الظاهرة الإنسانية والمنهج الغربي


إن المتأمل في الفكر الغربي المعاصر فيما يتعلق بالنتاج البشري في العلوم الاجتماعية والإنسانية يجد أنها وإن حققت شيئاً من النجاحات على أرض الواقع بالنسبة لمجتمعاتهم الغربية إلا أن ثمة إشكالاً كبيراً في نقلها إلى المجتمعات الإسلامية والعربية، ويمكن إجماله في علاقة الأصول الفلسفية للعلوم بنتائجها وتطبيقاتها في شتى مجالات العلوم الإنسانية التربوية والإدارية والاقتصادية.
إذ لا يمكن بحال الفصل بين النظرية والتطبيق؛ لأن الأخير ما هو إلا شجرة تمتد بجذورها في أعماق النظرية.
وإن هذا الأمر بالذات غائب أو مغيب عند كثير من المفكرين والتربويين والاقتصاديين، ولذا لابد من تقريره كمقدمة لهذه المقالة.
ومن خلالها يمكن أن نتعرف على أسباب كثير من الجدل حول أهلية بعض العلوم الوافدة في مثل ما يسمى بالبرمجة اللغوية العصبية، أو غيرها من التطبيقات التربوية التي أكلنا وشربنا عليها ردحاً من الدهر، خذ على سبيل المثال البرجماتية الأمريكية، وتأمل الطرح التربوي في العالم الإسلامي والعربي تجد ما هو إلا صدى لتطبيقاتها بل تجاوز هذا مجال التربية إلى الاقتصاد والأدب والإدارة.
ولعل من أبرز إشكالاتنا وجدلنا بل ومعالجتنا لكثير من مشاكل المجتمع أننا نقع في فخ مناقشة التطبيقات أوالظواهر في المشكلات، ونغفل ونتجاهل - بل نجهل بمعنى أدق- معالجة ومناقشة الأصول سواء في الجدل حول أهلية العلوم أو معالجة مشكلاتنا المعاصرة، فتجدنا نتناول الظواهر والتطبيقات لتتفرع بنا الأمور وتأخذنا بنيات الطريق وإن وجدنا علاج فهو كالمهدئات اليسيرة للحرارة أو الصداع الذي يشكو منه مريض السرطان، إننا ما لم نصل إلى أس المشكلة وجذورها فلا تنتظر قطع أو استئصال ظواهرها.
ولذا لابد من تقرير أمور متعلقة بالنتاج البشري الغربي سيما في المجالات الإنسانية الاجتماعية وهو أن الغرب المتمثل في أوربا وأمريكا مر بثلاث حلقات متعاقبة زمانياً، الحلقة الأولى هي سيادة النص الشرعي - الوحي - وهذا هو الأصل وفيها جاءت النصرانية كديانة مؤقتة ليست خالدة، ولأن الله _عز وجل_ لم يقدر لها الخلود لم يقدر لها الحفظ، وكل الرسالات قبل الإسلام كانت محددة زماناً وأحياناً زماناً ومكاناً، ولكن النصارى أرادوا لها الخلود وأن تحكم النصرانية الحياة في الوقت الذي لم تكن مؤهلة لذلك ولم يكن السقف المعرفي لرجالات الدين النصرانى سوى اجتهادات بشرية صرفة صادمت بها العلماء واختلفت مع المفكرين سيما علماء الطبيعة.
ثم ظهرت الثورة الفرنسية وأعقبها التقدم الملحوظ في جوانب العلوم الطبيعية، مما أدى إلى دخول أوربا باستثناء المجمعات الكنسية إلى دخول في حلقة ضياع النص، حيث فرخت وعششت العلمانية اللادينية كردة فعل لهيمنة الكنيسة وانزلقت المجتمعات الغربية في مستنقع الرذيلة والانحلال في الجانب الأخلاقي، أما الجانب القيمي العقدي فقد سرت موجة الإلحاد.
يقول العالم الألماني نتشه: "لقد آن للإنسان أن يفعل كل شيء لقد مات الإله ووجد السوبرمان"، بعد هذا الفراغ العقدي في حلقة ضياع النص، دخلت أوربا و الغرب بشكل عام في حلقة تلمس البدائل في نسقٍ علماني، وازدهرت الفلسفات الوضعية التي تحاول الإجابة عن الأسئلة والقضايا الكبرى في ظل تغييب وإقصاء الدين عن المساهمة في صياغة فلسفة الوجود، جاءت هذه الفلسفات بتعاقب زمني كل فلسفة ردة فعل لما سبقها "كلما دخلت أمة لعنت أختها" هذه اللادينية التي فصلت الدين عن الحياة أدت إلى انطلاق العلماء والمفكرين بدون قيود وبدون ضوابط في جميع الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولذا يمكن القول: إن هذه العلوم خرجت من عباءة الفلسفة.
نتيجة لهذا الأمر تسارع إيقاع التغييرات الاجتماعية والاقتصادية على شكل الحياة المدنية بصورة فيها جوانب إيجابية فيما يتعلق بالعلوم الطبيعية صاحبها تقدم مضطرد للدول الغربية، مما جعل الغرب برمته يربط بين التقدم في العلوم الطبيعية وبين العلمانية ممتطياً في ذلك الفلسفة الوضعية الطبيعية التي تتبنى حتمية قوانين الكون وجبرية العالم وما العلم – في نظرها - إلا أداة لكشف هذه القوانين وتفسيرها ومن ثم التحكم بها سواء في ذلك العلوم الطبيعية أو الإنسانية، وتقدم الغرب في العلوم الطبيعية سائغ لتعاملهم مع الجماد والآلة المتحررة من الثقافة والفكر، خلافاً للظاهرة الإنسانية التي هي نسيج مترابط من الجوانب النفسية والعقدية والاجتماعية، والتي حاول فيها الغرب تطبيق المنهج التجريبي التحليلي الذي لا يفرق بين الإنسان والآلة يزعمون فيه القدرة على ضبط المتغيرات وتحييدها وإخضاع الإنسان للتجربة – متجرداً من كرامته – والخروج بالنتائج وتفسيرها، ومن ثم التنبؤ والتحكم به وبمعنى أدق السيطرة على الإنسان. هذه المنهجية الغربية في العلوم الإنسانية تم نقلها بحذافيرها إلى العالم الإسلامي والغربي، وما زال الأكاديميون التربويون منذ ما يزيد على عقدين يلوكونها ويجترون منهجيتها وتمتشق في التنظير لها الأقلام وتسّود الصحف دون أدنى نظر أو تفكير!!
لقد أصاب محمد إقبال كبد الحقيقة عندما قال:

أرى التفكير أدركه خمولٌ
ومن أدرك هذه الحقيقة من الأكاديميين جانب الصواب في تلمس الحلول لها سيما فيما يسمى بأسلمة العلوم التي يكون فيها الأساس المنهج الغربي وغاية عملهم أن هذا لدينا في الإسلام!! وهذا جاء به القرآن! ثم تلوا أعناق النصوص لتتعانق أقوال ديكارت وسارتر مع أقوال السلف زعموا.
وصرنا مع هؤلاء الأكاديميين التربويين بين أمرين أحلاهما مر بين صنفٍ مغفل يجتر ما تلقاه على موائد الغرب وصنفٍ عرف الداء وأخطأ الدواء ليصدق في هذين الصنفين قول الأول:

إن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ