق الحق، لولا أنه يدفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، واستولى عليها أهل الكفر والشرك والباطل ودمروها. [ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة:251] بالجهاد والقتال؛ لاستولى أهل الكفر وأفسدوا الأرض بالظلم والشرك والمعاصي، ولكن الله تعالى بتدبيره الحكيم يسلط بعضاً على بعض، ويدفع بعضاً ببعض منة منه وفضلاً، كما قال عز وجل: وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251] ] أبيضهم وأسودهم، كافرهم ومؤمنهم.[ ثم التفت ] الله تعالى [ إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقال له تقريراً لنبوته وعلو مكانته: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ [البقرة:252] التي تقدمت في هذا السياق نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:252] ] الله أكبر.. الله أكبر، والحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (20)
    الحلقة (27)

    ترجمة العالم الواعظ المعمَّر أبو بكر الجزائري (رحمه الله تعالى )




    تفسير سورة البقرة (117)

    من سنة الله عز وجل في خلقه أنه فضل بعض مخلوقاته على بعض، ومن ذلك أنه فضل بعض النبيين على بعض، ففضل الرسل عامة على النبيين، وفضل أولي العزم على سائر الرسل، فمنهم من كلمه تعالى كفاحاً كموسى عليه السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من آتاه الآيات الباهرات ورفعه إليه فوق السماوات كعيسى عليه السلام، ثم ختم سبحانه وتعالى الرسل بأفضلهم وواسطة عقدهم محمد صلى الله عليه وسلم.
    قراءة في تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليالي الأربع ندرس كتاب الله عز وجل، وكلنا رجاء في أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات تلك القصة العجيبة التي قصها الله تعالى علينا في كتابه القرآن العظيم، تلك القصة التي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ إذ رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب يقص قصصاً عجباً تم في بني إسرائيل مختلف الأحداث متنوعها، ولا يستطيع يهودي ولا مسيحي أن يرد كلمة واحدة أو ينقضها، فكيف لا يكون رسولَ الله يتلقى الوحي والعلم من الله عز وجل؟والقصة أتلوها: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:243-245].ثم تبدأ القصة مفصلة؛ إذ قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:246-252].

    هداية الآيات

    فإلى هداية هذه الآيات في ستة أرقام تذكرنا بهذه الحادثة العظيمة:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات:[ أولاً: الجهاد الشرعي يشترط له الإمام المبايع بيعة شرعية ].الجهاد الشرعي الذي أذن الله فيه وأمر به وشرعه لعباده المؤمنين يشترط لصحته وجوازه والقيام به الإمام المبايع بيعة شرعية، وقتال بدون بيعة وإمام باطل، وأهله ظالمون، ولن يثمر إلا البلاء والشر والفساد.من أين أخذنا هذا؟ إذ قال بنو إسرائيل لنبيهم شمويل: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، لم ما قاتلوا جماعات وأحزاباً؟ لعلمهم أن الجهاد الذي يثمر العز والكمال والطهر والصفاء يكون مما رضيه الله فأذن به وعلم عباده، فقالوا: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246]، فمأخذها هذه الهداية من قولهم: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا [البقرة:246].[ ثانياً: يشترط للولاية الكفاءة ]، الذي نوليه ونبايعه لا بد أن تكون فيه كفاية لمهمته، [ وأهم خصائصها العلم، وسلامة العقل والبدن ].من أين أخذنا هذا؟ ذلك أنهم قالوا: كيف تولي علينا هذا الرجل الفقير؟ فرد الله تعالى فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:247] أولاً، وما دام أنه اصطفاه فلا كلام، وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] وبهذا يتأهل لقيادة الجيوش وهزيمة العدو.[ ثالثاً: جواز التبرك بآثار الأنبياء كعمامة النبي صلى الله عليه وسلم أو ثوبه أو نعله ]، بل حتى بصاقه؛ ذلك أنهم قالوا: اجعل لنا آية تدل على أن الله اختار هذا، فقال: الآية موجودة، أن يأتيكم تابوت بني إسرائيل، وفيه آثار موسى وهارون. وبالفعل جاء التابوت وكان بأيدي العمالقة في أرض بابل، فإنهم لما احتلوا ديارهم مزقوهم وشردوهم، وأخذوا هذا التابوت وهو صندوق مطلي بالذهب طوله حوالي ثلاثة أذرع، والعرض كذلك، وفيه آثار أنبياء بني إسرائيل، عصا موسى، وكذلك ثياب ونعال مما كان لموسى وهارون، وهذا بمثابة الراية يقاتلون تحتها، كانوا إذا خرجوا للقتال يحملون هذا التابوت، ويرضون بأن يمزقوا كلهم ولا يسقط هذا.إذاً: فجاءهم الله بالتابوت من أرض العراق إلى فلسطين، ففيه جواز التبرك بآثار الأنبياء، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا بصق لا يقع بصاقه على الأرض، يتلقفه أصحابه ويتمسحون به، أما بردته فإلى عهد قريب وهي في المتحف في بلاد العثمانيين، البردة لبسها الرسول صلى الله عليه وسلم، وخرج بها فاندهش الناس لجمالها، فجاءه أحدهم فقال: يا رسول الله! أعطني إياها، فعاد إلى حجرته ونزعها وقدمها له، فصاح الأصحاب: كيف تفعل هذا؟ الرسول ما يرد سائلاً لأنه حيي. فقال: أردت أن تمس جلدي كما مست جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوارثها الأصحاب وأبناؤهم، وبيعت بالآلاف، فآثار الأنبياء لها قيمتها، أما آثار الصعاليك من أمثالنا فخطأ، لا بصاق ولا ثوب ولا نعل. من أين أخذنا هذا؟ من قوله: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [البقرة:248].[ رابعاً: جواز اختبار أفراد الجيش لمعرفة مدى استعدادهم للقتال والصبر عليه ]، من أين أخذنا هذا؟ من كونه امتحنهم، قال: اسمعوا: سنصل إلى النهر غداً في الساعة كذا، وممنوع أن تشربوا منه. امتحاناً لهم، ما إن وصلوا إلى النهر وهم عطاش حتى انكبوا عليه يكرعون كالإبل، ما هم بأهل للقتال، فما خلص منهم إلا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، هؤلاء قادهم طالوت وقاتل بهم جالوت وانتصر عليه، وتلك الألوف كلها انهزمت، هذا اختبار أو لا؟ يريد أن يقاتل جيشاً عرمرمياً قوياً وأفراده قليلون، فاختار الصادقين، أما الانهزاميون أو الشهوانيون أصحاب الأطماع فما يصلحون للقتال، يهربون عند أدنى شيء، فمن أين أخذنا هذا؟ من قوله: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي [البقرة:249] لا يمش معنا، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة:249] اللهم إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249] ليطفئ لهب العطش، فخلص من ثلاثين أو أربعين ألفا ثلاثمائة، وقاتلوا وانتصروا.[ خامساً: فضيلة الإيمان بلقاء الله، وفضيلة الصبر على طاعة الله خاصة في معارك الجهاد في سبيل الله ].من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249] الذين لا يتزعزعون أبداً، يعطون صدورهم للعدو ولا يعطونهم أدبارهم.[ سادساً: بيان الحكمة في مشروعية الجهاد، وهي دفع أهل الكفر والظلم بأهل الإيمان والعدل، لتنتظم الحياة ويعمر الكون ]. من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251].وختاماً قال تعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ وعزتنا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:252] فصلى الله عليه وسلم.فالذي يشك في رسالة محمد أحمق، مجنون، لا قيمة له أبداً، فمن أين يأتي هذا البيان؟ بلغ أربعين سنة وهو ما يعرف الألف ولا الباء، ما جلس بين يدي معلم أو مرب، فهل استطاع اليهود -وهم ثلاث طوائف كما علمتم- بعلمائهم أن يردوا كلمة؟

    تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ...)


    والآن مع هاتين الآيتين الكريمتين:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [البقرة:253] ومن ثم اقتتلوا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:253-254].قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ [البقرة:253]: تلك الجماعات التي تقدم ذكرها -جماعات الرسل- فضلنا بعضهم على بعض، ومن الذي يفضل؟ الله تعالى.

    فضل نبينا على جميع الأنبياء

    وهنا لنعلم أن الرسل ليسوا في مستوى واحد في المكانة عند الله عز وجل، بل متفاضلون، لكن ليس من حقنا نحن أن نفضل فلاناً على فلان، نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: لا تفضلوا بين الأنبياء، لا تفضلوني على موسى، لا تفضلوني على يونس ابن متى، ما هو شأنكم أنتم؟ فقط علمنا الله بهذه الآية أنه فضل بين الرسل وهو كذلك، فمن أفضل الرسل؟ محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو نبي البشرية والجن، وإذا توهم متوهم فقال: فضلتموه على أنبياء بني إسرائيل لأنه نبيكم؛ قلنا: محمد صلى الله عليه وسلم نبي العرب ونبي العجم، ونبي الإنس والجن.إذاً: فضله الله عز وجل بما آتاه من الكمالات، لو تجتمع البشرية كلها وتصوغ آدابها وأخلاقها في صورة واحد فوالله! ما كانت كأخلاق أو آداب رسول الله. وفضّله الله تعالى بما يأتي:أولاً: بكون رسالته عامة للإنس والجن.ثانياً: بكونه ختم الله برسالته عامة الرسالات، أعلن عن هذا القرآن فقال: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، ومضى ألف وأربعمائة عام، فهل جاء نبي؟ هذه وحدها كافية، وقد كان الأنبياء يتواردون كل عامين، أو ثلاثة، ولكن هذه ألف وأربعمائة سنة، فهل جاء نبي؟ لأن الله قال: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40].وقد فتح الله علينا وعرفنا السر، حيث علم الله أن الأرض ستكون كأرض واحدة والعالم كمدينة واحدة، أصوات البشر تنتقل من الشرق إلى الغرب، الناس يطيرون في السماء، إذاً: ما هناك حاجة إلى تعدد الأنبياء، فقد كانت البلاد متباعدة، فكانت رحمة الله تقتضي أن كل إقليم فيه نبي، ولكن علم تعالى أن البشرية ستصبح في يوم من الأيام وكأنها أمة واحدة وبلد واحد، فالآن القرآن يقرأ في موسكو والعالم يسمعه في إذاعتها، فهل عرفتم السر أو لا؟ إنه لعلم الله تعالى بما سيوجده في المستقبل من أن العالم سيصبح كمدينة واحدة.وفضله صلى الله عليه وسلم بأن أمته أفضل الأمم، وفضله بالشفاعة في المقام المحمود؛ حيث يتخلى عنها عامة الرسل ولا يطلبها أحد، وهو يقول: أنا لها، إذ بشره الله بها في سورة بني إسرائيل: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] و(عسى) تفيد التحقيق من الله، وفضّله بأنه أول من يدخل الجنة، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة.

    فضل أولي العزم من الرسل

    وأعظم الرسل هم أولوا العزم، جاء ذكرهم في بعض آية من سورة الأحزاب؛ إذ قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7] من أولهم ذكراً؟ ضمير المخاطب عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم في الترتيب هكذا: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]، وفي عرصات القيامة كما حفظتم وعلمتم حين تهيج البشرية في تلك الساحة العظمى يبحثون عمن يكلم الله في شأنهم ليفصل بينهم ويحكم، طال الموقف في يوم مقداره خمسون ألف سنة، فيأتون آدم فيحولهم إلى نوح، يأتون نوحاً فيحولهم إلى إبراهيم، يأتونه فيحولهم إلى موسى، يأتون موسى فيحولهم إلى عيسى، يأتون عيسى فيحولهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

    فضل موسى الكليم عليه السلام

    تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، فهل هذا تفضيل أو لا؟ فموسى عليه السلام كلمه الله كفاحاً وجهاً لوجه بلا واسطة، ما تم هذا لكائن على الأرض إلا لموسى ابن عمران نبي ورسول بني إسرائيل، كلمه في مكان معروف عندنا بالضرورة في جبل الطور بسيناء، إذ ناداه ربه بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:12-14] يسمع كلامه، ولما جاء للمناجاة للميعاد وترك بني إسرائيل وعلى رأسهم هارون أخاه غرر بهم الشيطان وعبدوا العجل وزين لهم الشيطان عبادته، وهارون ماذا يصنع وهو وحده؟ فرجع فوجدهم قد هلكوا يعبدون غير الله مع الآيات التي شاهدوها وهي تسع، فأخذ من خيارهم سبعين ليتوبوا أمام الله عز وجل، فلما انتهوا إلى جبل الطور وسمعوا كلاماً قالوا: نريد أن نرى وجه الله، فأخذتهم صاعقة فماتوا عن آخرهم، فبكى موسى خشية أن يقال: قتل بني إسرائيل، فأحياهم الله.والشاهد عندنا: في كونه تعالى كلم موسى عدة مرات فوق عرشه وموسى على جبل الطور، كلاماً كفاحاً، هذه أفضلية عظيمة أو لا؟

    فضل نبينا على موسى في تكليم الله تعالى له


    وأفضل من هذا ما كان لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ كلمه الله في الملكوت الأعلى، استدعاه وجاءه جبريل يرافقه على البراق فعرج به واجتاز مسافة سبعة آلاف وخمسمائة سنة، وتجاوزها ودخل الجنة ووطئت أقدامه قدسيتها وطهرها، وشاهد أنهارها وأنوارها وقصورها مشاهدة عيان يقظة لا مناماً، وارتفع حتى انتهى إلى مكان فتأخر جبريل، وقال: ما منا إلا له مقام معلوم، ما عندي إذن أن أتقدم، فتقدم هو صلى الله عليه وسلم حتى سمع صرير الأقلام، أقلام القضاء والقدر، ثم كلمه الله كفاحاً وجهاً لوجه، وفرض عليه الصلوات الخمس في تلك الحادثة، فلهذا تكليم الله لموسى كان في الأرض، وتكليم الله لمحمد صلى الله عليه وسلم كان فوق السماوات السبع.

    عظمة كلام الله تعالى وحاجتنا إلى تعلمه في المساجد

    قال تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:253] من القائل: وآتينا عيسى ابن مريم؟ الله سبحانه وتعالى. فكيف يكفر الكافرون؟ هذا كلامه، فيكف يكون غير موجود؟ هل ممكن أن يوجد كلام بدون متكلم؟ مستحيل. وهنا لطيفة -لطف الله بنا وبكم- نكررها، نقول: إذا أردت يا صاحب البيت والقرية ويا أمير المدينة، إذا أردت هداية قومك وجماعتك فاجمعهم على قال الله وقال رسوله فقط، ولهذا كم نقول: والله! لن ينجو أهل إقليم ولا قطر ولا دولة ولا مملكة في العالم نجاة حقيقية من الذل والهون والدون، من الشر والفساد والظلم والخبث، من الناس وعذابها؛ إلا إذا عادوا إلى الكتاب والسنة، وكيف يعودون إليهما؟ الطريق: إذا دقت الساعة السادسة مساء أخذ أهل البلاد، أهل القرية، أهل المدينة، أهل الأحياء أخذوا يتطهرون ويلبسون أحسن لباسهم وثيابهم، ويحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، وليوسعوه وينظفوه حتى يتسع لهم، ويصلون المغرب كما صلينا، ويجتمعون كاجتماعنا هذا: النساء وراء والفحول أمام والأطفال بينهم، ويجلس لهم عالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يعلمهم ليلة آية وأخرى حديثاً على مدى السنة، وعلى طول الحياة، فهل يبقى بينهم جاهل أو جاهلة؟ والله! ما يبقى، وإذا انتفى الجهل وحل محله العلم هل سيبقى ظلم، خبث، شر، فساد، فقر؟ والله! ما يبقى.فإن قلت: دلل يا شيخ وبرهن؟ فأنا أقول: أيما أهل قرية، أهل مدينة، أهل مملكة أعلمهم أتقاهم لله عز وجل، من يرد هذا الكلام؟ أعلمهم بكتاب الله وبسنة رسوله أتقاهم، لا يسرق، لا يزني، لا يفجر، لا يحسد، لا يكذب، لا يخون؛ لعلمه، وأجهلهم أفجرهم، ولا يوثق في الجاهل أن يسند إليه شيء، تعبث به الأهواء والشياطين، فهو أعمى ما له نور، فلم ما نفعل هذا؟ فإن قلنا: ما نستطيع؛ فلم واليهود والنصارى قدوتنا وأسوتنا إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا العمل وهرعوا إلى السينما والملاهي والمقاصف بنسائهم وأطفالهم، ونحن لا نستطيع؛ لأننا نذهب إلى بيوت الله، والشياطين ما ترضى بهذا لنبقى فسقة، فجرة، هابطين، جهالاً بربنا وما عنده فنهلك.فهذه لم لا تبلغونها؟ لم لا تعملون على إيجادها، إذا كنت إماماً في قرية ففي يوم الجمعة أعلم أهل القرية، قل لهم: من الليلة لا نصلي المغرب إلا مجتمعين، لا يتأخر امرأة ولا رجل إلا مريض، نتعلم الكتاب والحكمة، وهكذا، وما يتوقف عمل، ولا مصنع، ولا تجارة.

    أثر سماع القرآن في الكف عن الزيغ والكفر

    ثم قلت لكم: كيف يكفر الإنسان وهو يسمع كلام الله؟ دليله قوله تعالى من سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] من يرد على الله؟ فمن أطاعوا أساتذتهم ومعلميهم فهل هم مؤمنون؟ ما دخل الزيغ في القلوب وهبطت الأمة إلا بعد أن تتلمذنا لليهود والنصارى، نتعلم عنهم، وحتى النساء أيضاً، يبعث امرأته لتتعلم في إيطاليا، أو في أوروبا.أهل الزيغ والهبوط في أمة الإسلام هم مسئولون عن إدارتها في العالم، أكثرهم تعلموا على اليهود والنصارى، فيأتون وقلوبهم خاوية، ففي بلاد إسلامية كهذه يتظاهر بالإسلام، وفي بلاد أخرى يسخر من المسلمين ويستهزئ بهم، فما السبب؟ أما قال تعالى: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100] كالأساتذة والمعلمين يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، فيا رب! ما قلته حصل وتم.ثم قال تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] من أين يأتيكم الكفر وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] هذا هو السر، لو كنا نجتمع كل ليلة في ديارنا في العالم بأسره، حتى اللاجئين والجماعات في أوروبا وغيرها يجتمعون كل مساء يتعلمون الكتاب والحكمة؛ فوالله! ما ضل منا ضال ولا كفر كافر ولا هلك هالك، لوعد الله الصادق: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] وفينا حديثه وسنته وبيانه وعلمه.وكثيراً ما نقول -وقد أسمعت لو ناديت حياً-: هيا نبعث بعثة من سبعين شاباً يدرسون في ألمانيا أو يوغسلافيا، ونبعث معهم عالماً بالكتاب والسنة، ونطلب إليهم أن يطيعوه كما يطيعون الإمام الحاكم، فيسكنون في عمارة واحدة، ويجتمعون بعد الدراسة في دارهم، ويقيمون الصلاة، ويتلون كتاب الله، ثم هم بلباسهم الإسلامي، لحاهم، عمائمهم، فينظر إليهم الناظر فيقول: من هؤلاء؟ فيقال: مسلمون، ويدرسون سبع سنين أو أربع ويعودون، والله! ما يحصل -إلا نادراً- أن يفسق منهم أحد، أو يتغير في دينه وعقيدته. ثم نبعث سبعين رءوسهم عارية وببرانيط ولحاهم محلوقة ولباسهم بريطاني أو إيطالي، ونتركهم وحدهم، فوالله! ما يسلم (5%) من الفجور والباطل والشر والفساد، ويأتون كالعميان يضحكون من أمهاتهم وآبائهم.فهذا حصل، وليس بكلام غريب؛ لأن الله الخالق العليم الحكيم المدبر يقول: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:100-101]، فكيف تجهل الأمة وينتشر فيها الزنا والبغاء والشر والباطل والفساد، وينتهي الأمن وهي تجتمع كل ليلة على الكتاب والسنة؟ مستحيل أن ينتشر فيها الظلم والخبث والشر والفساد. أما يوجد في العالم الإسلامي خبث وشر وفساد؟ والله! إنهم ليزنون بنساء بعضهم، كيف بمؤمن يحطم كرامة أخيه المؤمن ويزني بامرأته! أيقع هذا؟ لا تسأل، مؤمن يقتل مؤمناً ليأخذ ماله! كيف يتم هذا؟ يستحيل مع الإيمان، لكن ما هو الإيمان؟ كيف ينمو الإيمان ويبقى في النفوس إذا لم نجتمع على نور الله ونغترف منه يومياً لأبصارنا وقلوبنا وأسماعنا؟ ولولا الصلوات الخمس لانتهى وجودنا بالمرة، وما بقي فينا خير.فاجمع بناتك وأولادك في بيتك، فليلة آية وأخرى حديثاً، وتغنوا بالآية واشرحها، وبين لهم ما فيها، وأوصهم بتطبيقها وانظر إلى بيتك كيف يكون؟ لا تسمع كلمة سوء، ولا بذاء، ولا عنف، ولا سخرية.. كأنهم ملائكة؛ لأنهم عرفوا، أما أن تفتح بيتك للعواهر في التلفاز يرقصن، ويتعلم بناتك هذا، ويشاهد أولادك الذكور فينجذبون إلى الخنا والشر؛ فاعلم أن بيتك قد يخبث وينتهي، والله! إنه لكما تسمعون، فطهروا بيوتكم أيها المسلمون. فإن قلت: ما نستطيع؛ فما أنت برجل؟ اتفق مع امرأتك على التطهير.

    معنى قوله تعالى: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس)


    ونعود إلى الآية الكريمة: يقول تعالى: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:253] من هو روح القدس، روح الطهر؟ هذا جبريل، أفضل الملائكة، هذا السفير بين الله وبين رسله، هذا الذي كان يتردد على حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، كان يدخل الروضة والمسلمون مجتمعون ويشاهدونه في صورة رجل كريم من الأنصار هو دحية بن خليفة الكلبي ، هذا جبريل رفيق الرسول الحبيب إلى الملكوت الأعلى، كان مع عيسى لا يفارقه، يؤيده، يبين له، دائماً إلى جنبه بفضل الله على عيسى: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:253].وعيسى أظهر الله على يديه معجزات خارقة للعادة، فميت على النعش جاءت أمه تبكي: يا روح الله! ولدي مات، وهي في كرب وهم، فقال: قفوا. يا فلان ابن فلانة، قال: لبيك يا روح الله. قال: قم. فوضعوا النعش ولف كفنه ومشى مع أمه.فقال الملاحدة والزائغون والعلمانيون: هذه مؤامرة تمت بينه وبين هذه العجوز، ادعت أن ابنها مات وأنها غسلته وكفنته ونادت الرجال فحملوه، وهو ما مات، وجاءت تقول: يا روح الله! يا روح الله! ولدي، فناداه. وهذا لتعرفوا أن البشرية هي هي إلى الآن وإلى يوم القيامة، والعقل البشري هو هو، والمكر والكيد هو هو، فردوا هذه الآية من آيات الله، والله يقول: يحيي الموتى بإذن الله، أقول هذا حتى لا تثقوا في آراء الناس وما يقولون إذا لاح نور الحق من كتاب الله وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأعمى والأبرص بإذن الله.

    كيد اليهود لعيسى عليه السلام ليقتلوه

    فماذا فعل به بنو إسرائيل؟ حفروا له في بيته ليقتلوه، ودخل الشرطي عليه فألقى الله على الشرطي شبه عيسى، وهذه آية أخرى، وعيسى رفع من الروزنة، ولما أبطأ الشرطي هاجموا البيت ودخلوا بالقوة، فألقوا القبض على شرطيهم فقالوا: هذا عيسى وصلبوه، وقالوا: تعالوا لتشاهدوا هذا الساحر الدجال أرحناكم منه، والله يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] والقرآن يكذب هذا، والنصارى مصرون على أن اليهود قتلوا روح الله عيسى وصلبوه، ومن شدة ذلك يعلقون الصليب في أعناقهم ويبيعونه بأثمان غالية حباً في عيسى المصلوب.يا عميان، يا جهال، يا ضلال! إذا كان عيسى ابن الله فكيف يصلب؟ إذاً: الله عاجز. إذا كان عيسى هو الله فكيف يقتل؟ أرأيتم العمى؟! وتمضي القرون والقرآن يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] ثم منذ حوالي عشرين سنة أعلن بولس الثامن بأن اليهود برآء من دم السيد المسيح، والقرآن من ألف وأربعمائة سنة يصرح، وأنت الآن تقول هذا؛ لأنهم خدعوك أو غشوك أو ملئوا الجيوب بالمال، فتقول: اليهود برآء من دم السيد المسيح، وما قتلوه؟! وهذه فضيحة من شر الفضائح، كيف تعيش أمتكم قروناً على هذا المعتقد والآن تنفيه أنت؟ بأية حجة؟ ولكن من هبط هبط، فمن يرفعه؟ وما زالوا يعلقون الصليب ويبيعونه، فنقول: كيف يقتل ابن الله؟ أعوذ بالله! قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، خالق الكون كله، فهل يحتاج إلى ولد؟ أن يذهب بعقول المجانين؟ الذي يقول للشيء: كن فيكون هل يحتاج إلى ولد؟ والولد يحتاج فيه إلى زوجة؟ والجن قالوا: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:3].
    معنى قوله تعالى: (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات …)
    قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ [البقرة:253] أي: من بعد تلك الرسل مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:253] حجج، براهين سواطع، أنوار في كتب الله وحكم على ألسنة رسله، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا [البقرة:253] فتقاتلوا، لا توجد حرب إلا بخلاف، لا توجد فتنة إلا بالاختلاف، هذه خذوها قاعدة: ما يطلق الرجل امرأته إلا إذا اختلفا، ما يغلق فلان دكانه مع شريكه إلا إذا اختلفا، ما تكون الحرب إلا بسبب الاختلاف، بهذه الآية: وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا [البقرة:253] فتقاتلوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة:253] ولكن لله سنن تمضي في البشرية.

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآية الكريمة

    إليكم شرح هذه الآية من التفسير:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية الكريمة: بعد أن قص الله تبارك وتعالى على رسوله قصة ملأ بني إسرائيل في طلبهم نبيهم شمويل بأن يعين لهم ملكاً يقودهم إلى الجهاد، وكانت القصة تحمل في ثناياها أحداثاً من غير الممكن أن يعلمها أمي مثل محمد صلى الله عليه وسلم بدون ما يتلقاها وحياً يوحيه الله تعالى إليه، وختم القصة بتقرير نبوته ورسالته بقوله: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:252]؛ أخبر الله تعالى أن أولئك الرسل فضل بعضهم على بعض، منهم من فضله بتكليمه كموسى عليه السلام، ومنهم من فضله بالخلة ] ما الخلة؟ فوق الحب، الحب حين يتخلل القلب يقال فيه: خلة، [ كإبراهيم عليه السلام، ومنهم من رفعه إليه وأدناه وناجاه وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من آتاه الملك والحكمة وعلمه صنعة الدروع كداود عليه السلام، ومنهم من آتاه الملك والحكمة، وسخر له الجن، وعلمه منطق الطير كسليمان عليه السلام ]، سليمان كان إذا تكلم العصفور يعرفه، قال: عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ [النمل:16]، وإن صاح الديك عرف ما أراد، سبحان الله! قد تقول: كيف هذا؟ فقل لي: وكيف تنطق أنت وتتكلم؟ فالله المعلم، وعندنا عبرة: فإنه يؤثر أن الصرد الطائر المعروف الذي يوجد في بعض البلدان ويغيب في بعض الفصول لما صاح قال سليمان: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: لدوا للموت، وابنوا للخراب. وهذا الكلام -والله- حق وصدق. يا بني الناس! لدوا للموت، فلو ما ولدنا بنين أو بنات فمن يموت؟ فنحن نلد لأجل الموت، وابنوا للخراب، إذاً: ارتفعوا بمستوياتكم عن هذه المستويات الهابطة، أنتم تلدون فقط للموت وتبنون للخراب، فلا يشغلكم طلب الولد والزوجة عن عبادة الله وحبه ورضاه، لا تلهكم دنياكم عن ذكر الله وعبادة الله، إنكم تبنون للخراب فقط، ما هو للخلود والبقاء. فسليمان قال تعالى عنه: عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ [النمل:16-17].وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (21)
    الحلقة (28)

    ترجمة العالم الواعظ المعمَّر أبو بكر الجزائري (رحمه الله تعالى )




    تفسير سورة البقرة (118)


    إن من حكمة الله عز وجل أن هدى من شاء من عباده للإيمان بالرسل، وكتب الضلالة على من لم يقبل ما جاءت به رسل الله، فنتج عن ذلك أن اقتتل الناس مؤمنهم مع كافرهم، ولو شاء الله ما فعلوه ولكن ليقضى أمر الله عز وجل وتتحقق حكمته في خلقه، فينزل أهل الإيمان المنازل التي يستحقونها، من القبول والرضوان، وسكنى الجنان، وينزل أهل الجحود والكفران دركات الجحيم والنيران.

    فضل الجلوس في حلق الذكر في المساجد

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).ومن أراد أن ينظر إلى السكينة فها هي أمامه، لا فوضى ولا ضوضاء ولا صخب ولا صياح، ولا أكل ولا شرب، ومن أراد أن ينظر إلى الرحمة وقد غشيتنا فها هي ظاهرة ظهوراً كاملاً، لا أذى ولا ضرر ولا بلاء ولا تعب ولا شقاء، هذه هي الرحمة.ومن أراد أن ينظر إلى الملائكة فهو قاصر لا قدرة له على رؤيتهم، لكنهم يحفون بهذه الحلقة، وأما ذكر الله تعالى لنا في الملكوت الأعلى فهو الجائزة التي لا تعادلها أخرى، من نحن وما نحن حتى يذكرنا رب السماوات والأرض وما بينهما في ملائكته المقربين؟ هذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.وحرم إخوان لنا بالملايين لا يجلسون هذه الجلسة، ولا يجتمعون على كتاب الله وهدي رسوله، فجهلوا ثم زاغوا وانحرفوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فما المانع أن نفرغ من أعمالنا الدنيوية وما عندنا أعمال دنيوية، فالتاجر، والصانع، والفلاح، وكناس الشارع.. الكل يعملون لأجل الله، المسلمون بحق موقوفون على الله، حياتهم كلها وقف على الله، لو سألته وهو يبيع ويشتري ولا يغش ولا يكذب ولا يخدع ولا يضر: لم تفعل؟ فسيقول: من أجل أن نعبد الله عز وجل، أوفر طعامي وشرابي مع أسرتي حتى تستمر حياتنا بعبادة الله عز وجل وطاعته، تمر بالبناء يبني: لم تبني؟ يقول: أبني هذا البيت من أجل أن أستر فيه نفسي وأسرتي عن أعين الناس، أو من أجل أن نقيهم الحر والبرد؛ لأننا عبيد الله، خلقنا لعبادته فأمرنا بالمحافظة على أبداننا لنعبد ربنا.لو وجدته يأكل: لم تأكل يا عبد الله؟ فسيقول: من أجل الله، تأكل من أجل الله؟ أي نعم، إذا لم آكل فلن أستطيع أن أسبح ولا أن أذكر فضلاً عن أن أصلي أو أجاهد وأرابط.ولا ننس كلمة أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: إنني أحتسب نومتي وقومتي على الله. إن نمت نمت لله، وإن قمت قمت لله، والحساب جار بيني وبين ربي.

    تابع تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض...)

    المفاضلة بين الأنبياء وأدب المؤمنين فيها

    معاشر المستمعين! ما أتممنا دراسة الآيتين السابقتين، وهما قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:253-254].الآية الكريمة الأولى درسناها، فلنذكر منها أن الله عز وجل فاضل بين رسله، وله ذلك ولا اعتراض عليه، ونحن أدبنا رسولنا صلى الله عليه وسلم فنهانا عن أن نفاضل بين الأنبياء والمرسلين، ما ينبغي أن نقول: عيسى أفضل من موسى، ولا موسى أفضل من هارون، ولا داود أفضل من سليمان، ليس الشأن شأننا، وحتى هو صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفضلوني على يونس بن متى) لعلمهم من طريق كتاب الله أن يونس ما صبر، وما أطاق.

    فضل نبينا بالشفاعة الكبرى يوم القيامة


    وفي عرصات القيامة تأتي من البشرية جماعات إلى آدم أبي البشر عليه السلام، فيقولون له: يا آدم! أنت خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته -وهذه فضائل- فاشفع لنا عند ربك أن يقضي بيننا، طال وقوفنا. فيعتذر بهذه الكلمات التي رددها الأربعة، قال: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله ولن يغضب بعده مثله، فعليكم بنوح، ائتوا نوحاً واطلبوا منه أن يشفع لكم. وهل يشفع لهم في دخول الجنة أو النار؟ لا، يشفع أن يحكم الله بينهم، فالسعداء يسعدون، والأشقياء يشقون، أما أن يبقوا وقوفاً هكذا حفاة عراة والشمس تدنو من رءوسهم والعرق يلجم بعضهم ويصل إلى سرة البعض وأقدام البعض فإلى متى؟ يريدون فصل القضاء بما لهم وما عليهم، فيعتذر نوح ويقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله ولن يغضب بعده مثله، ويذكر خطيئة من خطاياه كما ذكر آدم، فآدم سبق له أن أخطأ مرة في الملكوت الأعلى، أكل من الشجرة، فذكر هذه الخطيئة وقال: ما أستطيع، اذهبوا إلى نوح، ونوح مكث تسعمائة وخمسين عاماً وهو يدعو إلى الله، وعاش بعد الطوفان كذا سنة، وقبل البعثة عاش أربعين سنة، فاعتذر بخطيئة واحدة في نظره وما هي بخطيئة، وهي أنه قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]، وعلل أيضاً: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27] بما جرب، فأجيال يوصي بعضهم بعضاً: إياكم وهذا الرجل، فإنه يفسد عليكم عقائدكم ودينكم! ومع هذا اعتبرها زلة، قال: كيف أواجه ربي وأنا قد أخطأت؟ عليكم بإبراهيم، فيأتون إبراهيم الخليل فيعتذر ويقول ما قاله من قبله: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ويذكر ثلاث كذبات، وكثيراً ما نقول: إنها أفضل من صدقنا نحن، يقول: ما أستطيع أن أكلم ربي وأنا قد كذبت ثلاث كذبات، وكذبها من أجل الله: الأولى: قال لسارة في الديار المصرية: إنه ليس على الأرض من يعبد الله إلا أنا وأنتِ، فأنتِ أختي وأنا أخوكِ، فإذا سألكِ الطاغية عني فقولي: أخي ولا تقولي: زوجي، عد هذه كذبة. الثانية: لما كان احتفال قومه بعيد في الربيع مروا به خارجين يحملون البقلاوة والحلويات، فقالوا: هيا إبراهيم! فنظر نظرة في النجوم يوهمهم؛ لأنهم يعبدون الكواكب، وقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] ما أستطيع أن أخرج، أنا مريض، فذهبوا وتركوه وحده، ومن ثَمَّ أتيحت له الفرصة للانتقام من الأصنام فكسرها، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ [الأنبياء:58]، قال تعالى: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:59-63] فأوهمهم بيده واعتبر هذه كذبة، وهي الثالثة. هذه الكذبات الثلاثة ما استطاع أن يواجه بها الله ويطلب منه هذا الطلب، فقال: عليكم بموسى كليم الله، كلمه كفاحاً في جبل الطور، فأتوا موسى فاعتذر وذكر خطيئة، ما هذه الخطيئة؟ وكزة وكز بها قبطياً فقتله، وما أراد قتله، كان القبطي يتقاتل مع الإسرائيلي، فاشتكى وصرخ الإسرائيلي، فوجد القبطي ضاغطاً على ذاك الإسرائيلي فوكزه في صدره فمات، واستغفر موسى وتاب كما هو مبين في سورة القصص: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16] فهذه ما استطاع معها أن يواجه الله ويطلب منه. معاشر المستمعين! كم خطايانا؟ دعنا من الخطايا، كم كذبة كذبنا يا أصحاب الستين عاماً والسبعين عاماً؟ قد تكون بالآلاف، لم؟ ما عرفنا الله، لو عرفناه لخفناه ورهبناه وأحببناه فلم نخرج عن طاعته أبداً، هذا هو التعليل السليم والحقيقي، أهل معرفة الله لا يخرجون عن طاعته ولا يفسقون عن أمره، لأنهم يعيشون معه، كيف تزني وأنت مع الله؟ أما تستحي؟ كيف تكذب والله معك يسمع كلامك؟ لن تقدر، تحاول أن تفتح عينيك في امرأة فتستحي منه وهو ينظر إليك، ولكن الذين ما عرفوا وقعوا في هذه الذنوب والمصائب.إذاً: قال: عليكم بعيسى ابن مريم، فيأتون عيسى، ولم يذكر عيسى خطيئة قط، لم يذنب ذنباً قط؛ لأن روح القدس معه لا يفارقه، ولكن يقول: عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، هو أهل لها، فيأتون أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها، أنا لها؛ لعلمه السابق بهذا، إذ جاء من سورة الإسراء قول الله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] يحمده عليه أهل الموقف أجمعون، لأنه فرج كربهم، فقد طال قيامهم ووقوفهم فجاء من سأل الله واستجاب له، ومع هذا لا يتعنتر فيقول: رب وعدتني فأعطني. بل قال: ( فآتي فأخر ساجداً تحت العرش ويلهمني ربي محامد -أي: ألفاظ حمد- فأحمده بها، ولا أزال أحمده حتى يقول: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع ). فاز بها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فقد بذل ما لم نبذله نحن بملايين، ثلاث وعشرون سنة وهو في حرب دائرة، لا تسأل عن طعامه وشرابه، فاز بأخلاق لم تحلم بها الدنيا وآداب ما سمى إليها آدمي قط، وفضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

    تفضيل نبينا وموسى عليهما السلام بتكليم الله تعالى لهما


    تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253] كموسى عليه الصلاة والسلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم، كلم محمد صلى الله عليه وسلم ربه في الملكوت الأعلى. والصواب ألا نقول: كلم محمد ربه، بل نقول: أين كلم الله محمداً؟ وإلا فنحن كلنا نكلم الله ونحن ساجدون، فموسى كلمه ربه في جبل الطور من أرض سيناء، ومحمد صلى الله عليه وسلم كلمه ربه تحت العرش في الملكوت الأعلى، وفرض عليه الصلوات الخمس. وهناك آية تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرج به وتكلم مع الله: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1]، هذا قسم: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2] من صاحبهم؟ محمد صلى الله عليه وسلم. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:4-5] جبريل، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَه ُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:6-13] أين؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:13-18]، شاهد جبريل في الأرض وشاهده في الجنة عند سدرة المنتهى صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253] سامية عالية بحسب ما قاموا به وبذلوه، ولكن فضل الله عظيم، المهم أن تؤمن موقناً أن الله فضل بعض الرسل والأنبياء على بعض كما فضلنا نحن بعضنا على بعض في الطول والقصر، والفهم والذكاء والعلم، والفقر والغنى، والصحة والمرض، يفعل ما يشاء، لكن هذا التفضيل في رفع الدرجات وعلو المقامات.

    عظيم قدرة الله تعالى في خلق عيسى من غير أب

    وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:253] عيسى ابن مريم ليس له أب، وهنا حكاية تذكر عن الهابطين يقولون: إذا وضع الإنسان في قبره فالملكان يسألانه فيقول: أنا عبد الله بن فلانة! لم ما يقول: أنا عبد الله بن فلان؟ قالوا: لأن الأب مشكوك فيه، والأم رسمية ما فيها خطأ، واستشهدوا بآية الإسراء: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71] قالوا: بأمهاتهم، فينادي الله: يا فلان ابن فلانة! لأن الأب مشكوك فيه! وكل هذه ضلالات. فعيسى هو ابن مريم لأنه لم يكن ابن رجل وطئ أمه فأنجبته، عيسى كان بكلمة التكوين، كما كان آدم، فآدم من ولده؟ ما اسم أمه؟ من أبوه؟ لا أب ولا أم، كيف كان؟ بكلمة (كن) فكان، فلهذا فالبشر أربعة أصناف: الصنف الأول: من لا أب له ولا أم، وهو آدم، وصنف آخر: من له أب ولا أم له، وهو حواء، والصنف الثالث: من له أم ولا أب له، وهو عيسى عليه السلام، فعيسى عليه السلام بعث الله جبريل إلى أمه كما في كتاب الله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:16-18] إن كنت تقياً تخاف الله فابتعد عني، أما إذا كنت فاجراً فما ينفع معنا هذا. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ [مريم:19-22] نفخ في كمها فسرت النفخة في بطنها فكان عيسى بكلمة التكوين: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59].وأعظم آية: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:22-26] لا أكلم أحداً، اتركوني، إني نذرت للرحمن ألا أكلم إنسياً، إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26] يعني: امتناعاً من الكلام. فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:26-29] أن: كلموه. قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29] فنطق: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30] ما هو بإله ولا ابن الله، أول كلمة قالها: إني عبد الله، ومع هذا قالوا: هو ابن الله، وذلك هو الجهل والعمى كما نعرفه بيننا. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [مريم:30-34].


    بعض بينات عيسى عليه السلام

    قال تعالى: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:253] وهي المعجزات، منها: أنه يحيي الموتى، كما في تلك القصة التي أعلمناكم لتعرفوا أذواق البشر وأحوالهم؛ فقد مات أحد الأبناء وغسل وكفن وحمله الناس إلى المقبرة، وإذا بالعجوز أمه تبكي، فمر عيسى فقالت: يا روح الله! ولدي مات، ادع الله أن يحييه لي، فدعا الله وقال: يا فلان! قال: لبيك يا روح الله. قال: قم. فلف كفنه وعاد مع أمه، فقال المغرضون والهابطون: هذه مؤامرة، هذا اتفاق تم مع عيسى ومع هذه العجوز؛ ليظهر أنه نبي ورسول ويدعوكم إلى طاعته وخدمته.والآن يحدث مثل هذا وأسوأ من هذا، فالعقول البشرية هي هي، والشياطين ما تبدلوا ولا تغيروا، يوحون ويلقون بالمعاني ويزخرفون الكلام في أذهان وقلوب وإخوانهم، وحسبنا قول الله تعالى له: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي [المائدة:110]، فكل هذه آيات.

    كيد اليهود لعيسى عليه السلام وتحريفهم النصرانية بعده

    ومع الأسف قال اليهود: هو ابن زنا، وعزموا على قتله وصلبه وفعلوا ما فعلوا، والذين اتبعوا عيسى بعد سبعين سنة حولهم اليهود إلى وثنيين مشركين، ما انتفع اليهود بعيسى ولا سمحوا للآخرين أن ينتفعوا به، فهذا بولس شيطان اليهود دخل على أحد الملوك الذين تنصروا ودخلوا في دين عيسى واستطاع أن يقلب الصفحة وحولهم إلى وثنيين، والإنجيل حوله إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً، كيف بكتاب الله يصبح خمسة وثلاثين كتاباً؟ ولما انكشفت عورتهم وفضحوهم اجتمعوا وقاموا وقعدوا وجمعوها وحولوها إلى خمسة أناجيل، أما تستحون! كتاب الله يصبح خمسة كتب؟ وإنجيل من الخمسة فيه التوحيد، فهو ككتب الوهابيين، هذا الكتاب ما يقرأ لأنه كتاب وهابي في التوحيد إلى الآن.إذاً: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:253] نصرناه على اليهود بروح القدس جبريل عليه السلام، وقد عرفتم حادثة محاصرة منزله بالشرطة اليهودية، ودخل رئيس الشرطة عليه فألقى الله الشبه عليه ورفع عيسى من الروزنة من السقف، فدخلوا فوجدوا رئيس الشرطة فقالوا: هذا هو، فاحتضنوه والحديد في يديه ونقلوه إلى الساحة الكبرى ليصلب وصلبوه، فلهذا نعرف أن اليهود ما قتلوا عيسى، لكن بالنسبة إلى القضاء قتلوه؛ لأنهم قتلوا من تشبه به، فالجريمة فعلوها بالفعل، لكن المحنة هي: كيف يقتلون نبي الله ورسوله وهو منهم وأمه إسرائيلية؟ لأي شيء؟ لأنه اعترض عليهم في الربا والزنا والغش والكعب العالي والهبوط المادي، ما أطاقوا الاعتراض، هذا هو السبب، جاء ضد شهواتهم وأطماعهم، وأمرهم بالعفو والإحسان فما أطاقوا، فكادوا له والعياذ بالله، فأيده الله بروح القدس جبريل عليه السلام حتى رفعه إليه.

    الواجب على النصارى في معرفة حقيقة الدين

    وكان المفروض على النصارى أنهم يأتون إلينا ويتعرفون إلى إلههم الذي يعبدونه، هذا كتاب الله، ما إن قرأ جعفر بن أبي طالب سورة مريم على أصحمة النجاشي وسمعها حتى قال: والله! ما زاد ولا نقص مثل هذه، وأسلم النجاشي . فهم محرومون، نقول لهم: تعالوا لتعرفوا عن دينكم وعن نبيكم وعن دعوتكم، فيخافون على المراكز والمناصب والأموال ويخافون من الغسل والصلاة والصدقات. وعندنا أيضاً من المسلمين جهال ضلال كاليهود والنصارى، ما يريدون أن يسألوا ولا يتعلموا، فلا إله إلا الله! المؤمن بمجرد أن يشك أو يعرف أو يبلغه أن هذا باطل يذهب إلى الشرق والغرب يسأل أهل العلم، يقول: لعلي أنا هالك وأنا لا أدري، لا أنه يسمع من يقول: هذا كفر، هذا باطل، هذا حرام ويغني هو ويسكت، ما هذا؟ أهذا مؤمن؟ المؤمن بمجرد أن يشعر بخطئه لو استطاع أن يمشي إلى أقصى الأرض ليسأل أهل العلم عن هذا الخطأ فإنه يمشي، ما يسمع كلمة (كافر) ويقول: لا بأس، كيف هذا؟ هذا حال النصارى واليهود.

    الخلاف بين اليهود والنصارى

    وقوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:253] اقتتل اليهود والنصارى بعد نزول عيسى وآيات القرآن والإنجيل. وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ [البقرة:253] يبتلي عباده ويمتحنهم لينزلهم منازل يستحقونها، فمن آمن وعمل صالحاً رفعه إليه، ومن كفر وعمل سوءاً أبعده وأهبطه في الحياة السفلى.
    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ...)


    موقف المؤمن من نداء الله تعالى أهل الإيمان

    انتهينا في الدرس السابق إلى هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:254] لبيك اللهم لبيك. هل ناداكم معشر المؤمنين أم لا؟ ما يشعر المؤمنون أبداً حين يسمعون: (يا أيها الذين آمنوا) أنهم مؤمنون. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك. فأنت منادى أم لا؟ كيف يناديك مالكك، سيدك، أميرك، أستاذك وما تلتفت؟ أنت ميت إذاً، فهم أماتونا، والله! ما هناك من يسمع من الملايين من المسلمين، يسمع القارئ يقرأ: (يا أيها الذين آمنوا) فما يقول: أنا مؤمن يقول الله لي.يقول ابن مسعود : إذا سمعت الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمرك بفعله، أو شر يحذرك منه. وقد تتبعنا -والحمد لله- نداءات الرحمن للمؤمنين والمؤمنات فوجدناها تسعين نداء، ينادينا إما ليأمرنا بما يسعدنا في الدنيا والآخرة، وينجينا من البلاء والشقاء في الحياتين، أو ينادينا لينهانا عما يفسدنا ويضعفنا ويشقينا ويردينا في الدنيا والآخرة، أو ينهانا ليبشرنا ليزداد إيماننا وأعمالنا الصالحة وسمو أرواحنا، أو ينادينا ليحذرنا من خطر يداهمنا يفسد علينا حياتنا، أو ينادينا ليعلمنا ما به نكمل ونسعد، ما نادانا لغير هذا قط.والشاهد عندنا: أنه إذا سمعت من يقرأ في الإذاعة أو في الشريط: (يا أيها الذين آمنوا) فقف، اسمع ما يقول الله، فإن كنت فاعلاً فاحمد الله، وإذا كنت تاركاً لما نهى فاحمد الله، وإذا كنت غير عامل فاستغفر الله واعزم على أن تفعل أو تترك، وإلا فلم ينادينا بهذه النداءات؟ لأننا أولياؤه والمؤمنون به وبرسوله وبكتابه، لأننا أحياء.

    الحث على المسارعة في الإنفاق

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] فرض الله الزكاة وفرض الصدقات، منها ما هو واجب، منها ما هو مستحب ومندوب، وحرم البخل، وحرم الإمساك، وهذا من مبادئ المجتمع الطاهر، الجهاد لا يقوم إلا بالمال، والرسول صلى الله عليه وسلم ما عنده ميزانية ولا عنده مال، والجهاد قائم؛ فأنفقوا، وتقدم السياق: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245] هذا اكتتاب رباني فتحه لعباده المؤمنين: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245] الدرهم بسبعمائة، وبألف. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] سبحان الله! ما قال: أنفقوا ما رزقناكم ولا تبقوا شيئاً، ردوا علينا ما أعطيناكم، بل قال: من بعض ما أعطيناكم. وهو ماله، فطلب منا أن نعطي منه لصالحنا من أجل الجهاد وحمل راية الحق والدعوة، من أجل سد جوع الفقير وكسوة عورته، لا من أجله هو تعالى. أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] عجلوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ [البقرة:254] ويا له من يوم لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]. استعجلنا: عجلوا بالإنفاق مما رزقناكم، فصاحب العلم يجب أن ينفق من علمه بتعليم غيره أو إرشاد سواه، أو بيان الحق له، والذي رزقه الله جاهاً ينبغي أن ينفق من هذا الجاه بأن يرفع حاجات الضعفة والمساكين حيث تسد خلتهم أو تقضى حوائجهم، والذي أعطي قوة بدنية يجب أن ينفق منها ولو أن يكنس شوارع المدينة، أرأيتم بطلاً يكنس؟ وإذا ما كان هناك بلدية فمن يكنس؟ المؤمنون، ففارغ الشغل ما عنده عمل يكنس أزقة المدينة، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق )، المؤمن كلما شاهد حجرة، روثة، شيئاً في الطريق شمر عن ساعديه ونظف.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (22)
    الحلقة (29)

    ترجمة العالم الواعظ المعمَّر أبو بكر الجزائري (رحمه الله تعالى )




    تفسير سورة البقرة (119)

    آية الكرسي هي أعظم آية في كتاب الله، وهي تعدل ربع القرآن، وقد ذكر الله عز وجل فيها كرسيه فسميت به، وكرسي الرحمن من دلائل عظمته سبحانه وتعالى، فقد ثبت أن هذا الكرسي قائم على العرش، ورغم أن الكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في فلاة، إلا أنه لو جيء بالسماوات والأرض لضاقت بهذا الكرسي.

    تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل القرآن العظيم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله أن جعلنا منهم، فاحشرنا يا ربنا في زمرتهم وارض عنا كما رضيت عنهم، يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.معنا آيتان: الأولى: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254].والآية الثانية: آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255].

    سبب نداء المؤمنين بعنوان الإيمان

    في الآية الأولى يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:254] لبيك اللهم لبيك، الحمد لله أن نادانا ربنا، أتدرون كيف تأهلنا حتى أصبحنا ينادينا الجبار عز وجل؟ هل لأننا بنو هاشم؟ بنو تميم؟ أتراك؟ كيف تأهلنا حتى أصبحنا ينادينا ربنا؟ تأهلنا لذلك بالإيمان به وبكتابه ورسوله ولقائه، لأن المؤمن بحق حي يسمع النداء ويجيب، والكافر ميت لا يسمع نداءً ولا يجيب، إن أمر أن يفعل ما فعل، وإن نهي ألا يفعل ما انتهى؛ لأنه في عداد الموتى، هل فيكم من يرد علي هذه النظرية؟ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80].الروح هي الإيمان، إن وجدت الروح في الجسم كان حياً، الأذن تسمع، العين تبصر، اللسان ينطق، اليد تأخذ وتعطي، الرجل تمشي وتسعى، وإن خرجت الروح فلا العين تبصر ولا الأذن تسمع، أليس كذلك؟ والبرهان أن أهل الذمة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى وما قيس عليهم من المجوس يعيشون تحت رايتنا وفي ظل دولتنا الإسلامية ونحن نصلي وهم لا يصلون، ونحن نزكي وهم لا يزكون، ونحن نصوم وهم لا يصومون، ونحن نرابط وهم لا يرابطون، ونحن نجاهد وهم لا يجاهدون، ولا نأمرهم أبداً وإن كنا حاكمين لهم قادرين على الأمر والنهي، لم ما أمرنا الله بأمرهم ونهيهم؟ لأنهم أموات، فانفخ الروح فيه، فإذا حيي وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فحينئذ كلفه فإنه قادر على أن ينهض بكل تكليف.

    عدد نداءت الإيمان في القرآن ومقاصدها

    وكم نادانا ربنا في كتابه بعنوان الإيمان؟ تسعين مرة، فهل أمرنا الله تعالى فيها بمنكر؟ بقطيعة رحم؟ بظلم؟ بشر؟ بفساد؟ بخبث؟ الجواب: والله! لا، أمرنا بفعل ما من شأنه أن يزكي نفوسنا ويطهر أرواحنا لتصبح أهلاً لأن تنزل الملكوت الأعلى، ونهانا عن أشياء من شأنها تخبيث نفوسنا وتدسيتها وتلويثها، فتقعد عن العروج إلى السماء وتنزل إلى الدركات السفلى في عالم الشقاء، بشرنا بما يزيد في طاقاتنا وقدراتنا على فعل الصالحات وترك المحرمات، أنذرنا في بعض النداءات عواقب سوء مدمرة، وأمرنا في نداءات أخرى بأن نتعلم العلم، بأن نعلم بأن العلم نور، فالجهال هم الذين يقعون في أودية الخبث والشر والفساد؛ لأنهم ما يبصرون، يمشون في الظلام، أما العالمون أصحاب النور فهل رأيتم مبصراً ذا بصيرة يمشي ثم يغمس نفسه في بركة فيها الخرء والعذرة والبول والغائط؟ والذي لا يبصر يقع فيها، فالعلم نور، واقرءوا: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8] أي نور أنزله الله؟ القرآن الكريم، واقرءوا: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].


    أهمية الاجتماع على مدارسة الكتاب والسنة

    يا شيخ! لم ملايين المسلمين ما تعلموا ولا اهتدوا ولا استقاموا ولا طابوا ولا طهروا؟ الجواب: والله! ما اجتمعوا على تلاوة كتاب الله ودراسته، ولو أن أهل القرية في قريتهم، أهل الحي في حيهم إذا مالت الشمس إلى الغروب تركوا العمل وحملوا نساءهم وأطفالهم إلى بيوت ربهم يجلسون كما نحن الآن جالسون، فليلة آية وأخرى حديثاً من الكتاب والحكمة طول الحياة فهل سيبقى بينهم جاهل أو جاهلة؟ والله! ما يبقى؛ لأن الله أعلمنا أنه يهدي بهذا الكتاب، وإذا انتفى الجهل فما الذي يحل محله؟ العلم. هل رأيتم أعلم رجل في بلادكم يزني؟ يلوط؟ يشتغل في بنك ربوي؟ يسب المسلمين ويشتمهم؟ يختلس أموالهم؟ لم؟ لأنه أصبح ذا نور، فكل الذي تشكوه البشرية جمعاء من الظلم والشر والفساد والخبث مرده إلى جهلها، ما عرفت ربها، فما أحبته ولا خافته، وإذا لم يحب العبد ربه ولم يخفه فهل سيستقيم؟ ترميه شهوته حتى يفجر بأمه. فمن منعنا أن نجتمع على كتاب ربنا ونتدارسه بيننا؟ ما الذي يصيبنا؟ قف وانظر إلى هذه الجلسة: هل ترى فيها ظلمة أو شراً أو فساداً؟ ألم تر السكون والرحمة كيف غشيتنا والملائكة تحوطنا، والله جل جلاله يذكرنا بين أولئك المقربين.مضى على المسلمين أكثر من سبعمائة سنة وهم لا يجتمعون إلا في المقاهي والملاهي والأباطيل والأضاحيك، تدخل بيوت الله فتجدها خاوية خالية، تنتهي الصلاة فلا يبقى في المسجد أحد، إلى أين يفرون؟ حيث تريد الشياطين، لا نكثر من البكاء، ولنعد إلى الآية الكريمة.

    أهمية الإنفاق في الإسلام

    بم أمر الله عباده المؤمنين؟ بالإنفاق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا [البقرة:254] أخرجوا من جيبوكم وصناديقكم بعض الذي رزقكم وأعطاكم ووهبكم، لم؟ لأن الزكاة قاعدة الإسلام، فلا إسلام بدون زكاة، الذي يملك مالاً تجب فيه الزكاة بأن بلغ النصاب المحدد وحال عليه الحول إن كان مما يحتاج إلى حول ولم يخرج زكاته فقد كفر والعياذ بالله، وإذا قال: أنا مؤمن ولم يزك فيجب أن يقاتل حتى يخضع ويزكي، وإذا قال: لا أؤمن بهذا؛ فإنه يقتل كافراً مرتداً والعياذ بالله.فمن هنا ما من مؤمن ولا مؤمنة يعرف عن الله عز وجل أن الزكاة واجبة وجوباً عينياً على كل من يملك نصاباً إلا وهم يخرجون زكاة أموالهم طيبة بها نفوسهم، والذين لا يزكون مرضى وقلوبهم عفنة، ولا تعجب إذا ارتكبوا كبائر الذنوب والآثام والفواحش، إذ ما هناك ما يزكي النفس ويطهرها حتى تشرق أنوارها ويميز بين الحق والباطل والخير والشر. أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] هذه النفقة العينية، ونفقة أخرى إذا أمر إمام المؤمنين بالإنفاق لإرسال السرايا وبعث الجيوش، لإعداد العدة وإحضار السلاح والطعام، كل من في جيبه أو صندوقه مال يجب أن ينفق، هل بلغكم أن نداءً أعلنه رسول الله القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات في تلك الروضة، فخرج أبو بكر الصديق بكل ماله، وخرج عمر رضي الله عنه بنصف ماله، أما عثمان فجهز جيشاً كاملاً. والحمد لله؛ فإنه لما بدأ الجهاد في ديارنا الجزائرية لطرد فرنسا والكافرين أصبحنا نجمع الأموال في هذا المسجد كل جمعة، حتى أبناء المدارس فرضنا عليهم أن كل واحد يأتي بريال، في الابتدائية وغيرها، يومها خرجنا بنصف ما عندنا، والله! لقد قسمته نصفين. فلو أن إمام المسلمين قال: هلم إلى الجهاد وبدأ بالمال لما حل لواحد منا أن يكون لديه مال ولا يخرج منه بعضه، لأن الله عز وجل قال: مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] أي: من بعض الذي رزقناكم، والمال مال الله، هو الواهب وهو المعطي، وطلب منا فقال: ردوا علينا بعض الشيء، فهل نقول: لا؟ هذه وقاحة وأسوأ خلق، كيف أعطيك وفي جيبك عطائي ثم أقول: رد علي كذا لأن فلاناً مريض إلى جنبك فتقول: لا؟ أهذه هي الأخلاق البشرية؟ كيف يقول: لا؟ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254] وهذا الإنفاق يكون للجهاد في سبيل الله، ويكون لسد جوع الجائعين، وستر عورة العراة، ومداواة مرضى المؤمنين، ولإقامة الحصون والأسوار، وإعداد العدة للجهاد.

    مقترح بإنشاء صندوق خيري في مسجد القرية والحي

    وأخيراً اسمعوا: لو أن أهل القرية الإسلامية في بلد إسلامي -سواء كانوا عرباً أو عجماً- ينشئون صندوقاً في مسجدهم، وألاحظ بعض أهل الغفلة انتقدونا في هذا الكلام وقالوا: هذه خيالات، ولا يضرنا ذلك، والله! لولا علمي بأن هذا مما شرع الله بل وأوجب، وأنه لا خلاص من الفقر والذل والهون والدون إلا به لما قلت هذا، فهل هو مستحيل أو صعب؟ إمام أهل القرية يقول هذا وهو على المنبر يوم الجمعة، وأهل القرية كلهم حاضرون، يقول: من الليلة لا يتخلفن رجل عن صلاة المغرب في هذا المسجد، وائتوا بنسائكم الطاهرات من الحيض والنفاس وبأولادكم لنتلقى الكتاب والحكمة. فإن قالت امرأة: أنا غير طاهرة، فكيف؟ قلنا: اجعلوا لها ستارة وراء الجدر وضعوا مكبر صوت عندها لتسمع وتعي، فنحن مؤمنون، والمؤمن شعاره الصدق والوفاء. إذاً: الليلة إن شاء الله نبتدئ دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، قد تقول: من أين لنا هذا الكلام؟ أقول: أما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، وإبراهيم الخليل هو الذي دعا بهذه الدعوة واستجاب الله له منذ أربعة آلاف سنة، أليس إبراهيم القائل وهو يبني البيت مع إسماعيل: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129] هات يا إسماعيل الطين والحجارة، يتقاولان هذا الكلام وهما يبنيان البيت، واستجاب الله فبعث في ذرية إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان يجلس لهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويطهرهم صلى الله عليه وسلم.إذاً: فحين يحضرون يجلسون كجلوسنا هذا، فيبدءون باسم الله بآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254] ويتغنون بها كلهم بصوت منخفض واحد عشر مرات، عشرين، ثلاثين مرة، العجائز والنساء والأطفال والرجال كلهم حفظ هذه الآية ورتلها، فهذا أمر عظيم، والله! لخير من مليون دولار، وحين يحفظونها يأخذ يبين لهم مراد الله منها، ماذا طلب منهم؟ أن تفهموا أو تعملوا أو تقولوا، فيفهمون، ومن الغد حضروا كلهم، فإن دخلت القرية مع غروب الشمس لم تجد إلا من هو ذاهب إلى المسجد بأطفاله ونسائه. وفي الليلة الثانية حديث، وهو قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، ويتغنون به ربع ساعة أو عشرين دقيقة ليحفظوه، ويشرح ويبين ويفسر، فيقول: ما معنى (مثل المؤمنين)؟ ما التواد؟ ما التراحم؟ ما التعاطف؟ ما معنى الجسد الواحد؟ فيفهمون، وفي الليلة الثالثة آية، وفي الرابعة حديث يحفظونه حفظاً عن ظهر قلب ويفهمون معناه أكثر من فهمي أنا وأنتم، ويطبقون من الغد، فتلوح أنوار العمل في بيوتهم وأزقتهم وشوارعهم، والله! ما تمضي سنة إلا وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وحين يصبحون بهذه المثابة هل سيعجزون عن فتح صندوق من حديد في المحراب؟ والواعظ أو المربي أو الكاتب أو الإمام والمؤذن في لجنة المسجد، فيقول: معاشر المؤمنين والمؤمنات! لقد فتح الله علينا هذا الصندوق، فمن زاد على قوت يومه درهم واحد فليأت به يودعه في هذا الصندوق، وباسم الله، واعلموا أنكم آمنون وسوف تعود أرباح هذا الصندوق عليكم، لا تخافوا فإن الله صادق الوعد لا يخلف وعده، فيأخذون يضعون في ذلك الصندوق، كل من يأتي بريال، بعشرة، يسجل اسمه ويأخذ ورقة، وفي ستة أشهر يمتلئ هذا الصندوق، فإن كانوا في أرض زراعية أنشئوا مزرعة خارقة، تنتج ما شاء الله من الزروع، أو ينشئون مصنعاً لصنع المسابح مثلاً أو النظارات، وينتظم ذلك العمل ويباركه الله عز وجل، فما تمضي سنة وإلا وقد امتلأ ذاك الصندوق.واللجنة الخاصة بالمسجد تعرف أهل الحي أو القرية، تعرف المريض والأرملة واليتيم والعاجز والمحتاج وتزورهم في بيوتهم وخيامهم وتغدق عليهم تلك الفضلات المالية، فيشعرون بالسعادة، هذا هو الإسلام، يقولون: هذا من إخوانكم، فكيف تصبح قلوبهم؟ ما يبقى حسد ولا بغض ولا رياء ولا كذب ولا باطل أبداً. فإن قالوا: أما يسرق هذا الصندوق؟ قلنا: في هذه القرية التي تفعل هكذا أيوجد سارق؟ أمجانين أنتم؟ وإن فرضنا ذلك فهل هذا المسجد سيخلو ساعة من ليل أو نهار؟ لن يخلو، فعزابنا من شبيبتنا يبيتون في المسجد ركعاً وسجداً، فكيف يفرغ المسجد؟ فكيف -إذاً- يختلس هذا الصندوق أو يؤخذ؟ هذا تصور خاطئ وليس بصحيح. أسألكم بالله: كيف تصبح تلك القرية أو ذلك الحي؟ لا يوجد من يتأخر عن صلاة، ولا يوجد من يرتكب باطلاً أو منكراً، فيعم الطهر والصفاء، والله! لو رفعوا أكفهم إلى الله وأقسموا عليه أن يفعل كذا لاستجاب لهم.والسؤال: ما المانع أن نفعل هذا؟ أيام كنا تحت كرباج أو عصا الروس فممكن ألا يأذنوا، لكن ليس كلنا سادتنا روسيا وحكمتنا البلشفة، العالم الإسلامي أكثره كان مستعمرات مسيحية ما فيها هذا الكفر والإلحاد، فانتهى الاستعمار وتحررنا واستقللنا وأصبح لنا نيف وأربعون دولة، فهل فعلت دولة هذا؟ والله! لن ينتهي الفقر ولا الخلاف ولا الضعف ولا العجز ولا الفسق ولا الفجور إلا على هذه الدعوة المحمدية، لو جاء عمر وقادنا فإن لم نطبق هذا النظام الرباني فلن تطيب حياتنا.يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254]، لو كان لنا هذا الصندوق وأمتنا متحابة متعاونة لرأيت العجب، تفرح حين تنفق، لكن أين تنفق الآن؟ أمة هابطة، تشرب الحشيش وتأكل المر والحلو، لا آداب ولا أخلاق ولا كمالات ولا طاعة لله ولا رسوله.


    انتفاء التدارك بالبيع والخلة والشفاعة يوم القيامة

    يقول تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ [البقرة:254] يوم عظيم، إنه يوم البعث من الأرض والحشر في ساحة القضاء ليسعد الله أهل الإيمان وصالح الأعمال، أهل الأرواح الزكية والنفوس الطاهرة، ويشقي ويردي ويخسر أهل القلوب المنتنة والأرواح الخبيثة الفاسدة من جراء الإجرام والظلم والفسق والعصيان، والله ليتمن هذا بالحرف الواحد. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ [البقرة:254] أبداً، تبيع ماذا؟ عندك بقرة تبيعها؟ عندك دار تبيعها؟ هل تبيع نفسك؟ أهناك من يشتريك؟ لا دينار ولا درهم، لا بيع ولا خلة، والخلة: المودة والحب والصداقة، لا ينفع يومئذ ذلك. وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254] هل هناك من يقول: يا رب! أدخل هذا الجنة؟ يا رب! عجل بحساب هذا؟ والله! ما ينطق بها واحد، ولا يستطيع أحد أن يقولها، أما بلغنا أن الله في ذلك اليوم يغضب غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله، آدم ما استطاع أن يكلم الله، فحوَّل البشرية إلى نوح، ونوح حولهم إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى، وعيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والمطلوب فقط أن يقول: رب! احكم بين عبادك، طال الموقف، فما استطاع كل منهم، واستجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوعد الصادق الذي وعده الله، ومع هذا ما قال: يا رب! احكم بين عبادك، قال: ( آتي فأخر ساجداً تحت العرش ويلهمني ربي محامد أحمده بها ثم يقول لي: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع ) وفي آية الكرسي: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255].إذاً: عجلوا بالإنفاق، آهٍ! لو كان هناك صندوق البر والإحسان والطهر والصفاء والمودة والإخاء فإنا سنقسم غداءنا وعشاءنا قسمين.

    ظلم الكفرة

    ثم قال تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254] الكافرون لنعم الله، أعطاهم الله الأموال ففسقوا بها وفجروا وكادوا بها للمؤمنين وحاربوا بها الصالحين، أنفقوها في الحشيش والخمور والباطل والشر والفساد، هؤلاء هم الظالمون، هؤلاء جاحدون للنعمة، إذاً: هم الكافرون، هم الظالمون؛ لأن الظلم حقيقته: وضع الشيء في غير موضعه، مثلاً: هذه حلقة ذكر، فلو يقوم مجنون يدخل أصبعيه في أذنيه ويغني: يا ليلى، أيجوز هذا؟ أهذا موضع أغاني هذا؟ فهذا ظلم أم لا؟ أو يجيء واحد ويقول: افسحوا لي وينام في الحلقة، أهذا مكان نوم؟ فهذا هو الظلم، وضع الشيء في غير موضعه، أو يأتي عند باب المسجد ويشمر عن ثيابه ويتغوط، فهذا ظلم، فالذي أعطاه الله المال لينفقه في رضائه وفيما يريد الله تعالى منه فيعاكس وينفقه ضد الله عز وجل، فأي كفر أعظم من هذا بهذه النعمة؟ والدليل على أن الكفر كفر النعمة قول الله عز وجل: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ [إبراهيم:7] أعلن: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7] ما قال: سيسلب النعمة، بل فوق السلب بلاء آخر، فهل عرف المسلمون هذا؟ ومن أين يعرفونه ما داموا لا يجتمعون ليلاً ولا نهاراً طول أعمارهم على الكتاب والسنة، كيف يتعلمون؟ أيوحى إليهم؟ مستحيل. إذاً: عرفتم هذا النداء ماذا يحمل؟ أولاً: إذا دعا داعي الإنفاق أن: أنفق يا عبد الله -وبخاصة الزكاة- فلا تتردد.ثانياً: اعرف قيمة هذا اليوم الآتي، اعمل له، زك نفسك وطهرها وطيبها حتى تقبل في الفراديس العلى، وإلا فسترفض وتنزل إلى أسفل الكون إلى سجين، اعمل قبل أن يفوت الوقت، واعلم أن من كفر نعم الله كمن كفر بآيات الله وشرع الله وأنبياء الله ورسله، فهو ظالم.
    تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ...)

    عظمة سعة الكرسي


    والآن مع آية الكرسي، فما الكرسي؟ الكرسي يقول تعالى فيه في هذه الآية المسماة به: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] قال الحبر ابن عباس الذي فاز بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) أي: تفسير القرآن الكريم؛ قال: لو أخذنا السماوات السبع والأرضين السبع وألصقنا واحدة بواحدة فأصبحت قطعة واحدة ووضعنا كرسي الرحمن عليها لضاقت بالكرسي ولم تتسع له. ونسبة الكرسي إلى العرش المذكور في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] نسبة الكرسي إلى العرش كحلقة من نحاس ملقاة في أرض فلاة، ما نسبة هذه القطعة من النحاس في الفلاة؟ هذه نسبة الكرسي إلى العرش، فقولوا: آمنا بالله.

    أمثلة توضيحية لعظمة الله تعالى في الخلق

    وإن كنت تريد بعض التوضيحات فهذا جبريل عليه السلام تجلى لرسولنا في مكة بعدما تركه في غار حراء فسد الأفق كله بأجنحته الستمائة، فأين يذهب بعقولنا؟ ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( أذن لي أن أحدث عن ملك رأسه تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ) ، هذه غيوب، فتعال أعرفك على بعض المخلوقات فقط، هل تعرف كوكب الشمس؟ هذا الكوكب أكبر من الأرض بقرابة مليون ونصف مليون مرة، ما هي نظرية المعاصرين، هذه كلمة قديمة من آلاف السنين، الشمس هذا الكوكب النهاري يحمل هذه الطاقة وهذه الحرارة أكبر من الأرض هذه بمليون مرة وزيادة، فمن أوجد هذا الكوكب؟ من كوكبه؟ من ملأه بهذه الحرارة وهذه النار؟ آمنا بالله، آمنا بالله. وأين هذا الكوكب من كواكب لا يحصي عددها إلا الله عز وجل؟ الله خالق كل شيء، ومن ادعى الخلق فليتفضل ليضحك عليه العقلاء، فالذين يقولون: الطبيعة خلقت نقول لهم: والطبيعة من طبعها؟ والحركة الدافئة من أدفأها؟ أوهام وأباطيل وترهات.إن السماوات السبع اخترقها رسول الله صلى الله عليه وسلم سماءً بعد سماء حتى انتهى إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، هذا الرائد الأعظم صلى الله عليه وسلم، والماديون بشطحاتهم يقولون: وصلنا إلى القمر، وصفقنا نحن التائهين الضيع، وشيخكم كان يقول: لا تقل: ما وصلوا ولا تقل: وصلوا، فجائز أنهم يكذبون، فهم كفار، كيف تقول: وصلوا؟ أما تستحي؟ أعندك علم أنت؟ وغضب أهل الحلقة، ونحن نقول: لم نصفق نحن -العرب والمسلمين- لانتصارات أعدائنا؟ عدوك انتصر هذا الانتصار وحقق هذا الكمال فهل تصفق له أنت؟ أما عندك ضمير؟ اجحده، لا تعترف به، لا تفرح بانتصاراته إن كنت عاقلاً، أخفها، غطها، كذبه ليبقى إخوانك على مكانتهم، ولكن إذا عاثوا فالعرب والمسلمون يصفقون، وتاهوا في هذه أكثر من إذاعات أمريكا وروسيا، فنقول: سبحان الله! أين العقول وأين القلوب؟ وشاء الله أن نعثر على مجلة في بلاد المغرب تنقل عن مجلة صينية، الصين كانت هي القوة الثالثة ما هي مع الرأسماليين والبلشفيين، فوالله! إن أهل الصين يقولون: هذه كلها خرافات، ما هي إلا تنويم مغناطيسي للشعوب، ما وصلوا إلى القمر ولن يصلوا إليه، هذه كلها تمثيليات أجريت في الجبال. سبحان الله! أنا ماذا فهمت؟ قلت: يحافظون على معنويات شعبهم الذي يقف أمام أمريكا وروسيا، يحافظون على معنوياته، ما ينهارون أمامهم، وتمضي عشرات السنين ويصرح زعيم الصعود إلى القمر يقول: والله! إنها أكاذيب، ما طلعنا ولا وصلنا، كله خرافات، تمثيليات في الجبال، كان هذا منذ سنتين، فلم العرب ما قالوها ورددوها؟ قالوا: دعوا الناس نائمين، وهذا الأمريكاني قال: ما صعدنا ولا يمكن هذا، كلها تمثيليات فقط، لا إله إلا الله! أرأيتم كيف هبطنا؟

    حقيقة الكرسي ومعناه

    إذاً: فالكرسي حقيقته: موضع القدمين فقط، هذا الحبر ابن عباس وغيره كابن جرير والروايات كلها تقول: المراد بالكرسي موضع القدمين لا الكرسي هذا الذي تشاهدونه، وذلك أن الملوك في أزمنة مضت يوضع السرير للملك أو العرش فيسمى عرشاً وسريراً، ويوضع تحته شيء يضع عليه قدميه، فسبحان الله! لما فسر ابن عباس فقال: الكرسي موضع القدمين ما استسغناه، كيف نفهم هذا؟ نحن نفهم الكرسي المعروف، فقال: موضع القدمين فقط؛ لأن الملك كان يجلس على سريره ويضع رجليه على شيء أسفل ذاك يسمى كرسياً يكرس عليه رجليه، هذا القدر الذي لا ينسب إلى السرير، هذا الذي يضع عليه قدميه وسع السماوات والأرض، فالسرير كيف؟ قولوا: آمنا بالله. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الصحابة ثم وضع يده على لحيته وقال: ( آمنت به، آمنت به، آمنت به. فتعجب الصحابة: ماذا يا رسول الله؟ قال: لقد أوحي إلي أن رجلاً من بني إسرائيل كان يركب بقرة ) والبقرة للسقي والسني والحرث، ما هي للركوب، ( فرفعت البقرة رأسها وقالت: ما لهذا خلقت يا هذا، فقلت: آمنت به ) البقرة تنطق؟ أي نعم. ثم قال: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر ) وهما غائبان؛ ثقة في الرجلين وما عرف عنهما، قال: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر )، وآمنا به، فالذي أنطقني وأنطق أمي أما ينطق البقرة؟ لسانها أكبر من لساني أنا، فلا إله إلا الله! إذا سمعت هذا فقل: آمنت بالله، آمنت بالله، يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير.

    فضل آية الكرسي

    آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله، وفي القرآن الكريم ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، كل آية علامة على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولن يستطيع ذو عقل أن ينقض هذا، فهذه الآية وما تحمل من نور وهدى من صاحبها؟ هل هناك من قال: هي كلامي؟ فهي كلام الله إذاً: الله موجود وهذا كلامه، والذي نزلت عليه وتلقاها من هو محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً: فوالله! إنه لرسول الله، فكل آية من الستة آلاف والمائتين وست وثلاثين تدل على حقيقة لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.أعظم آية هي آية الكرسي؛ وذلكم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبي بن كعب من حفظة القرآن بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ( أتدري أية آية أعظم في كتاب الله يا أبا المنذر ؟ قال: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم). فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر ) يا ليته ضرب صدري أنا ولو في المنام، فهي أعظم آية في الكتاب، وها نحن عرفناها الآن مجاناً، فالحمد لله، الحمد لله، الحمد لله. وقد ثبت أيضاً عن أبي القاسم صلى الله عليه وسلم أن من قرأها دبر كل صلاة لا يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ومكلمكم ما تركها من الصبا، من أيام كنا أطفالاً ندرس في الكتاب، بلغنا هذا فما تركناه، نحن نمشي أو نجري لا بد من تلاوتها، فهل ستأخذون بهذا أم ما أنتم في حاجة إليه؟ هي أعظم آية، أما تتحصن بها وتتلوها؟ مع هذه البشرى العظيمة: لا يمنعك من دخول الجنة إلا الموت. وإن قلت: إذاً: أنا سأزني وأفجر وأقرؤها فوالله لن تقرأها، ما يستطيعها ولا يحافظ عليها وهو يجرم بكبائر الذنوب والآثام، فمن هنا إذا حافظ عليها عبد حفظه الله تعالى وأعده للطهر والكمال.

    اشتمال آية الكرسي على الاسم الأعظم

    قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اسم الله الأعظم يوجد في هذه الآية وفي فاتحة آل عمران، وهي: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1-2] وآية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين، فلذا نرجو أننا ظفرنا باسم الله الأعظم الذي ما سئل به أحد إلا أعطاه، ولا استعاذ به أحد إلا أعاذه، هو في كلمة: (الله لا إلا هو الحي القيوم)، فقل: يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم! يا ألله! وادع واسأل. وهذه الآية تعدل ربع القرآن، آية الكرسي إذا تلوتها كأنما قرأت ربع القرآن خمسة عشر حزباً، وسورة الزلزلة تعدل ربع القرآن أيضاً، وسورة الكافرون ربع القرآن، والنصر ربع القرآن، والصمد ثلث القرآن. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (23)
    الحلقة (30)




    تفسير سورة البقرة (12)

    الملائكة من مخلوقات الله تعالى، خلقهم من نور، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ليسوا على هيئة واحدة، ولا وظائف متحدة، بين القرآن بعضاً منهم، وطرفاً من أعمالهم، فجبريل موكل بالوحي، وإسرافيل بالنفخ في الصور، وملك الموت بقبض الأرواح، وهناك حملة العرش، والكرام الكاتبون، والملائكة الحافظون وغيرهم كثير بحيث لا يحصيهم إلا خالقهم.

    تابع تفسير قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ...) وما بعدها

    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون .. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها، وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم. ‏معاشر المستمعين والمستمعات! في الآيات التي قبل هذه قال تعالى وقوله الحق: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة:28] وقد عرفنا أن هذا الأسلوب وهذا الاستفهام هو في معنى التقريع والتأديب، وهو يحمل معنى التعجب أيضاً، إذ كيف يكفر الإنسان بخالقه! تصوروا، كيف ينكر وجوده؟ يقول: أنا غير موجود .. أنا غير مخلوق، من يصدقه؟ هو لا يصدق نفسه، فكيف إذاً يكفر، ويستر، ويغطي، ويجحد خالقه، فهذا أمر يستدعي الاستغراب والتعجب، وصاحبه يؤدب ويقرع بالمقارع، كيف تكفر بربك؟وأنتم تعرفون السياق في الرد على أولئك الكافرين من المنافقين ومن المشركين، إذ كفروا بربهم، وعبدوا غيره، وحاربوا كتابه ورسوله. كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28]، حجة بعد حجة بعد حجة، فكيف يستسيغ العاقل أن يجحد ربه وهو قد خلقه بعد أن لم يكن شيئاً.ثم أعظم من ذاك أنه يميته، هل هناك من فرض بقاءه على الله، وقال: مثلي لا يموت، أو أنا لن أموت، والبشرية مضت عليها قرون، هل وجد من فرض بقاءه على الله؟! إذاً: كيف يكفر بالله! وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [البقرة:28].يبقى: ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28] الذي يتمتع بعقل إنسان آدمي، ما دام قد عرف أنه كان غير مخلوق وخلق، وأنه مات بعد أن كان حياً فبأي ذوق أو منطق أو عقل يدعي أنه لا يحيا مرة ثانية! وهذا الكلام عقلي منطقي، كما نتكلم في دنيانا: هذه الشاة تساوي كذا، هذا البستان لفلان، هذه الدجاجة بيضها كذا.. بالعقول.إذاً: كيف يكفر هذا الإنسان بربه حتى يعصيه ويتمرد عليه، ويخرج عن طاعته؟!

    سبب إنكار وجود الله

    سبق أن عرفتم أن إنكار وجود الله كإنكار البعث الآخر، والعلة والسبب في ذلك: هو أن يتمرد الإنسان ويعيش بلا قانون، ولا شرع، ولا نظام، يريد أن يعيش كالبهائم؛ فلهذا كيف يتخلص من الطاعة، والانقياد، والإذعان؟ بالكفر، ولهذا أنكروا وجود الله، وأنكروا لقاء الله.وقد عرفنا سبب إنكار وجود الله وإنكار البعث الآخر ولقاء الله في قول الله تعالى: بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القيامة:5] في سياق تقرير البعث والجزاء: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القيامة:1-5]، الذي يريد أن لا يصلي، ولا يزكي، ولا يذكر الله، ولا يغتسل من جنابة، ولا يعطي حقاً من الحقوق، ماذا يصنع؟ يكفر. هذه الحقيقة، كالذي لا يريد أن يذعن لقانون الدولة ينكره، ولا يؤمن به، ولا يعترف بهذا الحاكم، ولا هذا الحكم، حتى ما يتقيد أبداً بقيد، ولا يلتزم بمبدأ، هذه حقيقة. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28]، لو كان رجوعنا بعد الموت إلى غير الله لهان الأمر، لكن رجوعنا إليه، وقد تمردوا عليه، وفسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته، وحاربوه، وحاربوا رسله، كيف يكون هذا الرجوع؟! ماذا يلقون من جزاء؟! ماذا يتحملون من ألوان الشقاء والعذاب؟! ولكن لا يعزينا ولا يسلينا إلا قولنا: قضاء الله وقدره، حكم الله عليهم بالشقاء.

    كل ما في الأرض خلق من أجل الإنسان

    قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، هذه نعمه، وهذه آثار حلمه وعلمه وقدرته ورحمته، خلق لكم خاصة، لا لغيركم، ولا لسواكم، مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا كل ما في الأرض من حيوان . من أنواع الفواكه .. أنواع الخضر .. اللحوم، كل ما فيه حتى المعادن خلقها لكم، ولا تقولون: الحمد لله، ولا تقولون: المنة لله، ولا تقولون: مرنا يا ربنا نطعك، واطلب منا نعطك؛ لأن إنعامك سابغ، وإفضالك عظيم، ونحن عبيدك وأولياؤك، قالوا: لا، يأكلون، ويشربون، ويركبون، ويسكنون، وينكحون، ولا يذكرون الله. هذه هي آثار الكفر والعياذ بالله تعالى، إذ الكفر في الحقيقة موت، وما زلنا نقرر هذه الحقيقة أن الكافر ميت، فلا يسمع، ولا يبصر، ولا يعقل، ولا يأخذ، ولا يعطي. هذا شأنه، فإن حيي بالإيمان، وتفتحت حواسه؛ سمعه وبصره، أصبح قادراً على أن يعي ويفهم ويفقه، وإن أمر أطاع، وإن نهي استجاب. الموت في الكفر، والعياذ بالله. خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا هذه مظاهر نعم الله، إن الذي يقدم لك رغيفاً من الخبز فقط تحمده وتثني عليه، وتشكره، والذي يضع لك حصيراً تجلس عليها تحمده، وتثني عليه، فكيف بالذي أعطاك سمعك وبصرك ومنطقك، وأعطاك قواك تذهب وتجيء، وتقوم وتقعد؟! وخلق لك ما في الأرض من مخلوقات لك ومن أجلك، تأكل وتشرب، ومع هذا لا تقول: رب لك الحمد! عجب حال الكافر!

    خلق الله للسماوات والأرض


    قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29] هنا السؤال: أيهما خلق قبل الآخر: الأرض أو السماوات؟هذا الموضوع فيه كلام طويل، ونحن لا نعيي ولا نتعب أفهامنا وعقولنا فيما لا طائل تحته، فنقول: خلق الله عز وجل الأرض، ولم يخلق فيها ما فيها من أنواع هذه النعم بعد، ثم خلق السماوات، ولنستمع إلى آية في هذا الشأن من سورة فصلت: حم [فصلت:1]، قال تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت:9-12]، فهذه الآية نص في أنه خلق الأرض أولاً في يومين، وخلق الأقوات والأرزاق في يومين، لكن ليس شرطاً بالتتابع، فخلق الأرض في يومين، وخلق السماوات في يومين، وخلق بعد ذلك ما تتطلب حياة الناس على الأرض من وجود هذه النعم.وقوله تعالى من سورة: وَالنَّازِعَاتِ [النازعات:1]، أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ [النازعات:27].يا من ينكرون البعث، والآخرة، والحياة الثانية! أخبرونا: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُ مْ [النازعات:27-33]، فهل فهمتم عني هذا؟أقول: خلق الله الأرض وخلق بعد ذلك السماوات، وعاد إلى الأرض فدحاها: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ، ولماذا قلت لكم: ما هناك حاجة إلى أن نجزم بهذا أو ذاك، إذ الذي نجزم به أن الله على كل شيء قدير، وأن نعم الله لا تعد ولا تحصى، وأن المطلوب منا بعد الإيمان أن نشكر الرحمن بطاعته؛ لأن السياق: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:9]؟ أين يذهب بعقولكم؟! أتجحدون الرب العظيم الذي خلق؟ الأرض في يومين؟ الذين أنكروا البعث، والجزاء، والحياة الثانية قال الله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ، من يقول: نحن أشد خلقاً؟ ما نحن بالنسبة إلى السماء؟ ماذا نحن؟ بعوض، السماء بناها: رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [النازعات:28-29]، ونحن نقول: ما يستطيع أن يعيدنا من جديد، أن يعيد خلقنا ليحاسبنا على أعمالنا، ويجزينا بها؟وقد عرفنا؛ العلة أنهم يريدون أن يواصلوا الفجور، لا استقامة، ولا طاعة، ولا أدب، ولا خلق، ولا حياء، ولكن حيوانات وبهائم.

    حادثة المعراج إلى السموات السبع وما فوقها

    إذاً: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29]، السماء الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة عشناها ليلة الحديث في صحيح البخاري ، إذ عرج بنبينا صلى الله عليه وسلم بعد أن أسري به من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج به من بيت المقدس (المسجد الأقصى) إلى الملكوت الأعلى، فاخترق السماوات السبع، وأعلمنا -لنتأكد- أنه وجد في السماء الأولى آدم أبا البشر، وأهل ورحب وسهل به، وقال: من ابن ونبي. وعرج به إلى السماء الثانية، وهو يستفتح له جبريل، ويقال له: من معك؟ فلان، أذن له ودعي أو لا؟ يقول: نعم، فوجد في السماء الثانية ابني الخالة: عيسى ويحيى عليهما السلام، ووجد في السماء الثالثة يوسف الصديق ابن الصديق ابن الصديق عليه السلام، ووجد في الرابعة إدريس عليه السلام، ووجد في الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم، وهو يرى رؤيا العين، ثم ارتفع وتجاوز السماوات السبع حتى انتهى إلى جنة عدن؛ إلى دار السلام، وثَمَّ شاهد سدرة المنتهى، وارتفع أيضاً، وبقي جبريل دونه حتى انتهى إلى مقام سمع فيه صرير الأقلام، وصوت أقلام القضاء والقدر، وناجاه ربه وناداه، وكلمه كفاحاً؛ بلا واسطة، وقد كلم من قبل موسى في جبل الطور، وناداه وقال: يا رب! أكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى. حتى تاقت نفس موسى واشتاقت روحه أن ينظر إلى وجه الله الكريم، ولكنه عاجز ما يقدر؛ لأن هاتين المقلتين قوتهما بحسب حياتنا في هذه الدار، وليس عندها طاقة كبيرة ترى أنوار الله عز وجل، وقد سئل نبينا صلى الله عليه وسلم: ( هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه )، فلينظر أحدكم إلى الشمس هل يستطيع أن يرى شيئاً؟ ( حجابه النور، لو أزال تعالى حجابه لاحترق ما انتهى إليه بصره )، قولوا: آمنا بالله، آمنا بالله.مظاهر العلم والقدرة والحكمة: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ، وما قال: إلى السماوات، أي: جنس السماء، فلهذا قال: سواهن، بجمع المؤنث، فهن سبع سماوات، سماء بعد سماء بعد سماء، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سمك السماء وغلظها مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء والسماء مسيرة خمسمائة عام، ومع هذا اخترقها صلى الله عليه وسلم في دقائق معلومة، ثم أتم هذا كله وعاد، تقول أم هانئ : وفراشه دافئ ما برد بعد. فلا يسعك يا ابن آدم إلا أن تقول: آمنت بالله! آمنت بالله.وكلمة استوى نبهنا أنه ليس معناها: علا، وإنما أراد وقصد -ولم يقصد إلى شيء آخر- إلى السماء حتى سواهن سبع سماوات، أو علا علو قهر وغلبة، فغلب هذا الملكوت وخلق السبع السماوات.وهو مع هذا بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أسألكم بالله: أهذا يكفر، أهذا يجحد، كيف تستطيع أن تجحده؟ أنت لا تستطيع أن تجحد -والله- ولو كأس حليب على طاولة، تقول: لا مستحيل أن يكون هذا قد وضعه إنسان، ممكن؟ تستطيع أن تجحد وجود عربة أو دراجة عند باب المسجد تقول: هذه ما أوجدها أحد، هذه وجدت هكذا، ممكن؟ كيف -إذاً- ينكر هذا المخلوق خالق كل شيء، ورب كل شيء، ومالك كل شيء، ومن بيده كل شيء؟عجب كفر الكافرين كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:28-29].

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ...)

    قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة:30]، أي: اذكر يا رسولنا، اذكر أيها السامع، اذكر أيها المؤمن للملاحدة والمشركين والكافرين والهابطين، اذكر لهم ما تم في الملكوت الأعلى؛ لترتفع هممهم، وتعلو علومهم ومعارفهم، إنهم جهلة عميان؛ لا يبصرون، ولا يعلمون، فاذكر لهم مظاهر العلم والقدرة والحكمة الإلهية. وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ الملائكة -معشر المستمعين والمستمعات- واحدهم ملك. وهل هو مأخوذ من ألك يألكه، والألوكة هي الرسالة؟ ليس هناك حاجة إلى أن نشقى في هذا الباب، فهو علم لا ينفع، وجهالة لا تضر. وقد أخبرنا الله عن أسمائهم، وحدث بذلك رسوله، فالواحد ملك، والجمع ملائكة.

    عدد الملائكة


    الملائكة خلق عظيم.وعددهم لا يحصيه إلا خالقهم، فلو تضرب الآلات الحاسبة ألف سنة لا تستطيع معرفة عددهم، يدلنا على هذا العدد العظيم ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في قوله، وقد حدث أصحابه وهو جالس بينهم فقال: ( أطت السماء وحق لها أن تئط )، أي: تأرجحت بالثقل فوقها، ثم بين ذلك لهم فقال: ( ما من موضع قدم أو شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد )، من يعد .. من يحصي إذاً؟ فهذه السماوات السبع، ما هي سماء واحدة: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك راكع أو ساجد ).

    ذكر أسماء بعض الملائكة وأعمالهم

    هؤلاء الملائكة ذكر الله تعالى صفاتهم، وذكر أسماءهم في كتابه القرآن الكريم، فذكر من الأسماء: جبريل وميكائيل وإسرافيل.وذكر لنا من أعمالهم: أن جبريل موكل بالرسالة؛ بالوحي بين الله ورسله، وأن ميكائيل موكل بالأرزاق والخيرات والأمطار، وأن إسرافيل موكل بمهمة واحدة، وهي أن ينفخ في الصور أو في الناقور فيتم الفناء، وينفخ نفخة أخرى فيبعث الخلق، وينفخ نفخة ثالثة فيصعق من في المحشر كله، وينفخ رابعة فإذا هم قيام ينظرون.واقرءوا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، أي: الذين عبدوا غيره، الذين ألهَّوا سواه، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا [الزمر:67] بكل أجزائها، ومحيطاتها، وصحاراها، وجبالها قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67] كحبة خردلة في يده، وَالسَّموَاتُ [الزمر:67] السبع مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، ومن يجرؤ على أن يقول هذا القول أو يدعي هذه الدعوى سوى الله رب العالمين! وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [الزمر:68]، من في السماوات؟ الملائكة، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى [الزمر:68] نفخة أخرى: فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:68-69]، جاء الله .. امتلأ الأرض بالنور: وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:69-70].أين نحصل على هذه المعارف، هل تقوى عقول البشر على أن تأتي بمثلها، أو يخطر ببالها مثلها؟ هذا هو القرآن العظيم.

    ملك الموت وعمله

    بعد ما عرفنا مهمة جبريل وميكائيل وإسرافيل نعرف مهمة عزرائيل، ومن عزرائيل؟بعض أهل العلم يقولون: ما ورد اسمه في القرآن ولا في السنة، ونحن نقول: عرفت البشرية -أخذاً من الكتب السابقة- أن اسمه عزرائيل، فما المانع؟! وعزرائيل كجبريل وميكائيل بمعنى عبد الله أو عبد الرحمن؛ لأن إيل هو اسم الله.وملك الموت له أعوان، وقد قال تعالى فيه: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11]، وقال: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:61-62].وعندنا عن ملك الموت قصة لطيفة ظريفة ذكرها ابن كثير في تفسيره، وهي:كان نبي الله سليمان عليه السلام على سرير ملكه يحكم بين الناس وهو جالس، فجاءه ملك الموت أيضاً وجلس، وسليمان أعطاه الله قدرة على أن يرى الجان، ويستخدمهم في مهام الأعمال، فهو يرى الملائكة، إلا أن ملك الموت جاء في صورة إنسان كما كان جبريل عليه السلام يأتي في صورة رجل كريم جميل، ويجلس إلى رسول الله والصحابة مئات يشاهدون، إذ من خصائص الملائكة أنهم يتشكلون بما شاء الله أن يتشكلوا، وقد نزلوا في وقعة بدر وعليهم عمائم، وخاضوا المعركة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مسومين.فكان أن دخل شاب من شبيبة بلاد سليمان يقول: يا نبي الله! لي حاجة؛ نريد أن نمشي في الرحلة الأولى، ولا نستطيع أن ننتظر إلى غد، أرجو أن تجعلني ممن يرحلون في الرحلة الأولى، إذ كان له ما يسمى ببساط، وهو سفينة هوائية وهبها الله لسليمان، وأنتم تعرفون السفن التي تمشي في البحر، أما سفينة سليمان فهي هوائية، برية بحرية، برمائية، سفينة صنعها ليركب هو وجيوشه وأمتعته وسلاحه، وتأتي الريح فتحركها، ثم ترتفع وتمشي الريح معها، وتقودها حيث شاء سليمان، غُدُوُّهَا شَهْرٌ [سبأ:12] مسافة شهر تمشيها في الصباح، ومسافة شهر تمشيها في المساء، في رواحها: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12] والله العظيم، هذا كلام الله.فهذا الشاب كان مستعجلاً، فابتسم ملك الموت أمام سليمان فسأله سليمان قال: هذا الشاب الذي يرتعد أنا مأمور بأن أقبض روحه في الإقليم الفلاني، وانظروا كيف هو يستعجل موته، يتلطف ويسأل من فضل الله أن يرحل في أول رحلة!وهذا ذكره ابن كثير عند قول الله تعالى من سورة لقمان: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، فانظروا كيف جاء مستعجلاً يلح بالطلب: لا تحرمني من الرحلة الأولى يا نبي الله، لأكون أول من يركب، فلي مهمة في الإقليم الفلاني، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].إذاً: جبريل، ميكائيل، إسرافيل، ملك الموت عرفنا مهماتهم.

    حملة العرش وعملهم

    عندنا حملة العرش، وفيهم قال تعالى وقوله الحق: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، فالعرش سرير الملك، ويحمله ثمانية من الملائكة، أما اليوم فيحمله أربعة فقط، والله العظيم حاملوه أربعة ملائكة.ولهذا كثيراً ما نقول: اللهم لك الحمد أن سمحت لنا أن نذكر اسمك. فمن نحن حتى نذكر اسم الله، فكيف بالذين يهزءون ويسخرون ويكفرون؟والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من نومه قال: ( الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي في ذكره )، أي: سمح لي أن أذكره، فهذا العرش الذي تحمله اليوم أربعة ملائكة اقرءوا قول الله تعالى من سورة البقرة؛ آية الكرسي: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، لو أخذنا السماوات السبع رقعة رقعة، وألصقنا واحدة بالثانية، وجعلنا الأرضين السبع رقعة واحدة، فألزقنا كل أرض بالأخرى، ووضعنا عرش الرحمن لكان عرش الرحمن أوسع، لا، بل الكرسي فقط وهو موضع القدمين أوسع من السماوات والأرضين! وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ولا نلتفت إلى المبطلين والضالين الذين يؤولون؛ ليبعدوا خشية الله وحب الله من قلوب المؤمنين؛ يؤولون الكرسي بالعلم، عجز الله أن يقول: وأحاط بكل شيء علماً حتى يعبر بالكرسي عن العلم؟ كل هذا من أجل أن يفقدوا المؤمنين حب الله، والرغبة والرهبة والخوف منه، فيحرفون كلام الله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ .ويقول الحبر ابن عباس رضي الله عنهما: (نسبة الكرسي إلى العرش)، وهذا فيما إذا أردنا أن ننسب بالتقدير نسبة الكرسي إلى العرش كيف هي، قال: (كحلقة ملقاة في صحراء)، تعرفون الحلقة -والجمع حلق- في عنق الإنسان أو في أصبعه أو في يده، حلقة ألقيناها في صحراء، وما نسبة الأرض إلى تلك الحلقة، أو الحلقة إلى تلك الأرض؟ لا شيء.كما ذكر لنا صلى الله عليه وسلم أن نسبة العالم الدنيوي أو الحياة الأولى إلى الآخرة كما يغمس أحدنا أصبعه في البحر، ثم يخرج أصبعه ويمسح البلل ويقومه بربع مليمتر مثلاً، ما هي النسبة هذه؟ البلل الذي يعلق بأصبعك إذا نسبته إلى البحر كيف تنسبه؟ يقف العقل، كذلك نسبة الحياة الأولى إلى الحياة الآخرة، قولوا: آمنا بالله.فهذا العرش نسبة الكرسي إليه كما سمعتم، ومع هذا يحمله الآن أربعة ملائكة فقط، ويوم القيامة يضاعف الله العدد؛ لأنه يوم الهول، والموقف الصعب، فيجعلهم ثمانية كما في سورة الحاقة: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة:17-18] على الله: لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:18-24]، أية أيام خلت؟ هذه! سوف تخلو وتنتهي. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:25-27].كفى بك داءًَ أن ترى الموت شافياًوحسب المنايا أن يكن أمانيا يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:25-32]، من فمه وتخرج من دبره، سلسلة طولها سبعون ذراعاً، بأذرعتنا هذه، ونحن البعوض؟ ما قيمة أذرعتنا؟ لم هذا المخلوق؟ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [الحاقة:33] ملحد؛ كافر، هذا جزاؤه: وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:34].هذه تعاليم الله التي أحيت البشرية بعد موتها، وكونت أمة لم تكتحل عين الوجود بمثلها في قرونها الذهبية الثلاثة عدلاً ورحمة، وصدقاً وصفاء وطهراً، وكمالاً وعزاً، فما عرفت الدنيا أمة أطهر ولا أكمل من تلك الأمة.ما سبب طهرها وصفائها وعزها وكمالها؟ هي هذه الدراسة، قال الله وقال رسوله.وعرف العدو هذا، وأبعد المسلمين عن الكتاب والسنة، فماتوا، ففعل بهم ما شاء، وما زلنا مبعدين عن نور الله وحكمة كتابه، ومازال الجهل ينخر في عظامنا ويمزقنا إلى الآن.


    خلقة الملائكة

    إذاً: عرفتم حملة العرش، كيف تتصورون الملائكة الأربعة الذين يحملون عرشاً هو أعظم من السماوات والأرضين.سدوم وعمورة مدن في البحر الميت كانت تسكنها أمة جبارة من قوم لوط، رفعها جبريل عليه السلام من أسفل الأرض إلى السماء وقلبها، عرفتم قوة جبريل؟ لما تجلى وظهر في السماء لرسولنا في مكة، في جياد بالضبط سد الأفق كله، إذ له ستمائة جناح، واقرءوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ [فاطر:1] وخماس.. إلى كم؟ اكتفى؟ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1] جبريل له ستمائة جناح.الملائكة الأطهار الأصفياء، مادة خلقهم ما هي؟ النور، مخلوقون من النور، يوجد النور أو لا؟ وتوجد النار أو لا؟ العوالم الثلاثة: بنو آدم من مادة الطين والتراب، والشياطين والجان من مادة النار .. من شواظ من نار، والملائكة من نور. فهم أعلانا، وأصفانا، وأطهرنا، وأزكانا. قطعاً ما في ذلك شك، وهذا العالم علمنا ربنا عنهم أنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20] .. هكذا خلقهم، لا أكل، ولا شرب، ولا نوم.ولهم أعمال، عرفنا فيما سبق عمل جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وحملة العرش.

    الكرام الكاتبون، والملائكة الحافظون

    ما هو عمل الكرام الكاتبين؟ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا [الانفطار:10-11]، الحمد لله ما هم (لئاماً)، يا ويلك لو كان مسجل أعمالك وحركاتك لئيماً! كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار:11]، ما من أحد منا إلا وله أربعة ملائكة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار )، ما معنى التعاقب؟ يطلع اثنان ويهبط اثنان ( يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعان في صلاة العصر وصلاة الصبح )، فلهذا الشقي المحروم التعس من لم يشهد صلاة الصبح وصلاة العصر في بيت الرب مع عباده المؤمنين!! لم؟ لأن الملائكة التي تقوم بعمل الإحصاء والكتابة في النهار ينزلون في صلاة الصبح، فيجدون المؤمنين يصلون، فيعرج ملائكة الليل ويبقى ملائكة النهار إلى صلاة العصر، فإذا أذن المؤذن وحضر الناس في بيت الرب، ينزل ملائكة الليل ويعرج ملائكة النهار، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتكم عبادي؟ اسمع هذه الشهادة من كريم، يقول: وجدناهم في الصلاة، وتركناهم في الصلاة، لا حصاد، ولا زرع، ولا عمل، ولا أكل، ولا شرب، ولا.. وجدناهم في الصلاة، والله كذلك، وتركناهم في الصلاة، بكم تشتري هذه الشهادة؟ ما تُقَدر أبداً بمقدار، شهادة من؟ ملائكة كذبوا هم؟ لا، والله لقد صدقوا، ما وجدونا في صلاة الصبح؟ ما وجدونا في صلاة العصر؟ وجدناهم في الصلاة، وتركناهم في الصلاة.فلهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من فاتته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله )، كأنما أخذ منه أهله وأخذ منه ماله، وبقي بلا أهل ولا مال، ( من فاتته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله ) عرفتم السر أو لا؟ولهذا الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح وصلاة العصر، إذ ما منهما إلا وسطى، فالصبح قبلها المغرب والعشاء، وبعدها الظهر والعصر، والعصر قبلها الظهر والصبح، وبعدها المغرب والعشاء، فكلاهما وسطى، ولهذا إذا قال المالكي: نحن نعتقد أن الوسطى هي الصبح، فهو على حق، وإذا قال الحنبلي: الصلاة الوسطى هي العصر، كان على حق، وما اختلفنا.إذاً: هؤلاء الكرام الكاتبين، كم عدد البشرية؟ اضربهم في أربعة، أليس كل واحد موكل به أربعة؟وهناك أيضاً مهمة أخرى لملائكة من نوع آخر كلفهم الله بحمايتنا، هذا الحرس الجمهوري أو الملكي، ومع هذا تسب الله يا أحمق وتنكره وتكفر به، وأنت محفوظ بحماية، والله لولا تلك الحماية لتمزقت، ومزقتك الشياطين والجان، واقرءوا من سورة الرعد: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، وإذا جاء أمر الله وقفت الملائكة لينفذ حكم الله فيك يا عبد الله، لكن لا تقل: إذاً ما الفائدة؟ ما الفائدة! أريك الفائدة إن كنت تعقل: الملك عنده حرس أو لا؟ وكذلك السلطان .. الرئيس، قد تقول: ما هذا الحرس ولم، والقضاء نافذ؟ أنت بهلول تقول هذا الكلام، أتدري لم؟ لأنه ليس معنى هذا أن الملك أو السلطان أو الرئيس ما يموت، إذا جاء القضاء والقدر وقف كل شيء، ولكن وجود حرس يطمئنه، يسكن نفسه، يهدئ خاطره، يجعله يقضي أموره وقضاءه وهو مطمئن، بخلاف لو لم يوجد حرس، يلتفت كل دقيقة أو لا؟معقبات من بين أيدينا ومن خلفنا يحفظوننا أليس كذلك، لا تقل: ها نحن نموت، إذا جاء القضاء وقفوا، ينفذ أمر الله عز وجل، لكن فائدة ذلك أنك تعيش مطمئن النفس وهادئ البال؛ غير خائف، ولا تلتفت: الآن الشياطين أو الجان يأخذونني، فمعك حماية معك، وضربت لكم مثلاً شارحاً مبيناً بالحرس بالعظماء من أهل الدنيا الذين يوجد لهم حرس، فالمحروس تطمئن نفسه، ويهدأ باله وخاطره، وينسى الخوف والالتفاتة من أن يقتله فلان وفلان، وهذه فائدة عظيمة، وأما قضاء الله فهو نافذ، وإذا جاء الأجل وقف كل شيء.إذاً الملائكة الكرام الكاتبون يكتبون ويدونون أعمالنا، ولا ينقصوننا حسنة واحدة، فاطمئن.ومع هذا ورد أن كاتب السيئات يمهلك ساعة، ما هي بالدقيقة هذه، فإن استغفرت وأنبت ورجعت لم يكتب، فهو يمهلك بعد معصيتك ساعة من الزمن قبل أن يكتب، لعلك ترجع .. لعلك تتوب، فإن أنت عرفت الذنب وقلت: أستغفر الله، وأتوب إلى الله، وغفرانك ربي، لا يكتب.أما صاحب الحسنات فعلى الفور يكتبها، كرام أو لئام؟ من وصفهم بالكرم؟ الله: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، ما في جهالة عندهم.للحديث صلة لنعيش مع الملائكة يوماً آخر أو يومين إن شاء الله، ونحن مع الملائكة في كل ساعة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (24)
    الحلقة (31)




    تفسير سورة البقرة (120)

    من الأدلة على قدرة الله تعالى وعظيم خلقه أن خلق سبحانه وتعالى الكرسي وجعله قائماً على عرشه، وهذا الكرسي قد وسع السماوات والأرض فما بالك بعرش الرحمن، والله عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه ومع ذلك فهو محيط بهم لا تخفى عليه منهم خافية، ولا تأخذه عنهم سنة ولا نوم، تعالى الله الملك الحق علواً كبيراً.
    تابع تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم...)

    فضل آية الكرسي

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل.وها نحن مع آية الكرسي، وأعيد إلى أذهان الأبناء والإخوة المستمعين أن آية الكرسي هي أعظم آية في كتاب الله، من بين ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية هذه أعظمها.كما أن أفضل سورة في كتاب الله هي سورة الفاتحة أم الكتاب والسبع المثاني، بهذا صح الخبر عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم امتحن صاحب القرآن أبي بن كعب رضي الله عنه، ( سأله عن أية آية أعظم في كتاب الله، فقال: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم)، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدر أبي وقال: ليهنك العلم أبا المنذر! ) وكناه بكنيته تشريفاً له وتعظيماً.

    ذكر ما اشتملت عليه آية الكرسي من أسماء الله تعالى وأنواع توحيده

    ولنسمع ما قال أهل العلم في شأن هذه الآية الكريمة:قال أهل العلم في هذه الآية المباركة: إنها أعظم آية في كتاب الله تعالى، اشتملت على ثمانية عشر اسماً لله تعالى ما بين اسم ظاهر واسم مضمر، آية واحدة اشتملت على ثمانية عشر اسماً لله تعالى، ما بين الظاهر مثل: (الله)، وما بين المضمر مثل: (هو).وكلماتها خمسون كلمة، وانظر إلى عناية السلف الصالح بكتاب الله، عدوا كلماتها فوجدوها خمسين كلمة، وعدوا جملها فإذا هي عشر جمل كلها ناطقة بربوبية الله تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته، الدالة على كمال ذاته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه.والتوحيد يدور على الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فهذه الآية المباركة العظيمة بلغكم وعرفتم أن من واظب عليها دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت فقط.

    الأسرار القرآنية لما تعدله بعض السور

    وقد ذكرنا أن سورة الزلزلة: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1] تعدل ربع القرآن، وأن سورة الكافرون: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] تعدل أيضاً ربع القرآن، وسورة النصر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] تعدل ربع القرآن، وأن سورة الصمد تعدل ثلث القرآن.ومن هنا فالراغبون في عظيم الأجر يصلون أكثر المواسم بهذه السور، وقد يصلي بالسور الأربع في ركعة أو ركعتين، وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.ولا بأس أن نلفت النظر إلى أن سورة الزلزلة تقرر مبدأ المعاد والحياة الثانية، ولو تقرأ القرآن وتحصيه فستجد ربعه يتكلم عن الدار الآخرة وما فيها؛ فلهذا تعدل ربع القرآن؛ لأن مبدأ البعث والنشور والحياة الثانية، والحساب والجزاء بالنعيم المقيم أو العذاب الأليم؛ هذا أخذ من القرآن ربعه.ثانياً: سورة الكافرون تحمل توحيد الألوهية: لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:2] وتوحيد الألوهية كذلك ربع القرآن يدرو حوله. ومعنى توحيد الألوهية: أن تعتقد موقناً أنه لا يستحق أن يعبد في العوالم كلها إلا الله؛ لأنه الخالق الرازق المدبر، وما عدا الله فمخلوق مرزوق، فكيف يصل إلى مستوى يعبد فيه كما يعبد الله؟!وسورة النصر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، أليس فيها الأمر بالاستغفار والتوبة؟ راجع القرآن فستجد آيه يحمل هذا المعنى في ربعه، كما قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النور:31]، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10]، فالاستغفار والتوبة في القرآن تجد ربعه يحملهما.أما سورة الصمد -وهو الله جل جلاله- فإنها تعدل ثلث القرآن؛ لأن فيها توحيد الألوهية والأسماء والصفات: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، فما دامت تحمل عقيدة الأسماء والصفات والألوهية فهذا ثلث القرآن. ومن هنا سميت الفاتحة أم القرآن، سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم القرآن وأم الكتاب، وقال: (من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته خداج خداج)؛ لأنها اشتملت على كل ما هو في القرآن: توحيد الألوهية، توحيد الربوبية، العبادات بأنواعها، القصص والتاريخ بما فيه، إذاً: القرآن كله يتفرع عنها وهي أمه، كحواء أم البشرية كلها.


    فضل الجهر بـ(لا إله إلا الله وحده لا شريك له ...) في السوق

    وقد سأل سائل عن تلك الجملة من الأذكار التي يثاب عليها صاحبها بمليون حسنة، فنقول: هي أن من يدخل السوق القائم على البيع والشراء والناس منكبون على البيع والشراء والمساومة والأخذ والعطاء، فيرفع صوته عالياً حتى يقال: هذا مجنون، فيقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وإليه المصير، وهو على كل شيء قدير؛ فإنه يأخذ شيكاً بجائزة ألف ألف حسنة! بهذا أخبر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، يعطى ألف ألف حسنة، وألف ألف الآن بالاصطلاح المعاصر مليون، على شرط: ألا يجبن أو يستحي أو يخاف، يرفع صوته عالياً حتى أهل السوق كلهم يتطلعون إليه، بأعلى صوت، ثم ثلاثة أرباعهم يتراجعون عن الغش والكذب والتكالب على الدنيا، حيث أصلح السوق بهذه الكلمة؛ حيث البلدية تعجز عن إصلاحه، فطول العام وهي تتابع! فهذه الجملة هي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وإليه المصير، وهو على كل شيء قدير، ويمشي ليتركهم يفكرون.

    علمية لفظ الجلالة على الذات الإلهية

    والآن مع آية الكرسي، لم سميت آية الكرسي؟ لذكر الكرسي فيها، هذا هو السبب.قال تعالى بعدما نادانا إلى الإنفاق والبذل والعطاء، وحذرنا من يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، والكافرون بجحود النعم وكفرانها، الكافرون بالله عز وجل مولاهم هم الظالمون، قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] هو الذي ينجيكم ويفرج عنكم، وييسر أمركم، فافزعوا إليه بالإنفاق في سبيله والتوبة إليه والإقبال على عباداته. و(الله) اسم علم على ذات الله، الاسم مأخوذ من السمة، أي: العلامة، سمته كذا وكذا: علامته كذا وكذا، إنسان مثلي ذاته كيف نعرفها من بين الذوات؟ ضع عليها علامة، هذه العلامة هي أن تسميه بالاسم. فذات الله عز وجل لا تشبه الذوات، ومن خطر بباله تصور هذه الذات أو البحث عن كيف؛ فقد أخطأ وزلت قدمه، ووالله! لن يدرك شيئاً، فعقولنا محدودة الطاقة كآذاننا وأسماعنا، كأعيننا وبصرنا، كنطقنا وذاتنا، محدودة، هل يستطيع أحدنا أن يدرك بعينيه تلك الجراثيم في الأنعام؟ ما يستطيع! انظر الآن هنا، فهذا الهواء فيه جراثيم تراها بمكبرات الرؤية، وسمعك تسمع به ما شاء الله أن تسمع في حدود معدودة، وأكثر من ميل أو ميلين ما تسمع الصوت أبداً، وبصرك تبصر به أيضاً مدى محدوداً لا تتجاوزه أبداً، صوتك ترفعه: الله أكبر فينتهي إلى مدى محدود، ما يصل إلى كل مكان، طاقتك البدنية تحمل قنطاراً أو قنطارين وتعجز عن الخمسة والعشرة.فكذلك عقلك يا ابن آدم محدود الطاقة، ما تستطيع أن تدرك كل شيء، فلهذا لا يحل لمؤمن أو مؤمنة أن يفكر في ذات الله؛ لأنه تزل قدمه ويخبط خبط عشواء، ومستحيل أن يدرك ذات الله، فهو خالق العوالم كلها فكيف تدركه أنت؟! فتفكروا في آياته، ولا تتفكروا في ذاته؛ لأنكم عاجزون عن إدراك الذات الإلهية! فـ(الله) اسم علم، فهناك اسم علم، وهناك اسم نكرة، فرجل نكرة، وإنسان، وامرأة، لكن المرأة زينب علم عليها، وإبراهيم علم على رجل، و(الله) علم على ذات الرب تبارك وتعالى.فمن أراد أن يناديه فليقل: يا ألله! يا ألله! وإن شاء قال: اللهم! حذفت ياء النداء لقربه تعالى، وعوضت عنها الميم، فقالت العرب: اللهم، هذه الميم عوض عن ياء النداء، لا تقل: يا اللهم! هذا ما يقوله عربي، كيف تجمع بين الحرفين؟! إما أن تقول: يا ألله، أو تقول: اللهم. فهذه الميم زيدت عوضاً عن ياء النداء؛ لأن الله تعالى قريب، مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] كيف هذا؟ هنا مثال: الشمس حين تطلع وتمشي في إقليم بكامله هي معك أينما كنت، فهل هي في جيبك؟ هل أنت قريب منها؟ بينك وبينها مسافة ملايين الأميال، وهي معك. فالله الذي خلق الكون كله، ويقبض السماوات والأرض بيمينه كل الكون بين يديه، فلهذا استحوا منه يا عباد الله!

    معنى قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو)

    و اللَّهُ [البقرة:255] مبتدأ، فأين الخبر؟ قال تعالى: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255]، كما تقول: إبراهيم، فيقال: ما له؟ تقول: إبراهيم مات، فهل أخبرت أم لا، إبراهيم لا كريم أكرم منه، هل أخبرت عنه أم لا؟ إذاً: الله أخبر عن نفسه فقال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] لا معبود سواه، إذ لفظ: (إله) في لغتهم معناه: المعبود، فكل ما عبد يسمى إلهاً، كل ما عبد، من كوكب، صنم، فرج، حيث عبدوا الفروج، كل ما عبد يقال فيه: إله في لغة العرب التي نزل بها القرآن.وبالمناس ة يذكر أنه كان لأحد العرب إله في واد من الأودية في شعب من الشعاب، صنم، ويأتيه ليتمسح به، يتبرك به، يستغيث، ينذر النذور له ويذبح، جاء يوماً من الأيام فوجد ثعلباً قد رفع رجله ووضعه على كتفه يبول عليه! لأن الذئاب والثعالب إذا أراد أحدها أن يبول رفع رجله بالفطرة، يضعها على شيء مرتفع، فوضعها على كتف الصنم، فذاك الأعرابي نظر يتأمل، ثم صاح يقول: أرب يبول الثعلبان برأسهلقد ذل من بالت عليه الثعالبولم يرجع إليه إلى الأبد.ولا تعجب؛ فالآن المسيحيون البصراء العارفون طاروا في السماء وزعموا أنهم وصلوا إلى القمر -وكذبوا- والصليب في أعناقهم يعبدونه، هذا الصليب مصنوع من الذهب أو الحديد، أهذا هو الله؟! تعالى عن ذلك علواً كبيراً.يقدسون الصليب كأنه الله، ومن هنا إذا هبطت العقول وخرجت عن فطرتها فلا تعجب، هناك من البشر من يعبدون الفروج! بعيني هاتين رأيت ذلك في مدينة في بلاد الهند، مدينة رزناها للدعوة، وإذا بالدكاكين تبيع الفروج المصنوعة، وإذا بعابد لها يحمل ذلك الفرج من خصيتين وذكر على كتفه ليعبده! عبدوا الصور والتماثيل، فهبطوا، وعبادتهم هذه ناتجة عن الخوف الفطري والفقر الفطري والحاجة الفطرية، ما عرفوا الله، ما عرفوا الطريق إليه، فيزين الشيطان لهم عبادة كوكب أو عبادة شجرة، أو عبادة إنسان أو عبادة حيوان، لفقرهم وحاجتهم ولجهلهم، وإذا تمكنت تلك العبادة فما يريدون أن يتخلوا عنها ويرفضوها.وحارب الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين سنوات حتى هدأت الحرب وهم يصرون على عبادة الأصنام! إذاً: كل ما عبد من دون الله يسمى إلهاً، وهو إله باطل، والله! لا يوجد إله حق إلا الله؛ لأن الذي تخضع له وتذل، وتحبه وتتطامن بين يديه، وتعفر وجهك في التراب يكون قد أسدى إليك وقدم أعظم ما يقدم إليك، أوجدك من العدم، وهبك حياتك كلها، وهبك كل شيء أنت فيه وعليه، هذا الذي تذل بين يديه وتخضع وتبكي وتستغيث به وتسأله، أما المخلوق مثلك فكيف ترفعه إلى مستوى الإله وتعبده؟! بأية شبهة؟!إذاً: الله جل جلاله أخبرنا عن نفسه فقال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] أي: لا معبود بحق إلا هو، فكل ما عبد من دون الله كالملائكة والأنبياء والرسل والأولياء والكواكب والأحجار والأشجار والبشر، كل تلك المعبودات باطلة، ما خلقتك ولا رزقتك، ولا دبرت حياتك، فكيف تعبدها؟ كيف تذل وتخضع بين يديها وتقدسها وتجلها؟ هذا ظلم. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] معشر المستمعين والمستمعات! ما معنى لا إله إلا هو؟ أي: لا يوجد في العوالم العلوية ولا في السفلية من يستحق أن يعبد بأن يدعى ويستغاث به، ويتملق إليه ويتزلف بذكر أسمائه، بطاعته في أمره ونهيه؛ لا يوجد إلا واحد هو الله تعالى. وله تسعة وتسعون اسماً أيضاً، هذا واحد منها: ( إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً ) هذا الذي نزل به القرآن، وبينه الرسول الكريم، وقد تكون له أسماء أخرى يعلمها هو أطلع عليها من شاء من أنبيائه ورسله، وقد أشار إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: ( أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي وغمي ).


    معنى قوله تعالى: (الحي القيوم)

    قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] اسمان عظيمان، الحي أصله: الحيي، كالحرير، فسكنت الياء وأدغمت في الياء، فصارت: (الحيّ)، ذو الحياة الدائمة التي لم يسبقها عدم، ولا يقع عليها عدم، كل الموجودات مسبوقة بعدم، وتنتهي بعدم، إلا الله فإنه حي دائم الحياة التي لم يسبقها عدم ولا يلحقها عدم، وما عدا الله من الملائكة ومن كل المخلوقات ما كانت موجودة وأوجدها ثم يعدمها.وفي البخاري (باب: كان الله ولم يكن شيء غيره)، وقال للقلم: يا قلم! اكتب فكتب، فلو نعرف الله معرفة حقيقية فإنا سنستحي فقط أن نتكلم باسمه؛ لجلاله وعظمته، فكيف إذاً نجاهره بمعاصيه؟ لكن تدبير الله! فالله تعالى الحي الدائم الحياة التي لا تشبه حياة المخلوقات الموهوبة لهم منه تعالى، حياة لا ابتداء لها ولا انتهاء لها، واقرءوا من سورة الحديد: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3] هو الأول لا أول قبله، والآخر لا آخر بعده، فآمنا بالله! والقيوم: الذي قام بكل شيء، العوالم كلها يدبرها، وهو قائم عليها، ولولا قيوميته لخرب العالم من آلاف السنين، لاصطدمت الكواكب ببعضها واحترق الكون.القيوم الذي أمر الدنيا والآخرة كله هو القيم عليه يديره ويدبره، القيوم بمعنى (القيم)، لكن أبلغ من (القيم)، فهو كثير أو كبير القيومية.

    معنى قوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم)

    اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] لا تأخذه سنة، أي: لا يأتيه النعاس، السنة: مقدمة النوم، وعندنا آية يقول تعالى فيها: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الروم:23] سبحان الله! هذه آية دالة على قدرة الله ووجود الله وعلم الله، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الروم:23] والله! لولا الله ما نمنا، ولا عرفنا النوم ولا كيف النوم، ولولا الله ما استيقظنا أيضاً، فكوننا ننام ونستيقظ هذا من مظاهر تدبير الله وقيوميته على خلقه وعباده، هل يستطيع إنسان أن يقول: سأنام ونام لتوه؟ لا أحد.فالله جل وعز لا تأخذه سنة -أي: نعاس- ولا نوم أبداً، وكل هذه المخلوقات مفتقرة إلى النوم والراحة حتى الحيوانات تنام، هذا الذي ينام ويستيقظ كيف تدعوه مع الله: يا سيدي عبد القادر ! يا مولاي إدريس ! يا رسول الله! يا فاطمة ! يا حسين ! هل أنت تتحدى الله؟ أما تستحي؟! يا شيخ! لا تلمهم فما عرفوا، إي والله ما عرفوا. فمن تنادي؟ أتغيظ الله؟ تؤله مخلوقاً من مخلوقاته، وتقبل عليه بلسانك وقلبك، وتناديه أن يفعل ويفعل؟ كيف يتم هذا؟ يتم بالجهل، لأنهم ما عرفوا، ومن علمهم؟ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، يروى أن أحد الرسل أو الأنبياء سأل ربه: كيف لا تنام يا رب؟! فأمره أن: ضع في كفيك كأساً في يمينك وكأساً في شمالك ملوءين باللبن، ونم، فأخذه النعاس، وفي كل مرة يميل فيتدفق الكأس بما فيه، ثم يملأ فتأخذه السنة فيسقط الكأس من يده! فالذي يدير الكون لو كان ينام فلن يستقر الكون والحياة، سيخرب الكون في يومه الأول.

    معنى قوله تعالى: (له ما في السموات وما في الأرض )

    لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255] هل بلغكم إن إنساناً أو ملكاً يملك المنطقة الفلانية في العالم؟ و(ما) اسم موصول يشمل هذا اللفظ كل كائن، أي موجود في السماوات أو في الأرض هو ملك لله، إذ هو خالقه ومدبره ومالكه، وغير الله لا يملك.إذاً: كيف تدعون غير الله؟! أنت تعرف أن إبراهيم أو عثمان أو عبد القادر لا يملك شيئاً وتدعوه وتناديه؟ هل أنت مجنون؟ تأمل. هل آمنتم بأن لله ما في السماوات وما في الأرض أم لا؟ فإذا كان هو المالك لها وهي بيده؛ فهل يجوز طلب شيء منها من غيره؟! لا يجوز، أنت تمر بحديقة أو بمنزل وترى فيه ما فيه من الطعام والشراب؛ فإذا كان صاحبه موجوداً وتراه فاسأله؛ لأنه يملك، وإذا مررت بآخر وصاحبه غير موجود فقلت لآخر: يا إبراهيم! أعطني. فسيقول: أنت مجنون؛ هذا ما هو ملكي أنا، ما هو بستاني ولا مالي! وأوضح من هذا أن يأتي الإنسان إلى خربة ما فيها سكان ولا أحد ويلزم الباب: يا أهل البيت! يا أهل الدار! أخوكم من ثلاثة أيام ما طعم ولا شرب، أغيثوني! فإذا مررت به أنت تضحك أم لا؟ ما هو واجبك؟ تقول: يا عبد الله! هذه خربة ما فيها أحد، لا امرأة ولا رجل ولا طعام ولا ماء، اذهب إلى دار أهله موجودون فيه. ومع هذا يمر بنا إخواننا وهم يستغيثون بعبد القادر وفلان وفلان ونحن ساكتون، فلنقل لهم: إن هذا ما يعطيكم شيئاً، اسألوا الله، استغيثوا بالله، أنتم تغيظون ربكم وتغضبونه عليكم، من يعطيكم؟ وهذا هو واقع أمة الإسلام من ثمانمائة سنة، يجده يدعو صاحب قبر فما يغضب! قل له: ارفع كفيك إلى ربك، توضأ وصل بين يديه واسأله، أما صاحب هذا الضريح أو القبر فما يعطيك شيئاً.والله! لو كان في الإمكان إجراء عملية اختبار لقلنا: ابعدوا الهيئة والعسكر من حول الحجرة، فإذا لم تروا إخوانكم من الشرق والغرب يركعون ويتمسحون ويبكون ويستغيثون فاذبحوني الآن، مع ما انتشر من الوعي والسلفية والتوحيد! إذاً: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255] من الكائنات كلها، مياهها وأنهارها وذهبها وفضتها، وكل ما فيها؛ فمن أراد أن يسأل فليسأل الله، فلا تمل إلى عزى ولا مناة ولا عائشة ولا مريم ولا عيسى، فالله تعالى له ما في السماوات وما في الأرض من كل الخيرات، فمن نطلب إذاً؟ نطلب إبراهيم؟! لا يملك، نطلب من محمد صلى الله عليه وسلم؟! لا يملك، من نطلب؟ الله.

    ضلال المتجهين إلى عبادة غير الله تعالى

    في غزوة ثقيف التي غزاها الرسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح بعدما دخلوا مكة في السنة الثامنة استراحوا يومين أو ثلاثة، وبلغهم أن ثقيف تتجمع لحربهم، ولما خرج القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم وإذا بمسلمي أمس ومن ثلاثة أيام مروا بشجرة كان المشركون يعلقون نبالهم وسيوفهم ورماحهم عليها ثم يغزون، يتبركون بها، فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط! أي: ننيط بها سلاحنا للبركة ونحن غازون! فتعجب الرسول وقال: ( ما زدتم أن قلتم كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] ). لما نجى الله موسى وبني إسرائيل من فراعنة مصر وخرجوا وشق لهم البحر وقطعوه وصلوا إلى الأرض، وإذا بقرية على الساحل أهلها مشركون يعبدون عجلاً، فقالوا: يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] سبحان الله! هذه الآيات التي شاهدتموها، والانتصار الذي تم بفضل الله علينا وتقولون: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة؟! إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]. فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر المؤمنين الجدد بأنهم ما زادوا أن قالوا كما قال بنو إسرائيل، وإلى الآن المسلمون يتبركون بالأشجار، والمملكة هي الوحيدة التي قطعت الأشجار وهدمت القباب وهدمت كل ما يعبد مع الله، والناس يتحمسون ويتغيظون يدعون عليهم بالهلاك،كل الخرافيين هكذا! ومنذ ثلاث وعشرين سنة أيام كان الدرس في باب المجيدي جاء شاب وقال لي: والله! إنه لتوجد شجرة تعبد في المدينة، سبحان الله! فقلنا للطلاب: هيا باسم الله. فمشى مجموعة وانتظروا وإذا بأولئك الفقراء يعكفون عليها ويدعونها ويتبركون، فقطعوها، ولما قطعوها ضجت النساء بأعلى أصواتهن بالبكاء! هذا في المدينة، فكيف ببلد ما فيه من قال: هذا باطل؟ تبنى القباب وترفع، هذا قبر سيدي فلان الولي! وهذا كله كما قال موسى عليه السلام: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138] الجهل هو السبب، والله! لولا أن علمنا الله لكنا كآبائنا وإخواننا، وإلى الآن الذي لا يتعلم لن يكون إلا مثل آبائه وأجداده. لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255] هل هناك قطعة لآخر؟ هل هناك حبة عنب لآخر؟ لا يسأل إلا الله.


    معنى قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)

    ثم قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] اجعل الجن والملائكة والبشر يعقدون مؤتمراً لعلهم يعثرون على من يشفع بدون إذن الله؟ والله! لا جبريل ولا ميكائيل ولا إسرافيل، ولا أي كائن يستطيع أن يشفع بدون إذن الله.وهذا الاستفهام للتعجيز؟ هو للنفي المطلق، (من ذا الذي؟!) لا أحد يشفع لأحد لينقذه أو ينجيه أو يكرمه إلا بإذن الله.والمشركون كانوا يعبدون أصنامهم تحت شعار: أنها تشفع لهم عند الله. واقرءوا إن شئتم من سورة الزمر: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:1-3] ما نعبدهم لأي غرض آخر، إلا ليقربونا إلى الله عز وجل فيقضي حوائجنا.والآن عبدة القبور يقول لك: أنا ما أعبد سيدي، لكن نستشفع به فقط! كيف تعبده؟ ماذا تقول؟ يقول: يا سيدي! أنا بين يديك، أنا كذا، اسأل الله لي، افعل لي كذا، وهذه هي العبادة! فما هي العبادة سوى اطراحك بين يدي الله، وسؤاله حاجتك.

    أنواع شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

    إذاً: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [البقرة:255]؟ فقل: لا أحد ولا تتردد، وهنا الشفاعة العظمى فاز بها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وقد استعرضنا مواقف عرصات يوم القيامة، وشاهدنا أنه ما من رسول إلا يقول: عليكم بفلان، وحين يأتون النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( أنا لها ) ؛ لسابق علمه بذلك، إذ جاء من سورة الأسراء: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79].فأي مقام محمود يحمده أهل الموقف أجمعين عليه؟ هو أن يشفع لهم عند الله ليقضي بينهم فقط، ليحكم، طال الزمان وطالت المدة، خمسون ألف سنة وهم وقوف.ولا يقول: يا رب! لقد وعدتني فاقض بين عبادك، بل قال: ( فآتي فأخر تحت العرش ساجداً، ويلهمني ربي محامد، ولا أزال أحمده وأثني عليه بها حتى يقول: أي محمد! ارفع رأسك، واسأل تعط، واشفع تشفع ) ثم يأخذ الله عز وجل في فصل القضاء ليحكم بين الناس، هذه الشفاعة العظمى صاحبها واحد؟ من هو هذا؟ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك شفاعات للرسول صلى الله عليه وسلم غير، ومنها -وهي أعظم شفاعة- أن يخرج من دخلوا النار من أهل التوحيد، يشفع لهم فيخرجهم الله من النار.وهناك شفاعة أخرى أنه يقدمك على غيرك في حسابك وجزائك، وشفاعة ليرفعك إلى مستويات ما كنت تصل إليها، يسأل الله عز وجل فيعطيك.

    شروط شفاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة

    وما عدا النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أحد أن يشفع لآخر إلا بشرطين: الأول: أن يأذن الله له بالشفاعة، يا عبدنا فلان! أنت من حفظة القرآن التالين له في الليل والنهار، اشفع في أمك خديجة، فيقول: يا خديجة شفعنا لك بابنك هذا إلى الجنة.ثانياً: أن يكون الله قد رضي عن المشفوع له بأن ينزل بجواره، وإذا لم يرد الله أن ينزل هذا في الجنة فما تنفع الشفاعة، واقرءوا الآية الموضحة: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ [النجم:26] من الشفعاء وَيَرْضَى [النجم:26] عن المشفوع له.لو أذن الله لمؤمن أن يشفع في أربعين من أهله ومن بينهم من كان عدواً لله والله لا يرضى جواره فما تقبل شفاعته.إذاً: شرطان رئيسان لا ننساهما، الأول: لا شفاعة إلا بإذنه، إن أذن اشفع، ولن تشفع إلا لمن يحب، لا كما تحب أنت، على شرط: أن يكون الله راضياً عنه أن يدخل الجنة، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، لكن آية النجم واضحة: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26].وهذا إبراهيم الخليل في عرصات القيامة كما تبينا وعلمنا يقيناً بأخبار أبي القاسم الصحيحة، إبراهيم في ساحة فصل القضاء يقول: أي رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أخزى من هذا؟ فيقول له الرب تبارك وتعالى: يا إبراهيم! انظر تحت قدميك، فينظر فإذا بأبيه آزر في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيوح! فيصرخ إبراهيم ويقول: سحقاً سحقاً! فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في أتون الجحيم، والخليل يقول: سحقاً سحقاً.وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرَد عن حوضه جماعات من أمته، يدفعون عن الحوض، فيقول: رب! أصحابي! رب! إخواني! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول: سحقاً سحقاً. والقضية عند أهل الحلقة واضحة كالشمس، فقد صدر حكم الله جل جلاله وعظم سلطانه على الأبيض والأصفر، على الأول والآخر، أنه لا يدخل الجنة ألا من زكى نفسه وطهرها بالإيمان وصالح الأعمال، وأبعدها عما يدسيها من الشرك والمعاصي، إذ أقسم الجبار قسماً لم نر غيره مثله في القرآن، اسمع هذا القسم: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8] أي قسم أعظم من هذا؟! على الحكم التالي: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، كن ابن من شئت، أو أباً لمن شئت، لا ينفعك نسب أبداً، وإنما هل عملت على تزكية نفسك أم لا؟ فإن أهملتها واشتغلت ببدنك فأنت من الخاسرين، لا ينفعك نبي ولا ملك ولا عمل. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] كيف يزكيها؟ يطيبها، يطهرها، وَقَدْ خَابَ [الشمس:10] ما معنى خاب؟ خسر، خسر الجنة ونزل في دار البوار النار. هذه الآية الذين عرفوا معناها يتحاشى أحدهم أن يقول كلمة سوء تدسي نفسه، أو ينظر نظرة محرمة حفاظاً على زكاة نفسه وطهارتها، فإذا جاء ملك الموت وأعوانه يبشرونه فيستبشر: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (25)
    الحلقة (32)




    تفسير سورة البقرة (121)


    من عقيدة المؤمن الصادق أن يؤمن بعرش الرحمن الذي تحمله الملائكة، وأن هذا العرش فيه الكرسي، وهو في العرش كالحلقة الملقاة في فلاة، ورغم ذلك فهو أوسع من السماوات والأرض، بل إن السماوات السبع لا تتجاوز حجم الدرهم في وسط الترس بالنسبة للكرسي، ومع ذلك فإن الله مطلع على خلقه، محيط علمه بهم، لا تعزب عنه مثقال ذرة في السماوات أو في الأرض، فتبارك الله الملك الحق المبين.

    تابع تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليالي ندرس كتاب الله جل جلاله وعظم سلطانه، وها نحن مع آية الكرسي وبعدها آيتان. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:255-256].

    عظمة آية الكرسي وفضل قراءتها

    معاشر المستمعين! آية الكرسي عرفنا أنها أعظم آية في كتاب الله، ولعلكم تذكرون ذلك السؤال من رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بن كعب ، وكان من حفظة القرآن، فقال له: ( أي آية في كتاب الله أعظم يا أبا المنذر ؟! قال: آية الكرسي، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر ! ). وعرفتم أن آية الكرسي من واظب عليها وحافظ على قراءتها بعد كل صلاة فريضة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أنه ما مات، المانع له الموت، لو جاء لدخل الجنة، وهذا الحديث حسن وعمل به الصالحون، ولن يكون من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يقول هذا إلا من يوحى إليه ويتلقى العلم من ربه.

    أسماء الله تعالى الحسنى وكيفية إدراك الاسم الأعظم

    وقوله تعالى في الجملة الأولى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] مقتضى الخبر: أن الله تعالى أخبرنا عن نفسه أنه لا إله إلا هو، وعرفنا أن لفظ الجلالة (الله) علم على ذاته عز وجل، إذ كل ذات يوضع لها اسم تعرف به، ما ذات من الذوات حتى في غير الأحياء إلا ولها اسم، كشجرة الزيتون، لا بد من اسم تعرف به.فالله عز وجل له مائة اسم إلا اسماً واحداً، وأعظمها: (الله)، وقد ورد وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من سأل الله باسمه الأعظم لا ترد له دعوة، وأخفى الله هذا من أجل أن يدعوه عباده بكل أسمائه، إذ لو عرف المسلمون الاسم الأعظم لتركوا الدعاء بكل الأسماء، ولم يأخذوا إلا بالاسم الأعظم.ونظير هذا الساعة التي في يوم الجمعة، لا يوافقها عبد يصلي فيسأل الله تعالى فيها شيئاً إلا أعطاه، هذه الساعة لم تضبط، هل هي بعد العصر، هل هي بعد الظهر، هل هي في الضحى؛ من أجل أن يطلبها الراشدون والراغبون في الخير، يطلبونها في كامل النهار، إذ لو ضبطت أنها بعد العصر بساعة لظفر بها كل الناس، وسيعطلون الوقت الآخر من العبادة.ونظير هذا ليلة القدر، ليلة القدر هذه الليلة خير من ألف شهر، من أقامها من أولها إلى آخرها كأنما عبد الله بثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، عمر كامل، أضاف إلى عمره عمراً آخر، وإذا ظفر بها في كل رمضان صامه فمعناه: أنه أصبحت له أعمار، إذ ورد في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم تقالَّ أعمار أمته من الستين إلى السبعين، والأمم السابقة يعيش أحدهم ثمانمائة سنة، خمسمائة سنة، سبعمائة، فأعطاه الله هذه الليلة، نصوم رمضان ونقوم ليله كل عام فيسجل لنا ثلاث وثمانون سنة، يصبح أحدنا إذ صام أربعين أو خمسين رمضان وشهد ليلة القدر قد صار له آلاف السنين من عمره!

    استحقاق الله تعالى العبادة وحده


    إذاً: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255] هل عرفنا معنى: لا إله إلا هو؟ معناها: لا معبود بحق يستحق أن يعبد إلا الله؛ لماذا؟ هل هذا احتكار، هل هذا تحجير، هل هذا تعصب؟ الجواب: لا؛ إذ لا يوجد من خلقنا وخلق الحياة لنا إلا هو، فلا يعبد إلا هو، فلا معبود بحق إلا هو، وهذا الحق الذي يستحق به العبادة هو أن يكون قد خلقني، وخلق هذا الكون من أجلي، حينئذ إذا كان أحد شارك الله في الخلق والإيجاد فلا بأس أن يشركه في عبادته، لكن بالاستقراء والتتبع والنظر لا تجد من خلق مع الله بعوضة فضلاً عن جمل أو إنسان، فهل من خالق غير الله؟ لا أحد.فلما كان هو الخالق لنا، والرازق لنا بإيجاد الغذاء الذي نعيش عليه، والهواء الذي نستنشقه، والماء، وعناصر الحياة هو خالقها؛ فكيف يعبد معه غيره؟ بأي حق؟! فلهذا ارفع صوتك -ولن تنقض كلمتك- وقل: لا إله إلا الله، ومن ادعى غير ذلك فليتفضل ليأت بأدلة تثبت أن غير الله إله مع الله!فمن ادعى أن عيسى عليه السلام هو الله تعالى؛ قيل له: كان الله ولم يكن عيسى، ثم رفع إلى السماء، فتبقى الحقيقة أنه: لا إله إلا الله. أما قولنا: بحق؛ فلأن الآلهة المعبودة لا حق لها، عبدت الكواكب في السماء، عبدت المياه في الأرض، عبدت البشرية، عبدت حتى الفروج كما قدمنا، لكن معبودات بدون حق، بدون موجب، بدون شرع ولا قانون، تدفن الميت وتبني على قبره وتعبده؟ أنت الذي دفنته، فكيف تناديه وتستغيث به وتسأله حاجتك؟ إذاً: تقرر بقوله: لا إله إلا هو أنه لا ينبغي أن يعبد مع الله أحد، واصرخ بها وصرح: لا إله إلا الله!

    حياة الله تعالى الكاملة وقيوميته على خلقه

    وقوله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] سائر أنواع الحياة هو واهبها، حتى حياتي هذه هل أنا أوجدتها؟ من أهدانيها وأعطانيها غيره؟ كل حي بيننا وفينا وفي العوالم العلوية والسفلية من وهبه حياته؟ إنه الله.إذاً: فما دام يهب الحياة ويعطيها فلن يكون إلا حياً، وهل ميت يعطي شيئاً؟ وحياته تختلف عن حياة مخلوقاته، فهو الحي حياة لم يسبقها موت، فنحن قبل مائة سنة ما كان واحد منا موجوداً، حياة الله حياة كاملة تامة، لا تسبق بعدم، ولا يأتي بعدها أو يلحقها موت وانقطاع، هذه هي الحياة الحقة. والقيوم: القائم على كل الأكوان، يديرها ويدبرها، يحيي ويميت، يعطي ويمنع، يرفع ويضع، كل الكون من يديره؟ من يقوم عليه؟ الله. فهل عثرت البشرية على قيوم مع الله يدير كوكباً فقط في السماء؟ فهو تعالى الحي الدائم الحياة، القيوم على كل المخلوقات، لولا قيوميته لارتطمت الحياة وتمزقت من آلاف السنين!

    انتفاء السنة والنوم عن الله عز وجل

    ثالثاً: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] فلهذا هو تعالى منزه عن صفات المخلوقين، لا تأخذه سنة يعني: نعاس، مقدمة النوم، إذ لو كان ينام لخرب العالم.إذاً: بهذا أصبح الإله الحق، ومن عدا الله ينام وتأخذه السنة، فليس -إذاً- كمخلوقاته.

    اختصاص الله تعالى بملك ما في السموات والأرض

    رابعاً: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255] هذه اللام لام الملك، فهذا المسجد لمن؟ لله، وتلك السواري لمن؟ لله، له ما هو موجود في السماوات والأرض، فهذا البيت الذي تملكه كنت أنت ولم يكن، وسوف تموت وتتركه، فمن مالكه إذاً؟ الله تعالى. لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255] ومعناه: أيها الطماعون! عليكم بالله، اطمعوا فيما عنده؛ لأنه يملك، أما أن تطمع في مخلوق وتقول: أعطني عمارة، وابن لي داراً؛ فإنه لا يستطيع، لا يملك هذا، ومن هنا يجب على القلوب كلها أن تتجه نحو الله، نقف نسأل بالبلايين من البشر وكلمتنا كلها: اللهم، ما هناك إلا هو؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض من الذرة إلى المجرة، إلى السماوات السبع إلى دار السلام، لا يخرج شيء عن ملك الله سبحانه وتعالى، كل شيء مملوك لله تعالى.فمن أراد شيئاً فليتملق إليه وليتزلفه، يناديه بأسمائه وصفاته، يسجد له بين يديه، يكثر من ذكره، هكذا حتى يسترضيه، أما غير الله فلا يملك شيئاً.له ما في السماوات من كائنات وما في الأرض من نباتات وحيوانات ومياه وجبال، الكل له، فلا تطلبن -بني- شيئاً من غير الله، فإنه لا أحد يملك شيئاً إلا الله.

    امتناع الشفاعة يوم القيامة بغير إذن الله تعالى


    خامساً: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]؟ الجواب: لا أحد، فهذا الاستفهام بمعنى: النفي، وهنا نكرر الكلام في الشفاعة لنكون منها على علم.الشفاعة بمعنى: الوساطة، فلان يشفع له فلان عند الغني الفلاني أو الحاكم الفلاني ليقضي حاجته، يشفع نفسه بآخر، يصبح شفعاً أو زوجاً.ينفي تعالى أن يكون يوم القيامة من يشفع في أبيه أو أمه أو أخيه أو قريب أو بعيد بدون إذن الله تعالى نفياً كاملاً، والله العظيم! لا يوجد من يشفع يوم القيامة في أي كائن بدون أن يأذن الله له.والعوام يقولون: يا رسول الله! الشفاعة، اشفع لنا يا رسول الله. وهذا السؤال باطل، اسألوا الله: اللهم شفع فينا نبيك، اللهم اجعلنا ممن يشفع فيهم نبيك. أما أن تقول: يا رسول الله! الشفاعة؛ فهو لا يملك هذا.

    شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم

    وقد ذكرنا الشفاعة العظمى، وتقرر عندنا أنها لا يستطيعها أحد من الأنبياء والرسل سوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد امتنع عنها آدم، وامتنع عنها نوح، وامتنع عنها إبراهيم، وامتنع عنها عيسى، ولما انتهوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قال: ( أنا لها! )، فكيف عرف أنه لها؟ لأن الله تعالى أعلمه، جاء من سورة بني إسرائيل أو الإسراء قول الله تعالى له: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] رجاء أن يبعثك ربك مقاماً محموداً، و(عسى) من الله تفيد التحقيق، فمن هنا فحين تأتي البشرية تطلب إليه أن يشفع لها يقول: ( أنا لها )، لكن كيف شفع؟ قال صلى الله عليه وسلم: ( فآتي تحت العرش فأخر ساجداً، ويلهمني ربي تعالى محامد لم أكن أعرفها، فيقول لي: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع )، فماذا تسمى هذه الشفاعة؟ تسمى الشفاعة العظمى لفصل القضاء والحساب بين البشرية وهي في صعيد واحد، ثم ورد أن أهل القرآن حفظته العاملين به يشفعون في أقربائهم، يأذن الله لهم، وعرفنا أن شهيد المعركة يشفعه الله فيمن شاء، ويشفع الأنبياء والرسل والصالحين، لكن كيف يشفعهم؟ هل يأتي سيدي عبد القادر يقول: يا رب! هؤلاء مريدي وإخواني، أدخلهم الجنة؟! والله! ما يستطيع أن يتكلم، ومن يقوى على أن يتكلم؟ إذاً: إذا أراد الله عز وجل إكرام عبده قال: يا فلان! اشفع في فلان، وفلان المشفوع له كان قد رضي عنه، وقبله في جواره، وإنما ليرفع من مقدارك ويعلي من قيمتك، فيقول لك: اشفع في فلان، وهو قد رضي به أن يدخل الجنة.والآية التي توضح هذا من سورة النجم: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ [النجم:26] أن يشفع وَيَرْضَى [النجم:26] في المشفوع له، هذه القاعدة، لا يستطيع أحد في عرصات القيامة أن يقول: هذا أبي يا رب فأدخله الجنة، أو: هذه والدتي البارة الصالحة أدخلها الجنة، فيقول الله تعالى: نعم. وإنما الله تعالى هو الذي يمن على عبده الصالح، فيقول: أي عبدي! اشفع في فلان وفلان وفلان، أو أخرج أباك من النار، عطاء الله وفضله، إلا أن الشافع هذا له درجة ومنزلة، فلو لم يكن من أولياء الله وصالحي عباده لما يشفع.والشفاعة النبوية المحمدية متعددة: يشفع في أناس دخلوا النار فيخرجون من النار ويدخلون الجنة بإذن الله تعالى، ويشفع في أناس درجتهم هابطة، يشفع فيهم فيرتفعون درجات عالية، فللنبي صلى الله عليه وسلم شفاعات أكرمه الله تعالى بها، نسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء.أما أنت فمن الجائز أن تكون عبداً صالحاً، ويشفعك الله في أمك؛ لأنها كانت مؤمنة بارة صالحة، ونقص ميزانها؛ فيشفعك فيها فتشفع، فتقول: أمي! ادخلي الجنة. أذن الله لك؛ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]؟ الجواب: لا أحد.

    معنى قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)


    ثامناً وتاسعاً: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255] من هم هؤلاء؟ الكائنات كلها يعلم ماضيها ومستقبلها وحاضرها، أنا الآن قد أعرف ما أمامي، لكن ما ورائي لا أعرفه، الآن لا أدري ما ورائي، فعلم الله يحيط بكل الكائنات، ما هناك جانب ما يرى الله فيه أحداً حيث يكون بإمكانك أن تختبئ فيه، يعلم ما بين يدي خلقه وما خلفهم، بمعنى: لا يعزب عنه مثقال ذرة، لا تفكر أنك تختفي عن الله، أو تخفي شيئاً.هذه الجملة فاصلة في هذا الباب، إذاً: فانتبه، ولا تحاول أن تخفي شيئاً من أعمالك عن الله عز وجل، بخلاف الآلهة الأخرى المعبودة، فإن علموا ما في اليوم فإنهم لا يعلمون ما في غد، إن يعلموا ما أمامنا فإنهم لا يعرفون ما وراءنا، فكيف يعبدون مع الله ويؤلهون؟ هذه آية الكرسي: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ [البقرة:255] وإن قل مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، نحن الآن نعلم شيئاً كثيراً بإذنه، هو الذي علمنا سورة الفاتحة فحفظناها، علمنا هذه الآية فتلوناها، علمنا كيف نغرس الشجرة، أو كيف نحصد الزرع، فهو عز وجل أحاط بكل شيء علماً، وعباده من الملائكة والإنس والجن لا يحيطون بشيء -وإن قل- من علمه إلا بما شاء هو أن يطلعهم عليه ويعلمهم إياه، أما استقلالاً فلا والله.

    معنى قوله تعالى: (وسع كرسيه السموات والأرض)

    عاشراً: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] من أهل العلم من يقول: وسع علمه السماوات والأرض. ولا داعي إلى هذا التأويل، لو كان النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذا وقال لأصحابه أو لـعلي أو لـفاطمة أو لـعائشة مثلاً: كرسي الله علمه؛ لقلنا: آمنا بالله، لكن ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر الكرسي بالعلم فكيف نقول: وسع علمه السماوات والأرض؟ نعم يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255].فالكرسي يقول فيه عبد الله بن عباس تلميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: لو أخذنا السماوات السبع ومزقناها وألصقنا قطعة بقطعة والأرضين كذلك وأصبحت رقعة واحدة، ووضعنا الكرسي عليها لما وسعته! آمنا بالله. وأما العرش فسرير الملك، فنسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، ولكيلا تندهش أقول: أغمض عينيك وفكر في أنك هابط إلى الأسفل، فبعد مليون سنة إلى أين تصل؟ تقول: لا أشعر، ما أعرف، ولولا أن العرش فوقنا لقلنا: وبعد العرش ما هو أيضاً؟ فحالنا كحال جنين في بطن أمه، فلو تتصل بهذا الجنين وتقول: أيها المسكين! أنت في ظلمة، أنت في ضيق، فلو خرجت من بطن أمك؛ لكان يقول: هاه! ويسخر منك، يقول: أين هذا؟ الدنيا كلها في ذلك الرحم، لا يرى إلا ذلك، فنحن الآن محصورون في هذه الكرة كأننا في رحم، لا نشاهد الانطلاقة الواسعة إلا إذا فاضت أرواحنا.فمن هنا قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، والكرسي ليس مثل هذا الذي أنا جالس عليه ونسميه كرسياً، هذا ليس المراد بقول الله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ [البقرة:255]، إنما قالت العلماء: قال أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم: الكرسي موضع قدمي الملك، السرير يجلس عليه الملك ويدلي رجليه، فيوضع له كرسي يضع قدميه عليه، فبهذا فسر ابن عباس الكرسي: موضع القدمين، هو على عرشه سرير ملكه، ويضع قدميه على ذلك الجزء المسمى بالكرسي.والعرش: السرير، كما قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وقد كان الله ولم يكن شيء، فيا عبد الله! أين يذهب بعقولنا؟! كيف نحصر هذه العوالم وما وراءها؟ عجزت العقول عن التفكير والإدراك، طاقاتنا محدودة، ما نستطيع أن ندرك إلا ما أعطانا الله القدرة عليه، فقد قلت: صوتك أنت كم ميلاً تسمع به؟ بصرك كم ميلاً تبصر به؟ عقلك كذلك يدرك أشياء ويعجز عن غيرها، وهناك أشياء ما نبصرها وهي معنا كالهواء؛ لضعفنا وعدم قدرتنا، إذاً: لا يسعنا إلا أن نقول: آمنا بالله .. آمنا بالله! ونمسك بلحانا إن كان لنا لحى، فيا أيها الحالقون من أبنائنا! أعفوا لحاكم، ائتسوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت لكم أنه لما كان جالساً يعلم أصحابه أوحي إليه ( أن رجلاً من بني إسرائيل كان يركب على بقرة )، والبقرة عندنا نحن الفلاحين ما نركب عليها، نحرث عليها أو نسقي بها الماء، ( فرفعت رأسها إليه وقالت: ما لهذا خلقت! فلما وصل الخبر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بلحيته فوراً وقال: آمنت به، آمنت به، آمنت به ). بقرة تنطق وتقول لراكبها: ما لهذا خلقت! فقد خلقت للحرث والسقي لا للركوب عليها، وكان أبو بكر وعمر غائبين عن المجلس، فقال: ( وآمن أبو بكر وعمر ) ثقة في إيمانهما، وهو كذلك.


    معنى قوله تعالى: (ولا يئوده حفظهما)

    وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255] ما معنى: ولا يئود الله حفظهما؟ أي: لا يثقله ولا يعجزه حفظ السماوات والأرض، لولا أنه حافظ لهما لتبخرتا من ملايين السنين، هذه الشمس كم لها؟ لم ما تبعثرت وثقلت وهي نار، لم ما احترقت وشاهدنا الدخان يملأ الكون؟! إذاً: ولا يثقله أو يعجزه حفظ السماوات والأرض، الكل محفوظ بحفظه عز وجل، فأبشروا؛ فمن مات منكم ودخل الجنة فسوف يرى وجه الرحمن عز وجل؛ لأن الأبصار يومئذ ليست كهذه المخلوقة خلقاً مؤقتاً لخمسين وسبعين وثمانين سنة وتعمى، بل مخلوقة خلقاً أبدياً، فلهذا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وجوه يومئذ مشرقة، إلى ربها ناظرة، يزيل الحجاب عن وجهه، ويسلم عليهم، واقرءوا من سورة يس: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] ما هو بسلام بالكتاب والواسطة، سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، ولم يذق أهل الجنة طعاماً ولا شراباً يدخل عليهم سروراً وبهجة كسرور نظرتهم إلى وجه الله عز وجل، يغمرهم فرح لا حد له لرؤية الله عز وجل.

    معنى قوله تعالى: (وهو العلي العظيم)

    وأخيراً يقول تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] هل هناك من هو أعلى من الله؟ والله! ما كان، هو العلي الأعلى، والخلق كله دونه، وهو العظيم، وكيف تعرفون عظمة الله؟إنه إذا تكلم الله بالكلمة فإن الملائكة يغمى عليهم، مع أن منهم جبريل الذي سد الأفق بأجنحته! واقرءوا قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] هذه جاءت تعقيباً على آية الشفاعة: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]. حيث يقول تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سبأ:22] تفضلوا، اسألوهم المال والولد والحياة الطويلة. لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:22]، والذي لا يملك مثقال وزن ذرة هل تقول له: أعطني ولداً، أو زوجني امرأة، أو رقني في وظيفة؟! لا يملك مثقال ذرة، والله! لا يملكون مثقال ذرة، إذاً: ما الفائدة من دعائهم؟ أنلعب؟ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ [سبأ:22]، وليس لآلهتكم من شرك مع الله لا بالخمس ولا بواحد في المائة ولا بواحد في المليون أبداً، لا يوجد إله من آلهة الباطل يملك بالشركة مع الله ولو بواحد من مليار، إذاً: كيف نطلبهم، من أين يعطوننا؟ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22]، هذه أخرى: لا يوجد من الآلهة المزعومة من هو ظهير لله يستعين الله به أو يعتز به أو يساعده أو يقوم معه فيجوز له حينئذ أن يشفع لنا عنده، وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22] من معين كوزير وما إلى ذلك، فكيف ندعوهم إذاً؟ثم قال تعالى: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23].

    وقفة مع آيات سورة سبأ العائبة على المشركين دعوتهم آلهتهم

    هذه الآيات ينبغي أن نعنى بها، هذه من سورة سبأ بين الأحزاب وفاطر اسمعوها وتأملوا، وفيها يقول تعالى وقوله الحق: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، نحن منهم إن شاء الله، وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ [سبأ:21] ما ساق الناس إلى المقاهي بالعصا، اعلموا أن الشيطان لا يملك قوة يدفعك بها إلى المعصية، والله! ما يستطيع، ما هو إلا الوسوسة والتزيين.ونستطر معاشر المستمعين والمستمعات فنقول: إبليس عليه لعائن الله في جهنم يخطب خطبة عجيبة، ويوضع له أفخم سرادق ما عرفه الملوك والوزراء، ويجلس عليه ويخطب، وخطبته -والله- بالحرف الواحد عندنا، سبحان الله! من أين أتانا هذا؟ اقرءوا من سورة إبراهيم: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ [إبراهيم:22] وانتهى كل شيء ودخلوا النار، وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ [إبراهيم:22]، وهذه الجملة الأولى، وهو والله صادق، إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [إبراهيم:22] لا قدرة ولا طاقة عندي أبداً، لا عصا ولا شهاب، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22] قلت تعالوا فجئتم تهرعون، إذاً: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22]، وأخيراً: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22] فأنا أستغيث وأنتم لا تغيثونني، وتستغيثون وأنا لا أغيثكم، كلنا في هذا العالم الشقي، إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].فهل سمعتم أن خطبة مسجلة لإبليس تستطيع البشرية أن تحضرها وتأتي بها؟ أتصل عقول البشر إلى هذا؟ فقولوا: الحمد لله على كتابه الذي أنزله إلينا. فإبليس يوضع له سرادق في النار وأهل النار بالمليارات يسمعون الخطبة للزعيم اليوم، وقد سمعتموها بالحرف الواحد.وفي هذه السورة الكريمة -سورة سبأ- يقول تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ:20-21].ثم تبدأ آية الشفاعة: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سبأ:22] الله تعالى يأمر رسوله أن يقول للمشركين: يا معشر المشركين! ادعوا واطلبوا واستغيثوا بمن زعمتم أنهم آلهة من دون الله، ادعوهم.ثم قال لهم: لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:22] كيف ندعو من لا يملك شيئاً؟ أمجنون أنا؟ آتي إلى خربة ما فيها إنسان ولا طعام وأصيح عند الباب: يا أهل البيت! أطعموني؟ فهؤلاء الذين دعوهم يقال لهم: اعلموا أنهم لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:22] فيطعونكم.ثالثاً: وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ [سبأ:22]، وليس لآلهتكم شرك في السماوات أو في الأرض ولا واحد من المائة أو المليار، هل يوجد ولي له شرك في الملكوت، له منطقة خاصة به، أو عنده ربع مع الله أو ثمن أو سدس؟ والله! لا وجود لهذا. وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22] وآلهتكم الذين لا يملكون شيئاً لا يوجد إله واحد منهم الله في حاجة إليه اتخذه وزيراً له أو ظهيراً يستنصر به ويعينه، وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22]، إذاً: كيف تدعونهم؟ لو كانوا يملكون لأعطوكم مما يملكون، لو كان منهم الظهراء والوزراء فسيشفعون لكم، فكيف إذاً تدعونهم؟ بأي حق؟ثم ختم هذا بقوله: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ:23] زال ذلك الرعب، قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، الملائكة تضرب بأجنحتها تخفق ثم تفيق بعد فترة لا ندري كم هي، يقول بعضهم لبعض: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ [سبأ:23]؟ أجيبونا، قَالُوا الْحَقَّ [سبأ:23] وهو قطعاً لا يقول إلا الحق، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23].وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (26)
    الحلقة (33)




    تفسير سورة البقرة (122)


    لما انتشر الإسلام وقويت شوكته صار المسلمون يخشى جانبهم من قبل اليهود والنصارى ممن هم حولهم في الجزيرة، فأراد نفر من المؤمنين إلزام قرابتهم ممن تهود أو تنصر قبل الإسلام بالدخول في الإسلام كرهاً، فأنزل الله عز وجل أمره لهم بعدم إلزام أحد من الكتابيين بالدخول في الإسلام، مبيناً لهم أن الحق واضح وأن الضلال بيّن، وأنه يكفي المؤمنين ولاية الله عز وجل لهم، وافتقار الكافرين إلى هذه الولاية، واستحقاقهم للنار وغضب الجبار.

    قراءة في تفسير آية الكرسي من كتاب أيسر التفاسير

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء يا ربنا ورب العالمين.وها نحن مع هاتين الآيتين الكريمتين من سورة البقرة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:256-257].قبل دراستنا لهاتين الآيتين نقرأ هداية الآية الكريمة التي هي آية الكرسي.

    هداية الآية

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية الكريمة:من هداية الآية:أولاً: أنها أعظم آية في كتاب الله تعالى ]، ولا تتردد في هذا، فهي أعظم آية في كتاب الله عز وجل، [ وقد اشتملت على ثمانية عشر اسماً لله تعالى ما بين ظاهر ومضمر ]، آية واحدة اشتملت على ثمانية عشر اسماً من أسماء الله تعالى، بعضها مضمر وبعضها ظاهر، [ وكلماتها خمسون كلمة، وجملها عشر جمل كلها ناطقة بربوبيته تعالى وبألوهيته وبأسمائه وصفاته الدالة على كمال ذاته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه.ثانياً: تستحب قراءتها بعد الصلاة المكتوبة، وعند النوم، وفي البيوت لطرد الشيطان ].تستحب قراءة آية الكرسي بعد الصلاة المفروضة، وهي الصلوات الخمس، وعند النوم، وفي البيوت، فحين تدخل بيتك اقرأ آية الكرسي فتطرد الشياطين من بيتك، ولن تستطيع بعد قراءتها لطرد الشياطين أن تفتح الفيديو وتشاهد العاهرات يغنين، ما تقوى على هذا، ما تستطيع ما دمت تريد أن تطهر بيتك من الشياطين فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] ترفع صوتك وأنت في بيتك فما يبقى مجال للشياطين أن يدفعوك إلى أن تشاهد عواهر النساء وظلمة الرجال وكفارهم.إذاً: الحمد لله الذي رزقنا هذا النور وجعلنا من أهل آية الكرسي نتلوها دبر الصلوات الخمس، وعند النوم، ونتلوها في البيوت، فالحمد لله.

    تفسير قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ...)

    والآن مع هاتين الآيتين الكريمتين:قال تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] هذا خبر ومعناه: الإنشاء، أي: لا تكرهوا أحداً على الدخول في الدين، كقوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة:233]، خبر ولكن معناه الإنشاء، أي: على الوالدات أن يرضعن أولادهن، جملة خبرية ومعناها إنشائي.

    سبب نزول الآية


    وسبب نزول هذه الآية: أن سكان المدينة النبوية تنصر أو تهود أفراد منهم، فلما دخل آباؤهم وإخوانهم في الإسلام أرادوا أن يكرهوهم بالعصا على أن يدخلوا في الإسلام، وقد أصبحوا يهوداً من فترة أو نصارى، فنزلت هذه الآية الكريمة تقول: لا تكرهوهم على الدخول في الإسلام، إن دخلوا بإراداتهم واختيارهم ورغبتهم فذاك، وإن أبوا إلا اليهودية أو النصرانية فاتركوهم. لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]؛ إذ أنزل الله كتابه ورسوله ونصر دينه وأولياءه وطلعت الشمس واتضح النهار وعرف الحق، إذاً: فما هناك حاجة إلى الإكراه، فالذي يتأمل أصول هذا الدين وفروعه وشرائعه وما يحويه من الهدى والنور يدخل في الإسلام بدون عصا أو كرباج كما يقولون.

    خلاف الفقهاء في شمول الآية الكريمة غير أهل الكتاب

    وهنا اختلف أهل العلم: هل هذا عام في اليهود والنصارى وفي غيرهم من المشركين؟الجمهو ر على أن هذا خاص بأهل الذمة اليهود والنصارى أهل الكتاب، وقد علمتم يقيناً أنه يوجد يهود أو نصارى في بلاد المسلمين ولا يكرهون على الدخول في الإسلام، ولا يؤمرون بصلاة ولا زكاة ولا غسل من جنابة، ولا يسمح لهم بأن يرابطوا في ثغورنا ولا أن يحملوا السلاح معنا؛ لأنهم كالأموات لا قيمة لهم، ميت وتقول له: صل! أين يذهب بعقلك؟ ميت تقول له: زك، لماذا يزكي؟ نفسه خبيثة منتنة بأوضار الشرك والكفر، ما يزكيها شيء ولو أنفق ماله كله.وأما المشركون الكافرون فالجمهور على أنهم يقاتلون حتى يدخلوا في الإسلام، ومالك رحمه الله يرى أنهم لا يلجئون إلى الدخول في الإسلام بالقوة، وقد يؤخذ برأي مالك في بعض الظروف، وهذا خارج الجزيرة، أما قبة الإسلام وبيضته هذه الديار فلا يجتمع فيها دينان ولا يبقى فيها مشرك ولا كافر، وإليكم نص الآية الكريمة التي يفهم منها هذا: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:1-3]، إذاً: أعطاهم فرصة أربعة أشهر: اذهبوا إلى الشرق إلى الغرب أو ادخلوا في الإسلام، فإذا انقضت الأشهر الأربعة وجب قتالكم، أو تدخلون في الإسلام، إذ قال تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]؛ لأن وفاة الرسول أصبحت على الأبواب قريبة جداً، هذه السورة من آخر ما نزل.إذاً: ولا يموت الرسول صلى الله عليه وسلم وفي دار الإسلام كفر وشرك وكافرون ومشركون، أما خارج الجزيرة فالأمر واسع، فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ [التوبة:5]، أعطاهم مدة أربعة أشهر، يلتحق بالأحباش.. يلتحق بفارس.. يلتحق بالروم، يدخل في الإسلام، أما أن يبقى كافراً في دار الإسلام فلا، ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب )؛ لأنها قبة الإسلام وبيضته.

    خطوات ومراحل قتال المشركين

    إذاً: خلاصة ما عرفنا: أن أهل الذمة من اليهود والنصارى لا نكرههم على الدخول في الإسلام؛ لأن الله تعالى قال في هذه السورة من آخرها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [التوبة:123] لبيك اللهم لبيك. قال: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، هذا أمر الله للمؤمنين، ناداهم ثم أمرهم: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، يلون دياركم وبلادكم، قاتلنا الروم في الشام فتصبح حدودنا أوروبا فندخل إليها. ولهذا مثل: بركة أو بحيرة ماء حين تلقي فيها حجراً تنفتح فيها دائرة وتأخذ في الاتساع حتى تصل إلى أطراف ذلك الحوض أو البركة، فهذا النور الإلهي وهذه الرحمة الربانية لا تحرمها البشرية، ومن أجلهم نزلت لأنهم عبيد الله، فلا يصح أبداً أن نتركهم تعبث بهم الشياطين من عقول هابطة وأفكار فاسدة بالظلم والخبث والشر والفساد، ومصيرهم بعد هذا البلاء والشقاء إلى عالم الخلد في عذاب الله أبداً، فرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ما جاءت إلا لإنقاذ البشرية.إذاً: كلما دخل إقليم في الإسلام فحدودنا وراءه، سنعسكر سواء غزونا من طريق البر أو البحر، نعسكر ونراسل أهل الإقليم: تدخلون في الإسلام فتنقذون أنفسكم من الشقاء والبلاء والفتن والهون والدون والظلم والخبث والشر والفساد، وتنقذون أنفسكم من عذاب النار يوم القيامة، فإن قالوا: مرحباً وأهلاً وسهلاً؛ دخل رجالنا ووضعوا محاكم وأخذوا يعلمون ويهدون تلك الأمة، وتمر فترة من الزمن وكلهم أولياء الله، لا كذب.. لا خيانة.. لا خمر.. لا زنا.. لا فجور، كالملائكة.فإن رفضوا نقول لهم: لتسمحوا لنا أن ندخل، نحن نتكلم مع الملك أو الحاكم وجيشه، والأمة المسكينة ما ذنبها، فاسمحوا لنا أن ندخل لتعليم هذه البشرية سبيل نجاتها وسلم كمالها ورقيها، فإن قالوا: لا بأس؛ دخلنا وأخذنا نعلم ونربي ونوجه، ما هي إلا أيام -ولا أقول: أعوام- وإذا بالناس يدخلون في رحمة الله أفواجاً؛ لما يشاهدون من الطهر والصفاء والكمال البشري الذي ما كانوا يحلمون به؛ لأن حاملي هذه الرسالة كالملائكة في صفاء أرواحهم وفي تهذيب نفوسهم وزكاة آدابهم، بالنظر إليهم يجذبونك فتقتدي بهم، ما هي إلا فترة وقد دخلوا في الإسلام.فإن رفضوا فالثالثة: القتال حتى يدخلهم الله في رحمته، فتستقبل الجيوش الجيوش كرة وكرتين ويومين وثلاثة شهر حتى ينهزم الكفر والكافرون ويدخل المؤمنون بصلاتهم بأنوارهم بكلامهم الطيب بعدلهم برحمتهم فيتدفق الناس على الإسلام ويدخلون فيه.فلما غزونا أفريقيا والأندلس والشام والعراق هل هناك من أجبر على الإسلام بالعصا؟ والله! لا أحد أبداً، بل كان ينهزم الجيش الكافر فيدخل المسلمون فيشاهد الناس صلاتهم واستقامتهم وابتساماتهم فيدخلون في رحمة الله، فما لهم الآن لا يدخلون؟ لأنهم ما شاهدوا أنوار الإسلام، لو شاهدوا الطهر والصفاء والرحمة والمودة والإخاء في العالم الإسلامي؛ حيث أمرهم واحد على لا إله إلا الله، وغايتهم واحدة؛ لتدفقوا في بلاد الإسلام ودخلوا في رحمة الله، ولكن -مع الأسف- هم الذين مزقونا وفرقونا وشتتونا وأقعدونا عن الكمال ليحرموا هم أيضاً ويدخلوا جهنم، أيديهم هي التي فعلت بالمسلمين هذا حتى يحرموا من رحمة الله ويعيشوا على الخبث والدمار، وفي النهاية إلى مصير العياذ بالله منه.

    الموقف من أهل الكتاب والمشركين والمرتدين

    إذاً: فنقول: خلاصة القول: أن الجزيرة لا يبقى فيها دين إلا الإسلام، ومن لم يرد الإسلام فليرحل ولييخرج منها، لا يبقى فيها، وأهل الذمة إذا حكمناهم ودخلوا في ظل راية لا إله إلا الله لا يكرهون على الدخول في الدين أبداً، يبقون على مسيحيتهم أو يهوديتهم حتى يشاء الله رحمتهم ودخولهم في الإسلام، والمشركون هل نواصل قتالهم ولا نقبل لهم ذمة ولا يبقون في ذمتنا؟الجمهور على ذلك، ومالك يقول: نعاملهم معاملة أهل الكتاب. وهذا قد يستفاد منه في ظروف خاصة حيث يعجز المسلمون حين تحدث أحداث فيأخذون بهذه الفتيا. فلا إكراه في الدين، ومن ارتد من المسلمين فإنه يستتاب ثلاثة أيام، يقال له: ترجع إلى دين الله أم لا؟ فإن رفض قتل كافراً ولا يحل بقاؤه بيننا أبداً، لا يقاس على اليهودي والنصراني؛ لأنه أسلم وارتد، إذاً: جزاؤه القتل، ولكن يطلب منه الرجوع والندم والعودة ثلاثة أيام متتالية، يحضر في المحكمة ويبقى هناك محبوساً، فإن أصر على ردته وخروجه من الإسلام وتنصر أو تهود أو تبلشف فإنه يقتل بحكم الله عز وجل وقضائه. لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]، الرشد: الهدى والنور بنزول الكتاب وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث تبين الغي وعرف الشرك والجهل والظلم والخبث، اتضح هذا وهذا، فلا معنى إذاً للإكراه على الدين.


    معنى قوله تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ...)

    ثم قال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ [البقرة:256]، ما الطاغوت هذا؟لفظ الطاغوت والطاغية والطاغي من: طغى الشيء: إذا ارتفع، فالصنم يعبد، ارتفع وطغى وأصبح إلهاً يعبد، والرجل يعبد ويقدسه الناس ويعبدونه حيث ارتفع وطغى، أصبح كالإله إذاً، فلهذا كل ما عبد ويعبد من دون الله سمه طاغوتاً من الطغيان، وهو الارتفاع والتكبر والعلو، إذاً: كل ما عبد من دون الله من سائر الألهة والأهواء هو طاغوت.إذاً: عباد الله، أيها الناس! اعلموا أن من يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فيقول: لا إله ثم يقول: إلا الله، يقول: (لا إله حق) فيحطم كل الآلهة الباطلة، ثم يقول: (إلا الله)، كفر بالطاغوت ثم آمن بالله؛ ولهذا يقول الحكماء: التخلية تجب قبل التحلية، أنت عليك أوساخ في بدنك من عملك، فلا تأتي وتلبس ثيابك الجميلة وتتضمخ بالطيب وعليك الأوساخ، خطأ هذا ما ينفعك، أولاً: اغسل بدنك بالماء والسدر والصابون، وحين يطهر جسمك وينظف البس الثياب النظيفة وتطيب بالطيب، أما وعليك أوساخ وتلبس فما ينفع.إذاً: تخل أولاً عن الأوساخ والأدناس وتطيب بعد ذلك بالطيب، أولاً: اكفر بكل الآلهة الباطلة وقل: (لا إله) أعترف به أبداً، ثم قل: (إلا الله) فذلك إلهي الحق الذي أذل له وأخضع وأعبده بما أمرني أن أعبد، هذا معنى: التخلية قبل التحلية، تخل عن المسكرات وبعد ذلك خذ الأوراد والأذكار، أما وأنت قائم على المعاصي وتقول: أعطوني ورداً أذكر الله به فما ينفع، فالتخلية قبل التحلية؛ لأن الله تعالى قال وقوله الحق: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ [البقرة:256] أولاً وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ [البقرة:256] ثانياً؛ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، والعروة معروفة، واستمسك بها: أمسكها، فلن يسقط أبداً في النار.

    ذكر رؤيا عبد الله بن سلام في استمساكه بالعروة الوثقى

    هذه الآية يفسرها ما روي: أن عبد الله بن سلام حبر اليهود رضي الله عنه وأرضاه رأى رؤيا منامية وأخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ففسر له النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه، ماذا رأى؟ رأى أنه تحت دوحة خضراء، وهذه الدوحة الخضراء في وسطها عمود إلى السماء مرتفع، وفي رأسه عروة، وعبد الله بن سلام متمسك بتلك العروة، ففسر له النبي صلى الله عليه وسلم بأن تلك الدوحة الإسلام، والعروة: لا إله إلا الله، فأنت مبشر بالجنة، فأصبح أهل المدينة إذا مروا بـابن سلام يقولون: هذا من أهل الجنة ولا يشكون.إذاً: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] التي لا تنحل ولا تسقط يا عبد الله منها، لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ [البقرة:256] لأقوال عباده، عَلِيمٌ [البقرة:256] بأحوالهم وأمورهم، فليخش وليتق، ولنؤمن بهداية الله لمن شاء هدايته، وإضلال الله لمن شاء إضلاله لواسع علمه وقدرته ولسمعه لكل أشياء الكون، فلا يخفى عليه شيء.

    ذكر بعض ما اشتملت عليه الآية الكريمة من الأحكام

    هذه الآية الأولى عرفنا منها أنه لا يكره أحد على أن يدخل في الإسلام، يؤمر ويوجه وينصح ويدعى، أما ان تخرج المسدس وتقول: قل: لا إله إلا الله وإلا فسأقتلك؛ فهذا لا يجوز أبداً.وأما أهل الديار المشركة التي ليست ديار أهل كتاب فالجمهور على أنهم يدعون إلى الدخول في الإسلام أو يقاتلون حتى يسلموا. وهل عرفتم ما الطاغوت؟ مأخوذ من الطغيان، أما قال تعالى: لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11]؟ أي: ارتفع، فكل ما عبده الخلق من دون الله يقال فيه: طاغوت، والذي يعبد ورضي بأن يعبدوه هو طاغوت، إلا إذا أنكر عليهم ولم يقبل منهم ذلك.إذاً: من يكفر بالطاغوت أولاً فيقول: لا أؤمن بغير الله، لا أعترف بمعبود سوى الله، لا أقر أبداً أحداً على عبادة غير الله، هذا أولاً، ثم يعبد الله، أما أن يقول: أنا لا أعترف بعبادة كائن من كان إلا الله ثم لا يعبد الله؛ فما تمسك بالعروة، ما وصل إليها حتى يحقق معنى: لا إله إلا الله، لا بد أن ينفي وجود إله مع الله يعبد معه، ويعبد الله عز وجل، ولو قال: لا إله إلا الله ولم يعبد الله فهل تنفعه هذه الكلمة؟ ما تنفعه، هو كاذب كاذب كاذب.إذاً: التخلية قبل التحلية، تبرأ من كل معبود سوى الله، لا تعترف بعبادة كائن من كان إلا الله عز وجل فاعبده.

    تفسير قوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ...)

    ثم قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257] الله جل جلاله ولي الذين آمنوا، الذين آمنوا بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، آمنوا بلقاء الله والوقوف بين يديه للاستنطاق والاستجواب والحساب والجزاء، آمنوا بوحيه وشرعه، هؤلاء المؤمنون الله وليهم، والولاية تتحقق بشيئين: الإيمان والتقوى، وهنا ما ذكرت التقوى؛ لأنها لازمت الإيمان، والله! ما آمن عبد حق الإيمان إلا اتقى الله عز وجل، لا تتصور أن عبداً عرف الله وآمن بجلاله وكماله ثم يعيش على معصيته وعبادة غيره.
    أركان الولاية
    آية سورة يونس عليه السلام بينت أن ولاية الله تتحقق لمن طلبها بالإيمان والتقوى، أي: بالإيمان والعمل الصالح واجتناب الشرك والمعاصي، إذ الآية هي قوله تعالى من سورة يونس عليه السلام: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يقول: من هم يا رب أولياؤك؟ فأجاب قائلاً: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى في الحياة الدنيا بالرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له، إما يراها هو قبل أن يموت أو يراها عبد آخر ويقول: رأيت لك كذا وكذا، أما البشرى التي وهو على سرير الموت فهذه البشرى في الآخرة، إذا كان الولي في سكرات الموت وأصبح لا يقوى على أن يخبر ويتكلم بما يشاهد فإنه يأتي الوفد الكريم مع ملك الموت، واسمع كلماتهم بالحرف الواحد: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] أي: قالوا: لا إله إلا الله وعبدوا الله، آمنوا وأطاعوا، قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] على دين الله لا اعوجاج ولا انحراف، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30]، بماذا؟ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32]، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، الله اجعلنا منهم.من هؤلاء؟ هل هم بنو هاشم .. بنو تميم .. البيض .. السود؟ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، والاستقامة هي أداء الواجبات والتخلي عن المحرمات، وامش في طريقك إلى دار السلام، وسر هذا معلوم، لأن العبادات تزكي النفوس وتطهرها، والبعد عن مدسيات النفس من الشرك والذنوب والمعاصي يبقي ذلك الصفاء وذلك الطهر للروح البشرية، فإذا جاءت الملائكة تقبضها تجدها طاهرة كأرواحهم، فيعرجون بها إلى الملكوت الأعلى وتفتح لها أبواب السماء، أما إذا كانت مظلمة منتنة متعفنة كأرواح الكافرين والشياطين فهذه الأرواح مستحيل أن تدخل الجنة، واقرءوا آية سورة الأعراف: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، من يدخل البعير في عين الإبرة؟ مستحيل، كذلك مستحيل على أصحاب الأرواح الخبيثة أن يدخلوا دار السلام الطاهرة، هذا حكم الله.


    الولاية والفلاح في زكاة النفس والخسران في تدسيتها

    وصدر حكم الله على الإنس والجن بأن من زكى نفسه بالإيمان والعمل الصالح دخل الجنة، ومن أخبثها بالشرك والمعاصي دخل النار، فقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، هذا حكم الله أقسم عليه بأعظم إقسام في كتابه: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، كل هذه يمين لله تعالى؛ لعظم هذا الحكم، والبشرية عمياء تقودها الشياطين إلى المصير المحتوم، إلى جهنم، إلى عالم الشقاء، وقد صدر حكم الله: قَدْ أَفْلَحَ [الشمس:9] فاز بالنجاة من النار ودخول الجنة من زكى نفسه من أبيض أو أسود، في الأولين أو الآخرين؟ زكاها وطيبها وطهرها بمواد خاصة ألا وهي الإيمان والعمل الصالح، وقد خاب وخسر خسراناً أبدياً من دساها، أفرغ عليها أطنان الذنوب والآثام، حتى أصبحت منتنة عفنة كأرواح الشياطين، والله! لا تفتح لها أبواب السماء، يعرجون بها في موكب يناسبها فيستأذنون فلا يؤذن لهم، فيعودون بها إلى القبر ثم إلى المصير المحتوم في الدركات السفلى من الكون في سجين، فكيف لا تعرف البشرية هذا الحكم وقد صدر عليها؟ لأنهم كفروا بالله وكتابه ورسوله.يقول تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257] يخرجهم من ظلمات الكفر والشرك والجهل إلى نور الإيمان والعلم والمعرفة، أيما مؤمن آمن بصدق واتقى الله عز وجل أصبح عالماً ربانياً. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ [البقرة:257] من الشكوك والأوهام والهواجس والخواطر السيئة والمسالك المنتنة والفكر الهابط، كل هذه يخرجهم منها إلى نور اليقين، نور العلم.

    معنى قوله تعالى: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ...)

    وفي الجانب الآخر قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:257] بمعنى: غطوا وجحدوا، جحدوا عبادة الله فما اعترفوا بها، جحدوا رسالات الله، هؤلاء الكافرون الجاحدون من أولياؤهم؟الطاغو ت، والطاغوت هنا هو الأكبر وهو الشيطان، الشيطان هو أعظم طاغوت؛ لأنه هو الذي عبد من دون الله عبادة حقيقية، إذ كل من عبد كوكباً.. شجراً.. حجراً.. فرجاً هو في الحقيقة عابد للشيطان، إذ الشيطان هو الذي سول ذلك وحسنه ودفعه إليه، أما هذا الذي عبد عبد القادر فهل قال له: اعبدوني؟ والذي قال: هذه شاة سيدي عبد القادر هل الشيخ عبد القادر أمرهم بهذا؟ من أمر بهذا؟ الشيطان هو الذي عُبد. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257] من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر، من نور العلم إلى ظلمات الجهل؛ لأن الكافر أجهل الخلق، لو كان يعلم لعرف من خلقه، ومن دبر حياته، ومن قاده ويقوده إلى مصيره.والخاتم الأخير: أُوْلَئِكَ [البقرة:257] البعداء، أولئك أولياء الطاغوت أهل الكفر والشرك والجهل أَصْحَابُ النَّارِ [البقرة:257] لا يفارقونها ولا تفارقهم أبداً، وصاحبك هو الذي يلازمك أم لا؟ فمن أصحاب النار الذين لا تفارقهم ولا يفارقونها؟ أهل الشرك والكفر والعياذ بالله، أولياء الشيطان. أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ [البقرة:257] لا سواهم فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257]، والله! لا نهاية أبداً، خلود أبدي.

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    هاتان الآيتان لهما هدايتهما، فتأملوا:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيتين:من هداية الآيتين:أولاً: لا يكره أهل الكتابين ومن في حكمهم كالمجوس والصابئة ]، لا يكرهون [ على الدخول في الإسلام إلا باختيارهم، وتقبل منهم الجزية ويقرون على دينهم.ثانياً: الإسلام كله رشد وما عداه ] كله [ ضلال ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ [البقرة:256] وطلعت شموسه بالكتاب والنبي المرسل والشريعة القائمة، تبين الرشد من الغي، فالإسلام كله رشد، وما عدا الإسلام ضلال من يهودية أو نصرانية أو بوذية أو صابئة، قل ما شئت من الملل الهابطة، فكله -والله- ضلال لا رشد فيه؛ لأنه لا يزكي النفس ولا يعد صاحبه للجنة؛ لأنه لا يطهر الأرواح والقلوب والعقول أبداً، فالكفار هابطون كالحيوانات.[ ثالثاً: التخلي عن الرذائل مقدم على التحلي بالفضائل. [ رابعاً: معنى لا إله إلا الله وهي الإيمان بالله والكفر بالطاغوت ]، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، هذا معنى لا إله إلا الله.رابعاً: ولاية الله تعالى تنال ] بماذا؟ هل بالحسب والنسب.. بالبطولات.. بالشجاعات؟ تنال ولاية الله بشيئين: [ بالإيمان والتقوى ].ما هي التقوى يا أبناء الإسلام ورجالاته؟ التقوى: فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه، بذلك نتقي غضب الله أولاً ثم عذابه ثانياً، ما هناك حصون ولا أسوار ولا جيوش نتقي بها عذاب الله أبداً، ما يتقى إلا بطاعته.هل يستطيع من تحت السماء أن يتقي الله وهو لا يعرف ما أمر الله به ولا نهى عنه؟ مستحيل، لا يمكنك يا عاقل أن تتقي الله إلا إذا عرفت بم تتقيه.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (27)
    الحلقة (34)




    تفسير سورة البقرة (123)


    إن من آمن بالله عز وجل واتقاه، وجاء إلى ما أمره به سبحانه فأتاه مخلصاً لله فيه، وجاء لما نهى عنه سبحانه فاجتنبه وتوقاه ابتغاء وجهه سبحانه، فإنه مستحق لمحبة الله تعالى، جدير بولايته سبحانه، ومن تولاه الله أيده ونصره وأدخله جنته، وأما من كفر بالله وأعرض عن داعيه، وارتكب المعاصي والمنكرات، فإنه مستحق لولاية الطواغيت؛ إبليس وأعوانه وأتباعه، جدير به ان يحشر معهم، ويتشارك معهم منازلهم في النار.

    تابع تفسير قوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا المطلوب يا رب العالمين.والآية التي أجملنا القول فيها ولم نفصله هي قول الله عز وجل: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257].

    ولاية الله تعالى للمؤمنين

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257] من وليكم يا عباد الله؟ الله هو الذي يتولى أمركم، هو الذي يسددكم، هو الذي يخرجكم من ظلمات الجهل وظلمات الفسق والشرك والكفر إلى أنوار الإيمان والعمل الصالح. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257] بخلاف غيرهم فوليهم الشيطان، وهكذا تقرر ما علمناه من قبل أن البشرية إما أن يوالوا الله ربهم ويواليهم مولاهم، وإما أن يوالوا الشيطان ويواليهم الشيطان عدوهم، ما هناك وسط.

    الإيمان والتقوى طريق تحقيق الولاية

    وولاية الله عز وجل تتحقق بأمرين، من أراد أن يكون ولياً لله فليحقق أمرين اثنين، فإذا حققهما ثبتت له ولاية الله، وهذان الأمران هما: الإيمان والتقوى، فهل هناك من رغبة في معرفتهما؟ إي والله، ما منا أحد إلا ويريد أن يكون ولياً لله، فالأمران هما: الإيمان والتقوى، الإيمان بالله وبما أمر الله أن نؤمن به من الغيب والشهادة، والإيمان حقيقته: التصديق الجازم الخالي من الغيب والشك بأن الله هو رب العالمين وإله الأولين والآخرين، ونؤمن بلقائه وهو يوم القيامة أو اليوم الآخر، ونؤمن بما أمرنا أن نؤمن به من ملائكته وكتبه ورسله وقضائه وقدره؛ ولهذا أركان الإيمان التي ينبني عليها ستة جاءت في القرآن الكريم في البقرة وغيرها، إلا الركن السادس -وهو القضاء والقدر- فجاء في سورة القمر، إذ قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].وقد عرفنا القدر، فالقدر كتبه الله في كتاب يسمى كتاب المقادير، كتب فيه كل ما أراد أن يخلق ويوجد من ذرات الحياة والدار الآخرة وهو مكتوب، ويسمى باللوح المحفوظ، فوالله الذي لا إله غيره! لا يحدث حدث في السماوات ولا في الأرض إلا وقد سبق أن كتبه الله، ويستحيل أن يوجد حادث غير موجود في كتاب المقادير، هذا مظهر من مظاهر عظمة الله وقدرته، هذا الله رب العالمين، من آمن به وصدق في إيمانه اتقاه، ولا تستطيع أن تأتينا بإنسان أو جني عاقل ويؤمن بالله ولا يتقي عذابه ولا سخطه؛ فلهذا ما ذكر هنا التقوى مع الإيمان، لا يعقل أبداً أن شخصاً يؤمن بالله ويعرف أن مصيره إليه، وأن حياته بين يديه، وأنه مولاه وسيده، وأنه يحبه، ثم يتمرد عليه ويفسق عن أمره ويعصيه، كل من آمن بالله حق الإيمان وجد نفسه مضطراً إلى تقواه. وأضرب مثلاً للعامة: إذا تحققت يا عبد الله أن هذه القارورة أو هذا الكأس فيه سم قاتل، فهل ستقدم على شربه؟ ستتقيه، لو علمت أن لصاً يحمل سلاحاً يريدك وأيقنت، فهل ترضى بأن تواجهه، أو تمشي وراءه، أو تظهر له؟ الجواب: لا. فمن عرف الله عز وجل معرفة الحب والولاء فإنه يستحيل أن يخرج عن طاعته، ومن عرف قدرة الله وعظمته خاف منه ورهبه، ولا يستطيع أن يعصيه ويخرج عن طاعته؛ إذ التقوى لله عز وجل بها يتحقق الإيمان، فلا وجود لمؤمن غير تقي.والآية المبينة لهذه الحقيقة آية سورة يونس، وهي قول ربنا تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، ذكر صفتين هما الإيمان والتقوى، والكافر لن يكون لله ولياً، هذا وليه الشيطان، ولا يوجد مؤمن حق الإيمان يفجر أبداً. إذاً: وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، يتقون ماذا؟ غضب ربهم وسخطه، لا يرضون أن يغضب الجبار عليهم أو يسخط، يتقون عذابه ونكاله في الدنيا والآخرة، هؤلاء هم أولياء الله.


    بشرى المتقين من أولياء الله تعالى

    لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64] أيضاً، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى في الحياة الدنيا: بأنها الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له، إما أن يراه هو بنفسها، أي: يريه الله عز وجل في منامه ما يبشر به من أنه من أولياء الله، أو يراها عبد صالح ويقصها عليه: لقد رأيتك يا فلان في كذا وكذا.وبين الآخرة والدنيا بشرى عظمى وهي عند سكرات الموت، المريض على سرير الموت كما يقولون وقد انقطعت صلته بالحياة فما أصبح يكلم عواده ولا جيرانه ولا أولاده، انقطع، ثم تنزل الملائكة تحمل البشرى، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، هذا هو الإيمان والتقوى، فالذي قال: ربي الله آمن واستقام واتقى الله فما فجر ولا فسق عن أمره ونهيه، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] بماذا؟ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]. اللهم اجعلنا منهم. هذه عند سكرات الموت، وحسب تلك الروح الطاهرة أن يزفها الملكوت الأعلى وفد من الملائكة الأطهار وتفتح لها أبواب السماء وتصل إلى أن تخر تحت العرش ساجدة، ويسجل اسمها في ديوان عظيم هو عليون: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18]، ومن هم الأبرار؟ المؤمنون المتقون الصادقون في تقواهم لله أولئك الأبرار. ثم يعاد بها إلى القبر إلى حيث الجثة وإن تمزقت وتلاشت، وتستقر فيها الروح ويجري امتحان، وثم تبشر بدار السلام ويكشف لها عن مجلسها وعن مقامها في الجنة وتشاهده في القبر، ثم يرجع بها لتعيش في الملكوت الأعلى بقية هذه الحياة إلى أن تنتهي، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64].إذاً: الإيمان والتقوى، الإيمان عرفناه فصدقنا بوجود الله وألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته وجلاله وعظمته، حتى أوجد لنا هذا خوفاً في نفوسنا منه وحباً في قلوبنا له.

    كيفية التقوى وبيان أن العلم وسيلة تحصيلها

    وكيف نتقي؟ هنا تأملوا أيها السامعون وأيتها السامعات ولا تتألموا، اعلموا أنه لا يتأتى لإنسان أن يتقي الله قبل أن يعلم فيم يتقيه، لا يمكنك يا ابن الإسلام أن تتقي الله وأنت لا تعرف في أي شيء تتقيه؟ وبم تتقيه؟ نتقي الله عز وجل بفعل ما يحب وترك ما يكره، والذي لا يعرف محاب الله ولا مكارهه فقولوا لي: كيف يتقي الله؟ بماذا؟ فالذي لا يعرف محاب الله من الاعتقادات والأقوال والأعمال والصفات والذوات كيف يحبها وهو ما عرفها؟ والذي ما عرف مكاره الله ومساخطه تعالى من المعتقدات الفاسدة والأقوال الباطلة والأفعال السيئة الفاسدة والصفات الذميمة كيف يتقي الله؟والآن وقفنا عند العقبة الكئود، فماذا نصنع؟ أعلموا الشرق والغرب أنه والله! لا تتم تقوى إنسان ذكر أو أنثى وتتحقق إلا إذا عرف أولاً ما يحب ربه ليفعله ويقدمه له، وعرف ما يكره ربه حتى يتجنبه ويتركه؛ ولهذا فأين ولاية الله؟ لو كنا أولياء الله فهل سيسلط الله علينا اليهود ليهينونا ويذلونا، هل سيسلط علينا الكفار والمشركين فنهون ونذل؟ أين الولاية؟ هل الله يهين أولياءه؟ حاشاه، ما هو السبب إذاً؟ لقد جهلونا، فما علمونا ما هي محاب الله لنفعلها طلباً لحبه ومرضاته، وما هي مساخط الله من الاعتقادات والأقوال والأعمال والصفات والذوات حتى نتجنبها ونبتعد عنها فتتم لنا ولاية الله، فهل أنتم شاعرون بما أشعر به أم لا؟ لا يمكنك أن تكون ولي الله إلا إذا عرفت ما يحب وما يكره وفعلت المحبوب في قدرتك وطاقتك وابتعدت عن المكروه الذي يكرهه، والجاهل ما يعرف ما يحب الله حتى الكلمة، فكيف يتقرب إليه، ما يعرف ما يكره الله فينغمس فيه ويعمله وهو لا يدري، فما المخرج يا أبناء الإسلام؟العلم العلم، نعم والله! لهو العلم، وهذا المبين الكريم صلى الله عليه وسلم المبين للناس يقول: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، والله يخفف وييسر ويقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فنحن لا نطلب العلم ولا نسأل العلماء، ومنا من يسخر من العلماء ويستهزئ بهم.

    المسجد موطن العلم المحصل للتقوى

    كيف نحصل على العلم؟لا تقل: يا شيخ! أنت ما تدري، أصغر بلد في العالم الإسلامي فيه آلاف المدارس، بل فيه الجامعات والكليات. فأقول: لكن هذا ما يكفي، ولا يداوي جراحاتنا ولا يشفينا، لم؟ لأننا ما بنيناها وجمعنا أبناءنا عليها من أجل أن يعرفوا الله ومحابه ومكارهه، ما بنيت لله، وما طلب العلم فيها في الجملة لله؛ ولهذا ما لاحت الأنوار ولا تجلت في أي بلد ولا في أي قرية من قرى الإسلام، فما هو المخرج؟الجواب وبلغوا إن أهلكم الله للبلاغ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج )، رحل جابر بن عبد الله على ناقته إلى حمص بالشام من أجل حديث واحد. فالطريق -معشر المستمعين والمستمعات- هو ما قررناه سنة وزيادة: أهل القرية الإسلامية عرباً كانوا أو عجماً يتعاهدون أنهم إذا مالت الشمس إلى الغروب ودقت الساعة السادسة يحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم إلى الجامع، ويوسعونه حتى يتسع لهم، وليس شرطاً بالحديد والإسمنت، بل بالخشب والحطب، ويجلسون بعد صلاة المغرب جلوسنا هذا، ويجلس لهم عالم مرب فيتعلمون ليلة آية من كتاب الله يحفظونها وتشرح لهم وتفسر وتبين، فيفهمون مراد الله منها، وإن كانت تحمل عقيدة عقدوها لا تنحل من قلوبهم إلى أن يلقوا ربهم، وإذا كانت تحمل أدباً تأدبوا به على الفور، أو خلقاً تخلقوا به، أو تحمل أمراً نهضوا به، أو تحمل نهياً انتهوا وابتعدوا عنه، أو تدعو إلى معرفة عرفوا، ويعودون مطمئنين بأطفالهم ونسائهم مستبشرين خيراً؛ لأنهم كانوا أين؟ في مسجد ربهم، كانوا في بيت ربهم، يعودون مستبشرين يسأل بعضهم بعضاً: أنا نسيت الآية فذكرني بها، أنا نسيت معنى قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14] فاشرحه لي يا أبتاه، يتحدثون بتلك الرحمة حتى يناموا، ثم يأتون من الغد فيجلسون بعد صلاة المغرب فيصلون المغرب كما صليناها ويجلس لهم العالم المربي كي يعلمهم حديثاً فقط من أحاديث الحبيب صلى الله عليه وسلم، وليكن موافقاً لتلك الآية أمس يؤدي معناها يفسرها ويشرح ما فيها، فيتغنون به ربع ساعة وثلث ساعة، فيحفظوا حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، النساء كالأطفال كالفحول حفظوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، ويشرح لهم المربي: أن المراد من هذا كذا وكذا، إذاً: هيا نطبق هذا الحديث، إن أمرنا بخير فعلناه، وإن نهانا عن شر تركناه، وإن أمرنا بأدب تأدبنا به، أو بخلق تخلقنا به، ويصلون العشاء ويعودون وكلهم ألسن ذاكرة وقلوب شاكرة، هموم الدنيا وأوضارها اختفت عن وجوههم، فما يشاهدونها، يدخلون بيوتهم فيطعمون ما يسر الله طعامه وهم يتساءلون: حديث الليلة عظيم، أنت يا أختي هل تحفظينه؟ قالت: نعم، قال: أسمعينيه، فأسمعته، قال الأب: أبنائي! أنتم على علم بما في هذا الحديث، وهكذا من الغد، وأعمالهم الدنيوية من صلاة الصبح إلى الساعة السادسة مساء ما عدا ربع ساعة للظهر وربع ساعة للعصر، فحولوا التراب إلى جنات.وبين المغرب والعشاء لا تجد رجلاً ولا امرأة ولا طفلاً في الشوارع ولا في الأزقة ولا الحارات، الكل في بيت ربهم يستمطرون رحماته، تمضي عليهم سنة فتتحقق لهم ولاية الله ويصبحون قطعاً أولياء الله، لو رفعوا أكفهم يسألون ربهم أن يزيل الجبل لأزاله، ولا يقدر إنسي ولا جني أن يقربهم أو يزلزل التراب تحت أقدامهم؛ لأنهم أولياء الله، وأهل المدن التي خمت وتعفنت ما نستطيع أن نصفهم.فخطيب أهل الحي من المدينة يقول يوم الجمعة: إخواني! إن البلاء عظم والكرب اشتد ونحن لا ندري مصيرنا، وقد حصل الذي حصل فتحولت بيوتنا إلى صور العواهر وسماع الباطل والشر وألوان الكفار، ونسينا ذكر الله، هيا نرجع إلى الله عز وجل، فمن الليلة لا يتخلف منكم يا أبنائي وآبائي رجل ولا طفل ولا امرأة، الكل يأتون بيت الله، والمرأة إذا كانت حائضاً فإنها تجلس وراء الجدار ونرفع إليها صوتنا بمكبر صوت، ويتعلمون ليلة آية وليلة حديثاً وهم يعلمون ويعملون، ففي أربعين يوماً فقط ستتحقق لهم ولاية الله.سلني عن هذه المدينة والقرية بعد سنة: ما هي نسبة الزنا فيها؟ لا وجود له، ما هي نسبة الخيانة والسرقة؟ والله! لا وجود لهما، فالذي جلس بين يدي ربه يتعلم الكتاب والحكمة ويزكي نفسه عاماً كاملاً وقد عرف وكشف له كل شيء هل يفجر ويخرج عن طاعة الله؟ أنى له ذلك، ما يتأتى له ولا يريده، وهل يبقى حسد؟ هل يبقى بغض؟ هل يبقى كبر وتعال؟ هل يبقى نزاع وصراع على أوساخ الدنيا وأوضارها؟ الجواب: لا؛ لأنهم أولياء الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا في الدنيا ولا في القبر ولا في الآخرة.


    سهولة تلقي العلم النافع في المساجد دون تعطيل الأعمال الدنيوية

    والآن ماذا يكلفهم هذا؟ هل عطلوا مصانعهم.. أوقفوا مزارعهم.. عطلوا وظائفهم؟ الجواب: لا، نحن لسنا كاليهود والنصارى، نحن إذا فرغنا من صلاة الصبح أقبلنا على أعمالنا، ما عندنا ساعة سابعة ولا ثامنة ولا عاشرة، ميزاننا أن نصلي الصبح وننطلق نعبد الله، نعبد الله في المزرعة، نعبد الله في المصنع، إذ كل حركاتنا وسكناتنا هي لله، لا تظن أنني إذا صنعت وأخرجت الصناعة وبعتها أني عملت لغير الله، إذ حياتنا موقوفة كلها على الله، وقف على الله، اقرءوا قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، المسحاة بيده وهو يذكر الله، ويضرب الأرض من أجل الله ليعيش أو يعيل امرأة وأولاداً صغاراً كلفه الله بذلك، كناس يكنس في الشارع وينظفه وتعطيه البلدية قدراً من المال هو كناس لله، نمر برجل يبني بيته لله، ما عندنا غير الله، وآخر يهدم بيتاً آخر، لم؟ لله، أمره بهدمه للضرر الذي فيه، فالله أكبر، هذا هو الإيمان، وهؤلاء هم المؤمنون.فمن منعنا أن نكون هكذا؟ منعنا أعداء الإسلام وخصومه، وتعاونوا مع شياطين الإنس والجن فصرفوا هذه الأمة عن طريق سعادتها وكمالها؛ لتذل وتهون، وتصبح تعيش أسوأ الأحوال، ثم يكتبون ضد هذا الكلام في الصحف ويقولون: هذه خيالات وأوهام.فهيا نستعمل عقولنا: إذا أوقف أهل القرية أو المدينة العمل عند الساعة السادسة عند غروب الشمس فما الذي توقف من أعمالهم؟لا شيء، حملوا أطفالهم ونساءهم وذهبوا إلى بيت ربهم، أي عز أكثر من هذا العز، وأية كرامة أعظم؟ واليهود والنصارى يذهبون إلى دور السينما ودور المراقص واللهو والباطل والعبث، ومناظر السوء، وشرب الخمر والسموم، فهؤلاء ما نتكلم عنهم ولا نقول: هؤلاء خياليون! والذين يذهبون إلى بيت الطهر والصفاء يجلسون بين يدي ربهم يمطرهم برحماته، يتعلمون الكتاب والحكمة، نقول عن فعلهم: هذا خيال! فما الذي يكلفهم؟

    جيل الصحابة أنموذج التربية المسجدية

    فلا طريق ولا سبيل إلى عودة كمالنا وعليائنا في الملكوت الأعلى إلا من هذا الطريق، إذ هو الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأولادهم وأحفادهم، من هذا المسجد تخرّج رجال لم تحلم الدنيا بمثلهم عدلاً، كرماً، شجاعة، طهراً، صفاءً، يضرب بهم المثل، أين درسوا؟ في جامعات بريطانيا؟أكثرهم لا يكتب ولا يقرأ، وإنما امتثلوا قوله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7]، كان أبو القاسم يجلس لهم بأمر الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، فتعلموا، فهذا هو الطريق، لو أن عالماً أخذ هذه الحقيقة وانتقل إلى قرية من القرى وطلب من أهلها بلطف أن يجلسوا؛ ليتعلموا شيئاً فشيئاً، وصبر على دعوتهم؛ فأنوار العلم ستتجلى فيهم، بعد سنة كاملة سيقال: القرية الفلانية أصبحت كتلة من نور، لم تر فيها رجلاً ولا امرأة بعد المغرب في الشارع أبداً، الكل في بيت الله، وما أصبحت تسمع صوت عاهرة تتكلم في تلفاز ولا راديو، والله! لنذهبن لزيارتهم نتبرك بوجودنا بينهم ساعة، ونشاهد أنوار الحقيقة كما هي تلوح.

    دعوة إلى إقامة الحلقة التعليمية التربوية في البيوت

    قد تقولون: الحكومات ما تسمع لنا والأحزاب تناهضنا؟ فأقول: إذا صليت المغرب عد إلى بيتك واجمع أطفالك الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة وأمك إن كانت إلى جنبك أو أباك واجلس بينهم وتغنّ معهم بآية أو حديث وعلمهم مراد الله منه، وقل لهم: هيا نعمل! هيا نطبق! وصلوا العشاء، واسألهم بعد صلاة العشاء وتناول العشاء: ماذا تعلمنا اليوم؟فسيقول أحمد في عمر سبع سنين: تعلمنا الآية من سورة الأعراف. ما هذه الآية؟ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54].فقل: يا زليخا! ما معنى (ربنا)؟ خالقنا ورازقنا ومدبر الحياة، هذا ربنا. ماذا يجب لربنا يا عمر؟ يجب علينا أن نحبه بقلوبنا فنطيعه إذا أمرنا، فإذا قال: اسكتوا سكتنا، وإذا قال: صوموا غداً صمنا.وليلة بعد ليلة وإذا بذلك البيت تلوح أنواره وتطيب نفوس أهله ويتعلمون، وتطرد الشياطين من حولكم ولن تطلبكم بعد ذلك، أفسدتم عليها خططها، وأبعدتم عنها مسالكها، لو فعل أهل كل بيت هذا لانتهينا، يخرجون من البيوت كأنهم ملائكة؛ لا ظلم لا كبر لا حسد لا غش، ولكن رحمة وتطامن وتواضع وتعاون، وهل يتم هذا؟ إي ورب الكعبة، لم لا يتم؟ أليست سنن الله لا تتخلف؟ أما قال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62]، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43]، أليس الطعام يشبع؟ والماء يروي؟ والنار تحرق؟ والحديد يقطع؟ هل تبدلت هذه السنن؟ لم تتبدل، إذاً: فالكتاب والحكمة من شأنهما أن يوجدا الربانية في قلوب البشر. وبعد هذا ما عندنا مطلب، أبيتم المساجد فقلنا: البيوت، كل مؤمن في بيته، وسوف يتسرب النور والهداية، في سنة واحدة تشعر في القرية أو المدينة أن أهلها تغيروا، كان صاحب دكان يبيع الشيشة والحشيشة فأغلقه بسبب هذا، كان فلان يصيح ويشتم ويسب في الشارع فانتهى وما سمعنا باطلاً أبداً، كان الأولاد يقولون البذاء ويلفظون بالسوء وهم يلعبون، فأصبحت كلماتهم كلها طيبة، ما الذي حصل؟عرفنا سر هذه الحياة الطيبة الطاهرة، لقد تحققت الولاية: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]، ظلمات الشرك والكفر والفسق والفجور والجهل، إلى أين؟ إلى أنوار الإيمان والعلم واليقين.


    عاقبة الكفرة أولياء الطاغوت

    وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ [البقرة:257] من؟ الطَّاغُوتُ [البقرة:257] إبليس أبو مرة وأعوانه ورجاله وأتباعه، وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت. يُخْرِجُونَهُمْ [البقرة:257] من أين؟ مِنَ النُّورِ [البقرة:257] نور الفطرة إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]، وأخيراً يأتي الختم الأخير: أُوْلَئِكَ [البقرة:257] البعداء أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257].وقد جاءنا كتاب من فرنسا فيه أن طالب علم يقول لهم: هذه الآية دليل على أن الكفار يخرجون من النار! فسألوني قالوا: رد عليه؛ لأن الله ما قال: خالدين فيها أبداً، قال: أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257]، فمعناه: أنهم يخرجون! فقلنا لهم: هذه الآية مطلقة وجاءت آيات مقيدة، ويحمل المطلق على المقيد، آيات فيها كلمة (أبداً). وهل تعرفون عن النار شيئاً؟ من خلقها؟ الله. من أوجد مادتها؟ الله.اخرج في الساعة العاشرة نهاراً من بيتك وارفع رأسك إلى السماء وشاهد الشمس، هذا الكوكب الملتهب إذا دنا في أوقات معينة ترتفع الحرارة إلى أربعين وإلى خمسين، هذا الكوكب كله نار، وهو أكبر من الأرض هذه بما فيها من بحارها وأوديتها وجبالها بمليون ونصف مليون مرة، لو أخذنا البشرية كلها ورميناها فيها ما سدت زاوية منها ولا ملأتها، أبعد هذا تسألني عن النار ما هي؟ ادخل أصبعك فقط في جمرة أو في نار لتشعر بالنار، من خلقها؟ أمك أم أبوك أم عمك؟ من أوجدها؟ أما سمعت عنها شيئاً؟ هذا كتاب الله يفصّل لك القول تفصيلاً، ويبين لك البيان الكافي؛ لتعرف النار ما هي: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:1-4].أين العقول؟ اهتزت الأرض وزلزلت، الناس كالفراش المبثوث هنا وهناك، لا يعرف الجائي من جاء، والذاهب أين ذهب ولا الطالع ولا الهابط، كالفراش المبثوث. وَتَكُونُ الْجِبَالُ [القارعة:5] الشامخات الرواسي كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5]، الصوف الذي يضرب بالعصا ليتفتت، تتفتت وتكون الجبال كالعهن المنفوش الآن. فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:6-7]، في الجنة دار السلام. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:8-11].

    الحث على سماع القرآن الكريم من الآخرين

    لم لا يقرأ كتاب الله؟ نحن نقرؤه على الموتى، مضى أكثر من ثمانمائة سنة والقرآن لا يقرأ عندنا إلا على الميت، أما الحي فما يقرأ أبداً، عداوة كاملة، لقد قلت لكم: عشنا عشرات السنين ما عثرت على واحد قال لي: أسمعني شيئاً من كلام الله، إلا مرة واحدة، وأنتم أيها السامعون من منكم قال لأخيه وهو جالس في المسجد أو تحت ظل شجرة أو حين فرغ من العمل: يا أخي! أسمعني شيئاً من كلام ربي؟أنا أقول: أي مؤمن تاقت نفسه إلى ربه وإلى كلامه سيطلب من أخيه أن يسمعه شيئاً من كلام الله ليتأمل ويبكي ويتدبر، ومن ذلك ما يكون في شهر رمضان، فالناس يجيء أغلبهم لسماع القرآن وللتراويح، والحمد لله.أنا أقول: ها هي الصورة الحقة: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عبد الله بن مسعود فقال: ( يا ابن أم عبد ! ) ، دعاه بكنية أمه، ( يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن. فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! ) تعجب، قال: ( إني أحب أن أسمعه من غيري )، وقرأ ابن مسعود : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ... [النساء:1] إلى أن انتهى إلى قول الله تعالى بعد أربعين آية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء:41] يشهد عليها وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، قال: ( فالتفت فإذا بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان وهو يقول: حسبك )، أي: يكفي. فإن رأيتم هذه الظاهرة في بلادكم فبشرونا بالخير، هذا هو الطريق، أما أن يقرأ على المقبرة وليلة الموت يهزئون بالقرآن ويسخرون؛ فنعوذ بالله من الجهل وما أصابنا.والله تعالى أسأل أن يجعلنا من أوليائه وصالح عباده نؤمن به وبما يحب أن نؤمن به، ونتقيه بفعل محابه وترك مكارهه.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (28)
    الحلقة (35)




    تفسير سورة البقرة (124)


    إن من ابتلاه الله عز وجل بظلمة القلب وفساد العقل لا يقبل الحق مهما كان واضحاً، ومن ذلك ما فعله النمرود بن كنعان حين ناظره إبراهيم عليه السلام في تفرد الله عز وجل بالخلق وتصريف أمور الكون والمخلوقات، فجادله أولاً في حقيقة أن الله وحده الذي يحيي ويميت، فلما استمر في ضلاله وأذعن في مكابرته وكفرانه سأله إبراهيم أن يأتي بالشمس من المغرب كما أخرجها الله من المشرق، فبهت الكافر ولم يحر جواباً، واندحر ولم يقل خطأ ولا صواباً.

    تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) ، اللهم حقق لنا هذا الرجاء إنك ولينا وولي المؤمنين.وها نحن مع هذه الآية الكريمة من سورة البقرة، وهي قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].

    حجاج إبراهيم مع قومه في سورة الأنعام

    معاشر المؤمنين والمؤمنات! حجاج إبراهيم لم يكن فقط مع هذا الطاغية النمرود ملك البابليين، بل كان مع والده، وكان مع قومه، ولو أمكن أن نستعرض تلك المواقف من سورة الأنعام التي ذكر تعالى لنا فيها هذه المحاجة.فقد قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]، هذا يواجه به والده آزر، وإذ قال [الأنعام:74]، اذكر يا رسولنا واذكر أيها المؤمن وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ [الأنعام:74-76] ذهب قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:76-79].وهكذا يستدرجهم من النجم إلى القمر إلى الشمس وهم عبدة الكواكب، لما رأى القمر قال: هذا ربي؛ من أجل جذبهم إلى أن يتأملوا؛ لا أنه يعتقد أنه ربه، لما أفل وذهب قال: ما ينبغي هذا ولا يصلح أن يكون إلهاً، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:77] وهم يسمعون ويشاهدون، فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77] معناه أنه يطلب الهداية من أجلهم حتى يفيقوا ويصحوا من غفلتهم. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ [الأنعام:78] وانتهت وغابت ماذا قال؟ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:78-79].هذا كان مع والده وقومه، قال تعالى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [الأنعام:80] في مواقف متعددة، وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا [الأنعام:80] ، قالت العلماء: هذا الاستثناء لو أنه عثر أو أصابته شوكة لقالوا: آلهتنا هي التي أصابته، فاحتاط وقال: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام:80]، ثم قال لهم: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]، أي الفريقين أحق بالأمن من عذاب الله وعذاب النار؟ وكان الجواب: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83].

    حجاج إبراهيم مع قومه في سورة الأنبياء

    ومن سورة الأنبياء حجاج آخر: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:51-57]، ونفذ فعلته، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:58-71].


    حجاج إبراهيم مع قومه في سورة الصافات

    ومن سورة اليقطين؛ إذ قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ [الصافات:83]، أي: من شيعة نوح في الدعوة إلى عبادة الله وحده، وبين نوح وإبراهيم آلاف السنين: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:83-100]، وذهب إلى أرض الشام.

    حجاج إبراهيم مع أبيه في سورة مريم

    وفي سورة مريم حجاج إبراهيم مع أبيه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُم ْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:41-49]، حجاج طويل، فهذا هو إبراهيم الأب الرحيم السرياني عليه السلام.

    وقوع الحجاج مع النمرود بعد الحكم بإلقاء إبراهيم في النار

    ولما حكموا عليه بالإعدام وسجنوه وذهبوا يشعلون النيران ويجمعون الحطب ويوقدونها، إذ أوقدوا ناراً ما رأتها الدنيا، كان الطائر إذا طار فوقها يحترق، وكان النساء ينذرن للإلهة بحزمة الحطب: يا إلهي! إذا حصل كذا وكذا فأنا أحمل حزمة حطب في نار إبراهيم! والعجب أنه حتى الحيوانات الساقطة أيضاً كانت تساعدهم، فالوزغة الخبيثة كانت تنفخ في نار إبراهيم، وباقي الحيوانات الأخرى ما فعلت، فلهذا أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن من عثر على الوزغة فليقتلها؛ لأنها كانت تنفخ في النار لتتأجج على إبراهيم عليه السلام، والوزغ معروف.إذاً: ولما سجنوه ينتظرون إصدار الحكم عليه وقع هذا الحجاج بينه وبين الملك النمرود ، فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمته: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة:258]، أي: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا ما تم ما بين إبراهيم والنمرود ؟

    معنى قوله تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك)

    أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة:258]، وكيف يحاجون في الله؟ يقولون: لا يعبد وحده بل يعبد معه هذه الآلهة التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا.وعبادة الله عز وجل هي سر الحياة وعلة هذا الوجود، فقد خلق كل شيء من أجل أن يذكر ويشكر، فكيف إذاً يعبد غيره؟! بأي منطق أو قانون أو شرع أو حق؟ أيخلق ويرزق ويدبر الحياة كلها من أجل أن يذكر ويشكر وإذا بالشياطين تجتال الآدميين وتجعلهم يعبدون من لا خلق ولا رزق ولا أعطى ولا منع ولا ضر ولا نفع؟ هذا كيد الشياطين ومكرهم.إذاً: قوله تعالى: أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258]، المفروض أنه يشكر الله الذي ملّكه وأعطاه وأصبح سلطاناً في تلك الديار، لا أنه يحارب أولياء الله ويصرف عن عبادة الله من أجل أن آتاه الله الملك.واللفظ أيضاً يحتمل معنىً آخر، وهو: أنه لما ملّكه الله وطغى وتجبر وتكبر أعرض عن عبادة الله وحارب أولياءه.وكلا الحالين مذموم، المفروض أن من أعطاه الله يشكر الله ويعبده ويدعو إلى عبادته، لا أن يعرض عن عبادته ويعبد معه غيره، لكن الطغيان ناتج عما أوتي من الملك والسلطان، والآثار والأخبار تدل على أن هذا الطاغية أهلكه الله وجيشه بالبعوض، فسلط عليهم بعوضاً مزق ذلك الجيش بكامله، نقمة الله عز وجل، والنمرود نفسه دخلت بعوضة في أذنه وأصبح لا يطيق النوم ولا الأكل ولا الشرب، وعن يمينه وعن شماله رجلان يضربانه على رأسه بأشياء، إما بخشبة وإما بحذاء؛ حتى يهدأ، حتى هلك على تلك الحالة.

    معنى قوله تعالى: (إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت)

    أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ [البقرة:258]، فهو سأله: من ربك يا إبراهيم الذي من أجله فعلت وفعلت وفعلت؟ قال إبراهيم: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258]، الذي يحيي من شاء ويميت من شاء هو ربي، أو الذي يحيي الأموات ويميت الأحياء، ذلك خالقي وذلك ربي وإلهي ومعبودي وهو حق. فقال الطاغية: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، فأطلق سراح من كان محكوماً عليهم بالإعدام لجرائمهم وادعى أنه أحياهم فقال: أنا أحييت هؤلاء، وأتى بمن حكم عليهم بالموت فقتلهم، وادعى أنه بهذا يحيي أيضاً ويميت، وهذا مغالطة تشمئز منها العقول، فالإحياء: أن تهب الحياة وتوجدها، والموت: هو أن تميت من تخلق فيه الحياة، فالله تعالى خلق هذا وخلق هذا وحكم بالموت على هذا وأجل هذا، وأنت ما فعلت شيئاً، ما هي قدرتك التي فعلت؟

    معنى قوله تعالى: (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فائت بها من المغرب فبهت الذي كفر ...)

    قال تعالى: قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].لقد كانت تلك مغالطة عرفها الخليل وعدل عنها، فقال له: إن ربي يأتي بالشمس من المشرق فائت بها أنت من المغرب، الله يأتي بالشمس عند طلوعها من شرق الكرة الأرضية، فعاكسه أنت وائت بها من المغرب، وبذلك تتجلى قدرتك ويعلو سلطانك وتكون المستحق لئن تطاع، فوقف مشدوهاً حيراناً كما أخبر تعالى: فَبُهِتَ [البقرة:258]، انقطع كلامه ولم يقو على أن يتكلم، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258]، لولا كفره ما كان يبهت، كان يفتح الله عليه ويجيب، كما مر بنا في آية الأنعام قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [البقرة:258]، ما من مؤمن ذي بصيرة وربانية صادقة ويحاجه ظالم أو كافر إلا غلبه، ولا يستطيع أن يهزمه.

    ذكر حادثة في خيبة كل كافر مناظر لمؤمن صادق

    وأذكر هنا حادثة تكررت: كان مسيحي مع مسلم على السيارة يتحدثان، فقال المسيحي: يا مسلم! أنتم تعتقدون أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون، فكيف تكون بطونهم هذه؟ لأن معتقد الصليبيين النصارى من القسس وغيرهم أن أهل الجنة لا يأكلون ولا يشربون؛ لأنهم ليسوا أبداناً وإنما هي أرواح فقط كما هي الآن في دار السلام، أرواح المؤمنين الطاهرة إذا مات المؤمن أو المؤمنة تترك في الجنة إلى أن تنتهي هذه الدورة ويخلق الله الأجسام من جديد وتدخل فيها وتعود الحياة كاملة، والسعادة بالروح والبدن معاً؛ فالآن في الدنيا السعادة تحصل للبدن، وفي القبر للروح فقط، ويوم القيامة السعادة للروح والبدن معاً، الآن سعادتنا في أبداننا، وفي القبور والبرزخ للأرواح فقط، وفي يوم القيامة السعادة كاملة، فالروح تسعد والبدن كذلك يسعد.فهذا المسيحي يسخر من الإسلام فيقول: كيف تكون بطونهم مملوءة وهم يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون؟ وحقاً إن تلك الأغذية تتحول إلى عرق أطيب من ريح المسك. فقال له العربي الأمي: هل الجنين في بطن أمه حين يتخلق ويصبح يتغذى من دم أمه وينمو بذلك الغذاء أربعة أشهر -السادس والسابع والثامن والتاسع- هل يبول أو يتغوط؟ والله! ما يبول ولا يتغوط، بمجرد أن يخرج من بطن أمه يبول، إذاً: كيف بطن أمه؟ هل امتلأ بالبول والعذرة؟! فانقطع الصليبي واندهش وذهل. فالولد في بطن أمه تمضي عليه أربعة أشهر وهو يتغذى وعلى الغذاء ينمو، وبمجرد أن يخرج يبول ويتغوط، فلم ما بال أولاً ولا تغوط، لو كان يبول ويتغوط فكيف سيصبح رحم أمه أو بطنها؟! ولكن تقدير وتدبير العزيز العليم.والشاهد عندنا أنه إلى اليوم لا يحاج كافر مؤمناً إلا انهزم، وقد تمت محاجة عظيمة مطبوعة في جامعة الإمام محمد بن سعود ووزعت في مجلد، فهذا صليبي كبير بريطاني حاج مؤمناً عالماً من علماء المسلمين في الهند، واجتمع للحجاج خلق كثير؛ لأنها محاجة ذات قيمة، ونصر الله عز وجل المسلم وانهزم ذلك الصليبي شر هزيمة.والذي يذكر بخير: أن السلطان عبد الحميد العثماني ترجم تلك المناظرة إلى تسع لغات عالمية ووزعها ونشرها بين الناس، وهذه هي الحقيقة؛ لأن الله عز وجل ولي الذين آمنوا يخرجهم من ظلمات الجهل والحيرة إلى نور العلم والبصيرة، ما من مؤمن يقف لله عز وجل إلا وينصره الله ويؤيده، وليس هذا خاصاً بإبراهيم ولا بغيره.


    طغيان الإنسان بالملك والغنى

    إذاً: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:258]، من هو هذا؟ هذا النمرود ملك البابليين، هذا الذي قال ما تسمعون، أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258]، تأملوا هذه الجملة: أمن أجل أن آتاه الله الملك يقف هذا الموقف؟ أما ينبغي له أن يستحي من المنعم المتفضل المحسن، كيف يقف يحاج في الله عز وجل يريد أن يبطل عبادته ويصرف الأمة عن ذكره وعبادته، أين العقل؟ أين الفطرة؟وقلنا:إن قوله تعالى: أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258]، فيه إشارة إلى أن الذي يؤتى السلطان والقدرة إذا لم يعصمه الله، إذا لم يحفظه الله، إذا لم يتوله الله؛ فإنه إن كان مؤمناً يصاب بالطغيان، وقد شاهدتم وسمعتم، ويصاب بالتعالي والتكبر والإفساد في الأرض، إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى [العلق:6]، متى؟ أن رأى نفسه استغنى، كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] ، أي: رأى نفسه استغنى عن الناس، يتكبر ويتعالى عليهم. إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:19-21]، إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].

    الوصفة الناجعة لعلاج طغيان الغنى وجزع المصيبة

    وهذه القضية معاشر المستمعين ينبغي أن نرددها: إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، ظلوم جهول، ظلوم كفّار، يطغى أن رآه استغنى، هلوع: إذا مسه الخير يمنع، وإذا مسه الشر يجزع، وما العلاج؟ وما الدواء؟توجد وصفة طبية والطبيب هو الرب تعالى، هي ذات ثمانية أرقام، أيما مؤمن يستعملها بإشراف طبيب فإنه يخرج من أصح الخلق وأكملهم، وإن لم يجد الطبيب المشرف عليه واستعان بالله واستعملها شيئاً فشيئاً فإنه يبرأ أيضاً من أسقامه: من الظلم والجهل والكفر والشح والبخل والجزع، لكن قد تطول مدته أو لا يكمل برؤه على الوجه المطلوب، بل لا بد من إشراف طبيب.أين توجد هذه الوصفة الطبية بأرقامها الثمانية؟ توجد في القرآن العظيم، في كتاب الله الذي نقرؤه على الموتى! في سورة المعارج، يقول تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:19-21]، والجزوع: كثير الجزع، والمنوع: كثير المنع، ما قال: إذا مسه الخير جزع وإذا مسه الخير منع، بل جزوع ومنوع.ثم ذكر الأرقام الثمانية: أولاً: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:22-23]، الذي يصلي ويديم صلاته على الوجه المطلوب فهذه الصلاة تبرئ من ذلك الجزع وهذا المنع، وتبرئ من ذلك الظلم والكفر، ومن الطغيان والتعالي.ثانياً: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، الذي يؤدي الزكاة كما شرع الله وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينفق على أسرته واليتامى والمساكين ولا يبخل ويعطي للسائل والمحروم فهذا الرقم أيضاً يفعل العجب في النفس، صاحب هذا الرقم والله! لا يكذب ولا يغش ولا يخدع، كيف يصرف هذا المال لوجه الله وهو يسرقه؟! ما هو بمعقول أبداً.ثالثاً: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26]، الذي يصدقون بيوم القيامة يوم الجزاء يوم الحساب والجزاء، هذا الرقم أيضاً يفعل في النفس العجب في تزكيتها وتطهيرها، لم؟ هو موقن أنه سيسأل ويحاسب، فكيف إذاً يضن أو يبخل؟ كيف يظلم ويكفر؟ كيف يطغى؟ كيف يجزع؟ هذا يؤثر فيه أعظم تأثير.رابعاً: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:27-28] قطعاً، فالذين يعيشون على هذا الإيمان وأنهم يخافون من ربهم أن يعذبهم إذا خالفوا أمره وإذا فسقوا عنه وإذا خرجوا عن طاعته يعيشون ليل نهار مشفقين من عذاب الله؛ لأن عذاب الله من يؤمننا منه؟ فلهذا لا يقتحمون أودية الضلال والشرك والباطل والكفر؛ لخوفهم، فصاحب هذا الرقم أيضاً يتعالج بإذن الله تعالى ويبرأ من الأمراض الستة المذكورة في الآية.خامساً: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المعارج:29-30]، من يلومهم وقد أذن الله لهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم.إذاً: فهذا الذي يحفظ فرجه من الوقوع في الفاحشة يفعل ذلك فيه العجب من تزكية نفسه وتطهيرها.سادساً: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المعارج:32]، الذي يعيش كراعي الغنم يرعى أمانته وعهوده لو تضع تحت يديه ما شئت من المال فوالله! لا ينقصك درهماً واحداً، لو تودع عنده امرأة حتى تعود من جهادك أو سفرك فوالله! لا ينظر إليها ولا يلتفت إليها، تودعه كلمة يصونها ويحفظها، هذا الذي يحافظ على الأمانة وعلى العهد هل يعصي الله فيظلم أو يجزع أو يسخط؟ سابعاً: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم ْ قَائِمُونَ [المعارج:33]، لا يميل يميناً ولا يساراً، لا مع أخ ولا عم ولا قريب ولا بعيد ولا غني ولا فقير، يؤدي شهادته كما علمها وليكن ما يكون.وأخيراً: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج:34]، الإدامة غير المحافظة، يحافظون على أوقاتها وآدابها وشروطها وأركانها حتى تثمر لهم الزكاة في نفوسهم.هذه الوصفة لا يضعها إلا الله، إن طبقتها بإشراف العالم الرباني المزكي نجحت في أقرب وقت، وإذا ما وجدته وأخذت أنت تستعملها فسينفعك الله تعالى بها.إذاً: ظلم الإنسان وكفره وجهله وجزعه وطغيانه؛ هذه الطبائع هذه الغرائز التي تقويها وتذكي نارها الشياطين، إذا لم يعالجها الإنسان من ذكر أو أنثى بهذه الأرقام فإنه لا ينجو منها ولا يسلم أبداً، والحمد لله؛ فهو الذي وضع هذا، خلق الداء والدواء، وأرشد إلى استعمال الدواء للبعد والنجاة من الداء.مرة ثانية: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا [المعارج:19-20]، يجزع، ما تستطيع أن تمشي معه ولا تجالسه من الصراخ والتأمل والتحسر، لا صبر أبداً، ولا يفوض أمره إلى الله أبداً؛ لأنه مريض.وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ [المعارج:21] منع فلا يعطي ولا يبذل ولا ينفق؛ لأنه مريض، فإذا أراد الشفاء فالوصفة الربانية موجودة: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم ْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ [المعارج:22-35]، الأعلون السامون فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:35]. اللهم اجعلنا منهم.

    انتهاء مناظرة إبراهيم للنمرود بانتصار الموحد وخذلان الكافر والظالم

    نعود إلى قصة إبراهيم عليه السلام، حيث يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258]، الطاغية سأل إبراهيم لما أخرجه من السجن قبل إلقائه في النار، حاجه وسأله، فقال إبراهيم: ربي ومعبودي الحق الذي أعبده هو الذي يحيي ويميت، خالق الحياة والموت، فقال الطاغية: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258] وانقطع.قالت العلماء: في هذه الآية بيان جواز الحجاج في الدين مع المبتدعة مع المعطلين مع الكافرين ولا حرج؛ لتظهر حجة الله عليهم، فهذا إبراهيم يحاج النمرود.قال تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]، دائماً وأبداً إلى يوم القيامة، والظالمون الخارجون عن عبادة الله عقيدة وقولاً وعملاً، هؤلاء الظلمة.

    الشرك أعظم الظلم

    وإذا أطلق الظلم في الغالب يطلق على الشرك؛ لأنه أفظع أنواع الظلم، فحين تسلب مال فلان وتقتل فلاناً فذلك ظلم، والذي يسلب الله تعالى حقه كيف يكون موقفه؟ويتحداه ويعطيه لغيره، مع أن الله خلقه ورزقه ودبر حياته وكلأه وحفظه ورعاه وهو عبده ومخلوقه، ويغمض عينيه عن ربه الخالق الرازق المدبر، ويفتحهما في صنم أو كوكب أو فرج أو شهوة أو إنسان أو حيوان، أي ظلم أعظم من هذا؟ويدل لذلك أنه لما نزل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] اندهش المؤمنون فقالوا: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟ إذا كان لا أمن من عذاب النار إلا لمن لم يخلط إيمانه بظلم؛ فأينا ما ظلم؟ هذا ظلم أخاه، وهذا ظلم حيواناً، لا بد أن يقع ذلك، فقال: ليس الأمر كما فهمتم، المراد من الظلم هنا: الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان الحكيم لما كان يعظ ولده بين يديه يربيه ويعلمه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فلا أعظم من ظلم عبد يترك ربه ويعبد غيره، مع أن هذه المخلوقات كلها مربوبة مخلوقة، فيعبد عيسى وهو مخلوق خلقه الله، وتعبد مريم وهي مخلوقة، الله خلقها، ويعبد روح القدس جبريل، أليس جبريل مخلوقاً لله من جملة ملائكته؟ والذين يعبدون العزير كاليهود، والذين يعبدون الأولياء.


    مقارنة بين شرك الأولين وشرك المعاصرين

    هل يوجد في المسلمين من يعبدون الأولياء؟ أي نعم، إلى ما قبل خمسين سنة منذ خمسة قرون، ما تستطيع أبداً أن تجد من لا يقول: يا سيدي فلان إلا نادراً، عند أبواب الأسواق يرفع يديه السائل الفقير يديه: يا سيدي فلان! أعطني لوجه فلان! ولا يذكر الله، بأعيننا رأيناهم.وأعظم من هذا أن المرأة والطلق يهزها وقد ربطوا حبلاً في سارية العمود؛ إذ ما هناك مشاف ولا ممرضات ولا مقبلات وهي تصرخ: يا ألله! يا رسول الله! يا رب! يا سيدي عبد القادر! يا فلان! ولو تموت هذه فكيف ستموت؟يقولون لك إذا أصابتك مصيبة: يا مغربي! استقبل القبلة وناد: يا راعي الحمراء! يا مولى بغداد! فيأتيك ويفرج ما بك.وإن شككتم فهذا تفسير المنار للشيخ: رشيد رضا وبعضه للشيخ: محمد عبده ، يقصان عليكم قصة عملية واقعية، قال: كانت سفينة تحمل الحجاج أيام الدولة العثمانية من طرابلس الغرب إلى طرابلس الشام، ترسو في الموانئ وتحمل حجاج البلاد من طرابلس والإسكندرية ويافا وحيفا واللاذقية، قال: وجاءت عواصف بحرية بأمواج، والسفينة ما هي كما هي الآن بالهيدروجين، إنما كانت بالفحم أو بالشراع، قال: وماجت السفينة واضطربت، فأخذ الحجاج يقولون: يا رسول الله! يا بدوي! يا عبد القادر ! يا مولاي فلان! يا عيدروس ! يا فاطمة ! يا حسين ! وكان يوجد بينهم فحل قوي، فوقف ورفع يديه إلى الله وقال: يا رب! أغرقهم فإنهم ما عرفوك.ورحم الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، يقول في رسائله: شرك الأولين أخف من شرك الحاضرين، والله! لأخف، وإليكم الصورة: لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة ودخلت جيوشه الاثنا عشر ألفاً، فالطغاة هربوا، ما استطاعوا أن ينتظروا، خافوا، وعلى رأسهم عكرمة بن أبي جهل ، وكان كأبيه أبي جهل ، الابن كالأب في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهرب إلى ساحل البحر فوجد سفينة تريد أن تقلع إلى الحبشة أو إلى الهند، المهم ألا يشاهد محمداً صلى الله عليه وسلم في مكة، فلما انطلقت السفينة ومشت كيلو أو كيلوين اضطربت وجاءت الأمواج، فقال الربان أو الملاح: يا جماعة! يا عباد الله! ادعوا ربكم قبل أن تغرقوا. فأخذوا يقولون: يا ألله! يا ألله! يا رب الكعبة! يا رب إبراهيم! وهم مشركون، ما قالوا: يا لات ولا عزى، فقال عكرمة : هذا الذي هربت منه يلحقني حتى وأنا في السفينة، أنا هارب من هذا التوحيد، والله! لترجعن بي إلى الساحل، ولأقبلن يد محمد صلى الله عليه وسلم، وردّه إلى الساحل، وانطلق رأساً إلى مكة واطّرح بين يدي الرسول يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، واقرءوا لذلك: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، ونحن الآن بالعكس، ما هناك فرق بين البر ولا البحر، عند المصيبة الكل: يا سيدي فلان، والحمد لله أن أنقذنا الله عز وجل بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي كان يتقزز منها الغافلون والغالطون، وانتشر هذا النور وأصبحت ما تسمع بمؤمن يقول: يا سيدي عبد القادر إلا بعض العوام. وقد خرجنا ذات مرة وكان شخص معنا، وركبنا في السيارة وهو يسوق، فخرجت السيارة عن الطريق فإذا به يقول: يا رسول الله! يا رسول الله! فقلت: وأين الله؟ كيف نسيته؟

    الجهل علة الشرك بالله تعالى

    إذاً: العلة الجهل، والنجاة بالعلم، فكيف نطلب العلم؟ والله! ما هناك مشقة ولا كلفة أبداً، لا تحمل قرطاساً ولا قلماً، ولا توقف أبداً مصنعك ولا مزرعتك ولا متجرك، إنما إذا مالت الشمس إلى الغروب يأتي المؤمنون بأبنائهم ونسائهم إلى بيت ربهم، ويوسعونه، ويتلقون الكتاب والحكمة بين المغرب والعشاء كل ليلة.اليهود والنصارى والمشركون إذا دقت السادسة وقف العمل وذهبوا إلى المقاهي والملاهي والمراقص والمقاصف؛ إذ هذا دينهم وهذا باطلهم، ونحن إلى أين نذهب؟ إلى بيوت الرب عز وجل، نتلقى الكتاب والحكمة ونزكي أنفسنا، ما تمضي سنة واحدة على أهل القرية إلا وكلهم أولياء الله، فلم ما نفعل هذا؟ أهذا ينغص الحياة؟! أهذا يوقف العمل؟! الجواب: لا. بل هذا الذي يوجد الإخاء والمودة والمحبة، لا سيما إذا وجد صندوق حديد في المحراب وقيل: يا معشر المؤمنين والمؤمنات! من أراد أن يتصدق فليضع في هذا الصندوق، يا معشر المؤمنين والمؤمنات! من زاد على قوته ريال فليضعه في هذا الصندوق، حتى يمتلئ وينمو في تجارة أو مصنع أو مزرعة، وإذا به يدر عليهم اللبن والخير، وفقراء القرية لا يبقى لهم وجود، وتنتهي السرقة والتلصص والبكاء والجزع أبداً، كأسرة واحدة، فلم ما نفعل هذا؟ لأننا ما عرفنا، ما أيقنا بهداية الله. والله تعالى أسأل أن يعود بنا إلى جادة الصواب، وأن ينجينا من محننا؛ إنه رءوف رحيم.معشر المؤمنين والمؤمنات! أحدهم مريض سألنا أن ندعو الله تعالى له، فاللهم يا ولي المؤمنين ويا متولي الصالحين اشف عبدك شفاءً عاجلاً غير آجل، وبارك في صحته وعمله يا رب العالمين، واشف اللهم مرضانا في بيوتنا وبين أيدينا، اللهم اشفنا ظاهراً وباطنا، اللهم اشفنا ظاهراً وباطنا، اللهم زك نفوسنا أنت وليها وأنت مولاها وأنت خير من زكاها، اللهم ارزقنا البصيرة واليقين واجعلنا من عبادك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ربنا علمنا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما تعلمنا، واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعلنا من الراشدين من أوليائك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (29)
    الحلقة (36)




    تفسير سورة البقرة (125)


    إن تطلع الإنسان إلى معرفة قدرة الله والنظر في إعجازه مما فطر عليه الإنسان، لكن فرق بين من تطلع إلى ذلك مستبعداً له وشاكاً فيه، وبين من تطلع إليه موقناً به ومؤمناً إيماناً صادقاً، أما مثال الشاك فهو ما وقع من عزير عليه السلام حين مرّ على القرية التي دمرها البابليون فاستبعد عودتها كما كانت، فضرب الله له مثلاً في إماتته ثم إحيائه ونظره إلى حماره والحياة تعود إليه شيئاً فشيئاً حتى آمن وأيقن، ومثال المؤمن المصدق إبراهيم عليه السلام الذي سأل ربه أن يريه مثالاً لإحياء الموتى، فأراه سبحانه قدرته وعظيم صنعه في تلك الطير التي أعاد إليها الروح بعد تقطيعها وتفريقها في الأرض.

    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم حقق لنا هذا الرجاء يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.وها نحن مع هذه الآية المباركة من سورة البقرة المباركة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259].هذا الكلام من يستطيع أن يأتي به؟ هذا كلام الله رب العالمين، فقولوا: آمنا بالله!ومحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الأمي العربي فرد من أفراد الأميين يقص هذا القصص كأنه حاضر وشاهد الأحداث كما هي، كيف يتم هذا لولا أنه رسول يوحي الله إليه بالأنباء والأخبار التي يستحيل على البشر أن يردوها بمنطق أو حجة أو دليل؟

    أثر ولاية الله تعالى لعباده المؤمنين

    وهذه الآية كسابقتها دليل على قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257]، من ظلمات الجهل إلى نور العلم.وبالأمس كان الخليل إبراهيم في السجن ويسأله ملكهم النمرود عن ربه: من ربك؟ قال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258]، قال الطاغية: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، فألهم الله الحجة لإبراهيم صاحب الإيمان والنور فقال: إن ربي يأتي بالشمس من المشرق فائت بها أنت غداً من المغرب! فبهت الذي كفر، انقطع ولم يستطع الجواب أو يتكلم بكلمة، وكيف يرد هذا؟ هل يقول: سنعمل ذلك؟ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]، وهذه الجملة المذيل بها الكلام تزن الدنيا وما فيها، اسمع: إن الله لا يهدي القوم الظالمين إلى ما فيه سعادتهم وكمالهم، إلى ما فيه عزهم وانتصارهم، إلى ما فيه سعادتهم، إلى أي خير؛ لأنهم ظلموا وخرجوا عن الطريق وهم يتقلبون، فمن يهديهم؟ آمنا بالله. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258] إلى ما فيه كرامتهم وطهرهم وصفاؤهم وعزهم وسعادتهم ونصرتهم على أعدائهم، ولكن الله هدى إبراهيم للجواب المفحم القاطع الذي بهت به العدو أمامه.

    أثر ولاية الله تعالى لإبراهيم الخليل في محاجة النمرود

    أعيد تلاوة الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258]، يكفر ويتعالى ويطغى، وهذه لفتة أيضاً عجيبة: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، وجربنا هذا حتى في إخواننا، ما إن يحصل على قرش أو مركبة حتى يتكبر، كان بهلولاً من الصالحين يكنس المسجد ويمشي مع الناس، ما إن يرتفع حتى يتكبر، ما استعمل تلك الأرقام الثمانية في قوله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:19-21] إلى آخر الآيات. كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، والأمة ما تعالج في هذه المستشفيات وما يعرفونها ولا سمعوا بها، فكيف تراهم إذاً؟ الظلم والشر والخبث والفساد والخيانة، مرضى وما عولجوا في مستشفيات النفس، فعلاج النفس في المستشفى الرباني الإلهي، ودعنا من البكاء فإنه لا يجدي، وهيا نتمم الآية تلاوة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]، هذا مظهر من مظاهر ولاية الله لأوليائه ونصرتهم، الطاغية النمرود بكل قواه فشل وما استطاع أن يجيب، فأمر به فألقي في النار، فقال الرب جل وعز خالق كل شيء: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فوالله! لم تأت النار إلا على كتافه في رجليه ويديه، وخرج وجبينه يتصبب عرقاً، وتركهم وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:99-100]، فأول هجرة في الله تعالى عرفتها البشرية هجرة الخليل إبراهيم.فلم المسلمون ما يعرفون هذا؟ لأنهم يقرءون القرآن على الموتى فقط، أما على الأحياء فممنوع، القرآن يقرأ على الموتى، وهناك نقابة، فبالتلفون اتصل: مات عندنا ميت، فيقول: من فئة المائة ليرة أو من فئة خمسمائة، فإذا كان فقيراً فمن فئة المائة، والغني من فئة خمسمائة، وأبناؤنا يقرءون القرآن في الكتاتيب لهذا الغرض، لا ليعرفوا الله وما عنده، أكثر من ثمانمائة سنة ونحن هابطون.فالقرآن حين يقرأ على الموتى فإني أسألكم بالله: هل سيقومون ليعبدون الله؟! والله يقول وقوله الحق: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69]، رد على من قالوا: القرآن شعر، وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:69-70]، أم قال: لتقرأه على الموتى؟ وقال: لينذر من كان حياً أو من كان ميتاً؟ونحن إذا مات فلان قيل لطلبة القرآن: احضروا سبع ليال، وإن كان غنياً فإحدى وعشرون ليلة وهم يقرءون القرآن ويضحكون.


    تفسير قوله تعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها ...)

    ثم قال تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259].

    المراد بالقرية والشخص صاحب الحادثة في الآية الكريمة

    إذاً: بعد تلك الآية من آيات الله المحققة لوعده بولايته لأوليائه جاءت هذه الآية: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ [البقرة:259]، والقرية في عرف القرآن: المدينة الكبيرة، وفي عرف الجغرافيين المتتلمذين للغربيين: القرية دون المدينة؛ حتى يبعدوا الناس عن القرآن، القرآن هو أول من قرر القرية وأنها المدينة الكبيرة، أما قال: وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى [الأنعام:92]، فما هي أم القرى؟ مكة المكرمة.إذاً: مر على قرية، فمن هذا المار؟ ذكر أهل العلم أقوالاً كثيرة: كالخضر، وفلان، وعزير، والراجح أنه عزير عليه السلام.إذاً: مر بقرية وهي مدينة القدس، ولم سميت المدينة قرية؟ لأن هذا مشتق من التقري الذي هو الجمع، قريت الماء في الحوض: أي: جمعته، وسمي القرآن قرآناً لجمع كلماته ونظمها في جمل وآيات، إذاً: القرية هنا ما هي بمدينة صغيرة، هي مدينة القدس. قال تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [البقرة:259]، وخاوية ليس معناها: جائعة بلغة المغرب، يقولون: خوى بطنه: فرغ فهو جائع، فخاوية هنا بمعنى: خالية، وهي كذلك، خوى البطن: فرغ. وخوت المدينة: ما بقي فيها سكانها، لكن قوله تعالى: خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [البقرة:259] لأن السقوف التي كانت تعرّش للظل والوقاية من الحر والبرد وقعت على الأرض فهي خاوية على العروش.

    معنى قوله تعالى: (قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها)

    قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259].هذه القرية من هدمها؟ هذا الذي هدمها يقال له: بختنصر ، هو الذي غزا المسلمين هناك من بني إسرائيل وانتقم منهم وخرب بيت المقدس، حتى التابوت هو الذي أخذه كما تقدم، والتوراة أخذها، والعزير ألهمه الله إياها فأملاها على بني إسرائيل فقالوا: إذاً: هذا ابن الله، هذا سر اتخاذه ابناً لله من سورة التوبة، لم؟ اندهشوا، التوراة أخذها الطغاة الجبابرة ومزقوها، وهذا قال: تعالوا أمليها عليكم، فأملاها عليهم فقالوا: هذا ابن الله؛ فكفروا.إذاً: العزير عليه السلام مر بهذه المدينة فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259]؟ أي: كيف يحييها؟ من باب التطلع إلى المعرفة، وفيه معنى الاستبعاد، هذا الأمر بعيد، فما تعود هذه أبداً، كيف تعود كما كانت؟ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259]؟ ماتت القرية، انقطعت الحركة والكلام، كما يقال: مات الشخص: إذا ما بقي له كلام ولا حراك.

    معنى قوله تعالى: (فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم)

    فماذا فعل الرب تبارك وتعالى؟ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ [البقرة:259]، وكان على رأسه سلة من العنب وأخرى من التين، فوضعهما وربط الحمار ليستريح في القيلولة، فأغمض عينية فخرجت روحه مائة عام وهو كذلك، وممكن أن يمر الناس به فيقولوا: هذا نائم، أو أنه أعماهم الله ودفعهم فلم يروه، فأصحاب الكهف ماتوا ثلاثمائة سنة! إذاً: فلا عجب، أماته الله تعالى مائة سنة ثُمَّ بَعَثَهُ [البقرة:259] أحياه، لما أحياه قال له: كَمْ لَبِثْتَ [البقرة:259]؟ سأله ربه بالوحي الإلهي أو عن طريق الملك: كم لبثت في نومك هذا؟ قال: يوماً أو بعض يوم؛ لأن الشمس ما غربت ولا يدري أهو نام من الضحى أم من طلوع الشمس، إذاً: حتى لا يكذب قال: يوماً أو بعض يوم حسب علمه؛ لأنه نام واستيقظ، لا آلام في المفاصل ولا غبار في الشعر ولا في الوجه، محفوظ بحفظ الله تعالى.

    معنى قوله تعالى: (قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ...)

    قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ [البقرة:259]، مائة عام، والعام أطول من السنة، وكيف يعرف؟ من يدريني أنني لبثت مائة عام على الأرض ميتاً؟ قال له: إذاً: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ [البقرة:259]، الطعام: عنب وتين، والتين عندنا نحن جربناه، يقولون: التين إذا بات كاليهودي إذا مات، إذا مات يهودي فالماء يسيل من فمه، والرائحة الكريهة، والوسخ، أعوذ بالله! فمن يقدر على أن يشاهده، والتين كذلك إذا بات في غير ثلاجة، ما كان هناك ثلاجات في العالم، فيتعفن ويتغير لونه، ما يؤكل، كالذي رأيته أمس فرميناه اليوم، جاءنا مؤمن من مصر بزنبيل أو سلة تين من هذا النوع، فما قدرنا عليه. إذاً: وشرابه عصير، قال تعالى: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259]، ما معناه؟ لم يتغير بمرور مائة سنة عليه، ما أثرت فيه السنون، مائة سنة والعنب والتين كما هما، والعصير والعنب كما هما، هذه عناية الله عز وجل، هذا حفظ الله عز وجل، يصرف القلوب من الإنس والجن، يصرف الحيوانات، يريهم ما يفزعهم حتى لا يقربوا إليه ولا يدنوا منهم، وهو يقول للشيء: كن فيكون، فاندهش الآن وتأكد أنه نام مائة سنة، كيف؟ إنه فعل الذي قدر على إماتتك مائة سنة وأحياك، انظر إلى العجب الذي هو أكثر منك: تين وشراب ما يتغير على مر عشرات السنين.وأعظم آية هي الأخرى: وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ [البقرة:259]، أين الحمار؟ فنظر وإذا بالعظام بيضاء تلوح هنا وهناك، هذا مشاهد، إذا مات الحمار تأتي الحيوانات تأكله وتبقى عظامه بيضاء تلوح في الأرض. وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ [البقرة:259]يا عبدنا، وإذا بتلك العظام تتجمع آلياً أوتوماتيكياً العظم إلى العظم، وتناسبت كل الأجزاء، وغشيت باللحم والجلد وإذا بالحمار يقف، فاركب وكل واشرب وامش. وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا [البقرة:259]، وقراءة نافع وغيره: (ننشرها)، كَيْفَ نُنشِزُهَا [البقرة:259]، أي: نرفعها، والمعنى كله صحيح. وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259]، وعادت تلك المدينة كما كانت، وأعظم مما تكون، وأخزى الله بختنصر وجيشه ورجاله، آية من آيات الله عجب.


    ملخص لما جاء في تفسير الآية

    يقول تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ [البقرة:259]، هذه مدينة القدس الطاهرة، وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [البقرة:259]، سقطت مبانيها وسقوفها على الأرض.قال عزير: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ [البقرة:259]، والبرهنة: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259]، الطعام والشراب مر عليهما مائة سنة وما تغيرا؟! عجب هذا، ولا عجب مع قدرة الله عز وجل وعلمه وحكمته. وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ [البقرة:259]، وهل تعرفون بعض خبر الحمار؟ إن الذين يقرءون القرآن ويحفظونه ويقرءونه على الموتى ولا يعملون به هؤلاء هم الحمر، واقرءوا قول الله عز وجل: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5]، يحفظ القرآن ولا يفهم منه كلمة، ولا يقوم بواجب، ويقرؤه فقط على الموتى، هذه حالنا دهراً طويلاً حتى أنقذنا الله بما شاء أن ينقذنا، كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5].وعندنا لطيفة: أيام كنا ندرس النحو، كان المعلم يضرب المثل دائماً بالحمار، يقول: ضرب زيد الحمار، مررت بحمار، فلماذا الحمار فقط؟ قالوا: لأنه أبلد مخلوق، وتمضي الأعوام، وجاءت السيارات وأصبحنا نركب السيارة، فتمر على الحمار في الطريق فتضرب له جرس السيارة وتنادي ليبتعد فلا يفهم أبداً، يمد رأسه ويمشي، فقلنا: سبحان الله! ألهم الله تعالى النحاة هذه، فقلنا: نعم، وقد يكون فلان أشد بلادة من الحمار.والرسول صلى الله عليه وسلم ركب الحمار، وأذكركم بحمار عبد الله بن عمر ، فـعبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان قادماً من مكة أو ذاهباً إليها، ثم نزل ليستريح، أو جاء الليل لينام، فنام واستراح وإذا بأعرابي، فنظر إليه ابن عمر فقال له: ابن من أنت؟ قال: أنا ابن فلان، فقام فأخرج عمامة كان يربط بها رأسه في الليل يشده بها، وأعطاه العمامة وأعطاه حماره، فـنافع مولاه رضي الله عنه تعجب: يا مولاي! هذا أعرابي يكفيه حفنة تمر، كيف تعطيه عمامتك وتعطيه حمارك؟ هذا الحمار تروح به على نفسك. أي حين يمل ركوب البعير فيركب الحمار للترويح على النفس.فقال: يا نافع ! أتدري من هذا؟ هذا والده كان صديقاً لـعمر ، وهنا تتجلى حقيقة، وهي بر الوالدين، فأصدقاء أبيك وأمك ينبغي أن يبقوا أصدقاء تزورهم وتكرمهم، وتبجلهم وتحترمهم كاحترامك لأبويك، هذه الروابط والصلات الربانية، أبوه كان صديقاً لـعمر ، فأعطاه حماره وعمامته. وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ [البقرة:259]، أي: انظر إلى حمارك لتتأكد من صحة ما سمعت أولاً، وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ [البقرة:259]، آية على ماذا؟ على وجود الله رباً وإلهاً، وعلى قدرته على كل شيء، حيث لا يعجزه شيء، وعلى علمه الدقيق الذي أحاط بكل شيء، وعلى حكمته التي لا يخلوا منها شيء، وبهذا استحق بأن يعبد وحده ولا يعبد غيره، واستحق أن يطاع ويطبق شرعه، لما فيه من الإكمال والإسعاد للبشرية، لا أن تطاع الفروج والأهواء والشهوات والضلال والملاحدة والكفار. وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ [البقرة:259] دالة على قدرتنا وعلمنا وربوبيتنا وألوهيتنا موجبة لعبادتنا وحدنا؛ فلا إله إلا الله، وهو أيضاً آية من آيات النبوة المحمدية، لو لم يكن رسول الله فكيف يتلقى هذا العلم؟ من أين يأتيه؟ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا [البقرة:259]، أغمض عينيك فقط وشاهد وانظر فتتجلى الحقيقة كما هي.إذاً: لما شاهد قال: أَعْلَمُ [البقرة:259]، وفي قراءة: (اعلم) أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259]، والكل واحد، فهذه آية.

    دلالة الآية على ولاية الله تعالى للمؤمنين

    وبقيت أخرى إليكموها: هي أن كل هذا لتعلموا أن الله ولي الذين آمنوا، أما مؤمن ويشرب الحشيش، مؤمن ويركل المؤمنين برجليه، مؤمن ولا يشهد الصلاة مع المؤمنين؛ فهذا كذاب، المؤمن: الذي يدفعه إيمانه إلى أن يطيع الله ورسوله، فلا يخرج عن أمرهما ولا يفسق عنهما بحال. ولهذا في آية يونس قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا في الحياة هذه، ولا في البرزخ ولا يوم القيامة، ومن هم أولياء الله؟ هل سيدي عبد القادر ، مولاي إدريس ، العيدروس ؟ يا رب! بين لنا أولياءك لنعرفهم حتى نمشي وراءهم، ونقتدي بسلوكهم ونتعلم الهدى والعلم منهم، لا نعبدهم بالحلف بهم، والذبح لهم، والنذور لهم، والعكوف على قبورهم. لقد مررنا ببلد ما أيام الدعوة وإذا بالنساء والأطفال والرجال مخيمين، قلنا: ما هذا؟ قالوا: هؤلاء زوار سيدي فلان، سبعة أيام وهم عاكفون يدعون غير الله، ويمر بهم علماء، بل ويشاركونهم أيضاً! فمن أبعدنا عن نور الله؟ الثالوث الأسود: المجوس واليهود والنصارى، فهيا نكرههم ونبغضهم ونتخلى عنهم، لسان حالنا: ما نستطيع، نمشي وراءهم حتى نهلك كما هلكوا، هذه حالة أمة الإسلام، صرفوها عن مادة حياتها وسعادتها.

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ...)

    ثم قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ [البقرة:126]، من إبراهيم هذا؟ هذا أبو الأنبياء، هذا أبو الضيفان، هذا الخليل هذا جد نبيكم.مداخلة: .. الله.الشيخ: الحمد لله، هذا الأب الرحيم باني الكعبة.إذاً: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ [البقرة:260]، أي: يا رب، لم حذف ياء النداء؟ لا يحتاج إليها؛ لقرب الله تعالى، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، أما الذين يحتاج إلى الياء فهو البعيد: يا فلان، يا فلانة، أما الله تعالى فما يحتاج إلى ذلك، تقول: رب هب لي من لدنك رحمة. قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]، لا تلوموه وهو الخليل، تخلل حب الله خلاياه وثغرات جسمه وقلبه، يعيش مع ربه، رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]، حتى يطمئن قلبي وتهدأ أعصابي ونعرف كيف يتم هذا، أنا مؤمن بأنك تحيي الموتى وأحييت وتحيي، لكن نريد أن نعرف ليرتفع منسوب إيماني ويقيني.وقد ذكرت لكم مثلاً وضحت لكم به القضية: هل فيكم من لا يؤمن بأن الشاشة في التلفاز تنقل حقيقة من هم في المركز، هل هناك من يشك؟ لا أحد، لكن قد تقول: كيف يتم هذا؟ لو وجدت من يبين لك وهم لا يعرفون، وما يستطيعون أن يبينوا لقلت: كيف هذا؟ هو في الشرق وأنا في الغرب، ونشاهده يتكلم أو يرقص! فلا عجب في قول الخليل عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]؛ لأن إحياء الموتى أعظم آية، والله! لو يجتمع العالم بأسره وابدأ بالذين يقولون: لا إله، وهم البلاشفة الحمر، لو اجتمعوا بأطبائهم وكل ما لديهم على أن يردوا الحياة لميت؛ فوالله! ما يستطيعون، والله! ما يقدرون ولا لذبابة، إذاً: قولوا لهم: قولوا: لا إله إلا الله، لم الفرار والهروب حتى لا تعبدوه فتكملوا وتسعدوا؟ فإنكم تخسرون وأنتم لا تشعرون.

    معنى قوله تعالى: (قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)


    قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]، فقال الله عز وجل له: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [البقرة:260]، أتقول ما تقول ولم تؤمن؟ قَالَ بَلَى [البقرة:260]، كيف لا؟ نؤمن بك أنك تحيي الموتى، وأنك على كل شيء قدير، وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، ماذا قال أبو القاسم؟ ( نحن أحق بالشك من إبراهيم )، لو كان إبراهيم شك فنحن أحق بالشك، ونحن -والله- ما نشك، إذاً: والله! ما شك إبراهيم أبداً.وماذا قال عن يوسف عليه السلام؟ قال: ( ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي )، يوسف عليه السلام لبث سبع سنين في السجن، وجاءه رسول الحكومة، فقال: لا حتى يمتحن هذا الحادث وتظهر الحقيقة، وأنني بريء.إذاً: قال إبراهيم: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، وتسكن روحي وتهدأ بالمشاهدة، فأجابه الرحمن، وكيف لا وهو وليه؟! اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]، من الجهل، الشك، الارتياب، إلى نور اليقين والعلم، وهذا كائن إلى الآن وإلى يوم القيامة، من والى الله ولاية حقه لن يخزيه ولن يذله، ولن يخيفه ولن يحزنه، على شرط أن يوالي الله موالاة حقيقة، ما يفضل عليه كأس اللبن.

    معنى قوله تعالى: (قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ...)

    إذاً: قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [البقرة:260]، ولسنا في حاجة أن نقول: غراب، عقاب، وحمامة.. ما هناك حاجة إلى هذا، هذا علم لا ينفع والجهالة به لا تضر، وهذه القاعدة محروم منها المسلمون، وخاصة طلبة العلم، يقضي الساعة والساعات والجدال في شيء ما ينفع، في علم لا ينفع والجهالة به لا تضر، أيما شيء علمك به لا ينفعك اتركه، أو جهالته لا تضرك اتركه، لم تضيع فكرك ووقتك؟ وهذا يلهينا عن طلب الحق وبيانه للناس، ونحن مشغولون بهذه، علم لا ينفع وجهالة لا تضر، فإذا عرفنا العقاب والغراب وسائر الأربع فماذا استفدنا؟ فهل العبرة بها أو بحياتها بعد تمزيقها؟ يا أبناء الإسلام! إذا كانت القضية في الحديث والتفسير، في السياسية، في أي موضوع، وتعلم أن علمك بها ما ينفعك، وأن جهلك بها ما يضرك؛ فاتركها، والقاعدة: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، في كل مجالات الحياة. قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة:260]، اجمعهن إليك واذبح ومزق، ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا [البقرة:260]، جاءت الطيور، حصل عليها وجمعها، فذبحها وجزأها واحتفظ برءوسها، وخلط العظام والأفخاذ والظهور والسيقان، ووزعها على أربعة جبال، ما هذه الجبال الأربعة؟ علم لا ينفع وجهالة لا تضر، ممكن أنه لو عرفناها سنمشي لنعبدها أيام كنا ضلالاً ونتبرك بها، فمن الخير ألا تعرفها، علم لا ينفع وجهالة لا تضر، أيام كان الهبوط كان -والله- أكثر علماء المسلمين يشتغلون بهذه، والصراع والجدال فيها؛ لأنهم موقوفون، ما هناك دعوة دافعة إلى أن يعبد الله وحده، إلى أن تستقيم الآداب والأخلاق، هذا ما هو من نصيبهم، جدالهم يدور في هذه المسائل، وإن شئتم حلفت لكم على أنا رأيناهم كذلك.إذاً: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ [البقرة:260]، أي: من الطيور الأربعة جُزْءًا [البقرة:260]، ليس بشرط أن يكون بالمقادير، بل جزء منها. ثُمَّ ادْعُهُنَّ [البقرة:260]، نادهن: يا طيور! تعالي. وما هي إلا لحظات، وقد سبق في الحمار كيف تم خلقه في لحظات، وإذا بالطيور تتكامل في الخلقة، لحم العقاب مع العقاب، ولحم الغراب مع الغراب وعظامه، وتأتي واحداً بعد واحد، وما ظهر منها كاملاً وضع رأسه عليه وانطلق. ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا [البقرة:260]، ليست جريحة تململ.

    معنى قوله تعالى: (واعلم أن الله عزيز حكيم)

    وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260]، (عَزِيزٌ): غالب لا يقهر، عزيز لا يمانع في شيء أراده أبداً، قادر على أن يذل الأعزاء ويعز الأذلاء.(حَكِيمٌ ): يضع كل شيء في موضعه، الشمس وضعها في ذلك المجال، لو تزحف بالزيادة بالنقصان فسيخرب العالم، كل شيء في موضعه، وهذا هو الحكيم، وهذه هي الحكمة، فكيف يعرض عن كتابه وشرعه ودينه؟ كيف تطلب الحكمة من الفساق والفجار ويقتدى بهم ويؤتسى بهم؟ الحكمة أين توجد؟ توجد عند أهل القرآن، أهل الإيمان والتقوى.اسمع هذا البيان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، إعلان عن أعظم جائزة في الدنيا، إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، كل واحد عنده جهاز رباني، ينظر إلى الشيء فيعرف خطأه من صوابه، هؤلاء هم الذين يجب أن يسوسوا العالم الإنساني، والعالم الإسلامي أولاً، أما أصحاب الظلمة التي آثارها واضحة في السلوك، الظلمة الناتجة عن الفسق والفجور والكفر بالله ولقائه، والإعراض عن ذكره وكتابه؛ فهولاء كيف يسوسون، إلى أين يسوقون البشرية؟ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، عمر يقول عنه عبد الله ولده: ما قال أبي في شيء: أظنه كذا إلا كان كما ظن! فما سبب هذا؟إنه صفاء الروح، زكاة النفس؛ لأنه أبعد عنها ما يدسيها ويلوثها من الكذب والخيانة، والباطل والشرك والمنكر، فصفت فانكشف أمامه كل شيء، فالمؤمن ينظر بنور الله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (30)
    الحلقة (37)




    تفسير سورة البقرة (126)


    يوجه الله عز وجل عباده المؤمنين إلى الإنفاق في سبيله من الأموال التي وهبهم إياها، ومن الرزق الذي استخلفهم فيه، وبين عز وجل أنه يضاعف لمن أنفق في سبيله إلى سبعمائة ضعف، وقد بين سبحانه وتعالى أنه ألزمهم بآداب معينة عند الإنفاق، وهي أنهم إن وجدوا ما ينفقونه فلا ينبغي لهم إتباع ذلك بالمن والأذى، وإن لم يجدوا ما ينفقون فليقولوا قولاً معروفاً، بل إن القول المعروف دون إنفاق خير من الإنفاق المصحوب بالأذى والمن.

    تفسير قوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء إنك ولينا وولي المؤمنين.ها نحن مع هذه الآيات الثلاث من سورة البقرة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة:261-263].

    المراد بالإنفاق في سبيل الله تعالى

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261]، الأموال معروفة، وإنفاقها: إخراجها وفي سبيل الله: المراد من سبيل الله هنا: الجهاد، الإنفاق على المجاهدين؛ لإعداد العدة، وللخروج للقتال في سبيل الله، وسبيل الله عام، كل ما يصل بالعبد إلى رضا الله هو سبيله، كل عمل تنفق فيه من أجل أن يعبد الله تعالى وحده فهو سبيل الله، الطريق الموصل إلى رضا الله عز وجل بعبادته وحبه والخوف منه حتى تقرع باب دار السلام، فذلكم سبيل الله.هذه الآية وإن قيل: إنها نزلت في عثمان وفي عبد الرحمن فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن هذا الكتاب كتاب هداية ربانية للبشرية جمعاء، وإلى أن تنتهي هذه الحياة. مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261]، هذا القيد نِعمَ القيد، أما في سبيل الهوى والشهوات والدنيا، أو السلطان والتراب والطين؛ فلا، هؤلاء شأنهم آخر، ما أنفقوا لله.

    معنى قوله تعالى: (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة)

    هؤلاء المؤمنون صدقتهم ونفقتهم التي أنفقوها مثلها في التضاعف والتكثير والزيادة كمثل حبة من بر أو ذرة أو شعير، والغالب أنها البر، حبة في أرض طيبة، ليست سبخة ولا ملحة، تربة صالحة للبذر والزرع والحصاد. كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [البقرة:261]، لما خرج ذاك الفسيل تفرع عنه سبع سنابل، السنبلة الواحدة فيها مائة حبة، سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة:261]، إذاً: الحسنة بسبعمائة، حبة من القمح أنتجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، إذاً: الحسنة هنا بسبعمائة حسنة.

    معنى قوله تعالى: (والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم)

    هذا الإنفاق خاص بالجهاد، ومع هذا يقول تعالى: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، فقد تنفق في غير الجهاد ومع طيب النفس والرغبة فيما لدى الله، ولسد حاجة المحتاج، وتنفق ونفسك طيبة، وتريد بالإنفاق رضا الله ووجهه ليحبك، وترزق حبه، فقد يضاعفها لك مثل هذه المضاعفة وأكثر، ولهذا يقول: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر هذا الأمة: يضاعف الله الحسنة إلى ألف ألف، أي: إلى مليون؛ لأنه فتح باب الإفضال والإنعام: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261] من عباده، هذه المضاعفة لا تشك في أنها قامت على أساس زكاة النفس وطيب الروح وسلامة القلب، ومن المال الطيب الحلال، وابتغاء مرضات الله، يضاعف الله لك ما يشاء، درهم من نفس طيبة ومن حلال قد يعدل ألف درهم فيها شبهة. وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ [البقرة:261] واسع الفضل والعطاء والجود والكرم، عَلِيمٌ [البقرة:261]: عليم بخلقه وبمن هو أهل للمضاعفة فيضاعف له، فنِعمَ هذا التعقيب: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، ما هو بضيق العطاء، يده سحاء الليل والنهار ينفق ما يشاء.

    مقاصد الجهاد في سبيل الله تعالى وافتقاره إلى بيعة الإمام

    معاشر المستمعين! هنا كلمة لا بد أن نذكرها، وإن شئتم نقلتموها أو قبرتموها كما هي عادة أمتنا لما هبطت: فهذا الإنفاق في الجهاد؛ لأن عثمان رضي الله عنه في غزوة العسرة جهز ألف بعير، وجهز ألف غازٍ بسلاحه وطعامه وأثاثه.والآن: أين الجهاد؟الجهاد معشر المستمعين والمستمعات: بذل الجهد والطاقة والسعة البشرية، كل ينفق بحسب طاقته وقدرته، ولكن المراد من كلمة الجهاد المعهود المعروف ذي الفضل العظيم والدرجات العالية: هو ما كان من أجل الله تعالى ليعبد في الأرض، أو ليرفع الظلم عن أوليائه وصالحي عباده، هذا الجهاد يفتقر إلى الإمام، إلى إمام للمسلمين، إذ لم يأذن الله عز وجل أبداً أن يجاهد الناس فرادى أو كتلاً هنا وهناك، لا بد من إمام يرجع إليه، لا فوضى في الإسلام، الإسلام مبني على الأنظمة التي من شأنها تحقيق السعادة والكمال، والطهر والصفاء، والعز في الدنيا ودخول دار السلام الجنة في الآخرة، فمال المسلمين ما بايعوا إماماً لهم في هذه الروضة؟ مع المواصلات المتوافرة، أصبح العالم كأنه بلد واحد، هذه الوسائل التي أصبحنا نطير بها في السماء كالملائكة وأصبحت أصواتنا نتلقاها كأننا في يوم القيامة، فلم لا يجتمع المسلمون ويبايعون إماماً لهم وينظم حياتهم، وينتظمون في سلك لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا يعبد إلا الله ولا يتابع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟هناك أسباب كثيرة منعت من هذا، أسباب قوية وصعبة، كيف نستطيع معها أن نجتمع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبايع إمامنا وننتقل إلى ديارنا نطبق شرع الله وقوانينه المسعدة، المزكية، المطهرة، المعزة، الرافعة؟والله العظيم! ما من أمة أقبلت في صدق على الله، وطبقت شرعه وقوانينه إلا أورثها الأرض وأعزها ونصرها، وها هو وعد الذين سمعوه في تلك الروضة: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، لما نزلت هذه الآية كان أحدهم ما يستطيع أن يخرج من بيته ليبول من الخوف، وما إن أقبلوا على الله في صدق، ومشوا وراء رسول الله يحبونه أكبر من حبهم لأنفسهم،فإذا أمر أطاعوه، وإذا نهى أطاعوه، في خمس وعشرين سنة فقط حتى امتد ظل راية التوحيد من المدينة العاصمة إلى ما وراء نهر السند شرقاً، وإلى ديار الأندلس غرباً في ربع قرن لا أقل ولا أكثر، هذا مصداق قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55]، وكلمة: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55] أي: طبقوا شرائعه في أنفسهم وأهليهم، وفي كل ظروفهم وأحوالهم؛ لأنها قوانين وضعت وضع السنن التي لا تتبدل، فالطعام يشبع، الماء يروي، النار تحرق، الحديد يقطع، سنن لا تتبدل، إذاً: تطبيق هذا التعاليم الإلهية والله لا يتخلف.وعرف العدو هذا فكاد للإسلام وأهله، فمزقوهم، شتتوهم، فرقوهم، المذهب الواحد أصبح مذاهب، وصراط الله الواحد أصبح طرقاً متعددة، والقرآن النور أبعد عن ساحة العمل، أخرج من كل مكان، ووضع على القبور والموتى، فحصل الذي حصل، فمن بعد القرن الثالث والأمة هابطة.


    مقترح بتشكيل لجنة عالمية لرفد الدعوة الإسلامية في العالم

    والآن: عدنا إلى ما أردت أن تسمعوه وتبلغوه، أقول: هل الإمام غير موجود؟ إنه موجود، ولكن الكبر والعصبية والجهل والمرض ما يسمح للمسلمين أن يتعاهدوا عند بيت الله في داخله فيقولوا: يا فلان! أنت إمام المسلمين! نقول: تعالوا إلى الروضة، وهذا الكلام كتبه شيوخكم من خمس وثلاثين سنة، ووزعناه على الملوك والرؤساء، والكتابة موجودة في رسائل معروفة.إذاً: كيف يقال: هيا نجاهد الآن؟ نجاهد بدون إمام؟ جهاد باطل، مصيره ومآله الخسران ظاهراً وباطناً، والحمد لله. ما هناك حاجة الآن إلى الجهاد بالسيف أبداً، لم؟ كيف نقول: هيا نخرج بسفننا الحربية، بالغواصات، بالبوارج لنرسو أمام دولة كافرة كفرنسا مثلاً؟ لماذا؟ لم نغزوها؟ فرنسا فيها ثلاثة آلاف مسجد، ويذكر فيها الله، ويؤذن فيها باسم الله، وأبوابها مفتوحة، فلم نغزو إذاً؟ لا معنى لذلك أبداً، هل نرسو بسفن حربية في موانئ بريطانيا، لم وفيها يذكر الله ويعبد، وفيها آلاف المساجد، لم إذاً نغزوها، باب الله مفتوح، ما هناك حاجة -والله- للغزو في هذه الظروف أبداً.إني أتكلم *والله- على علم، فأسبانيا فيها المساجد وبيوت الله مفتوحة والناس يعبدون الله فيها، إذاً: كيف نجاهد؟ والذي أريد أن تفهموه وتعوه وتبلغوه أن الفرصة ذهبية، ويخشى أننا نفقدها في يوم ما من الأيام، هذه الفرصة هي: أن يتكون لنا مجلس علمي، ويشارك فيه كل إقليم وكل دولة من دول العالم الإسلامي بعالم رباني، عالم بالله ومحابه ومساخطه، يخشى الله ويخافه ويرغب في حبه وطاعته، هذا المجلس الذي أسهم فيه كل إقليم بعالم، وقد بلغت دولنا نيفاً وأربعين دولة، المجلس يتكون من خمسة وأربعين عالماً، اجتمعوا في الروضة المحمدية، هذا المجلس فيه سرية أيضاً، ولسنا في حاجة إلى التبجح والإعلانات؛ حتى لا نثير الصليبية ضدنا، أو نخيف اليهودية والمجوسية فتكيد وتمكر كما فعلت من قبل، ثم ننتقي اللجان كل لجنة من ثلاثة أنفار، لجنة إلى أمريكا ودولها من كندا إلى البرازيل، ولجنة إلى أوروبا الغربية، وأخرى إلى الشرقية، ولجنة إلى الصين، وأخرى إلى اليابان، وخامسة إلى أفريقيا، هذا اللجنة تذهب تدرس وضع الجاليات الإسلامية، كم يوجد في هذا البلد من مسلم؟ مليون، أو ثلاثة ملايين، أو مائة ألف؟ يزورون الإقليم بكامله، ويتعرفون إلى المسلمين، ويعودون وقد عادت كل لجنة بخارطة رسمت فيها كم مسجداً، في كم مدينة، بل المدينة الفلانية فيها كذا مسجد، والأخرى فيها كذا، وعدد المسلمين كذا، ويعودون بعد ثلاثة أشهر فيقدمون تلك الخرائط فيعرف ذلك المجلس الأعلى الرباني، يعرف كيف يجاهد الجهاد العملي، وحينئذٍ اللجنة تكون لجنة أخرى تطوف بدول العالم الإسلامي، وتطالب كل مسلم ومسلمة أن يسهم بدولار أو ربعه. معاشر المؤمنين والمؤمنات! لا يحل لأحدنا اليوم ألا يسهم في هذا الجهاد، الإقليم الفلاني تعداد أنفاره عشرة ملايين نسمة، إذاً: كل سنة يقدمون لنا عشرة ملايين دولار، الإقليم الفلاني أفراده مليون يقدمون المليون، فيشارك كل مؤمن في هذا الجهاد السري العملي، وإذا بها ميزانية عظيمة، ونحن حددنا دولاراً أو ربع دولار، ولكن إذا لاحت أنوار هذا الجهاد وتجلت فسينفق الناس أموالهم ويخرجون منها، حينئذٍ تكونت الميزانية، فاللجنة تذهب إلى أسبانيا مثلاً وتأتي بالعلماء الربانيين، تنزل في كل مسجد أو ناد أو مركز للدعوة عالماً ربانياً، فتوزع المربين والدعاة الهداة الذين لا ينظرون إلا إلى الله، وتوزع الكتاب الذي يدرس ويلقن ويعلم على غرار كتاب (المسجد وبيت المسلم) أو (منهاج المسلم)؛ حتى لا تبقى فرقة، ننسى كلمة: أنا حنفي، أنا مالكي، أنا حنبلي، أنا إباضي، أنا كذا.. انتهت، عدنا إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأبنائهم وأحفادهم؛ لأن العدو لما مزقنا وذبحنا عرف مصدر قوتنا، إنها الكتلة الواحدة، المذهب الواحد، فمزقنا فأصبحنا شراذم هنا وهناك، ومن ثم ركبوا ظهورنا، وساسونا، وفعلوا فينا الأعاجيب، وأصبحنا مسخرين لهم لضعفنا وعجزنا.إذاً: وتبدأ الأنوار تلوح، فالصيني والياباني والأمريكاني والأوربي من المسلمين كشخص واحد، كلمة واحدة هي: المسلم، وينفقون تلك الأموال على تنمية تلك الروح وتزكيتها، والناس إذا عرفوا أنه ينفق عليهم في سبيل الله لإعلاء كلمة الله تتغير طباعهم وأخلاقهم، ويأخذون في مظهر الإسلام الحق: الصدق، الوفاء، التنزه، الشجاعة، الكرم، تنتهي مظاهر الخبث والشر والفساد، ليس هناك مسلم ما يصلي، ومسلم يشرب الخمر لا وجود له، ولا مسلم يهون ويذل، والله! لتصبحن تلك الأمم تعتنق الإسلام وتفرح به، وينتشر الإسلام بصورة عجيبة. فالمناسبة قائمة؛ لأن البيان والهداية آثارها في المواطنين، جارك بريطاني أو أمريكي يمتحنك العام والأعوام فتتجلى له في الطهر والصفاء والكمال والعفة والصدق فيحبك، وإذا أحبك سلك مسلكك وطلب النجاة من ورائك، في ربع قرن خمس وعشرين سنة من الجائز أن يظهر الإسلام ظهوراً كاملاً. وعندنا وعد تقدم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوم الساعة حتى لا يبقى بيت وبر ولا مدر إلا دخله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل )، ومن ثم نكون قد أدينا واجب الجهاد.

    طريق تحقيق الإسلام الحق في ديار المسلمين

    وقد نستحي إذا رأينا العالم يزدهر، نستحي نحن في بيوتنا أن تظلم وتصاب بالظلام، فنعود إلى الاستقامة على منهج الله، والطريق عندنا أيضاً أسهل من الأول، الطريق إلينا سهل.وقد قررنا هذه الحقيقة وأعدنا القول فيها، وهي أن أهل القرية كأهل الحي، يجتمعون في بيت ربهم من المغرب إلى العشاء، وذلك كل ليلة وطول العام، ولا يتخلف أحد أبداً إلا ذو عذر شرعي يمنعه من الحضور، وندرس كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سنة واحدة كيف تكون حالنا؟ لا خيانة، لا كذب، لا كبر، لا عجب، لا حسد، لا جريمة أبداً، ومن ثم يوضع صندوق من حديد في محراب مسجدنا، ويقال: معاشر المؤمنين والمؤمنات! من زاد على قوته درهم واحد فليضعه في هذا الصندوق، وبعد ستة أشهر يمتلئ، فننتقي لجنة من صالحي الحي أو القرية ونقول: ماذا ترون لتنمية هذا المال؟ قالوا: الساحة تقتضي مزرعة تنتج البر واللحوم والبيض والدجاج؛ فهيا باسم الله، فلا تمضي سنة إلا وقد نما ذلك المال وارتفعت نسبته، ويوزع ذلك الربح على أهله بقدر إيداعاتهم، صاحب الدرهم يأخذ قدره، وصاحب الألف يأخذ قدره.ثم الزكاة، يقال: معشر المؤمنين والمؤمنات! هذا أوان الزكاة. فتأتي الزكوات، ومن ثم يتوافر المال أولاً، فلم يبق بينا يا أهل القرية من يسأل ويطلب غير الله، لا يبقى بيننا من يبكي من شدة الجوع، أو من شدة ألم العري؛ لأننا نعيش مجتمعين، وجوهنا إلى بعضها، يعرف بعضها بعضاً، نعيش على الحب والولاء والطهر والسلام. هذا هو الطريق لإعادة ديار المسلمين إلى الإسلام، لا بالأحزاب، ولا بالجمعيات ولا بالتكفير ولا بالحروب، والله! ما تنتج هذه ذلك أبداً.إنما يقول الخطيب: يا معشر المستمعين من أهل لا إله إلا الله! من الليلة لا يتخلف مؤمن ولا مؤمنة عن هذا المسجد، فإن قيل: يا إمامنا! المسجد ضيق؟ قال: الليلة وسعوه، لا تطلع الشمس إلا وقد زدتم فيه مسافة أخرى، ولو بالخشب والحطب، لسنا بحاجة إلى الرفاهة، ونفرش من الحصر ويجلس المؤمنون والمؤمنات ويجتمعون في بيوت الله، وقلوبهم كلها مع الله والدار الآخرة، ويأخذ المربي ليلة آية وليلة حديثاً، وهم ينمون وترتفع معنوياتهم وهممهم وآمالهم، فتنتهي مظاهر الضعف فينا، الشح والبخل والشره والطمع والتكالب على الدنيا وزخارفها، والتنافس في المطاعم والمشارب والملابس كل هذا ينتهي؛ لأننا مقبلون على السماء نريد الملكوت الأعلى، فهل يكلف هذا المسلمين شيئاً؟اليهود والنصارى خصومنا أعداؤنا إذا دقت الساعة السادسة مساءً أوقفوا دولاب العمل، وحملوا أطفالهم ونساءهم إلى دور الرقص، السينما، اللهو، الباطل، ولا لوم؛ لأنهم ما عرفوا السماء ولا ما فيها، ولا رغبوا في الرقي إليها، عرفوا الأرض، أخلدوا إليها، وهم لا يعرفون إلا شهواتهم، فسيعملون بجهدهم لتحقيق شهواتهم في الطعام والشراب واللباس والسكن والنكاح، فلهذا إذا دقت الساعة السادسة أقبلوا على الباطل، ونحن الذين نزعم أننا نريد الملكوت الأعلى لنرتقي مسافة سبعة آلاف وخمسمائة عام بأرواحنا اليوم وبأبداننا غداً ما نستطيع أن نجلس في بيوت ربنا؛ لنزيل آلام الحزن والكروب والمخاوف والأحزان، لنطهر أنفسنا ونزكيها لتصبح أهلاً للملكوت الأعلى، كما قال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30]، هذا النداء للنفس الطاهرة الزكية، فهل تطهر النفوس وتزكو على الباطل؟ على الأغاني والرقص؟ على الكذب والباطل؟ كلا. بل على هذه العبادات المقننة تقنين الكيمياويات، لتعمل عملها في تهذيب الإنسان وتزكيته وتطهيره، فنعرض عنها أو نأتيها بصور لا تنتج الزكاة أبداً، ونحن نأمل أن ندخل الجنة!


    دور الإنفاق في الدعوة العالمية وإصلاح أوضاع العالم الإسلامي

    معاشر المؤمنين! هنا تتجلى حقيقة الإنفاق في سبيل الله، مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، فهل عرفتم الجهاد الآن؟ خارج الديار الإسلامية بم يكون؟ بالبواخر؟ بالهيدروجين؟ لا، يكون بالدعوة، بنظامها، بربانيتها، بأهلها، لجنة عليا يتفرع عنها لجان يطوفون بالعالم شرقاً وغرباً يضعون خرائط للجاليات الإسلامية بالتفصيل، وميزانية سرية يسهم فيها كل مؤمن ومؤمنة، والله! لو تمت وصدقت لرأيتنا نخرج من أموالنا، لا إنفاق عشرة أو مليون، بل يخرج الرجل من ماله كاملاً؛ لما يتحقق به من الهداية الإلهية للبشر، فهذا هو الجهاد في الخارج. فلم ما يتكون هذا؟ ما المانع؟ من الذي يقوم بهذا؟ العلماء، والأذكياء، والفطناء، والربانيون يقدمونه إلى الحكام والحكام يوافقون ويأمرون. والجهاد في الداخل كما قلت لكم: جهاد النفس فقط، أهل القرية كأهل الحي في المدينة، في خطبة الجمعة يقول الإمام: معشر الأبناء والإخوان! من الليلة لا يفارق أحدنا هذا المسجد ليصلي المغرب والعشاء بامرأته وبناته وأولاده، ونتعلم ليلة آية وأخرى حديثاً من الكتاب والسنة، فتنتهي المذاهب ومقتضيات الفرقة والخلاف والنزاع نهائياً، كما انتهت في العالم الذي رفعناه إلى قمته بدعاتنا وكتبنا فاتحدت الكلمة والعقيدة والمنهج، فتتحد أيضاً بلاد المسلمين من باب أولى، بـ(قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم).ونصبح أحياء بعد الموت، وتتجلى حقائق الإسلام، تدخل القرية فما تستنكر فيها أحداً ولا صورة ولا صفة، تتعامل معنا في متاجرنا، في معاملنا فلن تسمع كلمة سوء، ولن تشاهد منظراً باطلاً، وإن وقع شيء من الشذوذ فلا قيمة له.نعود إلى الآية الكريمة: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، هذه للإنفاق في أوروبا وأمريكا والصين واليابان.

    تفسير قوله تعالى: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذىً ...)

    والآن مع الآية التي هي للإنفاق في داخل القرية والمجتمع والحي، قال تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262]، لا بد من هذا القيد وإن كان من حديد، فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262]، ما معنى (سبيل الله)؟ أي: من أجل أن يعبد الله وحده، من أجل أن يتقرب الناس إليه ليعبدوه، فيكرمهم ويعزهم، ويهيئهم للملكوت الأعلى، فيسكنهم دار السلام، هذا سبيل الله. الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262]، اسمع القيد: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى [البقرة:262]، ينفق ماله أولاً لا يريد إلا وجه الله، لا أن يسمع فلان أو فلانة، ولا أن يقال: فلان يعطي وفلان يتصدق، ما يريد إلا وجه الله، ثم حين ينفق على المسكين، على المحتاج، على اليتيم، على الأعرج، على المريض، على الذي لا يستطيع أن يعيش لعلة قامت به أو ظروف لزمته، بعد ذلك لا يتبع ما أنفقه مناً، وما المراد من المن؟ المن: أن يذكر له العطاء الذي أعطاه، فهذا المؤمن، هذه الرباني، هذا الحي إذا كسوته بثوب، أو وضعت على رأسه عمامة، أو وضعت له في جيبه درهماً أو عشرة، هذا له عزته وله كرامته، هذا ولي الله، وإنما هو تحت الامتحان، هو ممتحن من سيده ليصبر أو يضجر، لا أقل ولا أكثر، وعما قريب ينجح وتزول المحنة، في هذه الحال إذا أعطيته لا تقل: تذكر كذا يوم كذا؟ هذا كأنما تقتله به، وما يرضى الله أن يهان وليه، أعطيته عطاء تريد به وجه الله لا وجهه هو، إذاً: فلا تمن عليه بما أعطيته، لا تذكره أبداً، ولا تقل للناس: أعطينا فلاناً وأعطينا فلانة، هذا المن حرام، الذي يمن هو الله ليُشكر، أما أنت فتمن لماذا؟ كل ما في الأمر أنك أعطيت من عطاء الله فقط وتريد وجه الله، هل تطلب أكثر مما تعطي، إن كنت تريد أن يرضى الله تعالى عنك ويحبك فلا من ولا أذى.والأذى ما هو؟ أن يعطيه ويسبه، يعطيه ويدفعه، يعطيه ويعيره، يقول: أنتم ما تستحون، فهذا الإنفاق باطل باطل باطل، ما يزكي النفس، كالذي يتوضأ ويبول، هل يبقى وضوؤه؟ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى [البقرة:262] لا يعقبون عليها بمن ولا أذى لمن أعطوه.

    جزاء المنفقين بغير منٍّ أو أذى

    وأخيراً: ما الجزاء؟ قال تعالى: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البقرة:262]، أجر نفقتهم عند ربهم مدخر، ممكن أن يعجل لهم منها في الدنيا، وكم من منفق يبارك الله في ماله وإنفاقه، هي عنده فيعجل منها ويدخر الباقي لدار السلام، هذه الحور، هذه القصور، هذه الأنهار، هذا العالم أكبر من الأرض عشر المرات تعطاه يا عبد الله في ذلك الملكوت مقابل هذه الصدقات، لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البقرة:262]، هذا أولاً.وثانياً: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:262]، لا يخافون عدواً، ولا يخافون فقراً، ولا مرضاً، ولا موتاً، ولا يحزنون لما يفقدون أبداً؛ لأن قلوبهم مطمئنة، نفوسهم زكية، لا خوف عليهم في الدنيا هذه ولا في الحياة الثانية البرزخ بين الحياتين ولا يوم القيامة.ولا تفهم يا بني أنه يتكلم مع اليهود والنصارى والفساق والفجار والمشركين، لا، بل يتكلم مع المؤمنين، إذا كانت العقيدة فاسدة فلا ينفع العمل، فانتبه! الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262]، والحقيقة أنه ما ينفق عبد في سبيل الله إلا وهو مؤمن على مستوى أعلى في إيمانه بالله ولقائه، لو كان ينفق في سبيل الوطن والبلاد والعصبية فهذا شيء ثان، لكن فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262]، لا يلتفت إلى غير الله، والله! إنه لمؤمن، ولن يكون إلا مؤمناً ومرتفعاً في نسبة الإيمان، هؤلاء ينفقون في سبيل الله أموالهم، والله! قد يكون أحدهم في حاجة إلى هذا الطعام ويقدمه لمن هو جائع، في حاجة إلى هذا المال ويقدمه لآخر؛ لأنه يريد وجه الله عز وجل، ولا من ولا أذى، ينفقون ما ينفقون ولا هم لهم إلا أن يرضى الله عنهم ويحبهم فقط، ولهذا ينفقون حتى على فقراء اليهود والنصارى؛ لأنهم يريدون الله لا غيره.قال تعالى: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:262].

    تفسير قوله تعالى: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ...)

    وأخيراً: الآية الثالثة: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]، من الذي قرر هذه الحقيقة؟ الله عز وجل. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ [البقرة:263]، جاءك المحتاج فتقول له: يا بني إن كان صغيراً، أو: يا أخي إن كان مساوياً لك، أو: يا أبت إن كان أكبر منك، تقول له: الله عز وجل يرزقك، ما عندنا ما نعطيك، أنا آسف، اسأل الله. هذا هو القول المعروف، قول معروف ما فيه ما يستنكر، ما فيه ما ينكر، ما فيه عيب، ولا شتم، ولا تعيير ولا تقبيح.وإخوانكم اليوم تعرفونهم؛ لأن الأخلاق هبطت، وكيف تهبط والقرآن موجود والسنة موجودة؟ ذلك لأنهم هجروا الكتاب والسنة، ما يجتمعون عليهما طول الحياة، هل بين المسلمين من يجلس مجلساً كهذا أربعين سنة، فكيف يتعلمون؟ كيف تتهذب الأخلاق؟ كيف تزكو النفوس؟ حالنا كالذي يقول: شخص لا يأكل ولا يشرب ويقوى ويسمن! فهل ممكن هذا؟ لا يأكل ولا يشرب ويحيا؟ لا يدرس كتاب الله وسنة رسوله في بيت الرب وهو جالس بين يديه ويصبح ذا أخلاق فاضلة، والله! ما يكون أبداً؛ حتى لو ورثها من أبويه، لكن ما تزكو النفس كما هي في بيت الرب.إذاً: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ [البقرة:263] لمن زلت قدمه أو أساء في الكلام؛ لأن بعض السائلين أيضاً يسبون: يا بخيل! فاغفل أنت وتجاوز، وقل: عفا الله عنك، هذا العفو وهذه المغفرة خير من صدقة ولو كانت مليون ريال، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ [البقرة:263] والله! أفضل عند الله من صدقة بالملايين يتبعها ويجري وراءها أذى لمن تصدقت عليه، بإهانته أو سبه أو شتمه أو تعييره واحتقاره.سبحان الله! هذا كلام من؟ كلام ربنا، هل عرفه المؤمنون والمؤمنات؟ ما عرفوه، من قرون والقرآن العظيم لا يقرأ إلا على الموتى، لو تغمض عينيك ويحيا عدد من علماء القرن الحادي عشر والعاشر والتاسع ويجدونني أتكلم فسيغلقون آذانهم ويهربون، سيقولون: كيف يتكلم بكلام الله هذا الصعلوك؟! من أين له؟ لأنهم وضعوا قاعدة، قالوا: تفسير القرآن العظيم صوابه خطأ، إذا فسرت وأصبت فأنت مخطئ، وخطؤه كفر، وراجعوا حاشية الحطاب على خليل فستجدون هذه الفقرة موجودة.فكيف تتهذب أخلاقنا وما جلسنا بين يدي المربين والمهذبين؟ مستحيل، أما قال إبراهيم وإسماعيل: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، الآن المدارس فيها تعليم الكتاب بعض الشيء، ولكن ما هناك من يزكي النفوس ويطهرها بالتربية والتهذيب والإصلاح، فهل سمعتم هذا الكلام؟ اللهم اشهد علينا.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (31)
    الحلقة (38)




    تفسير سورة البقرة (127)


    بعد أن رغب الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين في الصدقات ونبه إلى ما يبطل أجرها من المنّ والأذى، نادى عباده هنا مبيناً لهم أن المنان بما أعطى يبطل الله عز وجل صدقته كما يبطل صدقة المرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وضرب سبحانه وتعالى لذلك مثلاً بالحجر الأملس الأصم الذي عليه تراب، فأصابه مطر شديد فأزال عنه التراب وتركه أملس ليس عليه شيء، وذلك كمثل الصدقة الباطلة التي لا ينتفع بها صاحبها يوم القيامة.

    قراءة في تفسير قوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ...) من كتاب أيسر التفاسير

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا المأمول.وها نحن مع هذه الآية المباركة الكريمة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264].سبقت هذه الآية أيضاً في هذا المعنى هذه الآيات الثلاث، ولنستمع إليها ولنستذكر ما قد كنا قد علمناه، قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة:261-263]، سبحانه لا إله إلا هو.

    هداية الآيات

    قال المؤلف غفر الله ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات: من هداية الآيات:أولاً: فضل النفقة في الجهاد وأنها أفضل النفقات ]، أفضل النفقة -أي: الإنفاق- في الجهاد، وهذه النفقة أفضل النفقات، بدليل أن الحسنة بسبعمائة، بل وقد يضاعف الله بأكثر، فمن أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].وهل تذكرون معنى سبيل الله؟ إنه الجهاد. ومتى يكون الجهاد في سبيل الله؟ إذا كان من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض بأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه سواه، فترسو سفننا في ميناء دولة كافرة ونراسلهم، نجري سفارة بيننا وبينهم: جئناكم من أجل هدايتكم وإنقاذكم من عذاب الخلد يوم القيامة، جئناكم من ربنا وربكم، فإن قبلوا الإسلام دخلنا وعلمنا وبينا وأرشدنا وقضينا بالعدل وحكمنا، وما هي إلا أربعون يوماً وإذا بهم ربانيين، فإن قالوا: لا، فديننا قبل دينكم، لا نقبل ديناً غير دين آبائنا وأجدادنا، فإنا نقول لهم: ادخلوا في حمايتنا، ادخلوا في ذمتنا ونسوسكم بالعدل والرحمة والخير، وتطهر بلادكم وتصفو من الظلم والشر والفساد، ونتولى حمايتكم حماية كاملة، إذا اعتدى عليكم معتد فنحن الذين نقاتله وأنتم آمنون، فإن قالوا: في هذا خير؛ دخلنا وعلمنا وربينا وهذبنا، وما هي إلا سنيات وإذا الإقليم كله يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، حين يشاهدون بأعينهم مظاهر العدل والرحمة والطهر والصفاء والمودة والإخاء، فينجذبون انجذاباً كلياً.ومن قال: كيف؟ فقل له: ما دخل في الإسلام إنسان بالعصا أبداً، ما دخل إنسان في الإسلام إلا باختياره وطيب نفسه، إذ لا إكراه في الدين، ما بلغنا أن أحداً ضربوه حتى يسلم، والله! ما كان. فإن رفضوا فالحرب حتى ننقذ غير العسكريين من الأميين المساكين الذين يعيشون في ظلمة الكفر والفسق والفجور والشر والفساد ومصيرهم الخلود في عذاب النار، ننقذهم استجابة لأمر ربنا، هذا هو الجهاد في سبيل الله. فهل إخواننا الأندونيسيون لما حاربوا هولندا حاربوها من أجل أن يعبد الله وحده؟ من أجل أن يقوم دين الله وشرعه؟ من أجل أن يستقيم المؤمنون على منهج الله؟ الجواب: لا، فما هو في سبيل الله إذاً، لو كان في سبيل الله لأنبت الطهر والصفا والعزة والكمال والأمن والرخاء والسيادة، فهل حصل من هذا شيء؟ لا شيء، وعليه فقس كل بلاد العالم الإسلامي التي استعمرت بسبب الفسق والفجور والشرك والباطل والشر والفساد والإعراض عن ذكر الله، استعمرت من قبل الغرب ثم أخذت تستقل، أروني إقليماً قام أهله بإعلاء كلمة الله لأن يعبد الله وحده، وإياك أن تقول: هناك إقليم، فهاته. لو جوهد في سبيل الله فإنه ما إن تخرج الدولة الكافرة إلا وأنوار الإسلام تلوح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلاة وجباية الزكاة وإقامة الحدود، والأمة متوالية متآخية متحابة، ولكن ما كان القتال في سبيل الله لا في العرب ولا في العجم، وإن شئت حلفت لكم بالله. نعم الأفراد هنا وهناك قالوا لهم: جهاد في سبيل الله بدون فهم ولا وعي، فبذلوا أموالهم ودماءهم، هذا موجود، لكن حامل الراية والمجاهدون لإنقاذ البلاد هل كانوا يعملون لإقامة دين الله؟ خرجت بريطانيا فهل أعلنوا عن كلمة لا إله إلا الله؟ بل قالوا: في سبيل الوطن، والإسلام ما يعترف بالوطن أبداً، بلاد العالم كلها أرض الله يعبد فيها الله عز وجل. واسمحوا لي إذا أسأت إليكم في بيان هذه الحقيقة والواقع شاهد: استقل لنا نيف وأربعون دولة، ما فرضت الصلاة فقط في دولة منها ولا ألزم بها عسكري ولا مدني، ولا تكونت هيئة في قرية فقيل: يا رجال القرية! هؤلاء الثلاثة يأمرونكم بالمعروف وينهونكم عن المنكر! فوا حسرتاه! وا أسفاه! فالأمة الإسلامية تحت النظارة إن لم تتراجع، والفرصة متاحة وهي قادرة على أن ترجع في أربع وعشرين ساعة إلى الله وتتضامن وتعلن عن الخلافة الإسلامية، وإلا فسوف تنزل بها رزايا وبلايا ما عرفتها فيما مضى،فالله بالمرصاد، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14].قال: [ ثانياً: فضل الصدقات وعواقبها الحميدة ]، الصدقات التي تنفق لوجه الله.[ ثالثاً: حرمة المن بالصدقة ] ما المن؟ يقال: من يمن: إذا أعطى؛ إذ المن هو العطاء، والله المنان المعطي الخير، فهذا يعطي العطاء ثم يأخذ يلدغ من أعطاه: انظر إلى الذي أعطيناك، كيف أنت؟ هل وجدته طيباً؟ نحن أكرمناك، نحن عملنا معك كذا حتى يذوب عواطفه؟ فهذا حرام في الإسلام، ومعنا دليل وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق ولا منان )، ثلاثة لا يدخلون الجنة وإن صاموا وصلوا وعملوا ما عملوا، لا بد أن يكونوا متأخرين، أو بعد أن يقتحموا النار ويعيشوا فيها أحقاباً ثم يخرجون إذا كانوا من أهل الإيمان الحق.أولهم العاق: الذي قطع صلة الأبوة والأمومة مع أمه وأبيه، ثم مدمن الخمر الذي لا يصحو، دائماً البرميل في البيت يشرب منه والعياذ بالله. [ رابعاً: الرد الجميل على الفقير إذا لم يوجد ما يعطاه، وكذا العفو عن سوء القول منه ومن غيره خير من الصدقة يتبعها أذى ]، كونك تقول للفقير: سامحنا، ما عندنا شيء، الله يرزقنا وإياكم، معذرة، هذه خير من ألف ريال تقول معها: أعطيناك، أنت كذا، أنت كذا. فمن أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ [البقرة:263] عن زلة أو عن إساءة خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263].


    إرادة الله تعالى الطهر للمؤمنين وبيان طريق تحصيل ذلك

    سبحان الله! يريد الله تعالى من المؤمنين أن يساووا الملائكة في الطهر والصفاء، ويتحقق هذا إذا نحن أقبلنا على كتاب الله ندرس ونعلم ونعمل ونطبق، ما هي إلا أيام والقرية كلها نور، لا تسمع سباً ولا شتماً ولا تعييراً ولا تقبيحاً ولا يقول فلان: أوذيت ولا ضربت أبداً، كالملائكة. فإن قلت: هذه أوهام، فما الدليل؟ قلت: اذهبوا إلى أية قرية في العرب والعجم واسألوهم: من أتقاهم لله؟ من أصفاهم؟ سيقولون: فلان العالم، أعلمهم أتقاهم وأصفاهم، وأفسقهم وأفجرهم أجهلهم بالله وأضلهم، وهل تحتاجون إلى يمين؟ يقول تعالى من سورة فاطر: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] هل العلماء بالفيزياء؟ أو بالقانون؟ علماء بم؟ علماء بالله ومحابه ومكارهه، عرفوا الله وعرفوا ما يحب وما يكره، وعرفوا ما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه، فحملهم ذلك على حبه وخشيته، فلهذا لم يقدروا على الفسق عن أمره والخروج عن طاعته، والذين ما عرفوا الله كيف يحبونه؟ ما عرفوا جماله ولا كماله ولا عظمته ولا قدرته ولا إعطاءه وإفضاله فكيف يحبونه؟ ما هو بمعقول، والذين ما عرفوا ما يحب ولا ما يكره كيف يتقربون إليه بتقديم المحبوب وتأخير المكروه؟إذاً: الذي يريد من المؤمنين أن يكملوا ويطهروا بدون العلم كالذي يريد أن يقول للجمل: يا جمل! احلب لنا اللبن، والجمل ما فيه لبن، فلهذا يجب أن نتعلم. قد يقال: يا شيخ! نحن مشغولون بمتاجرنا، بمزارعنا، بالصناعة، كيف نتعلم؟ فات الوقت. نقول: لا، فقط حين تميل الشمس إلى الغروب في الساعة السادسة ويذهب الكفار إلى المقاهي والملاهي والمراقص احملوا أزواجكم وأولادكم إلى بيوت ربكم وتجمعوا فيها، صلوا المغرب واجلسوا كجلستنا هذه وتلقوا الكتاب والحكمة يوماً فيوماً طول العمر، فهل يبقى جاهل؟ والله! ما يبقى، وإذا انتفى الجهل انتفى الفسق، الفجور، الظلم، الشر، الفساد، الهون، الدون، الذل، هذه كلها تنتفي. ولكن لسان الحال: ما نستطيع يا شيخ، كيف نجتمع في المسجد ونقرأ كل ليلة؟ لأن القضاء والقدر نافذان، فابقوا على ما أنتم عليه من الضعف والهون والدون والفساد والشر.صدرت فتيا من أحد العلماء البررة الصالحين فقالوا: هذه فتيا عالم الملوك والسلاطين، عالم كذا! هبوط في الأخلاق ولا إله إلا الله، يقولون: هذا ذَنَب، هذا من علماء السلطان، وهذه كلمات يحفظونها ويرددونها بلا علم، بلا بصيرة، بلا تقوى، بلا خوف من الله. فلا تلمنا يا شيخ، ما ربينا في حجور الصالحين، إي والله، لا لوم ولا عتاب، ما ربينا في حجور الصالحين، ربينا في الأسواق والشوارع والأندية والباطل والسوء أمام التلفاز والفيديو والرقص، فماذا ترجو منا؟ عفواً ومعذرة، نستغفر الله لنا ولكم.فعدنا من حيث بدأنا، هل عرفتم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقرءون ولا يكتبون، وكانوا فلاحين ومجاهدين، ولكن يجلسون عند فراغهم في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فتخرجوا ولم تكتحل عين الوجود بمثلهم في العالم البشري من أتباع الأنبياء والمرسلين، والتاريخ شاهد، وإن لطخ وشوه تاريخهم عملاء الاستعمار الذي هو الثالث الأسود: اليهود والنصارى والمجوس، لطخوا تاريخ الصحابة وشوهوه حتى إن الجاهل المسكين ليفزع، والله! ما عرفت الدنيا أطهر ولا أصفى ولا أعدل ولا أرحم ولا أعلم من تلك الأمة التي تربت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فقط.

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ...)

    شرف المؤمنين بنداء الله تعالى لهم

    إذاً: اسمع هذا النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:264] لبيك اللهم لبيك، الله أكبر! هل نادانا ربنا؟ إي والله، فالحمد لله؛ ما نحن ومن نحن حتى ينادينا رب العزة والجلال والكمال؟ الرب الذي يحيي ويميت، الذي علق الشمس بالسماء، هذا الرب العظيم خالق كل شيء ينادينا؟ الله أكبر! أي فضل أعظم من هذا؟ فالحمد لله، نادانا بعنوان الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:264].وعند السامعين والسامعات سر هذا، نادانا بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمنين أحياء يسمعون النداء، ويبصرون الآيات، ويقدرون على التكليف لكمال حياتهم، أما الكافرون فأموات، وهل تنادي ميتاً؟ هل تكلف ميتاً أن يقول أو يفعل؟ كلا أبداً، فلهذا نادانا تعالى في كتابه، وقد نادانا تسعين مرة، ما نادانا إلا ليأمرنا بما فيه سعادتنا وكمالنا، ولا نادانا إلا لينهانا عما فيه شقاؤنا وخسراننا في الحياتين، وما نادانا إلا ليبشرنا بما يزيد في انطلاقنا في ميادين البر والخير والإحسان، ما ينادينا إلا ليحذرنا من عواقب السوء ونتائج الباطل والشر والفساد لنحذر، وما ينادينا إلا ليعلمنا العلوم والمعارف التي تسمو عليها أنفسنا ونتسابق في الصالحات حتى نصبح أمة الطهر والصفاء، هكذا تتبعنا نداءات الرحمن لعباده المؤمنين فما خرجت عن هذه الميادين الأربعة أو الخمسة. ونداءات الرحمن جمعت في كتاب واحد، تسعون نداءً ضعها عند رأسك قبل أن تنام واسمع ربك يناديك. فماذا يقول ربي هنا؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264] فمن ثَمَّ لا تمن ولا تؤذ فقيراً حتى لا تبطل صدقاتك، واستمر طول حياتك.نداءات الرحمن تسعون نداءً في العقيدة، في الآداب، في الأخلاق، في العبادات، في السياسة، في الحرب، في السلم، في الاقتصاد، لو أن مؤمناً يعرف ويقرأ ويفهم ويقبل في صدق على تلك النداءات فيحفظها قولاً وعملاً واعتقاداً فوالله! ليصبحن من أعلم أهل الأرض، ولكن:لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تناديقلنا: ترجموها إلى اللغات الحية، يا جماعة المسلمين! وزعوها في الفنادق العالمية، لنقول لكل مخلوق: خالقك وربك سواء كنت إيطالياً أو أسبانياً هو الذي يناديك، ولكن ما استطعنا، ما زالت أمتنا هابطة، فدعنا من البكاء يا هذا.

    بطلان أثر الصدقة المتبعة بالمن والأذى

    فالله عز وجل ينادينا فيقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264] من تصدق بريال أو بدينار أو بمليار إذا هو منَّ على من تصدق به عليه أو آذاه بكلمة بطل مفعول صدقته، والله! لا تقبل. وعندنا سر من أسرار الشريعة، وهو أن بطلانها معناه: لا تولد الطاقة النورانية للقلب والنفس البشرية؛ لأن هذه العبادات مولدات للنور القلبي، فإذا فسد مفعولها أو بطلت لا تولد الحسنات، ويبقى القلب في ظلمة والنفس في عفن. قلنا لكم: قم صل المغرب أمام فقيه أربع ركعات، سيقول: صلاتك باطلة لأنك زدت ركعة، فما تولد لك الحسنات، عملك باطل ما تأخذ عليه شيئاً. فإن صلى المغرب ركعتين قال: يا ولدي! صلاتك باطلة، زد ركعة، فإن قال: يكفي وصلاها ركعتين فهي باطلة، ما تولد الحسنات، أو تصدق بألف ريال وقال: خذا يا هذا، نحن دائماً نعطيك ونفعل؛ فبطلت، فما تولد النور المطلوب؛ لأن النفس البشرية تزكو وتطيب وتطهر على هذه العبادات التي شرعت لأجل ذلك: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] فإذا هذه العبادات داخلها ما يطفئ نورها ولم تولد نوراً فهي باطلة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264] فما يحدث في نفسك شيء من النور أبداً، بل الظلمة هي هي.


    معنى قوله تعالى: (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر)

    ثم قال تعالى: كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ [البقرة:264] الكاف بمعنى: مثل، كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ [البقرة:264] ما معنى رئاء الناس؟ راءاهم يرائيهم رئاءً: أراهم عمله، ينفق ماله مراءاة للناس ليعلم الناس أن فلاناً يتصدق أو ينفق أو يبني مساجد أو ينشئ أربطة أو يشتري كذا للفقراء والمساكين، همه أن يعلم أهل البلاد أو أهل الإقليم ليمدحوه ويثنوا عليه، وليقللوا من ذمه أو احتقاره أو اتهامه بالبخل أو بالشح مثلاً، ليقولوا: هذا أنفق ألفاً وألفين وعشرة، والدافع له الباعث له على الإنفاق هو أن يحمده أهل البلاد: فلان سخي، فلان كريم، فلان يفعل كذا، أو خشية أن يذموه وقد أغناه الله وجيبه مملوء بالدراهم والدنانير فيقال: شحيح، بخيل، ما فيه خير، فيدفع هذه المذمة فيوزع ويعطي المال، لا يريد تزكية نفسه وتطهيرها، لا يريد إرضاء ربه ليرضى عنه، هذا أعمى عنه لا يلتفت إليه، كل ما في الأمر أنه يريد أن يبرز في المجتمع ويظهر.ونظير هذا أرباب المال والتجارات والمصانع يتصدقون للتشهير والإعلان عن تجاراتهم وأعمالهم، ما يريدون وجه الله، بل حتى تروج البضاعة ويقبل الناس على هذه السلعة يشترونها، فهذه مراءاة. كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:264]، تستطيع أن تحلف بالله على أن الذي ينفق ماله رئاء الناس لمدحهم والثناء عليه أو لعدم تعييرهم وذمهم له ما آمن بالله واليوم الآخر، لو حقق الإيمان بربه ولقائه والوقوف بين يديه فوالله! ما يرضى أن يعمل حسنة يفوته أجورها، فتستطيع أن تقول: إذا رأيت الرجل طول حياته لا ينفق إلا من أجل أن يراه الناس فاعلم أنه ما آمن حق الإيمان بالله ولا باليوم الآخر.

    معنى قوله تعالى: (فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً ...)

    كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ [البقرة:264] كماذا؟ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [البقرة:264] الصفوان: الحجر الأملس الصلب، الحجارة الملساء، ومنه جبل الصفا بمكة، هذا الصفوان عليه تراب ناعم، رمال أو أتربة، الغافل يجيء يزرع ويبذر فيه وإذا بمطر ينزل فيسحبه كاملاً ويبقى صلصالاً مجرداً كصلعة الأصلع ما عليه شيء، فهذا تعبير عجب. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [البقرة:264] من الحجارة عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ [البقرة:264] وهو المطر إذا اشتد وغزر، الوابل: الغزير الكثير، أصابه وابل أي: من المطر، فتركه صلداً لا شيء عليه، ما بذره وزرعه كله زال، والله! لكما أخبر تعالى، لو أنفق مليون ريال في رمضان وهو لا يريد إلا الشهرة والسمعة ليحمد ويشكر أو لئلا يذم فأجره لا شيء، ما زالت نفسه مظلمة خبيثة كما هي، ما طهرها هذا الإنفاق أبداً؛ لأنه إنفاق باطل أريد به غير وجه الله. وهذا كلام الله أو كلام الناس؟ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:264] الذي كسبوه وأنفقوه لا يحصلون منه على شيء، ويبعثون يوم القيامة ولا حسنة واحدة، ما أنفقوا لوجه الله، وهناك مثل آخر في سورة إبراهيم: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم:18] مثل ما ينفقه الكافرون من أموال، في المستشفيات، توزيع الأدوية، توزيع الصدقات، كسوة الفقراء والمساكين، فرجال المسيحية أما يفعلون هذا؟ جمعيات التنصير أما تنفق الأدوية وتأتي بالأطباء والأكسية والأغذية، هل يريدون وجه الله؟ يريدون نشر الباطل، أعمالهم هذه كرماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء، وهكذا كل ما أنفق لغير الله هو باطل الثواب ولا ينتج لصاحبه طهارة نفسه وزكاة روحه أبداً، ولا يتخلف هذا القانون أبداً.

    معنى قوله تعالى: (والله لا يهدي القوم الكافرين)

    قال تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264] لا يهديهم إلى ما يكملهم ويسعدهم، ما يهديهم إلى ما يطهرهم ويزكيهم، لماذا؟ أعرضوا عنه، عموا، أبوا أن ينظروا إلى الله، أبوا أن يؤمنوا به، أن يؤمنوا بشرعه، حاربوه، عاندوه، فهل سيهديهم؟ لا يهديهم، والله لا يهديهم حتى يطلبوا هدايته ويقرعوا بابه ويطرحوا بين يديه، حينئذ لا يخيب من قرع بابه وسأله، أما مستكبر معرض عن الله فوالله! لا يهديه الله أبداً، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران:86]، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة:108]، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264] لم؟ لأنهم ما أرادوا، ما طلبوا، لو أراد أن يهديهم بدون سعي لخلقهم كالملائكة مهديين أطهاراً أصفياء، لكن خلقهم للامتحان، إن أجابوا دعوته وأقبلوا عليه قبلهم، وإن أعرضوا أعرض عنهم؛ لأن لهم مصيراً خاصاً، ما خلقت النار إلا لمثلهم، والمقبلون ما خلقت الجنة إلا لمثلهم، والدار دار امتحان، لو شاء الله أن يخلقنا كلنا من أهل النار لفعل، أو من أهل الجنة كالملائكة لفعل، ولكن أراد أن يبتلي: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [الملك:1-2] لم؟ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2] فإذا سمعت أن الله لا يهدي القوم الفاسقين والمجرمين والكافرين فمعناه: إذا ما طلبوا الهداية، عرضت عليهم ورفضوها، دعوا إليها فأنكروها، كذبوا بمصدرها؛ هؤلاء والله! لا يهديهم الله حسب سنته إلا إذا جاءوا مذعنين ودخلوا في رحمته واستغفروه وطلبوا هدايته.

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآية

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية: بعد أن رغب تعالى في الصدقات ونبه إلى ما يبطل أجرها وهو المن والأذى؛ نادى عباده المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:264] ] ناداهم [ ناهياً عن إفساد صدقاتهم وإبطال ثوابها، فقال: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264] مشبهاً حال إبطال الصدقات بحال صدقات المرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر في بطلانها، فقال: كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:264]، وضرب مثلاً لبطلان صدقات من يتبع صدقاته مناً أو أذى أو يرائي بها الناس أو هو كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر فقال: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ [البقرة:264] أي: حجر أملس عليه تراب، فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا [البقرة:264] أي: نزل عليه مطر شديد فأزال التراب عنه فتركه أملس عارياً ليس عليه شيء، فكذلك تذهب الصدقات الباطلة ولم يبق منها لصاحبها شيء ينتفع به يوم القيامة، فقال تعالى: لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:264] أي: مما تصدقوا به، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264] أي: إلى ما يسعدهم ويكملهم من أجل كفرانهم به تعالى ].

    هداية الآية

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية: من هداية الآية:أولاً: حرمة المن والأذى في الصدقات وفسادها بها ]، الصدقة بالمن حرام، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يتصدق بقرش واحد لغير وجه الله، فهي صدقة باطلة، ولا يحل لمؤمن أن يعطي أخاه ما يعطي ثم يمن عليه.[ ثانياً: بطلان صدقة المان والمؤذي والمرائي بهما ]، باطلة هذه الصدقة، وإذا تاب فليعد صدقة أخرى، فهذه لا تقبل، صدقة المان والمؤذي والمرائي، وقد عرفنا أن ثلاثة لا يدخلون الجنة، وهم: المنان كثير المن، والعاق، قاطع الصلة لوالديه، يسب ويشتم ويعير ويفعل الأعاجيب.

    وقفة مع شكوى ممن حرمهن آباؤهن من الزواج

    وقد وردتنا شكوى: مؤمنات معلمات الكتاب والسنة حرمهن والدهن من الزواج، فيا معشر المستمعين! يا معشر المؤمنين! إذا بلغت ابنتك سن الزواج فزوجها، ابحث لها عن زوج ولو أن تعطيه المال ليمهرها من مالك، لا تعقها عن حياتها، ما خلقت إلا لتنجب البنين والبنات ليعبدوا الله، وإذا لم يكن بنون وبنات فمن يعبد الله؟ كيف يعبد؟ وحذرت وقلت لكم: لا تعلموا بناتكم علماً يؤهلهن للوظائف؛ فإنها الذابحة، فإنها الطاحنة الحالقة، البنت لا تتوظف في أكثر من دائرة منزلها، البنت ما هي في حاجة إلى وظيفة لتحصل على ريال أو عشرة، لها من يكفلها، والدها يعرق الليل والنهار من أجلها، فإن تزوجت فزوجها هو الذي ينفق عليها، وإن ولدت فأولادها ينفقون عليها، لا تذبحوا بناتكم، ولكن تصاممتم وأبيتم، ومنكم من يسخر من هذا الشيخ.قلنا: إذا درست البنت وبلغت العاشرة من السنين قلنا: الزمي البيت، اشتغلي مع أمكِ، ربِي أخواتكِ وإخوانكِ، أحسن من أن تأتي بخادمة كافرة تفسد عليك بيتك، واتركها تعبد الله، وإذا بلغت الخامسة عشرة وجاء خاطب يخطب فزوجها. وهذا الوالد حرم بناته من الزواج لأنهن موظفات يأخذن كل شهر مبلغاً مالياً، وأخرى متزوجة تتكبر عن زوجها وتتمرد عليه لأنها تنفق عليه وتجلب المال، فلا إله إلا الله! إلى أين يذهب بنا؟ إلى أين نساق؟ اعلموا يرحمكم الله أنكم في خير ما دامت الوظيفة لا تخرج عن دائرة التعليم، فكيف بالموظفة تعمل مع الرجال؟ هل بقي شرف أو إيمان أو إسلام؟ آهٍ! ماذا فعل بنا الجهل؟ ماذا صنعت بنا أصابع الماسونية وجمعيات التنصير؟ إلى أين يذهب بنا؟ هيا نتوب إلى الله، ولكن لسان الحال: ما نستطيع يا شيخ، نحن مسحورون، سحرونا فما نستطيع، وما دمنا ما نستطيع أن نجتمع في قريتنا ونبكي بين يدي ربنا وننشئ صندوقاً في محرابنا نجمع فيه زكواتنا وصدقاتنا وننميه في القرية لنسد حاجات المؤمنين والمؤمنات، ما دمنا لا نستطيع أن نتعلم الكتاب والحكمة في ساعة من الأربع وعشرين ساعة بين المغرب والعشاء حتى تتجلى مظاهر الإيمان والطهر والصفاء؛ كل هذا نعجز عنه؛ فكيف نسمو؟ كيف نكمل؟ كيف نرتفع؟ كيف نعود لقيادة البشرية؟ آمنا بالله، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، احتس السم وإذا لم تمت فاذبحني، امش إلى المقهى والعب وإذا لم تسب فتعال اضربني، وهكذا سنن لا تتبدل، إما أن نصدق ربنا في إيماننا به، وإما في متاهات حتى نحترق.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )




    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (32)
    الحلقة (39)




    تفسير سورة البقرة (128)

    بعد أن ضرب الله مثلاً لمن ينفقون أموالهم ثم يبطلون ذلك إما بالمن والأذى وإما بالرياء والسمعة، ذكر هنا سبحانه من ينفق في سبيل الله ابتغاء مرضاته، والفوز بأجره ومثوبته، وضرب لذلك مثلاً كجنة قائمة على ربوة خصبة التربة فأصابها مطر شديد فآتت ضعف جنيها وثمراتها، وحتى لو لم يصبها وابل وإنما أصابها الهواء البارد المحمل ببخار الماء فإنها تقبله وتنبت زرعها وتؤتي ثمرها في كل الأحوال.

    تفسير قوله تعالى: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على عادتنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع قول ربنا عز وجل في آيتين من سورة البقرة: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:265-266].الحمد لله؛ هكذا يبين الله لنا الطريق، ولا يضل عنه إلا من أعمت الدنيا والشيطان بصره وبصيرته، ما ترك الله عز وجل شيئاً تتوقف عليه سعادة البشرية وكمالها إلا بينه في هذا الكتاب، ولكن تركوا الأخذ به، بل وتركوا حتى قراءته والتدبر فيه.والنداء الذي سبق هاتين الآيتين أذكركم به: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264] فلا يحل لمؤمن أن يتصدق بصدقة يريد بها وجه الله عز وجل ثم بمن بها على من تصدق بها عليه، أو يؤذيه بالكلم السيئ والنظرة الشزر مما يهين هذا الفقير أو يضعف من كرامته.ومثل هذا مثل الذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فهل يثاب على شيء؟ الجواب: لا، إذ حقيقته: كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا [البقرة:264]، أنفق ما شئت من الملايين والمليارات فلن تحدث في نفسك زكاة ولا طهراً ولا يتقبلها رب العالمين إلا إذا أخلصتها لله وحده، فإن التفت إلى غيره وراءيت بها غير الله رفضها الله ولم يقبلها، ولم تولد لك النور والحسنات في نفسك.إذاً: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264] يا ويل الكافرين بالله ولقائه، ويا ويل الكافرين بنعمه وآلائه؛ إنهم لا يهتدون إلى سبل سعادتهم وطرق نجاتهم.

    ابتغاء رضا الله وتقوية الإيمان مقصد المؤمنين في الإنفاق

    وهنا مثل آخر: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة:265] همه فيما ينفق أن يرضى الله عنه، وهذا شأن العالمين العارفين، لا هم لأولئك إلا أن يرضى الله عنهم، فينفقون أموالهم طلباً لمرضاة الله، فإن العبد إذا كان يشعر أن سيده غاضب عليه فوالله! لا يسعد ولن يلتذ بطعام ولا شراب ولا غيره، ونحن ما ندري أهو راض عنا أم ساخط، إذاً: فلنطلب رضاه متملقين متزلفين إليه، والله! لا نشعر بالسعادة حتى نعلم أنه عنا راض، فهؤلاء ينفقون أموالهم بحسب ما عندهم، القليل من صاحب القليل والكثير من صاحب الكثير، ينفقون ابتغاء -أي: طلب- مرضاة الله عز وجل، يطلبون رضا الله ويطلبون المثوبة والأجر بتلك الصدقة لتكفر سيئاتهم وترفع درجاتهم. وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:265] تقوية لإيمانهم، وتقوية لرجائهم في الله وطمعهم فيما عنده أن يقبل صدقاتهم ويثيبهم عليها، ما هم بغافلين ولا تائهين يفعلون ولا يدرون ما يفعلون، ما يضع صدقته في اليد التي تستحقها حتى يكون طالباً رضا الله بها وراغباً أن يظفر بالحسنة التي تكفر ذنبه وتزيل ظلمة نفسه. وهل لهؤلاء مثل كما للأولين مثل؟ فالذين أنفقوا رئاء الناس كالذي جاء إلى أرض صلبة ما فيها شيء ولكن عليها تراب فزرعه فجاء مطر وابل فمسحها كلها وتركها صلداً مجردة، فالذي ينفق ولا يريد وجه الله هكذا، ولو أنفق الملايين لا يستفيد ولا يثاب منها على درهم، وهذا مثال من أنفق ابتغاء مرضاة الله أولاً وتثبيتاً من نفسه، طلباً لرضا الله وحبه والمثوبة والأجر والحسن.


    مثل المنفق الطالب لرضا الله تعالى

    قال تعالى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ [البقرة:265] أي: بستان، ولم سمي البستان جنة؟ لأن أشجارها تجن وتغطي من يدخل تحتها، كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [البقرة:265] والربوة والرُّبوة: المكان العالي المرتفع كالجبال. أَصَابَهَا وَابِلٌ [البقرة:265] المطر الغزير، كما تقدم في المثل الأول.إذاً: لم اختير هذا المكان؟ لأن الأرض المرتفعة إذا لم يكن مطر فالمطر القليل يكفيها، بل الهواء البارد الطلق كذلك يساعد على إنمائها وعلى زرعها، بخلاف التي في المنخفضات من الأرض. كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ [البقرة:265] أعطت أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ [البقرة:265]، كانت مثلاً تنتج صاعاً فأنتجت صاعين، أو ألف قنطار فأنتجت ألفي قنطار مضاعفة. فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [البقرة:265] والمطر القليل يقال فيه: طل أو رشاش أو رذاذ، إذا ما هناك مطر غزير فالمطر الخفيف مع ارتفاعها يساعدها ذلك على الإنبات؛ لأنها ليست كالمنخفضة تضرها حرارة الشمس وتؤثر عليها. فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265] التفت إلينا نحن لأن هذا الخطاب لنا ونحن نظن أنه يتكلم عن آخرين، قال: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ [البقرة:265] أيها المؤمنون بَصِيرٌ [البقرة:265] مطلع عليم، إذاً: فتقربوا إليه وتزلفوا، وأغمضوا أعينكم عما سواه، وإن أعطيتم أو أنفقتم فأعطوا لوجهه وأنفقوا من أجله، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265] ويشمل هذا كل عمل، يشمل العمل الصالح والعمل الفاسد.

    تفسير قوله تعالى: (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ...)

    ثم واجهنا أيضاً: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ [البقرة:266] والود: الحب مع الرغبة في الحصول على المحبوب وتمنيه. أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ [البقرة:266] بستان مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [البقرة:266]، وكل أنواع الفواكه من المشمش إلى التفاح إلى البرتقال لا تعادل التمر والعنب، العنب يتحول إلى زبيب يغذي، يصنع منه ألوان الأشربة، والتمر جاء فيه: ( بيت لا تمر فيه جياع أهله )، ما يحتاج إلى طبخ، متى شئت طعمت. مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [البقرة:266] التي تسقيها لتنتج وتثمر، لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [البقرة:266] أي: في تلك الجنة غير العنب والتمر، العنب والتمر هما رئيسان، وتوجد أنواع من الثمار الأخرى من التين والزيتون وما إلى ذلك. وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ [البقرة:266] تخطى السبعين فهو في طريقه إلى القبر. وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ [البقرة:266] ما ولد إلا بعد أن بلغ الستين، له سبعة أو ثمانية أطفال بنين وبنات أعمارهم بين خمس وست وسبع سنين، فأصاب تلك الجنة إعصار فيه نار، شدة الحر الملتهب، إذ جاء في الحديث: ( أبردوا بصلاتكم في الحر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم )، فما تجدون من حر فهو من لهبها ورائحتها. أصاب تلك الجنة إعصار وريح شديدة، والريح هذه فيها نار، إذاً: فاحترقت تلك الجنة، فكيف حال هذا الشيخ؟ سنه كبير ما يستطيع أن يعمل، لا يزرع، لا يتجر، لا يحمل، شاخ مثلي، وتحته أولاد ضعفاء بنون وبنات ما بلغوا سن العمل والتكليف، والبستان الذي كانوا يعيشون منه ويأملون فيه احترق، فكيف يكون حالهم؟ إذاً: من منا يود هذا؟ والله! لا يوجد. من منا يرغب في هذه الحال؟

    المفارقة بين إنفاق المرائين وإنفاق المؤمنين

    تلك حال من ينفق أمواله من أجل تحطيم شرع الله وهدم أسواره، هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يلتفتون إلى من أنعم عليهم وأعطاهم، أمثال هؤلاء نفقاتهم مآلها ومصيرها وخيم، يظنون أنهم أنفقوا المليارات، وما إن يدخلوا القبر حتى تتجلى تلك الحقيقة، ما إن يقفوا في عرصات القيامة ينظرون إلى جزائهم حتى يجدوها هباءً منثوراً لا شيء فيها.وأما المؤمنون فكما قال تعالى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265]، هذه صدقات المؤمنين والمؤمنات التي ما أريد بها إلا وجه الله عز وجل، سواء كانت في الجهاد والرباط أو كانت في سد حاجات الفقراء والمساكين، أو في إنقاذهم من بلية أصابتهم أو نازلة حلت بديارهم. هذه دعوة ربانية، إذا أنفقنا ألا نريد إلا وجه الله، لا نؤذي إخواننا بالكلمة النابية والنظرة الشزر أو بالكلمة المؤذية المؤلمة، أنفق إن أنفقت ولا ترى إلا الله، هكذا يؤدبنا ربنا.
    وقفات مع إعراض المسلمين عن الانتفاع بالقرآن

    دور اليهود والنصارى في صرف المسلمين عن القرآن الكريم

    لم ما انتفع المؤمنون بهذه الآداب؟ لأنهم ما يقرءون القرآن ولا يدرسونه، ولا يعرفون ما فيه، ما الذي صرفهم؟ أولاً: الثالوث الأسود المكون من: المجوس واليهود والنصارى، أعداء الإسلام وخصومه هم الذين صرفوا المؤمنين عن روح حياتهم ونور بصائرهم، والقرآن -والله- روح ولا حياة بدونه، والقرآن -والله- نور ولا هداية بدونه، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ [الشورى:52]، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]. أسألكم بالله: هل الذي يمشي في الظلام يهتدي إلى أغراضه ويصل إلى مطلوبه؟ بل يخسر في الطريق ويتحطم، والذي يفقد الروح هل يبقى حياً؟ أروني حيواناً خرجت روحه وبقي حياً، فالقرآن روح ولا حياة ولا طهر ولا سعادة ولا صفاء ولا كمال إلا به، متى أعرض عنه البشر وكفروا به ماتوا، ولو تعرفون حياة الفساق والفجار والمشركين والكفار كيف هي لتأكدتم من صحة أنهم أموات ما هم بأحياء، ما ذاقوا طعم الحياة ولا عرفوها. هذا هو القرآن الذي صرفنا عنه الثالوث، وقد عجزوا عن إسقاط حرف واحد، حاولوا عبر جمعيات التنصير من قديم أن يسقطوا كلمة (قل) المكونة من حرفين اثنين: القاف واللام، فما استطاعوا، وشرقوا وغربوا وتشاءموا وتيامنوا، فأعلنوا عن عجزهم؛ لأن هذا القرآن مكتوب في السطور ومحفوظ في الصدور، لو أخذوا المصاحف كلها وأحرقوها فموجود مثلها في صدور المؤمنين والمؤمنات، فكيف يفعلون؟ هذا اعترافهم؛ لأنهم قالوا: لولا كلمة (قل) لكان في الإمكان أن نضلل الناس ونقول: هذا الكلام من كلام محمد فقط، ليس من كلام الله، عاش في الصحراء ذات الحرارة فالتهبت قرائحه وأنتج هذا الكلام، لكن أيكون من المعقول أن يقول متكلم لنفسه: قل؟ قل يا أيها الناس، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، فما يمكن أن يتكلم بنفسه فيقول: قل، إذاً: هناك أحد يأمره قطعاً، فلما عجزوا عن إبعاده من الصدور فماذا يفعلون؟ احتالوا وحولوه إلى الموتى، وسلوا كبار السن في دياركم، مضت قرون ثلاثة وأربعة لا يقرأ القرآن إلا على الموتى فقط.

    ضياع سنة الاستماع لتلاوة القرآن الكريم ومدارسته

    وما زلت أقول آسفاً: إلى الآن لا تجد من يجلس تحت ظل جدار أو شجرة ويقول لأخيه: من فضلك أسمعني شيئاً من القرآن! أو يجلس في مجلس ويقول: أيكم يسمعنا شيئاً من كلام الله! إلا ما قل وندر، والرسول صلى الله عليه وسلم وعليه نزل وأنزل يقول لـابن مسعود : ( اقرأ علي شيئاً من القرآن، فيعجب الصاحب ويقول: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فيقول: إني أحب أن أسمعه من غيري )، ويقرأ عليه وإذا بالرسول يبكي وعيناه تذرفان الدموع وهو يقول: ( حسبك ). فانتهى أمر سماع تلاوة القرآن من قرون، يقرءونه على الموتى، لا تسمعه في بيت من البيوت إلا إذا كان فيه ميت، من إندونيسيا إلى موريتانيا، أكثر من ثمانمائة سنة، أما الاجتماع عليه ودراسته هكذا فلا، ووضعوا قاعدة فقالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر! فمن يفتح فاه ويقول: قال الله؟ لو تجلس في مجلس يدرسون الفقه أو النحو وتقول: قال الله تعالى فإنهم يغلقون آذانهم، يقولون: اسكت. فهل نجح الثالوث الأسود في إماتة أمة القرآن أم لا؟ والله! لقد نجحوا، أما ما استعمروهم؟ أما حكموهم وسادوهم من إندونيسيا إلى موريتانيا؟ أين ممالك الهند؟ حتى أقل بلد، استعمروهم وحكموهم، وسادوهم، نكلوا بهم وعذبوهم، وكيف يسلطهم الله عليهم؟ لأنهم ماتوا، أماتوهم فلما ماتوا ركبوا ظهورهم، فهل هذا يحتاج إلى برهنة أو تدليل؟ فالقرآن الروح، وانظر إلى أربع آيات أو خمس آيات كلها في تأديبنا حتى يصبح المؤمن حقاً مؤمناً، فإذا أنفق ما زاد عن قوته وقوت أهله ينفقه لوجه ربه، حتى لا يؤذي ذلك المؤمن حتى بكلمة نابية، حتى لا يمن عليه في يوم من الأيام ويقول: أعطيناك وألبسناك أو فعلنا كذا؛ لأن المؤمنين أولياء الله، والله عز وجل والله لا يرضى أن يهان وليه أو يذل وليه بحال من الأحوال، الله ولي الذين آمنوا وما يرضى أن يهانوا أو يدانوا أو يعذبوا أو يضطهدوا وهم أولياؤه، فلم يسمح أبداً لمؤمن أن يؤذي مؤمناً تصدق عليه بصدقة قلت أو كثرت، عظمت أو حقرت، وانظر كيف ضرب الأمثال ليعقلها البشر وتبلغ إلى نفوسهم.

    دعوة إلى العودة إلى الله تعالى


    وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:265] مثلهم: صفتهم، ما هي؟ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ [البقرة:265] الحسنة بعشر، الحسنة بسبعمائة، الحسنة بألف ألف، فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [البقرة:265] والطل كافٍ، والندى كافٍ، والجو البارد كافٍ في أن تواصل ثمارها ونتاجها؛ لأنها زرعت باسم الله، وأعطيت هذه الصدقة باسم الله، فلهذا لو نرجع إلى الله ما شعر بيننا فقير بهون ولا دون، ولا شعر بألم ولا بكى ولا دمع ولا تأسف ولا تحسر، ولذا كان المؤمنون يندر أن يوجد بينهم من يمد يديه ويقول: أعطوني، فمتى نرجع؟ حتى يذهب الاستعمار، كنا نقول هكذا: حتى نستقل، أما استقللنا؟ هل بقي بلد محكوم بسلطان الكفر؟ الجواب: لا، كل العالم الإسلامي يسوده رجاله وأهله وهم الحاكمون فيه، إذاً: ماذا ننتظر؟ هيا نستقم على منهج الله ونسر في طريق كمالنا وسعادتنا، ولكن ما عرفنا كيف نتحرك، تحركنا بتكفير الحكام والضجيج عليهم والسخط على سلوكهم فنكلوا بنا وعذبونا وخسرنا الجانبين، فماذا استفدنا؟ كيف نعمل؟ هل فيكم من يرغب في كيفية العمل أم لا حاجة بنا؟

    الجهل علة كل شر وفساد

    أولاً: اعلموا أن علة كل شر وظلم وخبث وفساد واحدة، ألا وهي: الجهل، علة كل شر يقع في الأرض أو ظلم أو فساد أو خبث والله! لهي الجهل، وقد قررنا وكررنا القول وقلنا: لو نجمع مؤتمراً لعلماء النفس وعلماء السياسة وعلماء الكون وعلماء الحياة من اليهود والنصارى والمجوس والمشركين ونطرح عليهم هذا السؤال: ما علة هذا الخبث الذي خمت الدنيا به من اللواط والزنا والفجور؟ ما علة هذا الظلم الذي انتشر في العالم؟ ما علة هذا الفساد؟ ونترك لهم الجواب، فهل سيعرفون الجواب؟ والله! لا يعرفون، هذا يقول: الفقر، هذا يقول: الظلم، هذا يقول: الحكام، هذا يقول كذا ويتخبطون، ونحن نعرف، والله! إنا لعلى علم، علة كل شر وخبث وفساد وظلم هي الجهل، ولكن هل الجهل بمسائل التقنية والفيزياء، بالتجارة والفلاحة؟ إنه الجهل بالله تعالى، ما عرفوه فلم يحبوه، ولم يرهبوه، والذي لا يحب الله ولا يرهبه أنى له أن يستقيم في الحياة، والله! ما استقام ولن يستقيم ولن يعيش إلا وهو يتخبط يميناً وشمالاً، ما عرفوا الله فما أحبوه لجهلهم به، ولا خافوه، ثم معرفة محابه، وهذا تابع للأول، أيما إنسان أبيض أو أسود عرف الله والله ليطلبنك بإلحاح أن تعرفه بما يحب ربه من اعتقاد أو قول أو عمل حتى يتملقه ويتقرب إليه بفعل ما يحب، وما من عبد يعرف الله معرفة يقينية إلا طلب منك أن تدله على ما يكره ربه ولا يحبه، إذاً: فإذا أحب الله وخافه وعرف ما يحب ففعله وعرف ما يكره فتركه؛ فوالله! لهذا هو الصراط إلى دار السلام.

    نظرة في واقع التعليم المدرسي والجامعي

    إذاً: العلم، فقد بعث الله الرسول فقال: مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [النساء:165]، وقد تقول: يا شيخ! العلم متوافر عندنا، أيما دولة صغيرة فيها آلاف المدارس، هذه هي الحجة، الدنيا كلها مدارس وجامعات وكليات، فأين آثار هذا العلم الذي تزعم؟ فماذا نقول؟ ما هناك جواب. والجواب عندنا: هل فتحت هذه المدارس والكليات والجامعات من أجل الله تعالى؟ الجواب: لا. وهل بعثوا أبناءهم وبناتهم ليطلبوا العلم من أجل أن يعرفوا الله ويعبدوه؟ الجواب: لا. إذاً: كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:264].من منكم أيها الفحول ويا أيتها المؤمنات أخذ بيد طفله وقال: تعلم لتعرف ربك فتحبه وتخافه وتطيعه؟ وإنما يقول: تعلم لتكون كذا وكذا، تعلم لتنال كذا، لتكون في المستقبل كذا وكذا.وقد بلغني أحد الإخوة أن طلاب العالم الآن في الامتحانات، وكذلك في المملكة، وقال: ادعوا الله لهم اليوم بالنجاح، فقلت: لن ندعو؛ لأن نياتهم ما هي بتلك النيات التي يريدون بها وجه الله، إذ لو أرادوا وجه الله فوالله! ما طلبوا النجاح ولا فكروا فيه أبداً، إذ هم يطلبون المعرفة والعلم ليعبدوا الله عز وجل، فما دام أن الوظيفة مستقبلي يا بابا إذاً: فما لله منه شيء، وهذا واقع مر، هذا في ديارنا ديار القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف بديار الغافلين ومادة الفقه فيها مرة في الأسبوع؟!إذاً: هل نفعت هذه المدارس؟ ما نفعت. فماذا نصنع إذاً؟ كيف نخرج من هذه الظلمة؟ سوف تعلمون، والله! ما إن تصل الروح إلى الحلقوم وتأتي الغرغرة حتى ينكشف الغطاء ويظهر أمامك كل شيء، واقرءوا: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:84-87]. تحدانا الله، فهل استطاعت روسيا أو اليابان أو الصين أن يقفوا في وجه الله فيردها؟ قل لهم ليردوها.

    المساران العلميان في الحياة الإسلامية

    إذاً: متى نعود إلى الله؟ هل نغير مناهج التعليم؟ ما نستطيع، ما نقوى عليها، قد يقال: هل تدعوننا إلى أن يعود إلينا الاستعمار ونذل ونهون للغرب والشرق، ماذا هذه الدعوة الجافة الرجعية اليائسة، نحن نريد أن نقفز أكثر مما وصلنا إليه؟! فنقول: لا، دعوا مدارسكم، حولوها إلى مدارس صناعات وفيزياء وزراعة وتجارة، ثم الطريق الذي نريده والمسلك المنجي والذي ينجينا هو أن نسلك فقط مسلك رسول الله وأصحابه وأولادهم وأحفادهم، فمن صلاة الصبح ونحن مشمرون عن سواعدنا، هذا يزرع وهذا يبني وهذا يفعل، فاعمل، ومن نهاك أو لامك على هذا فلا تصغ إليه، اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، لتزدهر الصناعات والفلاحة؛ لأن جهودنا قوية، ولأننا ربانيون عملنا لله، لا غش ولا تلاعب ولا ضحك ولا لهو ولا باطل، فإذا مالت الشمس إلى الغروب ودقت الساعة السادسة اغتسلنا، توضأنا، تطهرنا، وقف دولاب العمل، من صلاة الصبح والدكاكين تشتغل، فهيا لنستريح، يتوضأ أحدنا ويلبس أحسن ثيابه ويأتي بامرأته وأولاده إن كانت له امرأة وله أولاد، إلى أين؟ إلى بيت الرب جل جلاله وعظم سلطانه، إلى المسجد الجامع. فإن قيل: يا شيخ! المسجد لا يتسع؟ قلنا: وسعوه، قد يقال: كيف نوسعه، نحتاج كذا شهراً؟ فأقول: رسول الله بنى مسجد قباء في سبعة أيام أو ثمانية، فإذا أذن المغرب دخلنا في مناجاة الله عز وجل وصلينا، فإذا فرغنا من الصلاة اجتمعنا كاجتماعنا هذا، ويجلس لنا عالم بكلام الله وكلام رسوله يعطينا آية ويقول: تغنوا بها أيها المؤمنون والمؤمنات، فنحفظها، آية من آياته من كتابه تحفظ، ثم تشرح لنا وتفسر، وتبين لنا، وأخيراً يقول: معشر المستمعين والمستمعات! معشر المؤمنين والمؤمنات! ضعوا أيديكم على المطلوب، الآية تطلب منكم أن تعتقدوا أنه لا إله إلا الله فاعتقدوا، الآية تطلب منكم أن تغضوا أبصاركم وتحفظوا فروجكم فغضوا أبصاركم عن نساء المؤمنين واحفظوا فروجكم عنهن، الآية تأمر بالإخلاص في الصدقة وإرادة وجه الله، فمن الآن لا يتصدق واحد منكم وهو لا يريد وجه الله. وغداً حديث نبوي نتغنى به ونحفظه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه ) ويتغنون به ويحفظونه نساءً ورجالاً وأطفالاً، ويقول المعلم: كل المسلمين إخوانكم، وهل الأخ يذبح أخاه؟ هل الأخ يكشف عورة أخيه؟ هل الأخ يسب أخاه؟ الجواب: لا، إذاً: كلكم إخوان، فمن الليلة لا يشكو مؤمن أخاه إلى ربه، لا سرقة، لا كذب، لا غش، لا خداع، لا كبر، لا ظلم، لا اعتداء أبداً. وبعد غدٍ آية، وبعده حديث، وطول العام وهم يتلقون الكتاب والحكمة، أهل القرية بجميعهم، أهل الأحياء كلهم، أسألكم بالله: هل يبقى بيننا جاهل أو جاهلة؟ ماذا أنفقنا على طلب هذا العلم؟ كم ديناراً؟ لا شيء أبداً، بل وفرنا المال وكثر عندنا لأن نفوسنا تهذبت وانقطع الشح وانقطع البخل وانتهى الإسراف والبذخ والتطاول في الدنيا والتكالب على مظاهرها، فهذا كله يموت، فماذا نصنع بالمال؟ لم يبق بيننا فقير يذل أو يهون. أسألكم بالله: هل هذا الطريق يتعب؟ والله الذي لا إله غيره! لن يستقيم أمر أمة من أممنا في شعوبنا وديارنا الاستقامة الحقة الربانية إلا على هذا المنهج، أحببنا أم كرهنا، وقد جربوا الاشتراكية وجربوا الرأسمالية وجربوا وجربوا، وكل التجارب باءت بالفشل، أليس كذلك؟ قولوا لي: ما المانع أن نفعل هذا؟

    دعوة إلى العلم المنير لمحاربة الجهل

    قد يقول بعض الحاضرين: الحكومات مانعة التجمعات للفتنة التي أشعلتم نارها وما عرفتم كيف تهتدون أو تهدون غيركم، فلما واجهتم الحكام بالنقد والطعن والتكفير والقتل غضبوا فمنعوا! فأقول: بدأ هذا من الجهل، وعدم البصيرة، فهيا لنعود إلى العلم لنحيا، والطريق بيناها، فيا قروي! اذهب إلى قريتك واتفق مع إمامك وشيخ القرية وقل لهم: هيا نرجع بأمتنا إلى الكمال والسلام، من الليلة نأتي بنسائنا وأطفالنا ونجتمع على تلاوة كلام ربنا وتدبره، والقرية الفلانية والفلانية، ما هي إلا سنة واحدة حتى تشاهد أنوار الإيمان، تشاهد الطهر والصفاء، تشاهد المال لا يطلب، ما بقيت لنا رغبة فيه، القليل من الطعام يكفينا، والذي يستر عوراتنا من اللباس يكفينا، وهكذا.. والله! لا طريق إلا هذا، بلغوا العلماء والأمراء والحكام والساسة، وبلغوا أوروبا والصين واليابان، والله! لن يسعدوا ولن يطهروا ولن يكملوا ولن يخرجوا من دائرة الظلام إلا بالعودة إلى هذا الكتاب الإلهي، والأيام تمضي وهم في بلاء وشقاء وعفن وشر وفساد، ما ذاقوا طعم الحياة، وإن طلبوا البرهنة فما نستطيع أن نقول إلا إذا بدأت هذه الخطة الربانية، وحينئذ ائت بريطانيا وشاهد هذه القرية فهل ستشاهد منكراً؟ امش معي صباح ومساء فهل ستسمع كلمة نابية؟ أو صوتاً مزعج؟ أو ترى منظراً خبيثاً؟ والله! ما يشاهد، امش معنا إلى دائرة الحكومة وقل لهم: أعطوني الجرائم التي تمت في هذا اليوم، والله! لن تجد جريمة، وإن شذ واحد في العشرة أيام أو في العشرين فلا قيمة للشذوذ، لا سرقة ولا خيانة ولا كذب ولا تكفير ولا سب ولا شتم، وهكذا كان أسلافنا. وإن قلت: كيف؟ فإنا نقول: كيف انتشر الإسلام في نصف الأرض شرقاً وغرباً لولا طهارتهم وكمالهم؟ هل دخل أهل المغرب والأندلس والمشرق في الإسلام بالسيف؟ والله! ما دخل أحد بالسيف، ولا أكره إنسان على أن يؤمن بالله ولقائه، ولكن لما دخلوا البلاد شاهدوا الأنوار التي يحملها الغزاة الفاتحون، صدق في القول، وفاء في العهد، طهر في السلوك، رحمة في القلوب، مشاهد الأنوار جذبتهم ودخلوا في رحمة الله، ما هو العصا والحديد، شاهدوا العدل في القضاء والحكم الرحيم العادل الرباني. فمن يدعو الآن بهذه الدعوة؟ من يقوم بها؟ العلماء كثير منهم يتقزز من هذا، الحكام يقولون: هذه أوهام، الأغنياء ما هم في حاجة إلى هذا، الفقراء هاهم يركعون ويسجدون، فمن يتحرك؟ من يبكي؟ لا أحد، إلا إذا أراد الله شيئاً وهو على كل شيء قدير.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة البقرة - (33)
    الحلقة (40)




    تفسير سورة البقرة (129)

    يأمر الله عز وجل عباده المؤمنين بإخراج زكاة ما أنعم الله به عليهم مما يخرج من الأرض من النبات والثمار، وحذرهم سبحانه وتعالى من أن يعمدوا إلى الخبيث منه فيخرجوه، مع أنهم لو قدم لهم مثله فإنهم لا يقبلونه، ثم حذرهم تعالى من اتباع الشيطان؛ لأنه إنما يأمرهم بالفحشاء ويخوفهم من الفقر إن هم أنفقوا في سبيل الله، بينما الله عز وجل بفضله وكرمه يعد عباده المنفقين بالمغفرة والفضل العظيم.

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، ولنا رجاء في ربنا أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). فهنيئاً لهم ولنا معهم إن شاء ربنا جل جلاله وعز.وها نحن مع ثلاث آيات، وإليكم تلاوتها فتدبروها وتأملوا ما فيها، واعزموا على العمل والتطبيق.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [البقرة:267-269].ثلاث آيات قرآنية نورانية، الأولى مفتتحة بهذا النداء الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:267] لبيك اللهم لبيك، نادانا مولانا، خالقنا، رازقنا، خالق الكون والحياة من أجلنا، نادانا فمرحباً بندائه، ماذا يريد منا؟نحن مستعدون، يا رب! مر نفعل، انه نترك، بشر نستبشر، أنذر نحذر، علم نتعلم؛ إذ نداءات الرحمن التسعون تدور على هذه، ينادينا ليأمرنا بما يكملنا ويسعدنا، ينادينا لينهانا عما يشقينا ويردينا ويخسرنا، ينادينا ليبشرنا، ينادينا لينذرنا، ينادينا ليعلمنا فنعلم.الحمد لله أن لنا رباً ينادينا، ويعلمنا، ويأمرنا وينهانا، ويبشرنا وينذرنا، وغيرنا من تلك الأمم اللاصقة بالأرض كيف حالهم؟ آيسون قانطون، جهلاء في الظلام، أحياء إلا أنهم أموات، وبئس المصير يصيرون إليه في عالم الشقاء.

    اختصاص الله تعالى بخلق الخارج من الأرض

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267] فهل سنطيع أم لا؟ أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] هذه الكلمة الربانية أوجبت -بلا نزاع- إخراج الزكاة مما تنبت الأرض من البر، الشعير، الذرة، التمر، الزيتون، العنب.. هذه كلها مما تخرج الأرض أم لا؟ فمن الذي أخرج هذه؟ الله. لو تجتمع البشرية كلها على أن تنتج حبة عنب فوالله! لما استطاعت، فمن أخرج هذه الغلال وهذه الثمار وهذه الحبوب؟ الله عز وجل. واحذر أن تقول: سيدي عبد القادر أو عيسى؛ والله! ما أخرجها إلا الله، هو الذي خلق التربة وخلق الماء وصب الماء، وأمره أن يتفاعل مع التربة فتفاعل وخرج القصيل والسنبل، فهل نحن نفعل هذا؟ هل نملك هذا؟

    ما يقتضيه قوله: (أخرجنا لكم) من وجوب شكر نعم الله تعالى

    وقوله تعالى: أَخْرَجْنَا لَكُمْ [البقرة:267] أي من أجلكم أنتم، تحتاجون إلى الغذاء أو تموتون.إذاً: هل ينبغي ألا نقول: الحمد لله؟ والله! ما ينبغي، يخرج هذه الأنواع من الثمار ونأكل ولا نقول: باسم الله، ولا الحمد لله؟ أعوذ بالله من إنسان لا يحمد الله على إنعامه، ولا يشكره على بركاته، ولا يذكر اسمه عند أكله وشربه.وممن ينتسبون إلى الإسلام جهلاً يأكلون ويشربون ولا يعرفون باسم الله ولا الحمد لله، ما لهم؟ ما عرفوا، من علمهم؟ من أرشدهم؟ وها نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مع ابن أم سلمة عمر قال: ( يا غلام! سم الله، وكل بيمينك وكل مما يليك ) لا تمد يدك إلى جهات أخرى في القصعة والناس يأكلون معك. فهذه الآداب التي ما يتلقاها أطفالنا وهم صغار، فكيف يعرفونها وهم كبار؟ وهل تعرفون لم نقول: باسم الله؟ هذا من أسرار الشريعة، نقول: باسم الله؛ إذ لو لم يأذن لنا في هذا الطعام فوالله! ما أكلناه، هل تستطيع أن تتناول كأس خمر وتقول: باسم الله؟ أعوذ بالله! أتكذب على الله؟ آلله أذن لك؟والغافل ممكن أن يشعل السيجارة ويقول: باسم الله! آلله أذن لك؟ كيف تقول: باسم الله؟فأنت تأكل هذا الطعام باسمه تعالى الذي خلقه وأوجده وأذن لك في أكله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] لا من الخبائث، وحاشا الله أن يرزقنا من الخبائث.

    ما تجب فيه الزكاة من الخارج من الأرض

    يقول تعالى: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] والكسب يكون باليد والعقل والطاقات، سواء كانت تجارة أو كانت زراعة وفلاحة، مما كسبتم، وهذا يتناول أنواع الأموال، حصل لك بإرث، حصل لك بتجارة أو بعمل، بأي شيء كسبته، وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267]: البقول، الحبوب، الثمار ، النخل وما إلى ذلك.ولنعلم أن علماء الفقه الإسلامي من أئمة الإسلام جمهورهم على ألا زكاة فيما كان مثل البقول كالبصل والثوم والخردل والطماطم والفلافل والقثاء على اختلافها، والبطيخ، والحبحب.. وما إلى ذلك؛ لأنها ما هي بمقتاتة ولا مدخرة، لا يقتاتها الإنسان ويعيش عليها العام والأعوام، ولا تدخر ويحتفظ بها، فمن هنا عفا الله عز وجل على لسان رسوله عن الزكاة منها، والذي بين لنا هذا الإجمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أمر أهل المدينة أن يزكوا البطيخ أو القثاء أو البصل أو الثوم وهم ينتجونه، لكن أمرهم بزكاة العنب إذا كان زبيباً، وزكاة التمر، أما التين فهذا أيضاً لا يزكى، وقس عليه البرتقال، وهكذا الفواكه والخضار.إلا أن المسلمين الربانيين إذا جنوا ثماراً من بساتينهم أو أراضيهم يعطون منه لجيرانهم وأقاربهم وفقرائهم ومساكينهم، لا على أنها زكاة مقننة مقدرة، ولكن استجابة لأمر الله العام: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267] وهذا هو المنهج السليم، فالحبوب، الذرة، البر، الشعير هذه تزكى بالإجماع؛ لأنها غذاء مدخر، أما البصل والثوم فهذه كل ما في الأمر أنه يقال فيها: يا صاحب البستان، يا صاحب المزرعة، يا صاحب الحقل! حين تأخذ كمية إلى بيتك أعط منها لجيرانك أو للفقراء حولك، فتكون استجبت لأمر الله عز وجل على سبيل الإنفاق تقرباً إلى الله وتزلفاً.


    وجوب إخراج الزكاة في الأموال الزكوية

    إذاً: قوله تعالى: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] يدخل فيه أنواع الإبل والبقر والغنم، وهذه تسمى بالناطقة، الحيوانات: الغنم ومعها الماعز، والبقر، والإبل هذه زكاتها بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب فيها للولاة كتباً واضحة في الفقه الإسلامي، فخمس من الإبل أخرج عنها شاة من الغنم، وعشر أخرج عنها شاتين، وخمسة عشر بعيراً أخرج عنها ثلاث شياة، وعشرون بعيراً أخرج عنها أربع شياة، وخمسة وعشرون أخرج عنها بنت الناقة المولودة في عامها الأول: بنت مخاض.وهكذا الغنم، فمن ملك أربعين شاة ماعزاً أو ضأناً صغيرة أو كبيرة وحال عليها الحول فيجب أن يخرج منها شاة، وكذلك البقر، فمن ملك ثلاثين بقرة عداً فإنه يخرج منها تبيع أو تبيعة، وهل الدجاج يزكى والبط والطيور؟ لا زكاة فيها، فهذه هي الأموال الناطقة.والصامت : الذهب، الفضة، العملات على اختلافها، ففيها زكاة، فزكاة الذهب إذا بلغ سبعين جراماً، إذا كان عندك ذهب ووزنته في ميزان الذهب فقالوا: هذه سبعون جراماً وجبت الزكاة، وفي أقل من سبعين جراماً لا زكاة عليك؛ لأن النصاب بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصاب الفضة أربعمائة وستون جراماً، فإذا كان عندك كمية من الفضة سواء في شكل ملاعق، أو في شكل أدوات، وإن كنا نقول: لا يحل للمؤمنين أن يأكلوا بملاعق الذهب والفضة، ولا أن يصنعوا الصحاف من ذهب أو فضة، هذا ليس لنا، هذا لغيرنا، للمحرومين منها يوم القيامة؛ إذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة )، والله! ما يشاهدون ذهباً ولا فضة ولا أواني في عالم الشقاء والعياذ بالله، أما المؤمنون والمؤمنات فيعوضهم الله، والله! ما هي إلا صحاف الذهب وآنية الفضة.

    مقدار نصاب الذهب والفضة

    من أهل العلم من يقول: نصاب الذهب خمسة وثمانون غراماً، وهذه اجتهادات فقط، وأما نحن أهل الدرس فقد قمنا بهذا الواجب، وجئنا بحب الشعير الذي كان يقدر ووزناه وعرفنا الجرام كم يكون من حب شعير، ومن ثم وجدنا النصاب سبعين جراماً.أقول: علماؤكم جزاهم الله خيراً يفتون بأن النصاب ثمانون أو خمسة وثمانون، ثم لما ذهبنا وجئنا بالشعير ووزناه، ونظرنا أيضاً إلى أن الفضة نصابها أربعمائة وستون جراماً، ويجوز أن تزكي بالفضة أو بالذهب، ما بينهما فرق، فلو زكينا أربعمائة وستين جراماً فمعناه أن خمسين جرام ذهب تعدل هذا أو أقل، فبالتحري كانت النتيجة أن من ملك سبعين جرام ذهب فأكثر وجبت عليه الزكاة إذا حال عليها الحول كالدراهم والدنانير.وقد يقولون لكم: النصاب خمسة وثمانون، وهذا تقليد فقط، أما عملياً فهو سبعون جراماً، وهذا أرحم بالفقراء والمساكين وأحوط لرب المال، هذه هي الحقيقة.

    حكم زكاة الحلي

    والذهب إذا كان حلياً تتحلى به المؤمنات ويتزين به لأزواجهن فلا زكاة فيه، ولكن من زكته كان لها أجرها ومثوبتها، واطمأنت نفسها؛ إذ (75%) من الصحابة والتابعين والأئمة مجمعون على ألا زكاة في الحلي، ويوجد من يقول: فيه زكاة، ولأن يخطئ خمسة وعشرون أقرب أن يخطئ خمسة وسبعون. ثم لو كان هذا المملوك يزكى فلم ما نزكي الأسرة التي ننام عليها والزرابي التي تبلغ الآلاف، والسيارة التي تركبها، وأواني البيت؟ لا زكاة فيها؛ لأنها مستعملة، فالذهب إذا كان مستعملاً فما هو بكنز يباع ويدخر للاستعمال، فهو كالقصعة إذاً وكالإبريق وكالآنية، وأي فرق؟ هذا فقه المسألة، ومع هذا فأيما مؤمنة تريد أن تزكي حليها فإنا نبارك لها في ذلك.وشيء آخر: إذا كان الذهب اشترته للقنية والادخار؛ إذ بعض المؤمنات تقول: الزمان حواج، سأحتاج في يوم من الأيام، فإذا كان عندها دريهمات فإنها تشتري بها قطعة من الذهب، لا على نية أن تلبسها، بل على نية أنه إذا جاء الزمان وأحوجها فستبيعها، فهذه بالإجماع تجب زكاتها، هذا كنز، والله يقول: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ [التوبة:34-35] الآيات، وبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن ما أخرجت زكاته لا يقال فيه: كنز، أيما دراهم، ذهب، فضة تخرج زكاته كل عام فلا تخف أنك تكوى به يوم القيامة.فتأملوا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] أولاً: الإبل، البقر، الغنم، الذهب، الفضة، الدراهم، والخارج من الأرض كذلك: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267] ما هو؟ التمر، العنب، الذرة، الشعير، القمح.. وما إلى ذلك، أخرجها الله لنا من الأرض.

    معنى قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه)

    وقوله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] ولا تقصد الرديء الذي لا يعجبك من شعيرك أو برك أو تمرك وتخرج منه، عيب كبير ونقص وسوء خلق هذا، وهذه الآية لا تفهم منها أن المؤمنين الصادقين يفعلون هذا، هذه الآية نزلت إذ كان هناك مكان يقال فيه: الصفة، كان يجلس فيه المهاجرون الذين لا مال لهم ولا ولد ولا نساء، يأتون مضطهدين من مكة ومن غيرها، فيجلسون هناك، إذا جاء الجهاد خرجوا، وإلا جلسوا، فمن أين يأكلون؟ ما عندهم بيوت ولا نساء، وإنما كان من زاد عن طعامه شيء يأتي به إلى الصفة، فجعلوا خشبة في المسجد بين عمودين، وأصبح كل من عنده عرجون تمر يعلقه هناك، هذا يأتي بعرجون، بعرجونين، بثلاثة، فيأتي أهل الصفة عندما يجوع أحدهم ويتألم يأتي بعود ويضرب ذاك القنو فيتساقط منه البلح والرطب، فيأكل ويمشي.فبعض المرضى والمنافقين كان يأتي بعرجون الحشف والدقل ويعلقه، في الظاهر أنه دخل يحمل أقنية من التمر للفقراء، وفي الباطن هو حشف ودقل، ففضحهم الله، فقال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ [البقرة:267] لو قسم لكم أنتم إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا [البقرة:267] أعينكم، وهذا عام، أيما صدقة تصدق بها يجب أن تكون نقية طاهرة صالحة نافعة، فطعام لا يؤكل هل تقدمه للفقراء والمساكين تضرهم وأنت ما تأكله؟ هذه ترفع همم المؤمنين وآدابهم إلى القمم، فمن ربانا هذه التربية؟ الله، ما وكلنا إلى زيد أو عمرو، هو الذي ربانا وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ [البقرة:267] الرديء غير الجيد، ضد الطيب، مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ [البقرة:267] لو قدم لكم أو أعطيتموه لقلتم: هذا ما نأكله ولا نلبسه ولا نشربه، إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] أغمض عينيك وامش، العامة يعرفون هذا، هذا معنى قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267].

    معنى قوله تعالى: (واعلموا أن الله غني حميد)

    معنى قوله تعالى: وَاعْلَمُوا [البقرة:267] أخيراً أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267]. إياك أن يخطر ببالك أن الله محتاج إلى طعامك أو شرابك أو مالك، ولهذا يلح عليك ويطالبك، بل هذا من أجلك أنت وأجل إخوانك، أما هو فغني غنى مطلقاً، والله! لا يفتقر الله إلى شيء؛ إذ كل شيء خلقه هو بيده، وهو حميد أيضاً محمود على خلقه وإيجاده المخلوقات، الملائكة يحمدونه، لو لم يحمده البشر فالملائكة أكثر منهم بمليارات المرات، فهو محمود في الأرض والسماء.فهذه الجلسة التي أنا جالسها يحمد عليها الله أو لا؟ من خلق هذا الشيء؟ من علمه؟ أنتم أيها الجالسون من خلقكم؟ من علمكم؟ من أتى بكم إلى ها هنا؟ الله. هذا هو الحمد. فذكر المحامد؛ لأن المنافقين والمرضى يقولون: لم يطلب منا هذا ويلح علينا في أن نخرج طعامنا وشرابنا؟ ألحاجته إليه؟! فأبطل هذه الوساوس بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267].


    تفسير قوله تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ...)

    ثم قال تعالى في الآية الثانية: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268] أعوذ بالله منه، ما الشيطان هذا؟ الشيطان: مشتق من: شطن يشطن، أو من: شاط الشيء إذا احترق، والصواب أنه ليس من الشيطنة بمعنى البعد، لكن من: شاط إذا احترق.الشيطان هذا هو المكنى بأبي مرة، وإبليس وصف له؛ لأن الله أبلسه، كان له اسم أيام كان يصلي ويعبد الله مع الملائكة والجن، ثم أبلسه الله، أي: أيأسه من كل خير، ما أصبح فيه خير قط.فهذا الشيطان أخبر تعالى عنه أنه يعدنا بالفقر، إذا أردت أن تنفق قال: تنفق وغداً ماذا تأكل وتشرب؟! مهمته أن يعدنا بالفقر، فيخوفنا من الإنفاق، فما يستطيع المرء أن ينفق وهو يفهم أنه إذا أخرج ماله اليوم فغداً من يعطيه؟ غداً يصبح يمد يديه! غداً يموت بالجوع أو بالعري! هذه وساوسه يعد بها أولياءه والذين يستجيبون له، من أخبر بهذا؟ خالقه، يقول تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268]، لم يعدنا بالفقر بمعنى: أنه يحذرنا من الفقر، يحذرنا من الإنفاق حتى لا نفتقر؟ لأنه يريد منا أن نهلك، أن نشقى، أن نخسر، أن نجاوره في عالم الشقاء؛ يقول: لم أنت يا آدمي تنجو وأنا وجماعتي نهلك ونخسر؟

    المراد بالفحشاء

    الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] الفحشاء إذا أطلقت فالمراد بها: الخصال القبيحة الشديدة القبح كاللواط، والزنا، وكل خصلة قبيحة شديدة القبح، على سبيل المثال: لو يقوم الآن أحدنا ويكشف عن سروايله وجسمه ويبقى عارياً ويمشي، فهل هذه قبيحة أو لا؟ أشد قبح هذا، لكن لو كشف عن فخذه فتلك قبيحة لكن ما هي بفاحشة.إذاً: كل خصلة قبيحة شديدة القبح هي من الفواحش، والآية تريد من الفاحشة هنا البخل، والعرب يسمون البخل فاحشة، والبخيل: فاحش.إذاً: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالبخل، ولو نستجيب له لما أنفقنا درهماً، بما يلقي في النفس من هذه الخواطر، يهدد بالفقر والحاجة وما إلى ذلك.

    وسوسة الشيطان للإنسان

    الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] ليس شرطاً أن يناديك: يا فلان! أنا الشيطان، لا تنفق خشية كذا، بل هو يدخل إلى المحطة ويتصل بك، فالمحطة إذا أنت دمرتها وخربتها ما يبقى له مجال، وما توجد محطة خربت إلا محطة واحدة، وأما محطاتنا فإنه يتصل بنا من بعيد، كيف اتصل بآدم وآدم في الجنة وهو خارج منها؟ الأولون ما عرفوا، قالوا: كيف هذا؟ قالوا: دخل في صورة حية، أو دخل في كذا.. يبحثون عن كيف دخل، والآن نحن عرفنا، فهي محطة في النفس عند القلب يستطيع أن يتصل بك وهو خارج عنها، ولهذا لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد رضيعاً أجريت له عملية تحطيم هذه المحطة والقضاء عليها، فجاءه ملكان ومعهما جبريل، وشق صدره، ونزعت تلك اللحمة أو القطعة أو المحل نهائياً، فما يصبح للشيطان مكان لأن يلقي بشيء أبداً.أما نحن فما زالت المحطة فينا صالحة، فإذا كان عندك رادار قوي فما إن يحوم حولك حتى تطرده، وإذا كان ما هناك رادار ولا حراسة فإنه يسكن هناك ويغني.

    وسيلة النجاة من وسوسة الشيطان

    ويوجد لذلك رادار يباع عندنا، فالذي يرغب فيه وعنده ثمن فليتفضل، فيصبح آمناً، هذا الرادار لا بد له من ثمن، ما هو الثمن يا شيخ؟ نريد أن نشتري.الثمن: أن تخاف الله فلا تعصيه بترك واجب أوجبه ولا بفعل حرام حرمه من العقائد والأقوال والأفعال، إن كان هكذا حالك فاعلم أنك تملك هذا الرادار، وإليكم الآية القرآنية التي تدل على هذا الرادار، قال تعالى من سورة الأعراف: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200] إذا شعرت به فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فيطير كالبرق، ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202] إخوان الشياطين.فهذا الجهاز العظيم تكتسبه بتقوى الله عز وجل، أنت عاقل، أنت قوي، أنت قادر، أنت عالم، لا تخرج عن طاعة الله ورسوله، لا بترك واجب مأمور بفعله أو قوله أو اعتقاده، ولا بفعل المنهي عنه والمحرم عليك اعتقاداً أو قولاً أو عملاً، بهذه تصفو نفسك وتزكو وتطيب، ويصبح عندك رادار أشد حساسية، فإذا حوّم العدو عندك فقط تعرفه وتطرده.والآن هناك رادارات للجيوش، فإذا حومت طائرة العدو عرفوها، فالحمد لله، ولهذا لا يهلك على الله إلا هالك. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ [الأعراف:201-202] إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202] لا يقصرون أبداً عن فعل المعاصي والجرائم والموبقات؛ لأنهم عمي، الشياطين تؤزهم أزاً، وتدفعهم إلى الباطل والمنكر.فهل عرفتم هذا العدو؟ من أخبر بهذا الخبر؟ الله العليم الحكيم، يقول: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268]؛ حتى لا تنفقوا أموالكم في سبيل الله، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] والخصال القبيحة كالبخل وما إلى ذلك.

    معنى قوله تعالى: (والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم)

    وَاللَّهُ [البقرة:268] عز وجل يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [البقرة:268] فماذا تختار يا عاقل؟ أن تصبح عبداً للشيطان يأمرك فتفعل، أو تكون ولياً لله يعدك فتستبشر بما وعدك الله به؟والله يعدكم بمغفرة ذنوبكم وبفضل، وهو الجنة ونعيمها، الرزق الواسع الطيب.. قل ما شئت، فضل من هذا؟ فضل الله، ولا تشك إذا قال، فالله واسع الفضل، عليم بالمستحقين، لا تقل: لعل ما عند الله قد انتهى، فهو واسع عليم، لا تقل: ممكن أنه ما يعرف عني شيئاً، ما يدري أننا في نواكشوط مثلاً، أنت معلوم لله عز وجل في أي مكان؛ لأن العوالم كلها بين يديه، إذاً فاطمئن إلى صدقه ووعد الرب تبارك وتعالى.والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما نقصت صدقة من مال ) فمن يرد على رسول الله؟ كل مال تزكيه ينميه الله ويبارك فيه، وتنتفع به أكثر من الأموال المحرمة، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].

    تفسير قوله تعالى: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ...)

    وأخيراً قال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:269] يعطي الحكمة من يشاء هو، ومن هم الذين يشاء الله أن يؤتيهم الحكمة؟ هل نحن منهم؟الجواب: الذين يطلبونها ويقرعون باب الله سائلين طالبين، هم الذين يؤتيهم الحكمة، أما المعرض واللاهي والمشغول عنها وغير الراغب فيها فما يشاء الله له ذلك، هذه سنته، أتريد الحكمة؟ اطلبها تعط، وأما وأنت مستكبر ومعرض وغير مبال فلن تعطى، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ [البقرة:269] أي يعطها فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269].

    المراد بالحكمة

    وما هي الحكمة؟أولاً: القرآن والسنة، إذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا حسد إلا في اثنتين ) الأولى: ( رجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه الليل والنهار )، فتقول: لو يعطيني ربي مالاً كما أعطاه فسأنفقه، فأنت وإياه في الأجر سواء بالنية الصادقة، ( ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها الليل والنهار )، إذا قلت: يا رب! لو تؤتيني هذه الحكمة لقضيت بها الليل والنهار، وهي هنا القرآن، فأنت وإياه في هذا سواء، وهذا ليس بحسد، هذا غبطة؛ لأن الحسد أن تتمنى أن تزول النعمة من فلان لتحصل لك، وبعضهم يتمناها أن تزول من فلان ولو لم تحصل له، وهذا شر الحسد والعياذ بالله، المهم ألا يرى فلاناً في خير، أما الغبطة فلا تكون إلا في شيئين. والشاهد عندنا في أن القرآن حكمة؛ لأنه ما وضع شيئاً في غير موضعه قط، والله! لا كلمة ولا حرف؛ إذ الحكمة وضع الشيء في موضعه، والحكيم يضع الشيء في موضعه، فحين يصب الحليب أو اللبن لا يصبه في الأرض، يصبه في الكأس.إذاً وضع الشيء في موضعه هو الحكمة، والحكيم من كانت هذه صفته، الكلمة لا يقولها حتى يبحث عن المكان اللائق بها، وحتى يعرف ما تنتجه فيضعها في موضعها، وهذه الحكمة تكتسب، فأولاً القرآن الكريم والسنة النبوية، احفظ ما شاء الله أن تحفظ وافهم ما شاء الله أن تفهم، وطبق واعمل، ولا تزال كذلك حتى تصبح حكيماً في كل تصرفاتك، في البيع، في الشراء، في الرحيل، في الإقامة.. في كل شيء، لا تضع الشيء إلا في موضعه؛ لأنك حكيم.قال تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269] ولهذا من أعطي القرآن فحفظه وفهمه وعمل بما فيه وقال: إنه فقير فأدبوه، فأين الفقر مع القرآن؟ أغنى الناس أهل القرآن.

    معنى قوله تعالى: (وما يذكر إلا أولوا الألباب)

    ثم قال تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [البقرة:269] ما الألباب؟ جمع لب، وهو العقل، القلب؛ مصدر الوعي والفهم، فمن يتذكر بهذه المذكرة الإلهية؟ أصحاب القلوب الحية، هذا إخبار الله تعالى، وما يذكر بهذه التذكرة الربانية في هذه الآيات إلا أصحاب العقول الراجحة، والفهوم الصاعدة الطيبة، وهذا مبني على طهارة الروح وزكاة النفس؛ لأن أصحابها متقون لا تتلوث أرواحهم ولا تخبث نفوسهم.

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    أعيد تلاوة الآيات وتأملوا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267]. واسمعوا التنبيه: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] تقصد الرديء غير الجيد الذي ما يصلح وتعطيه الفقراء والمساكين، واذكروا قصة العراجين التي كانت تعلق في الصفة، يدس معها قنواً فاسد ليقولوا: فلان جاء بقنو من بيته أو من بستانه.إذاً: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] إذا أغمضت عينيك فستأخذ الرديء.ثالثاً: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267] لا يخطر ببالك أن الله محتاج إليك أو إلى مالك، ما أعطاك هو حقه وماله، فإن طلب منك أن تنفق لتزكية نفسك أو إسعادها فليس معناه أنه في حاجة إليه. الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] كل قبيح الشيطان يدعو إليه، فالذي يفتح مخمرة في بلاد المسلمين أليس هو الشيطان؟ الذي يفتح بنكاً ربوياً يلقي الناس في جهنم أما أمره الشيطان؟ الذي يستورد المحرمات من الحشيش أو الدخان ويبيعها بين المسلمين أما أمره الشيطان؟ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [البقرة:268] فقولوا: الحمد لله.وأخيراً: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269] يا صاحب العلم والمعرفة! لا تقل: أنا فقير، انتبه، استح! أنت تملك ما لا يملك ملايين البشر، تملك الكتاب والحكمة. وَمَا يَذَّكَّرُ [البقرة:269] من يفهم هذا الكلام ويعيه ويعمل به؟ هل المجانين؟ بل أصحاب العقول، أرباب الألباب والنهى، وصدق الله العظيم.إليكم هذا الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة، يقول في هذه الآية: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268] إلى آخرها، يقول: اثنتان من الله واثنتان من الشيطان. وهو كذلك، ويفسر هذا الحديث عند الترمذي ؛ إذ فيه قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن للشيطان لمة بابن آدم ) يلم به: يحوط به كما قدمنا، ( وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ).من وجد في نفسه لمة الملك فليقل: هذه لمة الملك، أنه يشجعه على النفقة، وعلى رجاء الله وعلى طلب الفضل والخير، إن وجدت هذا في نفسك فاحمد الله، فهذا من الملك، وإن وجدت حال النفقة خاطراً يقول: كيف تخرج ما في جيبك؟ من يعطيك كذا؟ فذلك -والله- من الشيطان؛ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [البقرة:268]، إن وجدت في نفسك العزوف عن الشهوات وترك الرغبة فيها ودوافع تبعدك عن هذه المحرمات فاعلم أن هذه من لمة الملك الذي يدخل قلبك.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    لهذه الآية هدايات: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:من هداية الآيات:أولاً: وجوب الزكاة في المال الصامت من ذهب وفضة وما يقوم مقامهما من العمل ] على اختلافها، [ وفي الناطق من الإبل والبقر والغنم؛ إذ الكل داخل في قوله: مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]، وهذا بشرط الحول وبلوغ النصاب.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •