الاجتهاد ليس إلغاءً وتبديلاً وتجاوزاً للنص
هيثم جلول



لقد حض الإسلام على الاجتهاد والتجديد والتقويم والمراجعة، وعلى الأخص كلما طال الأمد، وكاد الركود والتقليد الجماعي يسيطر على المجتمع، لحماية الأمة ومتابعة النهوض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها"، وهذا الحديث يتضمن بعداً تكليفياً في حمل الأمانة واستشعار المسؤولية عن هذا الدين، وحراسة النصوص، والاجتهاد لاستمرار عطائها وتحقيق الانفعال بها في حياة الناس، ويؤكد ديمومة الاجتهاد لمعالجة مشكلات كل عصر، ذلك أن صوابية الاجتهاد لعصر معين لا تعني بالضرورة صوابيته لكل عصر، وليس المراد بالاجتهاد والتجديد الإلغاء والتبديل وتجاوز النص، وإنما المراد هو الفهم الجديد القويم للنص، فهو يهدي المسلم لمعالجة مشكلاته وقضايا واقعة في كل عصر يعيشه معالجة نابعة من هدي الوحي.
ذلك الفهم الذي يعتبر سبيل تحقيق الخلود للرسالة الإسلامية والامتداد بالإسلام في جوانب الحياة وشعب المعرفة جميعها، وليبقى التفكير مرتكزاً للحياة الإسلامية في سبيل النمو والتنمية الفردية والاجتماعية، وفي الحديث الشريف: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"، والحاكم هنا هو كل من ينيط به الحكم على شيء أو النظر في أمر أو الاجتهاد في قضية.
وعلى هذا فإن الاجتهاد في معرفة أحكام المسائل والمشكلات الطارئة هو فرض كفائي على عامة المسلمين، مهما كان حالهم وشأنهم، فإذا لم يقم منهم من يعكف على دراسة الشريعة الإسلامية وأصولها للنهوض بالاجتهاد في معرفة أحكام تلك المشكلات المستجدة فالمسلمون كلهم آثمون، ولعل هذه الحال هي المراد بقول من ذهب من الأئمة إلى أنه لا يجوز خلو عصر من الأعصار من مجتهد في كتاب الله وسنة رسوله، ذلك لأن من شأن كل عصر أو جيل من الأجيال أن يجر معه إلى الناس مشكلات وأعرافاً وأوضاعاً جديدة، ولا بد لها من علماء مجتهدين يتصدون لمعرفة أحكامها، إلا أن حياة الإنسان زاخرة بالمسائل المعقدة التي يتعذر في بعض الحالات إيجاد حلول مثالية لها، ولكن لا يعني هذا التسليم بهذه الحقيقة وكأنها واقع مطلق لا يمكن تجاوزه، إن على العقل البشري أن يتخذ أحد موقفين إزاء المشكلات، فهو إما أن يفترض أنها تخضع لقوانين، ومن ثم يمكن أن تخضع للسيطرة عليها وتسخيرها، وإما أن يفترض فيها أنها لا تخضع لقوانين، أو يمكن كشف قوانينها، وبين هذين الموقفين مواقف متعددة يتفاوت فيها القرب من أحدها والبعد عن الآخر، وإن لكل من الفرضيتين نتائج عملية تظهر من مواقف البشر وسلوكهم بصورة متفاوتة على حساب الخضوع لأحد الموقفين.
وخلاصة القول: إن حاجتنا إلى فتح باب الاجتهاد في الزمن الذي نعيش فيه الدائم التغير، المتلاحق التطور الذي يمتزج فيه الخاص بالعام، والمطلق بالمحدد، أصبحت حاجة ملحة وضرورة دينية واجبة، فقد أصبحنا ولدينا ثراء وغنى في فقه العبادات والشعائر الدينية يصاحبه فقر شديد في فقه المعاملات والفكر المعاصر اللازم لمواكبة العصر الجديد ومواءمة المستحدثات من الأمور، الذي يبرز حاجتنا إلى مشروع عمل تجمع عليه الأمة وتحدد فيه السمات الأساسية لأسلوب التعامل مع المشكلات والأزمات المعاصرة، وبيان سنن الله في منهج ينسجم مع المنهج الإلهي الذي فطر الله عليه أمور خلقه، وإننا في هذا الأمر نؤيد رأي الأكثرية من العلماء التي دعت إلى الاجتهاد الجماعي للأمة من حيث تحقيقه لمبدأ الشورى في الاجتهاد هو الإجماع الواقعي الذي تحقق في صدر الإسلام على يد الصحابة وسمي بعد ذلك إجماعاً، وأن يتركز الاجتهاد الجماعي في محاور أساسية هي: الاجتهاد الجماعي فيما يتغير أساسه أو تغير زمانه، ومكانه، والاجتهاد الجماعي في المستجدات وفي انتقاء الراجح من أقوال السابقين والأنسب لواقع الأمة في هذا العصر، وهو الطريق الحصين والأقوم لتوحيد الفكر الذي يحقق للأمة الإسلامية وحدتها وتماسكها، وندعو المجامع الفقهية الموجودة في العالم الإسلامي كله تنضوي تحته المجامع الفقهية الإقليمية لتتكامل فيما بينها وتدرس الموضوعات التي تحتاج الأمة إلى مناقشتها والاجتهاد فيها، وتتسع آفاقها وتنضج أعمالها وتأخذ بقراراتها الأمة الإسلامية قاطبة، فلا بد أن تدرك الأجيال المسلمة أن للإسلام رسالته الفكرية والثقافية ومهمته الحضارية المتميزة، وأنه قادر على أن يأخذ مكانته في عالمنا المعاصر، وأن يتعامل مع متطلبات العصر ويستشرف المستقبل على أسس من التشريعات الإسلامية الملائمة لكل زمان ومكان، وأن الإسلام دين منفتح على العالم أجمعه لا انغلاق فيه ولا تعصب يسعى إلى تحقيق التوازن والعدل والسلام بين شعوب العالم وأممه وحضاراته، وأن للإسلام ذاتيته الحضارية التي تحرر العقل المسلم من أخطار التبعية وسمة التغريب.
وإن الحلول التي يقدمها الإسلام لمشكلات الحضارة المعاصرة والقضايا المعقدة الناتجة عن تصاعد وتيرة التطور والنمو غير المتوازنين تفتح أمام الإنسانية آفاقاً في إمكان تجاوز الأزمات الراهنة وتخطي الحواجز التي يقيمها الانفصام بين القيم الروحية وبين المفاهيم المادية للإنسان وللكون والحياة.
المصدر: الدعوة – العدد 1729 – 5 ذو القعدة 1420 هـ – 10 فبراير 2000 م