الأكل في آنية الذهب والفضة
وليد بن سعد الفالح
الأكل في آنية الذهب والفضة فرع عن الاستعمال؛ حيث إن الاستعمال لأواني الذهب والفضة يشمل الأكل والشرب والوضوء وغيرها؛ أما الاتخاذ فهو أخص من الاستعمال حيث يراد به الاقتناء والادخار.
ومن الاستعمالات الواردة في الآنية الأكل.
ويندرج تحت هذه المسألة ثلاثة فروع:
الفرع الأول: الأكل في آنية الذهب والفضة الخالصة.
اختلف الفقهاء في حكم الأكل في آنية الذهب والفضة الخالصة على قولين:
القول الأول: تحريم الأكل في آنية الذهب والفضة الخالصة، وهو مذهب الحنفية[1]، والمالكية[2]، وقول للشافعية في الجديد وهو المشهور[3]، ومذهب الحنابلة[4]، واختاره ابن حزم[5][6].
أدلة القول الأول:
استدلوا بما يلي:
الدليل الأول: حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها[7] فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة[8].
وجه الاستدلال:
أن النبي نهى عن الأكل في آنية الذهب والفضة، ومقتضى النهي التحريم.
قال الحافظ ابن حجر[9]عند شرحه أحاديث آنية الذهب والفضة: وفي هذه الأحاديث تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل مكلف رجلاً كان أو امرأة[10].
الدليل الثاني: حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي قال: الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر[11] في بطنه نار جهنم[12].
وجه الاستدلال: أن الشارع الحكيم رتَّب العقوبة بنار جهنم على من يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة، وترتيب العقوبة دليل على التحريم.
الدليل الثالث: أن الأكل في آنية الذهب والفضة من باب السرف والخيلاء، وقد حرم الشارع السرف والخيلاء[13].
الدليل الرابع: أن الأكل في آنية الذهب والفضة يؤدي إلى كسر قلوب الفقراء[14].
الدليل الخامس: الإجماع على تحريم الأكل والشرب منهما جميعاً. قال النووي[15]: أما قول داود[16] فباطل لمنابذة صريح هذه الأحاديث في النهي عن الأكل والشرب جميعاً، ولمخالفة الإجماع قبله[17].
القول الثاني: كراهة الأكل في آنية الذهب والفضة الخالصة كراهة تنزيه، وهو قول للشافعية في القديم[18].
وحكى داود الظاهري جواز الأكل في آنية الذهب والفضة[19].
قال الماوردي[20]: وقال داود بن علي: إنما يحرم استعمالها في الشرب وحده دون الأكل وغيره[21].
أدلة القول الثاني:
استدلوا بما يلي:
الدليل الأول: حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي قال: الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم[22].
وجه الاستدلال:
أن النبي ذكر الشرب دون غيره، فدل هذا على اختصاصه بالتحريم[23].
نوقش بثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن لفظ الأكل مذكور في الرواية الأخرى في صحيح مسلم: إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة...[24]، وكذلك في رواية البيهقي عن أنس رضي الله عنه : نهى عن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة[25].
الأمر الثاني: أن لفظ الأكل قد ورد في حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة[26]. وليس في هذا الحديث معارضة له.
الأمر الثالث: أن النهي عن الشرب تنبيه على الاستعمال في كل شيء؛ لأنه في معناه كما قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[27]وجميع أنواع الاستعمال في معنى الأكل بالإجماع وإنما نبه به لكونه الغالب[28].
الدليل الثاني: أن النهي عن الأكل لما فيه من السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء، ومثل هذا الأمر لا يقتضي التحريم[29].
نوقش: أن معنى السرف والخيلاء موجب للتحريم، وكم من دليل على تحريم الخيلاء، قال النووي: قال القاضي أبو الطيب:[30] هذا الذي ذكروه للقديم موجب للتحريم كما أوجب تحريم الحرير والمعنى فيهما واحد[31].
الدليل الثالث: أن النهي عن الأكل لما فيه من التشبه بالأعاجم، وهو لا يقتضي التحريم بل الكراهة[32].
نوقش: أن التشبه بالكفار يقتضي التحريم كما ورد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : من تشبَّه بقوم فهو منهم[33].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية[34]: وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [35][36].
وقال في موضع آخر: وبكل حال: يقتضي تحريم التشبه؛ بعلة كونه تشبهاً، والتشبه: يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه، وهو نادر[37].
الترجيـــح:
الذي يظهر – والله أعلم – رجحان القول الأول، وهو تحريم الأكل في آنية الذهب والفضة الخالصة؛ لقوة ما استدلوا به، ولورود المناقشة على القول الآخر، ولأنه معارض بالإجماع السابق له.
كما قال النووي: أما قول داود فباطل لمنابذة صريح هذه الأحاديث في النهي عن الأكل والشرب جميعاً، ولمخالفة الإجماع قبله[38].
ويمكن أن يلتمس للعلماء القائلين بالكراهة أو الإباحة مطلقاً في الأكل العذر في كون النهي لم يبلغهم كقوله : الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم[39].
وهذا ما رجحه المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية[40]، وابن القيم[41][42].
الحكمة من تحريم الأكل في آنية الذهب والفضة:
سبق الترجيح بتحريم الأكل في آنية الذهب والفضة؛ لصراحة الأحاديث الصحيحة في ذلك.
وقد تكلم العلماء في بيان الحكمة من تحريم الأكل في أواني الذهب والفضة.
فقيل: علة التحريم تضييق النقود، فإنها إذا اتخذت أواني فاتت الحكمة التي وضعت لأجلها من قيام مصالح بني آدم[43].
وقيل: العلة الفخر والخيلاء[44].
وقيل: العلة كسر قلوب الفقراء والمساكين إذا رأوها وعاينوها[45].
وهذه التعليلات يرد عليها إشكالات.
قال ابن القيم: وهذه العلل فيها ما فيها، فإن التعليل بتضييق النقود يمنع من التحلي بها وجعلها سبائك ونحوها مما ليس بآنية ولا نقد، والفخر والخيلاء حرام بأي شيء كان، وكسر قلوب المساكين لا ضابط له، فإن قلوبهم تنكسر بالدور الواسعة والحدائق المعجبة، والمراكب الفارهة، والملابس الفاخرة، والأطعمة اللذيذة، وغير ذلك من المباحات، وكل هذه علل منتقضة، إذ توجد العلة، ويتخلف معلولها.
ثم قال بعد ذلك: فالصواب أن العلة – والله أعلم – ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة، والحالة المنافية للعبودية منافاة ظاهرة، ولهذا علل النبي بأنها للكفار في الدنيا، إذ ليس لهم نصيب من العبودية التي ينالون بها في الآخرة نعيمها، فلا يصلح استعمالها لعبيدالله في الدنيا، وإنما يستعملها من خرج من عبوديته، ورضي بالدنيا وعاجلها من الآخرة[46].
الفرع الثاني: الأكل في الآنية المضببة[47] بالذهب:
تقدم بيان حكم الأكل في آنية الذهب الخالصة، أما الآنية المضببة بالذهب فقد اختلف الفقهاء في حكم الأكل فيها على قولين:
القول الأول: تحريم الأكل في الآنية المضببة بالذهب، وهو قول عند المالكية وهو الأصح[48]، والصحيح من مذهب الشافعية[49]، وهو مذهب الحنابلة[50].
أدلة القول الأول:
استدلوا بما يلي:
الدليل الأول: الأدلة العامة الواردة في تحريم الأكل في آنية الذهب الخالصة، ومنها ما يلي:
أ – حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة[51].
وجه الاستدلال: أن هذا الحديث نص في تحريم الأكل في آنية الذهب، فمن باب أولى أن يكون شاملاً للتحريم للإناء المضبب بالذهب.
ب – حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي قال: الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم[52].
وجه الاستدلال: نص الحديث على تحريم الأكل في آنية الذهب، فكذلك الإناء المضبب بالذهب يكون حراماً.
ج - حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله حريراً بشماله وذهباً بيمينه ثم رفع بهما يديه وقال: إن هذين حرام على ذكور أمتي حلٌّ لإناثهم[53].
وجه الاستدلال: أن هذا الحديث نص عام في تحريم الذهب سواء في الأواني أو غيرها، فكذلك يحرم المضبب بالذهب[54].
يتبع