تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 17 من 45 الأولىالأولى ... 789101112131415161718192021222324252627 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 321 إلى 340 من 898

الموضوع: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

  1. #321
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (8)
    الحلقة (320)

    تفسير سورة المائدة (16)


    إن قتل النفس البشرية وإزهاق الروح الآدمية لهي جريمة شنعاء، لذلك فقد بين سبحانه وتعالى أن من قتل نفساً واحدة فكأنما قتل الناس جميعاً، إلا أن الله عز وجل أباح القتل في ثلاثة أحوال؛ فمن قتل نفساً ظلماً وعدواناً جاز قتله، والثيب الزاني سواء كان رجلاً أو امرأة يجوز قتله، والمرتد عن دينه والخارج عن جماعة المسلمين وإمامهم.
    تفسير قوله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). وأخرى -يا معشر المؤمنين والمؤمنات- هي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )، فاللهم حقق لنا هذا الخير إنك ولينا وولي المؤمنين.ما زلنا مع سورة المائدة المباركة المدنية الميمونة، ومعنا هذه الآية المباركة الكريمة، هيا نتلو هذه الآية متأملين فيما تحمله من هدى ونور.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32]. ‏
    صلة الآية الكريمة بما قبلها
    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة:32]، الإشارة هنا عائدة إلى قتل قابيل هابيل ؛ إذ تقدم في الآيات السابقة أن ابني آدم -وهما قابيل وهابيل- تقرب منهما هابيل إلى الله بقربان فقبله الله منه، وآية ذلك -أي: علامة قبول الله له- أن ناراً تنزل من السماء وتحرقه، وأن قابيل تقرب بقربان فلم يقبل منه، ولماذا تقبل من هابيل ولم يقبل من قابيل ؟ لأن هابيل اختار أطيب ما عنده وقدمه لله ونفسه طيبة مطمئنة راضية بهذا التقرب إلى الله، والآخر ما كانت نفسه طيبة ولا مطمئنة ولا اختار أطيب ماله ولا أجوده، بل اختار أفسده، وقيل: رأى سنبلة فيها حب جيد فأكلها ولم يقدمها، فلم يتقبل الله تعالى منه قربانه، فحمل الحسد قابيل على قتل هابيل وقال: لم يتقبل الله منك ولم يتقبل مني؟ فقتله. وهنا عرفنا أن الحسد أول معصية وأنها فتنة لا نظير لها، ما هناك داء أضر على البشرية من الحسد، وهو داء الأمم كلها، وقد عرفناها فينا، هذا الداء الخطير حمل قابيل على قتل أخيه هابيل، فلما قتله وكان أول ميت لم يدر ماذا يصنع؟ فحمله على ظهره فحيثما مشى كان معه، حيثما نزل ونام كان معه، إذاً: فبعث الله برحمته وحكمته وإحسانه إلى عبيده بعث غراباً يبحث في الأرض ليدفن غراباً من الغربان، وهذا الآدمي قابيل يشاهد، فلما رأى الغراب قد حفر الأرض ودفن أخاه الغراب فعل هو بأخيه كذلك.واسمعوا قول الله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي [المائدة:31]، أي: يدفن ويستر سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة:31]، أي: جثة أخيه.إذاً: اسمعوا الآيات مرة أخرى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:27-31]، قال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة:32]، ماذا فعل الله من أجل ذلك؟ قال: كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:32]، من هم بنو إسرائيل؟ عرفناهم: أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، فيعقوب يلقب بإسرائيل.وهم اليهود، وقد علمتم أنهم ما زالوا إلى الآن منحازين متكتلين متجمعين متوالين لا يتزوجون نساء غيرهم، ولا يزوجون نساءهم لغيرهم؛ ليبقى هذا الشعب كما هو على مر الأجيال والقرون، وعرفوا باليهود، من هاد يهود هوداً: إذا رجع؛ لأنهم لما ارتكبوا تلك العظيمة قالوا: هدنا إليك، فتابوا إلى الله، أي: من عبادتهم العجل.
    الأسباب المبيحة للقتل
    والشاهد عندنا في قول ربنا جل ذكره: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:32]، و(كتبنا) بمعنى: أوجبنا وفرضنا، عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:32]، ماذا كتب عليهم؟ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ [المائدة:32]، ما معنى قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ [المائدة:32]؟ قتل نفساً بدون مقتضي قتلها، بدون موجب القتل، وهل هناك ما يوجب قتل النفس؟ أي نعم. ثلاث خصال يجب أن نحفظها وأن تكون عندنا من البدهيات، ثلاث يقول فيهن الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث )، أي: بواحدة من ثلاث، ما هي يا رسول الله؟! قال: ( النفس بالنفس )، من قتل نفساً يستباح قتله، يجوز قتله، من قتل نفساً ظلماً وعدواناً استوجب القتل واستحق أن يقتل وقتله مشروع جائز مأذون فيه من الملك جل جلاله وعظم سلطانه، عبده قتل عبده، فأذن في قتله.قال: ( والثيب الزاني )، الثيب: هو غير البكر، هو من تزوج وماتت زوجته أو طلقها أو كانت عنده، الثيب: من تزوج زواجاً شرعياً، عقد على امرأة وبنى بها وخلا بها فأصبح ثيباً، هذا الثيب إذا زنى بامرأة جاز قتله، استحق القتل، هذا الثيب الزاني.أما البكر الذي لم يعرف الزواج وزنى فإن الحد هو أن يجلد مائة جلدة على ظهره أمام المسلمين، ويغرب سنة من بلده إلى بلد آخر حتى يمحى ذاك السواد الذي على وجهه، سنة لا يراه من أهل القرية أحد، وفيه حكمة أخرى أيضاً؛ لأن وجوده بين المواطنين يذكر الناس بالزنا، وذكر الباطل يهيج عليه ويدفع إليه، فأبعدوه سواء في صحراء أو في جبل، ويغرب سنة.والمرأة المؤمنة لا تغرب، فمن يقوم بشأنها إلا إذا كان لها مولى كعم وأخ فممكن أن تبعث إليه، لكن بوصفها محجوبة ما هناك من يقول: هذه زنت ورجمناها. والجلد هو جلد بالعصا مائة جلدة، ودليل ذلك ما هو معلوم لديكم: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، لا يرجمون في الخفاء أو يجلدون بالخفاء، أما الثيب فيرجم حتى الموت، وإذا رجم ومات طهر ونظف، كالثوب إذا تلطخ بالقاذورات والأوساخ وغسلته الغسل الحقيقي فإنه ينظف، كذلك الحد إذا أقيم على مؤمن طهره، فمن حكم مشروعية إقامة الحد تطهير النفس، زيادة على ما لذلك من آثار طيبة في المجتمع.قال: ( والتارك لدينه المفارق للجماعة )، هذا هو الحق الثالث، ( لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) خصال، ( الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة )، التارك لدينه: هو المرتد، مسلم وضع برنيطة على رأسه وصليباً في عنقه وقال: أنا تنصرت، أو قال: أنا لا أؤمن بالله ولا برسوله، أو قال: هو مجوسي، فيستتاب ثلاثة أيام، فلعله مرض لعله كذا، فإن أصر أعدم، وهل هذا الإعدام يكفر ذنبه؟ الجواب: لا، فإلى جهنم؛ لأنه كفر باختياره وإرادته. والمفارق للجماعة الذي يخرج على إمام المسلمين، الذي يخرج على إمام المسلمين ويتحزب مع جماعة ويعلنون الحرب لإثارة الفتنة والشغب والتعب والخلاف بين المسلمين، هذا الباغي بغيه يوجب قتله ويستحق القتل.
    اجتماع الأسباب المبيحة للقتل في وصف الفساد في الأرض
    إذاً: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ [المائدة:32]، ما الفساد في الأرض في الآية؟ الشرك بعد التوحيد، الكفر بعد الإيمان، أليس هذا هو الفساد؟ والخروج على إمام المسلمين وإثارة الفتنة ليقتل المسلمون بعضهم بعضاً، أي فساد أعظم من هذا؟ وكلمة: أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ [المائدة:32]، الرسول بلورها وقدمها في هذه الزهرة المستنيرة، فقال: ( لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس )، قتل نفساً ظلماً وعدواناً يقتل بها، ( والثيب الزاني )، الذي يفسد المجتمع الإسلامي بالزنا، ثالثاً: ( التارك لدينه المفارق للجماعة )، التارك لدينه فارق الجماعة بكفره، ولكن إضافة ( المفارق للجماعة ) يدخل ذاك الذي يعلن الحرب على إمام المسلمين ويخرج عليه؛ ليثير الفتنة والتعب والمصائب والويلات.هذه الآية دلت على هذه المعاني: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة:32] الذي عرفتم وهو قتل قابيل أخاه هابيل حسداً -والعياذ بالله تعالى- كتبنا على أولاد إسرائيل إلى يوم القيامة: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ [المائدة:32]، وكلمة أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ [المائدة:32]، عامة، فالشرك فساد، كان موحداً فعلق الصليب أليس هذا بفساد؟ كان مؤمناً فأعلن عن كفره وارتد، فهل هذا فساد أم لا؟ كون عصابة وخرج على الإمام وأزهق الأرواح وقتل، فأي فساد أعظم من هذا؟ دلونا على جماعة خرجت على إمام المسلمين وأقامت دولة إسلامية، وعبد الله وحده ورفعت راية لا إله إلا الله، وأقيمت شريعة الله بين الناس؟ إن الذين خرجوا على علي قتلهم هو، فهم الذين مزقوا، والذين خرجوا على عثمان ماذا فعلوا؟ وقل ما شئت إلى الآن، فأيما جماعة ناشطة تريد أن تخرج على الحاكم وإن كان من كان فخروجها باطل باطل باطل؛ لأنه لا يعقب خيراً، لا يورث خيراً، ما هو إلا باطل؛ لأن الخير له طرق غير هذه.
    معنى قوله تعالى: (فكأنما قتل الناس جميعاً )
    قال تعالى: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، كيف؟ بعبارة واضحة: يعذب عذاباً أليماً في جهنم، عذاب ما فوقه عذاب، والذي يقتل البشر كلهم يعذب عذاباً ما فوقه عذاب، فتفطنوا لهذه الجملة: (فكأنما قتل الناس جميعاً)، أي: في التعذيب، فلو قتل الإنسان مليون واحد فإنه يقتل قتلة واحدة، ولكن يعذبه الله عذاب من قتل؛ لقوله تعالى: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، هذا من جهة.ومن جهة أخرى أيضاً -والقرآن كله نور- أن الذي يجرؤ على أن يقتل مؤمناً ظلماً وعدواناً مستعد لأن يقتل البشر كلهم، فالذي تفسد طبيعته ويموت قلبه ويقدم على قتل مؤمن مستعد لأن يقتل كل الناس ولا يبالي، ما دام قد مات قلبه وأقدم على قتل أخيه فهذا قد يقتل كل الناس إذا تمكن من قتلهم وأراد ذلك، ما بقي عنده وازع يمنعه أو يصرفه، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32].
    معنى قوله تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)
    وَمَنْ أَحْيَاهَا [المائدة:32]، أحيا نفساً، والذي يحيي ويميت هو الله، ولكن جعلنا الله نقدر على أن نحيي وعلى أن نميت، فحين يستوجب فلان القتل وأنت قادر على قتله وتتركه لله عز وجل أما أحييه؟إذاً: فيحصل لك الأجر كأنما أحييت الناس جميعاً، فالذي تمكن من قتل ظالم معتد عليه مستوجب للقتل فرحمه لله وترك عبد الله ليعبد الله وأبى أن يقتله من أجل الله، هذا كأنما أحيا الناس جميعاً، فهو أيضاً قادر على أن يحيي الناس كلهم، ونحن ألسنا كذلك؟ ما منا إلا من هو قادر على أن يحيي الناس جميعاً.ويحصل الأجر له كأنما أحيا الناس جميعاً، ما هو بأجر واحد فقط، وواهب الأجر ومعطيه هو الله الملك جل جلاله وعظم سلطانه، فمن أحيا نفساً استوجبت القتل فعفا عنها وتركها لله عز وجل هذا مستعد أن يحيي الناس كلهم إذا فعلوا، وحينئذٍ فجزاؤه جزاء من أحيا الناس جميعاً، هكذا يقول تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وهنا باب العفو والصفح مفتوح للمؤمنين، شخص يعتدي عليك ويستوجب القتل وتعفو عنه وأنت قادر؛ لأن الحاكم معك يقطع رأسه أمامك وأنت قادر على العفو فقل: عفونا عنه لله وتركناه لله. هذه حسنة من أعظم الحسنات تعطى عليها أجر من أحيا الناس جميعاً، ولهذا يعفو المؤمنون بعضهم عن بعض ويصفحون.
    معنى قوله تعالى: (ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات)
    ثم قال تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ [المائدة:32]، وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ [المائدة:32]، من هم هؤلاء؟ اليهود بنو إسرائيل، جاءتهم رسل الله، ورسل الله أعداد كثيرة، من بين رسل الله: موسى وهارون وبعدهما داود وسليمان وآخرهم عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وزكريا ويحيى رسل، وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ [المائدة:32] والله رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ [المائدة:32]، بالحجج بالبراهين القاطعة، بالبيان بالمعرفة، لكن مع الأسف أعرضوا، هل هناك معجزات أعظم من معجزات عيسى عليه السلام؟ جعله يمسح على الأبرص فيصبح جسمه كأحسن ما يكون، والبرص الآن الدنيا كلها فشلت في علاجه، فهل هناك طبيب يداوي البرص في العالم أو مستشفى؟ وأعمى ما يبصر يمسح على عينيه فتعودان على أحسن ما يكون، وميت يقال له فيه: يا روح الله! ادع الله فيدعو له فيقوم حياً! فأية بينة أعظم من هذه؟ ومع هذا كفروا به، كذبوا به، حاولوا قتله ويعتبرون قد فعلوا؛ لأن الجريمة ثبتت عليهم، ما دام أنه ألقى الله الشبه على رئيسهم وأخذوه ظانين أنه عيسى وعلقوه وصلبوه وقتلوه فكأنما قتلوا عيسى، ولهذا بينت لكم غير ما مرة أن اليهود يعتبرون قتلة النبي صلى الله عليه وسلم قضاء؛ لأنها مؤامرات تمت ليقتلوه، وإنما عجزوا وما تابوا فيعتبرون قتلة، والله يقول: وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:181]، قتلوا زكريا وولده يحيى، نبيان رسولان، قتلوا الأب والابن معاً، فهل هؤلاء فيهم خير؟ يرجى فيهم خير؟ وكيف نصنع؟
    سعي اليهود لحكم العالم
    إن اليهود يفكرون في أن يحكموكم ويسودوكم ويتحكموا فيكم ويذلوكم ويهينوكم، فأهدافهم ليس أنتم فقط بوصفكم مسلمين، هم يريدون العالم بأسره، يريدون مملكة بني إسرائيل لا من النيل إلى الفرات فحسب، فهذه خطوة أولى، ولكن يريدون العالم كله، هذا الذي جعلهم يعضون على دينهم بأسنانهم، ما يفرطون في اليهودية أبداً ولا يحاولون أن يتخلوا عنها بحال من الأحوال؛ لأنهم يفكرون بأن يسودوا العالم ويحكموه.وأبشركم -وهم على علم- بأن هلاكهم سيكون على أيدي المسلمين، ولا يقل أحد: ما نريد أن يسمعوا هذا، فقد سمعوا قبلك، وهم يدرسونه، وقالوا: لن يفعل بنا ما يفعل إلا المسلمون، فهيا نعمل ما استطعنا على ألا نبقي إسلاماً ولا مسلمين. هذا الكلام يعلمونه ويدرسونه، يعرفون أن نهاية بني إسرائيل تكون على أيدي المسلمين، درسوا الحديث الصحيح في مسلم وعرفوه، وهم يعرفون ذلك أيضاً من كتبهم، إذاً: ماذا يصنعون؟ قالوا: ما نسمح بوجود إسلام حقيقي في الأرض، حتى لا يوجد مسلمون تخاطبهم الأشجار والأحجار.ومن قال: كيف؟ قلنا: أما حاولنا حرب اليهود في فلسطين وعجزنا؟ فكيف نعجز؟ لأننا لسنا بالمسلمين الجديرين بكلمة الإسلام الحق، لو أسلمنا ففي أربع وعشرين ساعة يرحل اليهود، ما يقبلون القتل، يخرجون من فلسطين، نحلف لكم بالله أننا لو نعلن عن إسلامنا -أيها المسلمون الذين هم ألف مليون- فقلنا: لا إله إلا الله، وطبق شرع الله؛ لرحل اليهود بسرعة بدون قتال، لكن هم علمونا وجربونا وانتصروا علينا وهزمونا.
    المعجزة النبوية في الإخبار بقتال اليهود
    فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لتقاتلن اليهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فتعال فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود ).الرسول يتحدث عن الله ويخبر بالغيب من الله، كيف يقول: ( لتقاتلن اليهود )، واليهود قد شردهم ومزقهم؟ أين اليهود الذين سنقاتلهم وهم حفنة في الشرق وحفنة في الغرب! كيف يتم هذا؟ الله أكبر! قد تم هذا، إنها معجزة محمد صلى الله عليه وسلم.المجموعة التي كانت هنا منهم بنو قينقاع شردوا، وبنو قريظة قتلوا، وبنو النضير التحقوا بخيبر وفدك والشام، فكيف يخبر فيقول: ( لتقاتلن اليهود )، وتمضي القرون ويعز اليهود بحيلهم ومكرهم وسحرهم وأباطيلهم، ثم يأتي زمان يعرف فيه المسلمون ربهم، ويقبلون على مولاهم في صدق فتتحد كلمتهم وتتحد قوانينهم وشرائعهم ويمشون في سبيل الهدى، ثم بعد ذلك يسلطهم الله على اليهود، نقمة الله على اليهود أعدائه، فيقاتلونهم يتتبعونهم حتى يقول الشجر: يا مسلم! هذا يهودي مختبئ ورائي، ويقول الحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي، ولا يقول: يا عربي. فعرف هذا اليهود وقالوا: هيا نشيع الشرك والخرافات والضلالات والفسوق والفجور والربا والزنا والباطل وعقوق الوالدين والتكالب على الدنيا وأوساخها والمزامير والأغاني حتى ما يوجد إسلام أهله يقاتلوننا.لو سمعوا هذا الدرس لقالوا: هذا الذي في المدينة دوخنا، فيعملون على قتلي، ولا يستطيعون. وأزيدكم: والله! إن كل مظاهر الفسق والفجور والشرك والباطل أصابع اليهود هي التي تنشئها وتدعو إليها، وإلا فأهل فكيف يصبح أهل القرآن أهل الإسلام ساقطين ماجنين هابطين ضلالاً ضائعين وأنوار الله تغمرهم؟ كيف يتم هذا؟ وجواب ذلك أن نقول: هل عندكم الدشوش في سطوحكم؟ ذلك الذي يلتقط لنا أصوات العواهر والمجرمين والكافرين والضالين ويعرض صورهم على أبنائنا وبناتنا ونسائنا ورجالنا حتى تموت القلوب، ونمد أعناقنا ليركب من شاء أن يركب، هل هذا بلغ المسلمون أم لا؟ والله الذي لا إله غيره لو كان مسلم بحق يسمع هذا الكلام لما بات التلفاز في بيته، وإذا سمع من سمع وهو طائش هائج فلن يبالي بهذا الكلام؛ لأن قلبه فارغ لا نور لله فيه، هذا هو الواقع.هذه الآلات والأغاني والمزامير والملاهي هي مفتاح الزنا والعهر، هي بابه، فكيف يصح هذا؟ ولكن ماذا نصنع؟ لماذا لا تفعلون شيئاً؟ انصحوا لبعضكم، أخوكم زوروه في بيته أو ادعوه إلى بيت أحدكم وقدموا له الحلوى وقدموا له طعاماً لذيذاً وأنتم تبتسمون وتقولون: يا أخي! أو يا أبتي! أو يا بني! أنت أخونا، أنت كذا، أنت في دار الإسلام، وعلمنا أن لك دشاً على سطح بيتك وهو يفسد عليك أسرتك، فهيا تشجع وقل: أعاهدكم ألا يبيت الليلة على سطحنا، فسيزيله، وكذلك الثاني والثالث والرابع، وهذا هو قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، فإن لم نفعل هذا فما تعاونا، ما مددنا أيدينا لبعضنا، نرى أخانا ساقطاً فنزيد في سقوطه، وهابطاً فنزيد في هبوطه، كيف يصح هذا إلا إذا كنا منحدرين إلى الهاوية، ومن يردنا؟
    أخذ العبرة مما حل باليهود
    مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ [المائدة:32]، بنو إسرائيل أفضل منا، أكمل البشر أولاد الأنبياء؛ لتأخذوا العبرة، فإذا كان اليهود بنو إسرائيل أبناء الأنبياء عاملهم الله بهذه المعاملة، فكيف بالمسلمين؟إذاً: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ [المائدة:32]، ونحن عندنا بينات أم لا؟ كلها عندنا، ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32]، ما هو الإسراف هذا؟ أتدرون ما الإسراف؟ الخروج عن العدل وعن القسط وعن الحد المطلوب، الإسراف في الأكل في الشرب في الكلام في النوم في المعاملة في كل شيء: مجاوزة الحد، والذي يتجاوز الحدود يتحطم ويخسر.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #322
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (9)
    الحلقة (321)

    تفسير سورة المائدة (17)


    شرع الله حد الحرابة حفظاً لدماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، فأيما رجل أو جماعة عملوا على ترويع الناس، والاعتداء عليهم، وقطع السبيل والإفساد في الأرض فقد جاز تطبيق حد الحرابة عليهم، وتكون العقوبة إما بالقتل، أو بالصلب، أو بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، وأهل العلم على أن لولي الأمر اختيار إحدى هذه العقوبات حسب ما يرى من الحاجة إليه.
    ذم الإسراف والتبذير
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة ذات الأحكام الشرعية، ومعنا في هذه الليلة هاتان الآيتان الكريمتان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:33-34].قبل الشروع في دراسة الآيتين المباركتين نفي بما وعدنا، وهو أن نتكلم بإجمال على الإسراف وأهله، وذلك لأنا تلونا هذه الآية وهي قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32].الإسراف: مصدر أسرف يسرف إسرافاً: إذا تجاوز الحد المحدود وتعداه إلى غيره، والله تعالى يقول -وقوله الحق- من سورة الأعراف: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، مولانا سيدنا ربنا لا يحب المسرفين، فمن أسرف في أكله أو شربه أو لباسه أو شئونه في الحياة الدنيا تعرض لبغض الله له، أعوذ بالله.دلوني على عاقل يرضى أن يكرهه الله؟! كيف يسعد، والله يصرح بقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، إذاً: فهيا نقتصد في أكلنا وشربنا ولباسنا ومراكبنا ومساكننا أولاً.ومعنى الاقتصاد: الأخذ بالوسط لا تقتير ولا إسراف، القصد القصد.
    أهمية الاقتصاد في كل أمور الحياة
    وقد قدمت لكم أن علينا أن نقتصد حتى في النوم، لا تنم يا عبد الله من صلاة العشاء إلى طلوع الشمس، قم آخر الليل ولو بساعة قبل الفجر ولو مع الفجر، أما أن تنام ليلك كاملاً فما يجوز، اقتصد في نومك.وكذلك السهر والعياذ بالله من سهراتنا، والحمد لله فلا سهر عندنا، الذين يسهرون من الساعة التاسعة بعد صلاة العشاء يتعشون ويجلسون إلى الثانية عشرة أو الواحدة في اللهو وفي الباطل، لا هم مكبون على دراسة العلم والحكمة ولا هم رافعو أكفهم إلى الله يبكون بين يديه، ولكن يسمعون الأغاني ويشاهدون اللهو والأضاحيك ويشربون الشيشة والدخان ويهزءون ويسخرون أهذا عدل؟ أيجوز هذا الإسراف؟ إن الدقيقة الواحدة لن تستطيع أن تشتريها بملء الأرض ذهباً، فالزمن واهبه الله ومالكه، فكيف يجوز أن تبدده؟ كيف تنفقه ضد الله عز وجل واهبه لك؟ الاقتصاد في الكلام في المجلس، لا تتكلم وتضحك دائماً، ما يجوز، أنتم جماعة راكبون السيارة فلا يكن الوقت كله كلاماً، والله لا يجوز، تكلم بالكلمة تراها نافعة مجدية تحقق حسنة أو تحقق قرشاً كما قدمنا وعلمتم، فالإعراض عن كل ما لا يحقق لك حسنة لمعادك يوم القيامة أو درهماً لمعاشك اليوم، وما عدا ذلك لغو يجب الإعراض عنه.وبلغني أن طلبة -إن صدق القائل- يأتون إلى معرض الكتاب في الجامعة ويتصفحون الكتاب للشراء، إذا وجدوا حديثاً لا يعجبهم يمسحونه بالحبر بدون إذن صاحبه، إذا وجدوه كذا يقطعونه ويمزقونه، هذا إسراف، ما سبب هذا؟ دلونا يرحمكم الله؟ سببه أننا ما ربينا في حجور الصالحين، ما عشنا بين أبوين أو بين مشايخ أو أحباء نتلقى الحكمة والمعرفة والآداب والأخلاق الفاضلة من نشوئنا وبداية حياتنا، تركونا وأهملونا حتى بلغنا سن الرشد الخامسة عشرة والسادسة عشرة وأردنا أن ندخل إلى الإسلام وأن نتحمل وأن نكون من أولياء الله، قل من يسلم، لا بد من التربية، لا بد من ملازمة أهل البصيرة والنهى والأخذ عنهم والتلقي عنهم، وعدم التسرع في الرد والانتقاد لهم والطعن.إذاً: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، وأسرف اليهود في البغض للإسلام والأنبياء والقتل والدمار حتى بلغوا مستوى لا حد له، فكذلك الإسراف في المعاصي، في الزنا، زنى في عشرين سنة مرة فيعفى عنه ويغفر له إن تاب، شرب الخمر مرة في حياته أو مرتين فيتوب منها، أما أن يوالي الجريمة ويسرف فيها فلن يتوب منها، لن ينجو أبداً.فلا بد من القصد، والإسراف في كل شيء حرام، ما هو الغلو في الدين: يبيت طول الليل راكعاً ساجداً وامرأته تتململ على فراشها وأبناؤه يبكون، من كلفك بهذا! قم آخر الليل، صل أول الليل، أو هو طول الدهر صائم وأمه تبكي! ما هذا الصيام؟ لا يجوز فقد أسرفت، فالقصد القصد.
    تفسير قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا ...)

    معنى قوله تعالى: (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم)
    إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]، خزي في الدنيا، فهؤلاء إن كانوا مؤمنين غير كافرين وأقيم عليهم الحد وقطعت أيديهم ففي الآخرة يغفر لهم؛ لأن الحدود كفارة لأصحابها، أما إذا كانوا مع الجريمة كافرين فلهم عذاب عظيم يوم القيامة في الآخرة: وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].لاحظ: ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا [المائدة:33]، من هؤلاء الذين لهم خزي فقط في الدنيا؟ إنهم مؤمنون ومع هذا أجرموا وقتلوا، وأقيم الحد عليهم، فيطهرهم الحد، وإن كانوا غير مؤمنين: وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]، مع خزي الدنيا وذلها وعارها.
    تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ...)
    ثم قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة:34]، جماعة حاربونا وعجزنا عنهم، وبعد ذلك تابوا وتركونا، وبعد عامين أو ثلاثة قالوا: نحن الفلانيون وتبنا، فماذا نفعل معهم؟قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة:34]، نحن طلبناهم فما استطعنا، قهرونا، بعد سنة تابوا وقالوا: نحن الفلانيون، فننظر: إذا أخذوا المال ردوه أو تقطع أيديهم، إذا فجروا بالنساء يقام عليهم الحد، إذا قتلوا يقام عليهم الحد، إلا أن يعفو صاحب المال أو صاحب النفس فله ذلك، والله غفور رحيم.فهؤلاء المجموعة عجزنا عن التسلط عليهم وفشلنا، سنة أو سنتين وهم يحاربوننا، بعد فترة انقطع ظلمهم ما وجدناهم، وبعد عامين عرفناهم فقالوا: تبنا إلى الله عز وجل، فكيف العمل معهم؟ إن قتلوا ننظر هل أهل المقتول سيعفون عنهم أو لا؟ إن قالوا: عفونا عنهم عفا الله عنهم، وأهل المال إذا قالوا: تنازلنا، فهؤلاء كانوا في جهالة وكذا والآن عفونا فكذلك عفا الله عنهم، وإن قال أصحاب النفس نريد أن يقتص منهم فإنه يقام عليهم الحد، والحدود كفارة لأصحابها، ومن تاب تاب الله عليه، هذه قاعدة، التوبة تجب ما قبلها على شرط أن تكون توبة صادقة ناصحة، ما فيها تردد.
    معنى قوله تعالى: (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم)
    إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]، خزي في الدنيا، فهؤلاء إن كانوا مؤمنين غير كافرين وأقيم عليهم الحد وقطعت أيديهم ففي الآخرة يغفر لهم؛ لأن الحدود كفارة لأصحابها، أما إذا كانوا مع الجريمة كافرين فلهم عذاب عظيم يوم القيامة في الآخرة: وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].لاحظ: ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا [المائدة:33]، من هؤلاء الذين لهم خزي فقط في الدنيا؟ إنهم مؤمنون ومع هذا أجرموا وقتلوا، وأقيم الحد عليهم، فيطهرهم الحد، وإن كانوا غير مؤمنين: وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]، مع خزي الدنيا وذلها وعارها.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    والآن نسمعكم هداية الآيتين؛ لتذكروا ما قلت لكم.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيتين: من هداية الآيتين: أولاً: بيان حكم الحرابة ] ما الحرابة؟ قال: [ وحقيقتها: خروج جماعة اثنان فأكثر ويكون بأيديهم سلاح ولهم شوكة، خروجهم إلى الصحراء بعيداً عن المدن والقرى، يشنون هجمات على المسلمين فيقتلون ويسلبون ويعتدون على الأعراض، هذه هي الحرابة وأهلها يقال لهم: المحاربون، وحكمهم ما ذكر تعالى في الآية ].وهنا محنة الآن تحت شعار الجهاد في بلاد المسلمين، يهجمون على المواطنين ويسلبونهم ويأخذون نساءهم، فهل هؤلاء محاربون أو مجاهدون؟ إن المجاهد يقاتل المقاتل، أما المؤمن الذي في يده مسحاته أو قلمه كيف يقاتل؛ ألأنه مع الحكومة؟ إذا كنت تقاتل فقاتل الجيش، أما أنك تقتل أفراد الشعب وتسلب أموالهم وتعتدي على نسائهم فوالله ما هو هذا بالجهاد، وإنما هي الحرابة، وافهموا هذه.[ ثانياً: الإمام مخير في إنزال العقوبة التي يرى أنها مناسبة لاستتباب الأمن إن قلنا (أو) في الآية للتخيير، وإلا فمن قتل وأخذ المال وأخاف الناس قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ مالاً قتل، ومن قتل وأخذ مالاً قطعت يده ورجله من خلاف، فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ومن لم يقتل ولم يأخذ مالاً يُنفى ] ويبعد من البلاد وكفى.[ ثالثاً: من تاب من المحاربين قبل التمكن منه يعفى عنه، إلا أن يكون بيده مال سلبه فإنه يرده على ذوي أصحابه، أو يطلب بنفسه إقامة الحد عليه فيجاب لذلك ]، إما أن يرد المال، أو يقول للحاكم: أقم الحد علي وطهرني ولا بأس.[ رابعاً: عظم عفو الله ورحمته بعباده لمغفرته لمن تاب ورحمته له ]، هذا معنى قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة:33]، ما جزاؤهم؟ أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة:34]، أما إذا ألقينا القبض عليهم وفي أيديهم السلاح فأمرهم كما قدمنا، لكن تابوا قبل القدرة عليهم: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:34]، يغفر لهم ويرحمهم.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #323
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (10)
    الحلقة (322)

    تفسير سورة المائدة (18)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا الخير، إنك ولينا وولي المؤمنين.

    ما زلنا مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث:
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:35-37].

    نداء الله تعالى عباده المؤمنين


    حقيقة الفلاح


    مقاصد وأغراض نداء المؤمنين


    إذاً: عند قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) نقول: لبيك اللهم لبيك، والخير بيديك، لو أن مؤمناً ما شعر حتى قال: لبيك اللهم لبيك، فهل يحمد على هذا أم لا؟ يحمد على هذا، سمع نداء ربه موجهاً إليه فقال: لبيك ربي، مر أفعل، انه أترك، حبب إليَّ أحب، بغض إليَّ أبغض، إني عبدك ولا هم لي إلا طاعتك.
    وقد علم أهل هذه الحلقة المباركة -وزادهم الله علماً- أن الله تعالى حاشاه أن ينادينا للهو واللعب أو للباطل، لا ينادينا إلا لواحدة من أربع: ينادينا ليأمرنا بوصفنا عبيده خلقنا لطاعته، يأمرنا بأمرٍ من أجل إسعادنا وإكمالنا، وأما هو فلا يستفيد منه شيئاً، وليس في حاجة إلى شيء اسمه فائدة، إذ هو خالق كل شيء، يأمرنا بفعل أو قول أو اعتقاد ما من شأنه يزكي أنفسنا ويطهر قلوبنا ويعدنا لسعادة الدنيا والآخرة، أو ينادينا لينهانا: لا تفعلوا، لينهانا عما من شأنه أن يعوقنا عن السعادة والكمال، والله! ما نهانا الله عن شيء إلا لأنه يعوقنا عن الفوز والنجاح والسداد، فلهذا إذا نهاك مولاك فاستجب، كأنما قال لك والسم بين يديك وتريد أن تبتلعه: عبد الله! لا تأكل السم. فكل ما نهى الله عنه من اعتقاد فاسد أو قولٍ سيء أو عمل غير صالح؛ والله لضرره أكثر من ضرر السم؛ لأنه سيدنا ومولانا، ما ينهانا إلا عما فيه ضررنا وهلاكنا وشقاؤنا.
    إذاً: ينادينا ليرغبنا، ليبشرنا؛ لأننا أولياؤه؛ لنزداد في الصالحات والتنافس فيها، وهو في صالحنا، أو ينادينا ليخوفنا، ليحذرنا مما من شأنه أن يضر بنا ويفسد علينا قلوبنا وحياتنا.
    وينادينا ليعلمنا ما نحن بحاجة إلى العلم به والمعرفة؛ لما فيه كمالنا وسعادتنا، أما أن ينادينا لا لشيء فتنزه الله عن ذلك، وتعالى عن اللهو واللعب، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الدخان:38-39].


    ذم الإعراض عن نداء الله تعالى


    معشر المستمعين! هل يليق بعبدٍ يرغب في أن يخترق السبع السماوات وينزل في دار السلام أن يسمع هذا الكلام ولا يبالي به، ولا يحفظه ولا يهتم به؟
    أنا أقول: لولا الغفلة لقلت: إن الذي يسمع هذا الكلام ولا يريد أن يفهمه ولا أن يعمل به والله ما له رغبة صادقة في النزول بالملكوت الأعلى، أو ما عرف الملكوت الأعلى ولا آمن به.
    لقد نادانا ربنا في كتابه القرآن الكريم بتسعة وثمانين نداء: (يا أيها الذين آمنوا)، إما أن يأمرنا أو ينهانا أو يبشرنا أو ينذرنا أو يعلمنا.
    وواجبنا أن نعلم تلك النداءات كلها، وأن نعرف كل نداء منها، وأن نعمل بما أمرنا بالعمل به، وأن ننتهي عما نهانا عن فعله، وأن نستبشر بما بشرنا، وأن نحذر ونخاف مما حذرنا، ونتعلم ما أراد أن يعلمنا، وهذا طريق السلام، وهذا سبيل السعادة في الدنيا والآخرة.
    هل عرف المسلمون هذا؟ ما سمعوا به قروناً عديدة، ما سبب ذلك؟ فروا من بيوت الله وهجروها، أعرضوا عن كتاب الله، وضعوه على الرفوف فقط، أو حفظوه في الصدور ليقرءوه على موتاهم، من أجل أن يأكلوا طعاماً أو يتقاضوا أجوراً، وأكثر من ثمانمائة سنة وهم هكذا.

    أمر المؤمنين بالتقوى


    وهنا نادانا جل جلاله فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ )[البقرة:278]، نادانا ليأمرنا أولاً بتقواه: اتقوا الله، لو كان هناك سبع مفترس حول بيتك، أو في الحي الذي أنت فيه وناداك منادٍ فقال: يا فلان! احذر فالسبع موجود أمامك، فهل ستضحك ولا تبالي، ماذا تصنع؟ هل تفزع أم لا؟ لو ناداك منادٍ: يا عبد الله! انتبه، فبعد أربع وعشرين ساعة لن تبقى قطرة من الماء، فاحتفظ بما عندك من الماء أو تموت عطشاً وظمأً، فماذا ستقول؟ ستخاف على نفسك العطش والموت.

    إذاً: فكيف يقول الجبار جل جلاله وعظم سلطانه: يا عبادي المؤمنين! اتقوني ثم لا نبالي؟ أعوذ بالله، أعوذ بالله أن نقف هذا الموقف.
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ )[البقرة:278]الذي بيده كل شيء، وإليه مصير كل شيء، يملك الحياة والموت، والإعزاز والإذلال، والفقر والغنى، والصحة والمرض، وبيده كل شيء، يأمرنا أن نتقيه، فكيف نتقيه؟

    بلغنا أن عالماً في جبال التبت يعرف معنى تقوى الله فهيا نمشي إليه، من منكم يسافر إلى جبال التبت ليعلمنا معنى قوله: اتقوا الله؟
    والله لو كنا مؤمنين صادقي الإيمان، وقد سمعنا عنه هذا وأمرنا، ولكن لا نعرف كيف نتقيه، وقيل لنا: إن فلاناً يعلم ذلك؛ والله لرحلنا إليه، أو هل نقول: ما نعرف، ونقوم نرقص ونأكل؟ إذاً: فنحن بهائم، كفار ومشركون، لا وزن لنا ولا قيمة.
    ولم يأمرنا بتقواه؟ علمنا قبل أنه هو الذي يحيي ويميت، يعز من يشاء ويذل من يشاء، يعطي ويحرم من يشاء، بيده كل شيء وإليه المصير، الجبار، العزيز، إذاً: كيف لا يتقى وقد طلب إلينا أن نتقيه؟

    وسيلة تقوى الله تعالى


    كيف نتقي الله؟ بماذا؟ ما هي الآلات والأدوات التي نتقي الله بها وهو فوقنا ونحن بين يديه لا يخفى عليه من أمرنا شيء، ظاهرنا كباطننا، وهو معنا يرانا ويقضي علينا، فكيف نتقيه؟ هل بلباس قوي، بكهوف في الأرض، بجبال فوق الأرض نصعد فوقها، بم تقي؟ كيف نتقي الله؟
    من منكم -معاشر المستمعين- يقوم ويقول: بم نتقي الله يا شيخ؟ لنا رغبة في أن نتقيه، فعلمنا بم نتقي الله؟ أمرنا الله تعالى بتقواه فما أدوات الاتقاء حتى ننجو من غضبه وسخطه وعذابه؟
    الجواب: معشر الأبناء والإخوان! الله يتقى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا لباس ولا حصون ولا سلاح، يتقى غضبه تعالى وسخطه وعذابه بطاعته، أطعه وأطع رسوله فيما يأمرانك به وينهيانك عنه، لقد اتقيت غضب الله حينئذ، وجعلت بينك وبينه وقاية أعظم من السماوات والأرضين، فإن لم تطعه فلا وقاية، ولو كان لك كل العسكر في العالم فوالله ما نفعوك في شيء.
    الآن -والحمد لله- عرفنا بم نتقي الله، نتقيه بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأوامر الواجبة التي ألزم بها، وفي النواهي الدالة على التحريم والممنوعة عندنا، بهذا نتقي الله.

    فائدة التقوى والطاعة


    وسؤال آخر: هل فعل الأوامر التي أمر الله بها ورسوله، وترك المنهيات التي نهى الله عنها هل في ذلك فائدة الله، أم فائدتنا؟ لا شك أن فيه فائدتنا.
    والله! لا نسعد ولا نكمل ولا نتحاب ولا نتوالى ولا نتصافى في الدنيا قبل الآخرة إلا على هذا الأمر وهذا النهي، لسعادتنا في الدنيا وكمالنا قبل الآخرة، فلا يأمرنا بفعل شيء إلا ليحقق سعادتنا وكمالنا، ولا ينهانا عن ترك شيء إلا من أجل أن يبعدنا عن شقائنا وخسراننا؛ لأنه العليم الحكيم.
    من يبين لنا سر الأمر والنهي، ما فائدة طاعة الله ورسوله؟ الجواب: أن نتقي غضب الله وعذابه وسخطه، أليس كذلك؟
    فيجب على كل مؤمن ومؤمنة من عقلاء المؤمنين والمؤمنات أن يتعلموا أوامر الله ونواهيه، وأوامر رسول الله ونواهيه، ولا محالة، على كل من دخل في رحمة الله في الإسلام أن يعلم أوامر الله كيف هي وما هي، ونواهيه أيضاً ما هي وكيف هي، وأوامر الرسول ونواهيه تابعة لأوامر الله ورسوله.
    فهل هذا الأمر واضح؟ هل يجوز لمؤمن أو مؤمنة أن يعيش بعد البلوغ السنة والسنتين والعشر السنين أو الأربعين وهو لا يعرف ما أمر الله به ولا ما نهى الله عنه؟ فإذا كان ما عرف الأمر والنهي فهو كافر، أو فاسق أو فاجر من أهل الشقاء والخسران.


    المساجد باب لتحصيل التقوى


    يا ساسة! كيف الحل؟ هنا مشكلة تواجه العالم الإسلامي، دعنا من الذل والهون والفقر والضعف والفتن، اسكت عن هذا، فقط قل لي: كيف نطيع الله ورسوله لنكمل ونسعد؟
    الجواب: يجب أن نتعلم ونعرف أوامر الله التي هي في العقيدة وفي القول وفي العمل، وأوامر رسوله كذلك في العقيدة والقول والعمل، ونواهي الله المتعلقة بالعقيدة الفاسدة والقول السيئ والعمل غير الصالح، فكيف نحصل على هذا؟
    لقد بحثنا عن الطريق ونقبنا وفتشنا، حللنا وسرنا، وقعدنا وقمنا أكثر من أربعين سنة، فما الطريق؟
    الطريق واحد: أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله في صدق: أسلمت لك يا ربِّ وجهي، ونجتمع في بيوت ربنا المساجد، سواء كنا في المدن أو كنا في القرى، كنا عرباً أو عجماً؛ لأننا دخلنا في الإسلام، كل ليلة لا يتخلف رجل ولا امرأة عن بيت الله في الحي أو في القرية، إلا المريض أو الممرض، والحيض من النساء يجعل لهن ستار وراء الجدار، ومكبر الصوت يبلغهن ويبلغ الصوت إليهن، كل ليلة نتعلم الأوامر والنواهي الإلهية والنبوية، وكيف نفعل وكيف نترك، وذلكم هو العلم، وبعد عام أو عامين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة -والله- ما يبقى جاهلٌ ولا جاهلة أبداً، ولسنا في حاجة إلى قرطاس ولا قلم ولا دواة، ولا مدرسة أبداً، طول النهار والمحراث في يدي وأنا أحرث الأرض، أو الحديد وأنا أصنع، وفي الليل نجتمع على كتاب الله وسنة رسوله طول العام، فلن يبقى بيننا جاهل ولا جاهلة، لا جاهل بالله وأسمائه وصفاته، ولا جاهل بما عند الله لأوليائه، وما لدى الله لأعدائه، ولا جاهل بأوامر الله ورسوله ولا نواهي الله ورسوله، ولا كيف يفعل المأمور ويتجنب المنهي، هذا هو الحل، وليس هناك حل آخر، والله لا وجود له.


    دلائل انعدام التقوى في غير التربية المسجدية


    ومن باب الاستدلال القريب نقول: إن الأبناء والإخوان الذين لازموا الحلقة سنين يعرفون الحلال والحرام، والواجب والمكروه، ما قرءوا ولا كتبوا، لكن سمعوا كلام الله وكلام رسوله، وحفظوه وفهموا مراد الله منه.
    وبرهان آخر ودليل آخر: لو أراد المسئولون أن يطهروا البلاد بنظام خاص حتى لا يبقى لصٌ ولا مجرم، ولا زانٍ ولا كذاب، ولا سارق، ولا ساحر، ووضعوا أنظمة حديدية بالنار، فجعلوا في كل شارع خمسين عسكرياً، وقالوا:: سنعطي لكل من يستقيم على منهجنا راتباً كل شهر؛ فوالله! ما يتحقق أمنٌ ولا طهرٌ ولا صلاة، ولكن يتحقق بالعلم والمعرفة بالله عز وجل، أما جربنا الاشتراكية في عالمنا العربي والإسلامي أكثر من خمس وعشرين سنة؟ فما هي نتائجها؟ أعوذ بالله، أعوذ بالله! هل حققت الغنى؟ هل حققت العدل والقسط بين الناس؟ هل حققت الطهر والصفاء؟
    الجواب: والله! لقد حصل العكس: الفقر والخبث، والظلم والشر والفساد، مع أننا تبجحنا وقلنا: اشتراكيتنا نوالي من يواليها، ونعادي من يعاديها! وصفقت الدنيا، فأين آثارها؟ أين هي؟
    والتصوف، الطرقية، الزوايا، المشايخ في كل مكان، هل حققت تلك الطرق الصوفية شيئاً؟ هل رفعت ظلمة الجهل أم زادتها ظلمة أخرى؟
    والدليل والبرهنة الصادقة قول ربنا جل ذكره: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )[فاطر:28]، والله! إن مشايخ طرق يفجرون بنساء إخوانهم، ويقدمها الرجل الفحل من أجل أن تنجب من شيخه ولداً! إلى هذا المستوى هبطت هذه الأمة!

    لقد استقللنا وأخرجنا فرنسا من بلادنا وإيطاليا وأسبانيا وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا، فماذا حصل؟ هل سار الطهر فما أصبحت تسمع بجريمة؟ ما أصبحت تسخر من آخر ويسخر منك؟ ما بقي حسد في النفوس؟ ما الذي بقي؟ ما الذي حصل؟ قولوا: لا إله إلا الله.
    (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )[فاطر:28] العارفون به تعالى وبأوامره ونواهيه، وما عنده لأوليائه، وما لديه لأعدائه، أولئك الذين يخافون الله؛ لمعرفة سلطانه وقدرته وغضبه ورضاه، أما الجاهل فأنى له أن يستقيم؟!


    خطوات عملية لتحصيل التقوى


    لقد بلغنا أن الله عز وجل نادانا وأمرنا بتقواه في ذلك النداء، فهيا يا أبناء الإسلام نتقي الله، فكيف نصنع؟
    أولاً: نعزم ونصمم على أن نتقي الله، هذه الخطوة الأولى، فإذا امتلأ القلب بهذا الخوف فحينئذٍ سوف نسأل: نتقي الله بأي شيء؟ ما هي الأوامر التي نعبد الله ونطيعه بها، وما هي النواهي؟ في صدق وفي علم، ونتعلم كيف نطيعه ونتعلم كيف نتجنب معاصيه في صدقٍ وجدٍ، فما يمضي علينا أربعون يوماً إلا وقد عرفنا الكثير من الأوامر والنواهي، واستجبنا لله وأصبحنا تضيء أنوارنا وتلوح في الأفق، كلام طيب، نظرة سليمة، معاملة صادقة، وينتهي الحسد والغل والغش والبغض والكبر، والأمراض كلها تنجلي.
    معاشر الأبناء! لا أكثر عليكم، إننا مأمورون بأن نتقي الله، ولا بد من معرفة ما يحب الله وما يكره، فلنسأل أهل العلم، ما نكتفي بالكتاب، نسأل ونعلم، نجالس العلماء ونزاحمهم، ونطبق كل ما سمعنا وعلمنا حتى نرتقي يوماً فيوماً ونصبح في أيام عالمين بالله، متقين له، وذلك هو الفوز العظيم.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #324
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (11)
    الحلقة (323)

    تفسير سورة المائدة (19)


    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    معاشر المستمعين والمستمعات! مازلنا مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ )[المائدة:35-37].

    حياة المؤمنين وشرفهم بنداء الله تعالى لهم

    العلم بالتكاليف والقيام بها وسيلة تحقيق التقوى

    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:35] عرفنا بم نتقي الله، إننا نتقيه بطاعته وطاعة رسوله، أي: بفعل ما أمرنا الله بفعله، واجتناب ما أمرنا باجتنابه، بهذا يتقى الله، أي: يتقى عذابه وسخطه وغضبه على عصاته، بم تتقي الله يا عبد الله؟ هل بسور عالٍ وبحصن حصين وبجيش عرمرم؟ بم تتقي الله وأنت بين يديه؟ الجواب: لا ينتقي الله إلا بطاعته، من أطاعه اتقى غضبه وسخطه، ومن عصاه وتمرد عنه وخرج عن طاعته ما اتقى الله أبداً، وتعرض للغضب الإلهي والسخط الرباني والعذاب والعياذ بالله.

    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:35]، وطاعة الله وطاعة الرسول توجب أن تعرف أوامر الله ونواهيه، وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونواهيه، وإلا فلن تستطيع أن تتقي الله، فهل تريد أن تتقي عذاب الله وسخطه؟ إن ذلك بطاعته وطاعة رسوله. في أي شيء؟ في الأمر والنهي. ما هي أوامره وما هي نواهيه؟ اطلب هذا من أهل العلم أو من كتاب الرب وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، أما أن تشتغل بتجارتك وأعمالك ودنياك، وتقول: ما عرفت أوامر الله ونواهيه؛ فهذا ما ينبغي! والكلمة الخالدة كلمة الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، والمسلمة تابعة، وإنما لم تذكر تنزيهاً لها، واعترافاً بحرمتها أو احتراماً للفحول أن يذكر نساؤهم بينهم.

    إذاً: الحبيب يقول: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، والمسلمة يا رسول الله؟ الجواب: هي كذلك. فلم ما قلت: والمسلمة؟ الجواب: احتراماً لكم وتقديراً لمواقفكم لا نذكر نساءكم، فما الفرق بينكم وبينهن؟ الكل يريد دار السلام والنجاة من الخزي والعذاب.
    إذاً: هل يستطيع رجل أو امرأة أن يطيع الله ورسوله وهو لم يعرف أوامر الله وأوامر رسوله، ونواهي الله ونواهي رسوله؟ مستحيل. إذاً: وجدنا أنفسنا أمام الأمر الواقع، يجب أن نطلب العلم، كل يوم تعلم أمراً، اليوم عرفت من أوامر الله إقام الصلاة، فإياك أن تعصي الله، إياك أن تفرط فيها أو تؤديها على غير الوجه المطلوب أداؤها عليه، غداً عرفت وجوب الزكاة، بعده عرفت وجوب الحج، ثم عرفت بر الوالدين، ثم عرفت طاعة أولي الأمر، ثم عرفت الآداب.. وهكذا، ما هو بشرط أن يكون في يوم واحد، الليلة عرفت أن الغيبة حرام، قال تعالى: ( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا )[الحجرات:12]، بعد شهر عرفت أن النميمة حرام، بعد غدٍ عرفت أن الكذب حرام، وهكذا.

    إذاً: يجب على كل مسلم ومسلمة أن يعرف أوامر الله وأوامر رسوله ونواهيهما؛ ليفعل المأمور على الوجه الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولينتهي عن المحرم نهياً كاملاً وانتهاء تاماً.

    معنى قوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة)

    وسائل مشروعة في طلب مرضاة الله


    فباسم الله نستعرض الوسائل المشروعة:
    اغتسل أحدكم قبل صلاة الفجر وصلى الصبح في طريقه إلى مكة ليعتمر، فهذه العمرة وسيلة تقربه من الله؛ لأن الله أحب ذلك ودعا إليه وأمر به فقال: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )[البقرة:196].

    أحدكم في منزله توضأ وأتى إلى المسجد ليسمع العلم ويحضر حلق الدرس تملقاً إلى الله وتزلفاً، أو من أجل أن يعرف ما يحب الله وما يكره، فهل هذا المجيء وسيلة أم غير وسيلة؟ إنه وسيلة.
    شخص من الصالحين يمشي في شوارع المدينة، وكلما رأى شوكاً أو حجرة تؤذي المؤمنين أو عقرباً أزالها، لم يا عبد الله؟ قال: أتملق ربي في تنظيف الطريق لعباده، يتوسل إليه.
    طبيب يضع كرسيه أمام المسجد بعد الصلاة: من أراد أن يشكو مرضه إلي فليتفضل، يضع يديه على قلبه على جسده، ثم يدفع إليه المريض مالاً فيقول: لا، نحن نتملق إلى الله فقط، يتوسل بعلاج أولياء الله ومداواتهم.
    بل هنا طباخ يقول: لأحسنن طبخ هذا الأزر اليوم ليأكله الصالحون ويتلذذوا به، وأنا أتقرب بذلك إلى ربي، فهذا توسل.
    إذاً: كل قول أو عمل أو نية صالحة تريد بها وجه الله أنت متملق إلى الله متزلف من أجل أن يقربك وتحظى بالقرب منه تعالى.


    وسائل محرمة في طلب مرضاة الله

    والوسيلة الممنوعة التي عرفها المؤمنون في عصور الجهل من مظاهرها: أنه يركب من المدينة على بعيره إلى قبر سيدي عبد القادر الجيلاني في بغداد، آلله أمرك بهذا تتوسل به إليه؟ لا؛ لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى )، فكونك أنت تأخذ تذكرة بالطائرة من المغرب الأقصى أو من السودان أو من الشام لزيارة سيدي عبد القادر الجيلاني هذه وسيلة والله ما تصل بك إلى رضا الله، ما هي بوسيلة هذه، ما شرعها الله.
    إن الوسيلة أنك -مثلاً- بعدما استراح الناس وصلوا العشاء وطعموا وأرادوا أن يناموا ذهبت إلى البقيع ووقفت على جداره وسلمت على أهله: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم السابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون، وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اغفر لأهل البقيع وارحمهم، اللهم اغفر لأهل البقيع وارحمهم، ودمعت عيناك دموعاً ورجعت، فلم فعل هذا؟ فعله يتملق إلى الله يتزلف إليه؛ لأنه يسلم على أوليائه الموتى ويدعو لهم ويترحم عليهم، هل فعل هذا لأجل دينار أو درهم؟ فهذه وسيلة.
    أما أن تأتي إلى قبر إدريس أو قبر البدوي أو العدناني -وما أكثرهم- وتحبو حبواً للوصول إليه، ما يستطيع أن يمشي، فلو مشى لقالوا: ما فيك تقدير للسيد، فيحبو وينزل على القبر يتمرغ ويتمسح، ويقول ويدعو: يا سيدي، يا كذا أنا كذا أنا كذا، ويكفر حتى ما يبقى له علاقة بالله، ويقول: توسلت! أهذا التوسل الصالحين؟! هل الميت يدعى، وإذا دعي فهل يجيب؟ الجواب: لا؟ ما قال تحت السماء إنسان: إن الميت إذا دعي سمعك وأجابك وقال: سأعطيك، فكيف إذاً تأتيه من قريتك من بلادك البعيدة، وتتململ حول قبره، وتدعو وتستغيث وتقول: أتوسل إلى الله عز وجل؟ أنت الآن تبتعد من الله وما تتوسل، أنت تتوسل للبعد من الله وعدم القرب منه، وعلة هذا الجهل، ما عرفوا، ما علمناهم، ما علموا، هذا هو السبب، لا سبب غيره، لو عرف أنه بهذه عصى الله ورسوله، وخرج عن طاعة الله ورسوله، وأنه في عداد المشركين والله ما يفعل هذا أبداً، إلا إذا كان قلبه ميتاً لا يؤمن بالله ولا بلقائه، مسلم صوري أراد أن يأكل أو يشرب بهذه العملية فهذا ممكن، أما من آمن بالله وعرف الله ثم يفعل هذا الشرك والباطل ليتقرب به إلى الله فلا!
    وكذلك الذين يذبحون للأولياء ويجعلون لهم الأغنام والأشجار: هذه شاة سيدي عبد القادر ! اشترى مجموعة من الشياه في هذه الأيام؛ لأن الأمطار غزيرة والنباتات ظهرت، يريد أن يكتسب، فاشترى عشرين شاة وقال: هذه شاة سيدي فلان، ما تلده له وهي له، جعل شاة للولي توسلاً حتى يحفظ الله عز وجل باقي الغنم وتنجب وتلد، هذه رغبته، آلله أمر بهذه الوسيلة وأذن فيها؟ الجواب: لا، إذاً: هذه وسيلة باطلة، هذه تبعدك عن القرب من الله، ولا تعطيك أبداً درجة عند الله بحال؛ لأنك ابتدعت بدعة وأتيت بعمل الشرك.
    وآخر أراد أن يغرس في وقت الغرس في الخريف خمسين نخلة من العجوة، قال: هذه نخلة سيدي رسول الله، وهذا أحسن من سيدي عبد القادر ، ومع هذا فوالله ما يجوز ذلك، وتبقى النخلة كلما تثمر لا يأكله هو ولا أهله، هذه لسيدي فلان! لم فعلت هذا؟ يقول: من أجل أن يبارك الله في النخل وينتج ويكون صالحاً، فهذا يسميه العلماء توسلاً، لكنه باطل ما ينفع وما يجدي أبداً.
    قال تعالى عنهم: ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )[الأنعام:136]، المشركون كانوا يقولون: هذه الشاة للات وهذه الشاة لربنا عز وجل، هذه النخلة للعزى وهذه النخلة لربنا تعالى، ومع هذا ما قبل الله هذا وما رضي به، ثم سلكوا مسلكاً قبيحاً وهو التحيل؛ فالتي جعلوها لله إذا أنتجت -سواء كانت نعجة أو ناقة أو بقرة أو نخلة أو شجرة- وما أنتجت التي جعلوها لغير الله يأخذون التي لله فيعطونها للأخرى، والعكس لا، فإذا نتجت ناقة العزى وناقة الله ما نتجت لا ينقلون حقها، يتركونها لأوليائهم، فعابهم تعالى على هذا التصرف، ساء ما يحكمون من الحكم الباطل.

    وكذلك النذور، يقول: يا سيدي عبد القادر، يا سيدي فلان، يا رسول الله! إذا تيسر أمري وأنجبت امرأتي ولداً فعلت كذا وكذا، وهذه وسيلة باطلة لا تبتغى ولا تطلب لله.


    تعدد الوسائل المشروعة بتعدد الطاعات

    وعدنا من حيث بدأنا: فتوسل إلى الله بمحابه، بالذي يحبه، افعله من أجله تزلفاً إليه وتقرباً، توسل إلى الله بترك مكارهه، ما يكرهه ونفسك تشتهيه أو أبوك يشتهيه اتركه لله تملقاً إلى الله وتزلفاً، ولن يكون التوسل بغير هذا.
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ )[المائدة:35]، هل عرف المؤمنون والمؤمنات كيف يتوسلون إلى الله، كم هي الوسائل؟ بلا عد، كل طاعة لله ورسوله وسيلة، تتوسل بها إلى الله، تذكر الله: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، عشراً، مائة، مائتين، مائة ساعة وأنت تحظى بالقرب من الله؛ لأن الله يحب هذه الكلمات، وهكذا.

    أما البدع والخرافات والضلالات والشركيات بالذبح والنذر والعكوف على القبور والرحلة إليها لمسافات بعيدة فهذا من باب الشرك والباطل، ولا يصح لمؤمن ولا مؤمنة أن يأتيه أبداً.

    معنى قوله تعالى: (وجاهدوا في سبيله)

    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:35]، ( وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ )[المائدة:35] والسبيل معروف: الطريق الموصل إلى رضا الله عز وجل، ما هو سبيل الله؟ هو أن يعبد الله وحده بما شرع لعباده من أجل أن يكملوا ويسعدوا في دنياهم وأخراهم، سبيل الله طريق الله الموصل إلى رضا الله عز وجل.

    إذاً: جاهدوا في سبيله لا تخرجوا عن محابه ومساخطه، جاهدوا الكافرين المشركين الظالمين، حتى يعبدوا الله وحده، وحتى يتخلوا عن الظلم ويبتعدوا عن الشر والفساد، هذا الجهاد لا بد له من إمام يقود المجاهدين، إذا قال: قفوا وقفوا، إذا قال: سيروا ساروا، وإذا قال: ارجعوا رجعوا، لا يصح فيه العمل الفردي أبداً بحال من الأحوال، لا بد من إمام يقود المؤمنين إلى الجهاد في سبيل الله، أي: من أجل أن يعبد الله وحده ولا يشرك به سواه، من أجل أن تطبق قوانينه وشرائعه بين الناس ليطهروا ويكملوا ويسعدوا في دنياهم وأخراهم.
    والآن إمامنا -أطال الله عمره وحفظه- لنا ما أعلن عن جهاد، فنحن الآن آمنون، ما علينا تبعة ولا مسئولية، لكن لو قال غداً: التعبئة العامة، العدو داهمكم فقد وجب، وحصل هذا في حرب الخليج واندفع الرجال، لكن إذا ما أمر إمام المسلمين فهذا يعود إليه لعدة أسباب:
    أولاً: ضعفه وعدم قدرته على غزو أو فتح بلاد أعظم منه وأكبر، فاضطر إلى معاهدتهم، معاهدة السلم وعدم الاعتداء ليدفع شرهم عنا، أما عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟
    ثانياً: لسنا بقادرين على أن نغزو ونفتح لضعفنا وعجزنا وقوة من نريد كذلك غزوهم ودخول ديارهم، هذه حالات وظروف ممكن أن تبقى سبعين سنة ما هناك جهاد، وقد يترتب الجهاد في كل سنة مرة، كلما يغزونا العدو يجب أن نغزوه.


    نقد الجهاد بنية تحرير الوطن

    (وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ )[المائدة:35]، هنا ألفت النظر: جاهدنا في سبيل الوطن لتحرير البلاد من إندونيسيا إلى موريتانيا، وما استطعنا أن نقيم دولة لله، ولا أن ننصب إماماً يؤمنا ويقودنا إلى رضا الله؛ لأن النية الدافعة الباعثة على الجهاد هي التحرير، تحرير الوطن من الاستعمار، وإني آسف لأن رجال السياسة غير موجودين عندنا، لكن نتكلم مع البهاليل ولا حرج، والله عز وجل يسمعنا، قاتلنا بريطانيا، قاتلنا فرنسا، هولندا، قاتلنا أسبانيا، إيطاليا، وما قاتلنا قتالاً في سبيل الله، فمن ثم لم ينتج لنا دولة إسلامية، ولا إماماً إسلامياً يقودنا، ما إن نخرج العدو حتى نكون الحكومة من ماذا؟ أمن أهل العلم والبصيرة والولاية لله؟ فسادتنا حكومات أشبه بالجاهلية، والله إن الحالة الدينية في بلادنا حين كان الاستعمار فيها أفضل منها الآن في الاستقلال، وأتكلم على علم وعلى بصيرة، أيام الاستعمار الفرنسي كان الخمر ممنوعاً ولا يباع، ما كانوا يلزمون مؤمنة أن تكشف عن وجهها أبداً، أو يسخرون منها، والآن أين نساء المؤمنين؟ في الشوارع غاديات رائحات، والخمر تصنع وتباع.. وقل ما شئت، وليس معنى هذا أني أرغب أن يعود الكفر إلى ديارنا، الذي يفهم هذا الفهم مسكين ضائع، نقول: لما جاهدنا ما جاهدنا على الأساس الذي وضع الله عز وجل في قوله: ( وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ )[المائدة:35]، ما قال: في تحرير البلاد، في إقامة الحكم الوطني، قال: ( فِي سَبِيلِهِ )[المائدة:35]، أي: من أجل أن يعبد وحده، وأن تطبق شرائعه، وتظهر أنوار دينه لتعم العالم وتغطيه.

    عظمة جهاد النفس

    الجهاد الثاني: جهاد النفس، وتذكرون حديث: ( رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر )، وإن ضعف الحديث فما يضرنا هذا، فجهاد النفس أصعب من جهاد العدو، جهاد العدو تحمل فيه سلاحك شهرين أو أربعة وترجع، ونفسك تجاهدها الليل والنهار طول العام حتى تموت وأنت في هذا الجهاد إن كنت من المجاهدين، أما إذا استسلمت لها فهي تقود إلى كل وبال ومفسدة، لكن من أراد أن يستقيم على منهج الله لا يتكلم بكلمة حتى يعلم أن الله أذن له فيها، لا ينظر نظرة حتى يعلم أن الله أذن له فيها، لا يأكل لقمة حتى يعلم أن الله أذن فيها، وهنا تواجه النفس، تدعوه إلى الطعام والشراب والنكاح والقول والعمل، فكيف يقهرها إذا لم يجاهدها الجهاد المرير.
    (وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ )[المائدة:35]، نجاهد من؟ تقدير المفعول: أنفسنا، ونجاهد الكفار من أجل أن يطهروا، أن يصفوا، أن يكملوا، أن يسعدوا بعبادة الله وحده وبالتخلي عن الشرك والكفر، أليس كذلك؟

    وبالمناسبة أقول وأستثني المملكة: لو أراد إقليم من أقاليم المسلمين أن يغزو بلاداً كافرة ليدخلهم في الإسلام، أليس يصبح جهادهم معرة؟ أنت ما أقمت الإسلام في ديارك، لا طهر ولا صفاء، لا مودة ولا إخاء، لا حب ولا ولاء، وتريد أن تدخل إيطاليا في هذا، أهذا عمل؟
    إذاً: أنت لا تقيم دعوة الله ولا دينه في بلادك، وتطالب أن تدخل البلاد الأخرى، ففيم تدخل؟ أتريد أن يصبحوا سكارى كإخوانك أنت وعشاقاً وضلالاً ومشركين وخرافيين في كل مكان، هذا الذي تدخلهم فيه؟ ما يجوز أن تطلق ولا رصاصة من أجل هذا، ومعنى هذا: أن من أراد من ديار العالم الإسلامي أن يجاهد فليبدأ بنفسه، يطهر أمته بأساليب الطهارة، يزكيها، يرفع قيمها، يوحدها حتى تصبح ككتلة من نور حيثما توجهت أنارت الأرض.
    (وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ )[المائدة:35]، لماذا يا رب؟ رجاء أن تفلحوا، لتستعدوا للفلاح: ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:35]، فمن يفلحنا؟ الله الذي جاهدنا من أجله، ينجينا من الخزي والذل والعار والفرقة والخلاف وعذاب النار يوم القيامة، ويدخلنا الجنة دار الأبرار بعد أن تصفو أنفسنا وأرواحنا ونتحاب ونتوالى ونتعاون في ديارنا هذه، هذا هو الفلاح: ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:35]، هذه (لعل) الإعدادية؛ لنعدكم بذلك ونهيئكم للفلاح.


    الخطوات الإعدادية لجهاد النفس

    معاشر المستمعين! هيا نجاهد، ادخلوا في هذه المعركة، ما دام أنه قد أمنكم الله وأراحكم فلا تحمل سيفاً ولا تشتريه أيضاً ولا يوجد في بيتك، فهيا نجاهد أنفسنا، أول خطوة: ألا نصلي صلاة إلا في جماعة المسلمين، جهاداً لهذه النفس الماكرة الخبيثة، فمن الليلة لا أصلي فريضة إلا في جماعة المؤمنين.
    الخطوة الثانية: ألا نتكلم بكلمة لم نعرف أنها فيها رضا الله، ونلتزم الصمت، وإذا بالبلاد تتغير، إذا لازمنا الصمت بقيد ألا نتكلم إلا إذا أذن الله لنا في تلك الكلمة وكانت من مرضاته فلا تسأل عما يسقط من الشر ويتهدم من الفساد والبلاء بحفظ اللسان فقط.
    نجاهد أنفسنا على ألا نقضي ساعة في لهو أو باطل أبداً، أيامنا كدقائقنا كساعاتنا لله، نجلس جلسة نذكر الله، نتعلم الهدى، نعبد الله، أما أن نجلس لنضحك ونتكلم بالباطل أمام التلفاز أو نلعب الورق فهل هذا جهاد للنفس؟ هذا انهزام للنفس، فلنجاهد أنفسنا لنتهيأ للفلاح الموعود بكتاب ربنا، نجاهد أنفسنا بحملها على طاعة الله وطاعة رسوله، فلا ترانا إلا نفعل المأمور ونتخلى ونبتعد عن المنهي غير المأمور، هذا هو الجهاد والفلاح مضمون: ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:35].

    والله تعالى أسأل أن يجعلنا من المفلحين المجاهدين طول حياتهم، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #325
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (12)
    الحلقة (324)

    تفسير سورة المائدة (2)


    أمر الله عز وجل المؤمنين باحترام شعائره سبحانه، فلا يصدون من أتى من المشركين قاصداً بيت الله الحرام سائقاً معه هديه وقلائده، ولا يتعاملون معهم كما فعلوا هم بالمؤمنين في عمرة الحديبية، حين صدوا النبي ومن معه من المؤمنين عن دخول بيت الله الحرام ونحر هديهم عنده، إلا أن الحكم بدخول المشركين إلى الحرم قد نسخ فيما بعد، فحرم الله دخولهم الحرم لأن عليهم نجاسة الشرك ورجسه.

    تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه اليوم والأيام الثلاثة بعده ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع فاتحة سورة المائدة، وقد تناولنا بالدراسة منها الآيتين الأوليين، وما استوفيناهما دراسة وفهماً وعملاً وتطبيقاً، فإليكم تلاوة الآيتين وتأملوا وتدبروا:
    بسم الله الرحمن الرحيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:1-2].

    ذكر خبر الفيلسوف الكندي في الدلالة على إعجاز نظم القرآن الكريم

    بين يدي شرح الآيتين: ذكر القرطبي في تفسيره القصة الآتية؛ لتعرفوا عظمة هذا القرآن وما احتوت عليه هاتان الآيتان من العجب والبيان.قال: إن أصحاب الكنديالكندي هذا من فلاسفة العرب- قالوا له: أيها الحكيم! اعمل لنا كتاباً مثل القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه. تلطف، ما ادعى الدعوى الكاملة، فاحتجب أياماً كثيرة في بيته، ثم خرج إلى الناس إلى أتباعه وتلامذته من المشركين فقال: والله ما أقدر ولا أطيق ولا يطيق هذا أحد، قال: إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، قال: فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحل تحليلاً عاماً ثم استثنى استثناءً بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد! ما هو في جلد واحد بل في عدد من الجلود، وهو تعالى جاء به في سطرين! هذا قول حكيم من حكماء العرب.

    سر نداء المؤمنين بلفظ الإيمان

    بسم الله نراجع إجمالاً قبل الشرح:

    أولاً: عرفنا أن الله عز وجل تفضل علينا -وله الحمد والمنة- إذ نادانا بعنوان الإيمان: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:1]، قلنا: لبيك اللهم لبيك.

    وقد لا يشعر بعضنا بفضيلة نداء الرب تبارك وتعالى، فالبشر لو يناديه ملك من الملوك أو سلطان من السلاطين يكاد يطير من الفرح، وذو الجلال والإكرام رب السموات والأرض رب العالمين ينادينا وما نفرح؟! من نحن وما نحن حتى ينادينا؟ لو اجتمعنا كلنا ما كنا ككوكب في السماء.
    ونادانا بعنوان الإيمان لسر عرفناه والحمد لله: وهو أن المؤمن حي يسمع النداء، والكافر ميت، المؤمن الصادق في إيمانه والله إنه لحي يعي ويفهم ويسمع ويبصر وينطق ويأتي ما يدعى إليه ويفعل، وينتهي عما نهي عنه ويترك، وذلك لكمال حياته، أما الكافر فهل يجيب إذا ناديته؟ يسمع (حي على الصلاة) على المآذن فهل يجيب النداء ويشهد صلاة الجمعة؟ الجواب: لا.
    وبعبارة واضحة: المسلمون إذا كان تحت رايتهم ذميون من أهل الكتاب هل يكلفونهم بأعمال الإسلام؟ يأمرونهم بالصيام والصلاة والحج والجهاد والرباط والزكاة؟ والله ما يأمرونهم، لماذا؟ هل هم خائفون منهم؟ إنهم تحت دولتهم، فلماذا ما يأمرونهم؟ ما أمرهم الله ورسوله بذلك، لماذا؟ لأنهم أموات، والميت لا يكلف أبداً لا بأمر ولا نهي، فإذا نفخت فيهم روح الإيمان وسارت في أجسادهم أصبحوا أهلا لأن يفعلوا ويتركوا وذلك لكمال إيمانهم.

    وجوب الوفاء بالعقود والعهود

    نادانا الله تعالى ليأمرنا بما فيه خيرنا وسعادتنا وطهرنا وصفاؤنا وقل ما شئت من ألفاظ الكمال؛ إذ قال: ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )[المائدة:1]، من عقد عقداً مع امرأته مع جاره مع أخيه مع كافر من أعدائه يجب أن يفي، من عقد عقد نكاح، إيجار، حرب، سلم يجب الوفاء، هذا نظام حياة أهل الإيمان، إذا عاهدوا لن ينكثوا العهد أبداً حتى يكون غيرهم هو الناكث والناقض، لأنهم أحياء شرفاء كمل أقوياء لا يهبطون إلى تلك مستويات الأموات من أهل الكفر والشرك والنفاق. إذا عقد المؤمن عقداً فلن يحله أبداً، وإذا عاهد فلن يخون عهده ولن ينكثه، وحسبنا أن يأمرنا الله تعالى بقوله: ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )[المائدة:1]، ما بقي مؤمن ينكث عهداً ولا ينقض عقداً ولا يحل عقداً، وهذا هو الواقع الذي نعرفه.
    منة الله تعالى على عباده بحل بهيمة الأنعام عدا ما حرمه

    ثانياً: ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ )[المائدة:1]، يا عباد الله المؤمنون! ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ )[المائدة:1]، كلوا لحوم الإبل والبقر والغنم واشكروا الله واذكروه على نعمه وآلائه، هذه منة أم لا قيمة لها عندنا؟ لولا أنه أذن لنا في أكل لحوم الإبل والبقر والغنم فهل سنأكل لنتعرض لغضب الله وسخطه والخلود في عذاب الشقاء أبداً؟ لا والله، إذاً: هذه منة من أعظم المنن، ونعمة من أعظم النعم.وشيء آخر: من خلق الإبل والبقر والغنم؟ هل أمهاتنا وآباؤنا؟ هل نحن الذين أخرجناها من المصانع؟ من يملكها؟ الله، وقد أذن لنا في أكلها، إذاً: فالحمد لله.
    (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )[المائدة:1]، هذا الاستثناء اللطيف الذي تعجب منه الحكيم: ( إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )[المائدة:1] أي شيء يتلى علينا مما حرم علينا أكله، وقال: ( يُتْلَى )[المائدة:1]، وبعد آيتين فقط يأتي ما يتلي عليكم، في قوله تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3]، فهذه العشر تلاها علينا أم لا؟ تحمل بيان محرمات اللحوم.
    تحريم صيد البر على المحرم وصيد حيوان الحرم

    ( إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:1]، لا إله إلا الله! ما هذا الاستدراك وهذا الاستثناء؟ ( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:1]، إياكم أن تصيدوا محرمين بحج أو عمرة، ما أحل الله ذاك ولا يحله لكم؛ لأن المحرم داخل في أعظم عبادة وأشرفها وأكملها، قلبه مع الله، جوارحه مسخرة لعبادة الله، فكيف يشتغل بالصيد فيصيد، حتى ولو كان جائعاً يقتله الجوع لا يصح له أن يصيد، ولا يأمر أحداً أن يصيد له أبداً وهو متلبس بهذه العبادة الجليلة العظيمة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:1]، أما إن كنتم حلالاً فصيدوا فقد أذن لكم في الصيد، وأي صيد؟ هو ما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكله، كل الصيد حلال إلا ما كان من ذوات الأنياب كالسباع وذوات المخالف، إذ النبي صلى الله عليه وسلم ( حرم أكل كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطيور )، حرم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى له بذلك أنابه عنه في أن يحرم على المؤمنين والمؤمنات أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطيور؛ لحكمة يعلمها الله عز وجل.
    إذاً: ( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:1]، وهنا أيضاً علمنا أن الحرمين الشريفين مكة والمدينة لا يحل لنا الصيد فيهما ولو جعنا، لا يحل لنا الصيد، أي: لا يحل لأحدنا أن يصيد حمامة أو طائراً أو يصيد أي حيوان في الحرمين، بل الواجب إذا مررت بذئب أو بثعلب أو بأي حيوان تحت ظل شجرة ألا تزعجه، دعه في ظله، إلا ما كان يؤذي، فالذي يؤذي المؤمنين يقتل، لا يسمح له بالبقاء.

    صور من إحداث المحرم في الحرمين

    أحد الإخوان جاءني يعقب على كلمة أمس يقول: أنت قلت: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( المدينة حرم من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، فهل الطريقة التجانية تعتبر من الأحداث المنهية؟قلت له: نعم.
    فقال: لم ما بينت؟
    فقلت: في الحقيقة نحن ما بينا؛ لأننا لسنا دارسين لهذا الحديث، ولكنه عارضة عرضت، ولا بأس أن نبين فنقول:
    الذي يفتح استوديوهاً في مكة أو المدينة للتصوير هذا والله لقد أحدث حدثاً من أقبح الأحداث، وهو كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، إما أن يتوب ويتوب الله عليه وإلا فهو آيس من الرحمة، لقوله: ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، لا فرض ولا نفل.
    فهل يسمح الرسول لأحد أن يحدث في مدينته هذا الحدث، وهو الذي يقول: ( إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون )، من هو المصور الحق؟ أليس الله؟ اقرءوا آخر سورة الحشر في أسمائه تعالى، فهل يرضى أن يقال لك: أنت المصور؟تنازع الله عز وجل؟ فهذه وحدها كافية.
    والذي يفتح دكاناً لبيع أشرطة الأغاني أغاني العواهر وفجار الرجال، ويبيع ذلك في المدينة ويشيعه بين بيوتها أما أحدث حدثاً؟ أي حدث أقبح من هذا الحدث؟!
    والذي يفتح صندوقاً مالياً ويقول: تعالوا لترابوا معنا! خذوا العشرة بأحد عشر إلى شهر أو سنة، أليس هذا قد أحدث حدثاً؟
    والذي يفتح صالون الحلاقة يحلق وجوه الرجال، صالون حلاقة مهمته أن يحلق وجوه الفحول، أما أحدث هذا؟ أيرضى الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحدث؟ هل كان موجوداً هذا؟ هل أذن الله به؟
    إذاً: والذي يأتي بطريقة من طرق الهابطين ويأخذ يدعو الناس إليها في الحرمين، وعلى سبيل المثال: التجانية التي يقولون فيها: إن صلاة الفاتح مرة واحدة تعدل سبعين ختمة من القرآن، صلاة الفاتح تلك الصيغة التي ابتدعها من ابتدعها يقول: تعدل سبعين ختمة من القرآن، ومعنى هذا: لا تقرءوا القرآن أبداً، لا حاجة إليه.
    وصلاة الفاتح هي: اللهم صل على محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم. هذه الصيغة تعدل سبعين ختمة من القرآن، فهل يبقي من يقرأ القرآن؟! ما الفائدة؟ نقرأ سبعين ختمة حتى نعطى أجر هذه الصلاة!
    ومعنى هذا إغلاق الباب عن كتاب الله حتى ما يقرأ، وأعظم من هذا أنهم يقولون: إن صلاة الفاتح أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً للشيخ فلان، خرج في اليقظة وأعطاه صلاة الفاتح! كذبوا على رسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، وكذبوا على المؤمنين والمؤمنات.
    هذا مثال وإلا فكل الطرق فيها من الباطل والشرك ما لا يذكر، فمن الخير أن نسلك سبيل سلفنا الصالح، ما عندنا طريقة إلا طريقة محمد صلى الله عليه وسلم، أنا مسلم فقل لي: قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
    والذي يسلك الطريقة الحديثة طريقة التكفير والهجرة، ويأخذ ينشرها في الحرمين، وعثر عليهم وهم يوقدون نيران الفتنة في العالم، أليس هذا من أعظم الأحداث؟! هذه تكفر المؤمنين، قالوا: الحكام يحكمون بغير ما أنزل الله فهم كفار، والعلماء علموا ذلك وسكتوا فهم كفار، والأمة علمت بذلك وما حاربت فهي كافرة، ولم يبق من مسلم إلا ذلك الرجل الذي يحمل هذه البدعة!
    وقد قلت غير ما مرة: من لم يستطع أن يستقيم في الحرمين فليخرج، يلتحق بأي بلاد، أما أن ينزل في مكة والمدينة ويتعاطى الخمر والحشيش والربا والزنا والباطل والمنكر؛ فهذا غير مسموح له أن يدخل في الحرمين الشريفين إلا عن توبة صادقة، ما استطعت أن تستقيم فالتحق ببلاد أخرى، هذا حرم رسول الله، وذاك حرم الله عز وجل.
    اختصاص الله تعالى بحكم ما يريد

    ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ )[المائدة:1]، أرأيتم كيف ختم هذه الآية بقوله: ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ )[المائدة:1]، يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ويأذن فيما يشاء ويمنع ما يشاء؛ إذ هو الرب العليم الحكيم لا اعتراض عليه؛ لعلمه الذي أحاط بكل شيء، ولحكمته التي ما خلا منها شيء، ولقدرته التي لا يعجزها شيء، فلهذا يحكم ما يريد، إياك أن تعترض على حكم الله وتقول: لم أحل الله هذا؟ أو لم حرم الله هذا؟ إنك تقول: لم أحللت يا فلان لأنه إنسان عاجز علمه محدود وطاقته محدودة، أما الله العليم الحكيم العزيز الحكيم فما تقول: لم؟! انتبه! من اعترض على الله كفر وخرج من الإسلام.( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ )[المائدة:1] هو لا ما تريدونه أنتم، مع العلم أنه لا يحل إلا ما فيه خير البشرية وسعادتها، ولا يحرم إلا ما فيها خسرانها وشقاؤها؛ لأنه ربهم مولاهم سيدهم، عبيده لا يريد لهم إلا السعادة والكمال.

    نهي المؤمنين عن استحلال شعائر الله

    ثم النداء الثاني: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:2]، لبيك اللهم لبيك، ( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ )[المائدة:2]، هذه محكمة غير منسوخة: ( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ )[المائدة:2]، ما شعائر الله؟ أعلام دينه، حتى قلم الأظافر، ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقصها ويبدأ بكذا، فائتها كذلك، ولا تقل: أيش في خلافه؟ حتى تناول الشراب والطعام، تناوله كما كان يتناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تقل: أيش في خلافه؟ إياك أن تحل شعيرة من شعائر الإسلام بإبطالها وإبعادها وتركها.ومن شعائر الإسلام مناسك الحج كلها، من (لبيك اللهم لبيك) إلى تعرية الرأس إلى أن تعود إلى بلدك، ( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ )[المائدة:2]، أية شعيرة من دين الله يجب أن لا تهمل ولا تضيع وألا يصرف عنها الناس، يجب أن يقام بها في الناس ليعبدوا الله بها.

    منة الله تعالى على العرب بوضع القتال في الأشهر الحرم وبيان نسخ ذلك

    وقوله: ( وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ )[المائدة:2]، هذا منسوخ، كان الشهر الحرام لا يحل حمل السلاح فيه، لا يحل القتال؛ لحكم عالية، بالأمس ذكرنا بإيجاز أنه كانت هذه البلاد لا سلطان لها ولا ملك ولا حاكم قروناً عديدة وهي تعيش على الفوضى، بلاد حارة فيها رمال وصحارى لا يأتيها ملك من الروم ولا من الشام ولا من غيرهما، ولكن لما كان فيها حرم الله بلد الله بيت الله دبر الحكيم العليم لسكان الحرم ليعيشوا سعداء أعزة كرماء؛ لأنهم حماة حماه وسكان حرمه، فقال تعالى: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ )[المائدة:97]، معاشهم، أهل الجزيرة في الحج والعمرة يتجرون في مكة ويربحون. ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ )[المائدة:97]، وأشهر الحرم أربعة، إذا كان الشهر الحرام لا تسمع قعقعة السلاح أبداً، أهل الجزيرة يتجولون من شرقها إلى غربها لا يخافون أحداً؛ لأن القتال حرام، ألقى الله في قلوبهم هذا.

    النهي عن استحلال الهدي المهدى إلى البيت يإشعار أو تقليد

    قال تعالى: ( وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ )[المائدة:2]، كما قال تعالى: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )[المائدة:97]، إن أردت أن تهدي إلى سكان الحرم بعيراً أو بقرة أو قطيعاً من غنم، فماذا تصنع؟ أشعرها وأعلمها بأنها مهداة واخرج بها من أقصى الجزيرة لا يعترضك معترض ولا يأخذ إبلك أو غنمك أحد؛ لأنها مشعرة معلمة أنها للحرم.والإشعار -كما علمتم-: أن يجرح سنام البعير من الجهة اليمنى ويلطخ بالدم الوبر، إذا رآها العربي يقول: هذه مهداة، ولا يعترضها أبداً.
    والقلائد أن توضع في رقبة الشاة قلادة لأنها لا تشعر، يقولون: هذه مهداة إلى الحرم، والرجل نفسه إذا علق لحاء من شجر الحرم في عنقه في كتفه في يده يمشي بين القبائل العربية لا يؤذيه أحد، يلتقي بقاتل أبيه أو أخيه فيغمض عينيه ولا يلتفت إليه، وبذلك يسود الأمن وتستريح الأمة فترة من الزمن، وهذا تدبير الله: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[المائدة:97].
    إذاً: حرمة القتال في الشهر الحرام نسخت، أذن الله لرسوله والمؤمنين أن يقاتلوا في الشهر الحرام إذا قوتلوا، وأما فالحرم فحرمته باقية على ما هي عليه.

    نسخ الإذن للمشركين بإتيان البيت للنسك والتجارة
    ثم قال تعالى: ( وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا )[المائدة:2]، هذا أيضاً نسخ، أعلن الرسول بقوله: ( لا يحج بعد العام مشرك )، كان مسموحاً لهم بأن يأتوا يبتغون فضلاً من ربهم يسترزقون الله ويطلبون الرزق في حجهم وعمرتهم ويتجرون ويربحون، لكن هذا نسخ، فلا يحل لكافر مشرك أن يدخل الحرم أبداً.
    نهي المؤمنين عن العدوان على من صدهم عن البيت في عمرة الحديبية

    ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا )[المائدة:2]، هذا موجه إلينا عامة، وبخاصة الذين أوذوا في صلح الحديبية، حيث خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع ألف وأربعمائة رجل يريدون العمرة في السنة السادسة من هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، لما سمعت قريش بخروجهم أعدت عدتها وأعلنت الحرب، وقالت: لن يدخل محمد مكة أبداً، وتمت مفاوضات وسفارات شيبت الأطفال في الحديبية، وانتهت بأن يعود الرسول إلى المدينة ورجاله على أن يسمح لهم العام المقبل بالعمرة، فلا شك أن أولئك المؤمنين بقي في نفوسهم شيء وتألموا، فقال لهم تعالى: ولا يحملنكم ( شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا )[المائدة:2]، يجيء القرشي المكي ماشياً فما تعتدي عليه تقول: هذا ممن صرفونا عن العمرة! فلهذا لا نعتدي على أحد مشركاً كان أو مؤمناً، وإذا كان الكافر ما نعتدي عليه فهل نعتدي على مؤمن؟! إن الذين يفعلون ذلك ما عرفوا الله ولا آمنوا الإيمان المطلوب، أمؤمن ويقتل أخاه؟ أمؤمن ويسلب مال أخيه؟ أمؤمن ويروع أخاه المؤمن؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )، ( كل المسلم على المسلم حرام ) ما هناك جزء حلال، دمه، عرضه، ماله.

    معنى قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ...)

    ثم قال تعالى: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) [المائدة:2] تعاونوا يا عباد الله أيها المؤمنون على البر والتقوى، فإن قلنا: ما نستطيع، ما هناك تعاون فقد عصينا ربنا. وتعاونوا على ماذا؟ على الخير وفعله، وعلى تقوى الله باجتناب ما حرم الله وفعل ما أمر الله، والذي يلهم هذه يسعد في الدارين، الذي يأتي البر وينشره بين الناس ويتقي الله عز وجل يسعد ويكمل في الحياتين معاً.
    (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) [المائدة:2]، إياكم أن تتعاونوا على فعل الذنوب والآثام كما بينا، هذا يستورد كذا وهذا ينشر كذا وهذا يعمل كذا، والعدوان: الاعتداء، اعتدى أحد على أحد نوقفه عند حده، نقف إلى جانب المعتدى عليه حتى نرفع العدوان عنه.

    وأخيراً يقول تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:2] إي والله إنه لشديد العقاب، أما ذقنا عذابه؟ أما أذل الله المسلمين وسلط عليهم الكافرين، فاستعمروهم واستغلوهم واستعبدوهم وأذلوهم وأهانوهم؟ فهل هو شديد العقاب أم لا؟ وكل مؤمن ومؤمنة يخرج عن طاعة الله يعذبه الله ويذيقه عذابه في الدنيا قبل الآخرة.

    (وَاتَّقُوا اللَّهَ ) [المائدة:2] لا تخرجوا عن طاعته، فإنه تعالى شديد عقابه، إذا عاقب فعقابه قاس وشديد.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #326
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (13)
    الحلقة (325)
    تفسير سورة المائدة (20)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم لك الحمد على ما أوليت، ولك الحمد على ما أعطيت، ولك الشكر يا رب العالمين.
    ما زلنا مع سورة المائدة المباركة الميمونة، وما زلنا مع الآيات الثلاث التي درسنا الآية الأولى منها، وها نحن مع باقي الآيات.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ )[المائدة:35-37].

    نداء المؤمنين وأمرهم بتقوى الله تعالى

    معشر الأبناء والإخوان والمؤمنات الصالحات! عرفنا هذا النداء: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:35]، فمن المنادي ومن المنادى؟ المنادي: هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، والمنادون عباده المؤمنون والمؤمنات، الذين آمنوا بالله رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه، وآمنوا بكتبه ورسله وآمنوا بلقائه، هؤلاء المؤمنون يعتبرون أحياء، إي والله، والحي يسمع ويبصر، ويعطي إذا طلب منه ويأخذ إذا أعطي؛ وذلك لكمال حياته، فلهذا أمرهم بما يلي: أولاً: بتقواه عز وجل. ثانياً: بطلب الوسيلة إليه. ثالثاً: بالجهاد في سبيله.

    الأولى: التقوى، والتقوى عرفناها ولا حاجة إلى تكرارها، وكيف نتقي الله؟ الجواب: أن تخافه بقلبك خوفاً يحملك على أن تطيعه ولا تعصيه، وبهذا تتقي غضبه وعذابه.
    وهل علمنا أوامر الله ونواهيه حتى نفعل المأمور ونترك المنهي؟ الجواب: المفروض أننا عرفنا هذا، من ساعة أن دخلنا في الإسلام وشهدنا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونحن نتعلم في كل يوم -بله في كل ساعة- أوامر الله ما هي وكيف نؤديها، ونواهي الله وكيف نتركها ونتجنبها، والقرآن يفيض بهذه الأوامر والنواهي، وما التبس علينا فرسوله صلى الله عليه وسلم يبين ويشرح، إذ من المستحيل أن تتقي الله وأنت لم تعرف أوامره ولا نواهيه، ومن هنا تقررت القاعدة النبوية: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ).

    أمر المؤمنين بطلب الوسيلة إلى الله تعالى
    ثانياً: هيا نبتغي إليه الوسيلة، أي: نعمل على أن نقرب منه ونصبح من المقربين لديه، فما هي الوسائل؟ إنها حبه وطاعته وحب رسوله وطاعته، إنها هذه الأعمال الصالحة، سواء أعمال القلوب كالنيات الطيبة الطاهرة والعقائد المستنيرة أو الأقوال أو الكلمات التي شرعها الله نتقرب بها إليه، ككلمة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، كل عمل صالح تؤديه تقرباً به إلى الله يقربك الله وتقرب منه، هذا هو التوسل.
    وبينا التوسل الباطل وحذرنا منه، وهو توسل الجهال والضلال بالذبح والنذر للأولياء والعكوف على قبورهم وزيارتهم من بلد إلى بلد، والاستغاثة بهم، ونداؤهم: يا سيدي فلان، ويا مولاي فلان! هذه -والله- ما هي بالوسيلة التي طلب الله من عباده أن يتوسلوا بها، نعم عطفك على فقير، مسحك دموع حزين، تنظيفك الطريق للمؤمنين هذه وسائل تتوسل بها إلى الله، أما أن تعرض عنه وتقبل على مخلوق من مخلوقاته فتستغيث بأعلى صوتك وتناديه وتقسم به وتحلف؛ فهذا شرك وما هو بوسيلة.
    والأمر الثالث: الجهاد، وحمدنا الله أنه أراحنا اليوم من الجهاد، فالحمد لله.. الحمد لله، من منكم عنده مدفع في بيته أو نفاثة في سطحه يطير عليها ويجاهد؟
    مقترح للدعوة في ديار الكفر تحقيقاً لمطلب الجهاد

    وأصل الجهاد: هو بذل الجهد والطاقة البدنية والمالية والعقلية من أجل أن يدخل الناس في رحمة الله، وبعبارة أوضح: من أجل أن يعبد الله وحده، إذ هذا هو الجهاد في سبيل الله، الآن من إفضال الله وإنعامه علينا أنه أراحنا وإن كنا نقول: إننا تحت رقابة الله تعالى، ففرنسا فيها ثلاثة آلاف مسجد، بريطانيا فيها مثل ذلك، ألمانيا ذات المخ العظيم، هولندا، بلجيكا، حتى موسكو وأمريكا واليابان والصين، مفتوحة كلها، ما فتحها أسلافنا ولا فتحها آباؤنا وأجدادنا ولا فتحناها نحن، ولكن فتحها الله الفتاح العليم، بل في تلك البلاد حرية العبادة والتعبد أعظم منها في بلاد العرب والمسلمين، إلا ما شاء الله.
    إذاً: ما نحن الآن في حاجة إلى حمل السلاح، لكن لم لا نكون لجنة إسلامية عليا يشارك فيها كل بلد إسلامي، وبطريق سري خفي؛ حتى لا نوقظ دعاة الماسونية أو الصليبية أو المجوسية، لجنة عليا يشارك فيها كل بلد إسلامي بعالم، فتكون لجنة مكونة من أربعين عالماً من خيرة العلماء المسلمين، ثم توضع خريطة للعالم بأسره من الشرق إلى الغرب، ونعرف في كل بلد كافر كم فيه من أعداد المسلمين، وكم مسجداً، وكم مركزاً، ونعرف حاجياتهم، وعندنا كتاب الله وسنة رسول الله والعالم الرباني ولي الله الذي يشرح ويبين الهدى ويدعو إليه.
    ولا بد لهذه اللجنة من ميزانية فخمة ضخمة كأكبر ميزانية يساهم فيها كل مؤمن بدينار، لا بد من هذا، فريضة الجهاد، وتأخذ تلك اللجنة على الفور فتوجد مجلساً لتخريج الدعاة، لستة أشهر فقط، والكتاب موحد: منهاج المسلم، عقيدة المؤمن، أيسر التفاسير، كتاب المسجد وبيت المسلم، نداءات الرحمن، هذه الكتب ما فيها تعصب قبلي ولا إقليمي ولا وطني ولا مذهبي، المسلمون أمرهم واحد؛ لأنا لا نريد أن يبقى إخواننا في الشرق والغرب هذا حنفي وهذا مالكي وهذا شافعي وهم متباعدون متناحرون، انتهى أمر هذا، لا معنى له اليوم أبداً، الكتاب متوافر فيه: قال الله وقال رسوله، والعالمون بذلك متوافرون، فيدرسون الكتاب والسنة لكمالهم ورقيهم في آدابهم وأخلاقهم، بعد تصحيح عقائدهم وبعد إقبالهم على الله جل جلاله وعظم سلطانه.
    إذاً: لا أحسب أنه يمضي ربع قرن إلا وقد لاحت أنوار الإسلام في الشرق والغرب، والحمد لله الذي أراحنا من السيف والقتال، وفتح لنا أبواب العالم.
    قلت: وإننا لتحت رقابة الله تعالى، إذا لم نستجب لدعوة الله ونجاهد أنفسنا لنقيمها في الشرق والغرب؛ فسيأتي يوم يأخذون إخوانك المسلمين ويرمونهم في البحار ويطردونهم، ولا يسمحون لمن يقول: لا إله إلا الله، فالظروف مواتية، لكن من جعلها مواتية؟ الله مدبر كل شيء، كان من المستحيل أن يدخل الرجل إلى بلاد الكفر ويبيت فيها هكذا إلا غازياً أو مجاهداً، والآن يؤذن ويصلي ويكبر؟!
    أقول: إنها فرصة ذهبية نخشى أن تفوت، وإن فاتت تحمل إثمها وتبعتها المسلمون الموجودون من أهل القدرة على العمل، والحمد لله الذي أراحنا الله من الدماء وسفكها.

    نقد أفعال جماعات التكفير

    وأما الجماعات التي تريد أن تنشر الإسلام بالمدفع في بلاد المسلمين فهذا خطأ فاحش، خطأ باطل، حرام، يحمل الظلم والبلاء، ولن يوجد الإسلام ولا أهله، بل إن بغض أعداء الإسلام للإسلام من سلوكنا نحن، فسلوكنا بغضهم وجعلهم ينفرون منهم، وقد يكون هذا سبباً في طردهم المسلمين من بلادهم وإغلاق أبواب المساجد، فهذا الجماعات الثائرة التي تكفر الحكام وتعلن الجهاد وهي أعجز ما تكون عن ذلك، إذ الأمة معرضة عنها، والحكومة ضدها، فكيف تنتصر؟! فلو عرفوا ما ينتج عن هذا البلاء من بلاء لماتوا خوفاً من الله عز وجل، ولكنه الجهل المركب، إذا كنتم تريدون إنارة العالم الإسلامي وإضاءته شرقاً وغرباً فأقبلوا على المسلمين زكوا أنفسهم وطيبوا أرواحهم، وهذبوا آدابهم وارفعوا معنوياتهم بتعليمهم الكتاب والحكمة، زوروهم في بيوتهم، قبلوا أرجلهم وأقدامهم وخذوهم إلى بيت الله وعلموهم؛ حتى إذا عرفوا حينئذٍ فما هم في حاجة إليكم، تصبح الأمة كلها على قلب رجل واحد، ويومها تلوح أنوار الإسلام في الشرق والغرب، فلا يسع الكافرين والمشركين إلا أن يطأطئوا رءوسهم أو يدخلوا في الإسلام.

    تربية النفس جهاد مفتوح
    قد يقال: إذاً -يا شيخ- أغلقت باب الجهاد! قلت: ما زال باب من أبوابه مفتوحاً، ألا وهو جهاد النفس، جاهد نفسك أن تلين وتنكسر وتتطامن وتتواضع ولا تقول إلا الحق ولا تنطق إلا بالمعروف ولا تسمع إلا الهدى ولا تقبل إلا على الخير، هذا الجهاد الأعظم: ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر )، جاهد أسرتك في بيتك ليصبح بيتك كمسجد لا يسمع فيه إلا ذكر الله، جاهد إخوانك في مجالسهم ولقاءاتهم بأن لا يذكر إلا الله، جاهد جيرانك، عرفهم بالله، وأحسن إليهم، واجذبهم إلى نور الله، هذه هو الجهاد في سبيل الله جهاد النفس، فما هي الجائزة؟ الفلاح؛ إذ قال عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ )[المائدة:35]، لم يا رب؟ ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:35]، لتتهيئوا ولتستعدوا للفلاح.

    والفلاح عرفناه، سمعنا ربنا يقول: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )[آل عمران:185]، وما الفلاح إلا الفوز، ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا )[الشمس:9]، ما معنى: (أَفْلَحَ)؟ فاز. بم فاز؟ بجائزة نوبل؟ فاز بأن زحزح عن النار وأدخل الجنة دار الأبرار، هذا هو الفلاح والفوز، ما هو الربح في الشاة ولا البعير ولا الدينار ولا الدرهم، فهل أصبح هذا نوراً في قلوبنا معشر المستمعين والمستمعات أم لا؟ فليلتين ونحن مع هذه الآية، فهل استقر هذا في أذهاننا؟

    لو دعاك داع إلى الجهاد فقل: أين الجهاد هذا؟
    إن بعض الشباب يهربون الآن إلى الشيشان للجهاد؛ لأن نفوسهم ضاقت وتألمت وما وجدت من يشرح تلك الصدور ولا ينير تلك القلوب، والهمجية والبربرية والشهوات العارمة، فماذا يصنعون؟ فهموا الجهاد ليموتوا في الشيشان. الجهاد الذي ندعو إليه أن يقوم إمام مبايع من عامة المسلمين ونمشي وراءه يقودنا العام والأعوام وهو يربي ويهذب ويكمل، وحينئذٍ إذا رأى نفسه قادرة على أن يغزو ليفتح ديار الكفر وينيرها للإسلام فإنه يقول: الجهاد، هذا هو الجهاد.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #327
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (14)
    الحلقة (326)
    تفسير سورة المائدة (21)

    يقرر الله عز وجل في هذه الآيات حكماً شرعياً، وهو أن الذي يسرق مالاً يقدر بربع دينار فأكثر من حرز مثله خفية وهو عاقل بالغ ورفع إلى الحاكم فالحكم أن تقطع يده اليمنى من الكوع، سواء كان رجلاً أو امرأة، مجازاة له على ظلمه واعتدائه على أموال الغير، وبهذا يسقط عنه العقاب الأخروي، أما إن لم يعرف فإن الله يتوعده بالعذاب في الآخرة إلا أن يتوب ويصلح ما أفسده، وذلك بإعادة الأموال إلى أصحابها بأي طريقة كانت.
    تفسير قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا ...)

    تفسير قوله تعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ...)

    حكم رد المال المسروق بعد القطع
    هنا ما حكم من سرق وقطعت يده: هل يطالب برد المال الذي سرقه أو يكفيه قطع يده؟ القول الذي يرى أنه هو الصواب والحق هو قول مالك رحمه الله، وهو أعدل وأرحم، يقول: السارق قطعت يده، فإن وجد ما سرقه فيجب أن يؤخذ منه ويرد إلى صاحبه، ما يكفيه قطع اليد، وإن لم يوجد ذلك المسروق، فالسيارة باعها، ننظر: إذا كان له مال يؤخذ من ماله بقدر ما سرقه، فإن كان لا مال له فماذا نصنع به وقد قطعت يده؟ قال: يكفيه قطع يده ولا شيء عليه، وهذا أعدل وأرحم.
    فالسارق لما ضبط وقامت الحجة بالسرقة وقطعت يده هل يطالب برد المال المسروق أو لا يطالب؟ هناك من يقول: يكفي قطع يده، فقطع اليد يساوي نصف الدية للإنسان. والصحيح: أنه يطالب برد المال الذي سرقه، فإذا كان موجوداً بعينه فذاك، فإن لم يوجد بعينه وعنده أموال أخرى فيؤخذ منها ما يسدد لذاك المسروق منه ويعطى قيمته، فإن كان لا مال له فيكفيه قطع يده، وهذا أعدل وأرحم.

    حكم السارق من مال ولده
    ومسألة أخرى: إذا سرق الرجل من مال ولده؟ لك ولد غني -والحمد لله- وأنت أيها الأب فقير، أو عندك مال وما استغنيت وسرقت من مال ولدك وضبطت، فهل تقطع يد الوالد الذي سرق من مال ولده؟
    الإجماع على أنها لا تقطع؛ ولذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنت ومالك لأبيك )، فإذا سرق الوالد من مال بنته أو ابنه لا تقطع يده إجماعاً؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحب يوجهه: ( أنت ومالك لأبيك )، نص، إذاً: ما دام الولد لي فكيف تقطع يدي؟

    حكم السارق من مال والده

    حكم السارقة من مال زوجها والسارق من مال زوجته

    وهنا مسألة أخرى: إذا سرقت الزوجة من مال زوجها ورفعها إلى القاضي فإنه يقطع يدها وإن قال: هذه زوجتي لا تقطع يدها! فما هو شأنك أنت، نحن نحكم بحكم الله عز وجل، لكن إذا كان الزوج عفا عنها، صفعها، طلقها، ولم يرفع أمرها إلى المحكمة لا تقطع يدها، فإذا سُرِقت أنت يا هذا وضبطت السارق وعفوت عنه، ما رفعت أمره إلى المحكمة، فلا تقطع يده.
    وكذلك الزوج إذا سرق من مال زوجته، فالزوجة إذا كانت عفريتة ترفع أمرها إلى المحكمة وتقطع يده، لكن إذا ما رفعت أمرها إلى المحكمة فإنها تعفو عن زوجها أو تطالب برد مالها، ولا تقطع يده، فما هناك خلاف إلا في الابن والبنت إذا سرقا من مال الأب، وأما إذا سرق الأب أو الأم من مال أولادهما فلا خلاف في أنه لا قطع أبداً، أما الزوج والزوجة فكالأخ والأخ والعم والعمة، لا فرق.
    وهنا مسألة أخرى: إذا كان الزوج شحيحاً والزوجة أخذت من ماله؟ هذه القضية رفعت إلى قاضي القضاة صلى الله عليه وسلم، رفعتها هند امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، وقالت: إن زوجي رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي؟ قال: خذي ما تحتاجين أنت وأولادك، بقدر ما تحتاجين إليه، لا تسرقي من جيبه أو من صندوقه ولا تدخريه، لكن خذي قدر الطعام أو الشراب أو الثوب الذي احتجته أنت أو ابنك، فالزوجة إذا أخذت هذا القدر ما يعتبر سرقة حقيقية، يعفى عنها، إذا كان منعه بخلاً، أما إذا كان يوسع عليها وينفق ثم هي تريد أن تتأتي المال وتسرق فإنه تقطع يدها، ومن ذلك التي تحول المال إلى إخوانها في القرية الفلانية.
    يقول تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا )[المائدة:38]، ليس المراد أن يقطع اليدين الاثنتين، وإنما السارق تقطع يده، والسارقة تقطع يدها، ( جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ )[المائدة:38-39]، قالوا: من الإصلاح أن يرد المال الذي سرقه.

    تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء...)


    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    معاشر المستمعين! إليكم معنى الآيات في هذه الورقة، فتأملوا مع ما سمعتم وفهتم.
    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ يخبر تعالى مقرراً حكماً من أحكام شرعه، وهو أن الذي يسرق مالاً يقدر بربع دينار فأكثر من حرز مثله ]، ليس شرطاً أن يكون الحرز دائماً صندوقاً ومفتاح من حديد، بل بحسب حاله، فشاة وجدها خارج الباب فما هي سرقة، لكن جعلها في الحظيرة والباب مغلق عليها في زريبة مثلاً هذا حرز عليها، فالضابط: (من حرز مثله).
    قال: [ وهو أن الذي يسرق مالاً يقدر بربع دينار فأكثر من حرز مثله خفية وهو ] أولاً [ عاقل ] ثانياً [ بالغ ]، فإن كان مجنوناً فهل يؤاخذ؟ لا. وإن كان صبياً ما بلغ وسرق ألف دينار فلا تقطع يده، لا بد من البلوغ والعقل، المجنون لا تكليف عليه، والصبي الغلام كذلك.
    ثالثاً: [ ورفع إلى الحاكم ] أيضاً، فإذا ما رفعت القضية إلى الحاكم فلا تقطع أنت يد السارق بنفسك، أو ابن عمك يأخذ يده ويقطعها، لا بد من رفعها إلى المحكمة؛ لتتأكد وتتحقق، قد تكون مؤامرة، بنو فلان اتفقوا على أن فلاناً سرقهم والمال في يده، لا بد من المحكمة.
    قال: [ والسارقة كذلك ] ما هناك فرق بين الرجل والمرأة [ فالحكم أن تقطع يد السارق اليمنى من الكوع، وكذا يد السارقة ]، ما الكوع؟ عند الفقهاء يقال: فلان لا يفرق بين الكوع والبوع، فما الفرق بين الكوع والبوع؟ الكوع: في اليد، والبوع: في الرجل، كما قيل:
    فعظم يلي الإبهام كوع وما يلي الخنصر الكرسوع والرسغ ما وسط
    قال: [ مجازاة لهما على ظلمهما بالاعتداء على أموال غيرهما، وقوله: ( نَكَالًا مِنَ اللَّهِ )[المائدة:38]، أي: عقوبة من الله تعالى لهما تجعل غيرهما لا يقدم على أخذ أموال الناس بطريق السرقة المحرمة، ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ([المائدة:38]، غالب على أمره، حكيم في قضائه وحكمه، هذا معنى قوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا )[المائدة:38] ] الباء سببية: بكسبهما، أي: بما كسبا [ من الإثم، ( نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[المائدة:38].

    وقوله تعالى في الآية الثانية: ( فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ )[المائدة:39] أي: تاب من السرقة ] يعني: ترك ما أصبح يفكر فيه ولم يعد يسرق [ بعد أن ظلم نفسه بذلك ]، فالسارق ظلم نفسه، صب عليها الآثام والذنوب.

    جاءني أحدهم بعد الصلاة يتعنتر علي، قال: ما معنى قوله تعالى: ( إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ )[آل عمران:135]، قلت له: الفاحشة الزنا واللواط وكل قبيح شديد القبح، والظلم للنفس، فكل إثم ظلم للنفس، سرق، كذب، أخر الصلاة، سب فلاناً، كل هذا ظلم للنفس لأنه يصب عليها النتن والعفونة والظلمة.

    قال: [ بعد أن ظلم نفسه ] بأكل مال الناس [ وَأَصْلَحَ [المائدة:39] نفسه بالتوبة ] فنفسه فسدت بالذنوب، فأصلحها بالتوبة [ ومن ذلك رد المال المسروق ] سواء كان دينارأ أو كان ألف دينار [ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ )[المائدة:39]؛ لأنه تعالى غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين.

    وقوله تعالى في الآية الثالثة: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[المائدة:40]، يخاطب تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل من هو أهل للتلقي والفهم من الله تعالى ] وهم المؤمنون؛ لأنهم أحياء يتلقون ويفهمون [ فيقول مقرراً المخاطب: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[المائدة:40]، والجواب: بلى، وإذاً فالحكم له تعالى لا ينازع فيه، فلهذا هو يعذب ويقطع يد السارق والسارقة ويغفر لمن تاب من السرقة وأصلح، وهو ( عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[المائدة:40] ].


    هداية الآيات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ هداية الآيات.
    من هداية الآيات:
    أولاً: بيان حكم حد السرقة، وهو قطع يد السارق والسارقة ]، لقوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا )[المائدة:38].

    [ ثانياً: بيان أن التائب من السراق إذا أصلح يتوب الله عليه، أي: يقبل توبته ]، كان يسرق ثم تاب وتاب الله عليه فيعفى عنه، لكن بشرط أن يرد المال إذا كان قادراً على رده ولو بالتدريج؛ لأن الإصلاح يكون بذلك.
    [ ثالثاً: إذا لم يرفع السارق إلى الحاكم تصح توبته ولو لم تقطع يده ]، ليس شرط التوبة أن تقطع اليد، عزمه فقط على عدم السرقة توبة، فإن رفع قطعت، وإن لم يرفع فتوبته كافية، إلا أن المال إذا كان لديه فإنه يحاول أن يرده بعد عام أو عامين أو عشرة في كل مناسبة.
    قال: [ وإن رفع ] أي: أمره إلى المحكمة [ فلا توبة له ]، لو قال: لقد تبت يا عباد الله، والله إني تائب من الآن لا أسرق أبداً فلا تقطعوا يدي فلا ينفعه، وقبل أن يرفع إلى القاضي نعم، قال: تبت وبكى بين يديك فاترك أخاك، لكن إذا رفع وحكمت المحكمة بقطع يده وأعلن عن توبته فلا تنفعه التوبة في قطع يده.
    قال: [فإذا قطعت يده خرج من ذنبه كأن لم يذنب ]، مهما كان المال الذي أخذه، يده إذا قطعت غفر الله له.
    [ رابعاً: وجوب التسليم لقضاء الله تعالى والرضا بحكمه لأنه عزيز حكيم ]، لو كان ضعيفاً فما نسلم له، لو لم يكن عنده حكمة يتخبط ويصدر أحكاما لا معنى لها فلن نقبل، ولكن ما دام عزيزاً حكيماً فكيف يجوز أن تنتقد حكمه أو ترده؟! وقد بينا أن من انتقد حكم الله وقال: لم، فإنه يكفر بذلك، فلم يسعنا إلا التسليم لله عز وجل.
    إيضاح للموقف من الجهاد في الواقع الحالي


    معاشر المستمعين! تعقيب: لما تكلمنا عن الجهاد الحق الشرعي قال بعض الإخوان: لماذا لا يدعو إلى الجهاد في البوسنة والهرسك وعند الشيشانيين؟ ولماذا يغفل هذا؟ وآخرون قالوا: لم الشيخ يقول كذا والناس يبكون على أولادهم والأمة هكذا، ما حق الشيخ يقول هذا!كل يقول بحسب فهمه ولا حرج.
    وأقول: أولاً: لسنا بقادرين على إفهام كل سامع وسامعة، هذا لا يقدر عليه إلا الله، لكن شيخكم مستعد إذا أخطأ أن يعلن عن خطئه ويستغفر الله فيه ويطلب من السامعين أن يستغفروا له، هذه قاعدة منذ ثلاث وأربعين سنة، ما نرضى أن نقر الخطأ ولا يحل.
    وجوب جهاد النفس
    فالذي قلته وما زلت أقوله: أن الجهاد الذي أمرنا الله تعالى به في قول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:35]، هذا الجهاد إن كان جهاد النفس فهو واجب، على كل مؤمن ومؤمنة أن يجاهد نفسه؛ حتى لا يقع في أوضار الذنوب والآثام، لا سرقة، لا خيانة، لا غيبة، لا كذب، كل ذنب يجاهد نفسه حتى لا ترتكبه، لا تترك واجباً ولا تغشى محرماً، وهذا الجهاد متواصل حتى الموت على كل مؤمن ومؤمنة إلا إذا كان ما بلغ سن التكليف أو كان مجنوناً، فما منا إلا وهو يجاهد الليل والنهار: الدنيا، والشيطان، والهوى، والنفس، هذه أربع طوام، فليس منا مستريح لا له جهاد أبداً.

    امتناع جهاد الكافرين بغير إمام
    الموقف من الجهاد في الشيشان وأفغانستان ونحوهما

    وأما قضية الشيشان والبوسنة والهرسك وأمس الأفغان؛ فنحن نقول: لما قاتلنا في الأفغان بنية أن تقوم دولة إسلامية تنشر الإسلام وتمتد رايتها حتى تظلل فلسطين، كذا كنا نأمل، وتبين لنا خلاف ذلك، سألنا عن العلة ما هي؟ وجدناها عدم البيعة لإمام، ما كانوا متفقين ولا متوافقين على بيعة رجل، كل واحد يريد أن يكون هو الإمام، فكيف كانت النتيجة: مرة أو حلوة؟ لقد كانت مرة أسوأ ما تكون، أليس كذلك؟ فإخواننا أيضاً في البوسنة والهرسك أو في الشيشان حالهم كهؤلاء.
    وقلت -وكتبنا هذا في جريدة وما نشر-: لو أن الحكام المسلمين اتفقوا مع تركيا الإسلامية وجاءت كل دولة بخمسة آلاف أو عشرة آلاف جندي مسلح مدرب، وتكون عندنا نصف مليون، فنستطيع أن نقول للدولة المعتدية في الشيشان: قفي. أو في البوسنة والهرسك، أو ندخل، وما دام حكام المسلمين لا يعرفون هذا فكيف إذاً نقاتل مع الشيشان أو البوسنة والهرسك؟
    تبقى مسألة هؤلاء الأحداث، فأنا أقول: إذا ما سمح له والداه أن يذهب إلى البوسنة فحرام عليه أن يذهب، إذا منعه الحاكم يجب ألا يذهب، وإذا كان ضعيفاً أيضاً لا بدن ولا علم ولا قدرة، وإنما يذهب فقط ليأكل طعامهم ويزاحمهم أيضاً فما ينبغي أن يذهب، فإن كان قادراً قوياً وعنده إذن من الحاكم ومن والديه وهو قادر على أن يجاهد فله أن يذهب ليقاتل دفاعاً عن إخوانه.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #328
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (15)
    الحلقة (327)
    تفسير سورة المائدة (22)


    (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ )[المائدة:42]، يكشف الله الغطاء عنهم ويسمع رسوله حالهم والمؤمنين: ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ )[المائدة:42]، أسألكم بالله هل الأغاني فيها حق؟ حين يغني عبد الوهاب أو الأطرش أو العاهرة أو فلان فهل كلامه حق؟ كيف يجوز سماعه؟

    والذين يحكون الخرافات والضلالات ويأتون بالبدع والمنكرات ولا دليل من كتاب ولا سنة هل يجوز سماع كلامهم؟ والذين يروجون البضائع الهابطة وينوعونها من أجل المال؛ هل قولهم وترويجهم وكلامهم وما يكتبونه حق؟ كذب.
    المؤمن الصادق لا يسمع هذا، إن سمع مرة فلا بأس حتى يعرف، ثم بعد ذلك يترك، لا يسمع نهاره أو طول حياته.
    (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ )[المائدة:42] كثيروا الأكل ( لِلسُّحْتِ )[المائدة:42]، السحت هو المحق، ما الذي يمحق الأجر ويبطله؟ الربا وأموال الناس المحرمة، السحت ما يسحت ولا يبقي فضيلة ولا حسنة في القلب، ويسحت حتى البركة في المال فما يبقي فيه بركة ولا منفعة.

    معنى قوله تعالى: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم)

    التوجيه القرآني بشأن الحكم بين الكفرة والإعراض عنهم


    حالات الجهاد تحت راية الإمام


    عندنا موضوعان: الأول: الدعاء، والثاني: بيان الجهاد، حيث قال الإخوان: آخر الكلام ما فهمناه.
    أما الجهاد فأقول: الله عز وجل قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة:35]، فقلت لكم: الجهاد هو أن إمام المسلمين الذي بايعناه على إقامة شرع الله بيننا، وقلنا: سمعاً وطاعة، هذا الإمام إذا أراد أن يجاهد إذا تطلب الموقف الجهاد فهناك موقفان: موقف العدو الكافر المشرك يجهز ويعد العدة ويعلن عن حربنا، في هذه الحالة تلزم التعبئة العامة، ولا ينبغي أبداً لمؤمن أن يتخلف، إذا أعلن الإمام التعبئة العامة، أو قال: الذين أعمارهم من العشرين إلى الستين سنة الكل يدخلون الثكنات ويحملون السلاح، هنا أصبح الجهاد فرض عين، ونقاتل هذا الظالم هذا الكافر هذا المعتدي حتى نهزمه ونشتت شمله وننتصر عليه، إبقاء لديننا وحياتنا الطاهرة وإسلامنا العزيز، هذا موقف.

    الموقف الثاني: أن يرى الإمام أن هناك دولة ما بيننا وبينها صلح ولا معاهدة، فهيا ندعوها إلى الإسلام، بعدما ينظر إلى قوة رجاله وسلاحه وقدرته على أن يقاتل هذه الدولة، فيقول: باسم الله، ويجهز جيشه ويغزو، وحين يصل إلى الحدود يراسلها، يتصل بالمسئولين شفوياً بالسفير أو بالكتابة، يقول لهم: إن شئتم ادخلوا في رحمة الله ادخلوا في الإسلام، هذا دين الله لكم، وهذه رحمته بعباده، وما نحن إلا مبلغين عن الله، فادخلوا في الإسلام تكملوا وتسعدوا وتطيبوا وتطهروا وقل ما شئت من الكمال، فإن رفضوا قالوا: ديننا أولى، نحن يهود أو نصارى أو مجوس ديننا قبل دينكم، ما نريد أن نفرط في ديننا ونستبدل به غيره، قلنا لهم: اسمحوا لنا أن ندخل لننشر الحق والهدى والخير بينكم، ونحن ضامنون أموالكم ودماءكم، نحن الحماة لكم، فإذا دخلت قواتنا وأخذت تنشر الأمن والرخاء والعدل والطهر والصفاء، لو جاء عدو يريد أن يغزو تلك البلاد فنحن الذين نقاتله، نحمي هذه الأمة ودينهم لا يمس بسوء، ولكن سوف يشاهدون أنوار الإسلام وتغمرهم ويخرجون من دينهم تباعاً واحداً بعد واحد كما حصل في الشرق والغرب، إذ ما أكره أحد على أن يدخل في الإسلام أبداً، لا من العرب ولا من العجم.
    فإن رفضوا إلا القتال إذاً يستعين بالله إمام المسلمين ويقاتلهم حتى يخضعهم لقبول دخول الإسلام في ديارهم. هذان موقفان هما الجهاد في سبيل الله، اذكروا هذا ولا تنسوه، واسألوا أهل العلم أهل البصيرة الذين عرفوا حقيقة الإسلام:
    أولاً: أن يعتدي الكفرة المشركون على ديارنا، فإمام المسلمين يعلن عن التعبئة العامة ويقاتل ذلك العدو حتى يقهره، لا خلاف في هذا، اللهم إلا إذا رأى أن تلك القوة أقوى من قوته، وتلك القدرة أقدر منه وسعى إلى مصالحة سياسية ليدفع العدو فله ذلك، على شرط أن يكون له رجال من أهل النور والبصيرة والهداية، فيقولوا: هذا العدو كذا وكذا، فمن الخير أن نسكن روعه وأن ندفعه بالتي هي أحسن بمعاهدة بيننا وبينهم تجارية أو غير تجارية، وله الحق في هذا، والدليل: مصالحة الرسول للمشركين في هذه الجزيرة في غير ما مرة وفي غير ما موطن؛ لضعف إخوانه وقلة عددهم.

    كيفية جهاد العدو المحتل لبلد مسلم

    الآن نعود إلى الجهاد، استعمرتنا بريطانيا أو فرنسا أو إيطاليا، الآن هاجمت بريطانيا بلداً وأدخلته تحت حكمها، فما المخرج من هذه المحنة؟ نقول: على العلماء وعلى المربين وعلى الهداة الصالحين أن يأخذوا في تطهير نفوس أمتهم وتزكية أرواحها وتهذيبها، وإطفاء شعلة الشهوات والمادة منها يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، حين ينظرون إلى ثلاثة أرباع الأمة قد أقبلت على الله حقاً وصدقاً، لم يبق كذب ولا خيانة ولا فجور إلا نادراً، وهم مسلمون بحق، حينئذ يبايعون إماماً لهم؛ لأنهم أصبحوا مسلمين، وحينئذ يعلن إمام المسلمين الجديد عن الجهاد لإخراج بريطانيا أو إيطاليا وفرنسا، وباسم الله عز وجل نجاهدهم، ما إن ننتصر حتى نرى الإسلام قائماً في الظاهر والباطن، هذا هو الذي يجب أن يكون، ولكن وا أسفاه مما كان، قاتلنا من إندونيسيا إلى موريتانيا وما كونا إماماً وأطعناه بطاعة الله ورسوله، وانقدنا لأمره ونهيه، وطهرت قلوبنا أولاً، وطهر سلوكنا، وجمعنا على عبادة الله، لذا لا يستقل الإقليم إلا والإسلام منبوذ ومطرود، أواقع هذا أو لا؟
    أكبر برهان أن نقول: دلونا على إقليم من يوم أن استقل أعلن فقط عن فريضة إقام الصلاة على كل مواطن عسكرياً أو مدنياً، مع أن هذه الفريضة لا تكلفهم شيئاً، فقط تطهر قلوبهم وتزيد في آدابهم وأخلاقهم، هل جبيت الزكاة باسم الله؟ الجواب: لا، ما سبب هذه الخيبة وهذا الفشل؟
    إن الشعب ما كان متهيئاً لعبادة الله، هذا خرافي وهذا ضال وهذا زان وهذا مشرك وهذا هابط، وهمهم الانتصار لأجل الكرسي والحكم والملك والدولة، إذاً: حصل ذلك، فأين الإسلام؟ ما حل بديارهم، ثم إن أكثر البلاد التي كانت مستعمرة لما استقلت فسدت أكثر مما كانت قبل ذلك، فسدت في آدابها وسلوكها وأخلاقها وعبادة الله، أنتم ما عاصرتم الدول، لكن كبار السن يعرفون هذا.
    إذاً: هذا الجهاد إذا ما كانت بيعة للإمام وكانت الأمة مستعدة لتعبد الله عز وجل وتنشر دعوته، وأقمنا ثورة ضد الحكومة فهي أعمال باطلة والقتلى ليسوا بشهداء؛ وكل ذلك لأن كلمة (في سبيل الله) غير موجودة، ما قال: الجهاد فقط، قال: في سبيل الله، أي: بأن يعبد الله وحده، فإذا قاتلنا ولا نعبد الله ولا نطالب بعبادته فهل هذا سبيل الله؟ هو سبيل الشيطان.

    أهمية تربية الناس وتهذيبهم في البلاد الإسلامية المحتلة

    وعندنا مثل حي: إخواننا في الأفغان، والله! أتكلم على علم، لما انتشرت الشيوعية بينهم انتشاراً وكانت منتشرة في العالم الإسلامي بكامله إلا من رحم الله، لو كان هناك رشد ونوع من العلم والبصيرة، لكانوا سيهذبون إخوانهم ويؤدبونهم ويزيلون هذه الفتنة من قلوبهم ويعبدون الله عز وجل ولا يخافون من الشيوعية، فيقبلون أرجل إخوانهم، ويقول له: اترك هذا المبدأ أو هذا الكلام، أنت مسلم وهذا بلد إسلامي، لو فعلوا بصدق لما انتشرت الشيوعية في بلادهم، ولما احتاجوا إلى قتالها وقتالهم، فلما سكتوا وكانوا هابطين مثلنا وفتحوا أفواههم ورغبوا في الباطل انتشرت الشيوعية، من نشرها؟ هل نشرتها روسيا؟ لا والله، هم بأنفسهم، لما أعلنا الحرب على الشيوعية كان المجاهدون منا والمقاتلون الأعداء منا أيضاً، وأمدتهم روسيا، طلبوا منها المدد فأمدتهم، لا حرج في هذا أبداً، ومع هذا انهزمت الشيوعية، لما انهزمت لم ما رفعت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله وساد الطهر والأمن والصفا وتحرك المجاهدون؟ لقد كنا نقول بعد انهزام روسيا: والله لن ننتهي إلا إلى فلسطين. كنا نحلم بهذا إلى فلسطين، لكن الذي وقع هو الخلف والفرقة والدماء والدموع والبكاء والصياح والهول إلى اليوم، ما سبب ذلك؟ لأنهم ما بايعوا إماماً ليعبدوا الله تحت رايته، وذهبت بنفسي نائباً وهذا الدكتور أبو عظمة معي؛ أنابنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، وزرنا مخيمات القادة والأحزاب، وبكينا وبينا لهم فرفضوا، هل تكون العاقبة حميدة؟ والله لن تكون، لقد كانت سيئة، ما هناك من يكذبني، هذا هو الواقع؟
    إذاً: في أي بلد آخر يحكمه الكفار إذا أردنا أن نقيم دعوة الله ويعبد الله فعلى المسئولين فيه أن يأخذوا في تهذيب الناس وإصلاح نفوسهم وتطهيرهم حتى يصبحوا أولياء الله، وهذا أمر ما يحتاج إلى مدفع ولا إلى رشاش، فإذا أقبلت أمة على الله نصرها الله، وإذا رفعت صوتها وكبرت أعانها الله، أما أننا نقاتل لنحكم فقط؛ فقد جربنا هذا في أربعين إقليماً من أقاليم الإسلام فهل استفدنا شيئاً، هل حققنا شيئاً؟

    نقد تصرفات الجماعات التكفيرية المسلحة


    وأخرى: الذين يطالبون بقتال في بلادهم ويقولون: الحكام كفار، والعلماء سكتوا فهم كفار والأمة كافرة

    فما هي النتائج التي يمكن أن يظفروا بها؟ قد ينتقمون فقط ويشفون صدورهم من فلان وفلان، أما أن يقيموا دولة في تلك الأمة الإسلامية فهذا من باب ما لا يقع، لا وجود لهذا، كل ما في الأمر أنهم يسفكون الدماء ويروعون الآمنين والآمنات، وينشرون صورة قبيحة للإسلام الذي يقتل بعض أهله بعضاً.
    والله الذي لا إله غيره! إني لأكلمكم على علم من الله، ما هو بهوى؟ يا أهل الإقليم الفلاني! اعملوا على إصلاح إخوانكم، قبلوا أرجلهم وأيديهم، أغلقوا المقاهي، أغلقوا المصانع الفاجرة، بالحكمة والموعظة حتى تطهر بلادكم، وحينئذ نرفع راية لا إله إلا الله ونكون أمة مسلمة، أما أن نتكالب على أوساخ الدنيا وأوضارها، وهذا يصلي وهذا يكفر ونريد أن نقيم في دولة إسلامية فمن أذن في هذا؟


    شروط الخروج للجهاد في بلد محتل


    وأخيراً: البوسنة والهرسك، اشتكى الناس، وقالوا: الشيخ يقول كذا وكذا، والذي قلته: هل هو جهاد؟ أقول: إن بايعوا إمامهم بيعة إسلامية، واستجابوا لأمر الله وأقاموا الصلاة واستتر نساؤهم، ومنعت الخمور، وقالوا: ربنا الله ولا إله إلا الله؛ فهذا جهاد، يريدون أن يعبد الله وحده، أما أن نقاتل الدولة الكافرة نقول: كيف تحكمنا وكيف تسودنا؟ هذا ما هو بالجهاد، هذا دفع ظلم إن شئتم.
    ومن هنا: قلت: يا عبد الله! إذا كانت أمك وأبوك راضيين بخروجك والتحاقك بالبوسنة والهرسك فهذا أول شرط: لا تخرج إلا برضا أبويك، إذ الرسول قال: ( ففيهما فجاهد ).
    ثانياً: أن تكون قادراً على أن تقاتل، لك قوة بدنية، قوة عقلية، تدريب عسكري، لك قدرة.
    ثالثاً: أن يسمح لك الحاكم الذي أنت في دولته ويأذن لك بالخروج، بهذه الشروط الثلاثة لك أن تذهب لتقاتل مع إخوانك لتدفع عنهم الظلم الذي حل بهم:
    أولاً: أن تكون قادراً؛ لأننا عرفنا جماعات ذهبوا إلى أفغانستان وذهبوا لكل جهة وما فعلوا شيئاً، وردوا البلايا والمحن، بل كانوا فقط يأكلون طعام المجاهدين هناك أو المقاتلين.
    ثانياً: أذن لك أبواك أم لا؟ ثالثاً: أذن لك الحاكم أم لا؟ هذه ثلاثة شروط، أما المعاونة بالمال فمسموح بها للفقراء وللجرحى وللمرضى وكل ذلك فيه خير كثير، أما كلمة جهاد فلن يتم جهاد حتى تعلن كلمة لا إله إلا الله ويعبد الله.

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #329
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (16)
    الحلقة (328)
    تفسير سورة المائدة (23)


    أنزل الله عز وجل التوراة على موسى عليه السلام لما استقل بنو إسرائيل وخرجوا من سلطان الفراعنة، وجعل فيها الهدى والنور ليحكم بها في الناس النبيون من عهد موسى إلى ما قبل عهد عيسى عليه السلام، ثم كلف سبحانه الأحبار من أهل الكتاب أن يحكموا بما فيه كما حكم أنبياؤهم، ولا يخشون أحداً من الناس وإنما يطلبون بحكمهم وجه الله والحق، فلما جاء عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل مصدقاً لما في التوراة وأمره أن يحكم به، وأمر أتباعه أن يحكموا به من بعده.
    قراءة في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات، لكن أريد أن أذكركم بالآيات قبلها، إذ هي كالسلسة الذهبية متصلة الحلقات، فاسمعوا تلاوة الآيات التي درسناها قبل هذه وتأملوا.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ [المائدة:41-43].
    هداية الآيات
    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: استحباب ترك الحزن باجتناب أسبابه ومثيراته ]، أما قال تعالى موجهاً رسوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41] من المنافقين واليهود؟إذاً: يستحب لنا الاقتداء برسول الله؛ أننا نترك الحزن ونبتعد عنه؛ وذلك بترك أسبابه واجتناب مثيراته.[ ثانياً: حرمة سماع الكذب لغير حاجة تدعو إلى ذلك ]، إن دعت الحاجة إلى أن تسمع في حادثة معينة، في قضية معينة وهم يسمعونك الكذب الذي قيل فلا بأس، أما بدون حاجة تستدعي أن تسمع فلا يحل لنا أن نسمع الكذب، سواء كان في صحيفة أو جريدة أو في إذاعة أو في مجلس أو من محب، من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، وهذا ذم لهم وتقبيح لحالهم وسوء فعالهم: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة:42]، هل المؤمنون الصادقون سماعون للكذب؟ الجواب: لا، وإن ابتلي المؤمنون بذلك حين لم يعرفوا الطريق، يجلسون الساعة والساعات وهم يسمعون الأباطيل والأكاذيب، وما سبب ذلك أنهم ما عرفوا.[ ثالثاً: حرمة تحريف الكلام وتشويهه للإفساد ]، حرام على مؤمن أن يحدث أو يتكلم بكلام ويحرف بعض التحريف أو يلوي لسانه حتى ما يأتي به على الوجه المطلوب، هذا المسلك يفعله اليهود وحرمه الله علينا، ذمهم بذلك وقال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [المائدة:41].[ رابعاً: الحاكم المسلم مخير في الحكم بين أهل الكتاب، إن شاء حكم بينهم وإن شاء أحالهم على غيره ]، القاضي المسلم إذا تحاكم إليه يهوديان أو نصرانيان أو كافران فهو مخير، إن شاء أن يحكم بينهم حكم، وإن شاء أن يتركهم تركهم، إذ لا خير فيهم.[ خامساً: وجوب العدل في الحكم ولو كان على غير المسلم ]، لقوله تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [المائدة:42]، ما أنت بملزم بأن تحكم بين يهود ونصارى، لكن إن حكمت فاحكم بالعدل؛ لأن الله يحب العدل وأهله.[ سادساً: تقرير كفر اليهود وعدم إيمانهم ] فدلت الآية على هذا وقررت كفرهم وعدم إيمانهم، إذ قال تعالى: وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ [المائدة:43]، وصدق الله العظيم. والآن مع الآيات التي نتدارسها الليلة إن شاء الله.
    تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا...)
    يقول الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [المائدة:44]، من المتكلم بهذا؟ الله جل جلاله، إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44]، من يحكم بالتوراة؟ النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [المائدة:44] وعليهم، يحكمون بها لهم وعليهم، والنبيون: جمع نبي، والأنبياء قيل: أربعة آلاف نبي من موسى إلى عيسى، وقيل: ثلاثة آلاف أو ألف على الأقل، فالتوراة من أنزلها؟ الله تعالى، أنزلها على نبيه موسى عليه السلام، واسمع ما يقول تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44]، اسلموا قلوبهم ووجوههم لله، وهذه صفعة على وجه الكافرين من اليهود والنصارى، أبوا أن يسلموا وأنبياؤهم كانوا مسلمين على ملة إبراهيم ملة الإسلام، لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيّ ُونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة:44]، أي: يحكمون كذلك بالتوراة، فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا [المائدة:44-45] أي: في التوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:45-47]. فهيا نتدارس هذه الآيات.قول ربنا جل ذكره: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [المائدة:44]، التوراة الكتاب المعروف، أنزله الله تعالى على نبيه موسى بن عمران، لما استقل بنو إسرائيل وخرجوا من سلطان الفراعنة، ووصف التوراة بأن فيها الهدى إلى كل كمال وإسعاد، إلى كل إعزاز إلى كل تطهير وصفاء، وفيها نور يلوح لأصحابها لا يغشون الظلمات ولا يتخبطون في الجهل والشر والفساد، حقاً جعل الله فيها الهدى والنور.ثم أخبر فقال: يَحْكُمُ بِهَا [المائدة:44] أي: بالتوراة النَّبِيُّونَ [المائدة:44]، النبيون من عهد موسى إلى عيسى، وكانوا أكثر من ألف نبي، يحكمون بها كما نحكم نحن بالقرآن، نحل ما أحل ونحرم ما حرم، نعطي هذا حقه ونأخذ من هذا ما أخذه بالباطل.وقوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44]، أسلموا لله قلوبهم ووجوههم، أنت مسلم يا عبد الله؟ قال: أي نعم، قلنا: ماذا أسلمت لله؟ قلبك مع الدنيا والشهوات والأهواء، أتكذب؟ فماذا أسلمت؟ إنه يقال: أسلم الشيء يسلمه: إذا أعطاه؛ فالإسلام معناه: أن نسلم قلوبنا لله، فلا تتقلب طول حياتنا إلا في رضا الله، ونسلم وجوهنا لله، فلا ننظر إلا إلى الله، هو الذي نرهبه، هو الذي نحبه، هو الذي نطيعه ونعبده، هذا الإسلام.قال: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44]، وهي إشارة أفصح من عبارة؛ أن الأنبياء من عهد إبراهيم إلى عيسى كانوا مسلمين، أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، واليهود والنصارى يحاربون رسول الإسلام والمسلمين ويدعون أنهم أهل كتاب! أنبياؤكم كانوا مسلمين فكيف تكفرون بالإسلام وتحاربونه؟ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [المائدة:44] وهم اليهود، ونعم الأنبياء الذين طبقوا التوراة وحكموا بها من عهد موسى إلى عيسى، حتى عيسى نفسه كان يطبق التوراة، إذ هي أداة الأحكام وبيان الحلال والحرام، أما الإنجيل فمواعظ وحكم، ونسخ الله به بعض الأحكام تخفيفاً على الناس. يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيّ ُونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [المائدة:44]، الربانيون والأحبار أيضاً يحكمون بالتوراة ويطبقونها، والربانيون: جمع رباني، ويروى أن علياً قال: إني لرباني. والأحبار جمع حبر، وعبد الله بن عباس معروف بلقب الحبر، حبر هذه الأمة، فالرباني هو العالم المتبحر في علمه المربي لغيره، هذا هو الرباني، عبد عرف الله والطريق إليه، ثم أخذ يدعو الناس إلى ذلك ويربيهم فهو يقال فيه: رباني، قطعاً هو عالم ولا شك في ذلك، ولكن زاد على كلمة العلم والمعرفة العمل ثم التربية والتعليم لغيره، والأحبار: جمع حبر، العالم الذي يبين للناس ويعرفهم بشرع الله عز وجل.
    معنى قوله تعالى: (فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً...)
    ثم قال تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] هذا قيل للرهبان، للربانيين والأحبار من أهل الكتاب، نهاهم أن يخشوا الناس ويخافوهم، وأوجب عليهم خشيته وخوفه، وحرم عليهم بيع الأحكام الشرعية بالأثمان المادية، عطشت، جعت، مرضت، إياك أن تتنازل عن آية واحدة من أجل صحتك أو شبعك. وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [المائدة:44]، وليس المعنى أنه يبيع الآية، بل يبيع حكمها ومعناها، يجحد معناها، فيحل ما تحمله من حرام من أجل مصلحة دنيوية، وهذا معروف. وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، هذا نزل في التوراة وعرفه الله الربانيين والأحبار ودعاهم إلى القيام به وعرفوه، وبعد ذلك ما الذي حصل؟ اشتروا بآيات الله تعالى ثمناً قليلاً، باعوا الآخرة بالدنيا، إذاً: فهم في ذلك كافرون: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وقد بعثوا من فدك أو خيبر بعثاً يحاولون أن يطبقوا أهواءهم على الشريعة وينكروا الرجم الموجود في التوراة، وعلى كل حال نذكر هذا ونحن نشاهد واقع المسلمين وما هم فيه.قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:44] فاعتاض عنه غيره أو حوله وبدله وغيره لمنافع مادية فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] حقاً وصدقاً.
    تفسير قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ...)
    قال تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا [المائدة:45] أي: فرضنا في التوراة القصاص: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45] بحسب قوتها وضعفها، هذا في التوراة.ثم قال تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45]، من تصدق بسنه، ما طالب بكسر السن الآخر، من تصدق بذبح أبيه فلم يطالب بذبح أبي الآخر، من تصدق بأذنه؛ أصيب بالصمم من ضربة، وترك ذلك لله؛ فهذا له ذلك: فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45] أي: لذنبه، على شرط: أنه إذا أراد التوبة الحقة أن يأتي ويقول: أنا قطعت أذن فلان، أنا كسرت سن فلان، أقيموا الحد علي، فإن عفي عن هذا كان ذلك كفارة له، فإن لم يتقدم ولم يطالب بإقامة الحد عليه وقطعت أذنه أو كسرت سنه فذلك كفارة له، أما بدون أن تقطع يده أو رجله فلا، لا بد أن يكون تاب وأتى إلى الحاكم ليقول: أقم الحد علي، أو يقوله لأهل المظلوم. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، ما الظلم؟ وضع الشيء في غير موضعه، حكم الله تعالى بقطع اليد فحكمت أنت بالسجن سبع سنين، وضعت الشيء في غير موضعه أم لا؟ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:45] واستبدل بأحكام الله أحكام الهوى وما تمليه النفوس وما تمليه الشياطين، فهل هذا ظالم أو عادل؟ والله إنه لظالم، حكم الله بين أيدينا: فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، تقدم إليه خصمان فحكم بالباطل لأحدهما مقابل رشوة، وضع الحكم في غير موضعه، فهو ظالم، كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو ظالم.
    معنى قوله تعالى: (فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً...)
    ثم قال تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] هذا قيل للرهبان، للربانيين والأحبار من أهل الكتاب، نهاهم أن يخشوا الناس ويخافوهم، وأوجب عليهم خشيته وخوفه، وحرم عليهم بيع الأحكام الشرعية بالأثمان المادية، عطشت، جعت، مرضت، إياك أن تتنازل عن آية واحدة من أجل صحتك أو شبعك. وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [المائدة:44]، وليس المعنى أنه يبيع الآية، بل يبيع حكمها ومعناها، يجحد معناها، فيحل ما تحمله من حرام من أجل مصلحة دنيوية، وهذا معروف. وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، هذا نزل في التوراة وعرفه الله الربانيين والأحبار ودعاهم إلى القيام به وعرفوه، وبعد ذلك ما الذي حصل؟ اشتروا بآيات الله تعالى ثمناً قليلاً، باعوا الآخرة بالدنيا، إذاً: فهم في ذلك كافرون: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وقد بعثوا من فدك أو خيبر بعثاً يحاولون أن يطبقوا أهواءهم على الشريعة وينكروا الرجم الموجود في التوراة، وعلى كل حال نذكر هذا ونحن نشاهد واقع المسلمين وما هم فيه.قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:44] فاعتاض عنه غيره أو حوله وبدله وغيره لمنافع مادية فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] حقاً وصدقاً.
    تفسير قوله تعالى: (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة...)
    ثم يقول تعالى: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ [المائدة:46]، والحديث كله عن بني إسرائيل، فمن عند قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41] وهو يعلمه، وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:46]، قفينا على آثار الأنبياء والأحبار والربانيين بعيسى ابن مريم، وعيسى ابن مريم لا أب له، وإنما كان بكلمة (كن) الإلهية فكان، هذا هو روح الله، وكلمة الله التي ألقاها إلى مريم ، عيسى ابن مريم، ومعنى مريم: خادمة الله، يا من يسمي ابنته مريم! لتعلم أن معناها خادمة الله وعابدته. وهل تعرفون عن مريم هذه شيئاً؟ النصارى يعرفون عنها الترهات والأباطيل، واليهود يعرفون عنها الكذب والضلال والبهتان، ونحن نعرف عنها أنها بنت عمران، أمها حنة عليها السلام كانت لا تلد، فيها عقم أو عقر، وتاقت نفسها إلى الولد كسائر النساء اللائي لم يلدن إلى اليوم، فشاء الله أن تدخل حديقة المنزل وإذا بها تشاهد عصفوراً يزق أفراخه، العصور الصغير يأتي بالطعام في فيه ويصبه في أفواه أفراخه، فجاشت نفسها وهاجت من ذلك المنظر، وقالت: يا رب! إن أعطيتني ولداً فهو لك، خاص بعبادتك، نذرت لربها هذا النذر، وشاء الله أن تحمل، وحملت بـمريم ، وقالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا [آل عمران:36] خادمة الله مَرْيَمَ [آل عمران:36]، استعجبت من كونها ولدتها بنتاً، هي نذرت الولد لله يخدمه، بالجهاد، العلم، التعليم، ما يخدمها في شيء أبداً، ولا يأتيها بالماء، لكن البنت كيف تخدم الله إلا إذا حبست في مقصورة تعبد الله.وهذه الربانية وضعتها في قماطة وقالت لخادمة: اعرضيها على علماء بني إسرائيل من يأخذها؛ فهذه نذيرة الله، أنا نذرتها لله، فعرضتها على علماء بني إسرائيل الربانيين، وعلى رأسهم زكريا أبو يحيى، فكل تاقت نفسه لأن يأخذها؛ لأنها بنت رجل صالح توفي وهي في بطن أمها يتيمة، وقبل ذلك هي نذيرة، أي: منذورة لله، فمن يكرمه الله بأن تتربى في بيته؟ فاضطروا إلى القرعة، اضطروا إلى استعمال القرعة أو الاستهام، فجمعوا أقلامهم، هاتوا أقلامكم الطاهرة التي تكتب التوراة وتكتب العلم الرافع للإنسان والمطهر له، فجمعوا أقلامهم، وقالوا: نلقيها في النهر، فالذي وقف قلمه في الماء هو الذي أعطاه الله هذه النذيرة، أخذوا القلم الأول فكان يدحرجه الماء، والثاني يدحرجه الماء، ولما جاء قلم زكريا وقف كأنما غرس بالطين، قال تعالى: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، من الذي كفلها زكريا؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه، أخذها زكريا، وزوجته أخت لـمريم ، فهي عند خالتها، وزكريا نبي لله وأب لرسول الله، فماذا يصنع؟ تركها في مقصورة في المحراب في المسجد، ويأتيها بالطعام والشراب، وهي تتوضأ وتصلي، ما هناك مهمة إلا هذه، تذكر الله وتسبحه وتظل راكعة ساجدة، لهذا خلقت، ولهذا نذرتها أمها، وسبحان الله! كان إذا جاءها بالغداء والعشاء يجد عندها فاكهة في الشتاء وهي فاكهة الصيف، يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، فتعجب وقال لها: أَنَّى لَكِ هَذَا [آل عمران:37] يا مريم ؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37] هذه ربانية أم لا؟ قالت: هُوَ [آل عمران:37] أي: هذا اللون من الطعام من عند الله عز وجل، لا إله إلا الله، الله يخرق السنة ويبطلها إذا شاء، يبطل العادات، ففاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38]، أفاق من غفلة ما كانت تخطر على باله: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38] ماذا قال؟ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:38-39]، أين وجدته؟ هل في الحفل؟ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:39] بلغته رسالة الله: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39]، هذا يحيى، مصدقاً بكلمة من الله، أول من آمن بعيسى هو، قال: عيسى عبد الله ورسوله. إذاً: فلما بلغت الملائكة البشرى لنبي الله زكريا عليه السلام قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [آل عمران:41]، حتى أعرف الخبر هذا كيف يتم، ومتى يتم، اجعل لي علامة يا رب؟ قال: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41]، آيتان في هذا الباب، ثلاث ليالٍ سوياً ما يستطيع أن يتكلم مع أحد ولكن يذكر الله بأعلى صوته، في ذكر الله وتسبيحه وتقديسه تجد لسانه منطلقاً أفصح منا، لكن: أعطني الماء، صب كذا كل ذلك لا يستطيعه إلا رمزاً بالإشارة، فهل هذه أعظم آية أم لا؟ الفصيح البليغ يتكلم بما شاء وهنا ما يستطيع أن يتكلم بغير ذكر الله أبداً، ويطلب حاجته بالإشارة! إذاً: هذه بشرى الله لزكريا، وزكريا هذا دخل تحت شجرة هرب إليها وفتحت الشجرة أغصانها ودخل فيها فنشره اليهود بالمنشار مع الشجرة، ماذا فعل اليهود؟ قتلوا والده زكريا أولاً وقتلوا ولده يحيى، رسولان نبيان، ومريم العذراء البكر عليها السلام وهي في محرابها تبشر أيضاً ويأتيها رسول الله جبريل يبشرها فتتعجب: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20] كيف؟ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ [مريم:21].وما هي إلا أن هزها الطلق فلجأت إلى نخلة، وما إن وضعت حتى نطق عيسى: إني عبد الله. هذه هي مريم، ولدت عيسى من بطنها، نفخ جبريل في كم درعها فسرت النفخة إلى بطنها فقال الله: كن فكان، ففي ساعة واحدة وهي تبحث عن موضع الولادة، فَانتَبَذَتْ بِهِ [مريم:22] على الفور مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:22-25] في الشتاء تتساقط عليك الرطب.والشاهد عندنا ذكر عيسى بن مريم، فاليهود يقولون: عيسى ساحر لأنه يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأعمى والأبرص، هذا من سحره، وأمه يقولون عنها: فاجرة عاهرة إلى الآن، والنصارى قالوا: هذا ابن الله. وبعضهم قالوا: لا. هذا هو الله، هو الإله. وتخبطوا وضلوا لأن نور الله عموا عنه وأبوا أن ينظروا إليه، فالقرآن الذي أنزله الله هو الذي فيه بيان الحق في عيسى وأمه، عيسى عبد الله ورسوله وأمه مؤمنة طيبة صديقة، هكذا وصفها الله بالصديقية: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75].
    معنى قوله تعالى: (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة...)
    وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ [المائدة:46] أولئك الأنبياء والرسل والربانيون والأحبار بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [المائدة:46]أي: من التوراة، وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ [المائدة:46] الإنجيل كتاب الله رابع الكتب الأربعة المعروفة عندنا في عقيدتنا: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فالقرآن الكريم هو الفرقان. ماذا في الإنجيل؟ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ [المائدة:46] لا يتنافى أبداً مع التوراة إلا ما نسخه الله من بعض الأحكام، وفيما عدا ذلك الإنجيل يوافق التوراة مثل القرآن مصدق الذي بين يديه من الإنجيل والتوراة. قال: وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [المائدة:46] فيه الهداية لسبل الرشد والخير، وفيه المواعظ للمتقين ينتفعون بها، الإنجيل أكثره مواعظ وحكم.
    تفسير قوله تعالى: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه...)
    ثم قال تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ [المائدة:47] أيضاً، فكما على أهل التوراة أن يحكموا بالتوراة كذلك على أهل الإنجيل أن يحكموا بالإنجيل. أولاً: أين الإنجيل؟ أصبح خمسة أناجيل فكيف يعرف الحق فيه؟ الإنجيل كان إنجيلاً واحداً فزيد فيه أربعة أناجيل أخرى فضاع الحق وما أصبح له وجود، لكن لو حكموه لوجدوا نعوت الرسول وصفاته، وأن من لم يؤمن بالنبي الخاتم هو كافر، ولكانوا آمنوا، فوالله إن به لنعوتاً لرسول صلى الله عليه وسلم وصفات له، وفيه الأمر بالإيمان به والدخول في دينه، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه لا بما افتراه المفترون وكذب به الكاذبون. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] الخارجون عن طاعة الله ورسوله البعيدون عن الحق وأنواره، هذا قضاء الله تعالى وحكمه عليهم.
    طريق العودة إلى تحكيم شرع الله تعالى
    والآن المسلمون من إندونيسيا إلى موريتانيا -باستثناء هذه البلاد- لم لا يحكمون القرآن؟ لم يتحاكمون إلى غيره؟ ماذا نصنع؟ نقول: الجهل، جهلوهم وأضلوهم وأبعدوهم عن طريق الله فهم في متاهاتهم. لو عادوا إلى الكتاب والسنة في يوم ما لحكموا شرع الله، وهنا بلغوا أنه لو أراد أهل بلد من بلادنا الإسلامية -لا أقول: أهل إقليم ولا دولة- أهل بلد فقط لو أرادوا أن يحكموا شرع الله فما أيسر ذلك وأسهله، يجتمعون في مسجدهم الجامع بنسائهم وأطفالهم، كل ليلة يصلون المغرب والعشاء ويتعلمون الكتاب والسنة، عام واحد وإذا بهم أطهاراً أصفياء أرقاء القلوب أزكياء الأرواح والنفوس، ومن ثم إذا حصل خلاف بين مؤمن وآخر فبدل أن يذهبوا إلى الشرطة أو الحاكم يأتون إمام المسجد يعرضون عليه القضية ويحلونها بالموعظة الحسنة، ويعيشون دهوراً لا يحكمون غير كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. لو أن أهل بلد من البلاد أخذوا على أنفسهم أن يجتمعوا كل ليلة طول عمرهم في بيوت الله التي بنوها بأيديهم، يصلون المغرب كما صليناها ويجلسون جلوسنا هذا ويتلقون الكتاب والحكمة حتى يؤذن العشاء فيصلون العشاء، أقول: والله بعد عام فقط يندر أن تظهر بينهم معصية، لا شرب خمر ولا حشيشة ولا زنا ولا لواط ولا ربا ولا كذب ولا قتل ولا اعتداء. وإن حصل شيء من هذا النوع مرة في مسجدهم فترفع قضيته إلى إمامهم ومربيهم ويصلح ما بينهم ويتسامحون، وما هم في حاجة إلى أن يقدموا قضيتهم إلى حاكم يحكم بغير ما أنزل الله، فلم لا نفعل هذا؟ لأن العدو من الإنس والجن لا يريدون أن يسعد المسلمون ويكملوا، وإلا فهذا الطريق ماذا يكلفهم؟ يعملون لدنياهم من بعد صلاة الصبح إلى قبل غروب الشمس في المصانع والمتاجر والمزارع، مالت الشمس إلى الغروب في الساعة السادسة فتوضئوا وتطهروا وغيروا ملابس العمل وجاءوا بأطفالهم ونسائهم إلى بيت ربهم الأطفال صفوف والنساء وراءهم والرجال والفحول أمامهم، بعد الصلاة مباشرة يأخذون ليلة آية من كتاب الله وأخرى حديثاً من أحاديث الرسول، العام فيه ثلاثمائة وستون ليلة، فيحفظون ثلاثمائة وستين آية وحديثاً، ويفهمون معانيها ويطبقونها كل ليلة، ما إن يعلموا الحكم في تلك الليلة حتى يطبقوه على أنفسهم ويتحلوا به على الفور، سواء كان أدباً أو خلقاً أو عقيدة أو عبادة. أسألكم بالله! بعد عام واحد كيف يكون أهل القرية؟ هل يبقى فيهم اللصوص والمجون والكذب والخيانة؟ هل تصدر فتيا من إمام المسلمين بأن الدش حرام ويعملونه؟ والله ما يعملونه. فهذا مثال. ومن ثم لا يحكمون غير شرع الله وغير كتاب الله أبداً ولا يلتفتون إلى حكومتهم ولا إلى باطلهم، مؤمنون مسلمون يتسامحون، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45]، يقول: تصدقت بدمي على أخي، ويباركه أهل الحي كلهم ويكبرون ويهللون. فكيف نعود؟ ما هناك طريق يا أبناء الإسلام إلا أن علماءنا يحملون هذه الرسالة ويتحولون إلى ربانيين، فيجمعون أهل القرية ويأتون إلى غنيهم وفقيرهم وإلى عالمهم وجاهلهم ليجمعوهم في بيوت الله في هذه الساعة من الليل ما بين المغرب والعشاء. ويأخذون بتزكية أنفسهم وتهذيب أرواحهم وتهذيب آدابهم وأخلاقهم، وهم يشاهدون ذلك يوماً بعد يوم، ما يسمعون بحادثة وقعت في القرية، ما يشاهدون جائعاً ولا عارياً ولا مظلوماً؛ لأنهم كجسم واحد ثبتت لهم ولاية الله، لو رفعوا أيديهم إلى الله أن يزيل الجبال لأزالها، ما المانع من هذا؟ سواء كنا في فرنسا أو إيطاليا أو ألمانيا أو بلجيكا وأمريكا، أبواب الله مفتوحة لا منع أبداً، فكيف ببلاد المسلمين وحكومات المسلمين، هل يمنعونهم أن يجتمعوا في بيوت الله؟ على سبيل المثال: أنصار السنة في الديار المصرية هل أغلقت مساجدهم؟ هل حوربوا؟ هل سجنوا؟ هل قتل منهم أحد؟ لم؟ لأن المسلك رباني، يتعلمون كيف يعبدون الله، هذا مثال فقط. أما الإثارات والتكالب على الدنيا وما إلى ذلك فهو الذي يسبب تلك الفتن، ومع هذا أقول: في أي مسجد يجتمع المسلمون على كتاب الله وسنة رسوله لا يؤذيهم أحد أبداً. وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #330
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )




    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (17)
    الحلقة (329)
    تفسير سورة المائدة (24)


    بعد أن ذكر الله سبحانه إنزاله التوراة والإنجيل وما فيهما من الهدى والنور، أردف ذلك بذكر إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه مهيمن على كل الكتب التي نزلت قبله، لذلك فإن الحكم الذي يحكم به القرآن هو حكم الله سبحانه وتعالى، سواء وافق ما في التوراة والإنجيل أو لم يوافق، فهو الدستور الذي تقوم به الأمة، ومهما طلب الحق من غيره فإنما هو تحاكم إلى الأهواء والرغبات الشخصية والأعراف الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان.
    قراءة في تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة، وها نحن مع هذه الآيات المباركات، أسمعكم تلاوتها أولاً ثم أعود بكم إلى بعض الأحكام التي درسنا آيها في الليلة الماضية. قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:48-50].
    هداية الآيات
    الآيات التي درسناها بالأمس أشير إلى هداياتها، فقد كانت تتضمن هذه الهدايات. يقول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات: أولاً: وجوب خشية الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم ].في الآيات التي تدارسناها البارحة هذه الهداية، وهي وجوب خشية الله، وذلك بأداء وفعل ما أوجب والبعد عما نهى وحرم، فهذا أمر واجب، وجوب خشية الله أي: الخوف من الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم، والذي يقول: أنا أخاف الله وأنا أخشاه ولا يفعل واجباً ولا يترك الحرام هل يصدق؟ لا يصدق؛ لأن الخشية خوف النفس وخوف القلب، فالذي خافت نفسه واضطربت ما يقدم على معصية الله فيتعرض لغضبه وعذابه. [ ثانياً: كفر من جحد أحكام الله فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض ].كفر من جحد أحكام الله فقال: لا أعترف بهذه الشريعة ولا بما تحمله من أحكام في الدماء والحدود في الأموال في العبادات في العقائد، قطعاً هذا كافر، ومن يقول: ليس بكافر؟ كفر من جحد أحكام الله فعطلها، ولو وطبقها لكان الأمر غير هذا، لكن جحدها فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض، فهذا كافر. [ ثالثاً: وجوب القود في النفس]، والقود هو قتل النفس بالنفس، [ والقصاص في الجراحات؛ لأن ما كتب على بني إسرائيل كتب على هذه الأمة ]، قال تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45].
    ذكر بعض أحكام الديات
    وهنا لا بأس أن نعلم بعض الأحكام، فالذي عليه أكثر أئمة الإسلام وهداته رحمهم الله أن المسلم لا يقتل بالذمي، المسلم لا يقتل بالذمي الكتابي اليهودي أو النصراني، فكلمة (النفس بالنفس) هذا اللفظ عام قيده رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أوحى الله إليه إذ قال: ( لا يقتل مسلم بكافر )، وسر ذلك هو أن المؤمن يذكر الله ويشكره ويعبده ولذلك خلقه ربه، والكافر لا يذكر ولا يشكر، فعطل الحياة كلها فلا قيمة لوجوده. فلو سألتم وأنتم أهل الإسلام: ما السر في خلق هذا الوجود؟ فالجواب: أراد الله أن يذكر ويشكر فأوجد هذه الحياة وأوجد آدم وذريته وأوحى إليهم أن: اعبدوني بالذكر والشكر، فمن ذكر وشكر رفعه إليه وأسكنه بجواره بعد موته، ومن ترك الذكر والشكر وكفر أنزله إلى الدركات السفلى من عالم الشقاء، فالذي يذكر الله ويشكره هل يجوز أن توقف ذلك الذكر والشكر منه بقتله؟ الجواب: لا. والذي لا يذكر ولا يشكر ما فائدة وجوده؟ لا شيء، فيقتل، هل فهتم هذا السر؟ فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يقتل مسلم بكافر )، سواء كان ذمياً أو غير ذمي، إذاً: يعطى وليه نصف دية المؤمن وكفى. ثانياً: لا خلاف أن في العينين دية، فمن فقأ عيني إنسان مؤمن فعليه دية، والدية مائة بعير أو قيمتها بالدراهم والدنانير، إذا فقأ الاثنتين ففي العينين الدية، وفي الواحدة نصف الدية، فقأ عين مؤمن بأن ضربه، لكمه، بحربه، بعود فأصبح لا يبصر فعليه نصف الدية. وفي عين الأعور الدية كاملة، ما عنده إلا هذه العين، خلق أعور أو أصابه مرض فعميت عينه، فصاحب العين الواحدة إذا فقئت عينه وجبت الدية كاملة، بخلاف ذي العينين حيث بقيت له عين يبصر بها فيأخذ نصف الدية، هذا كله إن لم يعف ويتصدق. وفي الأنف إذا جدع -قطع من هنا إلى آخره- الدية كاملة، فالأنف هو مظهر جمال الإنسان، إذا جدع وقطع فيه الدية كاملة، هذا الذي عليه جمهور أئمة الإسلام عليهم السلام. والدية في ذهاب السمع،ى أما مع بقاء شيء من السمع ففيه حكومة، يعني: اللجنة المختصة بهذا تقدر وتحكم بشيء، فلو ذهب السمع كله فأصبح أصم لا يسمع وجبت الدية، لكن إذا كان بقي له السمع وأوذي في سمعه ففيه الحكومة، فالقاضي ورجاله يحكمون بما يجب له. وفي السن الذي نزع أو كسر خمس من الإبل، السن بخمس من الإبل، كسر سنه أو قلعها بخمس من الإبل، للحديث الصحيح في ذلك. وفي الشفتين -إذا نزع شفته العليا والسفلى وتركه بأسنانه- الدية، وفي الواحدة نصف الدية، في الشفتين معاً الدية كاملة مائة بعير أو قيمتها، وفي الشفة الواحدة العليا أو السفلى نصف الدية. واختلف في دية المرأة، والذي عليه أمر الأمة أن المرأة ديتها نصف دية الرجل، وفيما دون النفس أصبعها كأصبع الرجل وسنها كسنه، وهذا أحسن ما قيل، فإذا بلغت ثلث الدية عادت بعد ذلك إلى النصف من دية الرجل. هذا كله مأخوذ من قول ربنا عز وجل: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا [المائدة:45] أي: في التوراة المنزلة على موسى عليه السلام أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45]، في الموضحة وفي أنواع الجروح الأطباء يقدرون ذلك والقاضي يحكم. ثم قال تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ [المائدة:45] لوجه الله فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45]، جرحتني أو كسرت مني سني فتركت ذلك لله، قتلت أبي فتنازلتُ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45]، كفارة لذنوبه، وقد ذكرت لكم أن القصاص كفارة، فمن قتل هل يبقى عليه إثم وقد قتل؟ القصاص كفارة لأصحابه، قطع يداً فقطعت يده فهل بقي عليه شيء؟ انتهى.لكن يحصل على الأجر إذا تقدم للمحكمة وقال: أقيموا علي الحد فإني تبت، أنا قتلت فلاناً والآن أطلب منكم القصاص. بعد هذا نعود إلى آياتنا المباركات فلنستمع إليها من الشرح.
    هداية الآيات
    الآيات التي درسناها بالأمس أشير إلى هداياتها، فقد كانت تتضمن هذه الهدايات. يقول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات: أولاً: وجوب خشية الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم ].في الآيات التي تدارسناها البارحة هذه الهداية، وهي وجوب خشية الله، وذلك بأداء وفعل ما أوجب والبعد عما نهى وحرم، فهذا أمر واجب، وجوب خشية الله أي: الخوف من الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم، والذي يقول: أنا أخاف الله وأنا أخشاه ولا يفعل واجباً ولا يترك الحرام هل يصدق؟ لا يصدق؛ لأن الخشية خوف النفس وخوف القلب، فالذي خافت نفسه واضطربت ما يقدم على معصية الله فيتعرض لغضبه وعذابه. [ ثانياً: كفر من جحد أحكام الله فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض ].كفر من جحد أحكام الله فقال: لا أعترف بهذه الشريعة ولا بما تحمله من أحكام في الدماء والحدود في الأموال في العبادات في العقائد، قطعاً هذا كافر، ومن يقول: ليس بكافر؟ كفر من جحد أحكام الله فعطلها، ولو وطبقها لكان الأمر غير هذا، لكن جحدها فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض، فهذا كافر. [ ثالثاً: وجوب القود في النفس]، والقود هو قتل النفس بالنفس، [ والقصاص في الجراحات؛ لأن ما كتب على بني إسرائيل كتب على هذه الأمة ]، قال تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45].
    قراءة في تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:من هداية الآيات: أولاً: وجوب الحكم وفي كل القضايا بالكتاب والسنة ]، وجوب الحكم وفي كل القضايا حتى في سرقة مكنسة، ما هناك شيء لا يوجد له حكم في الكتاب والسنة، يجب الحكم في كل القضايا بماذا؟ بقانون فرنسا، إيطاليا، الأمم المتحدة؟ بل بالكتاب والسنة، قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم. هل يضيق القرآن والسنة عن أحداث الناس؟ والله لا يضيقان أبداً، عرفنا هذا من قوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:49]، هذا أمر الله للرسول أم لا؟[ ثانياً: لا يجوز تحكيم أية شريعة أو قانون غير الوحي الإلهي الكتاب والسنة ]، لأن القوانين أهلها جهال عميان لا بصيرة لهم ولا عدل فيها ولا رحمة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نحن عبيد الله فرض علينا وألزمنا أن نتقاضى ونتحاكم إليه، فإن قلنا: لا فقد كفرنا به وأعلنا الحرب عليه.وهل تتصورون أن هيئة من الهيئات العليا في العالم تستطيع أن توجد حكماً رحيماً عادلاً أكثر من أحكام الله؟ والله ما كان ولن يكون أبداً، فلا يجوز تحكيم أية شريعة أو أي قانون غير الوحي الإلهي الكتاب والسنة. [ ثالثاً: التحذير من اتباع أهواء الناس خشية الإضلال عن الحق ]، فالذي يتبع أهواء الناس وميولهم وما يريدون فإنهم -والله- يضلونه، فالرسول حذره الله أم لا؟ أما تآمروا وقالوا: هيا نقول له: نحن علماء، وإذا آمنا به اتبعك ناس وآمنوا، ولكن احكم بيننا بالباطل. فلو اتبعهم فماذا سيحصل؟ لكن حذره: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ [المائدة:49]. [ رابعاً: بيان الحكمة من اختلاف الشرائع وهو الابتلاء ]، لماذا يباح لهؤلاء كذا ويمنع عن هؤلاء كذا ويعطى هؤلاء ولا يعطى هؤلاء، لماذا؟ للامتحان للابتلاء، مولانا يبتلينا ليرى المطيع منا والعاصي، فيسعد ويكمل المطيع ويشقي ويعذب العاصي، فلهذا تجد الخلاف في الدول. [ خامساً: أكثر المصائب في الدنيا ناتجة عن بعض الذنوب ]، أكثر المصائب والويلات والفقر والمرض والذل والهون والحرب والفتن -والله العظيم- ناتجة عن الذنوب، أما قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ [المائدة:49]، والأظهر من هذه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
    [ سادساً: حكم الشريعة الإسلامية أحسن الأحكام عدلاً ورحمة ]، إي ورب الكعبة، إي والله، حكم الشريعة الإسلامية أحسن الأحكام عدلاً ورحمة، فلو حكمنا اليهود أو النصارى في قضايا لكان أعدل وأرحم لهم، لكن لا يحكمون ولا نحكم، لا نحكم عليهم ولا لهم حتى يذعنوا لله ويدخلوا في رحمته، أما وهم مصرون على الكفر والشرك والعياذ بالله فحسبهم ذلك. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #331
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (18)
    الحلقة (330)
    تفسير سورة المائدة (25)


    نهى الله عباده المؤمنين عن موالاة غير المؤمنين من اليهود والنصارى، وترك موالاة المؤمنين، لأن اليهودي هو ولي اليهودي، والنصراني هو ولي النصراني، ومن والى اليهود والنصارى من المؤمنين أصبح مثلهم فيحرم هداية الله سبحانه وتعالى، لأن الله لا يهدي القوم الظالمين، وأما المنافقون الذين في قلوبهم مرض فيظنون أن ولايتهم لهؤلاء تجعلهم في مأمن إذا دارت عليهم الدوائر، لكن الله عز وجل يبشر أولياءه المؤمنين بالفتح والتمكين وأن المنافقين سيصبحون نادمين.
    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل القرآن العظيم؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا الخير واجعلنا من أهله يا رب العالمين!وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الأربع، فهيا نتلوها ثم نتدبرها ثم نضع أيدينا على المطلوب منا فيها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ [المائدة:51-53]. هذه الآيات نزلت هنا في المدينة والنفاق له صولة، فتأملوا كيف تجري هذه الأحداث.
    معنى قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)
    قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] ومن تشبه بقوم فهو منهم، هذا الذي أراد أن يكون مثل فلان أخذ يجاهد نفسه لأن يكون مثله في منطقه في نظره في مشيته في أكله في شربه في معاملته، فهل يصبح مثله أم لا؟ ما هناك شك. امرأة أرادت أن تتشبه بعاهرة فتتشبه بها في منطقها حين تنطق، في لباسها، في مشيتها، في حركاتها، لا تزال تتكلف ذلك حتى تكون مثلها، رجل رأى شجاعاً فأحبه فأراد أن يكون مثله فأخذ يتشبه به في حمله السلاح وفي إلقائه وفي الوقوف فلا يبرح أن يكون مثله. فمن تشبه بقوم فهو منهم، والتشبه أن يقصد ويريد ويرغب في أن يكون مثله، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( المرء مع من أحب )، فمن ينقض هذه؟ المرء -أي: الإنسان- مع من أحب، فإن أحب فاسقاً فهو معه لأنه سيعمل الفسق مثله، من أحب عبداً صالحاً حباً حقيقياً فهو معه لأنه سيعمل بعمله حتى يكون مثله، وهكذا. ( المرء مع من أحب ) و( من تشبه بقوم فهو منهم )، والله تعالى هنا يقول: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ [المائدة:51] يا معشر المؤمنين فهو منهم، الذي يتولى اليهود والنصارى ويحبهم وينصرهم على الإسلام والمسلمين فهو والله منهم. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51] تعليل، فكونه منهم لماذا؟ لأن الله لا يهدي القوم الظالمين، أحب الكافرين ونصرهم، أليس هذا هو الظلم؟ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، بدل أن يحب المؤمنين وينصرهم أحب الكافرين ونصرهم فهو ظالم أم لا؟ والظالم هل يهديه الله إلى ما فيه سعادته وكماله؟ والجواب: لا، فهذا تعليل: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
    تفسير قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ...)
    ثم قال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [المائدة:52] أي: مرض النفاق، والنفاق إظهار الإسلام والسلوك العملي في الصلاة أمام الناس حتى الجهاد، وإبطان الكفر وإسراره وإخفاؤه. فهذا رئيس المنافقين كان حليفاً لبعض اليهود، وعبادة بن الصامت كان حليفاً أيضاً لبعضهم، فاختلفا: فـعبادة بن الصامت تبرأ من أولئك اليهود، ولجأ إلى الله وركن إليه، وأما ابن أبي -وهو المريض- فسارع في موالاتهم ونصرتهم والتملق إليهم والاختلاء بهم والتحدث معهم، ويعلل ذلك فيقول: نخشى أن تصيبنا دائرة. يقول: لو أن الرسول مات أو الإسلام انكسر وانهزم فإلى من نفزع إذا لم نتخذ إخواناً لنا وأصدقاء من اليهود؟ وهذا التعليل واضح ويعلله كل إنسان. يقولون: يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52] من الدوائر: فقر أو حرب تأتينا فينكسر الإسلام والمسلمون فماذا نصنع؟ لا بد أن يكون لنا يد عند هؤلاء الجيران من إخواننا اليهود! هذه كلمته وهي كلمة كل من فيه مرض النفاق إلى يوم القيامة، الذي يواد الكافر وينصره ويقف إلى جنبه يقول: نخشى أن نصبح في يوم من الأيام في حاجة إليهم. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم [المائدة:52]، ما قال: يسارعون إليهم؛ لأنهم ما خرجوا عنهم، يقولون معللين ذلك: نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52] قال الله تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52] و(عسى) من الله تفيد التحقيق. فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة:52] فتح خيبر وما دونها وفتح مكة، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [المائدة:52] بأن يكشف أسماءهم في القرآن فتنزل آيات تفضحهم؛ فيصبحوا حينئذ على ما أسروا في أنفسهم من النفاق نادمين.
    معنى قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)
    قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] ومن تشبه بقوم فهو منهم، هذا الذي أراد أن يكون مثل فلان أخذ يجاهد نفسه لأن يكون مثله في منطقه في نظره في مشيته في أكله في شربه في معاملته، فهل يصبح مثله أم لا؟ ما هناك شك. امرأة أرادت أن تتشبه بعاهرة فتتشبه بها في منطقها حين تنطق، في لباسها، في مشيتها، في حركاتها، لا تزال تتكلف ذلك حتى تكون مثلها، رجل رأى شجاعاً فأحبه فأراد أن يكون مثله فأخذ يتشبه به في حمله السلاح وفي إلقائه وفي الوقوف فلا يبرح أن يكون مثله. فمن تشبه بقوم فهو منهم، والتشبه أن يقصد ويريد ويرغب في أن يكون مثله، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( المرء مع من أحب )، فمن ينقض هذه؟ المرء -أي: الإنسان- مع من أحب، فإن أحب فاسقاً فهو معه لأنه سيعمل الفسق مثله، من أحب عبداً صالحاً حباً حقيقياً فهو معه لأنه سيعمل بعمله حتى يكون مثله، وهكذا. ( المرء مع من أحب ) و( من تشبه بقوم فهو منهم )، والله تعالى هنا يقول: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ [المائدة:51] يا معشر المؤمنين فهو منهم، الذي يتولى اليهود والنصارى ويحبهم وينصرهم على الإسلام والمسلمين فهو والله منهم. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51] تعليل، فكونه منهم لماذا؟ لأن الله لا يهدي القوم الظالمين، أحب الكافرين ونصرهم، أليس هذا هو الظلم؟ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، بدل أن يحب المؤمنين وينصرهم أحب الكافرين ونصرهم فهو ظالم أم لا؟ والظالم هل يهديه الله إلى ما فيه سعادته وكماله؟ والجواب: لا، فهذا تعليل: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
    تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم ...)
    والآيات تعالج أمر المنافقين، وقد برئ وسلم منهم المئات، فتأملوا هذه: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:53] لما يأتي الفتح أو تأتي آيات تفضح المنافقين وتزيل الستار عنهم، يقول الذين آمنوا: أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ [المائدة:53]؛ لأن المنافقين يحلفون بالله أشد الأيمان أنهم مؤمنون وأنهم معهم، يأتي ابن أبي إلى الروضة ويقف ويقول ما حكى الله تعالى عنهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]. يحسنون التعبير ومنطقهم سليم ويضللون بهذا المؤمنين، وها هو ذا عز وجل يكشف الستار عنهم ويفضحهم، يقول تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ [المائدة:53] انظر كيف حبطت أعمالهم فاصبحوا من الخاسرين.
    معنى قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)
    قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] ومن تشبه بقوم فهو منهم، هذا الذي أراد أن يكون مثل فلان أخذ يجاهد نفسه لأن يكون مثله في منطقه في نظره في مشيته في أكله في شربه في معاملته، فهل يصبح مثله أم لا؟ ما هناك شك. امرأة أرادت أن تتشبه بعاهرة فتتشبه بها في منطقها حين تنطق، في لباسها، في مشيتها، في حركاتها، لا تزال تتكلف ذلك حتى تكون مثلها، رجل رأى شجاعاً فأحبه فأراد أن يكون مثله فأخذ يتشبه به في حمله السلاح وفي إلقائه وفي الوقوف فلا يبرح أن يكون مثله. فمن تشبه بقوم فهو منهم، والتشبه أن يقصد ويريد ويرغب في أن يكون مثله، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( المرء مع من أحب )، فمن ينقض هذه؟ المرء -أي: الإنسان- مع من أحب، فإن أحب فاسقاً فهو معه لأنه سيعمل الفسق مثله، من أحب عبداً صالحاً حباً حقيقياً فهو معه لأنه سيعمل بعمله حتى يكون مثله، وهكذا. ( المرء مع من أحب ) و( من تشبه بقوم فهو منهم )، والله تعالى هنا يقول: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ [المائدة:51] يا معشر المؤمنين فهو منهم، الذي يتولى اليهود والنصارى ويحبهم وينصرهم على الإسلام والمسلمين فهو والله منهم. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51] تعليل، فكونه منهم لماذا؟ لأن الله لا يهدي القوم الظالمين، أحب الكافرين ونصرهم، أليس هذا هو الظلم؟ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، بدل أن يحب المؤمنين وينصرهم أحب الكافرين ونصرهم فهو ظالم أم لا؟ والظالم هل يهديه الله إلى ما فيه سعادته وكماله؟ والجواب: لا، فهذا تعليل: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    في هذه الآيات الأربع أربع هدايات:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: حرمة موالاة اليهود والنصارى وسائر الكافرين ].الموالاة: الحب والنصرة، أما أن تتعامل معه، أما أن تتجر معه، أما أن تستخدمه، أما أن يستخدمك، أما أن تحالفه على حرب معينة؛ فهذا أمره واسع، والممنوع الذي لا يصح لا في اليوم الحاضر ولا الآتي، ولا أيام الرسول صلى الله عليه وسلم هو حبك لهم من قلبك ونصرتهم على إخوانك، لو أعلن اليهود الحرب -مثلاً- على الأردن، هل يجوز للمؤمنين أن يقاتلوا معهم؟ مستحيل، لا يمكن أبداً، مثلاً: دولة أوروبية غزت بلداً إسلامياً، هل يجوز للمسلمين أن يقاتلوا معهم؟ لا يجوز، وإن كان بينهم حلف فإنهم لا يقاتلون معهم المؤمنين، يقاتلون معهم الكافرين ولا بأس، حين نعقد الحلف نقول: إذا قاتلتم إخواننا المؤمنين فلن نقاتلهم معكم، وإن قاتلتم كافرين غير مؤمنين فسننصركم، وبهذا تجري الاتفاقيات.إذاً: حرمة موالاة اليهود والنصارى وسائر الكافرين، من أين أخذنا هذه؟ من قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [المائدة:51].[ ثانياً: موالاة الكافر على المؤمن تعتبر ردة عن الإسلام ]، الكافر يؤذي المؤمنين ويحقرهم وأنت تقف إلى جنبه وتنصره! هذا يسلخ عبد الله من الإيمان، لا يبقى مؤمناً أبداً، لو نصره على كافر فلا بأس إذا كان بينهم اتفاقية، أما أن ينصر الكافر على المؤمن فموالاة الكافر على المؤمن تعتبر ردة عن الإسلام.[ ثالثاً: موالاة الكافرين ناجمة عن ضعف الإيمان، فلذا تؤدي إلى الكفر ].موالاة الكافرين سببها ماذا؟ ناتجة من أين؟ ناتجة عن ضعف الإيمان، لو قوي إيمان العبد ما والى كافراً، تكفيه ولاية الله والمؤمنين، لكن إذا ضعف إيمانه فقد يوالي الكافرين، فموالاة الكافرين ناجمة عن ضعف الإيمان، فلذا تؤدي إلى الكفر شيئاً فشيئاً.[ رابعاً: عاقبة النفاق سيئة ونهاية الكفر مريرة ].النفاق -معاشر المؤمنين طهر الله منه قلوبنا وقلوبكم- هو أن يؤمن بالباطل بقلبه ويدعي الإيمان بلسانه أنه يؤمن بالله وبلقائه.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #332
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (19)
    الحلقة (331)
    تفسير سورة المائدة (26)


    الله عز وجل غني عن عباده، فهو سبحانه القهار الواحد الأحد الصمد، وقد بين سبحانه في هذه الآيات أن من يرتد بعد إيمانه فإن الله سيأتي بقوم آخرين يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، وأعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله لينشروا في الناس نور الإسلام، وهؤلاء هم أولياء الله ورسوله والمؤمنين، وأولياء الله هم الغالبون.
    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:54-56].معاشر المستمعين والمستمعات! أعيد إلى أذهانكم أن الله تبارك وتعالى نادانا في كتابه القرآن العظيم تسعة وثمانين نداء بقوله: ( يا أيها الذين آمنوا ). وعرفنا أن الله عز وجل منزه عن اللهو واللعب، فهو لا ينادينا إلا لواحدة من خمس: إما ليأمرنا بفعل ما يسعدنا ويكملنا في الدنيا والآخرة، أو لينهانا عما يشقينا ويردينا ويخسرنا في الدنيا والآخرة، أو ليبشرنا بما نزداد مسابقة في الخيرات ومنافسة في الصالحات، أو تحذيراً لنا من عواقب السوء، أو ليعلمنا ما نحن في حاجة إلى علمه.تتبعنا واستقصينا كتاب الله فوجدنا نداءات الرحمن لعباده المؤمنين تسعة وثمانين نداء، وأضفنا إليها نداء آخر فأصبحت تسعين، وهذا النداء هو: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1] الآيات، فهو وإن كان في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم لكنه في الواقع لأمته، فلهذا كتبنا ذلك الكتاب وسميناه: (نداءات الرحمن)، ودرسناه في هذه الحلقة ثلاثة أشهر وزيادة، وطبع ووزع مجاناً، وقلنا: لو كنا أحياء أو دبت الحياة فينا لترجم هذا الكتاب إلى لغات المسلمين عامة، ويوضع عند سرير كل ضيف في أي فندق من الفنادق، فقد اشتملت تلك النداءات على كل ما هو في القرآن من الوضوء والغسل إلى الرباط والجهاد، بيان الحلال والحرام، في السلم في الحرب، في الجهاد وفي غيره.. كل المتعلقات بحياتنا موجودة في تسعين نداء، والقرآن نقرؤه على الموتى ولا نشعر بما فيه، وهذا شأن أمة هبطت من علياء السماء فلصقت بالأرض. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:54] يقول تعالى منادياً لنا، فنجيبه: لبيك اللهم لبيك، مَنْ يَرْتَدَّ [المائدة:54]، و(من يرتدد) قراءة نافع ، فقراءة أهل المدينة وأهل الشام: (من يرتدد) بالفك، والكل صالح، والقرآن نزل على سبعة أحرف، والارتداد معروف، مشى ثم رجع إلى الوراء، مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [المائدة:54] أي: عن الإسلام، بعدما أقبل عليه وأخذ فيه وصام وصلى انتكس ورجع إلى الوراء. ‏
    إجمال الصفات المذكورة في الآية الكريمة
    يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، من صفاتهم أنهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، كيف أنتم؟ هل أنتم أذلة على المؤمنين، أم تدفعون وتتكبرون وتصرخون وتهينون؟ ومع الكافرين اللين والعطف، و(مسيو) أو (مستر)، على كل حال الدار دار عمل والجزاء أمامنا. أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، بمعنى: أشداء غلاظ، ما يلينون ولا ينكسرون ولا يتعطفون بين أيديهم، أقوياء بعزة الإسلام، وليس معنى هذا أنهم يسبون أو يشتمون، المسلم لا يسب ولا يشتم ولا يظلم، ولا يسرق ولا يكذب ولا يخدع، العزة ألا تذل أمام الكافر وتنكسر، أنت المؤمن العزيز، وهو الكافر الذليل المهين.ومن صفاتهم: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة:54]، هذا القيد الذهبي، في سبيل الله لا في سبيل المنصب، ولا المال، ولا الزوجة، ولا الولد، ولا الحكم، ولا الوطن، جاهد المسلمون وكشف الله عورتنا، جاهدنا قرابة خمس وأربعين سنة، نجاهد الكفار الطليان، الفرنسيين، الأسبانيين، البريطانيين، الهولنديين تحت عنوان الوطن، جهاد في سبيل الوطن، في تحرير البلاد.لو أن أهل إقليم أو منطقة قاتلوا باسم الله، من أجل الله لأقاموا دولة الإسلام يوم حكموا البلاد واستقلوا، من يوم أن تسلموا الزمام أقاموا الصلاة، وجبوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، هل حصل هذا؟ لا يحصل ومستحيل؛ لأننا ما قاتلنا في سبيل الله، أي: من أجل أن يُعبد الله وحده ويحب ويطاع في أمره ونهيه، هذا أمر مفروغ منه، لا تطالب بالدليل أبداً. يُجَاهِدُونَ [المائدة:54] في سبيل من؟ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة:54]، أي: بأن يعبد الله وحده بما شرع؛ إذ ما خلق الخلق إلا ليُعبد ويذكر ويشكر، وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، ما يصرفهم عن الجهاد من يعذرهم أو يلوم ويعتب عليهم.قال تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54] لا يضيق فضله عن أحد أراده، عليم بمن هو أهل للفضل ومن هو ليس بأهل لفضله وإنعامه وإكرامه.
    تفسير قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ...)
    ثم قال تعالى يخاطبنا نحن: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:55] لا بريطانيا، ولا إيطاليا، ولا بلجيكا، من وليكم؟ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:55]، حصر الولاية في هذه الولاية: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:55]، هؤلاء أولياؤنا نحبهم ويحبوننا، ونطيعهم حتى نصدق في حبنا ويتجلى لنا حبهم. إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:55]، ثم قال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة:55]، ليخرج نفاق المنافقين وكذب الكاذبين ممن نافقوا في الإسلام وقالوا: إنهم مسلمون وهم ليسوا بمسلمين، فحصر ذلك بقوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة:55]، فالذي لا يقيم الصلاة ما هو بولي لنا، ما هو بمؤمن، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة:55]، ما إقامتها؟ إليكم صورة حقيقية: نادى منادي صلاة الظهر، فترى أهل القرية أو الحي كلهم مقبلين على المسجد، مظاهر عجب خمس مرات في الأربع والعشرين ساعة، أذن العصر فترى الأمة كلها مقبلين على ربهم ليسجدوا له ويركعوا، غابت الشمس ودخل المغرب فترى أهل القرية أهل الحي كلهم مقبلين على بيت الله، وذلك طول العام، هذا هو إقام الصلاة. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [المائدة:55]، يعطونها طيبة بها قلوبهم، طيبة بها نفوسهم، من أموالهم الصامتة أو الناطقة، سواء طولبوا بذلك أو لم يطالبوا، جاءهم الجباة أو لم يجيئوهم.وصفة أخرى وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55]، أي: خاضعون متذللون، ما هو بالعنتريات والكبرياء والعلو كما قدمنا.والركوع: الذلة والانكسار، فالمؤمنون أغنياء أو فقراء، علماء أو جهالاً، كيفما كانوا ليس فيهم مظهر الكبر والتعالي أبداً؛ لأنهم عبيد الله وأولياؤه، نعم على الكافرين يترفعون ويتكبرون؛ لأنهم أمام أعداء ربهم وأعدائهم، أما مع المؤمنين فلين الجانب وهو الانكسار والذل.وهنا تذكر رواية قد تصح أو لا تصح، أخذ منها الفقهاء: جواز العمل الخفيف في الصلاة، تقول الرواية: جاء رجل فطلب الصدقة أو معاونة من الناس في المسجد، فما أعطوه، وعلي يتنفل راكعاً، فلما مر به المسكين نزع خاتمه ورماه إليه وهو راكع، أراد أن يحقق هذا الوصف: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55]، ولا حرج، فعمل جزئي كهذا ما يبطل الصلاة وهي نافلة، أخرج خاتمه هكذا ورماه له، في حركة أو حركتين لا تبطل الصلاة، لكن أراد أن يتمثل هذه الآية.أنا أقول: من منا يطبقها؟ تطبيق ذلك في ريالات في جيبك، وجاء سائل فسأل هذا وهذا ومر بين يديك فأخرجت أنت ريالين أو عشرة وأعطيته، فهل تمثلت الآية أم لا؟ تمثلتها، أمر سهل، وأما الخاتم فصعب، ما عندنا خواتم.هذا فقط من باب أنه أراد أن يمتثل هذه الآية، وإلا فهي لا تعنيه، تعني الذين يؤمنون بالله ورسوله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم في هذه الأحوال كلها راكعون لله خانعون خاضعون، لا كبرياء ولا علو.
    إجمال الصفات المذكورة في الآية الكريمة
    يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، من صفاتهم أنهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، كيف أنتم؟ هل أنتم أذلة على المؤمنين، أم تدفعون وتتكبرون وتصرخون وتهينون؟ ومع الكافرين اللين والعطف، و(مسيو) أو (مستر)، على كل حال الدار دار عمل والجزاء أمامنا. أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، بمعنى: أشداء غلاظ، ما يلينون ولا ينكسرون ولا يتعطفون بين أيديهم، أقوياء بعزة الإسلام، وليس معنى هذا أنهم يسبون أو يشتمون، المسلم لا يسب ولا يشتم ولا يظلم، ولا يسرق ولا يكذب ولا يخدع، العزة ألا تذل أمام الكافر وتنكسر، أنت المؤمن العزيز، وهو الكافر الذليل المهين.ومن صفاتهم: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة:54]، هذا القيد الذهبي، في سبيل الله لا في سبيل المنصب، ولا المال، ولا الزوجة، ولا الولد، ولا الحكم، ولا الوطن، جاهد المسلمون وكشف الله عورتنا، جاهدنا قرابة خمس وأربعين سنة، نجاهد الكفار الطليان، الفرنسيين، الأسبانيين، البريطانيين، الهولنديين تحت عنوان الوطن، جهاد في سبيل الوطن، في تحرير البلاد.لو أن أهل إقليم أو منطقة قاتلوا باسم الله، من أجل الله لأقاموا دولة الإسلام يوم حكموا البلاد واستقلوا، من يوم أن تسلموا الزمام أقاموا الصلاة، وجبوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، هل حصل هذا؟ لا يحصل ومستحيل؛ لأننا ما قاتلنا في سبيل الله، أي: من أجل أن يُعبد الله وحده ويحب ويطاع في أمره ونهيه، هذا أمر مفروغ منه، لا تطالب بالدليل أبداً. يُجَاهِدُونَ [المائدة:54] في سبيل من؟ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة:54]، أي: بأن يعبد الله وحده بما شرع؛ إذ ما خلق الخلق إلا ليُعبد ويذكر ويشكر، وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، ما يصرفهم عن الجهاد من يعذرهم أو يلوم ويعتب عليهم.قال تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54] لا يضيق فضله عن أحد أراده، عليم بمن هو أهل للفضل ومن هو ليس بأهل لفضله وإنعامه وإكرامه.
    تفسير قوله تعالى: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)
    ثم قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:56]، ما معنى: يتولاهم؟ يحبهم ويحبونه، يطيعون الله ورسوله والمؤمنين، فمن يتولى الله ورسوله الذين آمنوا بشروه بالنصر، بالعز، بالكمال، بالسعادة، والله لا يهون ولا يذل، ولا ينكسر، لماذا؟ لأن الله قال: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56] من حزب الله؟ الأحزاب عندنا في العالم الإسلامي ما أكثرها، ما هناك إلا حزب واحد، ألا وهو حزب الله، من هم؟ المؤمنون الصادقون في إيمانهم أولئك حزب الله، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:56] يحبهم ويطيعهم وينصرهم ولا يخذلهم، هذا بشروه بأن العالم إذا اجتمع كله عليه لا يذلونه ولا يهينونه ولا يكسرونه، لماذا؟ لأن حزب الله دائماً هم الغالبون، بشرى عظيمة لأمة الإسلام هذه.فهيا نتولى الله ورسوله، أي: نطيع الله ورسوله، نقيم حدود شرعه ونعلن فرائضه، ونؤدي آدابها، ونحب رسول الله ونمشي وراء سنته، ونحب المؤمنين فننصرهم ونقف إلى جنبهم، إذا تم هذا فوالله ما ذللنا لأحد ولا أهاننا أحد. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:56]، في أي زمان في أي مكان، أما أن تعادي المؤمنين وتحاربهم وتقول: أنا ولي الله ورسوله فلا ينفع هذا؛ لأن حب الله وحب الرسول وحب المؤمنين، طاعة الله وطاعة الرسول وطاعة المؤمنين، نصرة الله ونصرة رسوله ونصرة المؤمنين هي مفتاح الحب، وهذا وعد من الله عز وجل يتحقق لأي مؤمن يتولى الله ورسوله والمؤمنين.فإنه لا يذل ولا يهين ولا ينكسر أبداً، وإن قلتم: ولم المسلمون ذلوا وهانوا وانكسروا واستعمروا وافتقروا؟ فالجواب: لأنهم خلعوا ولاية الله ورسوله وولاية المؤمنين، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:56] فإنه لن ينكسر ولن يهزم أبداً، لماذا؟ لأن حزب الله هم الغالبون.
    إجمال الصفات المذكورة في الآية الكريمة
    يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، من صفاتهم أنهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، كيف أنتم؟ هل أنتم أذلة على المؤمنين، أم تدفعون وتتكبرون وتصرخون وتهينون؟ ومع الكافرين اللين والعطف، و(مسيو) أو (مستر)، على كل حال الدار دار عمل والجزاء أمامنا. أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، بمعنى: أشداء غلاظ، ما يلينون ولا ينكسرون ولا يتعطفون بين أيديهم، أقوياء بعزة الإسلام، وليس معنى هذا أنهم يسبون أو يشتمون، المسلم لا يسب ولا يشتم ولا يظلم، ولا يسرق ولا يكذب ولا يخدع، العزة ألا تذل أمام الكافر وتنكسر، أنت المؤمن العزيز، وهو الكافر الذليل المهين.ومن صفاتهم: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة:54]، هذا القيد الذهبي، في سبيل الله لا في سبيل المنصب، ولا المال، ولا الزوجة، ولا الولد، ولا الحكم، ولا الوطن، جاهد المسلمون وكشف الله عورتنا، جاهدنا قرابة خمس وأربعين سنة، نجاهد الكفار الطليان، الفرنسيين، الأسبانيين، البريطانيين، الهولنديين تحت عنوان الوطن، جهاد في سبيل الوطن، في تحرير البلاد.لو أن أهل إقليم أو منطقة قاتلوا باسم الله، من أجل الله لأقاموا دولة الإسلام يوم حكموا البلاد واستقلوا، من يوم أن تسلموا الزمام أقاموا الصلاة، وجبوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، هل حصل هذا؟ لا يحصل ومستحيل؛ لأننا ما قاتلنا في سبيل الله، أي: من أجل أن يُعبد الله وحده ويحب ويطاع في أمره ونهيه، هذا أمر مفروغ منه، لا تطالب بالدليل أبداً. يُجَاهِدُونَ [المائدة:54] في سبيل من؟ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة:54]، أي: بأن يعبد الله وحده بما شرع؛ إذ ما خلق الخلق إلا ليُعبد ويذكر ويشكر، وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، ما يصرفهم عن الجهاد من يعذرهم أو يلوم ويعتب عليهم.قال تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54] لا يضيق فضله عن أحد أراده، عليم بمن هو أهل للفضل ومن هو ليس بأهل لفضله وإنعامه وإكرامه.
    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: إخبار القرآن الكريم بالغيب وصدقه في ذلك، فكان آية أنه كلام الله ]، أما أخبر تعالى أنه سيرتد من يرتد ويأتي الله بآخرين؟ وهل فعل أو لم يفعل؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54] وكان ذلك، انتهت الفتنة على يد أبي بكر ، وتولى عمر بعده وقاد الجيوش إلى الشرق والغرب وانتصر الإسلام في كل مكان، وصدق الله العظيم.[ ثانياً: فضيلة أبي بكر والصحابة والأشعريين قوم أبي موسى الأشعري وهم من أهل اليمن ]، لأنهم نهضوا بالجهاد، أبو بكر قادهم ومشوا وراءه والصحابة معه، وجاء أبو موسى الأشعري ومعه أهل اليمن، وأدبوا العرب الذين ارتدوا، وردوهم إلى الحق ورجعوا بهم إلى الإسلام، فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] أبو بكر وأصحاب رسول الله.[ ثالثاً: فضل حب الله والتواضع للمؤمنين وإظهار العزة على الكافرين، وفضل الجهاد في سبيل الله، وقول الحق والثبات عليه، وعدم المبالاة بمن يلوم ويعذل في ذلك ] ويعتب، وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].[ رابعاً: فضيلة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشوع والتواضع ]، فضيلة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة (وهم راكعون)، أي: الخشوع والتواضع لله عز وجل.[ خامساً: ولاية الله ورسوله والمؤمنين الصادقين توجب لصاحبها النصر والغلبة على أعدائه ]، والذي يعادي الله والرسول والمؤمنين من ينصره؟ فالخذلان نصيبه وحظه.هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع إنه قدير وبالإجابة جدير.
    وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #333
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (20)
    الحلقة (332)
    تفسير سورة المائدة (27)


    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة المائدة المباركة المدنية الميمونة، ومع هاتين الآيتين، فهيا نتلو الآيتين متدبرين معانيهما، ثم بعد ذلك يبين لنا مراد الله تعالى منهما، ونأخذ بما هدانا الله تعالى إليه.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:57-58].

    غايات نداء الله تعالى لأوليائه المؤمنين


    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هل بلغكم أن الله تعالى نادانا نحن عباده المؤمنين في كتابه تسعة وثمانين نداء؟ هل بلغكم هذا أو ما علمتم؟ كيف يناديك سيدك ومولاك والذي إليه مصيرك وبيده محياك ومماتك ولا تعرف كم مرة ناداك؟

    الجواب: ما اجتمعنا على دراسة القرآن، مضت أعمارنا ونحن في المقاهي ومجالس الأكل والشرب والضحك، أو في دور السينما، أما أن نجلس في بيت الرب بنسائنا وأطفالنا كل ليلة من صلاة المغرب إلى العشاء ندرس كتاب الله وهدي رسوله، فهذا لا يخطر على بالنا، فلهذا لا تلمنا.
    لن نلوم، ولكن هبطنا من علياء السماء إلى الأرض، كنا قادة البشرية وسادتها، فأصبحنا أذل منها وأحوج إليها، السبب: أننا ما عرفنا الله معرفة حقيقية يقينية حتى نتملقه ونتزلف إليه بفعل ما يحب وترك ما يكره، وفعل المحبوب وترك المكروه هو منهج السعادة والكمال للإنسان في الدارين، ومستحيل وهيهات هيهات أن يكمل آدمي أو يسعد بدون معرفة الله وطاعته في أمره ونهيه، ولا جدال في هذا، وحسبنا شهادة الواقع.

    نادنا ربنا تسعين نداء، وقد تتبعنا هذا الموضوع وعرفنا بالاستقراء أن الله تعالى لا ينادينا بوصفنا المؤمنين به وبلقائه، وبكتابه وبرسوله إلا لواحدة من خمس:
    الأولى: ينادينا ليأمرنا بفعل أو اعتقاد أو قول ما من شأنه أن يسعدنا ويكملنا.
    الثانية: أن ينادينا لينهانا عن اعتقاد أو قول أو عمل فاسد من شأنه أن يخسرنا ويكسبنا الخراب والدمار.
    الثالثة: أن ينادينا ليبشرنا فنزداد في طلب الهدى والمنافسة في الخيرات والمسابقة في الصالحات.
    والرابعة: أن ينادينا ليحذرنا من المكروه، مما عواقبه الخسران والدمار.
    والخامسة: ينادينا ليعلمنا ما لم نكن نعلم.
    فاحمدوه، فالحمد لله، اللهم لك الحمد على ما أوليت وأنعمت، الحمد لله.. الحمد لله.

    وهل تعلمون أن في ندائه عز وجل لنا أعظم كرامة يظفر بها الآدمي، أن يناديه سيده ومولاه، نداء الله لنا دل على رفعتنا وعلى علو منصبنا ودرجتنا، ألسنا أولياءه؟ بلى، وهو يقول: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[يونس:62]، من هم أولياء الله؟ سيدي عبد القادر ؟ البدوي ؟ عيدروس؟ سيدي مبروك؟ لم لا نسأل ربنا: يا ربنا! من هم أولياؤك؟ ومع هذا أجاب الله ، وما سألنا، فقال عز وجل: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ )[يونس:63] هؤلاء هم أولياء الله، فكل مؤمن تقي هو لله ولي، وكل كافر فاجر فهو لله عدو.

    عرفتم أولياء الله؟ ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ )[يونس:63]، إذاً: المؤمنون أحياء والحي يسمع، يبصر، يعقل، يفهم، إذا أمر فعل، إذا نهي ترك، وذلك لكمال حياته، والكافر ميت لا يؤمر ولا ينهى، لم؟ لأنه ميت والميت لا يسمع، ولا ينطق، ولا يبصر، ولا يأخذ ولا يعطي، هذا شأن الميت.

    إذاً: الإيمان الحق هو بمثابة الروح، إي والله، فمن آمن إيماناً صحيحاً حقيقياً فقد حيي، فمره بأمر الله يفعل، انهه بنهي الله يترك، والذي ما آمن مره أن يصلي فهل يصلي؟ مره أن يغتسل من جنابة فهل يغتسل؟ مره أن يكف عن قول كذا فهل يكف؟ ميت.

    هل عرف المؤمنون والمؤمنات هذا؟ ما عرفناه، مضت قرون ما نجتمع على كتاب الله، إلا إذا قرأنا على ميت حتى ولو كانت عاهرة لتدخل الجنة بقراءتنا عليها، إلى أين وصلت هذه الأمة بعدما كانت سائدة قائدة رائدة في العالم؟ ما سبب سيادتها وقيادتها وريادتها؟ الإيمان الصحيح وتقوى الرحمن عز وجل، أما العلم فهو ضروري حتمي، الذي ما يعرف ما يحب الله،كيف يفعله؟ الذي ما يعرف ما يكره الله كيف يتركه؟ الذي ما يعرف كيف يطيع ربه كيف يطيعه؟

    فالعلم عندنا ضروري كالطعام والشراب، بل كالهواء والتنفس، تريد أن تكون ولياً بدون علم؟ مستحيل أن تكون ولي الله بدون علم، إلا أن العلم ليس شرطاً أن يكون بالقلم والقرطاس، وإنما هو بسؤال أهل العلم والعمل، لا تزال تسأل وتعلم وتعمل، فما يمضي زمان إلا وقد علمت محاب الله كلها، وعلمت مكاره الله كلها، وأنت في نفس الوقت تفعل المحبوب وتكره المكروه، وهذه ولاية الله عز وجل.


    نهي الله تعالى المؤمنين عن موالاة المستهزئين بالدين

    مكر اليهود والنصارى بالمسلمين في الولاية والأولياء

    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ )[المائدة:57]، أي: لا تتخذوهم أولياء، ما معنى أولياء؟ أي: لا تحبوهم ولا تنصروهم، لا بمعنى الولاية الهابط، ولاية الذين نبني عليهم القباب ونضع الشموع والأزر الحريرية، ونقول: أولياء الله، ونحلف بهم ونقسم بهم، هذا باطل باطل، ما أراده الله.

    وفتح الله علينا، وعرفنا أن مكر اليهود والمجوس والنصارى هو الذي حصر الولاية في الذين ماتوا، أما الأحياء فلا، تدخل القاهرة المعزية ذات العشرين مليون نسمة من المطار أو من محطة القطار فتواجه مصرياً من أهل البلد فتقول: يا سيد! أنا جئت لأزور ولياً من أولياء الله في هذه البلاد، فوالله ما يأخذ بيدك إلا إلى قبر وضريح، ولا يفهم أن القاهرة فيها أولياء، هذا مثال، ودمشق كالقاهرة، وبغداد، ومراكش، وباكستان، وإسطنبول.. كلها سواء، تأملوا علكم تعقلون؛ لأننا لو اعتقدنا أن كل مؤمن ولي ما بقي والله من يزني ولا يسرق ولا يكذب ولا يشتم ولا يسب ولا يعتدي أبداً؛ لأن الله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، والواقع يؤكد ذلك: هل تجد مسلماً في عصور الهبوط يسب ولياً من أولياء الله الموتى؟ كلا. بل إجلال، إكبار، تعظيم، يحلفون بهم، يسرقون قطعان الغنم لهم، يتوسلون بهم، والأحياء كلهم أعداء الله، هذا يزني ببنت هذا، وهذا يزني بامرأة هذا، وهذا يسرق هذا، وهذا يكذب على هذا، هذا يقتل ابن هذا.

    والله كما تسمعون، وأنتم أعلم مني بهذا، ما سبب ذلك؟ لأن العدو الحاسد الماكر أراد أن نهبط وهبطنا، قال: احصروا الولاية في الموتى، من وليك؟ سيدي عبد القادر ، أين هو؟ في بغداد، وأنت أين؟ في المغرب، كيف أصبحت تلميذه؟

    قالوا: نحصر الولاية في الموتى فقط، وحينئذ يستبيحون نساء بعضهم، والكذب والسرقة والمجون والخداع والغش؛ لأنهم ما هم أولياء، ولو عرفوا أنهم أولياء لعرفوا أن الولي ما تقال فيه كلمة، بل يبجّل، يعظم، يحترم، أليس كذلك؟ وهكذا.

    هل عرفتم هذه الحقيقة؟ من الذي مكر بنا؟ الثالوث الأسود المكون من المجوس واليهود والنصارى، ما يريدون أن نبقى سعداء أعزاء أبداً، قالوا: لا بد أن يهبطوا إلى ما نحن هابطون فيه، وحققوا مرادهم لأن الشياطين معهم، فسلطوهم علينا.
    معشر المستمعين والمستمعات! اصدقوا الله، هل يجوز لأحدنا الآن أن يسب أحداً؟ هل رأيتم من يسب؟ أو يشتم؟ أو يضرب؟ أو يطلع على عورة أخيه؟ أو يحاول أن يفجر بامرأته؟ أو يغشه في شيء؟ أو يخدعه في معاملة؟ والله ما كان، لم؟ لأننا أولياء الله، ما يباح لنا أبداً أن نعتدي على أولياء الله ونظلمهم ونأخذ ما عندهم أو نؤذيهم؛ لأنهم أولياء الله، ولو لم يكن هناك بوليس ولا حكومة، مؤمنون في جبل، في قرية، في سهل عرفوا ربهم، والله ليسودنهم الأمن والطهر والصفاء بدون عسكر ولا بوليس، والله إني لعلى علم.

    فمن هنا قالوا: جهلوهم، العلم هو النور، أعموا أبصارهم وقلوبهم. فماذا يصنعون؟ قالوا: القرآن تفسيره صوابه خطأ وخطؤه كفر، وشاعت هذه الفكرة في العالم الإسلامي، فأصبح لا يستطيع مؤمن يقول: قال الله، يقال له: اسكت، يقول: القرآن فيه الخاص والعام، والسنة النبوية الشارحة للقرآن، فيقال له: اسكت، اترك السنة نقرؤها في رمضان للبركة. ففقدت أمة الإسلام القرآن والنور المحمدي، وعاشت في الظلام وماتت، وهل استعمرتنا بريطانيا أم لا؟ وإيطاليا، وفرنسا، وبلجيكا، استعمرونا أم لا؟ فكيف يستعمروننا؟ لأننا متنا، أفقدونا الروح، القرآن نقرؤه على الموتى والسنة نقرؤها للبركة، صحيح البخاري يقرأ للبركة، لا لنعرف الحلال والحرام، أو الواجب أو المستحب أو المكروه، وحشرونا في كتيبات فقهية، هذا مذهب مالكي، هذا شافعي، هذا إباضي، هذا زيدي، هذا حنبلي، هذا كذا.. آلله أمر بهذا؟ ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ )[المؤمنون:52]، وأفصح عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بما هو من آيات نبوته؛ إذ قال: ( افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة )، يتكلم بالوحي، فهل استطاع يهودي أن يقول: لا يا محمد ما افترقنا؟ بل طأطئوا رءوسهم وقالوا: نعم، قال: ( وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ) صحيح، إنجيلهم بلغ خمسة وثلاثين إنجيلاً، وفي النهاية حصروه بخمسة أناجيل، أي صدق أي حق في هذا؟ أين كلام الله؟ قال: ( وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة )، وراجع تفسير القرطبي ، جعل لها قائمة من أعلاها إلى أسفلها في ثلاث وسبعين فرقة.

    قال: ( كلها في النار إلا واحدة ففي الجنة )، تكلم بهذا رسول الله والمؤمنون أقل من الحجاج بخمسين مرة، حيث كانوا لا يملئون هذا البلد، وتم ما أخبر به أم لا؟ قال: ( كلها في النار إلا واحدة ففي الجنة )، فألهم الله أحد السامعين فقال: من هي الناجية يا رسول الله حتى نكون منها؟
    فاسمع واحفظ، وإذا ما فهمتها فلا تبارح هذا المجلس حتى تفهم معناها، وحرام عليك ألا تفقه هذا ولا تفهم إن كنت تريد الملكوت الأعلى.

    فقال صلى الله عليه وسلم: ( ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) في العقيدة، في العبادة، في الأحكام، في الآداب، في الأخلاق، في التفكير والهم أيضاً.
    وصدق رسول الله، وتفرقت هذه الأمة، وما زالت الفرقة إلى الآن قائمة، دويلاتنا نيف وأربعون دولة! أعوذ بالله، أيجوز هذا في الإسلام؟ كيف يجوز؟ مذاهبنا لا تسأل، أحزابنا بلا تعداد، هذا كيد أعدائنا.
    طريق الخلاص من واقع المسلمين المؤلم
    فهيا نتخلص، أدلك على أسهل الطرق وأيسرها، ولا تكلفك ريالاً ولا ولا درهماً، فقط قل: آمنت بالله، أدلكم فهل تبلغون هذا وتحققونه؟الطريق هو أن أهل القرية في البلد الإسلامي في الجبل أو في السهل، مجموعة سكان تسمى ديارهم قرية في اصطلاح المعاصرين، أهل القرية يوسعون مسجدهم الذي يصلون فيه، نحن لا نشك أن في كل قرية مسجداً أو مساجد في بلاد العرب والعجم سواء، هذا المسجد يوسع إما بالحديد والإسمنت وإما بالخشب والطوب، حتى بالستائر، حتى يتسع لكل أفراد القرية نساء ورجالاً وأطفالاً، ثم إن إمامهم يوم الجمعة يقول: من الليلة لا يتخلفن رجل ولا امرأة عن صلاة المغرب أبداً، إلا مريض أو ممرض له، فيحضرون حضورنا هذا ويصلون المغرب صلاتنا هذه ويجلسون جلوسنا هذا، وباسم الله ليلة آية من كتاب الله يتغنون بها حتى يحفظوها، وتشرح لهم ويبين مراد الله منها، ويوصوا بالعمل بها، والليلة الثانية حديث من أحاديث الحبيب صلى الله عليه وسلم ويحفظ، ويبين مراد الرسول منه، ويعزم المؤمنون على العمل به، وهكذا طول العام، عام واحد فما يبقى في القرية فاسق ولا فاجر ولا ظالم ولا زان، لأنهم عرفوا، علموا وعملوا فكملوا، فكيف إذا كان طول العمر ونحن في هذا النور، من أين يأتي الظلام؟ هل هذا يكلف مالاً؟ إن اليهود والنصارى في أوروبا في اليابان في أمريكا إذا دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب أوقفوا العمل وتنظفوا وحملوا نساءهم وأطفالهم إلى دور اللهو واللعب، والمقاصف والسينما، أليس كذلك؟ ونحن لم لا نذهب إلى بيوت الرب نستمطر الرحمات ونتعلم الهدى لنسمو ونكمل، ما المانع؟ لا شيء، والمدينة ذات أحياء، كل حي يوسعون مسجدهم؛ ليتسع لكل الأفراد، ويصنعون هذا الصنيع عاماً أو عامين أو ثلاثة، فما يبقي جهل لا في النساء ولا في الرجال، وإن كانوا لا يكتبون ولا يقرءون، ومن ثم تنتهي مظاهر الخلاف والفرقة والعصبيات والنزعات والأطماع والشهوات، تمحى. وإن قلتم: ما الدليل؟ فالدليل: العصور الذهبية الثلاثة، من ساد البشرية وقادها؟ أليسوا أولئك الأميين؟ وقد تعلموا الكتاب والسنة.ثانياً: يقول تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] وصدق الله العظيم، أروني عالماً فاجراً وأنا أريكم ألف جاهل فاجر، أروني عالماً سارقاً متلصصاً وأريكم ألف جاهل متلصص وسارق، وعلى هذا فقيسوا، أعلمكم في قريتكم أتقاكم لله بلا نزاع، أبعدكم عن الله وأجهلكم به أفسقنا وأفجرنا، أمور يقينية هذه ما تحتاج إلى جدال.فمتى نرجع؟ ما سمحت لنا نفوسنا بذلك. قد تقولون: يا شيخ! ما عندنا كتاب في هذا الباب؟ أما بلغكم (كتاب المسجد وبيت المسلم)؟ درس في هذا المسجد في السنة كاملة، فيه ثلاثمائة وستون آية وحديثاً، في كل ليلة آية والثانية حديث، عام كامل، واسمه (كتاب المسجد وبيت المسلم)، وطبع ووزع بالآلاف، وقال محدثكم غفر الله له: لو بلغنا أن أهل قرية التزموا بهذا الكتاب وهم يدرسونه نساء ورجالاً لزرناهم إلى ديارهم، لنشاهد آثار الهدى الإلهي، ولكن لا شيء أبداً، العلماء ساكتون والجهال ميتون، ويبقى أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، من أصيب بمصيبة فليرجع إلى الله: إنا لله وإنا إليه راجعون.يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ [المائدة:57]، أي: لا تحبوهم ولا تنصروهم، هذا هو الولاء، وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، المؤمن للمؤمن يحبه، وإذا احتاج إلى نصرته ينصره ولا يخذله أبداً.وأعداء الإسلام يجب ألا نحبهم ولا ننصرهم أبداً؛ لأن الولاء في أمرين: في الحب، والحب يترتب عليه المساعدة وما إلى ذلك، وفي النصرة، فلا نقف إلى جنبهم ننصرهم على الإسلام والمسلمين.
    قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:57] أيها المؤمنون، فإن من آمن حي، ومن حيي سأل عن الطريق وعرفها، ومن عرف الطريق سلكها وانتهى إلى ولاية الله عز وجل بحبه له وإكرامه له.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #334
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (21)
    الحلقة (333)
    تفسير سورة المائدة (28)


    ما يحمله أهل الكتاب في قلوبهم من البغضاء والحسد للمؤمنين لا يخفى على ذي عينين، ذلك أن المؤمنين أهل الحق والصدق، الموعودين عند الله بدار السلام؛ لإيمانهم بالله وبسائر رسله صلوات الله وسلامه عليهم، أما أهل الكتاب وخاصة اليهود منهم فإنهم يعلمون أنهم على ضلال، ومع ذلك يخاطبون المؤمنين بقولهم عن دين الإسلام: إنه شر الأديان، وقد أعلمنا الله بأخبارهم، حيث لعنهم سبحانه وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير، جزاء فجورهم وكفرهم.
    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع، وقد درسنا منها آيتين، فهيا نسمع تلاوة الآيات، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:57-60].
    سفه المستهزئين بالنداء إلى الصلاة
    وقوله تعالى: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا [المائدة:58]، بين لهم ما كان يفعله بعض المنافقين من العرب واليهود في المدينة، يستهزئون بكلمة صلاة أو صيام، وخاصة إذا سمعوا الأذان يكربون ويحزنون، فبين لنا علة كرهنا لهم وبعدنا عنهم، ثم بين تعالى سبب جهلهم فقال: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:58] والله ما يعقلون، الذي يعقل يميز بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين النافع والضار، بين الكره والحب، هذا هو العاقل، والذي يكره الله ورسوله أين عقله؟ سيدك ومولاك وخالقك ورازقك ومردك إليه ومصيرك إليه، وأنت عبده وهو الذي يغذوك ويطعمك ويسقيك ثم لا تحبه ولا تؤمن به، أي عقل هذا؟! واسمع ما قال تعالى: ذَلِكَ [المائدة:58] بسبب ماذا؟ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:58]، فالمنادي يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الخير والكمال والطهر والصفاء والأمن بين المسلمين، فتضحك من الأذان؟ أعاقل هذا؟
    تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله...)
    والآيتان بعد هذه يقول تعالى فيها: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:59] أمر الله تعالى رسوله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يعلن هذا الإعلان: قُلْ [المائدة:59] يا رسولنا. ماذا يقول؟ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:59] من هم أهل الكتاب؟ اليهود والنصارى، التوراة لليهود، والإنجيل للنصارى، فهم أهل كتاب، أيما مؤمن يجب أن يعرف هذا، المراد من الكتاب هنا: التوراة، أهل التوراة اليهود، المراد من الكتاب هنا: الإنجيل، أهل الإنجيل هم النصارى، أو الصليبيون والمسيحيون، عبارات مختلفة والمعنى واحد. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:59]، بين لنا علة كرههم وبغضهم لنا، علمهم يا رسولنا، تنقمون منا لكوننا آمنا بالله رباً وإلهاً، لا رب غيره ولا إله سواه، وآمنا بما أنزل إلينا من القرآن، وما أنزل من قبل على موسى من التوراة وعلى عيسى من الإنجيل، وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:59]، فأهل الفسق هم الذين يصدر عنهم هذا الخبث في القول والعمل. بعبارة أوضح: لم يبغض اليهود والنصارى المؤمنين؟ ما هي الأسباب والعوامل؟ الجواب: لأنهم على حق، وأنهم أهل الجنة ودار السلام، لأنهم مؤمنون صادقون، معتصمون بحبل الله، لا زنا ولا ربا ولا فسق ولا فجور ولا كذب ولا خيانة، هذا الكمال يبغض اليهود والنصارى المسلمين من أجله، ما تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وما أنزل من قبل، فهل مثل هذا نبغض من أجله؟ ولكن أكثركم فاسقون، تعليل لطيف، الفسقة هم الذين يقولون الباطل، ويرتكبون الآثام والذنوب، ولم يقل: وكلكم فاسقون، قال: (أكثركم فاسقون) تحفظاً، قد يوجد من لا يفسق، ولا يخرج عن طاعة الله.

    تفسير قوله تعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه...)
    هنا قالوا في صراحة للرسول صلى الله عليه وسلم: لا نعلم ديناً شراً من دينك يا محمد! بهذه الصراحة: لا نعلم ديناً شراً من دينكم أيها المسلمون! لماذا؟ لأنكم تؤمنون بإنجيل عيسى، وعيسى في نظر اليهود ابن زنا وساحر ودجال! لما سمعوا هذه قالوا: يا محمد! لم نر ديناً شراً من دينك. واسمع ماذا قال تعالى لنبيه: قُلْ [المائدة:60] يا رسولنا مرة ثانية: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ [المائدة:60] ؟ تسمحون أن نخبركم بشر مما قلتم؟ هم قالوا: دينك شر الأديان أم لا؟ فتعالوا نخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ [المائدة:60] أي: جزاء، مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60] هؤلاء شر مما قالوا هم، شر مثوبة وجزاء عند الله يوم القيامة، من هم شر الخلق جزاء ومثوبة يوم القيامة؟ الذين لعنهم الله وغضب الله عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، وقضية القردة والخنازير كانت على عهد داود عليه السلام، الذين انتهكوا حرمة الدين واصطادوا يوم السبت ونصبوا الشراك بالاحتيال، فأولئك مسخهم الله قردة وخنازير، ولم يلبثوا أكثر من ثلاثة أيام ثم جيفوا وماتوا.فقوله تعالى: قُلْ [المائدة:60] لهم يا رسولنا: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ [المائدة:60] الذي قلتم مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ [المائدة:60] من هو؟ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ [المائدة:60] أولاً، وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة:60] ثانياً، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [المائدة:60] ثالثاً، وجعل منهم عبد الطاغوت، والطاغوت هو الشيطان، كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، والذين استجابوا للشيطان ففجروا وعصوا وكفروا هم عبيده وعبدته! قال: أُوْلَئِكَ [المائدة:60] البعداء شَرٌّ مَكَانًا [المائدة:60] يوم القيامة؛ لأن مكانهم دار البوار، جهنم وبئس القرار، وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:60] في هذه الحياة ويوم القيامة.

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    معاشر المستمعين! أسمعكم شرح هذه الآيات من الكتاب، لتزدادوا معرفة. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ ما زال السياق في تحذير المؤمنين ] مم؟ [ من موالاة اليهود وأعداء الله ورسوله، فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ([المائدة:57] أي: آمنوا بالله رباً وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، ( لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ )[المائدة:57] أي: الإسلام ] اتخذوه [ ( هُزُوًا )[المائدة:57] شيئاً يهزءون به ( وَلَعِبًا )[المائدة:57] أي: شيئاً يعلبون به، ( مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ )[المائدة:57] يعني: اليهود ( وَالْكُفَّارَ )[المائدة:57] وهم المنافقون والمشركون ( أَوْلِيَاءَ )[المائدة:57] ] أي: لا تتخذوهم أولياء [ أي: أنصاراً وأحلافاً، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:57] في ذلك، أي: في اتخاذهم أولياء ( إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )[المائدة:57] صادقين في إيمانكم، فإن حب الله وحب رسوله والمؤمنين يتنافي معه حب أعداء الله ورسوله والمؤمنين ]، والله العظيم! ( مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ )[الأحزاب:4] يحب بهذا أولياء الله ويحب بهذا أعداء الله، أو يكره بهذا كذا ويحب بهذا كذا، ما هناك إلا قلب واحد.

    قال: [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى. أما الثانية: فقد تضمنت إخبار الله تعالى بما يؤكد وجوب معاداة من يتخذ دين المؤمنين هزواً ولعباً، وهم أولئك الذين إذا سمعوا الأذان ينادي للصلاة اتخذوه هزواً ولعباً، فهذا يقول: ما هذا الصوت؟ وآخر يقول: هذا نهيق حمار! قبح الله قولهم وأقمأهم ] وأذلهم، [ فقال تعالى: ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:58] حقاً إنهم لا يعقلون، فلو كانوا يعقلون الكلام لكان النداء إلى الصلاة من أطيب ما يسمع العقلاء؛ لأنه نداء إلى الطهر والصفاء، وإلى الخير والمحبة، نداء إلى ذكر الله وعبادته، ولكن القوم كما أخبر تعالى عنهم: ( لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:58] شأنهم شأن البهائم، والبهائم أفضل منهم ]، البهائم أفضل، واسمعوا هذا البيان: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ )[البينة:6]، والبرية: الخليقة، فمن شر الخلق؟ المشركون والكافرون شر من القردة والخنازير والكلاب والضباع والثعالب والحيات وكل الموجودات، أما قال خالقهم: ( شَرُّ الْبَرِيَّةِ )[البينة:6] أم لا؟ أن وإن شئت أن تعرف كيف كانوا شر البرية فاعلم أن الحيوانات كلها ما خرجت عن طاعة ربها، طبعها على شيء تفعله، ما عصت! وهذا الإنسان الذي أعطاه الله الكتاب وبعث إليه الرسول يكفر بخالقه ويسبه وينكره، ويفسق عن أمره ويخرج عن طاعته، هذا شر الخليقة!

    والعاقل يتأمل: من شر الخليقة؟ والجواب: الكفار والمشركون، لأن الخليقة كلها منتظمة في سلك ربطها الله به، البقرة تلد وتحلب الحليب ويحرث عليها، والبعير كذلك والشاة وحتى الدجاجة تبيض، ما عصت الله أبداً، بل كما طبعها وخلقها، والإنسان مخلوق لأن يذكر الله ويشكره، علة خلقك أن تذكر الله وتشكره بالعبادة، فإذا أبيت أن تذكره وأعرضت عن عبادته فقد هبطت فأصبحت شر الخليقة، إي والله!
    قال: [ ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ )[المائدة:58] ] أي: بسبب أنهم [ ( قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:58] ]، قلت: [ حقاً إنهم لا يعقلون، فلو كانوا يعقلون الكلام لكان النداء إلى الصلاة من أطيب ما يسمع ] أم لا؟ أم نداء العهر والظلم والشر والفساد؟ إن النداء إلى الصلاة في بيوت الله من أطيب ما يسمع العقلاء؛ [ لأنه نداء ] أولاً [ إلى الطهر والصفاء ] طهر البدن وصفاء الروح، [ وإلى الخير والمحبة والألفة، نداء إلى ذكر الله وعبادته، ولكن القوم كما أخبر تعالى عنهم: ( لا يَعْقِلُونَ )[المائدة:58] شأنهم شأن البهائم والبهائم أفضل منهم، هذا ما دلت عليه الآية الثانية ].

    أعطيكم عبارة أخرى: بم تحكمون على شخص يشعل النار في القارة الإفريقية كلها؟! كيف تتصورون هذا الشخص؟ ما أحرق قصراً من القصور ولا مدينة من المدن، بل القارة الإفريقية كلها أشعل فيها النار، فكيف تجازونه؟ ماذا تقولون؟ والذي هدم الملكوت كله السماء وما فيها من كواكب، وما فيها من نجوم وسحاب وأمطار، والأرض دمرها، كيف تقولون في هذا الشخص؟ هل هناك شر منه؟
    وبيان ذلك: أن الله خلق هذا الكون من أجل أن يعبد فيه، من أجل أن يذكر ويشكر، فالذي ترك عبادة الله وهجرها ونسي ذكر الله وابتعد عنه هو بمثابة من أحرق الكون ودمره، فلهذا يخلد في عذاب بلا نهاية.
    قال: [ أما الثالثة: فقد تضمنت تعليم الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأولئك اليهود والكفرة الفجرة: يا أهل الكتاب! إنكم بمعاداتكم لنا وحربكم علينا ما تنقمون منا، أي: ما تكرهون منا ولا تعيبون علينا إلا إيماننا بالله وبما أنزل علينا من هذا القرآن الكريم، وبما أنزل من قبل من التوراة والإنجيل، وكون أكثركم فاسقين، فهل مثل هذا ينكر من صاحبه ويعاب عليه؟ اللهم لا، ولكنهم قوم لا يعقلون. هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:59].

    أما الآية الرابعة في هذا السياق: فقد تضمنت تعليم الله لرسوله كيف يرد على أولئك اليهود إخوان القردة والخنازير قولهم ] لما قالوا: [ لا نعلم ديناً شراً من دينكم، وذلك لأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: بمن تؤمن؟ فقال: ( أؤمن بالله وبما أنزل إلينا وما أنزل على موسى وما أنزل على عيسى )، فلما قال هذا قالوا: لا نعلم ديناً شراً من دينكم، بغضاً لعيسى عليه السلام وكرهاً له؛ فأنزل الله تعالى: ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً )[المائدة:60] أي: ثواباً وجزاء ( عِنْدَ اللَّهِ )[المائدة:60] إنه ( مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ )[المائدة:60] إذ مسخ طائفة منهم قردة، وأخرى خنازير على عهد داود عليه السلام ] في قرية واحدة أو قريتين.

    [ وقوله: ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ )[المائدة:60] وجعل منهم من عبد الطاغوت وهو الشيطان، وذلك بطاعته والانقياد لما يجلبه عليه ويزينه له من الشر والفساد، إنه أنتم يا معشر يهود، إنكم لشر مكاناً يوم القيامة، وأضل سبيلاً في هذه الحياة الدنيا ].


    هداية الآيات
    والآن كل آية لها هداية أودعها الله فيها، يهتدي بها عباده المؤمنون، فما الهدايات في هذه الآيات الأربع؟ فيها خمس هدايات.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ أولاً: حرمة اتخاذ اليهود والنصارى والمشركين أولياء لا سيما أهل الظلم منهم ]. (حرمة) بمعنى: تحريم، بمعنى: محرم اتخاذ اليهود والنصارى والمشركين أولياء تحبونهم وتنصرونهم، لا سيما أهل الظلم منهم، أما إذا لم يظلموا -كما بينا- فلا تحبهم ولكن لا تؤذهم ولا تضرهم، من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51].[ ثانياً: سوء أخلاق اليهود وفساد عقولهم ] وإلى الآن، كيف يسخرون من الأذان؟ يستهزئون بمن يقول: الله أكبر، وحي على الصلاة؟ أي عقل هذا؟! هذا فساد العقول والعياذ بالله، وهو هبوط الأخلاق، لا تسخر من أخيك الإنسان في أي شيء أو تستهزئ به، إن أردت خيراً فانصح له وقل: هذا ما يليق، أما أن تسخر وتستهزئ فهذا ليس من صفات العقلاء أبداً.[ ثالثاً: شعور اليهود وإحساسهم بفسقهم وبعد ضلالهم جعلهم يعملون على إضلال المسلمين ].شعور اليهود وعلمهم بفسقهم، والله إنهم ليعلمون أنهم فاسقون، خارجون عن طاعة الله عز وجل، وطاعة رسله، يشعرون بهذا ويعلمونه، وبعد ضلالهم، ضلالهم ما هو بقريب، الفتن كلها في العالم هم الذين يشعلون نيرانها؛ من أجل هذا يعملون على إضلال المسلمين وإفسادهم؛ حتى يتساووا معهم. وهذا عندنا بين المسلمين، بعض من وقع في الأوساخ بوده أن الناس يفعلون ما يفعل، فاتح مخمرة يفرح إذا فتحت أخرى؛ حتى لا يبقى يلام هو. فاليهود عرفوا هبوطهم وحرمانهم وخسرانهم في الآخرة؛ من أجل هذا يبغضون المسلمين؛ لم؟ يقولون: المسلمون يسعدون ويدخلون الجنة ونحن نشقى وندخل النار! إذاً: نعمل على إفسادهم لنتساوى معهم، فطري هذا في غرائز البشر.[ رابعاً: تقرير وجود مسخ في اليهود قردة وخنازير ]، لو قال المؤرخون: ما وقع هذا، فوالله لا نلتفت إليه ولا نسمعه، وكيف وقد أخبر الله تعالى به، وقد وقع بالله الذي لا إله غيره، ولنقرأ الآية الكريمة: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:163-166]. وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65]. الشاهد عندنا أنه قد يقول قائل: لا. ما وقع هذا، فنقول: والله لقد مسخ عدد من اليهود قردة، أي: في أشكال قردة، وعدد في أشكال الخنازير، والقرى كانت تسور بأسوار، فثلاثة أيام ما خرج واحد منهم، أطلوا عليهم فوجدوهم جيفاً على الأرض.[ خامساً: اليهود شر الناس مكاناً يوم القيامة وأضل الناس في هذه الدنيا ]، أضل الناس اليهود، وذلك لعلمهم ومخالفتهم ما علموا عن الله ورسوله.
    أعمال الحج في ضوء نسك التمتع
    معاشر المستمعين! جولة مع المناسك:عرفتم أننا نحرم من الميقات، ولا يحل لأحد أن يحرم بعد المواقيت، وإن ركب رأسه وفعل فليتب إلى الله وليستغفره، وليكفر عن ذنبه بذبح شاة في مكة والحرم.كيف يحرم؟ كما قلنا: يتجرد ويغتسل ثم يلبس إزاراً ورداء، ويكشف عن رأسه ويلبس نعلين لا حذائين، ثم يقول: لبيك اللهم لبيك بعد أن يصلي ركعتين أو بعد أن يصلي فريضة إذا أمكن، وإذا ما تأتى وهو على السيارة أو الطيارة فليقل: لبيك اللهم لبيك عمرة لا رياء فيها ولا سمعة. هذا الذي يريد أن يتمتع، ويمشي يلبي، والتلبية هذه معناها: إجابة أمر الله ودعوته: لبيك اللهم لبيك: إجابة لك بعد إجابة إذ ناديتني ودعوتني لأزور بيتك، فها أنذا قد أجبتك المرة بعد المرة، والذي يظل يلبي يمسي وقد غفر ذنبه كله، وكانوا يقضون من المدينة إلى مكة تسعة أيام أو ثمانية أيام وهم في تلبية ليلاً ونهاراً، الآن ما بقي هذا، وإنما أقصاها أربع ساعات، إذاً: فلا نشتغل بغير التلبية.فإذا وصلت إلى المسجد الحرام فالاضطباع، حين تدخل المسجد اجعل يدك اليمنى فوق ردائك، الإزار ما يؤتزر به النصف الأسفل، والرداء ما يرتديه فوق ظهره، هذا الاضطباع، وسره إظهار القوة وذكرها وعدم نسيانها، فقد حدث أن المشركين قالوا: إذا دخل محمد ورجاله في عمرة القضاء فسننظر: إذا شاهدنا ضعفاً فيهم فسننكب عليهم ونقضي عليهم، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا نادى أصحابه وقال: ( رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة )، فاضطبعوا استعداداً للقتال والمواجهة، وطافوا ثلاثة أشواط هرولة إظهاراً للقوة، وبقيت سنة باقية إلى يوم القيامة، ليست واجبة، سنة من السنن تثاب عليها ولا تعاقب إذا لم تفعلها لعجز أو لظرف من الظروف، أما بعدم مبالاة فهذا كفر، ولن يكون هذا من مؤمن.ثم تتم الأشواط السبعة، فإذا فرغت منها تصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم استجابة لأمر الله في قوله من سورة البقرة: وَاتَّخِذُوا [البقرة:125] بصيغة الأمر: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، وهل قام إبراهيم هناك؟ أي نعم، لما كان إبراهيم عليه السلام يبني الكعبة بأمر الله وامتحان الله للخليل: كيف يبني هذا الرجل بيتاً في صحراء ليس بها أحد؟ ومع هذا نجح إبراهيم وبنى البيت مع إسماعيل، فلما ارتفع البناء احتاج إلى صخرة وحجر يعلو فوقها ليواصلا البناء، إسماعيل يناوله الحجارة وهو فوق، ما هناك خشب ولا أدوات ولا آلات، فلما تم البناء بقي الحجر في مكانه عند الباب، أو بين الحجر والباب، فجاءت العواصف والأمطار والسيول فزحزحته؛ حتى وصل إلى المكان الذي هو فيه الآن، وبقي كذلك، وجاء الإسلام وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأقره في مكانه، واجتمع علماء الإسلام منذ خمس وعشرين سنة واتفقوا ألا يزحزح وأن يبقى في مكانه، قال بعضهم: لو أخرناه إلى الوراء حتى نفسح المجال للطائفين، فقال أولو البصائر: لا، تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا، يجب أن يبقى هنا.الصلاة خلف المقام ما سرها؟ سرها: أن المعروف لا يضيع عند الله، يا عباد الله! اصنعوا المعروف مع ربكم، فإنه لن يضيع معروفكم أبداً، الحسنة يضاعفها لك بعشر، وبسبعمائة، هذا الحجر نصلي دونه ونركع ونسجد على الأرض أمامه، لم؟ لأنه قدم خدمة لبيت الله عز وجل، أما استعان به إبراهيم على إتمام البناء؟ وكان يعلو فوقه أم لا؟ إذاً: فعرف الله لك ذلك فشرع الصلاة خلفه: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، الصلاة لله، وللحجر اعتراف بالفضل، هذا الحجر قدم لله خيراً، فعرف الله له ذلك، ولا يقول قائل: إذاً: نحن نسجد لحجر! فالجواب: لا، ونظيره آدم عليه السلام حيث أمر الله تعالى الملائكة أن تسجد له، فالسجود من أمر به؟ من أطيع؟ الذي أطيع هو المعبود، وما آدم إلا من باب الاحتفاء به وإكرامه، كذلك الحجر في مقام إبراهيم: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، نصلي ركعتين، والسنة أن تقرأ في الأولى بالفاتحة وقل يا أيها الكافرون، وتقرأ في الركعة الثانية بالفاتحة وقل هو الله أحد إن كنت تحفظ، وإن لم تحفظ فعوضك الله الأجر، ويجب من الليلة أن تحفظ هاتين السورتين.الناس حفظوا الأغاني بالمئات، فإذا صليت ركعتين وأنت محرم بعمرة؛ لأنك ما تستطيع أن تفرد الحج وتأتي بعمرة أخرى، ولا تستطيع القران فيكون قرانك أفضل، أنت متمتع، فاذهب إلى الصفا والمروة، وإذا انتقض وضوؤك فيجوز أن تسعى وأنت على غير وضوء، ولا حرج، وابدأ بالصفا كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ابدأ بما بدأ الله به. وقرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] )، ارق الصفا، وهو الآن ممهد مبيض مزين، ما فيه خشونة ولا حجارة، ثم استقبل الكعبة وقل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ثلاثاً، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ثلاث مرات ثم انزل، وتسعى عندما تصل إلى الميل الأخضر، عمود كهرباء أخضر، إذا وصلت إلى ذلك المكان فأسرع وخب في بطن الوادي، والخب: السرعة في المشي، حتى تنتهي إلى الميل المقابل، هذا المكان كان وادياً منهبطاً، وهاجر عليها السلام أم إسماعيل جد الحبيب صلى الله عليه وسلم لما فقدت الماء وخافت موت ولدها إسماعيل من العطش نظرت إلى أقرب مكان عال فوجدته الصفا؛ لأن ولدها عند البيت في مكان زمزم الآن، وهو يتلوى من شدة العطش، فطلعت الجبل فما رأت شيئاً، فرأت جبلاً أمامها وهو المروة فهبطت، لما وصلت إلى الوادي أسرعت حتى تخرج منه، فلما خرجت منه مشت كالعادة، ووصلت إلى المروة ورقتها، وعلت فوقها ونظرت، سبع مرات، وإذا بهاتف يهتف وهي تقول: أسمعت أسمعت، هل من غياث؟ وإذا بجبريل واقفاً على رأس إسماعيل في صورة إنسان من كرام الناس وأفاضلهم، ما إن قربت منه حتى قال بعقبه هكذا وضرب به الأرض فصارت زمزم، فأخذت تزمها حتى لا تذهب في الصحراء، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله أم إسماعيل، لو تركتها لكانت عيناً معيناً ) تسيل أبداً، لكن زمتها، وتعرفون الزمام للفرس، أي: جمعتها.إذاً: إذا وصلت إلى المروة فاستقبل البيت وهلل وكبر كما تقدم وانزل تمشي، وصلت إلى الوادي بين الميلين فأسرع وهكذا سبعة أشواط، وأنت تذكر الله، لا تضحك ولا تعبث ولا تله ولا تنظر إلى النساء، أنت مشغول بذكر الله، فرغت من الأشواط السبعة فتنتهي بالمروة، تبتدئ بالصفا وتنتهي بالمروة.الآن يا معتمر بقي عليك واجب من الواجبات، ألا وهو التقصير من شعرك أو الحلق، قصر من شعرك ولا تعط رأسك لأولئك الأطفال والغلمان يعبثون بشعرك، امش إلى الحلاق وقص من شعرك؛ لأنك تحلق بعد أسبوع أو بعد أيام في الحج، وإن حلقت فما عندنا مانع، أما رحم الله المحلقين؟ لكن في حج أو عمرة بدون حج الحلق أفضل من القص؛ لأن الرسول دعا للمحلقين ثلاث مرات، وللمقصرين مرة واحدة.إذاً: حفاظاً على باقي الشعر لا بأس، قص من شعرك، فإذا فرغت منه فالبس ملابسك وتمتع بزوجتك، وتمتع بكلامك معها بكل حلال، لأنك تمتعت، وابق في مكة تنتظر اليوم الثامن الذي بعده عرفة، فإذا كان اليوم الثامن فاغتسل وتجرد ولب: لبيك اللهم لبيك حجاً لا رياء فيه ولا سمعة، وامش إلى منى لتصلها قبل صلاة الظهر، فتصلي بها خمس صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وتبيت بها، وتصلي الصبح، ثم تخرج إلى عرفات، هذا عمل المتمتع، ويجب عليه يوم العيد أو بعده بيومين أو ثلاثة أن يذبح شاة مقابل أنه تمتع بلبس ثيابه وتغطية رأسه، ولبس حذائه والتمتع بامرأته، أعطنا مقابل ذلك ذبح شاة، أو سبعة يشتركون في بقرة أو في بعير، وإن لم يستطع صام ثلاثة أيام في مكة، قد يصومها أيام التشريق، لكن ما بعدها صيام، فليعزم على صومها قبل الوقوف بعرفة، فإن نسي أو عجز يصوم ثلاثة أيام التشريق، فإن لم يصمها تعين الذبح، ويصوم السبعة إذا رجع.إذاً: هذا هو المتمتع، تقبل الله منا ومنهم، ونواصل حديثنا غداً إن شاء الله مع القارن.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #335
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (22)
    الحلقة (334)
    تفسير سورة المائدة (29)



    اليهود هم شر خلق الله، ومثال حي على الكذب والنفاق والمخاتلة، وقد بين الله عز وجل حالهم لنبيه وللمؤمنين، فهم يدخلون على المؤمنين مسجدهم وهم كفار، ويخرجون من عندهم وهم كما هم لم تنفعهم موعظة، ولم يستجيبوا لدعوة، وما ذاك إلا لمسارعتهم في الإثم وإحجامهم عن البر ومواطنه، واستحلالهم لأكل أموال الناس بالباطل، واستحلالهم للربا وقد نهوا عنه، لبئس ما كانوا يصنعون.
    تفسير قوله تعالى: (وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه وأبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث، وهيا نتغنى بتلاوتها قبل الشروع في تدارسها ودراستها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّو نَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:61-63].ثلاث آيات، ولو أن أهل القرية يجتمعون في مسجدهم الجامع كل ليلة كاجتماعنا هذا يحفظون الآية والآيتين والثلاث، ويفهمون معانيها، ويطبقون هدى الله فيها، سلوني: بعد عام واحد كيف يصبح أهل القرية؟ كأنهم أنوار من السماء في الأرض، كالملائكة، لا خبث ولا ظلم ولا شر، ولا فساد ولا كبر ولا عناد، ولا شرك ولا باطل ولا بدع، ولكن حرمنا أنفسنا، وما ظلمنا أحد، ولكنا كنا الظالمين، هجرنا كتاب الله، وتجاهلناه، وأصبحنا نقرؤه على الموتى يا للعجب! هذه ثلاث آيات، كم في القرآن من آية؟ ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، كل آية تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإن شئتم أقسمت لكم بالله، أما سماها الله آية؟ علامة تدل على أي شيء؟ إذ الآية: العلامة، تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.وبيان ذلك: أن هذه الآية من أنزلها؟ من ادعى أنها من عنده، أو أن أباه أو أخاه قدمها له؟ طأطأت الدنيا رأسها، وسلمت الأمر لله، وأنها هذا من كلام الله؟ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24] إذاً: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24].الآية: العلامة، كل آية علامة على وجود الله المنزل الموحي بها، وعلى علمه وقدرته وجبروته، وصادقة وشاهدة على أن من نزلت عليه مستحيل أن يكون غير رسول الله ونبي الله، ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية كل آية تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والبشرية منتكسة، لا تسمع ولا تبصر ولا تعي، ولا تفهم، وتكفر بالقرآن كاملاً.
    إيغال اليهود في الكفر ونفاقهم في مجالس المسلمين

    تقدم في السياق الكريم أن اليهود والمنافقين في المدينة أيام نزول الوحي والرسول بين المؤمنين كانوا يسخرون من كلمة الأذان: حي على الصلاة، ويستهزئون، وبين تعالى لرسوله عيوبهم ومخازيهم فيما سبق، وأضاف إلى ذلك هذه الآيات وما بعدها، اسمع ماذا قال: ( وَإِذَا جَاءُوكُمْ )[المائدة:61] من هؤلاء الذين يجيئوننا؟ منافقو اليهود؛ لأن اليهود نافق بعضهم على علم، حتى يطلع على أسرار الرسول ودولته، وحتى ينفث وينفخ الباطل في صدور أتباعه وبني عمه وجلدته، ( وَإِذَا جَاءُوكُمْ )[المائدة:61] أيها المؤمنون ( قَالُوا آمَنَّا )[المائدة:61] بما أنزل الله في التوراة والإنجيل والقرآن، ( آمَنَّا )[المائدة:61] بما أنزل الله وبك رسولاً من الله عز وجل، هكذا يصرحون، وفي آية أخرى يقولون: آمنوا أول النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون! وهذا من مكر اليهود وخداعهم، يدخل في الصباح فيقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، آمنا بالله، ويصلي مع رسول الله الظهر والعصر، ويذهب إلى قريته أو حيه في العشي فيكفر؛ لم؟ علمه الرؤساء، يقولون: اذهبوا فقولوا: آمنا، وفي المساء اكفروا. لماذا كفرتم؟ يقولون: بالتأمل والتدبر وجدنا هذا الدين باطلاً، ولا قيمة له عند الله ولا وزن؛ فلهذا تركناه! هذه الأساليب موجودة إلى الآن ولها أسواقها ولها أعلامها. (وَإِذَا جَاءُوكُمْ )[المائدة:61] يا رسولنا ويا أيها المؤمنون من عبادنا ( قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ )[المائدة:61]، من أخبر بهذا؟ الله عز وجل، الله علام الغيوب، فهو يخبر ويقول: جاءوكم وقلوبهم كافرة، ما هم بمؤمنين، فالنفاق يتطلب هذا؛ حتى يأمنوا فلا تقطع رءوسهم ولا تسلب أموالهم ونساؤهم.

    حلم اليهود بقيام مملكة إسرائيل
    يقولون: آمنا وقد دخلوا بالكفر يحملونه كما هو، الكفر بنبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بالقرآن الكريم، بأحكام الله وشرائعه، ( وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ )[المائدة:61] يا للعجب! لأن المفروض أنه إذا جاء المنافق غير المؤمن يتجسس وينزل إلى الرسول ويسمع فقد يتأثر، فإنه -والله- كان الرجل يجيء ليقتل محمداً صلى الله عليه وسلم وهو مخبئ سلاحه، ما إن يسمع كلام الحق والنور الإلهي حتى ينهار ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، لكن هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله كما يدخلون كافرين يخرجون كذلك! ما ينتفعون أبداً بما يسمعون؛ لأن لهم هدفاً ينبغي أن يحققوه، ألا وهو إعادة مملكة بني إسرائيل، فضحوا بأعراضهم بأموالهم بدينهم بعقيدتهم من أجل هذا الهدف! ووالله! إنهم إلى الساعة هذه يعملون على تحقيقه، وما حرمهم من الإسلام والدخول في أنواره إلا هذه الفتنة القلبية، وهل تشكون في هذا؟! هل كونوا دولة إسرائيل في عقر دارنا أم لا؟ في قلب بلادنا، وما زالوا يطلقون عليها: دولة إسرائيل، وحين يحكمون الشرق الأوسط ويضعون أرجلهم على العالم أو نصفه يعلنون عن مملكة بني إسرائيل، والله يعلم كم بيَّنا هذا في عشرات السنين، فهم الذين قالوا في تعاليمهم وتدابيرهم اليهودية: ابقر بطن العالم وأخرج مصرانه واخنق به الملك، وبهذا نستطيع أن نحكم، فبغضوا كلمة ملك إلى العالم، وهي والله من صنعهم، وعاش المسلمون يكرهون كلمة ملك! والله لقد رأيتهم وهم يتقززون من كلمة ملك هذه، ووالله إن اليهود هم الذين نشروا هذه، ولماذا؟ لأن الخوف يأتيهم من العلماء ومن الملوك، الملك يستحي أن يبول قائماً، الملك يستحي أن يقول الباطل أو الكفر في أمة مؤمنة، بخلاف رئيس حكومة ورئيس جمهورية لعام وعامين ويرحل. إذاً: كيف نشروا البلشفية الحمراء في عقر عواصم المسيحية في العالم؟ بأية واسطة أصبح ثلاثة أرباع الأوروبيين علمانيين بلاشفة حمراً؟ كيف توصلوا إلى هذا؟ إنها صنائع الذين يخبر القرآن عنهم ويكشف عن حالهم؛ لأن بوجود مسيحية متصلبة ما ينفتح المجال لليهود وهم حفنة من البشر، وجود إسلام بأنواره وحكمه العام لا يمكن أن تظهر دولة إسرائيل، فضربوا الإسلام ومزقوه وشتتوه، وحولوه إلى ضروب من الوثنيات أيضاً، ومزقوه، والصليبية وضعوا أقدامهم عليها، فهم قريبون، وإليكم برهان هذه القضية.
    أيام موشي ديان كان الرئيس في البرلمان، فخطب وصال وجال، حدثني شاب استشهد في الأفغان بأذنه سمع إذاعة إسرائيل، قال: لما بهرهم بخطابه قالوا: أنت الملك، أنت الملك، أنت الملك. قال: اسكتوا، ما زال الوقت! لما أعجبوا به وبهرهم وذكر لهم أعماله وما فعل قالوا: أنت الملك، قالوا: اسكتوا لم يحن الوقت بعد!
    إذاً: فهمتم كيف يفقهون كلمة ملك أم لا؟ أسألكم بالله: ألم تكونوا قبل أعوام تكرهون كلمة ملك؟ بدليل أنه يستقل القطر الإسلامي فما يجعل لهم ملك، أما ذبحوا الملوك؟ أما طردوهم؟ أين ملوك العراق ومصر والشام؟ حتى ملك ليبيا أيضاً، حتى سلطان وملك تونس، أمر واضح، والشاهد عندنا: أن الله يكشف عن خبايا اليهود ونحن لا نعرف هذا ولا نعي؛ لأننا ما نقرأ القرآن على الأحياء، بل نقرؤه على الموتى.
    (وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا )[المائدة:61] والحال أنهم قد دخلوا بالكفر في قلوبهم، يعلنون عن الإيمان نفاقاً ليتحسسوا ما عندكم، وهم قد خرجوا به أيضاً، المفروض أن الشخص وإن كان كافراً إذا جلس بين يدي رباني يتكلم باسم الله، ينطق بالحق وبراهينه؛ المتوقع أن ينعكس وضعه ويؤمن، أليس كذلك؟ هذا الواقع؟ كان الأعرابي يأتي بسلاحه ليغتال رسول الله في المسجد، ما إن يسمع كلام الله حتى ينهار ويؤمن، وهؤلاء قال تعالى عنهم: ( وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ )[المائدة:61] دخلوا بالكفر في قلوبهم ما نقص، ولا تخلوا عنه ولا تأثروا بجلوسهم يوماً أو ساعات مع رسول الله، بل يخرجون بكفرهم، سبحان الله!
    معنى قوله تعالى: (والله أعلم بما كانوا يكتمون)
    وأخرى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ [المائدة:61] من المكر والكيد والغش والخداع والكذب، والبغض لك يا رسولنا ولأصحابك والمؤمنين، وإلى الآن الله أعلم بما يكتمون، الآن لا يصرحون لضعفهم؛ لكن الله أعلم بما كانوا يكتمون. اسمع قوله تعالى: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ [المائدة:61] دخلوا عليكم في مسجدكم وبيوتكم، وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة:61] ما نقص، بل كما هو، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ [المائدة:61]، ما الذي يكتمونه في قلوبهم؟ الغل، الغش، والمكر والخداع، يتمنون لو أزهقوا أرواحهم.
    تفسير قوله تعالى: (وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت...)
    الآية الثانية: وَتَرَى [المائدة:62] يا رسولنا، وَتَرَى [المائدة:62] أيها المؤمن الواعي البصير كَثِيرًا مِنْهُمْ [المائدة:62] بالآلاف يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ [المائدة:62] ما قال: يسارعون إلى الإثم فيكونوا خارجين عنه، وهم يسارعون إليه ليدخلوا فيه، بل ما خرجوا من الإثم، مغموسون فيه من أخماص أقدامهم إلى رءوسهم، والله ما خرجوا، ويسارعون في فعله، والإثم: كل معصية تقبح النفس وتلوثها، كالكذب، كالخيانة، كالغش، كالخداع، كالكفر، كالسب، كل ما هو إثم، يسارعون في الإثم، ما خرجوا من دائرته، يعملون الليل والنهار على السب والشتم والطعن في الإسلام ورجاله. يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:62]، العدوان غير الإثم، العدوان: الظلم، لا أظلم من اليهود، الظلم الاعتداء على الغير بأكل ماله بسبه بشتمه بالتعريض وهكذا، هذا هو الظلم، فكم من يهودي يسمع الإسلام فينهار ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ من يخبر بهذه الأخبار؟ إنه الله تعالى. وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:62] ويسارعون أيضاً في أكلهم السحت، هم يأكلونه، ولكن المسارعة، والسحت: هو الرشوة والربا، وكل مال حرام يسحت البركة ويبطلها، وإلى الآن يعيشون على الربا أم لا؟ من أنشأ البنوك الربوية العالمية؟ هل عيسى بن مريم؟ هل هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله إنهم اليهود، وكيف إذاً اتبعهم النصارى والمسلمون وهم يعلمون أن هذا حرام؟ اتبعوهم لما سحروهم، وانتزعوا النور الإلهي من صدورهم وقلوبهم، فعموا وأصبحوا كالبهائم، حينئذ يسوقونهم كما شاءوا. ثم ختم تعالى هذه الجملة بقوله: لَبِئْسَ [المائدة:62] والله لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62] أعمالهم منتنة خبيثة، سيئة قبيحة والعياذ بالله تعالى. أعيد الآية الثانية هذه، فاسمع: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:62]، ماذا قال تعالى في آخر الكلام؟ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62] قبح هذا العمل، واللام فيها معنى القسم، وعزتي وجلالي لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62] نعم، فالذي يعيش في الإثم ما يخرج منه، وفي أكل الربا والسحت ما يخرج منه، وفي الظلم للخلق ما يخرج منه كيف حاله؟ بئست حاله. فهل هذا عمل ميمون مبارك؟ لبئس هذا العمل.

    تفسير قوله تعالى: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ...)
    الآية الثالثة: يقول تعالى: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّو نَ وَالأَحْبَارُ [المائدة:63]، الربانيون: جمع رباني، ويطلق الرباني على عالم النصارى (القسيس)، والأحبار: جمع حبر، ويطلق على عالم اليهود، هذه قاعدة عامة، وهنا أطلق لفظ الربانيين والأحبار على اليهود، ليس هناك نكارة في السياق. والربانيون: الذين يجمعون الناس ويعلمونهم دينهم، ويربونهم على الآداب والأخلاق والفضائل بحسب دينهم، هذا هو المربي، والجمع ربانيون.والأحبا : أصحاب العلم والمعرفة، إذاً: في أهل الكتاب من اليهود ربانيون وأحبار، أي: علماء بالشريعة.يقول تعالى: لَوْلا [المائدة:63] هلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّو نَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:63] ؟ لم لا ينهونهم؟ هذه الآية يقول فيها ابن عباس الحبر رضي الله عنه: أشد آية في كتاب الله علينا هي هذه: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّو نَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:63]. إذاً: نحن ما عندنا ربانيون، لكن كان عندنا رجال التصوف والطرق، الصوفية، كانوا يربون ونفع الله تعالى بتربيتهم، يجمعون الجهال في القرى في الجبال وهم تائهون لا يعرفون شيئاً، ويعلمونهم الوضوء والصلاة وذكر الله، وتظهر آثار ذلك فيمن يربونهم، لكن لكونهم جهالاً لا يعلمون دين الله ولا يعرفون يخطئون في تربيتهم، فيفسدون على العوام عقائدهم، ويورثون فيهم الشرك بكله.إذاً: نفعوا من جهة وأضروا من جهات أخرى؛ لأن غير العالم بالكتاب والسنة لا حق له في أن يربي حتى يكون ربانياً، عالماً بكتاب الله وسنة رسوله، هذا إذا جمع أهل القرية ورباهم هو الرباني، هذا الرباني من حقه ألا يرى من يأتي منكراً في قريته ويسكت عنه، لا يرى من يرتكب إثماً ويرضى به ويسكت عنه، لا يرضى بمن يأكل رشوة أو سحتاً أو ربا ثم يضحك معه ويسكت، هذا رباني العالم. لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّو نَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ [المائدة:63] السب والشتم والتعيير والتقبيح، لا إله إلا الله!
    دولة الملك عبد العزيز أنموذج قيام الربانيين بدورهم

    ودعونا من اليهود الآن، نحن مع عالمنا الإسلامي، والله! إنه ليعيش إخواننا المسلمون على السب والشتم حتى التكفير أيضاً! أحلف لكم بالله، مجتمعنا الإسلامي منذ سبعة قرون أو ثمانية منذ القرن الثامن وهذا ظاهر. وأقرب دليل: لم استعمرتنا أوروبا؟ لما هبطنا، إذاً: هذا سبب استعمار الغرب لنا؟ وها نحن قد استقللنا وأصبحت السلطة لنا، فلم لا نتحد في هذه المسجد وتكون دولتنا واحدة، ولعل الحاضرين بينهم سياسيون، فمرحباً بهم نتكلم معهم بصراحة ووضوح، والله! لو كنا مستقيمين على منهج الحق مؤمنين في صدق لكانت دولتنا واحدة، إذ لا يحل الخلاف والفرقة؛ لأن الخلاف والفرقة معناهما: أننا نقدم أنفسنا للعدو فمتى شاء أن يركبنا ركب علينا.
    وعندي برهنة أخرى قديمة أكررها: جاء الله عز وجل بدولة عبد العزيز ، من عبد العزيز هذا؟ ما هو بعالم نحرير ولا فليسوف ولا شيخ طريقة، جاء الله به وكان لاجئاً في الكويت وأسس دولة القرآن في الرياض وبدأت أنوارها تلوح، فماذا فعل؟ هذا الذي أنا أقوله وأكتبه في الرسائل والكتب طبقه عبد العزيز : أهل القرية لا يتخلف أحد منهم عن الصلاة في الصبح ولا العشاء ولا المغرب، ويتعلمون الكتاب والسنة شفوياً ولا يتخلف أحد، فكانوا أميين لاصقين بالأرض لا يقرءون ولا يكتبون، وإذا بهم موحدين فقهاء يشعرون بالرغبة في أن يتعلموا عن الله.
    وأقامة الدولة القرآنية على ثلاثة أسس وضعها الله عز وجل لتوضع عليها أو تتكون عليها الدولة، وهي:
    أولاً: إقامة الصلاة.

    ثانياً: إيتاء الزكاة.
    ثالثاً: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

    ما ترك قرية إلا وكون فيها لجنة من ثلاثة أنفار أو أربعة مهمتهم أنهم يأمرون المعروف وينهون عن المنكر، ما يرون معروفاً متروكاً إلا طالبوا بالقيام به، ولا يرون منكراً مرتكباً إلا صاحوا في وجه صاحبه.
    إذاً: فكانت الدولة أقامها على أسس، قال الله تعالى: ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ )[الحج:41]، أي: حكموا وسادوا بعد أن لم يكونوا حكاماً ولا سادة، ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ )[الحج:41]، ماذا فعلوا؟ ( أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ )[الحج:41].

    ما الذي حصل في هذه الديار بعدما كانت مظاهر الوثنية الصارخة تشاهدها في عبادة غير الله، أما الجرائم وسفك الدماء فلا تسأل، والله! إن كانوا ليأخذون باب المدني ويبيعونه في السوق ولا يتكلم!
    وسادها أمن وطهر لم تكتحل عينها به إلا أيام دولة الخلفاء الراشدين، أقسم بالله، في هذا الوقت بالذات نسمع نحن أطفالاً وكباراً وصغاراً فلا تجد مؤمناً عربياً ولا مسلماً يمدح هذه الدولة أو يذكرها بخير، إلا الطعن والتكفير، حتى نحرم هداية الله، فلا إله إلا الله!
    والذي أقوله وسقت الحديث من أجله: ما دام أنه تجلت حقيقة نعمة الإسلام في هذه الديار الصحراوية الجافة وسادها الطهر والصفاء والأمن والعدل، يجب أن نقتدي بها وإن كنا لا نحبها، لكن ننتفع بها، فكان المفروض أن الذي جاء بهذه الدولة وهو الذي حرر العالم الإسلامي دولة بعد دولة، كان الواجب -وسوف تعرفون هذا يوم القيامة- أنه إذا استقل الإقليم الفلاني يجيء وفده من علماء وكبراء ومشايخ ويقولون: يا عبد العزيز ! استقل هذا الإقليم من بريطانيا أو فرنسا أو أسبانيا، فابعث قضاة وابعث آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، ويصبح بعد ذلك قطعة من دولة القرآن، استقل الإقليم الثاني بعد أسبوع أو بعد عامين أو بعد عشرة فيأتي رجاله: ابعث قضاة يطبقون شرع الله، وهكذا يتم تحرير البلاد الإسلامية وهي دولة واحدة، وما يكلفهم شيئاً.
    لكن لما كنا كما ذكرنا ما نريد أن يسودنا آخر أو يحكمنا آخر أو نعطي مالنا لآخر، ما هناك إلا الطعن والسب والشتم، وها نحن لاصقون بالأرض وتحت النظارة، والله! إن لم يتدارك الله المسلمين برحمته لنزل بهم من البلاء ما لم ينزل قبل، إما أن يرجعوا إلى الله، وإما أن تنزل النكبات والمصائب والويلات.

    سبيل الخلاص من فتنة الفرقة والجهل والفسق

    والشاهد عندنا: ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّو نَ وَالأَحْبَارُ )[المائدة:63]، أين علماؤنا نحن؟ وأين مربونا؟ هيا نخرج من هذه المحنة، نخرج من هذه الفتنة، فماذا نصنع؟ علماء القرية وعلماء الحي يطالبون إخوانهم بإلحاح أن يجتمعوا بهم في المسجد، يصلون المغرب كما صلينا ويجلسون كما نجلس، وليلة يتعلمون آية من كتاب الله يحفظونها، ويفهمون مراد الله منها، ويعملون ويطبقون، وليلة أخرى يتعلمون حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا طول العام بل طول العمر، هل يبقى بين المسلمين جاهل أو جاهلة؟ الجواب: لا، وإذا انتفى الجهل ينتفي الفسق معه أم لا؟ إي والله، لا أفسق من جاهل قط، ولا أخشى لله من عالم قط، وبذلك تشعر الأمة الإسلامية أن أمرها واحد وإن تفرقت ديارها، الكل يحب بعضهم بعضاً وينصر بعضهم بعضاً؛ لأن المذهب أصبح مذهباً واحداً، لا حنفي ولا شافعي ولا إباضي ولا زيدي ولا خارجي، بل مسلمون على كتاب الله، الصلاة تقام، والزكاة تجبى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائم بينهم، أصبحوا أمة واحدة، فمن يقوم بهذه المهمة؟

    قال تعالى: ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّو نَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ )[المائدة:63]، ووالله! إن الإثم بلغ منتهاه في عالمنا الإسلامي، أنواعه وضروبه لا حد لها، والسحت كذلك، أصبح الربا شائعاً في العالم الإسلامي، من يقوم بهذا الإصلاح؟ العلماء والمشايخ الربانيون، ماذا يصنعون؟ هل يعلنون الجهاد وتكفير الحكام؟ لا والله ليس هذا، فقط يعلمون إخوانهم في قراهم ومدنهم أنهم خرجوا عن الطريق، أنهم فقدوا ولاية الله، فهيا بنا نطلبها لنظفر بها، نحقق إيماننا وتقوانا لله، فتثبت لنا ولاية الله، والطريق هو أن يجتمع المؤمنون والمؤمنات في بيوت ربهم في مدنهم في قراهم كل ليلة طول الحياة يتعلمون الهدى ويعملون به، فيسمون حتى يصبحون أشباه الملائكة، ويومها والله ليسودن العالم، ويخضع الله لهم البشرية، فمن يقوم بهذا الواجب؟ العلماء والمربون.

    معنى قوله تعالى: (لبئس ما كانوا يصنعون)
    لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّو نَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63]، قبح صنعهم وما كانوا يأتونه، هذه كانت حال اليهود، وارتفع العالم الإسلامي وأنار الوجود فمكروا به وكادوا له وتعاونوا مع المجوس والنصارى فهبط العالم الإسلامي كما تشاهدون نقمتهم منا، والله فضحهم وبين لنا حالهم؛ حتى لا نودهم ولا نحبهم ولا نتعاون معهم، وإذا بنا قد نسينا هذا كله وإلى الله المشتكى.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #336
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (23)
    الحلقة (335)
    تفسير سورة المائدة (3)


    أحل الله عز وجل لعباده بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، إلا أنه حرمها عليهم في بعض أحوالها؛ وهي الميتة، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع إلا ما أدرك منها حياً وتمت تذكيته، كما حرم منها ما ذبح وفق طقوس وشرائع الكفار، وحرم إضافة إلى ذلك الدم المسفوح ولحم الخنزير، واستثنى سبحانه وتعالى من احتاج لشيء من ذلك في شدة الجوع والهلكة أن يأكل منه على قدر حاجته ولا يزيد.
    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
    مجمل الأحكام الواردة في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ...)

    وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ودرسنا منها آيتين يوم أمس، ومجمل ما احتوت عليه الآيتان من أحكام شرعية: أولاً: وجوب الوفاء بالعهود والعقود، عقود إيجار أو بيع أو شراء، أو عقود نكاح؛ إذ قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )[المائدة:1].

    ثانياً: إعلان الله تعالى لنا عن حله لنا بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، هذه منته وعطيته فله الحمد وله الشكر؛ إذ قال تعالى: ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ )[المائدة:1]، ثم استثنى عز وجل عشراً من المحرمات فقال: ( إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )[المائدة:1]، وهو موضوع درسنا اليوم: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ )[المائدة:3] إلى آخر ما جاء في تلك الآية.

    ثالثا: تحريم الصيد على المحرم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:1]، فأعلمنا أنه لا يحل لمحرم أن يصيد وهو محرم ولو كان خارج المملكة، أحرم في القدس أو في غيرها بحج أو عمرة فبمجرد أن يقول: لبيك اللهم لبيك يحرم عليه أن يصيد، سواء الغزلان، الأرانب، الطير وكل صيد، اللهم إلا صيد البحر، إذا أحرم في السفينة ورأى أن يلقي بشبكته في البحر ليصيد فله ذلك، أذن الله فيه، أما صيد البر فحتى الأرانب واليرابيع لا يحل له أن يصيدها؛ إذ قال تعالى: ( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ )[المائدة:1] لا تحلوا الصيد فإنه حرام، ( وَأَنْتُمْ حُرُمٌ )[المائدة:1]، هذه الجملة حالية: والحال أنكم محرمون، و(حرم) بمعنى محرمين، أنت حرام وهؤلاء حرم.

    رابعاً: ثم أعلمنا أن له الحق في أن يحل أو يحرم، لا أحد له في ذلك حق، هو الخالق وهو المالك وهو العليم بما يحتاج إليه خلقه، وبما ينفع ويضر، أما غيره فكيف يحل أو يحرم؟ إياك أن تعترض على الله فإنه الكفر؛ إذ قال: ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ )[المائدة:1] إن الله يحكم ما يريد أن يحكم، وليس لغير الله ذلك، لماذا؟

    أولاً: لأنه الجبار القهار بيده كل شيء.
    ثانياً: لأنه المالك، والمالك يأذن ولا يأذن بما يريد.
    ثالثاً: أنه عليم بمنافع الناس ومضارهم، حكيم لا يضع الشيء إلا في موضعه.

    تحريم استحلال شعائر الله والشهر الحرام والهدي والقلائد وبيان ما نسخ من ذلك

    ثم جاء النداء الثاني: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ )[المائدة:2]، حرام على مؤمن أو مؤمنة أن يحل شعيرة من شعائر الله، إن كانت واجبة لا يحل أن يتركها أو يأذن بتركها، وإن كانت محرمة لا يحل أن يفعلها أو يأذن في فعلها؛ إذ كل العبادات علامات على عبادة الله عز وجل.وقوله: ( وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ )[المائدة:2] هذا منسوخ، أذن الله لأمة رسوله أن يقاتلوا أعداءهم في الشهر الحرام إذا قاتلوهم فقال: ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ )[البقرة:194]، لكن في الجاهلية قبل ألا تكون دولة للإسلام والمسلمين كانوا يحترمون الأشهر الحرم الأربعة، ليتم فيها هدنة عالمية لا يعتدي فيها أحد على أحد.

    (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ )[المائدة:2]، ما زلنا نهدي إذا استطعنا أن نهدي، أنت في المدينة تشتري بقرة أو تشتري بعيراً وتجرحه من جهة اليمين في سنامه، وتلطخه بالدم وتبعث به إلى مكة ليؤكل في الحرم، والقلائد مثل الكبش تقلده قلادة وتقول: هذا مهدى إلى الله إلى الحرم، فلا يعترضه أحد.

    وكان المشركون يحترمون الهدي والقلائد، لا إيمان بالله ولا بلقائه، بل جهل وكفر، ومع هذا من تدبير الله لسكان حرمه وحماة بيته أن ألقى في قلوب العرب في أطراف الجزيرة وفي داخلها أن من قلد هدياً لا يؤذى أبداً ولا يمس بسوء، بل إذا أخذ أحد قشرة من لحاء شجر الحرم وعلقها فإنه يمشي إلى ما وراء البحرين ولا يخاف أحداً، إذ يقال: هذا كان في الحرم، ويسوق قطيع الغنم أو قطيع البقر والإبل فمتى قلدت الغنم أو أشعرت الإبل فإن أعداءه لا يلتفتون إليها، بل يمر الرجل بقاتل أبيه فلا يعرض له، وهل هناك أكبر من قتل أبيه؟ إذا وجده في الحرم أو في الشهر الحرام يلوي رأسه ولا ينظر إليه، واقرءوا في آخر هذه السورة المدنية المباركة: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ )[المائدة:97] فمعايشهم عليها بسببها وبسبب الهدي والقلائد، وهذا تدبير الله، ولما جاء الإسلام ولاحت أنواره، وارتفعت رايته، وكان العدل وكان الحكم بشرع الله نسخ الله هذا.


    تحريم اعتراض قاصدي البيت الحرام ونسخ ذلك في حق المشركين

    كذلك عرفنا أن الذين كانوا يؤمون البيت الحرام من أطراف الجزيرة لا يعترض عليهم، يتركون: ( وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا )[المائدة:2]، ولهذا هذا فنحن لا نؤذي مشركاً أو كافراً، ولكن لا يحل لنا أن نسمح لكافر أو مشرك أن يدخل الحرم، يقول: أنا قاصد بيت الله! نقول: لا يحل لك أن تدخلها وأنت نجس مشرك؛ لأن الله قال في سورة التوبة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا )[التوبة:28]. هذه الآية تقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ )[المائدة:2]، لا تحل أذيتهم ومنعهم من دخول مكة، ( يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ) هذا الجزء من هذه الآية منسوخ، فلا يحل لكافر أن يدخل الحرم، لا يحل لمشرك أن يدخل الحرم، ( وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ )[المائدة:2]، هذا قبل قيام دولة الإسلام، ( يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ )[المائدة:2] التجارة، يأتون حجاجاً وعماراً ويتجرون: يشترون البضائع ويبيعون، ويبتغون رضواناً من ربهم، كانوا يدعون الله ليحفظهم في أموالهم وأبدانهم.


    الإذن بالصيد بعد الفراغ من الإحرام

    ثم جاء الإذن بالصيد إذا حللنا من الإحرام، فقال تعالى: ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا )[المائدة:2]، إذا حللتم من الإحرام، فإذا انتهت عمرتك أو حجك وتحللت فاصطد، لكن أين تصيد؟ هل في داخل الحرم؟ الجواب: لا. لا يحل صيد الحرم إلى يوم القيامة، وأرض الحرم معروفة، الرسول الكريم يقول: ( إن إبراهيم حرم مكة وأنا أحرم المدينة )، ويقول: ( المدينة حرام من عير إلى ثور )، وثور جبيل صغير وراء أحد من الجهة الشمالية الشرقية، وعير: جبل في جنوب غرب المدينة. فالمدينة هذه حرام لا يصاد صيدها ولا يقتل، ومكة حدودها بينها جبريل لإبراهيم عليهما السلام، كان جبريل يمشي مع إبراهيم ويقول له: ضع علامة هنا، من الشمال والجنوب والشرق والغرب، وأقرب حل إلى مكة هو جبل التنعيم الذي هو ميقات من أراد أن يحرم بعمرة.


    النهي عن العدوان على من صد المسلمين عن البيت وهو في الحرم

    (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ )[المائدة:2] أي: بغضهم ( أَنْ صَدُّوكُمْ )[المائدة:2] لأنهم صدوكم ( عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا )[المائدة:2]، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يعتدي أبداً لا على مؤمن ولا على كافر، فالكافر عبد الله أم لا؟ ملك الله أم لا؟ فإذا لم يأذن لك أيجوز أن تمسه بسوء؟ فلا يحملنكم بغض إنسان آذاكم أذى أن تعتدوا عليه لأنه آذاكم وهو في الحرم: ( أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا )[المائدة:2].


    الأمر بالتعاون على البر والتقوى

    وأخيراً جاء الأمر الباقي إلى يوم القيامة لا ينسخ: ) وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ([المائدة:2]، من هم الذين يتعاونون؟ الذين أصبحوا كرجل واحد، الذين زالت بينهم الفوارق الحزبية والوطنية والطرقية والمذهبية، وأصبح منهجهم منهج رسول الله، هؤلاء يقدرون على أن يتعاونوا، أما المتعادون المتقاطعون فكيف يتعاونون؟ إذاً: هل هذا يبرر لنا عدم التعاون؟ لا يبرر، يجب أن نتعاون على الخير وفعله، وعلى تقوى الله حتى لا يعصى الله بيننا بأية معصية، ولا يحل أن نتعاون على الإثم وإشاعة الذنوب والآثام والأذى والظلم بيننا، ولا الاعتداء على أموالنا أو أعراضنا أو أبداننا. (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ )[المائدة:2] اتقوا الله: خافوه، اجعلوا بينكم وبين غضبه وعذابه وقاية، وتلك هي طاعته وطاعة رسوله فيما يأمر الله به وينهى عنه، فبم يتقى الله عز وجل؟ هل بلباس قوي؟ بحصون عالية؟ بجيوش جرارة؟ بم يتقى الله وهو فوقنا ونحن أقل من بعوضة بين يديه، بم نتقيه؟

    لا يتقى إلا بطاعته، إذا قال: اسكت فاسكت، إذا قال: تكلم فتكلم، قال: كل فكل، قال: اشرب فاشرب، قال: لا تأكل ولا تشرب فلا تأكل ولا تشرب، إذا قال: اركع فاركع، قال: اسجد في الأرض وضع جبهتك على التراب فاسجد، بهذا فقط يتقى الله، أما السلاح والرجال والحيل فلا شيء منها يقيك من عذاب الله؛ لأنه قاهر فوقك:( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )[الأنعام:18].


    قيمة التقوى وثمرتها

    إن قيمة التقوى تكمن في تحصيل ولاية الله تعالى، وقد قررنا أن ولاية الله حيث تصبح ولياً لله لا خوف عليك ولا حزن في الحياة كلها في الدنيا والأخرى، هذه الولاية لا تتحقق إلا بتقوى الله عز وجل، من لم يتق الله لن يكون له ولياً أبداً، الإيمان أولاً، ثم التقوى ثانياً، فمن منكم يرغب أن يكون من أولياء الله أفضل من عبد القادر الجيلاني ؟ إذاً: آمنوا واتقوا فقط، لا دينار ولا درهم، ولا سلاح، ولا رجال، ولا حيل، ولا نسب ولا شرف، آمن واتق تكن -والله- ولياً لله، والدليل القرآني قوله تعالى من سورة يونس عليه السلام: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[يونس:62] وما معنى (ألا)؟ استبدلناها بـ(ألو)، ألو معروفة عندنا حتى الأطفال يعرفونها، لأننا هجرنا (ألا) وأقبلنا على (ألو) فأصبحت (ألو) من ذوقنا! إن معنى (ألا): انتبه! هل أنت تسمع؟ هل أنت واع للخطاب؟ هل أنت تفهم ما أقوله لك؟ وحينئذ يعطيك الخبر: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[يونس:62] لا في الدنيا ولا في البرزخ ولا في الآخرة.

    من هم أولياؤك يا رب الذين أخبرتنا أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ قال تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ )[يونس:63].

    الإيمان ينطبع في قلوبهم مرة واحدة فلا يزول ولا يمحى، أما التقوى فتتجدد، كلما أمر الله بأمر فاتق وافعله، وكلما بلغك نهي فاتركه واجتنبه، وهكذا طول حياتك، فلهذا التقوى تتجدد: ( وَكَانُوا يَتَّقُونَ )[يونس:63].

    فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وهل يمكن لإنسان أن يتقي الله وهو لم يعلم أوامره ولا نواهيه؟ والله ما يمكن، مستحيل، إذا لم تعرف أوامر الله ما هي، وكيف تؤديها وما أوقاتها، ولم تعرف نواهيه وما هي؛ فكيف ستتقيه؟ مستحيل، فلهذا بمجرد أن تؤمن وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله؛ تقرع أبواب العلماء: علموني كيف أعبد ربي، علموني بم أطيعه. لا في عامين، بل في أسبوع أو أسبوعين تعرف ما حرم الله وما نهى الله عنه، وما أوجب الله وما أمر به، أما بدون علم فمستحيل أن تكون ولي الله.
    ولهذا كان طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وليس شرطاً أن تأخذ القلم أو الورق، المهم أن تسأل وتعلم وتعمل، والله يقول: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، اسأل في صدق في جد: أريد أن أغتسل فكيف أغتسل؟ يعلمك ذلك فعلى الفور تحسنه وتعيش عليه، أردت أن أعتمر فكيف أعتمر؟ افعل كذا وكذا. في صدق تفهم ذلك وتعمل، وهذا هو العلم، ليس شرطاً الكتاب ولا القلم؛ لأنه علم عملي، ما هو بعلم خيالي.




    التحذير من عقاب الله تعالى
    ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:2] والعلة ما هي؟ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2]، أنقذوا أنفسكم، اتقوه لا تخرجوا عن طاعته، فإنه إذا عاقب فعقابه شديد، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2] والعقاب: المعاقبة على الذنب، مأخوذ من العقب، لا يؤاخذك الله على الذنب قبل أن تفعله أبداً، لا يعاقب الله إلا بعد أن يذنب العبد فيأخذه من عقبه، لا أنه يعلم أنه يزني فيسلط عليه البلاء قبل أن يفعل! لا؛ لأن الله يعاقب بعد وقوع الجريمة والذنب: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
    تفسير قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ...)
    تلك الآيتان درسناهما بالأمس، والآن مع هذه الآية، وليس بالإمكان دراستها كاملة، فنأخذ بعضها، وأولاً نسمعكم تلاوتها تبركاً بها:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3].
    تحريم الميتة والدم المسفوح وبيان علته

    في الآية السابقة قال تعالى: ( إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )[المائدة:1]، وهنا بين ذلك فقال تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ )[المائدة:3] من حرمها؟ مالكها. لم حرم الميتة؟ لأنها تحمل ضرراً لعبد الله العابد الذاكر الشاكر، الميتة فيها جراثيم وميكروبات؛ لأنها ما ذكيت ولا طهرت بإخراج دمها بما فيه من الجراثيم، ماتت هكذا، فمولانا وسيدنا وربنا تعالى قال: لا تأكلوا الميتة، لم يا رب؟ لأنها تضركم وتؤذيكم، وأنا لا أريد لعبيدي أن يتأذوا، فكيف يعبدونني إذا تأذوا؟ فالمريض لا يحج ولا يعتمر، فالميتة سواء كانت من الأنعام أو كانت من اليرابيع والظباء والغزلان محرمة، وعلة تحريمها الضرر الذي يصيب عبد الله آكلها أو أمة الله آكلتها. وحرم تعالى الدم المسفوح السائل، كانوا يجمعونه ويغلونه على النار فيتجمد ويأكلونه، هذا فيه جراثيم وميكروبات قاتلة، أما الدم الذي يجري في العروق ومع العظام واللحم فلا، الممنوع أن تذبح الشاة وتجعل تحتها إناء وتأخذ ذاك الدم وتطبخه وتأكله، هذا حرام، ولم حرمه الله على أوليائه؟ لأنه يضر بأبدانهم، وهو خلقهم ليذكروه ويشكروه، فإذا مرضوا فكيف يعبدونه؟


    تحريم لحم الخنزير وذكر بعض مفاسده

    (وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ )[المائدة:3]حرم تعالى لحم الخنزير أيضاً، فلم حرم لحم الخنزير؟ أولاً: الخنزير هذا يأكل الجيف، يأكل الفئران الميتة، يأكل القاذورات، يتغذى بالخرء، ففيه أيضاً من الجراثيم القاتلة ما لا يوجد في غيره والعياذ بالله، الخنزير لو قدمت له الخرء فإنه يعيش عليه، وعلى الجيف، كل منتن يتلذذ به، فلهذا يحمل في دمه ولحمه جراثيم وميكروبات قاتلة، فلم يأذن الله لأوليائه أن يأكلوه.
    وهناك لطيفة خذوها، وهي: أن الخنزير ديوث الحيوانات، يرضى بالخبث في أنثاه، لا يغار عن أنثاه، رأينا الجمل -والله- يصول صولاناً ولا يسمح لآخر أن يمس أنثاه، التيس من الغنم كذلك، والكلاب، إلا الخنزير فإنه -والعياذ بالله- ديوث، فالذين يأكلونه تنتقل الدياثة إليهم، وقد جرب هذا وعرف، ما تصبح له غيرة على امرأته أو ابنته، فهل عرفتم لم حرم الله لحم الخنزير؟ لأنه ضار بالمؤمنين، مفسد عليهم أعراضهم وأبدانهم، فكيف يجوز أكله؟

    تحريم ما أهل به لغير الله تعالى

    (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3]، فالذي قال: هذه لسيدي فلان وذبحها، باسم المسيح، باسم عيسى، هذه شاة مريم ، هذه شاة سيدي عبد القادر ، هذه شاتك يا أحمد التجاني ، هذه شاتك يا إبراهيم، هذه شاتك يا سيدي البدوي .. كل ما رفع عليه صوت باسم غير الله عند ذبحه فقد أهل به لغير الله، فلا يحل أكله أبداً. وهذا فيه تدسية النفوس وتخبيثها، فالأولى فيها أمراض البدن، وهذه فيها أمراض الروح، وهو أخطر من مرض البدن، خير أن تعيش سبعين سنة مريضاً ولا أن تعيش ساعة واحدة فاسقاً أو فاجراً.
    (وَمَا أُهِلَّ )[المائدة:3] الإهلال: رفع الصوت، ومنه الهلال لارتفاعه، فما قيل عليه: باسم الله والله أكبر فهذا الذي يؤكل، أما باسم المسيح، باسم سيدي فلان، باسم كذا.. فلا يحل أكله أبداً.

    وهنا يأتي المغرضون يقولون: أنا قلت: باسم الله عند ذبح الشاة. لكن لو سألته: هذه الشاة لمن؟ يقول: هذه شاة سيدي عبد القادر ، إذاً: ما فائدة باسم الله؟ هل تكذب؟ أنت جعلتها لسيدي البدوي ، تقول: هذه شاته، هذه شاة سيدي عبد القادر ، هل ينفعك حين تقول: باسم الله عند الذبح؟ لا ينفع؛ لأن كلمة (باسم الله) معناها: أذن الله لي في هذه، أمرني أن أقدمها له باسمه فذبحتها، ليس معنى (باسم الله) للتبرك فقط، بل إعلان عن القصد: أمرني ربي باسمه أن أذبح هذا الحيوان وأقدمه للأكل، إذاً: فما أهل لغير الله به لا يأكل لحمه كالخنزير والميتة والدم على حد سواء.
    إذاً: هذه أربعة: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)[المائدة:3]، هذه أصول المحرمات، جاءت في سورة النحل وفي سورة الأنعام: ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[الأنعام:145] أربعة.

    هذه أصول المحرمات: ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ )[الأنعام:145] آكل ( يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[الأنعام:145]، هذه هي الأربعة هنا: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ )[المائدة:3].


    تحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع

    وإليكم الآن ست داخلة تحت أنواع الميتة:

    قال أولاً: (
    وَالْمُنْخَنِقَ ةُ )[المائدة:3]، هي التي يخنقها بحبل أو بيديه أو بحجرين حتى تموت، هذه مخنوقة، بهيمة مخنوقة لا تؤكل، لم؟ لأنها ميتة؛ لأن الجراثيم والميكروبات في دمها، ما ذكيت وما طهرت.


    (وَالْمَوْقُوذَة ُ )[المائدة:3]: الوقذ هو الضرب بشدة، وقذه بعصا بحجر بعنف، فالتي تضرب بعصا أو بحجر حتى تموت هذه هي الموقوذة، لا يحل أكلها، فهي ميتة جيفة.

    ثالثاً: ( وَالْمُتَرَدِّي َةُ )[المائدة:3]، سقطت من السطح أو من أعلى الجبل، أو سقطت من السيارة فماتت، هل يجوز أكلها؟ ما يجوز، فهذه ميتة، فيها جراثيم وميكروبات في دمها محبوسة فيها.

    (وَالنَّطِيحَةُ )[المائدة:3]: النطيحة بمعنى المنطوحة تنطحها أختها، تراها تتقاتل على الأكل، تنطحها ويدخل قرنها في بطنها أو كذا فتموت، فهي ميتة.

    (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ )[المائدة:3]: السبع: الذئب وغيره مما يفترس ويأكل، فالشاة التي يأكلها السبع وتجدها ميتة لا يجوز أكلها، اللهم إلا إذا أدركتها حية والحياة مستقرة فيها وذبحتها وسال دمها فلا بأس، كذلك نقول في المنخنقة، وفي الموقوذة، في المتردية، في النطيحة، ما أدركت فيه الروح كاملة بحيث إذا ذبحته رفس برجليه وانتفض فلا بأس.


    حل قتيلة الصيد المستوفية شروطها

    ونستثني أيضاً ميتة أخرى، وهي أن ترسل كلب الصيد وتقول: باسم الله، ويجري ذلك الكلب الصائد فيفترس أرنباً أو غزالاً ويقتله، ولكن ما أكل منه، فهذه ميتة في الواقع ولكن أذن الله في أكلها، ترمي برصاصتك ذاك الغزال وتقول: باسم الله والله أكبر فيقع ميتاً قبل أن تصل إليه، فكله فإنه حلال، وسيأتي هذا في آخر هذه الآيات، فالكلب المعلم يحل صيده، ما كل كلب يصيد تأكل صيده، وإنما ذاك الذي إن قلت له: امش يمشي، وإذا قلت: قف يقف، وإذا قلت: ارجع يرجع، ثانياً: أن تسمي الله عند إطلاقه وإرساله: باسم الله، هذه حالة من رحمة الله تعالى بنا حيث أذن لنا فيها، إذ قال تعالى في الآيات بعد هذه: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )[المائدة:4]، هذه خاصة بالصيد، لمن عنده كلب مربى معلم مؤدب، وعلامة ذلك أنك إذا أرسلته يمشي، وإذا دعوته يعود، أما إذا لم يستجب لك فما هو بمعلم، وأيضاً أن يصيد لك ويأتيك بالحمامة أو بالغزالة دون أن يأكلها، يحملها ويأتي بها بين يديك، هذا من تعليم الله عز وجل، فهذا الكلب المعلم إذا أرسلته وذكرت اسم الله وصاد لك غزالة أو أي حيوان مأكول فكله ولا حرج وإن وجدته قد مات، لكن إذا وجدته يأكل منه فلا يحل لك، فقد صاده لنفسه وما صاده لك.إذاً: هيا نتلو بعض الآية: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) [المائدة:3]، ما معنى: (وما أهل لغير الله به)؟ هذه شاة سيدي عبد القادر ، هذه شاة المسيح، رفع الصوت فيها بغير اسم الله.

    (وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ )[المائدة:3]، إلا ما ذكيتموه، قالت العلماء: أدركتم فيه الروح كاملة فذبحتموه، فالمنخنقة، المتردية، النطيحة إذا أدركت فيها الحياة مستقرة وذبحتها فهي حلال، وإن وجدتها ميتة أو في حكم الميتة بحيث إذا ذبحتها لم تتحرك فلا تؤكل، فهي ميتة.


    تحريم ما ذبح على النصب

    (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3]، ما النصب هذه؟ جمع نَصَب، وهو التمثال، زعماء العرب بعضهم عملوا لهم أنصاباً، أظن هذا موجوداً، زعيم عملوا له تمثالاً، هذه النصب كان المشركون يجعلونها يعبدونها، ويأتي بالشاة ويذبحها للنصب، فهو ذبح لغير الله: ( وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )[المائدة:3]، وهو ما ينصب للعبادة.وهذه ما شاعت بين المسلمين وظهرت إلا في بلدين أو ثلاثة وانتهت، فلا يحل لنا أبداً أن نجعل لأحدنا صورة من حديد أو ساج أو عاج أو خشب أو طين حتى نذكره بها ونعظمه، هذا من فعل المشركين، ولا يحل أبداً، وأهله في جهنم.




    التنديد بالصور الموضوعة على الأضرحة والصور الملتقطة للذكريات
    مع الأسف أنهم الآن يجعلون صورة على ضريح الولي، صورة فوتوغرافية كبيرة حتى يشاهدوه فيقولوا: هذا سيدي فلان! وهذا أيضاً من الوثنية، فنحن حرم علينا رسولنا أن نصور، وقال: ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون )، وأعلمنا أن الله يغضب لذلك ولا يرضى، فكيف نغضب مالكنا؟ كيف نغضب من إليه مصيرنا، كيف نغضب من بيده حياتنا ومماتنا؟ أنعلم أن الله يغضب من هذا الكلام أو هذا القول أو هذا العمل ونفعله؟ أمجنون أنا لا عقل لي؟!دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة في حجرتها الطاهرة الموجودة الآن، والتي فيها رسول الله وصاحباه، وقد وضعت سترة في كوة أو نافذة فيها صورة منسوجة بالخيوط، والله لقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت الغضب في وجهه فقالت: أتوب إلى الله ورسوله، ماذا فعلت يا رسول الله؟ قال: ( يا عائشة ! أزيلي عني قرامك؛ فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، فمزقته وجعلته تحت رجليها، فكيف بحالنا؟ نريد أن نجتمع وأن نكون الدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية ونحن بهذا الهبوط نتحدى الله ورسوله، نتبجح بالتصوير حتى في عرفات؟ المرأة الحاجة والرجل الحاج في عرفات يتصور، وحول المسجد النبوي، إلا أن الهيئة تطاردهم، يقولون: ذكريات؛ لأن قلوبهم نسيت الله عز وجل وما عنده وما لديه، فيذكرون أشياء أخر.كيف حالكم في بيوتكم يرحمكم الله؟ هل يوجد في بيوتكم صور أم لا؟ أترضون أن يغضب الله ورسوله عليكم؟ اسمعوا واعلموا أن القضية قضية جد ما هي بهزل، بالله الذي لا إله غيره! لا يحل لنا نحن أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن نعلق الصور في بيوتنا، وأعظم من ذلك أن نضع شاشة التلفاز والفيديو ونشاهد العواهر من النساء يغنين، والهابطين من رجال يرقصون ويتكلمون في بيوتنا التي تعمرها الملائكة.أقول: لو نرجع إلى الله أربعاً وعشرين ساعة يسمع العالم بكامله أن بيوت ألف مليون مسلم ما فيها صورة، لغيرت الدنيا نظامها وعرفوا قيمة الإسلام وأهله، مسألة كهذه فقط: عرف المسلمون أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، فطردوا الشياطين من بيوتهم وأحلوا الملائكة محلها، من أجل أن يذكروا الله وينيبوا إليه، هذه وحدها بها نقول: طلعت شمس الإسلام، في أربع وعشرين ساعة والأمة كلها على قلب رجل واحد، هذه البسيطة الساذجة ما فعلناها! مع أننا نقول في هذا المسجد: نتحداكم يا من في بيوتكم هذه الملاهي أن تغتنموا غنيمة، ما هناك دينار واحد، طول الليل والرواقص في بيتك، فكم ريالاً تجني؟ والله لا تجني ريالاً واحداً، هل يحدث لك الشبع في بطنك؟ هل يعلو شرفك ومكانتك وتصبح ولي الله؟ والله ما كان، هل ترهب وتصبح كالأسد يخافونك من فوقك ومن تحتك؟ والله ما كان، ما هي النتيجة غير أن يغضب الله ورسوله؟أننا نحن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه لا نتكلم بالكلمة إلا إذا كانت تنتج لنا حسنة أو تنتج لنا درهماً، لا نمشي مشية أبداً إلا من أجل أن نكتسب درهماً لمعاشنا أو حسنة لمعادنا، فكيف نجلس الساعات ونضيع وقتنا في اللهو والباطل؟ ولا ألوم؛ لأننا ما عرفنا، ما علمونا، جهلنا منذ قرون، أبعدونا عن القرآن والسنة، إذاً هذا هو الذي يجري بيننا.ومع الأسف أنه أيضاً حتى العبد إذا سمع لا تطمئن نفسه إلى ما سمع، ولو كنا صادقين فوالله لن يوجد من الليلة في بيته تلفاز ولا فيديو أبداً، وإن وجد لضرورة لمسئول من المسئولين أو سياسي من السياسيين في غرفة خاصة فيها إبليس عند الحاجة والضرورة يفتح ويسمع أو يشاهد، ثم يغلق، ما يجعله لبناته ونسائه وأولاده يتفرجون على العهر والباطل، فتفسد قلوبهم وتطمئن نفوسهم إلى الباطل ويتلذذون به.
    طريق العودة إلى الله تعالى
    هيا نعود، الطريق إلى العودة أن نعلن عن إسلامنا في صدق ووفاء، أسلمنا لك يا رب قلوبنا ووجوهنا، ثم أهل القرية يعلن إمامهم يوم جمعتهم: معشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من هذا اليوم لا يتأخر واحد منا عن صلاة المغرب والعشاء في مسجدنا هذا أبداً، يا أهل القرية! لا يتخلف بعد اليوم رجل ولا امرأة عن صلاتي المغرب والعشاء. دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب فيقف العمل وقوفاً كاملاً، يأخذون في التطهر ولبس ثيابهم الجميلة ويحملون أطفالهم ونساءهم إلى بيت ربهم، إلى بيت الرب جل جلاله وعظم سلطانه.يصلون المغرب النساء وراء الستارة والأطفال دونهن والفحول أمامهم، بعد صلاة المغرب آية يدرسونها كل ليلة، يتغنون بها حتى تحفظ، فيحفظها الرجل والمرأة والطفل حفظاً حقيقياً بقصد العلم ومعرفة الطريق إلى الرب تبارك وتعالى، في ربع ساعة كل الحاضرين والحاضرات حفظوا تلك الآية، ثم يأخذ المربي يضع أيديهم على المطلوب منها، الآية تطلب منا عقيدة كذا فهيا نعقدها في نفوسنا، الآية تطلب منا ترك معصية فلانية فمن الآن عزمنا على تركها، تأمر بواجب فمن الآن نقوم به، وفي الليلة الثانية حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوماً بعد يوم، شهراً بعد شهر، ما تمضي سنة إلا وأهل القرية والله كأنهم رجل واحد، على قلب رجل واحد، لا خلاف ولا مذهبية ولا فرقة، بل قال الله قال رسوله، يطبقون دين الله عز وجل.والمدن كذلك، كل مدينة فيها أحياء، كل حي له مسجده، دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب فتوضئوا وأتوا بيت ربهم يطرحون بين يديه، يبكون بين يديه، يطلبون عونه ونصره على أنفسهم أولاً ثم على أعدائهم ثانياً، يتعلمون الكتاب والحكمة، فما تمضي سنة إلا وهم كرجل واحد، وتنتهي مظاهر الغش، والحسد، والكبر، والجهل، والشرك، والباطل، والله! إنه لمستحيل أن تبقى، إنها سنن الله عز وجل: الطعام يشبع أم لا؟ الماء يروي أم لا؟ الحديد يقطع أم لا؟ لم لا تتخلف هذه السنن؟ إذاً: فتعلم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس يستحيل معه الباطل والشر والفساد.هذا هو الطريق، هذا طريق العلم، هذا طريق العودة إلى الله، هذا طريق النجاة، فبلغوا، حاولوا أن تفعلوا حتى في بيوتكم، اجمع امرأتك وأولادك وتغن بآية معهم أو حديث، ليلة آية وليلة حديث، تشبعون بالنور الإلهي وتنامون، أما أن تترك التلفاز في بيتك والفيديو والعواهر يغنين فكيف يصح هذا؟ والله إني أخشى أن يموتوا على سوء الخاتمة، تفسد القلوب، وإن صاموا وصلوا.اللهم إنا نسألك أن تهنئ المؤمنين والمؤمنات بصوم رمضان، اللهم هنئهم بالثواب المأجور عليه، اللهم هنئهم بالثواب وأعدهم إلى مثله يا رب العالمين، اللهم أعدهم إلى مثله وهم طيبون طاهرون أتقياء بررة مستقيمون، اللهم أعدهم إليه وأعده عليهم يا رب العالمين سنوات عديدة وهم أتقياء أولياء صالحون يا رب العالمين.وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #337
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (24)
    الحلقة (336)
    تفسير سورة المائدة (30)



    عرف عن اليهود على مر الأزمان سوء أدبهم واستهزاؤهم بأنبيائهم، وقتلهم فريقاً منهم، وهم لم يقفوا عند ذلك وإنما تطاولوا على الذات الإلهية، ووصفوا الرب جل وعلا بصفات يأنف أن يوصف بها البشر، فقالوا عنه سبحانه: إن يده مغلولة، فعاقبهم الله بجنس مقالتهم، فجعل أيديهم مغلولة فلا تنفق في أي باب من أبواب الخير، ولعنهم سبحانه وتعالى بسبب هذه المقالة وغيرها فهم يتقلبون في لعائن الله صباح مساء.
    تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ...)
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوان! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). ومن أراد أن يتأكد فليقف الآن ولينظر إلى هذه الجماعة المؤمنة هل تشاهد فيها منكراً أو باطلاً؟ هل ترى فيها عذاباً؟ ولو كنت تبصر وبصرك يقدر على رؤية الملائكة والله لرأيتهم يحفون بهذه الحلقة، أما ذكر الله تعالى لنا في الملكوت الأعلى فهو أمر أكيد مقطوع به، إذ أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث، فهيا أتلو واستمعوا وتدبروا وتأملوا، ثم نأخذ في بيان هدايتها عسى الله أن يهدينا.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَا هُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة:64-66].
    أخبار الصدق دلائل تنزيل القرآن من الله تعالى

    يقول تعالى مخبراً عن اليهود الذين كانوا يساكنون الرسول والمؤمنين بهذه المدينة: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَا هُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ )[المائدة:64-66]، هذا الكلام كلام من هذا؟ كلام الله، على من أنزله؟ على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أين يوجد هذا الكلام الآن؟ موجود في كتاب الله. هل لله من كتاب؟ أي نعم. ما اسمه؟ القرآن العظيم، به مائة وأربع عشرة سورة، هذه السورة سورة المائدة المدنية من سور الكتاب الكريم والقرآن العظيم، هل يجوز عقلاً إنكاره وتكذيبه؟ والله ما يجوز ذلك عقلاً، أينزل خالقك ورازقك وخالق كل شيء في هذه الأرض من أجلك، أينزل كتابه وتجحده وتنكره من أجل أن تبقى في الفواحش والأباطيل والمنكرات يا آدمي؟! كيف تنكر هذا؟ لقد أنكره بلايين البشر؛ لأنهم عبدوا الشيطان فساقهم إلى مهاوي الشر والفساد فأنكروا الحق وجحدوا به.

    سبب نسبة المقالة الكفرية إلى جميع اليهود

    (وَقَالَتِ الْيَهُودُ )[المائدة:64]، تدرون من اليهود؟ هؤلاء هم بنو إسرائيل أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ويعرفون ببني إسرائيل، ثم لما زلت أقدامهم وسقطوا في الهاوية عرفوا باليهود، وها هو ذا ربنا تعالى يحدثنا عنهم ويخبرنا عن حالهم؛ لنتعظ لنعتبر لنطلب الكمال والسمو والنجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، لا أن يقرأ هذا الكتاب على الموتى، يقرأ على الأحياء أمثالكم؛ ليتدبروا ويتفهموا ويعلموا ويعملوا فيكملوا ويسعدوا.(وَقَالَتِ الْيَهُودُ )[المائدة:64]، ماذا قالوا؟ قالوا: ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ )[المائدة:64]، قالها فنحاص وغيره من شياطينهم: ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ )[المائدة:64]، يعني: ما ينفق علينا ولا يعطينا! شطحات الهاوين، وهل يوصف الله بهذا الوصف؟ هل يصفه بهذا إلا كافر؟ وهم يدعون الإيمان ويدعون العلم، ويقولون: الله بخيل وشحيح وما ينفق علينا ونحن نعاني الفقر والحاجة والجوع، قال هذا بعض اليهود وطأطئوا رؤوسهم وما أنكروه ووافقوا من قال، فكلهم قالوه إذاً.

    إذا ظهر منكر في بلد من بلاد المسلمين فكل الذين سمعوا به وما أنكروه يعتبرون فاعليه ومن أهله، فليس اليهود كلهم قالوا هذه المقالة، قالها فنحاص وفلان وفلان من رؤسائهم، لكن سائرهم ما قالوا: هذا باطل وهذا منكر ولا تقل مثل هذا، وتعالى الله عن البخل والشح. بل سكتوا، إذاً: فكلهم قالوا.

    الرد على اليهود وتنزيه الله تعالى عما نسبوه إليه سبحانه

    ورد الله تعالى عليهم باطلهم وقال: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ )[المائدة:64]، دعا عليهم فلن يفلحوا، غلت أيديهم ولا تجد أشح ولا أبخل من اليهود، وجرب، ( وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا )[المائدة:64]، أي: بسبب قولهم الباطل، قولهم: يد الله مغلولة، أو: الله شحيح وبخيل، هذه الكلمة لعنوا بسببها، فمن اللاعن لهم؟ إنه الله تعالى الذي يقوى على طردهم من ساحات الرحمة والخير إلى ساحات الشر والعذاب والبلاء، ( وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا )[المائدة:64]، أي: بسبب قولهم الباطل الفاسد من الكذب على الله عز وجل، وهو وصف الله بما هو منزه عنه.تأملوا: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ )[المائدة:64]، ماذا قال الله؟ ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ )[المائدة:64]، ثم ماذا؟ ( وَلُعِنُوا )[المائدة:64]، بسبب ماذا؟ ( بِمَا قَالُوا )[المائدة:64]، فكيف لا نفهم هذا الكلام؟!

    ثم قال تعالى إضراباً عن تلك الأباطيل: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )[المائدة:64]، أنفق منذ أن خلق الخلق إلى اليوم ما لا يقادر قدره ولا يحصى عدده، ولا يعرف أبداً، أنفاسناً هذه عطيته، طعامنا شرابنا لباسنا كل هذا إنفاق الله عز وجل، ومع ذلك قالوا: يده مغلولة! ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )[المائدة:64]، هذا يغنيه وهذا يفقره، لماذا؟ لأني عليم حكيم أتصرف بحسب العلم والحكمة، أبتلي بالغناء وأبتلي بالفقر، وحاشاه تعالى أن يتصرف في شيء بدون علمه وحكمته، ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ )[الأنبياء:35]، ينفق كيف يشاء، وأخبر عنه نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم فقال: ( يد الله سحاء الليل والنهار ).

    وقوله تعالى: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )[المائدة:64]، إياك أن يخطر ببالك أن يدي الله كيدي المخلوقات، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، إذ قال: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )[الشورى:11]، ومستحيل أن تكون يد الله مثل يد مخلوقاته.

    وعندنا أمثله للعامة ليفقهوا، نسأل الله ألا يؤاخذنا عليها، بل نسأله أن يثيبنا عليها، فنقول: لا تعجب، فأنت تؤمن بالنملة، فإذا قلنا: للنملة يد فهل يد النملة تشبه يدك؟ مستحيل هذا، إذاً: فصفات الله الذاتية كذاته لا تشبه صفات مخلوقاته بحال من الأحوال.

    معنى قوله تعالى: (وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً)

    ثم قال تعالى: ( وَلَيَزِيدَنَّ )[المائدة:64] هو جل جلاله وعظم سلطانه، ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا )[المائدة:64]، الذي أنزل إليك يا رسولنا من القرآن من ربك لا يزيدهم إلا طغياناً وكفرا، والمفروض أنه إذا سمع العبد آيات نزلت يقوى بها إيمانه وتزداد بها علومه ومعارفه، لكن مع الأسف إذا نزلت كهذه يزدادون كفراً وطغياناً؛ لأن الله لعنهم.وتقدمت الآية الكريمة: ( وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ )[المائدة:61]، كيف يسمعون من رسول الله هم والمؤمنون، فالمؤمنون يزيد إيمانهم وهم يزدادون كفراً؟ لأن الله لعنهم، فسدت عقولهم.

    اسمع ما يخبر به تعالى: ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ )[المائدة:64] يا رسولنا ( مِنْ رَبِّكَ )[المائدة:64] من القرآن، لا يزيدهم إلا ( طُغْيَانًا وَكُفْرًا )[المائدة:64]، طغيان بالظلم والشر والفساد والكفر والجحود والإنكار؛ لأنهم فسدوا وهبطوا، أصبحوا شر البرية، وإلا فالمفروض أن كل من يسمع القرآن يزداد إيمانه وشوقه إلى ربه وإلى طاعته.


    معنى قوله تعالى: (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة)

    ثالثاً: ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )[المائدة:64]، مَنْ من رجال السياسة والعلم الحديث يردون علينا هذه؟ ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ )[المائدة:64]، أي: بين أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، ( الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )[المائدة:64]، الآن تقول: كيف هذا واليهود مبجلون مكرمون عند النصارى يحبونهم ويوالونهم؟! الجواب يا بصراء يا أهل العلم: أن النصارى فقدوا عقيدتهم، تحللوا وذابوا في الماديات فما أصبح في قلوبهم ذاك الإيمان الذي يحملهم على بغض من قتلوا إلههم وصلبوه، انتهى بيد اليهود، هم الذين أنشئوا وأوجدوا المذهب البلشفي الشيوعي اللاديني: لا إله والحياة مادة، من طلع بهذه الفتنة؟ هل الأوربيون قبل كل شيء أم لا؟ هجروا الكنائس تغني بها الطيور والحمام، فمن فعل بهم هذه؟ فعلها اليهود حتى يسخروهم ويركبوا على ظهورهم ويسودوهم وهم حفنة من البشر بالمكر والحيلة والخداع.
    أما الذين ما زالوا مؤمنين فوالله ليحملن البغضاء والعداء لليهود إلى يوم القيامة، ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )[المائدة:64]، فقولوا: صدق الله العظيم!

    قلت لكم: صدق الله العظيم؛ فالعداوة والبغض والكره بين اليهود مع النصارى والله لا تزال إلى يوم القيامة، فإن قلتم: ها نحن نشاهد النصارى في أمريكا وفي كل مكان يودون اليهود ويحبونهم؟ فالجواب: إن الذين يودونهم تخلوا عن عقيدتهم الصليبية وكفروا بها، ما أصبحوا يؤمنون بها، أما تعرفون الشيوعيين والعلمانيين؟ هل يؤمنون بالله؟ لا.
    إذاً: هؤلاء أصبحوا كالبهائم سخرهم اليهود، هم الذين بهموهم بهذه المعتقدات وأصبحوا تحت أرجلهم، لو تراجع النصارى من جديد إلى الصليبية والنصرانية الحقة والله لفعلوا العجب باليهود، كانوا يقلونهم كالسمك في الزيت، ما يستطيع المسيحي أن ينظر إلى اليهودي بعينيه؛ كيف ينظر إلى قاتل ربه؟! كيف يرضى عنه؟! ومن ثم هربوا إلى بلاد العرب.
    فقول ربنا: ( وَأَلْقَيْنَا )[المائدة:64] الفاعل هو الله، ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )[المائدة:64]، هذا تدبير الله في خلقه.


    معنى قوله تعالى: (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله)

    ثم قال تعالى: ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ )[المائدة:64]، أين السياسيون؟ القرآن يخبرنا أن الحرب العالمية الأولى والثانية والآتية الذين وضعوا خيوطها ونسجوها هم اليهود، تسمعون بالحرب العالمية الأولى والثانية، والثالثة أوشكت أو كادت، فمن الذين ينسجون خيوطها ويعدونها؟ هل العرب أو الهند؟ إنهم اليهود، وإن شئتم حلفت لكم بالله، والذين لا بصيرة لهم يتبعون ما يقول أهل الجهل والضلالات ويقلدونهم، والله ما أوقد اليهود ناراً للحروب إلا أطفأها الله، إذاً: فهم الذين يقودون الحروب والله يطفئها وينهيها، ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ )[المائدة:64].

    معنى قوله تعالى: (ويسعون في الأرض فساداً)

    ثانياً: ( وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا )[المائدة:64]، يعملون الليل والنهار بمخططاتهم وبمعارفهم وكيدهم ومكرهم على إيقاع البشرية في الفساد: الزنى، الربا، أندية اللواط، القمار، قل ما شئت، فأصابع اليهود هي التي تدبر ذلك.إن الحاكم الفرنسي أيام الاستعمار زارنا في القرية منذ حوالي سبعين سنة أو ثمان وستين سنة، امرأته الفرنسية على وجهها برقع أسود كالمرأة عندنا في المدينة، وإلى الآن في الجبال وفي الغابات المرأة الأوروبية ثوبها إلى كعبها، فمن مسخهم حتى صارت المرأة نصف عريانة؟ تخطيط من هذا؟ هل تخطيط السادة رجال الكنسية؟ لا والله، إنهم اليهود، هذا من الفساد الذين يسعون به، فلماذا يسعون في الأرض فساداً؟
    الجواب: لأنهم يريدون أن يحكموا العالم، أن تعود مملكة بني إسرائيل في الشرق والغرب، فكيف يصلون إليها وهم حفنة من بين البشر؟ يصلون إليها من طريق إهباط البشرية وإنزالها إلى الحضيض، ويومها هم أصحاب العقول والآراء والبصيرة يحكمون ويسودون.
    وكيف تهبط البشرية؟ تهبط بإفساد قلوبها، وإفساد عقولها، عندما تساق إلى البهيمية، وتصبح لا هم لها إلا الزنا والباطل والشر حينئذ يمكنهم أن يسودوا.
    فإن قلت: يا شيخ! دلل على هذا وبرهن. قلت: هل أنشئوا دولة إسرائيل في فلسطين أم لا؟ فمتى أنشئوها؟ هل في القرون الذهبية الثلاثة، متى؟ هل في أيام الدولة العثمانية في أنوارها الساطعة في العالم، لا؟ بل لما مزقوا العقيدة وشتتوا القلوب، وشتتوا الأمة ووطئوها بأقدامهم أنشئوا دولة إسرائيل.
    لو كان المسلمون كما كانوا أيام كانوا سائدين وعابدين لله فهل سيستطيعون أن يظهروا حتى الظهور أو يتكلموا، لما شاهدوا العالم الإسلامي تحت أقدام الاستعمار هبط وانتكس ونسي ربه حينئذٍ أعلنوا عن دولة إسرائيل، والواقع يشهد: فهل استطاع العرب أن يضربوهم ويخرجوهم في الأيام الأولى من فلسطين؟ ما استطاعوا، لأنهم أموات، إنهم اليهود بخططهم وتعاليمهم ومكرهم وخداعهم، فلا إله إلا الله!




    معنى قوله تعالى: (والله لا يحب المفسدين)
    وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة:64] للعقائد والآداب والأخلاق وللأموال ولكل شيء، هذا همهم، ويعقب الله على ذلك فيقول: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، الله يكره اليهود لأنهم فسدوا، والله لا يحب المفسدين، ونحن -يا أهل القرآن- كيف حالنا مع القرآن؟ هل أقمنا الصلاة؟ هل جبينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر؟ هل عبدنا الله بما شرع لنا وبين رسوله صلى الله عليه وسلم لنا؟ هل تآخينا وتعاونا وتحاببنا؟ هل سمت أخلاقنا وارتوت آدابنا وأصبحنا أنواراً تلوح في العالم؟ الجواب: لا.فالذين ينشئون المخامر لإنتاج الخمر هل يفسدون أو يصلحون؟ والذين ينشئون دور القمار واللهو والباطل بين المسلمين يفسدون أو يصلحون؟ جماعات التلصص والحيل والمكر في التجارة وغيرهم هل يصلحون أو يفسدون؟ والذين ينشئون البنوك الربوية ويعلنون عنها ويتبجحون بها هل يفسدون أو يصلحون؟ وقد يقول قائل: هذا كلام باطل يا شيخ، ما شأنك وهذا الكلام؟ فالبنوك لها أثرها! وأقول: البنوك لها أثرها في ماذا؟ في الدولة وبقائها وامتداد سلطانها، يا أبناء الإسلام! ويا رجالات الإيمان! البنوك معناها ذبح الفضيلة، دفن الحسنة، تمزيق الصلات القلبية والروحانية، القضاء على التلاقي والود والحب بين المسلمين، هذا تخطيط بني عمنا اليهود أعلم الناس بهذه القضية، أهل القرية الإسلامية قبل أن توجد البنوك كان الذي عنده مال يستقرضه أخوه فيقرضه، وأخوه رباني مؤمن صادق يأتي به في موعده الذي وعده أن يرده إليه، ويفيض المال، فماذا نصنع؟ يقال: يا فلان، يا فلان! تعالوا خذوا هذا المال وأنشئوا به حديقة من حدائق كذا، أو أنشئوا مصنعاً ولو لنسج السجاجيد، وتتراحم الأمة. فقال اليهود: كيف نقطع هذا التراحم، كيف نزيله فنتركهم أعداء لا يثق بعضهم ببعض ولا يعطي بعضهم لبعض؟ هذا السؤال طرحه اليهود وألهمهم الشيطان وقال: أنشئوا لهم البنوك، ضع مالك لينمو لك ويزيد وتأمن من خطفه ومن سرقته بين الناس، وإذا أردت أن تزرع أو تنشئ فخذ من البنك بفائدة معلومة معروفة وأنشئ وأنشئ، فهذا -والله- إنه لمن خطط اليهود، أما قال ربنا: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة:64]، والله لا يحب المفسدين، اليهود مفسدون فالله لا يحبهم.
    تفسير قوله تعالى: (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ...)
    الآية الثانية: يقول تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا [المائدة:65]، هذا باب الخير الإلهي مفتوح، ونحن أحق بهذا لو عقلنا وعرفنا، اسمع ما يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا [المائدة:65] مع عدائهم وحربهم؛ لأنهم ما زالوا عبيد الله ومن مخلوقاته، لو أن أهل الكتاب آمنوا الإيمان الذي دعوا إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.ثانياً: وَاتَّقَوْا [المائدة:65]، اتقوا عذاب ربهم وسخطه وغضبه عليهم وذلك بطاعته في السر والعلن.فماذا يعدهم الله؟ يقول تعالى: لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [المائدة:65]، جرائمهم لكذا ألف سنة كلها نمحوها، فهذا عطاء الله أم لا؟ على هذه الآية -والله- آمن العديد من اليهود والنصارى. اسمع هذا الوعد الإلهي: يقول تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا [المائدة:65]، أولاً، وَاتَّقَوْا [المائدة:65] ثانياً، لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَا هُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65]، إذاً: ما الذي صرفهم عن الجنة؟ الكفر: عدم الإيمان، والفجور: عدم التقوى، وسر ذلك معروف كالشمس؛ لأن المؤمن المتقي يزكي نفسه ويطهرها فتصبح أهلاً لأن ينزلها الله في منازل الأبرار في الجنة دار المتقين، والذي كفر وجحد كيف يعبد الله، والذي فجر وخرج عن طاعة الله كيف تكون نفسه؟ تكون منتنة عفنة مدساة مظلمة، فهيهات هيهات أن تفتح لها أبواب السماء أو تدخل الجنة: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، هل البعير يدخل في سم الإبرة؟ مستحيل، فصاحب النفس الخبيثة من جراء الشرك والمعاصي نفسه خبيثة، فمستحيل أن تفتح لها أبواب الجنة.

    شرح أعمال الحج
    الآن نعيش مع حجاج بيت الله:هل تذكرون قول الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من حج هذا البيت )، وهو يشير إليه، ( من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، هل يمكن أن نحفظ هذا الحديث؟ يجب حفظه، لماذا نحفظ الأغاني والباطل والكذب ولا نحفظ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ ( من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، يمحى عنه كل ذنب أذنبه كيفما كان نوعه، ها هو الآن أعطى لليهود أهل الكتاب: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَا هُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65]، فهل نحرم نحن من هذا؟يقول صلى الله عليه وسلم: ( من حج هذا البيت )، حجه: زاره على أنظمة وتعاليم بينها الله ورسوله؛ لا أنه يحجه فقط كما يحب هو، وإليه تلك التعاليم: أولاً: الإحرام والتجرد كأنه ذاهب إلى قبره، لا مخيط ولا محيط.ثانياً: كلمة: لبيك اللهم لبيك، أجبتك يا من دعوتني، أجيبك مرة بعد مرة، إذ الله دعانا إلى بيته، واقرءوا: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27].ثم دخولك مكة وأنت مطأطئ رأسك إجلالاً وإكباراً لحرم الله وبيته، ونفسك وقلبك مع الله، ولسانك تذكر به الله، وتطوف الطواف الشرعي كما بين رسول الله، تكون متطهراً ليس منتقض الوضوء، وإن كنت ذا عذر تيممت، وإن استطعت أن يكون أول عملك الطواف فافعل، تقف أمام الحجر الأسود وتقول: باسم الله والله أكبر، لا إله إلا الله، وتوالي الذكر، وكلما مررت بالحجر الأسود إن أمكنك أن تقبله بفمك فافعل، وإلا فإن استطعت أن تضع يدك عليه ثم تضعها على فيك فافعل، فإن لم تستطع لكثرة الطائفين فتشير من بعيد. هذا الحجر الأسود هو يمين الله في الأرض، كأنما بايعت الله، وقد روي: أنه نزل من الملكوت الأعلى من الجنة، أليس أبونا آدم كان في الجنة هو وامرأته، ومن أهبطهما إلى الأرض، ومن بنى لهما البيت؟ إنه الله تعالى بأمره لملائكته؛ حتى يذهب ذلك التألم النفسي وتلك الوحشة من نفسيهما.هذا الطواف سبعة أشواط، فإن أمكن أنك تهرول ثلاثة أشواط وتمشي في الأربعة الأخرى فافعل، لكن مع كثرة الحجاج غير ممكن، وهي فضيلة من الفضائل، ولكن لا ننسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة )، فالاضطباع رمز يشير إلى القوة، ليشعر المؤمن بأنه قوي يستطيع أن يأخذ ويعطي، والهرولة كذلك إظهار للقوة؛ لأن المشركين قبل فتح مكة في عمرة القضية في السنة السابعة قالوا: إذا رأينا ضعفاً في محمد ورجاله فسننكب عليهم وندمرهم. فأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم فقال في بيانه الرسمي لرجاله: ( رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة ) فشرعت السرعة في الثلاثة الأشواط الأولى.وبعد ختام الأشواط السبعة صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم، هذا المقام الذي كان إبراهيم يقوم عليه ويواصل بناء الكعبة، وإسماعيل يناوله الحجارة والطين، هذا الحجر ساخت فيه قدما إبراهيم آية من آيات الله، حجر من جبل أبي قبيس تسيخ فيه الرجل؟ أي نعم، آيات الله عز وجل، أما قال تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، وتخلد هذه القدم إلى اليوم باقية إلى يوم القيامة، ما استطاع اليهود ولا العالم ولا الشيوعية التي تحطمت أن تأخذه، فمن حفظه؟ إنه الله جل جلاله.إذاً: صلاة ركعتين خلف المقام تقرأ في الأولى بالفاتحة و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وفي الثانية بالفاتحة و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وادع بما شئت، فإذا فرغت من الركعتين تخرج إلى السعي، وابدأ بالصفا؛ لأن الله قال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158]، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( نبدأ بما بدأ الله به )، لا تعكس، ابدأ بالصفا وانته بالمروة، سبعة أشواط وأنت تذكر الله وتدعو طيلة ما أنت هناك، وإن تعبت فاصمت واسكت.واحذر أن تقول كلمة سوء أو تنظر نظرة سوء، فإذا فرغت من السعي وكنت محرماً بالعمرة فاخرج إلى ما وراء المسعى وحلق شعرك أو قصه، وإن كنت مفرداً أو قارناً فابق على ما أنت عليه، اذهب إلى بيتك فاسترح أو إلى المسجد وأنت تلبي؛ لأنك قارن أو مفرد، كلما أتيحت الفرصة قلت: لبيك اللهم لبيك.إذاً: إن كنت متمتعاً حلقت أو قصرت ولبست لباسك وتمتعت بالطيب وغيره؛ لأنك متمتع، فإذا جاء يوم الثامن من شهر ذي الحجة فالمفردون على إحرامهم والقارنون كذلك، والمتمتعون يغتسلون ويتجردون، ويلبي الجميع بالحج: لبيك اللهم لبيك حجاً، ثم ينطلقون إلى منى، فيصلون الصلوات الخمس، وهي انتقال من مكة والزحام فيبيتون هذه الليلة يستريحون، ثم يصلون الصبح يوم التاسع يوم عرفة ويفيضون إلى عرفة ماشين أو راكبين، يدخلون عرفة، وما عرفة هذه؟ قيل: تعارف آدم وحواء فيها، وتسمى عرفات بالجمع أيضاً، لما هبط آدم من علياء من الجنة، لو طارت طائرتك ألف سنة ما تصل، سبعة آلاف وخمسمائة عام وأنت طائر، لكن قول الرب: كن فيكن، آدم في جهة وحواء في جهة والتقيا هناك وتعارفا. هذه عرفات، يومها من أعظم الأيام عند الله، يومها يتجلى فيه الرب عز وجل ويقول لملائكته: انظروا إلى عبيدي أتوني شعثاً غبراً ويغفر لهم، يوم هذا من أفضل الأيام: يوم عرفة، ترى عبيد الله وإماءه مهللين مكبرين داعين صارخين بالبكاء والدعاء والذكر طول اليوم من الزوال إلى ما بعد غروب الشمس وهم وقوف يستمطرون رحمة الله عز وجل، فأكثروا فيه من الدعاء بالخير، فالله يستجيب دعوة العبد ما لم يدع بشر أو قطيعة رحم.هذا اليوم وقف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الزوال إلى أن غابت الشمس وغربت وهو واقف، وجبل الرحمة لا تعلوا فوقه ولا تقلدوا العوام والجهال، فالرسول وقف تحته، المهم أن نقف ذاكرين باكين خاشعين، وأنبه إلى أن أهل الجهل -والشياطين تقودهم- يأتون بآلات التصوير فيصورون هناك، ألا لعنة الله عليهم، ألا لعنة الله عليهم! إذ قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله المصورين )، فلا تسمحوا لهم. ‏
    تحذير الحجيج من التدخين
    وأنبه أيضاً إلى أنكم يا حجاج بيت الله من الليلة لا تدخنوا، من في جيبه علبة تدخين يمزقها عند باب المسجد ويرميها في القمامة، لأنكم تريدون أن تغفر ذنوبكم، والشرط معروف: ما لم يفسق أو يرفث، ومن الفسق -والله العظيم- التدخين، إي والله، التدخين خروج عن طاعة الله ورسوله، أتؤذي الملائكة؟ تنفخ في وجه الملك عن يمينك وعن شمالك النار المنتنة؟ أي أذى أكبر من هذا الأذى؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً فلا يقربن مسجدنا )، لم يا رسول الله؟! قال: ( إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )، تنفخ الرائحة الكريهة في وجه المؤمنين، من يجيز هذا، من يقول: هو جائز؟ آلله أذن فيه ورسوله؟إنما أذن فيه اليهود، لو بحثتم في التاريخ -وإن قلتم: في بلغاريا أو في البرتغال- لوجدتم أصابع اليهودية. فالمؤمن طاهر نقي، فكيف يعفن فمه ورائحته؟ فالشاهد عندنا أنه إذا أحرمت فلا تدخن وإلا فسوف تعود كما جئت، وعندنا دليل: إذا رجع الحاج فأصبح يفعل ما كان يفعله من الباطل والمنكر فتلك آية أن ذنوبهم لم تغفر، والله العظيم! ما غسلت روحه ولا طابت ولا زكت، فلهذا عاد إلى الذنب، وإذا حج حجاً قبله الله فإنه والله يعود إلى بلاده فتجد الناس يقولون: هذا سيدي الحاج، الحاج ما يكذب، الحاج ما يسرق، الحاج ما يترك صلاة. هذا أيام كانوا يحجون وينفقون الأيام والليالي، يرجع الحاج مستقيماً آمناً مطمئناً، والله إنه ليشار إليه بالأصبع، أما الذي يدخن في بيت الله ومسجد رسول الله ويعبث فإنه والله يعود وذنوبه كما هي، فلا تدخين إلى يوم القيامة. وإن قلتم: ولم يا شيخ؟! قلت: صلاتكم مشكوك في صحتها، فالصحابة الكرام كانوا يتوضئون مما مست النار، وما صلى الرسول صلاة إلا توضأ فيها، وما زالت الكراهة قائمة، فمن استطاع أن يتوضأ عندما يأكل اللحم أو الطعام فليفعل، فهو مستحب.فكيف إذاً بالذي يدخل النار في جوفه، كيف تصح صلاته؟ أما ينتقض وضوؤه؟ لقد جهلونا وفعلوا فينا الأعاجيب، ولكن رزقنا الله أهل العلم فعلمونا وبصرونا فعرفنا أن التدخين رذيلة من رذائل الشياطين وعبث وسخرية وإفساد للمال والعياذ بالله تعالى.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #338
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (25)
    الحلقة (337)
    تفسير سورة المائدة (31)


    لما أرسل الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام، فقدمها صلوات الله وسلامه عليه للعالم بأسره صافية نقية، ليخرج بها الناس من ظلمات الكفر واتباع الديانات المحرفة إلى نور التوحيد القويم، لما كان ذلك أعرض أكثر أهل الكتب من يهود ونصارى عن قبول الحق، فأخبر الله عنهم أنهم لو آمنوا لكفر عنهم ما سبق من أفعالهم المشينة في حقه وحق رسله، ولو أنهم اتبعوا ما تدعو إليه التوراة والإنجيل للزمهم أن يؤمنوا بالقرآن المذكور فيها، ويتبعوا الرسول النبي الأمي الذي بشرت به.
    مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة المائدة
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل القرآن العظيم؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، لذا ندرس كتاب الله.
    وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَا هُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة:64-66].
    اعلموا أن هذا كلام الله لا كلام أحد سواه، أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ضمن كتاب كريم موجود في اللوح المحفوظ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22]، هذا الكلام الإلهي اجتمعنا من أجل أن نتدارسه، فهيا بنا نتدارس.


    سعة رحمة الله تعالى الشاملة لأهل الكتاب حال دخولهم الإسلام
    والآن فتح باب جديد؛ لأن ربنا رءوف رحيم، والعبيد كلهم عبيده، خذوا هذه القاعدة: كل البشر أولاد آدم نساءً ورجالاً في أي عصر في أي بلد، كلهم نسبتهم إلى الله لا تتبدل، فهم عبيده، يرحم من يستحق الرحمة ويعذب من يستوجب العذاب.فكلهم عبيد لله وهو سيدهم ومالكهم، فمن أطاع السيد ومشى على منهاجه أنجحه وفوزه وأدخله دار النعيم، ومن أعرض أو تكبر أو عبث بعقله وترك طاعة سيده تعرض للعذاب والبلاء والفتنة في الدنيا والآخرة.واسمع ما يقول ربنا تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:65]، وهم اليهود والنصارى، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا [المائدة:65]، صدقوا بوجود الله الذي لا إله إلا هو ولا رب سواه، آمنوا بما أخبر به تعالى من الغيب والشهادة، آمنوا بكتبه ورسله، آمنوا بلقائه، آمنوا بالعالم الثاني، بالنعيم والعذاب المهين، إيمان راسخ في قلوبهم، لو أنهم آمنوا أولاً وَاتَّقَوْا [المائدة:65] ثانياً، اتقوا ماذا؟ اتقوا غضب الله وعذابه بطاعته وطاعة رسوله، قال صوموا فنصوم، قال: حجوا فنحج، قال: ناموا فننام، هذه هي الطاعة، وبهذه الطاعة يتقى عذاب الله وسخطه. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ [المائدة:65] يهوداً ونصارى آمَنُوا وَاتَّقَوْا [المائدة:65]، فالجزاء ما هو؟ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَا هُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65]، نمحو كل ما ارتكبوا من الذنوب والآثام والمساوئ، وندخلهم جنات النعيم.ما هو السبب؟ السبب هو: أن عبداً يزكي نفسه ويطهرها فتصبح كأنفس الملائكة هذا الذي يدخله الله دار السلام، والذي يخبث نفسه ويلوثها بالذنوب والأوضار والآثام ينزل إلى الدركات السفلى في عالم الشقاء في النار دار البوار، هذا هو السر، آمنوا واتقوا، زكت نفوسهم، طابت أرواحهم وطهرت، فماذا يفعل بهم؟ وَلَأَدْخَلْنَا هُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65]، ومن لم يؤمن أو آمن ولم يتق فنفسه خبيثة منتنة، ما هي متأهلة للعروج إلى الملكوت الأعلى ودخول الجنة دار الأبرار.وإليكم آية حتى لا تنخدع وتجهل، اسمع هذا البيان: يقول الله جل جلاله وعظم سلطانه في سورة الأعراف بين الأنفال والأنعام من كتاب الله القرآن العظيم، يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، حتى يدخل البعير في عين الإبرة، مستحيل هذا، مستحيل أن صاحب الروح الخبيثة يدخل دار السلام، ويواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هذا حكم الله.اسمع ما يقول تعالى لأعدائه الكافرين به المحاربين لرسالته ورسوله، يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [المائدة:65]، محوناها وأدخلناهم جنات النعيم؛ لأنهم عبيدنا، فإذا آمنوا واتقوا محي ذلك عنهم، فإذا طابوا وطهروا فأين ينزلون؟ في دار السلام.ومن سورة النساء يقول تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]؛ لأن طاعة الله وطاعة الرسول تزكية للنفس، بم تزكو النفس يا عباد الله؟ هل بالماء والصابون؟ تزكو بالإيمان وصالح الأعمال مع بعد عن المدسيات والمخبثات من الشرك والكفر والذنوب والمعاصي. هذه مظاهر الرحمة الإلهية تتجلى في هذه الآية: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَا هُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65].وأيما مؤمن يؤمن ويقوي إيمانه ويتقي ربه ولو بعد الظلم والشرك والباطل والكفر فإن الله عز وجل يغفر سيئاته ويدخله جنات النعيم، هذه بشرى عظيمة أم لا؟ بكم تشترونها؟ بملء الأرض ذهباً. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [المائدة:65]، غطيناها، وَلَأَدْخَلْنَا هُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65]، فهذا الخبر ينفع كل إنسان على وجه الأرض، وإنما بدأ بأهل الكتاب لأنهم حرب على الله ورسوله، ومع هذا لو آمنوا واتقوا لما بالى بكفرهم وحربهم ولا عنادهم ولا قتلهم الأنبياء؛ لأن الإيمان والعمل الصالح يغسل النفس ويطيبها فتصبح كأرواح الملائكة، فأين تنزل؟ في الملكوت الأعلى.
    تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ...)
    ثم يقول تعالى أيضاً: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ [المائدة:66]، التوراة: كتاب اليهود، والإنجيل: كتاب النصارى، وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ [المائدة:66] كتاب البشرية القرآن الكريم. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ [المائدة:66] كيف أقاموها؟ عملوا بما تدعو إليه وتأمر به وتنهى عنه من الشرائع والآداب والأحكام، وأقاموا الإنجيل فطبقوا ما فيه وعملوا بما يحمله من الهدى للبشرية؛ لأنه كتاب الله، وآمنوا بما أنزل إليهم من ربهم، ألا وهو القرآن الكريم، لو فعلوا هكذا لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66]، وهذا فيه دليل على أن رؤساءهم يخبثون ويضللون ويمكرون من أجل المال، من أجل الدينار والدرهم، رؤساء اليهود والنصارى يحولون بين الناس وبين الدخول في الإسلام، لماذا؟ هل لأنهم يعرفون أن الإسلام ليس بحق؟ والله إنهم ليعرفون أنه حق أكثر مما يعرفون أنفسهم، ولكن يقفون في وجه تلك الأمم والشعوب حتى لا يبقوا فارغي الأيدي لا سلطان ولا مال. فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ [المائدة:66] -أي: من القرآن- لأغناهم الله حتى يأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، يرفع رأسه فيجد العنب والتمر والتفاح والبرتقال، ولأكلوا من تحت أرجلهم أنواع الخضروات والحبوب.
    وهذا نقوله لأنفسنا: لو أن المؤمنين أقاموا التوراة والإنجيل، نعم آمنا بهما، وأقاموا ما أنزل إليهم من ربهم من القرآن الكريم، والله لو أن أهل إقليم أو بلد يقيمون القرآن كما أنزله الله، فيحلون ما أحل، ويحرمون ما حرم، ويؤدون ما طلب، ويثبتون ويصبرون على حب الله ورسوله والمؤمنين؛ والله لأغناهم الله ولما ما بقي بينهم فقير، فكيف يا هذا؟ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربط بطنه بالحجر من الجوع، واشتد البؤس والفقر، وما هي إلا سنوات حتى أصبحوا يوزعون المال هنا بالدرهم والدينار في الثوب، جاء العباس وأخذ يجمع الذهب وملأ ثوبه فما استطاع أن يقوم به، فنظر إلى رسول الله كأنه يريده أن يحمله عليه فقال: لا، لا نحمله عليك.
    ثلاثة قرون لم تعرف الدنيا أسعد ولا أكمل ولا أغنى من أمة الإسلام، ثلاثمائة سنة، ولكن ما أقمنا التوراة والإنجيل والقرآن، فلهذا هذا الوعد مازال: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ [المائدة:66]، يوم كانت تنزل هذه الآيات كان الفقر يمزق العالم الأوربي وعالم اليهود والنصارى، والتاريخ يدلكم على ذلك.
    إذاً: هذا الوعد مفتوح إلى يوم القيامة، لو أن المسلمين اجتمعوا على كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم في شجاعة، في صدق وإخلاص، والله ما هي إلا سنوات وإذا هم من أغنى الخلق، ولكن ما أقمنا القرآن.قال تعالى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ [المائدة:66]، معتدلة، أفراد من النصارى ومن اليهود، عدد اليهود قليل جداً، أما عدد المسلمين والنصارى فبالملايين في قرون عديدة، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة:66]، كثير من اليهود والنصارى قبح عملهم وساء وبطل؛ فهم على الشرك والخداع والمكر والباطل، هذا كلام من؟ كلام الله عز وجل.

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    اسمعوا هذه الهدايات من الآيات، وتأملوا ما درسناه.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات:من هداية الآيات: أولاً: قبح وصف الله تعالى بما لا يليق بجلاله وكماله ] وعظمته قبيح، والدليل من الآية: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] فرد الله عليهم ولعنهم، فوصف الله بما لا يليق بجلاله وكماله قبيح من أشد القبح، والدليل هذه الآية نفسها، لما قالت اليهود: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] هل رضي الله بهذا الكذب؟ ماذا قال؟ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64].[ ثانياً: ثبوت صفة اليدين لله تعالى ووجوب الإِيمان بها على مراد الله تعالى، وعلى ما يليق بجلاله وكماله ]، لا تقل: لا، أيخبر تعالى عن نفسه وتقول: لا؟! هذا مبدأ اعتقنه الضلال لينزعوا من قلوب المؤمنين مهابة الله وعظمته وحبه أبداً، بلغ بهم الحد إلى أنك لو ترفع يديك إلى السماء تقول: الله لقطعوا يدك، يقولون: الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال، إذاً: أين الله؟ والله يخبر عن نفسه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ويحمل رسوله من هنا إلى الملكوت الأعلى إلى مستوى كلمه الله كفاحاً، فإذا أثبت الله صفة لنفسه فيجب أن تؤمن بها وعقلك لا قيمة له، فقط لا تشبها بصفات المخلوقات، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1]، وقال لإبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وأخبرنا رسول الله أن آدم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، فقط أثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله، ولا تحاول أن تفهم؛ لأنك عاجز ما تستطيع، فقل: آمنت بالله.. آمنت بالله.
    وبينا للعوام حتى يفهموا المعنى، ونسأل الله أن لا يؤاخذنا، قلنا: ليس شرطاً أن تكون يد الله كيد الخلق أبداً، ولا يخطر ببال المؤمن، فالله خالق وهؤلاء مخلوقون فهل يكونون كربهم؟ مستحيل، وضربنا مثلاً: هل تعرفون أن للنملة عيناً تبصر بها؟ هل عين النملة كعين البقرة والبعير؟ شتان ما بين السماء والأرض.
    إذاً: فصفات الله تعالى كاليد والقدم والضحك والغضب كل هذه الصفات أثبتها على وجه يليق به تعالى، أما أن تشبه المخلوقات به تعالى فهو قد قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وهل المخلوقات التي خلقها تكون شبيهة به؟ هذا الكرسي هل يكون مثل النجار في عقله ومعارفه وقدرته؟ مستحيل. إذاً: نؤمن بصفات الله ولا نؤول ولا نحرف ولا نعطل أبداً، حتى يبقى حبنا وتعظيمنا لله كما هو.ومكرة اليهود والمجوس والنصارى منعوا الناس من الإيمان بصفات الله، حتى زالت مهابة الله من قلوبهم، فلا بد من إثبات صفة اليدين لله تعالى ووجوب الإيمان بها على مراد الله تعالى وعلى ما يليق بجلال الله وكماله.
    [ ثالثاً: تقرير ما هو موجود بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء، وهو من تدبير الله تعالى ]، هو الذي أوجد بينهم العداوة والبغضاء، أليس كذلك؟ من أين أخذنا هذا من الآية؟ من قوله تعالى: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:64].[ رابعاً: سعي اليهود الدائم في الفساد في الأرض، فقد ضربوا البشرية بالمذهب المادي الإلحادي الشيوعي، وضربوها أيضاً بالإباحية ومكائد الماسونية ]، وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة:64]، كيف يسعون فساداً؟ بالشيوعية بالمبادئ العلمانية، والآن حولوها إلى الاشتراكية، هذا -والله- من صنيعهم.[ خامساً: وعد الله لأهل الكتاب على ما كانوا عليه ] من الكفر والضلال [ لو آمنوا واتقوا لأدخلهم الجنة ]. وعد الله لأهل الكتاب من اليهود والنصارى على ما كانوا عليه من الكفر والظلم والشر والفساد، لو آمنوا واتقوا لأدخلهم جنات النعيم، يؤمنون بماذا؟ بالله رباً وإلهاً وبمحمد رسولاً والقرآن تنزيلاً وبالإسلام شريعة وقانوناً.[ سادساً: وعده تعالى لأهل الكتاب ببسط الرزق وسعته لو أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، أي: لو أنهم أخذوا بما في التوراة والإنجيل من دعوتهم إلى الإيمان بالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام لحصل لهم ذلك كما حصل للمسلمين طيلة ثلاثة قرون وزيادة، وما زال العرض كما هو لكل الأمم والشعوب ]، ما من شعب أو أمة تريد أن يغنيها الله ويدفق عليها المال فلتؤمن حق الإيمان ولتقم القرآن، والله ما هي إلا سنيات والمال مبعثر هنا وهناك، هل فهم المسلمون هذا؟ اللهم علمنا وإياهم، متى نعلم هذا يا أبناء الإسلام؟
    مقترح عملي للعودة إلى الله تعالى
    نعود إلى المخطط العجيب الذي عرضناه على العلماء والحكام، ألا وهو أن نلتزم ونحن صادقون بأن نجتمع في بيوت ربنا التي بنيناها في مدننا وقرانا، في الجبال والسهول، إذا دقت الساعة السادسة يقف العمل، سواء كان مكينة أو مصنعاً أو متجراً أو مكتباً، يقف العمل وباسم الله نتوضأ ونحمل نساءنا وأطفالنا إلى بيت ربنا، نصلي المغرب كما صلينا، ونجلس هكذا: النساء وراء الستارة والرجال دونهن، ويجلس لنا عالم رباني، فليلة آية من كتاب الله نحفظها، ونتغنى بها حتى تحفظ، ونشرحها ونفهم مراد الله منها، وكلنا عزم على أن نطبق ونعمل، وليلة ثانية حديث من أحاديث الحبيب صلى الله عليه وسلم الصحيحة نحفظه ونعلم ونعمل، يوماً آية ويوماً حديثاً، في أربعين يوماً يتغير وضع تلك القرية، وفي عام واحد والله ما يبقى زانٍ ولا لوطي ولا كاذب ولا فاجر ولا خائن ولا شحيح ولا بخيل ولا مبغض ولا معادٍ أبداً، كأنهم أسرة واحدة، سنة الله لا تتبدل، الطعام يشبع والماء يروي والحديد يقطع والنار تحرق، والكتاب والحكمة يزكيان النفوس ويطهران القلوب، وإذا زكت النفوس وطهرت القلوب هل يبقى خبث أو شر أو فساد أو شح أو بخل بين المؤمنين؟ والله ليفيضن المال عليهم، المال الذي ينفق الآن بالتبذير أضعاف من هم محتاجون إليه، وفوق ذلك لو رفعنا أيدينا إلى الله على أن يزيل الجبال لأزالها، لأنه تحققت ولايتنا لله، هل هناك طريق غير هذا؟ والله لا وجود له، نبقى هكذا: من استقام نجا من عذاب الله، ومن اعوج فإلى عذاب الله، ما هناك حيلة. كتبنا كتاباً مفتوحاً إلى العلماء والحكام فما سمعنا أن عالماً واحداً قدمه إلى حاكم، ولا قال به في قرية ولا في جماعة، وضعنا (كتاب المسجد وبيت المسلم)، قلنا: يا أيها المسلمون! مادام هذا الضعف فاجتمعوا على كتاب الله في بيوت الله، في بيوتكم بعد صلاة العشاء اجتمع أنت وامرأتك وأولادك وأمك واقرءوا آية أو حديثاً، في أربعين يوماً ما يبقى تلفاز ولا رقص ولا الأغاني ولا تكالب على الشهوات أبداً، فما وجدنا استجابة، لعل اليهود سحرونا، نخشى من ذلك لأنا نأكل من طعامهم ومن زيوتهم، فلعلهم سحرونا، وإلا فكيف نصرخ ونقول: والله لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يجلس في بيته وعاهرة أمامه تمد يديها وتضحك، والله لا يجوز، الأغاني والمزامير والصور هكذا في بيوت المؤمنين فهل تبقى فيها الملائكة؟ والله لن تبقى ولن يحل إلا الشياطين محلها، ومن ثم ظهر الزنا واللواط والجرائم والموبقات، إنها صنائع اليهود، سعي اليهود بالفساد، ومددنا أعناقنا نحن، فمتى نفيق؟ أمرنا إلى الله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #339
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (26)
    الحلقة (338)
    تفسير سورة المائدة (32)


    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
    وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث، وإليكم تلاوتها فتأملوا وتدبروا وتفكروا؛ لتلوح أنوارها في قلوبكم، وتنتقل إلى أسماعكم وأبصاركم وألسنتكم، وهذا نور الله عز وجل.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )[المائدة:67]، وفي قراءة سبعية: (فما بلغت رسالاته) ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[المائدة:67-69].
    بشراكم أيها المؤمنون، فهل أنتم تتدبرون أم لا؟ وما معنى التدبر؟ أن ترجع إلى الآية من أولها وتعود إلى آخرها. اسمع ما يقول الحق عز وجل وهو يخاطب رسوله ومصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )[المائدة:67-68] قل يا رسولنا: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ )[المائدة:68] ألا وهو القرآن، ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا )[المائدة:68]، إذاً: ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[المائدة:68-69].
    هذه مائدة الله عز وجل فتعالوا يا بني الناس لتطعموا وتسعدوا، فقالوا: نحن شباع ما نريد. فابقوا على ما أنتم عليه حتى النقلة إلى عالم الشقاء والخلد فيه أبداً، والعياذ بالله تعالى، لقد أعذر الله بهذا العطاء الإلهي.
    هيا أشرح لكم شيئاً فشيئاً: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ )[المائدة:67]، من الذي نادى رسول الله؟ الله جل جلاله، سبحان الله! هل الله ينادي رسوله؟ أي نعم، من هذا الرسول؟ إنه الأفخم الأعظم، الرسول الكامل في الرسالة والعظمة، وهذا النداء الثاني في القرآن من نداء الله لنبيه بعنوان الرسالة: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ )[المائدة:67]، وناداه بعنوان النبوة عدة مرات: ( يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ )[الطلاق:1]، ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ )[التحريم:1] في عدة نداءات، أما بعنوان الرسالة فناداه مرتين: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ )[المائدة:67]، معناه: الرسول الأفخم الأعظم الصادق الحق، ناداه ليقول له: ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ )[المائدة:67].
    وقد تعلمنا نحن -والحمد لله- أن الله تعالى لا ينادينا إلا ليأمرنا بما يسعدنا، أو لينهانا عما يشقينا، أو ليبشرنا بما يزيد في صالحاتنا، أو ينذرنا لنبتعد من مهلكات الحياة والمشقيات لنا، أو ليعلمنا.
    إبطال كذب المفترين على رسول الله كتمان الوحي

    وها هو تعالى الآن ينادي رسوله يأمره، ماذا قال له: ( بَلِّغْ )[المائدة:67]، يبلغ ماذا؟ ما الذي يبلغه؟ قال: ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ )[المائدة:67]، أي: هذا القرآن الكريم، وما يحمل من الشرائع والأحكام والآداب، ولا تكتم كلمة واحدة ولا جملة واحدة، ولا أمراً واحداً ولا نهياً، ( بَلِّغْ )[المائدة:67]، والسورة مدنية، والمدينة دار الهجرة ليست كدار الرسول في مكة، كان يعيش بين أعمامه، فمن يقوى على أن ينال منه؟ لكن لما جاء إلى المدينة وفيها اليهود عليهم لعائن الله، وفيها النفاق فالموقف موقف صعب، قد (حمله صلى الله عليه وسلم الخوف على أن يكتم بعض الشيء، فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )[المائدة:67]، فلهذا من ظن أو وسوس له الشيطان أو كان من أهل الباطل فقال: الرسول كتم شيئاً؛ فلتضربه بهذه العصا القرآنية
    والله ما كتم كلمة، كيفما كانت الظروف، والهابطون قالوا: كتم ولاية علي وخلافته! فأين يذهب بعقول البشر؟ يذهب بها إلى المحطات، إلى المزابل والمراقص؛ لأن الشياطين هي التي تحتضنها وتقودها إلى الهاوية، تقول الصديقة أم المؤمنين عائشة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان في إمكان الرسول أن يكتم شيئاً لكتم ( عَبَسَ وَتَوَلَّى )[عبس:1]، وهذا لوم وعتاب له وما كتمه: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى )[عبس:1-4]، لو كان يمكن للرسول أن يكتم شيئاً لكتم قضية زيد مولاه.

    معنى قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس)

    إذاً: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )[المائدة:67]، لا تبال باليهود ولا بالمنافقين ولا بالمشركين ولا بالجن ولا بالإنس، الله تولى عصمتك وحفظك.
    هنا روى مسلم عن عائشة الصديقة رضي الله عنها، ورددوا جملة (رضي الله عنها) لتغيظوا المنافقين والكافرين، قالت رضي الله عنها: ( سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة. قالت: فبينما كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال: من هذا؟ قال: سعد بن أبي وقاص. فقال له: ما جاء بك؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف ونزلت هذه الآية )، فما هناك حاجة إلى أن تبيت بسلاحك، عد إلى بيتك، أعطاه الضمان مولاه أم لا؟ ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )[المائدة:67]، والله لو اجتمع البشر كلهم على أن يؤذوه ما استطاعوا بعد هذا الوعد الإلهي: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )[المائدة:67].
    والتعليل: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )[المائدة:67] أبداً لأن يؤذوك ويضروك ويقتلوك، كما لا يهديهم إلى الكمال أيضاً والإصلاح ماداموا معرضين وكافرين.

    تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ...)


    ثم قال له: ( قُلْ )[المائدة:68] يا رسولنا أيها المبلغ عنا، قل في صراحة ووضوح: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )[المائدة:68]، من هم أهل الكتاب؟ اليهود بنو عمنا، وكذلك النصارى.

    التزكية لا تتوقف على العنصر والسلالة
    وبعض الأبناء يقولون: كيف يقول الشيخ: بنو عمنا! وأقول: أليسوا أولاد إسحاق بن يعقوب؟ ألسنا أولاد إسماعيل بن إبراهيم؟ فهم بنو عمنا، ليس شرطاً إذا كانوا بنو عمنا أن يدخلوا الجنة معنا، الجنة ورضوان الله نصيب من زكت نفسه وطابت وطهرت، كن ابن من شئت، إذا زكت نفسك وطابت وطهرت بأدوات التطهير والتزكية والإيمان والتقوى فأبشر برضوان الله وجواره في دار السلام، وإن كنت من كنت، وإذا خبثت النفس وتدست وتعفنت بأوضار الشرك والمعاصي فكن أيضاً ابن من شئت وأبا من شئت فالمصير معروف، وحكم الله الذي صدر في هذه القضية محفوظ عند المؤمنين والمؤمنات من أهل هذه الحلقة فقط، ما سمعنا هذا عند الآخرين، وهو قول ربنا تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10]، كن ابن من شئت، هل كنعان بن نوح نفعته هذه البنوة؟ ماذا قال الله لما قال نوح عليه السلام: ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )[هود:45-46].
    إبراهيم الخليل عليه السلام في عرصات القيامة يقول: يا رب! لقد وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا؟ فيقول له الجبار تعالى: انظر تحت قدميك. فإذا بأبيه آزر في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيوح، ما إن ينظر إليه حتى تشمئز نفسه وينقبض ويقول: سحقاً سحقاً! فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في أتون الجحيم، فهل نفعه ابنه؟
    وأبو القاسم سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة، أول من تنشق عنه الأرض، عاد من مكة فمر بقبر أمه قريباً من الجحفة، ووقف على قبرها فبكى طويلاً، وأمه ماتت لأنها جاءت في زيارة أبيه وتوفيت في الطريق، ودفنت بالأبواء قريباً من رابغ، فبكى فسئل في ذلك، قال: ( استأذنت ربي في أن أزور أمي فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي )؛ لأنها ماتت على الشرك والكفر، وإن شككتم فاسمعوا كلام الله من سورة التوبة من المدنيات المباركات، ماذا قال تعالى؟ ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى )[التوبة:113]، من يرد على الله؟ أعوذ بالله، طأطئ عبد الله رأسك وقل: آمنت بالله، ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا )[التوبة:113] ليس من شأنهم ( أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى )[التوبة:113] أصحاب قرابة كالأب والأم والابن وما إلى ذلك؛ لأن حكم الله أصدره حكماً ساطعاً سطوع الشمس لا يتردد فيه من يسمعه: ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا )[الشمس:1-2]، هذه أيمان أم لا؟ هذا حلف أم لا؟ من يحلف؟ الله. لماذا؟ حتى تهدأ نفوسنا وتسكن عند الخبر وأنه ما فيه شك أبداً، هذه الأيمان من أجلنا نحن: ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا )[الشمس:1-8] حلف على ماذا؟ ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )[الشمس:9-10] وامتهنها، من يرد على الله؟ ( أَفْلَحَ )[الشمس:9] فاز ونجا من النار ودخل الجنة، ( خَابَ )[الشمس:10]خاب وخسر خسراناً أبدياً.

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! والله الذي لا إله غيره لأن يعود أحدكم أو إحداكن بهذه الحقيقة على ما هي واضحة ويبلغها لهي أعظم أجراً من حجه، ولكن ممنوعون من أن نبلغ، ما تسمح لنا الشياطين بذلك، هذه والله لأن تسافر إلى أقصى الهند أو أقصى الغرب من أجلها فقط فما أنفقت شيئاً كبيراً في سبيل الحصول على هذه القضية، حيث أقسم الجبار جل جلاله وعظم سلطانه بأعظم أقسام وأيمان على هذه الحقيقة: أفلح من زكى نفسه وخاب من دساها.

    معنى التزكية وأدواتها

    يبقى السؤال: يا شيخ! ما معنى التزكية؟ معناها التطييب والتطهير لأن تكون الروح طيبة طاهرة كأرواح الملائكة. ثانياً: ما هي أدوات التزكية، أين تباع، كيف نستعملها؟
    يجب أن تسألني هذا السؤال ويحرم علي ألا أجيبك، أدوات التزكية شيئان فقط: الإيمان الحق والعمل الصالح، فالإيمان الحق استعرض لأجله القرآن تشاهد المؤمنين كيف هم وكيف أحوالهم، والعمل الصالح هذه العبادات من الحج إلى الصلاة إلى الزكاة إلى الصيام إلى كل العبادات، هي أدوات تزكية على شرط أن تؤديها كما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيد ولا تنقص ولا تقدم ولا تؤخر.
    ومدسيات النفس مادتان أيضاً: الشرك والمعاصي فقط.

    ضلال أهل الكتاب بغير إقامة ما أنزل الله تعالى عليهم

    إذاً: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ )[المائدة:68]، وإن ادعيتم أنكم رهبان وربانيون وقسس وأحبار وأنكم على دين موسى، والله ما أنتم بشيء، من أخبر بهذا؟ الملك جل جلاله وعظم سلطانه، الذي بيده الإشقاء والإسعاد، ( لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى )[المائدة:68] إلى أن ( تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ )[المائدة:68]، تعبدون الله بها وتؤمنون بما فيها، وتبينوها للناس كما هي، ليس بالزيادة والنقص والتبديل والتغيير، تقيموا التوراة والإنجيل أولاً، ( وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ )[المائدة:68] ثانياً، ألا وهو القرآن العظيم، فليقرأ اليهود التوراة ألف مرة في الأسبوع فما تغني شيئاً، فليتبجح المسيحي بالإنجيل ويضعه على رأسه وفي بطنه، والله إن لم يؤمن بالكتاب الأخير الخاتم القرآن العظيم ما نفعه شيئاً؛ لأن التوراة والإنجيل حرفوهما فزادوا ونقصوا منهما وبدلوا وغيروا، والله العظيم! لو آمنوا بالتوراة لا تلوح أنوار محمد حتى يجيئون يركضون من الشرق والغرب، فكيف يرسل الله رسولاً ولا تؤمنون به؟ فأنتم كافرون إذاً. ( لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ )[المائدة:68] ألا وهو القرآن.

    معنى قوله تعالى: (وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً ...)
    ثم قال تعالى: ( وَلَيَزِيدَنَّ )[المائدة:68] هذه اللام موطئة للقسم: وعزتنا وجلالنا ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا )[المائدة:68]، نحن طامعون أن يؤمنوا بالقرآن، والرسول أمر بأن يبلغ وهو يبلغ، والله علام الغيوب غارز الغرائز وطابع الطباع أعلمه أن كثيراً منهم ما يزيدهم القرآن إلا كفراً وعناداً، أهل العناد والمكابرة وعدم الانصياع؛ لأن لهم أهدافاً فما تنفع فيهم الحجج ولا البراهين، ما يزدادون إلا عناداً وبعداً: ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا )[المائدة:68]، فمن قال هذا؟ إنه خالق الغرائز وطابعها، خالق النفوس، فلا إله إلا الله! إذاً: ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )[المائدة:68]، لا تكرب ولا تحزن يا رسولنا على قوم كفروا عناداً ومكابرة دفاعاً عن مصالحهم وأطماعهم وشهواتهم، لا تأس عليهم أبداً ولا تأسف ولا تحزن، من قال هذا لرسولنا؟ إنه ربنا تعالى؛ رحمة به وتطييباً لخاطره وتهدئة لنفسه؛ لأنه في كرب، يقول الحق فيعرضون، يبين الدليل فيعمون، فماذا يصنع وهو مأمور: ( بَلِّغْ )[المائدة:67]، ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )[المائدة:67]، ويواجه هذه الصعاب، فماذا قال له؟ ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )[المائدة:67]، لا تحزن عليهم، هم أهل جهنم، أهل عالم الشقاء والخسران والعياذ بالله.

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى ...)



    وفي الآية الأخيرة: باب الله مفتوح، يا يهودي، يا مسيحي، يا صابئ، يا مشرك! تعالوا فربنا واحد والطريق إليه واحدة، لا فرق بين العرب والعجم ولا الأبيض ولا الأسود، ولا اليهودي ولا النصراني، الكل إذا أرادوا أن يقرعوا باب الجنة فاسمع ما يقول تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا )[المائدة:69] وهم نحن والحمد لله، آمنا بالله ولقائه أم لا؟ آمنا بالله ورسله أم لا؟ آمنا بالله وكتبه أم لا؟ آمنا بالله وقضائه وقدره أم لا؟ آمنا باليوم الآخر وما فيه أم لا؟ آمنا، فنحن المؤمنون؛ بدأ بنا لأننا القادة والسادة والفائزون والمنعمون برحمة الله. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا )[المائدة:69] من هم هؤلاء؟ اليهود، عرفوا بهذا الوصف من قديم الزمان منذ عهد موسى، ( وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى )[المائدة:69]، النصارى نسبة إلى الناصرة أو إلى نصرة عيسى، المسيحيون.


    (وَالصَّابِئُون )[المائدة:69]، الصابئون فرقة خرجت من المسيحية وكان لها مذهب خاص، من صبا يصبو، صبئوا عن دين اليهود وعن دين النصارى وصار لهم دين ثالث خاص مبتدع، فيعرفون بالصابئين.

    لطيفة في رفع (الصابئون)
    والآن قد يقول القائل: لماذا ما قال: والصابئين، بل قال: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ )[المائدة:69] وهو معطوف على (إن الذين آمنوا)، فالأصل أن يقول: والصابئين، والنصارى معطوف عليه. والجواب: بينا غير ما مرة بتعليم الله عز وجل وتفقيهه أنه إذا أراد أحدكم أن يمنع السيارة إذا جروا وراءه يطلبونه فإنه يضع حجارة في الطريق، يضع حجارة توقف السيارة، فينزلون ويفكرون، فسبحان الله! الصابئون ما عرفهم العرب كثيراً ولا المسلمون، لكن لما قال: ( وَالصَّابِئُونَ )[المائدة:69] يقف القارئ: لم ما قال: والصابئين؟ حتى يتفكر في الصابئين من هم، وكيف صبئوا وكيف كذا؟ وهذه نكتة بلاغية عجيبة، فالمفروض أن يقول: والصابئين، فقال: ( وَالصَّابِئُونَ )[المائدة:69]، معطوفاً على المنصوب وهو مرفوع، على تقدير: والصابئون كذلك، فنقدر له خبراً، لكن سره: أن تفكر؛ لأن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى معلومون لكم بالضرورة، ( وَالصَّابِئُونَ )[المائدة:69]، إذاً: تقف لحظة بعقلك تفكر.


    شروط استحقاق الأصناف المذكورة في الآية الكريمة للجنة
    الكل يخبر تعالى عنهم فيقول: ( مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ )[المائدة:69] هذا أولاً، ( وَعَمِلَ صَالِحًا )[المائدة:69] ثانياً، ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[المائدة:69]، فيا بشراك يا بشرية! أبيضك كأسودك يهودك كنصرانيك الكل من آمن وعمل صالحاً، أي: زكى نفسه، أو لا؟ عدنا من حيث بدأنا: آمن وعمل صالحاً، استعمل أدوات التزكية، فزكى نفسه بالإيمان والعمل الصالح فطابت وطهرت فصار من أهل الملكوت الأعلى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا )[الشمس:9]، هذه الآية تزن الدنيا بما فيها، أين الفلاسفة وأين الحكماء من اليهود والنصارى والصابئة والمؤمنين؟ يقول تعالى: ( مَنْ آمَنَ )[المائدة:69] بماذا آمن؟ بالبلشفية، بالاشتراكية، بالقومية، بالديمقراطية؟ ( مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ )[المائدة:69] أي: رباً لا رب غيره، إلهاً لا إله سواه، لا معبود غيره، وآمن بكل ما أمره أن يؤمن به من الغيب والشهادة وعمل صالحاً، أي: عبد الله بهذه العبادات من الوضوء إلى الغسل إلى الصلاة إلى الصيام إلى الرباط إلى الجهاد إلى الحج إلى العمرة، هذه العبادات هي والله أدوات التزكية كالماء والصابون للثياب والأبدان، على شرط أن تخلص فيها لله لا تلتفت إلى غير الله، وأن تؤديها كما بينها رسول الله، ما تمسح رأسك قبل أن تغسل وجهك، ولا تغسل رجليك قبل أن تغسل يديك، ولا أن تقف بعرفة قبل أن تطوف، كما أداها الرسول وبينها، هذه هي الأعمال الصالحة المزكية للنفس والمطهرة لها.

    ولو كنا طول العام نجتمع في بيوت ربنا بنسائنا وأطفالنا هكذا نتلو كتاب الله ونتدارسه فكيف تكون حالنا؟ سنصبح كلنا أولياء لله، وإذا أصبحنا أولياء الله فمن يقدر على أذانا؟ أما قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )[المائدة:67]، هل يهديهم لإذلالنا وتعذيبنا؟ والله ما كان، لكن انقلوا هذه الفكرة فقولوا للعلماء عندكم والحكام: هيا نجتمع في بيت الرب ونتعلم الكتاب والحكمة النبوية المحمدية حتى ينتفي الفقر بيننا والخيانة والغش والحسد والكبر والزنا والجرائم والسب والشتم والتكفير، ونكون أمة واحدة كما أراد الله، ما بيننا مذاهب ولا طرق ولا اختلافات، أهل القرية في قريتهم يجتمعون لعبادة ربهم ويخرجون إلى جلب عيشهم في مزرعة أو مصنع وكلهم شباع بإيمانهم، وكلهم في غنى كامل، لا تكلف للشهوات ولا الأطماع ولا المادة، نصبح كالملائكة كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات



    فاسمعوا الآيات التي تدارسناها: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )[المائدة:67]، يا خلفاء رسول الله، يا علماء الكتاب والسنة! بلغوا كما أمر رسولكم أن يبلغ، وإن لم تفعلوا فما بلغتم رسالته، ألسنا خلفاء رسول الله يجب أن نبلغ كما بلغ؟ هل يجوز أن نكتم ونقول في الحرام: حلال وفي الحلال: حرام لمصلحة؟ لا يصح أبداً، ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )[المائدة:67]، ونحن إن عصمنا الله ففي صالحنا، وإن سلط علينا مشركاً منافقاً كافراً فليرفعنا إلى الدرجات العلى، أما قتل عمر في محرابه؟ أما قتل عثمان في بيته، أما قتل علي رضي الله عنه في باب مسجده؟ ليعلي درجاتهم ويعلي مقاماتهم، أما الرسول فمعصوم لأنه وحيد، ما هناك رسول ثان يبلغ عنه.ثانياً: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ )[المائدة:68] قولوها صراحة لليهود والنصارى والبوذيين والمشركين والصابئة: ( لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ )[المائدة:68] وتدرسونها وتطبقون ما فيها، ومن ثم تجدون الإيمان بمحمد ودخول الإسلام ضرورة من ضروريات حياتكم، ( حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ )[المائدة:68] القرآن ما نزل على العرب فقط أو على المسلمين، هو للبشرية كلها، ولأن الرب واحد والبشرية عبيده.


    (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا )[المائدة:68]، من هؤلاء؟ أصحاب المادة، أصحاب الشهوات والأطماع، والرئاسة، الذين يستغلون الشعوب ليعبدوهم، هؤلاء ما يقبلون الحق فيزيدهم هذا طغياناً وكفراً وعناداً، سنة الله قائمة إلى الآن.

    وأخيراً: هذه بشرى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ )[المائدة:69] لا في الدنيا ولا في البرزخ ولا يوم القيامة، ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[المائدة:69] في الحيوات الثلاث أيضاً، فالمؤمن الصادق ولي الله لا يحزن، يدفن ابنه وهو يبتسم، يجوع ويتألم بالجوع وهو يبتسم، لا حزن ولا خوف؛ لأن الله مولاهم.

    أركان الحج

    بعث إلي أحد المستمعين بكلمة يقول: لم تقول: أركان الحج أربعة وتنسى مزدلفة؟
    أركان الحج: الإحرام: لبيك اللهم لبيك حجاً، هذه هي النية لا رياء فيه ولا سمعة، لبيك اللهم لبيك عمرة لا رياء فيها ولا سمعة، هذه النية، لبيك اللهم لبيك حجاً وعمرة، هذه هي النية.
    ثانياً: عرفة ركن، ومزدلفة ما هي بركن، ووجد من الهابطين من يقول: هي ركن، لكن لا نأخذ نحن الأقوال الشاذة ونقدمها لأمة الإسلام لنزيد في محنتها، نحن في بيت الله، في مسجد رسول الله من نيف وأربعين سنة لا نتمذهب ولا ننقد مذهباً، ولا نطعن في أحد، ونبين للمسلمين ما هو الحق الوارد من النبي صلى الله عليه وسلم وكتاب الله.
    فمزدلفة المبيت فيها واجب، وعند العجز يرفع هذا الوجوب، ويكفيك أن تذكر الله فيها بأن تقيم صلاة المغرب والعشاء، وتبكي طويلاً بين يدي الله وتدعو، فإذا كنت مضطراً للرحيل لأطفال أو نساء فالرسول أذن للعباس بذلك، وقد أديت قول الله: ( فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ )[البقرة:198]، ألا وهو مزدلفة.

    والسعي ركن، والسعي لا يسقط بذبح شاة، السعي ركن نص الله عليه في كتابه: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ )[البقرة:158]، فمن قال: أنا لا أريد أن أتعب فسنذبح شاة، قلنا: والله لو ذبحت مليون شاة ما قبلت، أو قلت: عندنا البقر فسنذبح بقرة، فما أنت بمؤمن.

    والرسول يقول: أبدأ بما بدأ الله به، بعدما فرغ من الطواف وصلى خلف المقام ركعتين قال: ( أبدأ بما بدأ الله به. وتلا هذه الآية: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ )[البقرة:158] ).

    نقول: الأركان الأخرى ممكن أن تقضيها، لكن ركن عرفة إذا فات فات، إذا ما دخلت عرفة بعد الزوال وبقيت إلى الليل ولو ساعة فحجك باطل وعليك أن تعيده، أما السعي والطواف فتأتي وتحرم بعمرة وتسعى أو تطوف وتذبح شاة.
    نرجو أن يكون هذا الابن الصالح الذي انتقد هذا الانتقاد قد حضر الآن وفهم، أقول له: مزدلفة واجب النزول بها والمبيت فيها، والصلاة فيها والذكر والدعاء؛ لأن الله قال: ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ )[البقرة:198]، ويستحب فيها عدم قيام الليل، يستحب فيها بعد صلاة المغرب والعشاء أن تستريحوا وتأكلوا وتشربوا الحلال إن وجدتم؛ لأنكم في ضيافة الرحمن، حبسكم يوماً كاملاً وأنتم قيام تذكرون أو تدعون، رفقة بكم، رحمة بنا والحمد لله، قال: بيتوا في مزدلفة على عشرة كيلو متر من عرفات، هذا من ألطاف الله ورحمته، ما قال: امشوا رأساً عشرين كيلو إلى مكة أو إلى منى.

    ثم إذا صلينا الصبح دعونا الله ووقفنا، وقبل طلوع الشمس يجب أن ننفر إلى منى لنرمي جمرة العقبة لنخزي عدو الله إبليس، فإنه في كرب وهم، فإذا رمينا الجمرة تحللنا، احلق والبس لباسك وتطيب إلا امرأتك لا تقربها حتى تطوف طواف الإفاضة، فإن قدر الله وفعلت فيا ويحك، ائت بعمرة وطف طواف الإفاضة واذبح بقرة أو بعيراً، فإن لم تجد شيئاً فشاة من الضأن.

    تحذير من التصوير والتدخين


    والذين يشربون الدخان في المشاعر كالذين يصورون في المشاعر، واسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون )، فلا تحمل كاميرا ولا تصور أبداً، وإذا وجدت واحداً يصور فقل له: اتق الله يا عبد الله، أبطل هذه، انزعها من يدك، أنت واقف في عرفة وأنت تصور؟ تعصي رسول الله وتخرج عن طاعته؟ أما التدخين فنحن لا ندخن في عرفة ولا في باريس، لا يحل لعبد يذكر الله ويجري اسم الله على فمه، في كل لحظة: السلام عليكم، فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله، أراد أن يقف فيقول: باسم الله، هذا الذي يذكر الله كيف يخبث فمه ويلطخه بالروائح الكريهة، والرسول شرع السواك لأمته، وقال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ) تطييباً لأفواههم من أجل أن يذكروا الله، وقال: ( من أراد أن يبصق فلا يبصق عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً )، فكيف تنفخ الروائح الكريهة في وجه ملكين يظلان معك ويبيتان معك؛ حماية لك من جهة وتسهيلاً لأعمالك.
    اسمعوا: لا يحل لمؤمن أن يدخن، أما الكافر الفاسق خبيث النفس فهذا يفعل ما يشاء من التدخين، أما من يقول: باسم الله، والحمد لله، ويذكر الله فكيف يلوث فمه؟

    في غزوة من الغزوات أكلوا الثوم والبصل للجوع، لما وصلوا إلى المدينة بلغهم رسول الله هذا الإعلان: ( ألا من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مساجدنا )، لم يا رسول الله؟ علل وأنت الحكيم؟ قال: ( فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )، أبعد هذا ندخن؟
    والذي هبط بنا أن العلماء ماتوا وانقرضوا، ووجدنا في عصر ليس فيه من يعلم، فحصل هذا، وإلا فكيف ندخن؟ قف يا مدخن، أسألك بالله: كم ريالاً تستفيده في اليوم من دخانك؟ كم تزيد قوتك العقلية والبدنية؟ والله لا شيء، بل تهبط، ما هي النتائج إلا أن تغضب الله بأذية ملائكته وتقع في موقع الكفر أو تكاد، تخبث فماً يجب أن تطهره، تخبثه أنت بالرائحة الكريهة الخبيثة، لا لوم يا أبناء الإسلام؛ مات العلم وانقطع العلماء، وعشنا جهالاً في المقاهي والملاهي، فلهذا أروني واحداً جلس معنا سنة في هذه الحلقة يدخن، ما هو بموجود.
    والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعليهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #340
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



    تفسير القرآن الكريم
    - للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
    تفسير سورة المائدة - (27)
    الحلقة (339)
    تفسير سورة المائدة (33)



    ما أكثر ما أرسل الله عز وجل إلى بني إسرائيل من الرسل، ولكنهم قوم بهت ظالمون فاسقون، فإن جاءهم نبي بما لا تهوى أنفسهم كذبوه وآذوه، وربما قتلوه، وحسبوا أن الله عز وجل لن يحاسبهم ولن يؤاخذهم فعموا وصموا، فابتلاهم الله ثم تاب عليهم، ثم عموا وصموا أكثر من ذي قبل فسلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، جزاء تكذيبهم وإعراضهم.

    قراءة في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    ثم أما بعد:
    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم لنا هذا الفضل إنك ذو الفضل العظيم.
    وها نحن مازلنا مع سورة المائدة المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، وقبل الشروع فيها وتلاوتها ودراستها أعود بالمستمعين الكرام والمستمعات الصالحات إلى الآيات الثلاث التي درسناها بالأمس؛ تذكيراً للناس وتعليماً لغير العالمين، فإليكم تلاوتها ثم نضع أيديكم على هداياتها التي ينبغي أن نظفر بها ونفوز.
    (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[المائدة:67-69].
    هذه الآيات درسناها وفهمنا مراد الله منها -والحمد لله- في ليلتنا الماضية، فهيا نضع أيدينا على هداية هذه الآيات.
    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
    [ هداية الآيات:
    من هداية الآيات:
    أولاً: وجوب البلاغ على الرسول صلى الله عليه وسلم، ونهوض رسولنا محمد بهذا الواجب على أكمل وجه وأتمه ].
    هدتنا الآية إلى وجوب البلاغ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )[المائدة:67].
    [ ثانياً: عصمة الرسول المطلقة ]، أما وعده الله بقوله: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )[المائدة:67]، أما قال للحارس: عد إلى بيتك كفاك الله هذه المهمة، فالله يعصمني؟ وعصمه الله، فما استطاع منافق ولا يهودي أن يغتاله أو يحتال عليه، بل كان يأتي الرجل والسلاح تحته ليغتال الرسول ويكشف الله حاله ويعلم رسول الله بحاله، ويرمي بالسلاح ويدخل في الإسلام.
    [ ثالثاً: كفر أهل الكتاب إلا من آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء به من الدين الحق ]، لقوله تعالى: ( لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى )[المائدة:68]، واضح الدلالة.
    [ رابعاً: أهل العناد والمكابرة لا تزيدهم الأدلة والبراهين إلا عتواً ونفوراً وطغياناً وكفراً ]، دلت الآية عليه: ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا )[المائدة:68].
    [ خامساً: العبرة بالإِيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي لا بالانتساب إلى دين من الأديان ]
    دلنا على هذا قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[المائدة:69].

    تفسير قوله تعالى: (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً...)

    والآن مع هذه الآيات التي نتدارسها إن شاء الله في هذه الساعة المباركة.قوله تعالى: ( لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ )[المائدة:70]، من القائل: ( لَقَدْ أَخَذْنَا )[المائدة:70]؟ الله جل جلاله، هو الذي أخذ ميثاق بني إسرائيل على عهد موسى والأنبياء، والميثاق: العهد المؤكد بالأيمان، كأنه وثاق يحبس صاحبه ولا يستطيع أن يخرج عنه، وبنو إسرائيل هم اليهود أولاد يعقوب عليه السلام.
    إذاً: يقول تعالى مخبراً محققاً هذه الحقيقة: ( لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا )[المائدة:70] عظاماً أجلاء كثيرين، من موسى وهارون إلى يحيى وزكريا وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
    (كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ )[المائدة:70]، أخبر تعالى بواقع اليهود، ( كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ )[المائدة:70] وتشتهي وتحب وترغب، ( فَرِيقًا كَذَّبُوا )[المائدة:70] الرسل، ( وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ )[المائدة:70]، أو أن فريقاً كذبوهم من الرسل وفريقاً قتلوهم، هذا الواقع الذي لن يستطيع أحد أن ينكره، أما قتلوا زكريا ويحيى؟ أما أرادوا قتل عيسى إلا أن الله رفعه؟ أما صلبوا وقتلوا من شبه به؟ أما تآمروا على نبينا صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة لقتله؟ هذا شأنهم.
    فاسمع ما يقول العليم الحكيم عنهم: ( كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ )[المائدة:70]، أما بما يشتهونه ويحبونه فيرحبون ويؤهلون ويعملون، لكن إذا جاء بأشياء لا تتفق وشهواتهم ولا تتلاءم مع أطماعهم وأهوائهم فماذا يفعلون؟ إما أن يكذبوا أو يقتلوا، منهم من يكذبونهم، ومنهم من يقتلونهم.
    فالرسول يجيء بما لا تهوى الأنفس ويجيء بما تهوى، يأمر بالعدل والصلة والرحم والحق، كلما جاءهم رسول بالذي لا تهوى أنفسهم وقفوا ضده وحاربوه، منهم من قتلوا ومنهم من كذبوا، أما إذا جاءهم بما فيه رغبة لهم فيرحبون ويؤهلون.

    تفسير قوله تعالى: (وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ...)

    قال تعالى: ( وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ )[المائدة:71]، ما معنى هذا؟ ( وَحَسِبُوا )[المائدة:71]، من هم؟ اليهود. والحسبان: الظن، ظنوا أن لا تكون فتنة، يغنون ويزغردون ويلبسون الكعب العالي، يصفقون ويأكلون الربا ويفعلون ما شاءوا ويظنون أن لا تنزل بهم محنة ولا مصيبة.
    ومع الأسف الآن المسلمون يحملون هذا الظن، عطلنا شرائع الله، فعلنا كل ما يكره الله، وما نحن بخائفين أبداً أن تنزل محنة بنا، لا وباء ولا تيفود ولا الخسف ولا الصواعق ولا تسليط الكافرين، وهو موقف بني إسرائيل، فحال المسلمين اليوم وقبل اليوم ومنذ مئات السنين هل هي حال مرضية لله عز وجل؟ هل أقاموا دين الله؟ هل أقاموا كتابه؟ الجواب: لا، إلا القليل، إلا من رحم الله.
    هل هناك من هو خائف يبكي أن تنزل بالمسلمين صاعقة أو تنزل بهم محنة لا يستطيعونها؟ لا واحد في الألف ولا في المائة ألف، فلا إله إلا الله! القرآن كتاب هداية إلى يوم القيامة، فلم لا نعتبر؟
    اسمع ما يقول تعالى: ( وَحَسِبُوا )[المائدة:71] ظنوا ( أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ )[المائدة:71]، فمن ثم عموا فلم يروا العبر والعظات، وصموا فلم يسمعوا الوعظ ولا التوجيه ولا الإرشاد، إذاً: فنزلت المحنة بهم، ونبتدئ من يوشع بن نون ، فلما خرج موسى ببني إسرائيل في ستمائة ألف من مصر حدثت أحداث عظيمة مسجلة عندنا مفهومة في كتاب الله، حسبنا أنهم قالوا لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ )[المائدة:24]، فأبوا أن يمشوا معه إلى فلسطين؛ لمحاربة الكفرة المشركين بها من العمالقة، ومات موسى وهارون عليهما السلام في زمن التيه، ومضت أربعون سنة وهم في تلك الصحراء، ولولا لطف الله بهم وإحسانه إليهم لهلكوا عن آخرهم، ولكن الله كريم رحيم.

    ثم هلك الجيل الهابط ونشأ جيل في الصحراء فقادهم يوشع بن نون وانتصر بإذن الله ومزق شمل الكافرين، وأقام دولة الإيمان والإسلام في فلسطين، فمضت سنون ثم انتكسوا بالأغاني والمزامير والشهوات والأطماع والربا، كما هو سلوك البشر.
    إذاً: فسلط الله عليهم البابليين، فأدبوهم، مزقوهم، شتتوهم، أخرجوهم من فلسطين، وعاشوا متفرقين هنا وهناك، ثم -كما أخبرنا تعالى- جاءوا إلى أحد أنبيائهم يطلبون أن يولي عليهم ملكاً وأن يقاتلوا في سبيل الله، واستجاب الله وملك عليهم وقادهم طالوت، وخاض المعارك مع العدو ونصره الله مع الفئة المؤمنة، وتكونت دولة بني إسرائيل من جديد على عهد داود وسليمان، فكانت قد سيطرت على العالم في ذلك الزمان، امتد سلطان سليمان من الشرق إلى الغرب، ( ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا )[المائدة:71]، وانغمسوا في الشهوات واللذائذ والمادة.
    وأبو القاسم نبينا صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن الكعب العالي أول ما ظهر في بني إسرائيل، والكعب العالي تلبسه المرأة وتصبح تتمايل في الشارع، تجذب النفوس والقلوب إليها، إذاً: ما هي إلا فترة من الزمان وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا عن العظات والعبر، وصموا ولم يسمعوا دعوة الدعاة والهداة منهم، فنزلت بهم المحنة، سلط الله عليهم الرومانيين، فمزقوهم وشتتوهم وفعلوا بهم الأعاجيب، وإلى الآن هم مشتتون مشردون، فقولوا آمنا بالله.
    ومن ثم هربوا إلى العرب؛ لأنهم أميون وهم علماء فيسودون بينهم، وفروا من الرومان وقتلهم لهم وتشريدهم، فهذا معنى قول ربنا: ( وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ )[المائدة:71].
    تحذير المسلمين من مسلك بني إسرائيل في الشهوات

    ونحن -أيها المسلمون يا أهل القرآن- لما عمي آباؤنا وأجدادنا وصموا سلط الله علينا بريطانيا، فأين ممالك الهند؟ وسلط علينا فرنسا، فأين شمال أفريقيا؟ لأننا عمينا وصممنا.والآن استقللنا وتحررنا، فالزمام بأيدينا، فهل أقمنا الصلاة؟ كلما استقل إقليم من إندونيسيا إلى موريتانيا ما هناك حاكم أجبر الأمة على إقامة الصلاة من مدنيين أو عسكريين، والله ما كان، هل جبيت الزكاة فريضة الإسلام وقاعدته؟ بل استبدلت بالضرائب الفادحة الهالكة، وما طلبوا الزكاة ولا طالبوا بها، فماذا نقول؟
    إذاً: والله إننا لتحت النظارة كحال بني عمنا، ( وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ )[المائدة:71]، ظنوا أنه ما هناك أبداً ما يقع، ( فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا )[المائدة:71].
    ونحن استقللنا وحكمنا، فلم لا نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؟ لم لا نبايع خليفة فينا ونصبح كلنا أمة واحدة؟ لم لا نجتمع في بيوت ربنا ونتعلم الكتاب والحكمة فنطهر ونصفو ونكمل ونعرف الطريق إلى الله؟ نحن مصرون على الأهواء والأطماع والشهوات كبني عمنا، بل نحن أكثر، ونحن ننتظر حكم الله عز وجل.
    وهل نحن أفضل من بني إسرائيل؟ لا أبداً، أولاد الأنبياء هم بنو إسرائيل، لكن لما أعرضوا أعرض الله عنهم، لما أغضبوا الله عز وجل سلط عليهم ما شاء أن يسلط، وها هم مشردون في الآفاق يطمعون في إعادة مملكة بني إسرائيل ولن يتحقق مرادهم، فقط حين يظهر الإسلام من جديد ويتوب المسلمون في أربع وعشرين ساعة لا يبقى أمل لليهود ولا مطمع.
    وإليكم البيان النبوي الصحيح: يقول صلى الله عليه وسلم: ( لتقاتلن اليهود )، يا رسول الله! من هؤلاء اليهود الذين نقاتلهم؟ حفنة مشردون نقاتلهم؟! ودولتنا وخلافتنا سيطرت على أكثر من نصف العالم، فكيف نقاتلهم؟ ما استطاع أحد أن يقول، ولكن أخبر أبو القاسم: ( لتقاتلن اليهود ثم لتسلطن عليهم )، من يسلطنا عليهم؟ الله يسلطنا عليهم بالأسباب التي يريد، وكثيراً ما أقول: لو رجعنا إلى الطريق ومشينا أياماً فقط -لا أعواماً- واستقمنا؛ فإن الله يسلطنا الله على اليهود، كأن تظهر فعلة يهودية كبيرة في أمريكا، كما لو أراد اليهود أن يفجروا كل عمارة في أمريكا، فيصدر أمر بقتل اليهود كما فعل هتلر في الزمن الماضي، أما شردهم وقتلهم؟ قتل أكثر من ثلاثين ألفاً من اليهود في ألمانيا، فنحن لما نقبل على الله ويقبلنا لا تسأل عن الأسباب التي يوجدها الله عز وجل؛ لأن كلمة (لتسلطن) دالة على هذا المعنى، تتخلى عنهم بريطانيا والعالم الأوروبي وأمريكا، فإذا تخلوا عنهم فإن نساءنا وأطفالنا سيخرجونهم ويقتلونهم.
    إذاً: السر ما زال في قوله: ( فلتسلطن عليهم فتقتلونهم، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله )، هل يقول: يا عربي؟ إنما يقول: يا مسلم، وهل الشجر يكذب؟ ينطقه الجبار، آية من آياته، هل الحجر يكذب فيقول لغير المسلم: يا مسلم؟
    الشاهد عندنا: أن الشجر والحجر ما يكذب فيقول لعلماني، اشتراكي، خرافي، ضال، مشرك: يا مسلم، هل يكذب الشجر والحجر؟ والله ما كان، ومعنى هذا: أنه يسلطنا الله عليهم لأننا أسلمنا أولاً، أقمنا دين الله ورفعنا راية لا إله إلا الله، فأصبحنا أولياء الله، ثم يسلطنا الله عليهم فنقتلهم ( حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله. إلا شجر الغرقد فإنه شجر اليهود ).
    وبقيع الغرقد هذا كان ينبت فيه الغرقد، وينبت في الغابة أيضاً، هذا الشجر إذا اختبأ يهودي وراءه فما يخبر عنه؛ لأنهم يقدسون هذا الشجر إلى الآن ويحتفون به احتفاء عجباً أكثر من الزيتون والبرتقال، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    والشاهد عندنا: أنه يقول الشجر والحجر: يا مسلم، ولو لم يكن ذلك العبد قد أسلم قلبه لله ووجهه، وأصبح يعبد الله ويؤلهه ويقدسه ولا يعرف سوى الله عز وجل؛ فلن يقول له الشجر: يا مسلم وقد أسلم قلبه للشهوات والأطماع والدنيا الفاسدة.
    قال تعالى: ( وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ )[المائدة:71]، أي: امتحان واختبار، بالوباء بالخسف بتسليط عدو؛ إذ هو هذا الفتنة، ( فَعَمُوا )[المائدة:71] عن العظات ما استطاعوا يبصرون، والله! إنه تحدث أحداث في العالم العربي ما يعتبرون بها أبداً، آمنون, ما هناك من صاح يبكي: يا قومنا! عجلوا بالتوبة قبل أن تنزل الفتنة بنا، هل سمعتم بهذا؟ ما هناك أحد، بل آمنون، فلا إله إلا الله!
    (فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )[المائدة:71] على عهد داود وسليمان، ( ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا ([المائدة:71]، إذاً: سلط الله عليهم الرومان، وهم إلى الآن أذلة مشردون.
    قال تعالى ( وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ )[المائدة:71]، لعلمه المحيط بكل ذرات الكون، فمن عبد عرفه ومن عصا عرفه, من شكر عرفه ومن كفر عرفه.


    تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ...)

    ثم قال تعالى في الآية الأخيرة من الثلاث الآيات: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )[المائدة:72]، الآيات في أهل الكتاب، الآيات الأولى كانت مع اليهود، والآن مع النصارى، فهذا الخبر خبر من؟ هل خبر عالم من علماء المسلمين؟ من قال هذا؟ إنه الله عز وجل. ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )[المائدة:72]، المسيح: هو عيسى عليه السلام، ولقب بالمسيح لأنه يمسح على الأعمى فيعود إليه بصره، وعلى الأبرص فيطيب جلده، هذا المسيح هو عيسى بن مريم، واليعقوبيون -فرقة من فرق النصارى تعرف باليعقوبية- قالوا: اتحد عيسى الابن مع ربه، فأصبح عيسى هو الإله، هو الله، والاتحاد معروف، كأن تأخذ خشبتين فتدخل واحدة في واحدة، قالوا: دخل عيسى في الله، فأصبح عيسى هو الله!
    ولا تعجب، أيخبر الله بغير الواقع؟ هؤلاء اليعقوبية وغيرهم من أصحاب الأقانيم الثلاثة: الأب والابن وروح القدس، الأب: هو الله. والابن: عيسى ولده. وروح القدس: هو جبريل، الثلاثة يكونون الله أو الإله، وسيأتي: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )[المائدة:73].
    وكما علمنا أن النصارى افترقوا إلى اثنتين وسبعين فرقة، واليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، ولن يستطيع من تحت السماء أن يرد على الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: ( وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة )، والله لقد افترقت إليها وتم العدد بكامله!
    اسمع ما يقول تعالى، بعدما بين حال اليهود عاد إلى النصارى وهم أهل الكتاب فقال: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )[المائدة:72]، تعرفون من مريم هذه؟ سموا بناتكم مريم، مريم معناها: خادمة الله باللغة العبرية؛ لأن والدتها حنة عليها السلام لما نذرت لله ما في بطنها، واستجاب الله لها، ورزقها الطفلة سمتها: مريم بمعنى: خادمة الله. وبالفعل ما خدمت أمها أبداً، تركتها في المسجد تعبد الله؛ لأنها نذيرة لله عز وجل، هذه مريم البتول أنجبت عيسى، فسمي: عيسى ابن مريم؛ إذ لا أب له، وإنما كان بكلمة التكوين، قال الله: كن فكان، في ربع ساعة والمخاض يهزها وهي تحت الشجرة أو النخلة تتألم للوضع.
    (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )[المائدة:72]، والذي يشك في كفرهم كافر، فالله يقول: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )[المائدة:72]، فالذي لا يقول هذا ولا يكفرهم كفر أحب أم سخط.

    معنى قوله تعالى: (وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم)

    ثم قال تعالى: ( وَقَالَ الْمَسِيحُ )[المائدة:72]، هم قالوا: المسيح هو الله، فالمسيح ماذا قال؟ قال في حفل عظيم، في حشد كبير هذه الكلمة المسجلة، من سجلها؟ الله جل جلاله، سجلها بالحرف الواحد، في ذلك الحفل قال: ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ )[المائدة:72]، يا أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل! ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:72]، هل قال: اعبدوني؟ ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي )[المائدة:72]، أي: خالقي ومالكي وإلهي الذي أعبده، وهو ربكم أيضاً، أي: خالقكم ورازقكم ومدبر أمركم وهو إلهكم الحق، ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:72].
    معنى قوله تعالى: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة)

    ثم علل وهو الحكيم يتلقى معارفه عن الله، فقال: ( إِنَّهُ )[المائدة:72]، أي: الحال والشأن ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ )[المائدة:72]، من يشرك بالله إلهاً آخر يعبده معه بأي نوع من أنواع العبادة فقد حرم الله عليه الجنة تحريماً أبدياً ممنوعاً منها لا يدخلها أبداً، ( وَمَأْوَاهُ النَّارُ )[المائدة:72]، إذا حرم عليه الجنة فأين يذهب؟ ما هناك إلا عالمان علوي وسفلي، عالم السعادة علوي، وعالم الشقاء سفلي، ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )[الذاريات:49]، موت وحياة، صحة ومرض، غنى وفقر، عز وذل، إذاً: نعيم وشقاء، علوي وسفلي، فأين يذهبون إذا حرموا من الجنة؟ إلى جهنم إلى عالم الشقاء.
    صور شركية في حياة المسلمين
    والمسلمون يقرءون سورة المائدة ويعرفون عن عيسى ما قال، ويرضون بالشرك الأكبر، فلا إله إلا الله! أسألكم بالله: أليس بين المسلمين من يقول: هذه شاة سيدي عبد القادر . هذه نخلة مولاي فلان. هذه كذا.. يتقربون إلى الأموات، آلله أمرهم بذلك؟ الجواب: لا، وإنما الشيطان زين لهم عبادة هذه القبور فأصبحوا ينذرون لها النذور ويعكفون حولها، والله بعيني هاتين رأيت في بلاد المسلمين الرجال والنساء عاكفين حول القبور والأضرحة، يستمدون منهم الخير، ويستعيذون بهم من الشر.وأزيدكم علماً: الرجل منا المسبحة في يده: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، وحين تأخذه سنة النوم والنعاس فتسقط المسبحة يقول: يا رسول الله أو يا سيدي عبد القادر ! أين ذلك الذكر؟ أما كان يقول: لا معبود إلا الله، لا معبود إلا الله، لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله؟ لما سقطت المسبحة من يده بالنعاس ما قال: يا رب، بل: يا سيدي فلان.
    وأزيدكم: كنت راكباً إلى جنب أخينا يقود بنا السيارة خارج ديارنا هذه، ما إن خرجت السيارة عن الخط حتى قال: يا رسول الله.. يا رسول الله.. يا رسول الله!
    يا عبد الله! لو مت لهلكت، وهل تشكون في هذا؟ الذي يشك في أن مدرساً في المسجد النبوي يكذب يجب أن يعود إلى دياره، أعوذ بالله! هذا مثال، والله! إن المرأة يهزها الطلق وهي تكاد تضع فتمسك بحبل في العمود، وتقول: يا الله، يا سيدي فلان، يا الله، يا رسول الله! ما هو بإله واحد، فما سبب هذا؟ سببه الجهل؛ لأن القرآن نقرؤه على الموتى من إندونيسيا إلى موريتانيا، مضت قرون لا يجتمع المسلمون اجتماعنا هذا على تلاوة كتاب الله ولا دراسته وهم عوام ورجال ونساء ليتعلموا الهدى ويعبدوا الله على الحق، وإنما يجتمعون على القرآن على الميت، في حلقة كبيرة فيها الشاي أو الأرز، بعد ذلك نقرأ على الميت حتى يدخل الجنة، ولا نفكر في معنى آية أبداً، بل إذا قلت: قال الله قيل: اسكت، القرآن تفسيره خطأ وخطؤه كفر، لا تقل: قال الله، قل: قال سيدي فلان أو قال الشيخ الفلاني، هكذا فعلوا بنا خمسمائة سنة، فكيف نعرف؟ من أين تأتي المعرفة؟
    تمر ببلاد -باستثناء هذه الديار طهرها الله على يد عبد العزيز تغمده الله برحمته- بلادنا الأخرى ما تمر فيها بجبل إلا وقبة عليه، أنا مع أمي أو مع عمتي طفل، فتمر فتقول: يا سيدي فلان! إذا نصر الله أخي في المحكمة فسنفعل لك كذا وكذا! وثنية عامة، وإلى الآن ما زلنا.
    هذه الآية ما سمعنا بها، اسمع عيسى يخطب في بني إسرائيل: ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )[المائدة:72]، لم؟ ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ )[المائدة:72]، وإن قلت: هذا تفسيرك أنت يا وهابي، قلت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى صحابياً، والأصحاب ما تعلموا ولا درسوا مثلنا، هذا آمن منذ عام، وهذا أسلم اليوم، أميون، ( رأى في يده حلقة من نحاس )، حلقة من صفر يعملها الناس في أعناقهم عندنا وفي أيديهم وأرجلهم، ( فقال: ما هذه يا عبد الله؟ قال: من الواهنة يا رسول الله -أصاب بالوهن في يدي، فإذا جعلت هذه تنشط يدي- فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، ولو مت وهي عليك ما دخلت الجنة )، لأن القلب الذي يتعلق بالحديدة انتهى صاحبه، فماذا نقول؟

    طريق النجاة من المصائب والنقم
    وقد ذكرتكم بأننا تحت النظارة، لا تفهموا أننا استقللنا وسدنا وحكمنا، وأصبحت لنا مصانع ونطير في السماء، والله! إنه لكما قال تعالى: ( فَعَمُوا وَصَمُّوا )[المائدة:71]، إما أن نلجأ إلى الله في صدق، ونعود على الفور، وإما أن تنزل بنا محن وآلام ومصائب ما عرفها آباؤنا، وهل هناك ضمانة عندنا؟ فحالنا كحال بني إسرائيل، فهيا نتوب إلى الله. وهناك طريق واضح ومسلك نعم المسلك، والله ما يكلفنا ديناراً ولا درهماً ولا قطرة دم ولا ألماً ولا شقاء أبداً، وما هي إلا سنة واحدة وكلنا أولياء لله أفضل من عبد القادر ، ولكننا لسنا مستعدين لأن نعبد الله. وباسم الله أقول والله يعلم، وقد قررنا هذا وكتبناه في كتاب سميناه: (كتاب مفتوح إلى علماء الأمة وحكامها)، ووزع وقرأه العلماء ووضع تحت الكتب كأن شيئاً ما كان، بل بعثنا به إلى خادم الحرمين أيده الله وأطال عمره، فبعث به إلى الرابطة ليترجم ويطبع فدسته الرابطة تحت الكتب وما بلغنا شيء، فما هذا؟!
    أقول: إن أردنا أن نعود إلى سبيل النجاة وساحة والأمن والطهر والصفاء فلنأخذ أنفسنا على أننا إذا دقت الساعة السادسة مساءً وفي ديارنا كلها في العرب والعجم نوقف العمل، أغلق مقهاك يا صاحب المقهى، يا صاحب الدكان! أغلقه، يا صاحب المكتب! أغلق المكتب، توضئوا وائتوا بنسائكم وأطفالكم إلى بيت ربكم، إي: إلى الجامع، المسجد الكبير الذي وسعناه في الحي أو في القرية؛ حتى أصبح يتسع لأهل القرية كلهم، أو لأهل الحي أجمعين، وسهل هذا، بالخشب والحطب نوسعه كما كان حال أجدادنا، ثم صلينا المغرب وما بقي في القرية خارج المسجد أحد، إلا مريض أو ممرض، كل أهل القرية في المسجد، كل أهل الحي في المسجد، نصلي المغرب كما صلينا الآن، ثم يجلس لنا مرب عليم بكتاب الله وهدي رسوله كجلوسنا هذا، وندرس آية كما درسناها الليلة، ونحفظها، نرددها حتى تحفظ، ثم نضع أيدينا على المطلوب منها كما علمنا، وغداً حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المفسرة المبينة لكتاب الله نردده حتى يحفظه نساؤنا وأطفالنا وفحولنا، ثم نعرف مراد الرسول منه، فنعزم على التطبيق والعمل، ويوماً بعد يوم، يوماً آية، ويوماً حديث، والله ما تمضي سنة حتى تلوح الأنوار إن صبرنا، مع أن هذا العمل لا يوقف شيئاً أبداً، اليهود والنصارى والمجوس إذا دقت الساعة السادسة وقف العمل ويذهبون إلى المراقص والمقاصف والملاهي والملاعب، أليس كذلك؟
    ونحن لأننا نريد أن نسود ونقود، لأننا أحياء وهم أموات، نحن مؤمنون وهم كافرون، إذاً: نصبر ساعة ونصف ساعة في بيت الرب، في سنة والله ما يبقى جاهل ولا جاهلة، ولسنا في حاجة إلى كتابة ولا إلى قلم، وإنما نتلقى العلم والحكمة كما تلقاها أصحاب رسول الله بدون قلم ولا دواة ولا كتابة، والعلم الذي في الكتابة نأخذه في النهار في المدارس، لكن هذا العلم الروحاني الرباني نتلقاه ليلاً للعمل به في النهار، في سنة واحدة والله ما يبقى في القرية من يعرف أنه يزني أو يكذب على إخوانه أو يمد يده ليضربهم أو يسرق مالهم، أو يرى من يتكبر عليهم أو يسخر منهم، والله ما كان، ولا يبقى فقير يتضور بالجوع أبداً، ويتوافر المال، والله ليتوافرن المال، فالذي كان راتبه عشرة آلاف سيستغني بألفين، والباقي ماذا يصنع به؟ وفوق ذلك يتكون في ذلك المسجد صندوق من حديد في المحراب، والمسئول العام هو إمام المسجد والمربي والمؤذن وشيخ القرية، فيقولون: يا معشر المؤمنين والمؤمنات! من زاد ماله عن قوته فليضعه في هذا الصندوق، في ستة أشهر يمتلئ الصندوق ويفيض، فماذا يصنعون به؟ انظروا: المنطقة تحتاج إلى مصنع، فانشئوا مصنعاً، تحتاج إلى مزرعة وأرض زراعية، ويبارك الله في ذلك المال وينمو ويفيض وما يبقى بنك ولا ربا، بل بتلفون: أعطوا لفلان من القرية الفلانية، وتصاب الماسونية بالجنون، ويصاب اليهود والنصارى بالعفن، فيقولون: ما هذا؟ كيف طلع هذا الفجر رغم أنوفهم ولا يستطيعون أن يزلزلوا أقدامنا؛ لأن الله أصبح ولينا، فماذا يكلفنا هذا؟ ما نستطيع أن نصبر لوجه الله ساعة نتعلم كتاب الله وهدي رسوله.
    إن هذا الصوت إذا سمعته الماسونية والعلمانيون والمسيحيون يغضبون، كلما سمعوا الحق غضبوا، ولن نسكت، بل نقول: اغضبوا فما طالبناكم بشيء أبداً، فنحن في بيوت ربنا، وتنتهي الجهالات والشركيات والخرافات والضلالات والأحقاد والأحساد والأمراض كلها في سنة واحدة، فمن يبلغ؟ لا إله إلا الله! يا علماء، يا رجال السياسة، يا حاكمون! استجيبوا، جربوا، إخوانكم شاردون ضائعون في الباطل، اجمعوهم في بيت الرب ولقنوهم الكتاب والحكمة، أما قال تعالى فينا: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )[الجمعة:2]، تعلموا وفازوا أم لا؟ والله! ما اكتحلت عين الوجود بأمة أطهر ولا أعز ولا أكمل ولا أصفى من تلك الأمة في قرونها الثلاثة: الصحابة وأولادهم وأولاد أولادهم، كيف حصلوا على هذا الكمال؟ حصلوا هذا بالعلم بالكتاب والحكمة، بطاعة الله والانقياد له.
    فهيا بنا، النجاة.. النجاة، يا عبد الله.. يا أمة الله! اطلب النجاة لنفسك، تعرف إلى ربك، تعرف على ما يحب ويكره وافعل المحبوب وتخل عن المكروه، واصبر على ما يصيبك، فما هي إلا ساعات وأنت في الملكوت الأعلى، اللهم حقق لنا ذلك.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •