قال العلامة ابن القيم رحمه الله في «الوابل الصيب» (231، 232):
«قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء.
هذا من حيث النظر لكل منهما مجردا، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعينه فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك التسميع والتحميد في محلهما أفضل من القراءة، وكذلك التشهد، وكذلك «رب اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني» بين السجدتين أفضل من القراءة، وكذلك الذكر عقيب السلام من الصلاة ـ ذكر التهليل والتسبيح والتكبير والتحميد ـ أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن والقول كما يقول أفضل من القراءة.
وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله تعالى على خلقه، لكن لكل مقام مقال، متى فات مقاله فيه وعدل عنه إلى غيره اختلت الحكمة وفقدت المصلحة المطلوبة منه.
وهكذا الأذكار المقيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن.
مثاله أن يتفكر في ذنوبه فيحدث ذلك له توبة من استغفار أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحفظه.
وكذلك أيضا قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها أو ذكر لم يحضر قلبه فيهما، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله تعالى وأحدث له تضرعا وخشوعا وابتهالا، فهذا يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرا.
وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفس، وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوضع كل شيء موضعه: فللعين موضع وللرجل موضع، وللماء موضع وللحم موضع.
وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي.
والله تعالى الموفق.
وهكذا الصابون والأشنان أنفع للثوب في وقت والتجمير وماء الورد وكيه أنفع له في وقت.
ومن هذا الباب أن سورة {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث والطلاق والخلع والعدد ونحوها، بل هذه الآيات في وقتها وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص.
ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه، كانت أفضل من كل من القراءة والذكر والدعاء بمفرده، لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.
فهذا أصل نافع جدا يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها، لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها فيربح إبليس الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها إن كان ذلك وقته، فتفوته مصلحته بالكلية، لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثوابا وأعظم أجرا.
وهذا يحتاج إلى معرفة بمراتب الأعمال وتفاوتها ومقاصدها»اهـ.