تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 30

الموضوع: أحاديث فى العقيدة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي أحاديث فى العقيدة

    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (1)



    مقدمة


    الأعمال بالنيات






    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد...

    ففي هذه الزاوية نعرض بإذن الله تعالى لأحاديث العقيدة, مبتدئين بما يبتدئ به أهل التصنيف من العلم -كالبخاري - رحمه الله- بحديث إنما الأعمال بالنيات.

    وسنعرض في كل حلقة من الحلقات حديثاً أو أكثر مقتفين منهج التحليل للحديث بدراسة متنه، وذلك بعرضه على شكل وقفات، كل وقفة نتحدث عن مسألة من مسائله، أو بيان معنى، ونحو ذلك، مع الحرص على ألاّ يُستشهد إلا بالحديث المقبول، وهذا لا يعني عدم ذكر الضعيف الذي استشهد به أهل العلم، بل يذكر ويبين ضعفه.


    ومن المنهجية في هذه الزاوية أن تُذكر إيرادات أهل العلم ويبين الخلاف، مع الترجيح قدر الإمكان بالدليل.



    الحديث الأول

    الأعمال بالنيات

    عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) متفق عليه.

    * * *

    هذا حديث عظيم الشأن، جليل القدر، رفيع المكانة، أصل من أصول الدين، وعليه مدار كثير من الأعمال، وفيه عدة فوائد أعرضها على النحو التالي:

    الوقفة الأولى: ذكر كثير من سلف الأمة وعلمائها قدر هذا الحديث، فجعلوه من أصول الدين وأسسه، يقول عبد الرحمن بن مهدي: ((لو صنفت كتابا في الأبواب لجعلت حديث عمر بن الخطاب في كل باب)). ا هـ.

    ويقول العلامة ابن رجب - رحمه الله-: ((وبه صدر البخاري كتابه الصحيح، وأقامه مقام الخطبة له، إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة)).

    وقد ذكر ابن رجب - رحمه الله - عدداً من أقوال أهل العلم في بيان عظمة هذا الحديث وعلوّ قدره، ومن ذلك ما روي عن الشافعي أنه قال: ((هذا الحديث ثلث العلم، ودخل في سبعين باباً من الفقه)).

    وعن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - أنه قال: ((أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر - رضي الله عنه- ((إنما الأعمال بالنيات))، وحديث عائشة - رضي الله عنها-: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، وحديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه-: (الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات..) الحديث)).

    وذكر إسحاق بن راهويه نحواً من كلام الإمام أحمد، وروى عثمان بن سعيد عن أبي عبيد، قال: ((جمع النبي - صلى الله عليه وسلم- جميع أمر الآخرة في كلمة واحدة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وجمع أمر الدنيا كله في كلمة واحدة: (إنما الأعمال بالنيات)، إلى غير ذلك من الكلمات الكثيرة من سلف الأمة التي لا يتسع المقام لحصرها، وما ذكر فيه غنية عن الإطالة.



    الوقفة الثانية: المراد بالنية.

    النية في اللغة: نوع من القصد والإرادة.

    وفي الاصطلاح الشرعي: يراد بها معنيان:

    الأول: تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر، وتمييز رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف، ونحو ذلك، وهذا المعنى هو الذي يتكلم عنه الفقهاء كثيراً في كتبهم.

    والمعنى الثاني: يقصد بالنية تمييز المقصود بالعمل، هل هو لله وحده لا شريك له أم لله ولغيره؟ كالصلاة مثلاً، هل صلاّها العبد لله ممتثلا أمره، محباّ له، وراجياً لرحمته، خائفاً من عقابه، أم صلاها رياء أو سمعة، أو طلب عرض من الدنيا، ونحو ذلك؟ فإن كان الأول فله الأجر والثواب، وإن كان الآخر - أي صلاها رياء وسمعة - فلا يؤجر على صلاته بل يأثم بهذه النية.

    الوقفة الثالثة: المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات) حيث ذكر العلماء أن المقصود بهذه الأعمال جميع الأعمال التي يعملها الإنسان، فهي بحسب نياتها وإن اتّحد شكلها، ومظهرها، ولذا لا يحصل للإنسان ثوابٌ إلا بحسب نيته، ويوضح هذا قوله - صلى الله عليه وسلم-: (وإنما لكل امرئ ما نوى).

    والمراد أن حظّ العامل من عمله نيته، فإن كانت صالحة فعمله صالح، وله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد، وعليه وزره، ولذا قال بعض أهل العلم: إن قوله: (إنما الأعمال بالنيات) دلَّ على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية - وهي قوله: (إنما لكل امرئ ما نوى) دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة، وقد تكون نيته مباحة فيكون العمل مباحاً، فلا يحصل له ثواب ولا عقاب، فالعمل في نفسه صلاحه، وفساده، وإباحته، بحسب النية الحاملة عليه، المقتضية لوجوده، وثواب العامل، وعقابه، وسلامته، بحسب النية التي صار بها العمل صالحاً أو فاسداً أو مباحاً.

    الوقفة الرابعة: قد ورد الاهتمام بالنية في كتاب الله - عز وجل-، وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- وبيان مكانتها في الأعمال، وقد جاءت بألفاظ متعددة، وصيغ مختلفة، مما يدل على أهميتها وعظم شأنها، ومن ذلك أنه قد يعبر عنها بالإرادة، مثل قوله - جل وعلا-: ((واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا)) . وقوله - جل ذكره-: ((وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون))، وقوله - سبحانه وتعالى-: ((منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة))؟

    وقد يعبر عن النية بالابتغاء، مثل قول الباري - جلّ وعلا-: ((ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم...))، وقوله - سبحانه-: ((وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله...)).

    وأما ما ورد في السنة الشريفة في الاهتمام بالنية، وعظم شأنها فكثير جداً، أكتفي بأمثلة فقط، من ذلك:

    ما رواه مسلم في صحيحه عن أم سلمة - رضي الله عنها - عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم، فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها؟ قال يخسف به معهم، ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته).

    فدل الحديث على أن كل إنسان يقابل ربه - جل وعلا- يوم القيامة بحسب نيته التي ساقته إلى تلك الأعمال في الدنيا.

    ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالاً فله ما نوى))

    فدل الحديث على أنه لا يكفي مشاركة الغازي في الغزو والجهاد فحسب، بل لابد أن تكون النية خالصة لله - عز وجل-، فيكون قصد الغازي إعلاء كلمة الله، وإلا فله ما نوى.

    ومن ذلك أيضاً ما جاء في الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك).

    فجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم- إنفاق المسلم ابتغاء وجه الله تعالى مما يثاب عليه، حتى لو كان من الأمور المباحة التي يفعلها الإنسان في حياته اليومية.

    الوقفة الخامسة: لقد اهتم السلف الصالح بأمر النية، فكانوا يحسبون لها حساباً كبيراً، وما ذاك إلا لعظم شأنها.

    قال ابن رجب الحنبلي - رحمه الله-: ((فمما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ((لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له))، ومما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ((لا ينفع قولٌ إلا بعمل، ولا ينفع قولٌ ولا عملٌ إلا بنية، ولا ينفع قولٌ ولا عملٌ ولا نيةٌ إلا بما وافق السنة))، وروي عن يحيى ابن أبي كثير أنه قال: ((تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل))، وروي عن داود الطائي أنه قال: ((رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية))، وروي عن سفيان الثوري أنه قال: ((ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي ؛ لأنها تنقلب عليّ))، وروي عن يوسف بن أسباط أنه قال: ((تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد))، وروي عن مطرّف بن الشخير أنه قال: ((صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية)) وروي عن ابن المبارك قوله: ربّ عمل صغير تعظّمه النية، ورب عمل كبير تصغّره النية))، وروي عن بعض السلف قوله: ((من سرّه أن يكمل له عمله فليحسن نيته، فإن الله - عز وجل - يأجر العبد إذا حسّن نيته حتى باللقمة)).

    والمراد بهذا كلّه أن الأعمال كلها لا يمكن أن يستفيد منها العبد عند الله – سبحانه- إلا إذا خلصت فيها النية لله - سبحانه وتعالى-، ولذا قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ، قال: أخلصه وأصوبه، وقال: إن العمل إذا كان خالصاً وصواباً، قال والخالص إذا كان لله - عز وجل-، والصواب إذا كان على السنة.

    من هذا كله نستنبط أن النية الخالصة شرطٌ أساس في قبول العمل أيّاً كان العمل، يقول أحد الكتاب المعاصرين: ((فالقلب هو الأساس في الإسلام، وهو مستندُ القبول والفلاح في الآخرة)).

    روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم)).

    وروى البخاري ومسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: ((ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب)).

    ويقول الله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد*هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ*من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب* أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود). ا. هـ.

    إن صلاح النية، وإخلاص الفؤاد لرب العالمين يرتفعان بمنزلة العمل الدنيوي البحت، فيجعلانه عبادة متقبلة، وإن خبث الطوية يهبط بالطاعات المحضة فيقلبها معاصي شائنة، فلا ينال المرء منها بعد التعب في أدائها إلا الفشل والخسار، قد يبني الإنسان قصراً منيف الشرفات، فسيح الردهات وقد يغرس حديقة ملتفة الأغصان، متهدلة الأثمار، وهو بين قصره المشيد وبستانه النضيد يعد ملك الدنيا بأربابها، بيد أنه إذا قصد من وراء بنيانه وغراسه نفع الناس كان له فيهما ثواب غير مقطوع.

    روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة).

    وما يطعمه في بدنه، أو يطعمه أولاده وزوجته له مثوبة بنية الخير التي تقارنه، روى البخاري وغيره عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال له: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى تجعله في في امرأتك). اهـ.

    فعلى كل مسلم أن يجرد نيته لله - سبحانه وتعالى-، وأن يعالج نفسه في ذلك، فإن الأمر في أوّله صعب، وفي آخره سهل وميسور.

    الوقفة السادسة: المراد بالهجرة: قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: ((الهجرة: الترك، والهجرة إلى الشيء: الانتقال إليه، وفي الشرع: ترك ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين: الأول الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كما في هجرتي الحبشة، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة، والثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر النبي - صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وهاجر إليه من أمكنه من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذلك تختص بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقياً))ا.هـ

    الوقفة السابعة: المراد بقول: (فهجرته إلى الله ورسوله...).

    قال العلامة ابن رجب - رحمه الله-: ((فأخبر - صلى الله عليه وسلم- أن هذه الهجرة تختلف باختلاف المقاصد والنيات بها، فمن هاجر إلى دار الإسلام حباً لله ورسوله، ورغبة في تعلم دين الإسلام، وإظهار دينه، حيث كان يعجز عنه في دار الشرك، فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله، وكفاه شرفاً وفخراً أن حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى اقتصر في جواب الشرط على إعادته بلفظه؛ لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة)).

    وبهذا نعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- ضرب مثلاً واضحاً قائماً في وقته لشخصين، كلاهما عمل عملاً واحداً، لكن الأول اختلفت نيته وقصده عن الآخر، فالأول هاجر من أجل الله تعالى، ابتغاء مرضاته، ورجاء ثوابه، وإظهارًا لدينه، فهذا هاجر لله ورسوله فثوابه على الله - سبحانه وتعالى-، والثاني هاجر من أجل غرض فله ما هاجر إليه.

    الفائدة الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه...).

    قيل في سبب هذه الجملة ما رواه وكيع في كتابه، عن الأعمش، عن شفيق أنه قال: خطب أعرابي من الحيّ امرأة يقال: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر، فتزوجته، فكنا نسميه مهاجر أم قيس.

    وروي أيضاً من طريق سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر، فتزوجها، وكنا نسميه مهاجر أم قيس.

    قال ابن مسعود: من هاجر لشيء فهو له.

    لكن هذه القصة لم تثبت أنها سبب الحديث، يقول العلامة ابن رجب - رحمه الله-: ((وقد اشتهر أن قصة مهاجر أم قيس هي كانت سبب قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: (من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها)، وذكر ذلك كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر لذلك أصلاً يصح))

    وذكر نحو هذا الحافظ ابن حجر - رحمه الله - حيث قال بعد ذكر القصة مجردة عن الحديث: ((وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر شيئاً من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك)).

    أما معنى الجملة، فقد قال العلامة ابن رجب – رحمه الله-: ((ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام ليطلب دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأول تاجر، والثاني خاطب، وليس منهما مهاجر، وفي قوله: "إلى ما هاجر إليه" تحقير لما طلبه من أمر الدنيا واستهانة به، حيث لم يذكر بلفظه)) ا. هـ.

    الفائدة الخامسة: دل الحديث على الوعيد الشديد بأن من عمل عملاً لم يقصد به وجه الله تعالى لا يثاب على ذلك، بل يرد عليه عمله، كأن يكون جاهد رياءً، أو أنفق ماله ليكسب سمعة، أو تعلم العلم ليقال عالم، أو قرأ القرآن ليقال قارئ، أو التزم بمظهر إسلامي ليقال ملتزم بالإسلام، أو نحو ذلك من المقاصد الدنيوية، فمثل هؤلاء يبعثون على نياتهم، ويجازون بها؛ لما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلّم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن فأتى به فعرّفه نعمه، فقال ما عملت فيها؟ قال: تعلّمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فقال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار).

    وفي بعض روايات الحديث: إن معاوية -رضي الله عنه - لما بلغه هذا الحديث بكى حتى غشي عليه، فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله : (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون).

    ثم اعلم أن صرف المقاصد في الأعمال الشرعية لغير الله جريمة من الجرائم، ومحبط للأعمال ومفوّت للأجر والثواب، فاحرص على أن لا يبطل عملك، وإياك أن تتشبه بالمنافقين الذين يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، احذر أن تكون ممن قال الله فيهم: (فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون).

    فلئن كانت النية الصالحة تضفي على صاحبها قبولاً عند الله، فإن النية المدخولة إذا انضمت إلى العمل الصالح في صورته يستحيل بها إلى معصية تستجلب الويل.










    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي

    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (2)



    الدعوة إلى التوحيد ( 1 – 2 )




    عن ابن عباس – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له - صلى الله عليه وسلم -:إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وفي رواية: (إلى أن يوحدوا الله)، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). متفق عليه(1).

    هذا حديث عظيم، مليء بالحكم والأحكام، والفوائد الجليلة العظام، أوجزها فيما يلي من الوقفات:

    الوقفة الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذا إلى اليمن، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي - صلى الله عليه وسلم-، _كما أخرجه البخاري_، وقد روى الواقدي أنه كان في السنة التاسعة عند منصرف النبي - صلى الله عليه وسلم- من تبوك، وقيل غير ذلك، لكنهم اتفقوا أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر - رضي الله عنه-، ثم توجه إلى الشام فمات بها(2).

    الوقفة الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم-: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب...).

    هذه أولى وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم- لمعاذ - رضي الله عنه- وفيها ثلاث فوائد:

    الأولى: أن المسؤول إذا أراد أن يندب أحداً لعمل مهم فعليه أن يوصيه بما يعينه على أداء مهمته، وبخاصة إذا كانت شبيهة بمهمة معاذ _رضي الله عنه_ ، كمن سيقوم بالدعوة إلى الإسلام، أو يعلم الناس، أو يكون قاضياً عليهم، أو ينظر في مشاكلهم، ونحو ذلك.

    الثانية: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- نبّه معاذا إلى أن القوم الذين سيقدم عليهم أهل كتاب؛ وهم اليهود والنصارى، وإنما أخبره بذلك؛ لكونهم يحتاجون إلى شيء من العلم وقوة الحجة، ليستعد لذلك بما أعطاه الله تعالى من العلم، فلا يظن أنهم جهلة، وبالتالي يعرض الدعوة عليهم عرضاً غير مناسب فلا يحصل المقصود.

    الثالثة: من هذه الجملة القصيرة يستفيد الدعاة إلى الله فائدة عظيمة، ولنقف عندها قليلاً بشيء من البسط، ذلك أن الدعوة إلى الله تحتاج في عرضها للناس أسلوباً يليق بمكانها، وشرفها، وعظم شأنها، فالرسول - صلى الله عليه وسلم- ينبه معاذا إلى أن لكل مقام مقالا، فمخاطبة الجاهل تختلف عن مخاطبة المتعلم، ومخاطبة أنصاف المتعلمين تختلف عن مخاطبة المتعلمين، وهذا من الحكمة التي أمر الدعاة بانتهاجها، في قوله تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(3).

    ومن الملاحظ أن كثيراً ممن ينتهجون أسلوب الوعظ، والإرشاد، والتوجيه، لا يراعون مثل هذا مما لا يجعل لكلامهم فائدة كبيرة، ولو لاحظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لوجدناه الحكيم كل الحكمة في عرض الدعوة، ابتداء بعرضها على قريش في أول الدعوة، وحتى توفاه الله _عز وجل_، فتارة يعرضها بأسلوب الخطبة للناس عموماً، وتارة يعرضها على شخص معين، وتارة بتصحيح خطأ، ...وهكذا.

    إن عدم انتهاج أسلوب الحكمة، ووضع الكلمة في غير موضعها، قد يؤديان إلى أضرار كثيرة، ومن أهمها نفور الناس من الإسلام وأهله. إن الكلمة أمانة ومسؤولية، والمتكلم أمين، فعليه أن يؤدي أمانته على الوجه المطلوب؛ لأجل أن تؤدي مفعولها، وتثمر ثمارها الطيبة _ إن شاء الله_.

    الثالثة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وفي رواية:(إلى أن يوحدوا الله)، وفي هذه الجملة ما يلي من المسائل:

    الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم-: فليكن أول ما تدعوهم ...).

    هذا أسلوب جديد من أساليب الدعوة، ذلك هو التدرج من الأهم فالمهم، فمعاذ – رضي الله عنه – سيقدم على أناس كافرين بالله - سبحانه وتعالى-، فلأجل أن يدخلوا في دين الله لا بد من التدرج معهم شيئاً فشيئاً، فالتكاليف إذا أعطيت دفعة واحدة لا يمكن أن تجد قبولاً من المتلقي؛ لأن التكليف بطبعه ثقيل على النفس، وهذا ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم- في دعوته المباركة مع قومه، حيث مكث في مكة المكرمة ثلاث عشرة سنة يدعوهم فيها إلى التوحيد، ونبذ الشرك، وما هم عليه من عبادة الأصنام والأوثان، ولم يكن يأمرهم بغير ذلك، وهكذا أيضاً دعوة الأنبياء والمرسلين، يبدأون بالأهم فالمهم.

    وعلى هذا ينبغي لكل داعية أن ينظر إلى الأهم فيركز عليه في دعوته وعرضه، مع أنه ينبغي أيضاً أن لا يغفل عن الأسلوب السابق، وهو أن لكل مقام مقالا، حيث إن مخاطبة الكافر تختلف عن مخاطبة المسلم العاصي، ومخاطبة الابن المقصر في تطبيق أحكام الإسلام تختلف عن مخاطبة البنت.... وهكذا.

    الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم-: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، جاءت هنا روايات، فمنها: فأول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات.

    ومنها: إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك.

    وقد يسأل سائل ويقول: هل بين هذه الروايات اختلاف بغير المعنى؟

    يجيب عن هذا الحافظ ابن حجر – رحمه الله – بقوله: إن المراد بعبادة الله: توحيده، وتوحيد الشهادة له بذلك، ولنبيه بالرسالة، فظهر من هذا أن لا تعارض بين هذه الروايات، فمعناها واحد، وهو الدعوة إلى توحيد الله - سبحانه وتعالى- وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، ونبذ ما سوى ذلك.

    الثالثة: من هذه الجملة يتبين أن أهم ما يدعو إليه الداعي هو توحيد الله _عز وجل_، والتركيز على ذلك تركيزاً كبيراً، يدل على ذلك فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم- واستمراره أكثر أيام الدعوة في ترسيخ العقيدة في النفوس، وتوحيد الله _عز وجل_ ونبذ الشرك وأهله.

    فعلى الدعاة إلى الله - عز وجل- في كل قطر أن يهتموا بهذا الجانب اهتماماً كبيراً، فيضعوه في أوّل الأولويات، مهما خالفهم الناس وعارضوهم، فلهم في الأنبياء والمرسلين قدوة، وفي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم- قدوة حسنة، ومتى ما استجاب الناس لعقيدة التوحيد سهلت الاستجابة لسائر الأحكام، ألم تر أخي الداعية أن أكثر القرآن الكريم دعوة للتوحيد، سواء كان مباشرة كقوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)(4)، أو كان بغير مباشرة عن طريق عرض دعوة الأنبياء - عليهم السلام-، وبيان قصصهم مع أقوامهم، ونحو ذلك، أو في عرض مخلوقات الله – سبحانه-؛ ليستدل بها العاقل على خالق هذا الكون، فهو المعبود وحده لا سواه، لماذا هذا كله؟ لا شك أنه لأهمية العقيدة، وترسيخها في نفوس الناس.

    ومن هنا نعلم خطأ كثير من الدعاة الذين أهملوا جانب العقيدة، وركزوا على جوانب السلوك والأخلاق، أو دخلوا بعمق في النواحي الاجتماعية، والسياسية، ونحوها، أكثر من جانب العقيدة.

    ولا شك أن لأحكام الإسلام بعامة أهمية عظمى، وليس في الإسلام لبٌّ وقشور، كما يحلو للبعض أن يتلفظ بذلك، ولكن البدء بالأهم فالمهم، (ولا إله إلا الله) أهم شيء يجب الدعوة إليه.

    الرابعة: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عند هذا اللفظ: وقد علم بالاضطرار من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم-، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدوّ وليا، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان، وإن قال بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان)(5).

    الخامسة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: فليكن أوّل ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله...).

    قال أهل العلم: فيه دليل على أنه لا يحكم بإسلام الكافر إلا بالنطق بالشهادتين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطنا وظاهراً عند سلف الأمة، وأئمتها، وجماهير علمائها.

    السادسة: قال بعض أهل العلم: هذا الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم- معاذا هو الدعوة قبل القتال التي كان يوصي بها النبي - صلى الله عليه وسلم- أمراءه، وعليه فتستحب الدعوة قبل القتال لمن بلغته الدعوة، أما من لم تبلغه الدعوة فتجب دعوته قبل القتال.









    [1] أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي r أمته إلى توحيد الله، 15/2301، ح 7372، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، ح 19، 1/50.

    [2] نقلا من كتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص 71، 72، الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ.

    [3] سورة النحل، الآية: 125.

    [4] سورة النحل، الآية: 36.
    [5] نقلاً من كتاب: فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد ص 73، لعبد الرحمن آل الشيخ.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي


    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (3)





    الدعوة إلى التوحيد (2-2)

    الوقفة الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإن هم أطاعوك لذلك) أي: شهدوا وانقادوا لذلك، فإذا أخبرتهم بضرورة التوحيد بالنطق بالشهادتين، وانقادوا لذلك، وشهدوا بهاتين الشهادتين، فانتقل إلى الأمر الآخر.
    وفي رواية أخرى عند ابن خزيمة - رحمه الله-: (فإن هم أجابوا لذلك)، وفي رواية: (فإذا عرفوا ذلك)، وكل هذه الألفاظ لا يختلف معناها، فهي بمعنى واحد، وتدل على أهمية التدرج في الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى-، والبدء بالأهم فالمهم، إذ بعد الإقرار بالشهادتين، وبعد توحيد الله ينتقل إلى ما بعدها من أركان الإسلام وأصوله.
    الوقفة الخامسة: قوله: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة)، فيه دليل على أهمية الصلاة، وأنها في الوجوب والفرضية تلي الشهادتين، كما أن فيه دليلاً على فرضية الصلاة على كل مسلم ومسلمة بالغين عاقلين، وأن الفرض خمس صلوات في كل يوم وليلة. ومن هذا نفهم أن ما سوى تلك الخمسة من السنن، والرواتب، والوتر، وسائر التطوعات، ليست فرضاً حتماً، ولكنها مستحبة، تتأكد في حق كل مسلم ومسلمة، كما ورد فضلها في نصوص كثيرة.
    الوقفة السادسة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإن هم أطاعوك لذلك) أي: آمنوا وصدقوا بأن الله افترضها عليهم وفعلوها، فلو بادروا بالامتثال دون القول فلا بأس حينئذ، بخلاف الشهادتين، فإنه يشترط التلفظ بهما، كما سبق بيانه.
    الوقفة السابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم...) في هذا النص عدة مسائل هي:
    الأولى: أن الغني المقصود في الحديث هو من ملك نصابا من الأموال النامية التي تجب فيها الزكاة، ويطلق عموماً على كل من ملك ما لا يفي بحاجاته، ولو لم يبلغ نصابا.
    أما الفقير فهو من ليس له مال ولا كسب حلال لائق به، يقع موقعها من كفايته من مطعم، وملبس، ومسكن، وسائر ما لابد لنفسه، ولمن تلزمه نفقته.
    الثانية: استدل بعض العلماء بهذه الجملة على أن الزكاة تدفع للإمام أو نائبه، ولكن رجح كثير من الفقهاء أنه يستحب للإنسان أن يلي تفرقتها بنفسه، قال الإمام أحمد: (أعجب إلي أن يخرجها بنفسه، وإن دفعها إلى السلطان فجائز).
    وكذلك استدل كثير من أهل العلم بقوله - صلى الله عليه وسلم-: (فترد على فقرائهم) أنه يجوز إعطاء الزكاة كلها، أو بعضها، إلى صنف واحد من الأصناف الثمانية المذكورة في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل...)(1)
    فإذا أعطى الإنسان زكاته لفقير واحد، أو لمجموعة فقراء، أو وزعها على فقراء ومساكين، ومجاهدين في سبيل الله، ونحو ذلك، فكل ذلك جائز - إن شاء الله تعالى-، فما على المزكي إلا أن يتحرى بدفع زكاة ماله إلى من يستحقها؛ لأجل أن تأخذ موقعها، ولا يعطيها أي شخص لم يتأكد أنه من أهل الزكاة.
    الثالثة: استدل بعض أهل العلم بقوله - صلى الله عليه وسلم-: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، أنه لا يجوز صرف الزكاة إلا في البلد نفسه، فلا ينقل المسلم زكاته إلى بلد آخر، لكن كثيراً من المحققين، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – يرى خلاف هذا، حيث قال: (يجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية). اهـ، وذلك كأن يكون في البلد الآخر أقرباء محتاجين، أو تظهر مجاعة ظاهرة في بلد من بلدان المسلمين، أو يقوم الجهاد الإسلامي في مكان معين فتصرف بعض الزكاة فيه....وهكذا.
    ومع القول بجواز نقل الزكاة إلا أن العلماء – رحمهم الله تعالى – متفقون على أن الأصل في الزكاة أن تفرق في بلد المال الذي وجبت فيه، كما أنهم متفقون أيضاً على أن أهل البلد إذا استغنوا عن الزكاة كلها، أو بعضها؛ لانعدام الأصناف المستحقة، أو لقلة عددها وكثرة مال الزكاة جاز نقلها إلى غيرهم.
    فما على المسلم إلا أن يتحرى، ويجتهد، ويحرص على دفع زكاة ماله إلى مستحقيها، فإن وجدوا في البلد نفسه فهم أولى ولا شك، وإلا فينقلها إلى مكان آخر يوجد فيه مستحقون.
    الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم...).
    ففي ذكر الزكاة بعد الشهادتين والصلاة دليل على أنها – أي الزكاة – أوجب الأركان بعد الصلاة، وكثيراً ما ترد الصلاة والزكاة في القرآن الكريم مقترنتين؛ وذلك لعظم شأن الزكاة، يقول سبحانه وتعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)(2).
    وقد ورد الحث في القرآن والسنة عليها، والترغيب فيها، والوعيد الشديد لمن تركها، من ذلك قوله سبحانه وتعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)(3)، وقوله - جل وعلا-: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم)(4)، وغير ذلك كثير.
    وفي دفع الزكاة فضل عظيم عند الله - عز وجل-، كما أنها تطهر المزكي من أنجاس الذنوب، وتنقّيه من أوساخها، وتزكي أخلاقه بالتحلي بالجود والسخاء، وتبعده عن الشح والبخل، وتطهر ماله من الآفات، وتنميه، وغير ذلك من الحكم العظيمة، والفوائد الجليلة، التي لا يدركها إلا من قام بحق الله في هذا المال.
    الوقفة الثامنة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإياك وكرائم أموالهم...) والمقصود بالكرائم: المال النفيس، والمقصود به هنا: جامعة الكمال الممكن في حقها، من: غزارة لبن، وجمال صورة، أو كثرة لحم وصوف، فكأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- قال: إياك أن تأخذ خيار المال النفيس، بل خذ الوسط، كما أنه لا ينبغي أن يخرج ربّ المال شر المال وهزيله، وضعيفه، بل يخرج الوسط، وإن طابت نفسه بإخراج خياره فهذا أطيب وأكثر أجراً.
    الوقفة التاسعة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، وهنا مسألتان:
    الأولى: أن ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم- هذه الجملة – والتي فيها تحذير شديد من دعوة المظلوم – بعد قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإياك وكرائم أموالهم) إشارة منه - صلى الله عليه وسلم- إلى أن أخذ خيار المال ظلم لصاحب المال، وإجحاف في حقه.
    الثانية: في هذا تحذير صريح من النبي - صلى الله عليه وسلم- عن الظلم، فمعنى كلامه - صلوات الله وسلامه عليه-: احذر دعوة المظلوم، واجعل بينك وبينها وقاية بفعل العدل، وترك الظلم؛ لئلا يدعو عليك المظلوم فتستجاب دعوته، فليس بينها وبين الله حجاب، بل يقبلها - سبحانه وتعالى-، وفي هذا تحذير من الظلم بجميع أنواعه، سواء في أخذ الزكاة، أو في جميع الولايات والمسؤوليات، فليحذر كل مسؤولٍ من الظلم، فدعوة المظلوم مستجابة، حتى ولو كان فاجراً، أو فاسقاً، كما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً: (دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه)(5)، قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن.


    (1) سورة التوبة، الآية: 60.
    (2) سورة البقرة، الآية: 43.
    (3) سورة التوبة، الآية: 103.
    (4) سورة المزمل، الآية: 20.
    (5) رواه الإمام أحمد في مسنده 3/56 ح 8577.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي


    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (4)




    أهمية التوحيد (2-1)




    عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) أخرجه البخاري ومسلم.

    * * *

    قال النووي - رحمه الله تعالى-: (هذا حديث عظيم جليل الموقع، وهو أجمع - أو من أجمع- الأحاديث المشتملة على العقائد، فإنه - صلى الله عليه وسلم- جمع فيه ما يُخرج عن ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها، فاقتصر - صلى الله عليه وسلم- في هذه الأحرف على ما يباين به جميعهم).

    ففي هذا لحديث عدة وقفات، أوجزها فيما يلي:

    الوقفة الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له..)، هذه كلمة عظيمة، فاصلة بين الإيمان والكفر، لها مدلولها العظيم، ومعناها الكبير، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم-: (من شهد أن لا إله إلا الله)، قال العلماء - رحمهم الله تعالى-: أي من تكلم بهذه الكلمة عارفا لمعناها، عاملاً بمقتضاها باطنا وظاهرا، كما دلّ على ذلك قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)، وقوله - جل وعلا-: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون)، أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها، فإن ذلك غير نافع بالإجماع.

    ومعنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له، يدل عليه قوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون).

    وقوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت).

    فنفهم من هذا أنه لا إله معبود بحق إلا الله - سبحانه وتعالى-، فهو المتفرد بالألوهية، كما تفرد سبحانه بالخلق والرزق، والإحياء والإماتة، والإيجاد والإعدام، والنفع والضر، والإعزاز والإذلال، والهداية والإضلال، وغير ذلك من معاني ربوبيته، ولم يشركه أحد في خلق المخلوقات، ولا في التصرف في شيء منها، وتفرد بالأسماء الحسنى، والصفات العلى، ولم يتصف بها غيره، ولم يشبهه شيء فيها، فكذلك تفرده – سبحانه- بالإلهية حقاً، فلا شريك له فيها، يقول - سبحانه وتعالى-: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير)، ويقول - جل وعلا-: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بمن خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى الله عما يشركون)، ويقول -جل من قائل-: (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً * سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيرا * تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفورا)، ويقول - جل وعلا-: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم)، وقال – سبحانه-: (إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم)، ويقول -جل من قائل-: (قل من رب السموات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار)... إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تدل دلالة صريحة أو ضمنية على أن لا إله معبود بحق إلا الله - سبحانه وتعالى-، فكما تفرد –سبحانه- بالربوبية، والخلق، والرزق، وغيرها، وكما تفرد – سبحانه- بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، تفرد - جل وعلا- بالعبودية، فلا يجوز بأي حال عبادة أحد سواه.

    الوقفة الثانية: لا يؤدي العبد حق هذه الشهادة إلا بأن يحقق شروطها، التي نظمها بعضهم بقوله:



    وبشروط سبعة قيدت
    فإنه لم ينتفع قائلها
    العلم، واليقين، والقبول
    والصدق، والإخلاص، والمحبه





    وفي نصوص الوحي حقا وردت
    بالنطق إلا حيث يستكملها
    والانقياد، فادر ما أقول
    وفقك الله لما أحبه




    والمراد أنه لا ينتفع الذي ينطق الشهادة بمجرد النطق بها في الدنيا والآخرة، وإنما لا بد من تحقيق شروطها السبعة، وهي كالتالي:

    1- العلم، والمقصود به: العلم بمعناها المراد منها نفياً وإثباتا، العلم المنافي للجهل، كما قال سبحانه وتعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله).

    وروى مسلم في صحيحه عن عثمان -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة).

    فنفهم من هذا أنه لا بد من العلم بما تدلّ عليه، أما الذي ينطقها جاهلاً بها وبمعناها، فهذا لا يستفيد من هذا النطق.

    2- اليقين، والمراد به: أن يكون قائل الشهادة مستيقناً بمدلولها يقيناً جازما منافياً للشك، يقول الله - عز وجل-: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون).

    وجاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بها عبدٌ غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة).

    فاشترط - صلى الله عليه وسلم- في دخول قائلها الجنة أن يكون قالها غير شاك بها، مستيقنا بها قلبه.

    3- القبول، والمراد بذلك أن يقبلها بقلبه ولسانه، والآيات في هذا كثيرة، كلها تدل على أنه لا يستفيد منها إلا من قبلها، من ذلك قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون * فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين).

    4-الانقياد لما دلت عليه، قال تعالى: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن)، وقال سبحانه: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى)، ومعنى (يسلم وجهه أي: ينقاد وهو محسن موحد، ومن لم يسلم وجهه لله فإنه لم يستمسك بالعروة الوثقى.

    وفي هذا الحديث الصحيح: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، وهذا هو تمام الانقياد.

    5- الصدق، المنافي للكذب، وذلك بأن يقولها صادقاً من قلبه، يواطئ قلبه لسانه، يقول الله تعالى في ذلك: (الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين). وقال تعالى: في شأن المنافقين: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون).

    وجاء في الصحيح من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار).

    فاشترط في نجاة من قال هذه الكلمة من النار أن يقولها صدقاً من قلبه، فلا ينفعه مجرد التلفظ بدون مواطأة القلب.

    6- الإخلاص، وهو تصفية العمل الصالح بالنية عن جميع شوائب الشرك، يقول تعالى: (ألا لله الدين الخالص)، ويقول سبحانه: (فاعبد الله مخلصاً له الدين).

    وفي الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه).

    وفي الحديث الصحيح أيضاً عن عتبان بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله).

    7- المحبة: والمراد بذلك المحبة لهذه الكلمة، ولما اقتضته ودلت عليه، ولأهلها العاملين بها، الملتزمين بشروطها، وبُغْض ما ناقض ذلك، يقول الله - عز وجل-: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله)، ويقول سبحانه: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان...).

    وجاء في الحديث الصحيح عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).










    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي


    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (5)




    أهمية التوحيد (2-2)

    الوقفة الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإن هم أطاعوك لذلك) أي: شهدوا وانقادوا لذلك، فإذا أخبرتهم بضرورة التوحيد بالنطق بالشهادتين، وانقادوا لذلك، وشهدوا بهاتين الشهادتين، فانتقل إلى الأمر الآخر.
    وفي رواية أخرى عند ابن خزيمة - رحمه الله-: (فإن هم أجابوا لذلك)، وفي رواية: (فإذا عرفوا ذلك)، وكل هذه الألفاظ لا يختلف معناها، فهي بمعنى واحد، وتدل على أهمية التدرج في الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى-، والبدء بالأهم فالمهم، إذ بعد الإقرار بالشهادتين، وبعد توحيد الله ينتقل إلى ما بعدها من أركان الإسلام وأصوله.
    الوقفة الخامسة: قوله: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة)، فيه دليل على أهمية الصلاة، وأنها في الوجوب والفرضية تلي الشهادتين، كما أن فيه دليلاً على فرضية الصلاة على كل مسلم ومسلمة بالغين عاقلين، وأن الفرض خمس صلوات في كل يوم وليلة. ومن هذا نفهم أن ما سوى تلك الخمسة من السنن، والرواتب، والوتر، وسائر التطوعات، ليست فرضاً حتماً، ولكنها مستحبة، تتأكد في حق كل مسلم ومسلمة، كما ورد فضلها في نصوص كثيرة.
    الوقفة السادسة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإن هم أطاعوك لذلك) أي: آمنوا وصدقوا بأن الله افترضها عليهم وفعلوها، فلو بادروا بالامتثال دون القول فلا بأس حينئذ، بخلاف الشهادتين، فإنه يشترط التلفظ بهما، كما سبق بيانه.
    الوقفة السابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم...) في هذا النص عدة مسائل هي:
    الأولى: أن الغني المقصود في الحديث هو من ملك نصابا من الأموال النامية التي تجب فيها الزكاة، ويطلق عموماً على كل من ملك ما لا يفي بحاجاته، ولو لم يبلغ نصابا.
    أما الفقير فهو من ليس له مال ولا كسب حلال لائق به، يقع موقعها من كفايته من مطعم، وملبس، ومسكن، وسائر ما لابد لنفسه، ولمن تلزمه نفقته.
    الثانية: استدل بعض العلماء بهذه الجملة على أن الزكاة تدفع للإمام أو نائبه، ولكن رجح كثير من الفقهاء أنه يستحب للإنسان أن يلي تفرقتها بنفسه، قال الإمام أحمد: (أعجب إلي أن يخرجها بنفسه، وإن دفعها إلى السلطان فجائز).
    وكذلك استدل كثير من أهل العلم بقوله - صلى الله عليه وسلم-: (فترد على فقرائهم) أنه يجوز إعطاء الزكاة كلها، أو بعضها، إلى صنف واحد من الأصناف الثمانية المذكورة في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل...)(1)
    فإذا أعطى الإنسان زكاته لفقير واحد، أو لمجموعة فقراء، أو وزعها على فقراء ومساكين، ومجاهدين في سبيل الله، ونحو ذلك، فكل ذلك جائز - إن شاء الله تعالى-، فما على المزكي إلا أن يتحرى بدفع زكاة ماله إلى من يستحقها؛ لأجل أن تأخذ موقعها، ولا يعطيها أي شخص لم يتأكد أنه من أهل الزكاة.
    الثالثة: استدل بعض أهل العلم بقوله - صلى الله عليه وسلم-: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، أنه لا يجوز صرف الزكاة إلا في البلد نفسه، فلا ينقل المسلم زكاته إلى بلد آخر، لكن كثيراً من المحققين، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – يرى خلاف هذا، حيث قال: (يجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية). اهـ، وذلك كأن يكون في البلد الآخر أقرباء محتاجين، أو تظهر مجاعة ظاهرة في بلد من بلدان المسلمين، أو يقوم الجهاد الإسلامي في مكان معين فتصرف بعض الزكاة فيه....وهكذا.
    ومع القول بجواز نقل الزكاة إلا أن العلماء – رحمهم الله تعالى – متفقون على أن الأصل في الزكاة أن تفرق في بلد المال الذي وجبت فيه، كما أنهم متفقون أيضاً على أن أهل البلد إذا استغنوا عن الزكاة كلها، أو بعضها؛ لانعدام الأصناف المستحقة، أو لقلة عددها وكثرة مال الزكاة جاز نقلها إلى غيرهم.
    فما على المسلم إلا أن يتحرى، ويجتهد، ويحرص على دفع زكاة ماله إلى مستحقيها، فإن وجدوا في البلد نفسه فهم أولى ولا شك، وإلا فينقلها إلى مكان آخر يوجد فيه مستحقون.
    الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم...).
    ففي ذكر الزكاة بعد الشهادتين والصلاة دليل على أنها – أي الزكاة – أوجب الأركان بعد الصلاة، وكثيراً ما ترد الصلاة والزكاة في القرآن الكريم مقترنتين؛ وذلك لعظم شأن الزكاة، يقول سبحانه وتعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)(2).
    وقد ورد الحث في القرآن والسنة عليها، والترغيب فيها، والوعيد الشديد لمن تركها، من ذلك قوله سبحانه وتعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)(3)، وقوله - جل وعلا-: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم)(4)، وغير ذلك كثير.
    وفي دفع الزكاة فضل عظيم عند الله - عز وجل-، كما أنها تطهر المزكي من أنجاس الذنوب، وتنقّيه من أوساخها، وتزكي أخلاقه بالتحلي بالجود والسخاء، وتبعده عن الشح والبخل، وتطهر ماله من الآفات، وتنميه، وغير ذلك من الحكم العظيمة، والفوائد الجليلة، التي لا يدركها إلا من قام بحق الله في هذا المال.
    الوقفة الثامنة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإياك وكرائم أموالهم...) والمقصود بالكرائم: المال النفيس، والمقصود به هنا: جامعة الكمال الممكن في حقها، من: غزارة لبن، وجمال صورة، أو كثرة لحم وصوف، فكأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- قال: إياك أن تأخذ خيار المال النفيس، بل خذ الوسط، كما أنه لا ينبغي أن يخرج ربّ المال شر المال وهزيله، وضعيفه، بل يخرج الوسط، وإن طابت نفسه بإخراج خياره فهذا أطيب وأكثر أجراً.
    الوقفة التاسعة: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، وهنا مسألتان:
    الأولى: أن ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم- هذه الجملة – والتي فيها تحذير شديد من دعوة المظلوم – بعد قوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإياك وكرائم أموالهم) إشارة منه - صلى الله عليه وسلم- إلى أن أخذ خيار المال ظلم لصاحب المال، وإجحاف في حقه.
    الثانية: في هذا تحذير صريح من النبي - صلى الله عليه وسلم- عن الظلم، فمعنى كلامه - صلوات الله وسلامه عليه-: احذر دعوة المظلوم، واجعل بينك وبينها وقاية بفعل العدل، وترك الظلم؛ لئلا يدعو عليك المظلوم فتستجاب دعوته، فليس بينها وبين الله حجاب، بل يقبلها - سبحانه وتعالى-، وفي هذا تحذير من الظلم بجميع أنواعه، سواء في أخذ الزكاة، أو في جميع الولايات والمسؤوليات، فليحذر كل مسؤولٍ من الظلم، فدعوة المظلوم مستجابة، حتى ولو كان فاجراً، أو فاسقاً، كما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً: (دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه)(5)، قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن.


    (1) سورة التوبة، الآية: 60.
    (2) سورة البقرة، الآية: 43.
    (3) سورة التوبة، الآية: 103.
    (4) سورة المزمل، الآية: 20.
    (5) رواه الإمام أحمد في مسنده 3/56 ح 8577.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي


    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (5)

    حق الله على العباد، وحق العباد على الله
    عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه قال: (كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم- على حمار، فقال لي: (يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟) فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاًَ، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً) فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشّر الناس؟ قال: (لا تبشروهم فيتّكلوا) متفق عليه

    أهمية الحديث:ينبغي على كل مسلم أن يقف عند هذا الحديث متدبراً ومتأملاً؛ لما يحويه من مسائل عظيمة، وفوائد نفيسة، كيف لا وهو يبحث في مهمة الإنسان في هذه الحياة، ويقرر أصلاً في غاية الأهمية والخطورة؛ إذ إنّ خدش هذا الأصل قد يغير مسار حياة الفرد في الدنيا والآخرة، وسأعرض ذلك في خمس فوائد:

    الوقفة الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (أتدري ما حق الله على العباد..).قوله: (أتدري) الدراية هي المعرفة والعلم، وأخرج الخبر بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس، وأبلغَ في فهم المتعلم، وأدعى للحفظ والانتباه، وأوعى للفهم، وهذا أسلوب من أساليب تربية النبي - صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، وإرشاده لهم، وتعليمه إياهم، وهو مما يجب أن تهتم به التربية المعاصرة.

    الوقفة الثانية:
    جوابه - صلى الله عليه وسلم- بقوله: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً).
    وهذا النص عظيم القدر، كبير المعنى، مليء بالفوائد والحكم، حيث اشتمل على ثلاث مهمات.الأولى: قوله: (حق الله على العباد)، والمقصود بذلك ما يستحقه عليهم، ويجعله متحتماً، فهي هنا بمعنى الواجب، فكأنه قال: ما يجب على العباد لله - سبحانه وتعالى-.وكلمة "الحق" تأتي لمعان كثيرة، منها الجزاء، والصدق، وتطلق على الله - سبحانه وتعالى- إلى غير ذلك من المعاني.الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً..).والمعنى: أن يوحدوه بالعبادة وحده، ولا يشركوا به شيئاً، وفائدة هذه الجملة بيان أن التجرد من الشرك لا بد منه في العبادة.والعبادة في الأصل: الخضوع والتذلل، يقال: طريق معبّد, وبعير معبّد، أي: مذلَّل.والعبادة المأمور بها هي كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (طاعة الله امتثالا لما أمر به على ألسنة الرسل)، أو كما قال أيضاً - رحمه الله-: (هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة).

    ويقول – رحمه الله-: (لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له).
    فهي بهذا المعنى تشمل جميع شؤون الحياة، ما يقوله الإنسان وما يعمله إذا كان لله - سبحانه وتعالى-، فهي تشمل الشعائر التعبدية كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والذكر، والدعاء، والاستغفار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،وغيرها، كما تشمل شؤون الحياة الأخرى المباحة كالأكل، والشرب، والمعاملات، والنكاح، وغير ذلك.يقول العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار، واليتيم، والمسكين، وابن السبيل، والملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة)، (وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك من العبادة لله). اهـ.من هذا نفهم أن كل ما يعمله الإنسان في هذه الحياة من الأعمال المباحة المشروعة إذا كان القصد فيها صالحاً فهو عبادة، حتى ما يقضيه الإنسان في شهوته، ولذاته، ومعاشه اليومي، وأوضح شاهد على ذلك ما رواه الإمام مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا نعم، قال: كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).قال بعض أهل العلم: وهذا من تمام رحمة الله على عباده، يثيبهم على ما فيه قضاء شهواتهم إذا نووا أداء حق الزوجة، وإحصان الفرج.هذه العبادة بهذا المعنى الشامل الواسع هي التي أمر الله بها رسله، وأوجبها على خلقه في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت).فأخبر تعالى أنه بعث في كل طائفة من الناس رسولا يبلغهم هذه الكلمة التي هي عبادة الله وحده، وترك ما سواه.وهذه العبادة إذا مارسها العبد بمعناها الشامل وجد سعادة لا تضاهيها سعادة، يقول ابن تيمية - رحمه الله-: (وهكذا كلما أخلص المرء العبودية لله وجد نفسه، واهتدى إلى سر وجوده، ووجد مع ذلك سعادة روحية لا تدانيها سعادة، تتمثل فيما سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم-: حلاوة الإيمان).ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى-: (إنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها، فهو إلهها ومعبودها، ووليها، ومولاها، وربها، ومدبرها، ورازقها ومميتها ومحييها، فمحبته نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفوس، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن، فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة، والعقول الزاكية أحلى ولا ألذّ، ولا أطيب، ولا أسر، ولا أنعم من محبته، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كل لذة، حتى قال قائلهم: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب).

    الثالثة
    : يخطئ أصناف من الناس في فهم العبادة على وجهها الشرعي الصحيح، أعرض لنموذجين منها:

    الأول: الذين يدعون المغالاة في حب الله تعالى، حتى إن بعضهم أخرج نفسه من دائرة البشرية، وأدخلها في الربوبية، التي لا تصلح إلا لله - سبحانه وتعالى-، كمن يدعي أموراً تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين، مثل علم الغيب، أو الالتقاء بالرسل، أو مشاهدة الله - عز وجل-، وهذا لا شك أنه أخطأ الطريق، وحاد عن الصواب، وتجاوز حدوده.يقول العلامة ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ - يعني المتصوفة - وسببه ضعف تحقيق العبودية لله - عز وجل- التي بينها الرسل، وحرّرها الأمر والنهي، الذي جاءوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته، وإذا ضعف العقل، وقلّ العلم بالدين، وفي النفس محبة طائشة جاهلة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك). اهـ.

    والآخر:
    وهم من عرفوا العبادة بأنها أداء الشعائر التعبدية فقط، كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والذكر، ونحو ذلك، فتراهم يقومون بهذه الأمور، ولكن إذا خرجوا لحياتهم العملية في ممارسة الحياة الاقتصادية - مثلاً - لا يعرف حلالاً أو حراماً، فيتعاملون بألوان المعاملات المحرمة، كالغش في المعاملات، والربا، والكذب في البيع والشراء، والخديعة، وغير ذلك، فلا رادع في ضمائرهم يردعهم، ويدّعون أن هذا كله ليس من العبادة، ولا دخل لها في هذه الأشياء، وإذا خرجوا للحياة الاجتماعية، والآداب العامة، تراهم يسلكون فيها مشارب مختلفة، كمن يمارس بعض المحرمات، كالكذب، والغيبة، والنميمة، وغيرها، ويفصلها في حياته عن العبادة، ومنهم من إذا خرج للحياة العلمية، والثقافية، والفكرية، فصلها فصلاً واضحاً عن عبادة الله - جل وعلا-، ولم يعلم أن العلم في الإسلام كالحياة للإنسان، فلا بد للمسلم أن يسخّر فكره، وعلمه، وقلمه لهذا الدين، حتى تكون هذه الأمور عبادة يتقرب بها العبد لمعبوده سبحانه، ومن يخالف هذا يكون أخطأ في فهم العبادة، وقصرها على أعمال معينة فحسب.
    فهذان صنفان من الناس يخطئون في فهم العبادة في الإسلام.والأصل أن حياة المسلم علمية كانت أم اجتماعية، سياسية أم اقتصادية، أخلاقية أم سلوكية، كلها عبادة لله - سبحانه وتعالى-، فعليه أن يسخرها لذلك، حتى يظفر بالغاية العظمى من تلك العبادة، التي هي كل السعادة في الدنيا والآخرة.

    الوقفة الثالثة:
    قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً).
    ومعنى ذلك أن من قام بحق الله تعالى عليه، فالله - سبحانه وتعالى- أوجب على نفسه أن لا يعذبه، ووعده متحقق لا محالة؛ لأنه قد وعدهم ذلك؛ جزاء لهم على توحيده، والله لا يخلف الميعاد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: " كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق".

    الوقفة الرابعة:في قول معاذ -رضي الله عنه-: (كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم- على حمار، فقال لي..) الحديث.تواضع الرسول - صلى الله عليه وسلم- حيث كان راكباً على حمار، وهو من هو في المكانة والقدر، فهو أفضل البشر على الإطلاق، وأكرمهم على الله تعالى، ومع ذلك يفعل ما يفعله الناس تماماً، فيأكل ما يأكلون، ويشرب مما يشربون، ويركب ما يركبون، ويزيد الأمر كونه أردف معه غيره، وهذان الأمران خلاف ما عليه كثير من الناس اليوم، ممن أنعم الله عليهم بنعمه، وزادهم من أفضاله، فظنوا أنهم زادوا على غيرهم منزلة معينة، سواء كانوا أصحاب أموال، أو جاه، أو رئاسة، ونحوها، فيغترون بما أعطاهم الله - سبحانه وتعالى-، فيصيبهم الكبر والبطر، حتى أن بعضاً منهم يزيد على ذلك بظلم الآخرين، ويتجاوز حدوده، وهذا كله فيه خطر عظيم.الوقفة الخامسة: وفي قول معاذ أيضاً: (كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال لي: يا معاذ..).استغلال الوقت بما يفيد، فالمعلم مرشد ومؤتمن، عليه أن يستغل الفرص المناسبة؛ ليوصل ما لديه من فائدة وعلم لتلاميذه، فالرسول - صلى الله عليه وسلم- استغل فرصة وجود معاذٍ ليزفّ إليه هذه البشرى العظيمة، ولفرط سعادة معاذ وفرحه الشديد بهذه الفائدة الجليلة يطلب من معلّمه الرسول - صلى الله عليه وسلم- أن يتولى تبصير الناس بها: (أفلا أبشّر الناس)..إن على المعلم مسؤولية كبرى تجاه الأجيال الذين يتولى تعليمهم وتربيتهم، بأن ينصح لهم، ويوجههم إلى ما يفيدهم وينفعهم في دينهم ودنياهم، وعليه أن لا يبخل عليهم بما أعطاه الله تعالى من علم وخبرة وتجربة.

    الوقفة السادسة: قوله: (أفلا أبشر الناس؟...). استنبط منها أهل العلم استحباب بشارة المسلم بما يسره وبخاصة إذا كان نفعه متعديًا في الدنيا والآخرة، فالصحابة -رضي الله عنهم- لم تكن من صفاتهم الأنانية وحب الذات، بل كانوا يسارعون إلى بشارة بعضهم البعض؛ ليستفيد الجميع من ذلك.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي

    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (7)




    عناصر حلاوة الإيمان








    عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) متفق عليه(1).

    هذا حديث عظيم، جليل القدر، يسمو بالمؤمن في مكانة عالية من الإيمان حتى يجد حلاوته ومذاقه.

    قال النووي: (هذا حديث عظيم من أصول الدين)(2).

    وقد احتوى على وقفات مهمة، نعرضها على النحو التالي:

    الوقفة الأولى: (قوله - صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثٌ من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان..) أي: ثلاث خصال من حصلن له وجد حلاوة الإيمان، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: (قال الشيخ أبو محمد بن أبي حمزة: إنما عبر بالحلاوة؛ لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله تعالى: (ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة)(3)، فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها اتباع الأوامر، واجتناب النواهي، ,ورقها ما يهتم المؤمن به من الخير، وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جني الثمرة، وغاية كماله تناهي نضج الثمرة، وبه تظهر حلاوتها)(4).

    قال صاحب كتاب (تيسير العزيز الحميد): (والشجرة لها ثمرة، والثمرة لها حلاوة، فكذلك شجرة الإيمان لا بد لها من ثمرة، ولا بد لتلك الثمرة من حلاوة، ولكن قد يجدها المؤمن، وقد لا يجدها، وإنما يجدها بما ذكر في الحديث)(5) اهـ.

    الوقفة الثانية: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما...).

    المراد من هذه الجملة أن يكون الله ورسوله عند العبد أحب إليه مما سواهما حبّا قلبياً، كما ورد في بعض الأحاديث: (أحبوا الله بكل قلوبكم)(6)، فيميل بكلّيته إلى الله وحده، حتى يكون الله وحده محبوبه ومعبوده، وإنما يحب من سواه تبعاً لمحبته، كما يحبُّ الأنبياء، والمرسلين، والملائكة، والصالحين، لما كان يحبهم ربه – سبحانه-، وذلك موجب لمحبة ما يحبه – سبحانه-، وكراهة ما يكره، وإيثار مرضاته على ما سواه، والسعي فيما يرضيه ما استطاع، وترك ما يكره، فهذه علامة المحبة الصادقة ولوازمها.

    ومن هذا نعلم أن محبة الله تعالى ومحبة محمد رسوله - صلى الله عليه وسلم- أن يأتمر بأوامرهما، ويجتنب نواهيهما، ويقف عند حدودهما، ولا يقدم عليهما شيئاً، كل ذلك بنفس راضية مطمئنة راغبة، ويفهم منه أن من لم يطع الله تعالى بأمر من الأمور، أو ارتكب مخالفة من المخالفات الشرعية، فهذا لم يكتمل له حب الله تعالى، وأن من عصى محمد - صلى الله عليه وسلم- أو غالى فيه، وجعله إلها من دون الله، أو دعاه من دون الله، فهذا لم يحب محمداً -صلى الله عليه وسلم-، بل محبته الحقيقية طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يقدم عليه أحدا، فمن عصاه لم يحبه، ومن غالى فيه وأنزله بغير منزلته لم يحبه.

    ومن هذا يتحصل أن الذين يتبركون بغيره -صلى الله عليه وسلم- ويتوسلون به من دون الله تعالى، وهم في الوقت نفسه يرتكبون كثيراً من المخالفات الشرعية فإنهم لم يحبوا محمداً -صلى الله عليه وسلم-، فكيف تعظّم شخصاً وأنت لا تطيع أمره؟!

    وفوق هذا وذاك، لا بد أن تكون هذه المحبة أعلى من كل محبة، كما روى البخاري – رحمه الله – في صحيحه، عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (لأنت يا رسول الله، أحبُّ إلي من كل شيء؛ إلا نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنك الآن والله أحبُّ إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر)(7).

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (وأكثر الناس يدعي أن الرسول أحب إليه مما ذكر، فلا بد من تصديق ذلك بالعمل والمتابعة له، وإلا فالمدعي كاذب، فإن القرآن الكريم بين أن المحبة التي في القلب تستلزم العمل الظاهر بحبها، كما قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)(8)، وقال تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين)(9)، ويقول - جل وعلا-: ( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون)(10)، ..)(11) اهـ.

    وروى البخاري ومسلم عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)(12).

    الوقفة الثالثة: الأسباب الجالبة لمحبة الله - عز وجل-، وهي عشرة أسباب ذكرها ابن القيم – رحمه الله – على النحو التالي:

    1- قراءة القرآن بالتدبر لمعانيه وما أريد به.

    2- التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، كما في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه) رواه البخاري(13).

    3- دوام ذكره على كل حال باللسان، والقلب، والعمل، والحال، فنصيبه من المحبة على قدر هذا.

    4- إيثار محابه على محابّك عند غلبات الهوى.

    5- مطالعة القلب لأسمائه، وصفاته، ومشاهدتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها.

    6- مشاهدة بره، وإحسانه، ونعمه الظاهرة والباطنة.

    7- وهو أعجبها: انكسار القلب بين يديه.

    8- الخلوة به وقت النزول الإلهي آخر الليل، وتلاوة كتابه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.

    9- مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.

    انتهى كلام ابن القيم - رحمه الله-(14).

    ثم إن من علامات المحبة الصادقة لله تعالى: التزام طاعته، والجهاد في سبيله، والذلة على المؤمنين، والعزة على الكافرين، ذكر ذلك سبحانه وتعالى بقوله: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)(15).

    الوقفة الرابعة: قرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين محبة الله – عز وجل – ومحبته، مما يدل على عظم محبته -صلى الله عليه وسلم- وعلو شأنها، وفي محبته -صلى الله عليه وسلم- عدة فوائد، هي:

    الأولى: أن هذا مصداق ما ورد في السنة، كما رواه البخاري ومسلم عن أنس –رضي الله عنه – أنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين)(16).

    وما ورد في الصحيح أيضاً أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: (لا يا عمر حتى أكون أحبّ إليك من نفسك)، فقال: والله لأنت أحبّ إليّ من نفسي، فقال: (الآن يا عمر)(17).

    الثانية:لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- علامات، منها:

    1- الحزن على فقد رؤيته -صلى الله عليه وسلم-، وتمني رؤيته والعمل لذلك، ذكر ابن جرير، عن سعيد ابن جبير، قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو محزون، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مالي أراك محزوناً؟) فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه، فقال: ( ما هو؟) قال: نحن نغدو ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا تُرفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئاً، فأتاه جبريل بهذه الآية: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)(18)، فبعث إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فبشره(19).

    2- امتثال أوامره -صلى الله عليه وسلم- واجتناب نواهيه، فمن المعلوم أن المحبَّ لمن يحب مطيع، بل لا يقف عند أمره ونهيه فحسب، وإنما يلاحظ تعبيراته وإرشاداته فيفعل ما يريد، ويبتعد عما لا يريد، وهذه سمة الصحابة – رضي الله عنهم – مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث كانوا يمتثلون أمره ويقدرون هذه المحبة، روى الإمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه قال: (كنت ساقي القوم يوم حُرّمت الحمر في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفضيخ – وهو خليط البسر والتمر – فإذا منادٍ ينادي، فقال: اخرج فانظر، فإذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فجرت في سكك المدينة، فقال لي أبو طلحة: أخرج فأهرقها، فهرقتها)(20).

    هذه هي المحبة الصادقة، امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ومن هذا نعلم عدم صحة دعوى من يدعي محبة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهو يخالف أوامره، ويفعل بعض ما نهاه عنه، أو يبتدع في دينه ما ليس منه، أو ينزله منزلة فوق منزلته.

    3- ومن علامات محبته -صلى الله عليه وسلم- نصر سنته والذبُّ عن شريعته بكل ما يملك، سواء بالنفس، أو بالمال، أو باللسان، أو بالقلم، أو بالجهد والتعب، وغير ذلك.

    وقد ضرب صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة الصادقة في ذلك، فمن ذلك ما رواه ابن هشام أن أهل مكة أرادوا أن يخرجوا زيد بن الدثنة –رضي الله عنه – من الحرم كي يقتلوه فيجتمعون حوله، يقول له أبو سفيان: (أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟) قال زيد: (والله لا أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكةٌ تؤذيه وإني جالس في بيتي).

    وبعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- اهتم الصحابة – رضي الله عنهم – بحفظ سنته -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا من بعدهم حتى دونت السنة وحفظت، ولا زالت جهود العلماء وطلبة العلم تقوم بهذا الأمر والحمد لله، فالذب عن سنته -صلى الله عليه وسلم- ونصرها من علامات محبته -صلى الله عليه وسلم-.

    الثالثة: أن لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- فضلاً عظيماً، وثواباً جزيلا؛ ذلك أنها من علامات الإيمان الصادق، كما روى الشيخان في صحيحهما، عن أنس – رضي الله عنه – أنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)(21).

    فالذي يحب النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون مؤمناً حقا.

    كما أن محبته -صلى الله عليه وسلم- سبب لحصول حلاوة الإيمان، كما ورد في الحديث: (ثلاثٌ من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان...) وذكر منها: (أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما).

    كما أن محبته -صلى الله عليه وسلم- سببٌ لمرافقته في الجنة، فقد ورد في الصحيحين أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: المرء يحبّ القوم ولمّا يلحق بهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (المرء مع من أحب)(22).

    كما أن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، واتباع أوامره، واجتناب نواهيه، سبب لمحبة الله _سبحانه وتعالى_ وغفران الذنوب، يقول الله _سبحانه وتعالى_: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)(23).

    الرابعة: قال العلامة ابن رجب - رحمه الله-: (ومحبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على درجتين:

    إحداهما فرض: وهي المحبة التي تقتضي قبول ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من عند الله، تلقيّه بالمحبة، والرضا، والتعظيم، والتسلم، وعدم طلب الهدى من غير طريقه بالكلية، ثم حسن الاتباع له فيما بلّغه عن ربه من تصديقه في كل ما أخبر به من الواجبات، والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات، ونصرة دينه، والجهاد لمن خالفه بحسب القدرة، فهذا القدر لا بد منه، ولا يتم الإيمان بدونه.

    والدرجة الثانية: فضل، وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به، وتحقيق الاقتداء بسننه في أخلاقه، وآدابه، ونوافله، وتطوعاته، وأكله، وشربه، ولباسه، وحسن معاشرته لأزواجه، وغير ذلك من آدابه الكاملة، وأخلاقه الطاهرة والراقية، والاعتناء بمعرفة سيرته، وأيامه، واهتزاز القلب عند ذكره، وكثرة الصلاة والسلام عليه؛ لما سكن في القلب من محبته، وتعظيمه، وتوقيره، ومحبة استماع كلامه، وإيثاره على كلام غيره من المخلوقين، ومن أعظم ذلك الاقتداء به في زهده في الدنيا الفانية، والاجتزاء باليسير منها، والرغبة في الآخرة الباقية) انتهى كلامه - رحمه الله-.

    الوقفة الخامسة: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله..).

    هذه هي الخصلة الثانية التي ينبغي للمسلم فعلها لأجل أن يجد حلاوة الإيمان، ويمكن أن نقف معها عدة وقفات:

    الأولى: أن المراد بذلك أن تقوم العلاقة بين المسلم وأخيه المسلم على الحب في الله، بحيث لا تزيد مع البر ولا تنقص مع الجفاء.

    الثانية: أن لهذه المحبة فضلاً عظيما، وثواباً جزيلاً، فقد روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة –رضي الله عنه – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (سبعة يظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله...)(24) وذكر منهم: (رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وافترقا عليه).

    وقد ورد في الحديث الآخر فيما رواه الإمام مسلم، عن أبي هريرة –رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلّي)(25).

    من هذا نفهم أن المحبة بين المسلمين ينبغي أن تكون على طاعة الله تعالى، فتحب المسلم لإسلامه، وتبغضه لمعصيته، فتكون على حالة وسط، تحبه حال الطاعة وتبغض ما فيه من المعصية حال المعصية، ولا يظهر هذا البغض إلا إذا أظهر المعصية.

    وروى الترمذي بسند صحيح عن معاذ – رضي الله عنه – أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (قال الله - عز وجل-: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء)(26).

    وعن أبي إدريس الخولاني –رحمه الله- قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى برّاق الثنايا، وإذا الناس معه، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل - رضي الله عنه-، فلما كان من الغد هجَّرت، فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك لله، فقال: آلله؟، فقلت آلله، فقال: آلله، فقلت آلله، فأخذني بجبوة ردائي، فجذبني إليه، فقال: أبشر، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ)، رواه مالك في الموطأ وغيره، قال ابن عبد البر: إسناده صحيح(27).

    الثالثة: من المستحسن إذا أحب المسلم أخا له في الله ومن أجل الله أن يخبره بذلك، فقد روى أبو داود والترمذي وغيرهما – بسند حسن – عن أبي كريمة المقداد بن معدي كرب –رضي الله عنه – عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)(28).

    وروى أبو داود – بإسناد حسن أيضاً – عن أنس –رضي الله عنه – أن رجلاً كان عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمر رجل به فقال: يا رسول الله، إني لأحب هذا، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أأعلمته؟) قال: لا، قال: (أعلمه)، فلحقه، فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الذي أحببتني له(29).

    الرابعة: أن من علامات الحب في الله والبغض في الله القيام بالحقوق والواجبات بين المتحابين، ومن أهمها:

    1- قضاء الحاجات والقيام بها، فخير الناس أنفعهم للناس.

    2- السكوت عن ذكر العيوب، فكما تحب ستر عيوبك فأحب لأخيك ما تحبه لنفسك، والاعتذار عما يصدر من الخطأ والزلات، يقول ابن المبارك - رحمه الله-: (المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات).

    3- عدم الغل، والحقد، والحسد، لما أنعم الله به على أخيك، فقد ورد في الحديث الصحيح: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يسلمه)(30).

    4- الدعاء للأخ في حياته، وبعد موته، بما تدعو لنفسك به، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (دعوة المسلم لأخيه في ظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل)(31).

    5- ومن ذلك: الوفاء والإخلاص، فثبت على محبته طوال حياته، وبعد موته، فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أكرم عجوزاً، وقال: (إنها كانت تغشانا في أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)(32)، فلا يتكبر على أخيه، وإن ارتفع شأنه، وماله، ووجاهته.

    6- ومن ذلك أيضاً: مبادرته بالسلام، والسؤال عن الأحوال والتفقد لها، كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ألا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)(33).

    ويقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: (عليك بإخوان الصدق، تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء، وعدّة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يقيلك منه، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرّك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى). اهـ كلامه - رضي الله عنه-.

    الوقفة السادسة: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار...).

    وفي هذه الجملة مسألتان مهمتان:

    الأولى: ذكر العلماء أن المراد بهذه الجملة: أن من وجد حلاوة الإيمان، وعلم أن الكافر في النار يكره الكفر لكراهته دخول النار.

    الثانية: أن من لازم هذه الجملة بغض الكفر وأهله، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة، فقد أوجب الله تعالى محبة الله تعالى ورسوله، وبغض الشرك وأهله، كما حرّم موالاتهم، ورتب عليها سخطه وعذابه، يقول الله – سبحانه-: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)(34)، ويقول سبحانه: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة)(35)، ويقول سبحانه: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم)(36).

    فموالاة الكفار، والرضى بأعمالهم سبب لسخط الله - سبحانه وتعالى-، والبعد عن الإيمان، ومن صور الموالاة: محبتهم، ومداهنتهم، ومداراتهم، وتقريبهم، وتقديمهم على المسلمين، ومصاحبتهم وعشرتهم، والرضى بأعمالهم، واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين وغير ذلك.











    (1) رواه البخاري، كتاب العلم، باب حلاوة الإيمان 1/30 ح16، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، ح43، 1/66.
    (2)صحيح مسلم بشرح النووي، 2/210.
    (3)سورة إبراهيم، الآية: 24.
    (4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1/60.
    (5)تيسير العزيز الحميد ص476.
    (6)ذكره الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ في: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ولم أجده فيما بين يدي من المصادر.
    (7)أخرجه البخاري في كتاب
    (8)سورة آل عمران الآية:
    (9)سورة النور، الآية: 47.
    (10)سورة النور: الآية: 51.
    (11) نقلاً من كتاب: تيسير العزيز الحميد ص 473، 474، سليمان بن عبد الله.
    (12) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حب الرسول من الإيمان 1/55، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب محبة الرسول أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين.
    (13) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع 4/2039، ح 6502.
    (14) نقلاً من كتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص292، 293، عبد الرحمن آل الشيخ.
    (15) سورة المائدة، الآية: 54.
    (16)تقدم تخريجه.
    (17) تقدم تخريجه.
    (18) سورة النساء، الآية: 69.
    (19)ذكره ابن كثير في تفسير الآية في سورة النساء، وقال: (وقد رُوي هذا الأثر مرسلا عن مسروق، وعن عكرمة، وعامر الشعبي، وقتادة، وعن الربيع بن أنس، وهو من أحسنها سنداً). 1/523.
    (20)أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب صب الخمر في الطريق 2/738 ح 2464.
    (21) تقدم تخريجه.
    (22) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله 4/1943، ح 6169، ومسلم في كتاب البر والصلة، باب المرء مع من أحب، ح 2640، 4/2034.
    (23) سورة آل عمران، الآية: 31.
    (24) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد 1/209 ح 660، ورواه مسلم في كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة 1031، 2/715.
    (25) رواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب فضل الحب في الله، 16/96، 2566، 4/1988.
    (26) رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في الحب في الله 4/24، ح 2499، ورواه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الشعر، باب ما جاء في المتحابين في الله 2/725، ح13.
    (27)رواه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الشعر، باب ما جاء في المتحابين في الله 2/725 ح16.
    (28)رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في إعلام الحب 4/25، ح 2502، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، ورواه أبو داود في كتاب الأدب، باب إخبار الرجل بمحبته إياه، 5/343، ح5124.
    (29)رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب إخبار الرجل بمحبته إياه 5/344، ح 5125، وفي إسناده المبارك بن فضالة القرشي العجلي، ضعّفه الإمام أحمد ويحيى بن معين والنسائي، وتكلم فيه غيرهم.
    (30)رواه البخاري في كتاب المظالم باب: لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يسلمه 2/732، ح 2442، ورواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، ح 2580، 4/1996.
    (31) رواه الإمام مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، ح 2733، 4/2094.
    (32)رواه الحاكم في المستدرك وحسّنه الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/413.
    (33)رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، ح 54، 1/74.
    (34)سورة المائدة، الآية: 51.
    (35) سورة آل عمران، الآية: 28.
    (36) سورة المجادلة، الآية: 22.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي

    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (8)


    من موجبات اللعن



    عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنه قال: حدثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غيّر منار الأرض) رواه مسلم(1).
    هذا حديث عظيم القدر، يحوي وقفات عديدة، وحكم عظيمة، وفوائد كثيرة، أعرضها في الوقفات التالية:
    الوقفة الأولى: هذا الحديث له قصة، ذكرها الإمام مسلم في صحيحه بطريق آخر، عن أبي الطفيل قال: سُئل عليٌّ - رضي الله عنه-، أخصّكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بشيء؟ فقال: ما خصنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء لم يعمّ به الناس كافة، إلا ما كان في قراب سيفي هذا، قال: فأخرج صحيفة مكتوب فيها: (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثاً) اهـ(2)، كما روي بألفاظ أخرى.
    الوقفة الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن) اللعن: هو البعد عن مظان الرحمة ومواطنها، واللعين والملعون: من حقت عليه اللعنة، أو دُعي عليه بها، قال ابن الأثير - رحمه الله-: أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله. ومن الخلق: السب والدعاء(3).
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (إن الله تعالى يلعن من استحق اللعنة بالقول، كما يصلي سبحانه على من استحق الصلاة من عباده، يقول - سبحانه وتعالى-: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِين َ رَحِيماً)(4)، ويقول –سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً)(5)، وقال - جل من قائل- : (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً)(6). اهـ)(7).
    فمن خلال ما سبق يتضح لنا أن اللعن من قبل الله - سبحانه وتعالى- هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله – سبحانه-، ومن جانب الخلق بعضهم مع بعض هو: السب، والشتم، والدعاء، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث يخبرنا أن من عمل عملاً من الأعمال المذكورة فهو مستحق لأن يطرد من رحمة ربه - سبحانه وتعالى-، أعاذنا الله من ذلك.
    الوقفة الثالثة: في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله من ذبح لغير الله...)،
    قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى-: (المراد أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمن يذبح باسم غير اسم الله تعالى، كمن يذبح للصنم، أو للصليب، أو لموسى، أو لعيسى - عليهما السلام-، أو للكعبة، ونحو ذلك، وكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة، سواء كان الذابح مسلماً، أو نصرانياً، أو يهودياً، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله والعبادة له كان ذلك كفراً، فإن كان الذابح مسلماً قبل ذلك صار بالذبح مرتداً) اهـ(8).
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: قوله تعالى: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)(9)، ظاهره أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقال: هذه الذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح، ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحنا للحم وقلنا عليه: باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فكذلك الشرك بالصلاة لغيره، والنسك لغيره أعظم من الاستعانة باسم غيره في فواتح الأمور، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب والنجوم بالذبح، ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة ما نعان) اهـ(10).
    الوقفة الرابعة: اعلم أن الذبح عبادة من العبادات يجب أن تصرف لله - سبحانه وتعالى- فيتقرب بها إليه، وأن لا تصرف إلى غيره، فإذا صرفت نية الذبح لغير الله تعالى فقد يكون شركاً، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة أعرض بعضها منها:
    فمن ذلك قوله - سبحانه وتعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(11).
    قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله-: (يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)(12)، أي: أخلص له صلاتك وذبيحتك، فإن المشركين يعبدون الأصنام، ويذبحون لها، فأمر الله بمخالفتهم، والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية، والعزم على الإخلاص لله تعالى، قال مجاهد في قوله: (صَلاتِي وَنُسُكِي) قال: النسك: الذبح في الحج والعمرة، وقال سعيد بن جبير: ذبحي) اهـ(13).
    ومن الأدلة على ما ذكر أيضاً من ضرورة إخلاص الذبح لله تعالى قوله - جل وعلا-: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)(14)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (أمره الله تعالى أن يجمع بين هاتين العبادتين، وهما: الصلاة والنسك الدالتان على القرب، والتواضع، والافتقار، وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عدته، عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفاً من الفقر) اهـ(15).
    وقال غيره: أي: فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه، وشرّفك وصانك من منن الخلق، مراغما لقومك الذين يعبدون غير الله، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت مخالفاً لهم في النحر للأوثان(16).
    الوقفة الخامسة: ورد عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أحاديث في بيان أهمية الذبح لله - عز وجل-.
    فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد، عن طارق بن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب)، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: (مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرّب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرّب، قال: ما عندي شيء، قالوا: قرّب ولو ذبابا، فقرّب ذبابا، فخلوا سبيله فدخل النار، وقالوا للآخر: قرّب، قال: ما كنت لأقرّب لأحد شيئا دون الله - عز وجل-، فضربوا عنقه، فدخل الجنة)(17).
    الوقفة السادسة: أن الذبح أنواع، فمنها ما هو عبادة محضة تقرب إلى الله - سبحانه وتعالى-، وذلك كالنسك في الحج والأضحية، ومنها ما لأكل اللحم، فهذا يجب على المسلم أن يقصد به التقوّي على عبادة الله تعالى، وأن يذبحه على الطريقة الشرعية، بأن يستقبل القبلة حال النحر، وأن يذكر اسم الله.
    ومن الذبح ما هو حرام لا يجوز أكله، بل قد يصل إلى الشرك، والعياذ بالله، كمن يخلّ بشيء من الشروط الشرعية حال الذبح.
    والأشد من ذلك أن يصرف نيته في الذبح لغير الله - عز وجل-، كأن يتقرب به لصنم، أو قبر، أو ول،ي أو لشجرة، أو لمكان، ونحو ذلك، مما يفعله كثير من جهلة المسلمين عندما يصاب بمصيبته، أو يبتلى بمرض، أو عندما يرجو تفريج كربة من الكربات، أو حلّ مشكلة من المشكلات، مدّعياً أن هذا القبر، أو ذاك الولي، أو تلك الشجرة، لديهم القدرة على تفريج كربته، وحل مشكلته، أو يتشفعون عند الله - سبحانه وتعالى له-، وهذا كله ونحوه من تلاعب الشيطان بابن آدم؛ ليغويه، وليرديه في المهالك، وليكون شريكاً له في جهنم.
    الوقفة السابعة: ينبغي للمسلم أن يتجنب مواطن الشبهة؛ لئلا يقع فيها، ومن ذلك أن يبتعد عن المكان الذي يذبح فيه لغير الله - عز وجل- كما قال سبحانه وتعالى: (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ)(18).
    وروى أبو داود – بإسناد على شرط الشيخين – عن ثابت بن الضحاك – رضي الله عنه - قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة – وهو مكان أسفل مكة من جهة يلملم – فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟) قالوا: لا، قال: (فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟) قالوا: لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم)(19).
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (هذا يدل على أن الذبح لله في المكان الذي يذبح فيه المشركون لغير الله معصية) اهـ(20).
    الوقفة السابعة: أن المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله من لعن والديه...)، الدعاء بالطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى لمن لعن والديه مباشرة، أو بغير مباشرة، كما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن من الكبائر شتم الرجل والديه)، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: (نعم، يسبّ أبا الرجل فيسب أباه، و يسبّ أمه فيسبّ أمه)(21).
    الوقفة الثامنة: أن لعن الوالدين، أو سبّهما، أو رفع الصوت عليهما، أو الإعراض عنهما، أو عدم تلبية طلبهما، أو إزعاجهما، أو النفرة من أوامرهما وعدم الامتثال لها، ونحو ذلك كبيرة من أعظم الكبائر الموجبة للعقاب في الدنيا والآخرة، يقول سبحانه وتعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً)(22).
    وروى البخاري ومسلم وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور)(23).
    وروى الإمام أحمد وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاثة حرّم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن خمر، والعاق لوالديه، والديوث الذي يقر الخبث في أهله)(24).
    الوقفة التاسعة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله من آوى محدثاً...).
    والمراد بذلك: منعه من أن يؤخذ منه الحق الذي وجب عليه، قال ابن الأثير - رحمه الله-: (قوله: (محدثاً) يروى بكسر الدال وفتحها، فمعنى الكسر: من نصر جانيا، وآواه، وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين من يقبض منه، ومعنى الفتح: الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه: الرضى به، والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر عليها فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه) اهـ(25).
    الوقفة العاشرة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله من غيّر منار الأرض...).
    قال النووي - رحمه الله-: (منار الأرض: علامات حدودها)اهـ(26).
    وقيل تغييرها بتقديمها، وتأخيرها، فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم-: (من ظلم شبراً من الأرض طوّقه يوم القيامة من سبع أرضين)(27)، رواه البخاري ومسلم(28).






    (1) رواه مسلم في كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله ولعن فاعله، ح 1978، 3/1567.
    (2) رواه الإمام مسلم في كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله، ح 1978، 3/1567.
    (3) نقلاً من تيسير العزيز الحميد ص 190، لسليمان بن عبد الله آل الشيخ.
    (4) سورة الأحزاب، الآية: 43.
    (5) سورة الأحزاب، الآية: 61.
    (6) سورة الأحزاب، الآية: 61.
    (7) نقلاً من كتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص125، عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
    (8) صحيح مسلم بشرح النووي، المجلد الخامس 6/122.
    (9) سورة البقرة، آية: 173.
    (10) نقلاً من كتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص125، 126، عبد الرحمن بن حسن.
    (11) سورة الأنعام، الآيتان: 162، 163.
    (12) سورة الكوثر، الآية: 2.
    (13) نقلاً من: تيسير العزيز الحميد، ص 187.
    (14) سورة الكوثر، الآية: 2.
    (15) نقلاً من: تيسير العزيز الحميد ص 188، 189.
    (16) المصدر السابق.
    (17) رواه الإمام أحمد في الزهد ص 15 عن طارق بن شهاب عن سلمان الفارسي، قال عبد القادر الأرناؤوط عن هذا الحديث: (وهو موقوف صحيح).
    (18) سورة التوبة، الآية: 108.
    (19) رواه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، ح 3313.
    (20) نقلاً من كتاب: تيسير العزيز الحميد ص201.
    (21) رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها، ح9-، 1/92.
    (22) سورة الإسراء، الآيات: 23-25.
    (23) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر 4/1893، ح 65976، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها، ح 87، 1/91.
    (24) رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر 2/181 رقم الحديث 5349.
    (25) نقلاً من كتاب: تيسير العزيز الحميد ص 192.
    (26) شرح النووي على صحيح مسلم، المجلد الأول، 1/122.
    (27) نقلاً من كتاب: تيسير العزيز الحميد ص 193.
    (28) رواه البخاري، في كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض 2/735، ح2453، ورواه مسلم في كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض، المجلد الرابع، 10/225، ح 142.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي


    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (9)




    مراقبة الله( 1 – 4 )






    عن عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما – أنه قال: كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال لي: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح(1).

    وفي رواية غير الترمذي: (احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)(2).

    هذا حديث عظيم جليل القدر، يحمل وصايا عظيمة، وفوائد كثيرة، ومسائل مهمة في العقيدة، والسلوك، والأخلاق، والآداب، وغيرها.

    قال الإمام ابن رجب - رحمه الله-: (وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلّية من أهم أمور الدين، حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه) اهـ(3).

    وفي هذا الحديث عدة فوائد، أعرضها على النحو التالي:

    الفائدة الأولى: قول ابن عباس - رضي الله عنهما-: (كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال لي: (يا غلام إني أعلمك كلمات...) وفي هذا وقفتان:

    الأولى: اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتوجيه أمته، وتنشئتها على العقيدة السليمة، والأخلاق الفاضلة، والسلوك المستقيم، فنلاحظ هنا أنه - صلى الله عليه وسلم - حين ركب معه هذا الغلام الصغير لقّنه كلمات قليلة الألفاظ، كبيرة المعنى، لها آثارها ونتائجها في الدنيا والآخرة.

    وهذه السمة – أعني الاهتمام بالجيل الناشئ، وتربيتهم على العقيدة السليمة – ينبغي أن تكون سمة المصلحين، والمربين، والمعلمين، فهم الذين تحمّلوا ميراث النبوة، وحملوا على عاتقهم مهمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هادي البشرية إلى الخير، ومنقذها من الضلالة، ومرشدها إلى صراط الله المستقيم.

    لكن الملاحظ أن كثيراً ممن ولي شيئاً من أمر الإصلاح، أو التربية، أو التعليم، لا يعطي هذا الجانب حقه من العناية اللازمة، سواء كان مديراً، أو معلماً، أو موجها، فيصرف كثيرًا من الأوقات هدراً بدون فوائد تذكر على الناشئة، وهذا أمر لا ينبغي، حيث إن جيل اليوم هو قادة المستقبل، وموجهي الأمة، فالاهتمام به ورعايته في غاية الأهمية والضرورة.

    الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يا غلام، إني أعلمك كلمات...)، ففيه أهمية الأسلوب الحسن لتربية الناشئة، فالوصية التي سيوصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس بها لها أهمية عظيمة، ومكانة كبيرة، ولذا يستجمع، ويلفت انتباهه إلى نفاسة الوصية التي سيدلي بها إليه، فيقول: (إني أعلمك كلمات)، كل هذا من باب التشويق، وإثارة الانتباه.

    الفائدة الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)، وفي رواية أخرى: (احفظ الله تجده أمامك).

    وفي هذه الجملة عدة وقفات هي:

    الأولى: في معنى قوله: (احفظ الله)، يقول العلامة ابن رجب - رحمه الله-:

    "(احفظ الله) يعني: احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره، ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده، فلا يتجاوز ما أمر به، وأذن فيه، إلى ما نهى عنه، فمن يفعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله، الذين مدحهم الله تعالى في كتابه، وقال الله - عز وجل-: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)(4)، وفسّر الحفيظ هنا بالحافظ لأوامر الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها "(5).

    ففهم من هذا أن حفظ العبد لربه أن يقوم بأوامره وينفذها كما أمره، فإذا كان من أوامر الله الصلاة وسائر أركان الإسلام كان من المسارعين في التنفيذ والاستجابة، ومن حفظ العبد لربه أن يتجنب نواهيه وزواجره، فلا يقربها، فإذا نهي عن ارتكاب المنكرات، وزجر عن اقتراف السيئات كالزنا، والسرقة، والإفساد، والكذب، والغيبة، والنميمة، ونحوها، فعليه أن لا يقربها، وأن يبتعد عنها.

    ومن حفظ العبد لربه أنه إذا زل بزلّة، أو ارتكب ذنباً، أو خالف أمراً، من أوامر الله، أو عمل معصية من المعاصي فعليه أن يبادر بالتوبة، والإنابة، والاستغفار، والرجوع لربه، ومولاه، وخالقه، وموجده من العدم، والمنعم عليه، ليتم له حفظه ورعايته.

    الوقفة الثانية: هناك عدد من النصوص القرآنية والنبوية أمرت بحفظ أشياء مهمة، أو المحافظة على بعض الأمور الشرعية، أستعرض بعضاً منها:

    فمن ذلك: المحافظة على الصلاة، فقد أمر الله - سبحانه وتعالى- بالمحافظة عليها، فقال: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى)(6)، ومدح سبحانه المحافظين عليها بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)(7).

    وروى الإمام أحمد – بإسناد جيد – عن حنظلة الكاتب – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من حافظ على الصلوات الخمس: ركوعهن، وسجودهن، ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله، دخل الجنة، أو قال: وجبت له الجنة، أو قال حرم على النار)(8).

    ومن ذلك: المحافظة على الطهارة والوضوء، فالطهارة مفتاح الصلاة، وشرط لصحتها.

    روى ابن ماجه والحاكم عن ثوبان –رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين(9).

    ومما جاءت النصوص في المحافظة عليه: المحافظة على الأيمان، قال ابن رجب - رحمه الله-: (فإن الأيمان يقع الناس فيها كثيرا، ويهمل كثير منهم ما يجب بها، فلا يحفظه، ولا يلتزمه)(10).

    ومن المؤسف حقاً أن كثيراً من المسلمين صار يستعمل الأيمان لداعٍ ولغير داعٍ، وبخاصة في البيع، والشراء، والخصومات، والجدال، واللجاج، ونحو ذلك، دون مراعاة لحقوق اليمين، ودون نظر للعقوبات والنتائج لما تخلفه من آثار وخيمة في الدنيا والآخرة، يقول الله - سبحانه وتعالى-: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)(11).

    ومما تجب المحافظة عليه: الرأس وما وعى من الحواس التي منحها الله للإنسان من سمع، وبصر، وغيرهما، فلا يستعملها إلا في طاعة الله تعالى، وحفظ البطن وما حوى، وروى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما، عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى)(12).

    وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظ السمع وصيانته من سماع المحرمات، فيحفظه العبد عن ذلك، ولا يستمع إلا لما أباحه الله تعالى له، كأن يستمع لقراءة القرآن، أو إلى درس علمي، أو موعظة، أو ذكر لله تعالى، أو كلام مباح، ويتجنب سماع الكذب، والغيبة، والنميمة، وقول الزور، والفحش، والسباب.

    ومما يتأكد تجنبه سماع الأغاني الخليعة، وما يتبعها، والتي تصد عن الله، وتقسي القلب، وتقرب من الشيطان، وتزين الفاحشة، وتلهي عن الطاعة، وتسهل المعصية... إلى غير ذلك من الأمور المشينة.

    ومما يتضمن حفظ الرأس وما وعى: حفظ البصر عن النظر إلى المحرمات، واستعماله في الأمور المباحة، ومن ذلك عدم النظر إلى ما لا يحل النظر إليه من النساء الأجنبيات عن الإنسان، يقول الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنّ َ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(13).

    وكما يجب على الرجل صيانة بصره ونظره، فينبغي على المرأة أيضاً أن تحافظ على بصرها، فلا تطلقه في النظر إلى الرجال الأجانب، وهذا الحكم ينطبق على الصور الخليعة في الأجهزة المرئية، والصحف، والمجلات، ونحوها.

    ومما يتضمنه حفظ الرأس أيضاً المحافظة على اللسان، فلا يطلق المرء للسانه العنان يتكلم بما شاء من خير أو شر، دون مراعاة لما ينبغي أن يتحدث به.

    ومن ذلك عدم إطلاق لسانه في أمور الحلال والحرام دون التمعن والتثبت فيما جاء عن الله تعالى، أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أمر خطير، فمن الملاحظ أن كثيراً من الناس نصب نفسه مفتياً، وأخذ يقول على الله تعالى برأيه، وبدون علم، ولنعلم أنه قد قيل: "من قال في كتاب الله تعالى برأيه فأصاب فقد أخطأ".

    ومما تساهل فيه الناس كثيراً الاشتغال بالغيبة، والنميمة، ونقل كلام فلان وعلاّن، وصارت بعض المجالس ميدانا رحباً في أعراض المسلمين.

    ومن ذلك أيضاً: التساهل في الكذب، وقول الزور، وبخاصة في مجال الخصومات، والبيع، والشراء، ونقل الأخبار دون تثبت، ونحو ذلك.

    والحاصل أنه يجب على المسلم أن يحافظ كل المحافظة على لسانه، فقد أخرج الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة)(14)، وفي رواية للبخاري: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)(15).

    وروى الإمام أحمد وغيره من حديث أبي موسى – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من حفظ ما بين فقميه (أي لحييه) وفرجه دخل الجنة) قال المنذري: ورواته ثقات(16).

    وروى الترمذي – وحسّنه – وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من وقاه الله شرّ ما بين لحييه وشرّ ما بين رجليه دخل الجنة)(17).

    روى البخاري ومسلم وغيرهما أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)(18)، وفي رواية الترمذي وابن ماجه: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسأً يهوي بها سبعين خريفا)[19].

    الوقفة الثالثة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (والبطن وما حوى..).

    وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الشكوك والشبهات، وعن التعلق بالشهوات، وعن الإصرار على ما حرّم الله تعالى: يقول الله - سبحانه وتعالى-: (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه)(20)، ويقول سبحانه: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(21).

    وروى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (.. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)(22).

    ويتضمن حفظه من إدخال الحرام عليه من المآكل والمشارب، فيحرص كل الحرص أن لا يأكل ولا يشرب إلا ما أحله الله - سبحانه وتعالى-، وما كان من كسب حلال، فالله - سبحانه وتعالى- طيب لا يقبل إلا طيبا، وأيما جسد نبت من حرام فالنار أولى به.

    روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا)(23)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(24)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذّي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)(25).

    فمن خلال هذا نعلم أن الذي يتعامل بالحرام ويتعاطاه لم يحفظ الله تعالى، وقد عرّض نفسه لأمر خطير وعظيم.

    ومما يحفظ به العبد ربه المحافظة على فرجه، فقد أمر الله - سبحانه وتعالى- بحفظ الفروج، وقد مدح الحافظين لها، فقال سبحانه وتعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)(26)، ويقول سبحانه وتعالى في معرض ذكره لصفات المؤمنين: (وَالْحَافِظِين فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(27)، ويقول سبحانه وتعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) إلى أن قال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ)(28).

    وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)(29)، وفي رواية للحاكم قال: (من حفظ ما بين لحييه، وما بين رجليه دخل الجنة)(30).

    الوقفة الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يحفظك)، وقوله: (تجده تجاهك)، وفي رواية: (تجده أمامك).

    يفيد هذا النص أن من حفظ الله تعالى فإن الله - سبحانه وتعالى- تكفل بحفظه في الدنيا والآخرة، فمن حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله، فإن الجزاء من جنس العمل، قال ابن رجب: (حفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:

    أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، وذلك كحفظه في بدنه، وولده، وأهله، يقول الله - سبحانه وتعالى-: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)(31)، قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلوا عنه.

    ومن حفظ الله تعالى في صباه، وفي صغره وشبابه، وحال قوته حفظه الله تعالى في حال كبره وضعف قوته، ومرضه، ومتّعه بسمعه، وبصره، وحوله، وقوته، وعقله، وذكر ابن رجب أن بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله، فوثبا يوما وثبة شديدة فعوتب في ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر.

    والنوع الثاني: وهو أشرف النوعين: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان)(32) انتهى كلامه - رحمه الله-.

    وتفضيل ذلك أن الله - سبحانه وتعالى- تكفل لعبده المؤمن الذي حافظ على أوامره ونواهيه ولم يتعد حدوده بأن يحفظه في الدنيا من الشبهات التي تعتري الإنسان، والتي ربما يزيغ عن الصراط المستقيم بسببها، ويحيد عن جادة الحق فيضل مع الضالين، ويهلك مع الهالكين، من حيث يشعر أو لا يشعر، وبخاصة في هذا الزمان الذي كثرت وتنوعت فيه الشبه ، وصار لها مروّجون ودعاةٌ يثيرونها ويكثرون الجدل فيها، بقصد أو بغير قصد، ومن استسلم لهذه الشبه فعليه خطر في دينه وإيمانه.

    ومن حفظ الله أيضاً حفظه في هذه الدنيا من الشهوات المحرمة التي يزينها الشيطان للإنسان، ويسهل له الوقوع فيها، وبخاصة في هذا الوقت الذي تعددت فيه مصادر الشهوات ومواردها، فمن لم يحفظ الله تعالى لم يسلم من الوقوع فيها، ومشاركة الشيطان في ارتكابها، واقترافها، ولهذا كله كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه بأن يحفظه، وكان يعلمه لأصحابه، روى ابن حبان في صحيحه، عن عمر – رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه أن يقول: (اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا، ولا تطع فيَّ عدوا ولا حاسدا)، أي لا تستجب دعاء عدو ولا حاسد فيّ(33).

    ويقول ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى: (إَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)(34)، قال: (يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار)(35)اهـ.

    وقال الله تعالى في شأن يوسف – عليه السلام – حيث حفظ الله تعالى في صغره وشبابه: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(36).

    ومن حفظ الله لعبده أن يحفظه عند موته من الزيغ والهلاك فيتوفاه الله على شهادة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وما أحوج الإنسان في تلك اللحظات الحرجة إلى تلك الشهادة العظيمة التي يلقى بها ربه؛ لأن من لقي الله بها دخل الجنة، وحرم جسده على النار، روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك فيهما إلا دخل الجنة)(37). وروى أيضاً من حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، حرم الله عليه النار)، وفي رواية: (أدخله الله الجنة من أيّ الأبواب الثمانية)(38).

    فمن حفظ الله تعالى في هذه الدنيا حفظه الله تعالى عند الموت فيتوفاه على الإيمان، وهذه نعمة عظيمة، ومنحة كريمة، ولو لم يكن إلا هي لكفت؛ لعظمها، وحاجة كل إنسان إليها في تلك الساعة العظيمة التي ينتقل فيها من دار الدنيا إلى دار الآخرة، لا أهل، ولا مال، ولا صاحب، ولا عيال، فليس معه إلا عمله، فإن كان صالحاً فليبشر بحفظ الله ورعايته له، وإن كان غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه.

    ومن حفظ الله تعالى أيضاً لعبده أن يحفظ بعد موته في القبر والحشر، وفي الدار الآخرة، ومن المعلوم أن الإنسان إذا مات يبادر أهله وذووه لقبره في تلك الحفرة الصغيرة الموحشة، يأتون به مسرعين، وما هي إلا لحظات ثم يفارقونه ويودعونه، تاركين إياه بمفرده، فيبتعد عنه الأهل والأصحاب، ويبقى معه عمله، فمن كان عمله صالحاً نظيفاً في هذه الدنيا، حافظاً لله - عز وجل-، فليبشر بخير منزل ينزله، فيكون هذا القبر روضة من رياض الجنة، ومن كان غير ذلك فليبشر بالذي يسوؤه، فستكون هذه الحفرة حفرة من حفر النار والعياذ بالله.

    فمن من يضمن لنفسه حيلة في تلك الحال؟ ومن يضمن أن يكون قبره روضة من رياض الجنة؟ بل من يضمن لنفسه أن يخرج من هذه الدنيا لا له ولا عليه؟ إن الأمر جد خطير وعظيم، وإن الناظر في حياة كثير من المسلمين اليوم يجد أن الاستعداد للقبر، وضمته، ووحشته ضعيف، فكثير من المسلمين اشتغل بأموره الدنيوية، وتشاغل بها عن طاعة الله - عز وجل-، ولم يجلس مع نفسه لحظات يفكر فيها بمصيره، وأين سيؤول، ولم يحاسب نفسه، ويعرض أعماله على ميزان شريعة الله فما كان موافقا لها فيحمد الله تعالى، وما كان غير ذلك فيجدد التوبة لله - عز وجل- ويقلع عما يرتكبه من معاصي وآثام، فكثير من المسلمين تساهل في كثير من المحرمات، وارتكب كثيراً من المنكرات، ولم يعلم أن كل صغيرة وكبيرة عملها في هذه الدنيا سيجازى عليها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)(39).











    (1) رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة 4/76، رقم الباب 22، ح2635.

    (2) رواه الإمام أحمد 1/482، ح 2664، وأبو يعلى في مسنده ح2556.

    (3) جامع العلوم والحكم 1/462.

    (4) سورة البقرة، الآية: 238.

    (5)

    (6) سورة البقرة، الآية 238.

    (7) سورة المعارج، الآية: 34.

    (8) رواه الإمام أحمد 5/332، ح 17881-17882.

    (9) رواه الإمام أحمد في مسنده 6/381، ح 21930، 5/282، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب المحافظة على الوضوء 1/101، ح 277.

    (10) جامع العلوم والحكم 1/463.

    (11) سورة المائدة، آية: 89.

    (12) رواه الإمام أحمد في مسنده 1/387، والترمذي في كتاب القيامة 4/54 ح 2575.

    (13) سورة النور، الآيتان: 30، 31.

    (14) رواه الحاكم في المستدرك 4/357 وصححه، ووافقه الذهبي.

    (15) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان 4/2032، ح 6474.

    (16) رواه الإمام أحمد 4/398، وفيه رجل لم يسم، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10/298، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني بنحوه، ورجال الطبراني وأبي يعلى ثقات، وفي رجال أحمد راوٍ لم يسم، وبقية رجاله ثقات اهـ.

    (17) رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان 4/31، ح 2521.

    (18) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان 4/2032، ح 6477، ومسلم في كتاب الزهد، باب حفظ اللسان، ح 2998، 4/2290.

    (19) رواه الإمام أحمد في مسنده 2/355، 533، والترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء من تكلم بالكلمة ليضحك الناس 3/381، ح 2416.

    (20) سورة البقرة، آية: 235.

    (21) سورة الإسراء، الآية: 36.

    (22) رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 1/41، ح 52، ومسلم في كتاب المساقاة والمزارعة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ح 1599، 3/1219.

    (23) سورة المؤمنون، الآية: 51.

    (24) سورة البقرة، الآية: 172.

    (25) رواه مسلم في كتاب الزكاة، باب فضيلة الإنفاق، ح1015، 2/703.

    (26) سورة النور، الآيات: 30، 31.

    (27) سورة الأحزاب، الآية: 35.

    (28) سورة المؤمنون، الآيات 1 – 6.

    (29) تقدم تخريجه.

    (30) تقدم تخريجه.

    (31) سورة الرعد، الآية: 11.

    (32) جامع العلوم والحكم 1/465-468 بتصرف.

    (33) رواه ابن حبان في صحيحه، ح 934، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الحاكم 1/525.

    (34) سورة الأنفال، الآية: 24.

    (35) نقلاً من كتاب: جامع العلوم والحكم، لابن رجب 1/470.

    (36) سورة يوسف، الآية: 24.

    (37) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً ح27، 1/57.

    (38) رواه مسلم في كتاب الصلاة، باب الإمساك على الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان ح382، 1/289.
    (39) سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي

    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (10)




    مراقبة الله( 2 – 4 )





    الفائدة الثالثة: قوله : (احفظ الله تجده تجاهك)، وفي رواية أخرى: (احفظ الله تجده أمامك).


    يقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله-: (معناه أن من حفظ حدود الله، وراعى حقوقه، وجد الله معه في كل أحواله، حيث توجّه، يحوطه، وينصره، ويحفظه، ويوفقه، ويسدده، يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(1)، قال قتادة: من يتق الله يكن معه، ومن يكن معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، وكتب بعض السلف إلى أخٍ له: أما بعد، فإن كان الله معك فمن تخاف؟ وإن كان عليك فمن ترجو؟)(2).

    وعليه إن من حفظ الله وجده تجاهه، وأمامه في كل شيء، في الدنيا والآخرة، ولذا لما حفظ أنبياء الله ربهم حفظهم وكان معهم، يقول - سبحانه وتعالى- لموسى وهارون -عليهما السلام-: (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)(3)، ويقول حكاية عن موسى: (قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)(4)، وقال النبي لأبي بكر –رضي الله عنهما – وهما في الغار عند هجرتهما إلى المدينة: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا)(5).


    وإذا كان هذا الشأن في الدنيا، ففي الآخرة كذلك عندما يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، في ذلك اليوم العصيب الشديد الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم سكارى، ولكن عذاب الله شديد.

    ما أحوج الإنسان في ذلك اليوم إلى حفظ الله تعالى، ورعايته له؛ لينجو من أهوال ذلك اليوم، يقول الله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)(6).

    فمن حفظ الله تعالى في دنياه حفظه الله في آخرته، فرزقه الجنة، ووقاه من النار (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(7).

    إن المتأمل في أحوال كثير من المسلمين يجد أنهم لم يحفظوا الله تعالى في هذه الدنيا، فيعرضون أنفسهم لعدم حفظ الله لهم في الدنيا والآخرة.



    الفائدة الرابعة: قوله : (تعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة..).


    يقول ابن رجب - رحمه الله-: (يعني أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرّف بذلك إلى الله، وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة، فعرفه ربه في الشدة كما تعرف إليه في الرخاء، فنجاه من الشدائد بهذه المعرفة، وهذه معرفة خاصة، تقتضي قرب العبد من ربه، ومحبته له، وإجابته لدعائه، فمعرفة العبد لربه نوعان:

    أحدهما: المعرفة التامة، وهي معرفة الإقرار به، والتصديق، والإيمان، وهي عامة للمؤمنين، الثاني: معرفة خاصة تقتضي ميل القلب بالكلية، والانقطاع إليه، والأنس به، والطمأنينة بذكره، والحياء منه، والهيبة له)(8).

    وقال أيضاً: (ومعرفة الله لعبده نوعان: معرفة عامة، وهي علمه تعالى بعباده، واطلاعه على ما أسروه وما أعلنوه، كما قال - سبحانه وتعالى-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)(9)، وقال – سبحانه-: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ)(10).

    ومعرفة خاصة، وهي تقتضي محبته لعبده، وتقريبه إليه، وإجابة دعائه، وإنجائه من الشدائد، وهي المشار إليها بقوله فيما يحكي عن ربه: (ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنه)(11)، وفي رواية: (ولئن دعاني لأنجينه).


    وروى الترمذي من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه – عن النبي أنه قال: (من سرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء)(12).




    الفائدة الخامسة: أن من عرف الله في حال شبابه عرفه ربه - جل وعلا- في حال هرمه وضعفه، ومن عرف الله في حال صحته عرفه الله في حال مرضه، ومن عرف الله في حال قوته ونشاطه عرفه الله تعالى في حال ضعفه، ومن عرف الله تعالى في حال صغره عرفه الله في حال كبره، ومن عرف الله في الدنيا عرفه الله في الآخرة، ومن عرف الله حال رخائه عرفه الله في حال الشدة.

    يقول الضحاك بن قيس - رحمه الله-: "اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس – عليه الصلاة والسلام – كان يذكر الله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(13)، أما فرعون الطاغية الذي كان ناسياً لذكر الله تعالى فلما أدركه الغرق قال: آمنت، فقال الله تعالى: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(14) " (15).

    وروى الشيخان في صحيحهما عن عبد الله بن عمر بن الخطاب –رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله يقول: (انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالاً – (أي لا أقدم عليهما في الشرب أحداً) – فنأى بي طلب الشجر يومًا، فلم أُرِح – أي لم أرجع – عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما، وأن أغبق قبلهما أهلاً ولا مالا، فلبثت – والقدح على يدي – أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبية يتضاغون عند قدميّ – أي يصيحون من الجوع – فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه.


    قال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحبّ الناس إليّ، - وفي رواية: كنت أحبها حبّاً كأشد ما يحب الرجال النساء – فأردتها على نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمّت بها سنة من السنين – أي نزلت بها سنة من السنين المجدبة – فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار، على أن تخلّي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها – وفي رواية: (فلما قعدت بين رجليها) – قالت: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.

    وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمّرت أجره، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدّ لي أجري، فقلت: كلّ ما ترى من أجرك: من الإبل، والغنم، والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي؟ فقلت: لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنّا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)(16).

    فانظر إلى حال هؤلاء الثلاثة الذين عرفوا الله - سبحانه وتعالى- في رخائهم فعرفهم وقت الشدة، ولم ينفعهم إلا توسّلهم إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة.









    (1) سورة النحل، الآية: 128.

    (2) جامع العلوم والحكم 1/471.

    (3) سورة طه، الآية: 46.

    (4) سورة الشعراء، الآية: 62.

    (5) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم 3/1125، ح 3653، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق، ح 2381، 4/1854.

    (6) سورة ق، الآيات: 31-35.

    (7) سورة آل عمران، الآية: 133.

    (8) جامع العلوم والحكم 1/472، 473.

    (9) سورة ق، الآية: 16.

    (10) سورة النجم، الآية: 32.

    (11) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع، 4/2039، ح 6502.

    (12) رواه الترمذي، ح 3382، والطبراني في الدعاء رقم 44، وقال الترمذي عن الحديث: (هذا حديث غريب)، ورواه الحاكم في المستدرك 1/544.

    (13) سورة الصافات، الآيات: 143، 144.

    (14) سورة يونس، الآية: 91.

    (15) نقلاً من: جامع العلوم والحكم 1/475.
    (16) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب إجابة دعاء من بر والدين 4/1892، ح 5974.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي


    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (11)




    مراقبة الله( 3 – 4 )




    الفائدة السادسة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله...)، هذه جملة عظيمة، كلماتها قليلة، ومعانيها كبيرة، وفيها عدة وقفات:
    الوقفة الأولى: أن هذه الجملة موافقة لقوله - سبحانه وتعالى-: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(1)، فإن السؤال دعاؤه، والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة، فقد روى الترمذي من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الدعاء هو العبادة)(2).
    فتضمن هذا الكلام أن يُسأل الله ولا يسأل غيره، وأن يستعان بالله دون غيره.
    فلنلجأ إلى الله - سبحانه وتعالى- وحده بالسؤال، فقد قال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)(3)، وقال - جل وعلا-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(4).
    الوقفة الثانية: دلت هذه الجملة على سؤل الله - عز وجل- دون خلقه، وهذا السؤال هو المتعين على العباد؛ لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل، وفيه بيان حاجته وفقره إليه، كما أن فيه اعترافاً بقدرة المسؤول على نيل المطلوب، وإجابة السؤال، ودفع الضرر، وجلب النفع، ودرء المفسدة، وكل ذلك لا يصلح له إلى الله وحده لا شريك له، يقول سبحانه: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ)(5).
    وروى البخاري ومسلم وغيرهما، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله - عز وجل- يقول: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني)(6).
    فيفهم من هذه النصوص وغيرها أنه ينبغي للمسلم أن لا يلجأ بسؤاله، ودعائه، واستعانته، واستغاثته، إلا بالله - سبحانه وتعالى- فهو وحده المستحق لذلك، وهو الذي يجيب دعوة الداع إذا دعاه، ومن هنا نعلم خطأ من يلجأ بحاجاته وسؤاله إلى غير الله، أو يتوسل بغيره له، ومن فعل ذلك كان على خطر عظيم في دينه، فالله *- سبحانه وتعالى- لم يجعل بينه وبين خلقه وسائط، بل هو قريب يسمع دعاء الداع: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(7).
    الوقفة الثالثة: اعلم أن الله - سبحانه وتعالى- يحب أن يُسأل، وأن يُلحَّ عليه في السؤال والدعاء والطلب؛ لأنه جواد كريم، بل يغضب - سبحانه وتعالى- من العبد الذي لا يسأله أو يبحث عن واسطة بينه وبينه، فالدعاء والسؤال لله - سبحانه وتعالى- من كمال التوحيد لله - جل وعلا-، يقول - سبحانه وتعالى-: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)(8).
    وروى مسلم وغيره عن أبي ذر – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: (يا عبادي، إنّي حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضالٌ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضُرّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)(9).
    وروى الترمذي – بإسناد حسّنه – عن أنس – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (قال الله تعالى: يابن، آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يابن، آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)(10).
    من هذه النصوص الكريمة نعلم أن الله - سبحانه وتعالى- قريب مجيب، فلا يبقى على المسلم إلا أن يلجأ إلى الله وحده لا شريك له، وأن يخلص دعاءه له، صدقاً من قلبه؛ ليتقبل الله دعاءه، ويستجيب لمسألته، ويعطيه مطلوبه، فالله كريم جواد، خزائنه ملأى لا تنفد: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)(11).
    فهل بعد هذا كله يتجه الناس إلى المخلوق الضعيف ليسألوه، أو يجعلوه واسطة بينهم وبين ربهم، ورحم الله القائل:
    لا تسألن بُني آدم حـاجةً
    الله يغضب إن تركت سؤاله
    وسَلِ الذي أبوابه لا تُحجَبُ
    وبُنيّ آدم حين يُسأل يغضب
    الوقفة الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا استعنت فاستعن بالله ...).
    إن هذه الجملة موافقة لقوله - سبحانه وتعالى-: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(12)، ففيها أن الاستعانة لا تكون إلا بالله - سبحانه وتعالى-، وذلك أن العبد عاجز عن الاستقلال، بجلب مصالحه، ودفع مضاره، ولا معين له على جلب مصالح الدين والدنيا إلا الله وحده، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، قال ابن رجب - رحمه الله-: (وهذا تحقيق معنى قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإن المعنى: (لا تحوّل للعبد من حال إلى حال ولا قوة له على ذلك إلا بالله - سبحانه وتعالى-)(13).

    الفائدة السابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف).

    وهذا النص فيه عدة وقفات:
    الأولى: أن المراد بهذه الجملة – كما يقول ابن رجب - رحمه الله – (إنما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه، فكله مقدر عليه، ولا يصيب العبد إلا ما كتب له من مقادير ذلك في الكتاب السابق، لو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعاً، وقد دلّ القرآن على مثل هذا في قوله - عز وجل-: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)(14)، وقوله - سبحانه وتعالى-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)(15)، وقوله - جل وعلا-: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم)(16). اهـ كلامه - رحمه الله- (17).
    فعلم منه أن كل شيء يحصل في هذه الحياة يصيب الإنسان من خير أو شر إنما هو بتقدير الله - سبحانه وتعالى-، سواء رضي العبد بذلك أو لم يرضَ، فعلى المسلم أن يؤمن بذلك تمام الإيمان، وأن يوقن به تمام اليقين؛ ليتحقق الركن السادس من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالقدر خيره وشره.
    الوقفة الثانية: يقول الحافظ ابن رجب- رحمه الله-: (واعلم أن جميع مدار هذه الوصية على هذا الأصل، وما ذكر قبله وبعده فهو متفرع عليه وراجع إليه، فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر، ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد ألبته، علم حينئذ أن الله وحده هو الضار، النافع، المعطي، المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه - عز وجل-، وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده، فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع، ودفع المضار، ولهذا ذمّ الله – سبحانه- من يعبد من لا ينفع، ولا يضر، ولا يغني عن عابده شيئاً، فمن يعلم أنه لا ينفع، ولا يضر، ولا يعطي، ولا يمنع غير الله، أوجب له ذلك إفراده بالخوف، والرجاء، والمحبة، والسؤال، والتضرع، والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعا، وأن يتقي سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً، وإفراده بالاستعانة، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدة، وحال الرخاء، خلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء من يرجون نفعه من دونه، يقول الله - سبحانه وتعالى-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُو نَ)(18)، اهـ(19).
    الوقفة الثالثة: أن الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان، لا يتم إيمان الإنسان إلا به، ولا يعني هذا الإيمان الاستسلام للشبهات والرغبات، والخوض في الانحراف والضلالات، والاستمرار في الذنوب والمعاصي، كلا، فإنا لذي أمرنا أن نؤمن بهذا، وأمرنا أن نعمل، وأن نجد ونجتهد، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوة الخلق أجمعين، عمل، وأمرنا بالعمل، وسعى، وبذل الجهد، وأمرنا بذلك، يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويجاهد في سبيل الله حتى يسيل دمه، ولم يتواكل على القضاء والقدر، وروى مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)(20).
    فإن من ترك الأسباب، وسمح لنفسه بالخوض في الشهوات والرغبات، إنما هو ضعف وتكاسل، وجُبن وتخاذل، نسأل الله العافية.





    (1) سورة الفاتحة، الآية: 5.
    (2) رواه الترمذي في سننه، ح 3371، والطبراني في الدعاء رقم 8، وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.
    (3) سورة غافر، الآية: 60.
    (4) سورة البقرة، الآية: 186.
    (5) سورة يونس، الآية: 107.
    (6) رواه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (ويحذركم الله نفسه) 5/2310، ح 7405، ورواه مسلم في كتاب التوبة، باب الحض على التوبة والفرح بها، ح 2675، 4/2061.
    (7) سورة البقرة، الآية: 186.
    (8) النساء، الآية: 2.
    (9) رواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، ح 2577، 4/1994.
    (10) رواه الترمذي في كتاب الدعوات، باب غفران الذنوب مهما عظمت، ح 3534، ورواه الدارمي في سننه 2/322، وأحمد في المسند 5/172.
    (11) سورة النحل، آية: 96.
    (12) سورة الفاتحة، الآية: 5.
    (13) جامع العلوم والحكم ص 482.
    (14) سورة التوبة، الآية: 51.
    (15) سورة الحديد، الآية: 22.
    (16) سورة آل عمران، الآية: 154.
    (17) جامع العلوم والحكم 1/484.
    (18) سورة الزمر، الآية: 38.
    (19) جامع العلوم والحكم 1/484، 485.
    (20) رواه مسلم في كتاب القدر، باب خلق الآدمي في بطن أمه، ح 2647، 4/2040.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي


    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (12)




    مراقبة الله( 4 – 4 )





    الوقفة الرابعة: إن المؤمن في قبول القضاء والقدر على درجات، فمنها: الرضا بذلك وعدم السخط، وهذه هي الدرجة العالية في هذا الإيمان، يقول الله - سبحانه وتعالى-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)، قال علقمة: هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلّم لها ويرضى. اهـ(1).

    وروى الترمذي عن أنس – رضي الله عنه – وحسّنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط)(2)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: (أسألك الرضا بعد القضاء)(3)، إن الذي يكون بهذه الدرجة العالية، فله الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، يقول الله - سبحانه وتعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً)(4)، قال بعض السلف: الحياة الطيبة هي الرضا والقناعة.

    أما الدرجة التي تليها، فهي الصبر على الابتلاء لمن لم يستطع الرضا بالقضاء، فالرضا فضل مندوب إليه، والصبر واجب حتم، وله فضل عظيم، وفيه خير كثير، وأجر جزيل، نفصله في المسائل التالية:

    المسألة الأولى: الصبر هو: حبس النفس عن الجزع والتسخّط، ومنعها عن محارم الله، وإلزامها بأداء فرائض الله، يدل عليه ما رُوي عن ابن عباس –رضي الله عنهما – أنه قال: الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه: صبر على أداء فرائض الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى. اهـ كلامه - رضي الله عنه-.

    يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى-: (الصبر حبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعصية، وحبس النفس عن التسخط بالمقدور، فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة، فإذا قام به العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوباً، فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضراء كما له عبودية في السراء، وله عبودية عليه فيما يكره كما له عليه عبودية فيما يحب) اهـ كلامه- رحمه الله-.

    المسألة الثانية: من خلال ما سبق يتبين أن الصبر على أقسام ثلاثة:

    القسم الأول: صبر على طاعة الله - سبحانه وتعالى-، وذلك أن الطاعة تكليف من الله - سبحانه وتعالى- لعباده بأن يقوموا بهذه الطاعة خير قيام، فتحتاج هذه الطاعة إلى مجاهدة النفس والصبر على القيام بها والمحافظة عليها، والمداومة على فعلها، واستشعار الإخلاص والصدق أثناء أدائها، ومن ذلك: الصبر على توحيد الله تعالى، وعدم الإشراك به، وإخلاص العبادة له، وكذلك القيام بالصلاة، فرائضها ونوافلها، في أوقاتها مكتملة الأركان والواجبات، وغير ذلك من الطاعات، ويدخل فيه ما يعمله الفرد في وظيفته العادية، فالأستاذ يحتاج إلى صبر في أداء وظيفته على الوجه المطلوب، فيصبر على تلاميذه، ويتحمل التعب والمشقة في ذلك، والطبيب يحتاج على صبر في معايشة المرضى وعلاجهم، والوالدان يحتاجان إلى صبر في تربية أولادهم، وتنشئتهم على الصلاح والتقوى، والمرأة تحتاج إلى صبر في القيام بوظيفتها الحقيقية من تربية أولادها، والاهتمام بهم، وكذا أعمال بيتها، وخدمة زوجها، وطاعته، والداعية، والآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، يحتاجون إلى صبر في تبليغ دعوتهم إلى الناس، برفق وحكمة ولين، وفيما يقول ويعمل، وهكذا، فجميع الطاعات تحتاج إلى صبر، وتحمّل، وعدم تضجر وقلق وتأفّف.


    القسم الثاني: الصبر على معصية الله تعالى خوفا من الله تعالى، ورجاء ثوابه، وحياء منه - سبحانه وتعالى- أن يستعين بنعمه على معاصيه، فكثير من المعاصي والذنوب، وكثير من المخالفات تهواها النفس وترغبها، وكثير منها تلبي شهوة النفس، ألا ترى المغتاب يتلذذ بتجريح فلان وعلاّن؟ وألا ترى الزاني يلبّي شهوة نفسه الجامحة؟ وألا ترى النائم عن صلاة الفجر يلبّي رغبة النوم؟ وهكذا... فشهوات النفس ورغباتها في المعاصي كثيرة، ولكنها تحتاج إلى صبر ومجاهدة، فمن يصبر – مثلاً – على ضبط لسانه عن الكلام المحرّم فلا يغتاب، ولا يسعى بالنميمة، ولا يكذب، ولا يساعد بقوله ظالما، ولا يجادل بالباطل، ولا يسخر بالمسلمين، ولا يستهزئ بهم، ولا يشهد زورا، ولا يحلف كاذبا، ولا يؤذي مسلما، فإنه بذلك يتّقي آفات لسانه، ويكون ممن صبر على ذلك، ومن يصبر على حفظ فرجه فلا يستعمله إلا فيما أحله الله، فإنه يأمن على سلامة عرضه، ويحفظه من الضياع، ومن يصبر على عدم أكل الحرام فلا يتعامل فيه، فإنه يسلم من تنمية جسده على الحرام، وهكذا.

    القسم الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة، وذلك أن الإنسان في هذه الدنيا معرض لأن يصاب بمصائب كثيرة، سواء كان في نفسه أو أسرته أو ماله، وسواء كان ذلك بمرض، أو فقر، أو غنى مُطغٍ، وغير ذلك، فالمؤمن مطالب بأن يصبر على ما قدره الله تعالى عليه وقضاه، وأن لا يتسخط. فيكيف نفسه، ويحبسها عن التسخط، مع وجود الألم وتمني زوال ذلك، وأن يكف جوارحه عن العمل بالجزع.

    إن هذا الصبر من مقومات الإيمان بالله - سبحانه وتعالى-، ذلك أنه إذا تيقنت النفس أن ما حصل لها إنما هو بتقدير الله - سبحانه وتعالى- وبقضائه، والله - جل وعلا- يبتلي عباده في هذه الدنيا بأنواع البلايا والمحن، وخير الناس كلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحبهم إلى الله - عز وجل-، ومع ذلك ابتلي كثيراً، وأوذي كثيرا، وفي أحواله كلها – صلوات الله وسلامه عليه – كان صابراً محتسباً، بل كان راضياً بقضاء الله - جل وعلا-، شاكراً لنعمه.

    المسألة الثالثة: اعلم أنه ورد ذكر الصبر في كتاب الله تعالى في أكثر من تسعين موضعاً، بصيغ مختلفة، تارة بالحث عليه، والترغيب فيه، وتارة بالترهيب من عدمه، وتارة بذكر جزاء الصابرين، وغير ذلك، وهنا استعرض بعضاً من ذلك:

    يقول - سبحانه وتعالى- آمراً رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)(5)، ويقول - سبحانه وتعالى-: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(6).

    كما بيّن - سبحانه وتعالى- أن الصبر من صفات الرسل السابقين، فكانت نتيجة هذا الصبر حميدة، وعواقبه سليمة، يقول - جل وعلا-: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ)(7)، ويقول – سبحانه- في بيان عاقبة الصبر: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِ مْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(8)، ويقول - جل وعلا-: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّه ُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(9)، ويقول – سبحانه-: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُو هُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ)(10)، ويقول - جل وعلا- في معرض صفات المؤمنين ومالهم: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَ ا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً)(11)، ويقول – سبحانه-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)(12)، ويقول - جل وعلا- في عرض ما أعده الله لعباده الأبرار الصادقين الصابرين: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراًً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا)(13) إلى آخر الآيات.

    ولأهمية الصبر وعظم شأنه فقد ربط الله - سبحانه وتعالى- بينه وبين الصلاة، ثاني أركان الإسلام، يقول - سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(14)، ويقول - جل وعلا-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)(15)، كما جعل - سبحانه وتعالى- الصبر من أعظم ما يوصي به المؤمنون بعضهم بعضا، يقول - جل وعلا-: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(16)، ويقول سبحانه: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ )(17).



    * * *



    إن طاعة الله - سبحانه وتعالى-، والكف عن معاصيه، وما يحصل من أقداره المؤلمة، كل ذلك يحتاج إلى صبر مستمر، ولا يُنال أجر هذا الصبر إلا بالاستمرار عليه، ولذا علق النصر والظفر بالصبر، فالذي يصاب بمصيبة، أو يقدر عليه أمر من الأمور المكروهة للنفس، كمن يصاب بمرض، أو بموت قريب، أو بجائحة مالية، ونحو ذلك، فإذا لم يتذرع بالصبر فكأنه اعترض على قدر الله - سبحانه وتعالى-، وبالتالي قد يضعف إيمانه، ويتزعزع دينه، ويضعف يقينه بربه، وهنا يخسر شيئاً كثيراً من أمور الدنيا والآخرة، وهو لا يكسب شيئاً، إذ لا يستطيع أن يحيي الميت، أو يشفي المريض، أو يرد المال، ونحو ذلك.

    المسألة الرابعة: السنة المطهرة مليئة بالنصوص النبوية الكريمة، القولية والفعلية التي جاءت بالحث على الصبر بأنواعه الثلاثة: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معاصي الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة، وهنا أورد بعضا منها:

    ما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري، -رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن – أو تملأ – ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها)(18).

    وما رواه مسلم أيضاً، عن أبي يحيى صهيب بن سنان – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره له كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)(19).

    وروى البخاري ومسلم عن أبي زيد بن أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحبّه وابن حبّه – رضي الله عنهما – قال: أرسلت بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ابني قد احتضر – أي: حضرته مقدمات الموت – فاشهدنا، فأرسل يقرئ السلام، ويقول: (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب)، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينّها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال - رضي الله عنهم-، فرُفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبيّ فأقعده في حجره، ونفسه تقعقع – أي: تتحرك وتضطرب، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال: (هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده)، وفي رواية: (في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء). متفق عليه(20).

    وروى البخاري ومسلم، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر، فقال: (اتقي الله واصبري)، فقالت: إليك عني، فإنك لم تُصَب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوّابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، متفق عليه، وفي رواية لمسلم: (تبكي على صبيٍّ لها)(21).

    وروى البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون، فأخبرها أنه كان عذاباً يبعثه الله تعالى على من يشاء، فجعله الله تعالى رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد(22).

    وروى البخاري ومسلم، عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس - رضي الله عنهما-: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أُصْرَع، وإني أتكشف، فادع الله تعالى لي، قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك)، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها) متفق عليه(23).

    المسألة الخامسة: الصبر بأنواعه الثلاثة سمة صحابة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وأخبارهم في ذلك كثرة ومشهورة، وكتب الحديث والسير وغيرها مليئة بذلك، ومن ذلك ما روي في قصة آل ياسر، فقد أخرج الطبراني – بسندٍ رجاله ثقات – والحاكم والبيهقي وغيرهم عن جابر – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ بعمار وأهله وهم يعذبون، فقال: (أبشروا آل عمار آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذَون في الله تعالى، فقال لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).

    وأخرج الحاكم وغيره عن عثمان – رضي الله عنه – قال: بينما أنا أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبطحاء – بطحاء مكة – إذ بعمار وأبيه وأمه يعذبون في الشمس ليرتدوا عن الإسلام، فقال أبو عمار: يا رسول الله، الدهر هكذا، فقال: (صبراً يا آل ياسر، اللهم اغفر لآل ياسر).

    وروي أن أول شهيدة في الإسلام أمّ عمار سمية، طعنها أبو جهل بحربة في قُبلها فماتت، رواه أحمد والحاكم وغيرهما.

    ألا فلنقتدِ بهم، ولنأس بفعلهم، ولنمش على منهجهم..

    فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التّشبُّه بالكرام فلاحُ











    (1) نقلاً من: جامع العلوم والحكم 1/486.

    (2) رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، ح 2398، ورواه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، ح 4021.

    (3) هو قطعة من حديث صحيح مطوّل، رواه عن عمار بن ياسر: النسائي 3/54، 55 والحاكم في المستدرك 1/524، 525، وصححه ابن حبان.

    (4) سورة النحل، الآية: 97.

    (5) سورة الأحقاف، الآية: 35.

    (6) سورة النحل، الآيات 126 – 128.

    (7) سورة الأنعام، الآية: 34.

    (8) سورة الرعد، الآيات: 22-24.

    (9) سورة النحل، الآيتان: 41-42.

    (10) سورة المؤمنون، الآيات: 109 – 111.

    (11) سورة الفرقان، الآيات: 74-77.

    (12) سورة السجدة، الآيتان: 23، 24.

    (13) سورة الإنسان، الآيات: 5- 15.

    (14) سورة البقرة، الآية: 153.

    (15) سورة البقرة، الآيتان: 45، 46.

    (16) سورة العصر، الآيات: 1-3.

    (17) سورة البلد، الآية 17.

    (18) رواه مسلم في كتاب الطهارة، باب الوضوء، ح 223، 1/203.

    (19) رواه مسلم في كتاب الزهد، باب المؤمن كله خير، 2999، 4/2295.

    (20) رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما يرخّص من البكاء في غير نوح 1/383 رقم الباب 32، رقم الحديث 1284، ورواه مسلم في كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، 923، 2/635.

    (21) رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب زيارة القبور 1/383، ح 1283، ورواه مسلم في كتاب الجنائز، باب الصبر عند الصدمة الأولى، ح 626، 2/637.

    (22) رواه البخاري في كتاب الطيب، باب أجر الصابر على الطاعون 4/1832، ح 5734.

    (23) رواه البخاري في كتاب المرَى، باب فضل من يصرع من الريح 4/1809، ح 5652، ورواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، ح 4575، 4/1993.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي


    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (13)




    خطورة التعامل مع الكهنة والعرافين ( 1- 2 )






    عن صفية، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أتى عرّافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)(1).

    * * *

    أهمية الحديث:

    هذا الحديث يبحث عن موضوع مهم، يمس حياة كثير من الناس ابتلاهم الله - سبحانه وتعالى- بملاحقة الكهان، والعرّافين، والمشعوذين لمعرفة مستقبل حياتهم – كما يزعمون – أو لشفاء أمراضهم والتداوي عندهم، أو حلّ مشكلاتهم، وما يعترضهم من العقبات.

    نقف مع هذا الحديث الوقفات الآتية:

    الأولى: ورد هذا الحديث بهذه الرواية بلفظه السابق، كما جاء بروايات وألفاظ أخرى، نعرض بعضاً منها:

    ما رواه الإمام أحمد والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أتى عرافاً أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -)(2)، قال الحاكم: صحيح على شرطهما، وقال الذهبي: إسناد قوي.

    وروى أبو داود في سننه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أتى كاهنا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -)(3).

    وروى البزار –بإسناد جيد – والطبراني – بإسناد حسن – عن عمران بن الحصين، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس منا من تطيّر أو تُطير له، أو تكهن له، أو سحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -)(4).

    الثانية: مرّ معنا في الروايات السابقة بعض المصطلحات، نوضّحها في الآتي:

    قوله: (من أتى عرّافاً) العرّاف هو: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق، ومكان الضالة، ونحو ذلك، قاله البغوي - رحمه الله تعالى-(5).

    وقوله: (من أتى كاهناً) فالكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل: هو الذي يخبر عما في الضمير.

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (العراف اسم للكاهن، والمنجم، والرمال، ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق)(6).

    ويقول ابن القيم - رحمه الله-: (من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفا وعرّافا، والمقصود من هذا معرفة أن من يدعي علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف، ومنه ما هو من الشياطين، ويكون بالفأل، والزجر، والطير، والضرب بالحصى، والخط في الأرض، والتنجيم، والكهانة، والسحر، ونحو هذا من علوم الجاهلية، ونعني بالجاهلية: كل من ليس من أتباع الرسل كالفلاسفة، والكهان، والمنجمين، وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي - صلى الله عليهوسلم -، وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنا، وعرافا، أو ما في معناها، فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد)(7) اهـ كلامه - رحمه الله-.

    الثالثة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أتى عرّافاً فسأله عن شيء...).

    ظاهر هذا اللفظ أن الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله، سواء صدقه أو شك في خبره، فمن ذهب إلى عرّاف - ولو لم يصدقه- فيدخل في الوعيد الشديد؛ لأن مجرد الإتيان إليهم منهي عنه.

    روى مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت يا رسول الله: إن منا رجالا يأتون الكهان، قال: (فَلاَ تَأْتِهِمْ)(8).

    ولأنه إذا شك في خبره فقد شك أنه لا يعلم الغيب، وذلك موجب للوعيد، بل يجب عليه أن يقطع، ويعتقد أنه لا يعلم الغيب إلا الله.

    من هنا نعلم أنه يجب على المسلم أن يبتعد كل البعد عن هؤلاء العرافين، أو الكهان، أو الدجالين، الذين يلبّسون على الناس أمور دينهم، ويشككونهم في معتقداتهم، وفي علاقتهم بربهم وخالقهم، ويضعفون يقينهم وإيمانهم بالله - عز وجل-.

    الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لم تقبل له صلاة أربعين يوماً...).

    قال النووي: (معناه أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه، ولا يحتاج معها إلى إعادة). اهـ(9).

    الخامسة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -).

    قال أهل العلم: ظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان؛ لاعتقاده أنه يعلم الغيب، وسواء كان ذلك من قبل الشياطين، أو من قبل الإلهام، لاسيما وأن غالب الكهان في وقت النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين.

    إن حيل العرافين والكهان كثيرة، وأحوالهم متعددة، فينبغي للمسلم الحذر كل الحذر منهم، ومن أفعالهم، فكما رأينا الوعيد الشديد لمن أتاهم، أو صدّق فعالهم، فكيف إذن بمن يتعاطى هذه الأفعال!

    وإنه لمن المؤسف حقا أن تجد بعض المسلمين اليوم ممن ضعف إيمانه بربه، وتزعزع يقينه بخالقه يلجأ في مشكلاته وأحواله، وفي خوفه من مستقبله، إلى هؤلاء الكهان، فيقف عند بابهم، ولو من خلال اتصال هاتفي، أو في شاشة فضائية، مستجديا له، ليحلُّ له ما وقع فيه، أو يطلب منهم شفاء لمرضه، أو مريضه، أو ليتنبؤوا له بما سيجري له في مستقبل أيامه، فمن فعل ذلك فقد ارتكب أمراً خطيراً، وجرماً كبيراً، نعوذ بالله من الخذلان.












    (1) رواه مسلم في كتاب السلام، باب تحريم الكهانة، ح2230، 4/1751، ورواه الإمام أحمد في المسند 4/68، 5/380.

    (2) رواه الترمذي في كتاب الطهارة، رقم 135، وابن ماجه في كتاب الطهارة، باب النهي عن إتيان الحائض، 1/209، ح 639، والحاكم في المستدرك 1/8.

    (3) رواه أبو داود في كتاب الطب، باب في الكاهن 4/225، ح 3904، ورواه الإمام أحمد في المسند 2/108.

    (4) ذكره المنذري في الترغيب والترهيب 4/52، وقال: رواه البزار بإسناد جيد، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب الطب، باب في السحر والكهانة 5/120، وقال: رواه البزار والطبراني في الأوسط، وفيه زمعة بن صالح وهو ضعيف، ثم ذكر الحديث نفسه عن عمران بن حصين، وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع، وهو ثقة.

    (5) نقلاً من كتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، الشيخ عبد الرحمن بن حسن ص 258.

    (6) نقلاً من كتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، الشيخ عبد الرحمن بن حسن ص 259.

    (7) نقلا من كتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، الشيخ عبد الرحمن بن حسن ص 258، 259.

    (8) رواه مسلم في كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، ح 547، 1/381.
    (9) نقلا من كتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 256، الشيخ عبد الرحمن بن حسن.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي


    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (14)




    خطورة التعامل مع الكهنة والعرافين ( 2- 2 )



    الوقفة السادسة:قوله في حديث عمران بن حصين: (ليس منا من تطير، أو تُطير له)، أي: ليس يفعل ذلك من هو من أشياعنا العاملين باتباعنا، المقتفين لشرعنا.
    و(من تطيَّر) أي: فعل الطيرة، (أو تُطُيِّر له) أي: أمر من يتطير له.
    والطيرة هي في الأصل: التطير بالسوائح والبوارح من الطير والظباء وغيرها، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فإذا أرادوا أمراً، فإن رأوا الطير – مثلاً – طار يمنة تيمنوا به، وإن طار يسرة تشاءموا به، فنفاه الشرع، وأبطله، ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع، أو دفع ضر.
    إن التشاؤم بنوع من الطيور، أو الحيوانات، أو غيرهما، إنما هو باب من أبواب الشرك بالله - عز وجل-، المنافي للتوحيد، أو كماله، ولهذا ذكره شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – في كتاب التوحيد، وأورد عددًا من النصوص الدالة على التحذير منه، والبعد عنه.
    السابعة:ورد التحذير من الطيرة والتطير في نصوص كثيرة، منها:
    ما رواه الشيخان عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر)، وزاد مسلم في رواية: (ولا نوء، ولا غول)(1).
    وجاء في رواية أخرى: (وفرَّ من المجذوم فرارك من الأسد)(2).
    وروى الشيخان أيضاً عن أنس – رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة)(3).
    وروى أبو داود والترمذي – وصححه – عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلاّ، ولكن الله يذهبه بالتوكل)(4).
    وغير ذلك من النصوص في هذا الباب الذي وقع في شراكه بعض المسلمين.
    ولتوضيح ما تحويه هذه النصوص أذكر عدة نقاط:
    الأولى: قوله: (لا عدوى) قال ابن الأثير - رحمه الله-: (العدوى اسم من الإعداء كالدعوى، ويقال: أعداه الداء يعديه إعداء، وهو: أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء، وذلك أن يكون ببعير جرب مثلا يتقي مخالطته بإبل أخرى؛ حذار أن يتعدى ما به من الجرب إليها فيصيبها ما أصابه)(5) انتهى كلامه - رحمه الله-.
    الثانية: قوله: (ولا هامة) بتخفيف الميم، قال الفراء: الهامة: طائر من طير الليل، وقال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم، يقول: نعت إليّ نفسي، أو أحداً من أهل داري(6).
    وقال أبو عبيد: كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير، ويسمّون ذلك الطائر: الصدى(7).
    قال ابن رجب - رحمه الله-: (وهذا شبيه باعتقاد أهل التناسخ أن أرواح الموتى تنتقل إلى أجساد حيوانات، من غير بعث، ولا نشور، وكل هذه اعتقادات باطلة جاء الإسلام بإبطالها، وتكذيبها، ولكن الذي جاءت به الشريعة أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها، إلى أن يردّه الله إلى أجسادها) انتهى كلامه - رحمه الله- (8).
    الثالثة: قوله: (ولا صفر)، بفتح الفاء، والمراد به عند كثير من أهل العلم: شهر صفر، فقد كان أهل الجاهلية يتشاءمون بصَفَر، ويقولون إنه شهر مشؤوم، ومن تشاؤمهم أنهم لا يسافرون فيه، فأبطل النبي ذلك.
    الرابعة: تعددت أقوال أهل العلم في الجمع بين قوله: (لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة ، ولا صفر)، وبين قوله: (وفرّ من المجذوم فرارك من الأسد)، حيث نفى وجود العدوى في قوله: (لا عدوى)، وأمر بالابتعاد عن موطن البلاء في قوله: (وفرّ من المجذوم فرارك من الأسد).
    وأحسن ما قيل في ذلك ما ذهب إليه عدد من أهل العلم، منهم البيهقي، وابن الصلاح، وابن القيم، وابن رجب، وابن مفلح، وغيرهم - رحمهم الله تعالى-، وذلك أن قوله: (لا عدوى) على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمراض تعدي بطبعها، وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك، ولهذا قال: (فرّ من المجذوم فرارك من الأسد)، وقال: (لا يورد ممرض على مصح)، وقال في الطاعون: (من سمع به في أرض فلا يقدم عليه)، وكل ذلك بتقدير الله تعالى، ولكن على الإنسان أن يتجنب الأسباب التي خلقها الله تعالى، وجعلها أسبابا للهلاك والأذى، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في النار، فكذلك اجتناب مقاربة المريض بمرض من صفته الانتقال، فإذا هذه كلها أسباب للمرض والتلف، والله تعالى خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره، ولا مقدر غيره.
    الثامنة: إن لمتابعة الكهان والعرافين أضراراً كثيرة، كما أن للتعلق بالتطير والتشاؤم مفاسد عظيمة، ومن أهم تلك الأضرار خلل الإيمان بالله تعالى، وضعف التوكل عليه، والقدح في كمال التوحيد، وهذا لا شك أن عاقبته وخيمة، ونتيجته رديئة، فكيف يلقى العبد ربه - جل وعلا- يوم القيامة بإيمان ضعيف مهزوز.
    ومن الأضرار أيضاً: جلب الوساوس، والشكوك، وضعف العقل، والتفكير، والتعلق بالمشعوذين والدجالين، وبالتالي تضعف ثقة الفرد بنفسه، وتغلب عليه وساوسه، وهواجسه، فيكون أسير المشعوذين، والكهنة، والدجلة، أضف إلى ذلك الأضرار الاجتماعية بما يؤديه هؤلاء الكهنة من تفريق بين المرء وزوجه، وبين الأخ وأخيه، وبالتالي تتفكك الأسر، وتتخلل الروابط الأخوية، ويحلل التقاطع، والتدابر، والشحناء، بدل الصلة، والمودة، والمحبة، ثم ما يتبع ذلك من أضرار مادية، وحدّث عن هذا ولا حرج.





    (1) رواه البخاري في كتاب الطب، باب لا هامة 10/182، ورواه مسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، ح 2220، 4/1743.
    (2) رواه البخاري في كتاب الطب، باب الجذام 4/1826، ح 5707.
    (3)
    (4) رواه أبو داود في كتاب الطب، باب الجذام 4/1826، ح 5707.
    (5) نقلا من كتاب: تيسير العزيز الحميد ص 423، 424، الشيخ سليمان بن عبد الله.
    (6) المرجع السابق ص 432.
    (7)
    (8) المرجع السابق ص432.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي

    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (15)



    معالم الحلال والحرام ( 1 – 2 )






    عن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الحلال بيّن، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) متفق عليه(1).

    * * *

    أهمية الحديث:

    هذا النص الكريم من المصطفى الكريم نصٌّ عظيم القدر، جليل المنزلة، كثير الفوائد، مليء بالأحكام والحكم، أصل من أصول الدين، يقول الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله-: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات)، وحديث عائشة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(2)، وحديث النعمان بن بشير: (الحلال بيّن والحرام بيّن)، وعن إسحاق بن راهويه قال: أربعة أحاديث هي من أصول الدين، وذكر منها حديث: (الحلال بيّن والحرام بيّن)(3)، أي: هذا الحديث.

    وفي هذا الحديث من الفوائد شيء كثير، نفق منه عند الوقفات الآتية:

    الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس...).

    يقول ابن رجب الحنبلي – رحمه الله-: (معنى ذلك: أن الحلال المحض بيّن لا اشتباه فيه، وكذلك الحرام المحض، ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس هل هي من الحلال أم من الحرام، وأما أهل العلم فلا تشتبه عليهم) اهـ(4)، ويعلمون ذلك من الحلال أم من الحرام، وإن اشتبه بعض المسائل على بعضهم، لكنها لا تخفى عليهم جميعا، يوضح هذا ما قاله العلامة ابن رجب - رحمه الله تعالى-:

    (وحاصل الأمر أن الله تعالى أنزل على نبيه الكتاب، وبيّن فيه للأمة ما تحتاج إليه من حلال أو حرام، كما قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)(5)، وغير ذلك من الآيات في هذا الباب، ووكل – سبحانه- بيان ما أشكل من التنزيل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما قال – سبحانه-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(6)، وما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أكمل له ولأمته الدين، ولهذا أنزل عليه بعرفة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً)(7)، قال أبو ذر - رضي الله عنه-: (توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ترك لنا منه علما)(8).

    ثم قال – أي ابن رجب – رحمه الله-: (وفي الجملة ما ترك الله ورسوله حلالاً إلا مبيّنا، ولا حراماً إلا مبيّنا، لكن بعضه أظهر بيانا من بعض، فما ظهر بيانه واشتهر وعلم من الدين بالضرورة من ذلك لم يبق فيه شك، ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر في الإسلام، وما كان بيانه دون ذلك فمنه ما يشتهر بين حملة خاصة، ومنه ما لا يشتهر بين حملة الشريعة أيضاً، فاختلفوا في تحليله وتحريمه، لكن مع هذا لا بد في الأمة من عالم يوافق قوله قول الحق، فيكون هو العالم بهذا الحكم، وغيره لا يكون عالماً به ومشتبها عليه، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يظهر أهل باطلها على أهل الحق فيها، فلا يكون الحق مهجوراً غير معمول به في جميع الأمصار والأعصار، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يعلمهن كثير من الناس)، فدلّ على أن من الناس من يعلمها، وإنما هي مشتبهة على من لم يعلمها، وليست مشتبهة في نفس الأمر، فهذا هو السبب المقتضي لاشتباه بعض الأشياء على كثير من العلماء)(9).

    وعليه فلا يوجد أمر من أمور الحياة إلا وقد بيّن الإسلام الحكم فيه، وإن خفي على كثير من الناس، لكن لا يخفى بذاته، فالله - سبحانه وتعالى- لا يكلف الناس بأمر لا يعرف حكمه أحد منهم، فلله الحمد والمنة على هذه النعمة الكبيرة، فالمسلم في هذه الحياة لا يعبد الله تعالى إلا على بصيرة من أمره.

    الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).

    في هذه الجملة يرسم لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهج التعامل في الأمور الثلاثة كلها، ويبين لنا كيفية العمل تجاهها، فالحلال بيّن لا اشتباه فيه، فيعمل به، والحرام بين لا اشتباه فيه، فيجتنب ويترك، وأما ما كان مشتبها غير متضح للفرد أهو من الحلال أم من الحرام، فهنا قد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - المنهج الذي يجب أن يتبع، والآخر الذي يجب أن يترك، فالواجب على المسلم أن يجتنب ما كان مشتبهاً، وحينئذ ستبرئ لدينه وعرضه، إنه طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين، فسلم دينه من النقص، وعرضه من القدح، أما الشخص الآخر الذي وقع في هذا المشتبه فبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه وقع في الحرام.

    وقد ذكر ابن رجب – رحمه الله – لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من وقع في الحرام) معنيين، كلاهما سائغ، حيث قال:

    الأول: أن يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدرج والتسامح، ويعضد هذا المعنى ما روي في الصحيحين قوله: (ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان)(10).

    والمعنى الثاني: أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده لا يدري أهو حلال أو حرام، فإنه لا يأمن أن يكون حراماً في نفس الأمر، فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام، ويعضد هذا ما في رواية ابن عمر للحديث، وفيه: (فمن اتقاها – أي المشتبهات – كان أنزه لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام)(11) اهـ(12).

    فعلى المسلم أن يبتعد كل البعد عن المشتبهات، ما لم يتبين له أهي من الحلال أم الحرام، حتى لا يقع في الحرام، وبالتالي يكسب الإثم، ويخسر الأجر.












    (1) رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 1/41، ح52، ورواه مسلم في كتاب المساقاة والمزارعة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ح 1599، 3/1219.

    (2) نقلا من جامع العلوم والحكم 1/61-62.

    (3) انظر: المصدر السابق.

    (4) جامع العلوم والحكم 1/194.

    (5) سورة النحل، الآية: 69.

    (6) سورة النحل، الآية: 44.

    (7) سورة المائدة، الآية: 3.

    (8) رواه أحمد في المسند 5/53، 162، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/263، 264، وقال: (رواه أحمد والطبراني ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، وهو ثقة، وفي إسناده أحمد من لم يُسَمّ).اهـ.

    (9) جامع العلوم والحكم 1/196، 197، بتصرف.

    (10) رواه البخاري في كتاب البيوع، باب الحلال بيّن والحرام بيّن 2/611، ح 2051، وهذه الرواية ليست عند الإمام مسلم، بل هي عند البخاري فقط.

    (11) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/74، وقال: (رواه الطبراني في الأوسط، وفي إسناده سعد بن زنبور، قال: أبو حاتم: مجهول).

    (12) جامع العلوم والحكم 1/205، 206.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي

    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (16)



    معالم الحلال والحرام ( 2 – 2 )




    الوقفة الثالثة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه).
    هذا مثل ضربه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن وقع في الشبهات، وأنه يقرب وقوعه في الحرام المحض، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المحرمات كالحمى الذي يحميه الملوك، ويمنعون غيرهم من قربه، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حول مدينته اثني عشر ميلا حمى محرما لا يُقطع شجره، ولا يُصاد صيده، والله - سبحانه وتعالى- حمى هذه المحرمات، ومنع عباده من قربانها، وسماها حدوداً، فقال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا)(1).
    قال ابن رجب - رحمه الله-: (فلذلك من تعدى الحلال، ووقع في الشبهات، فإنه قد قارب غاية المقاربة، فما أخلقه بأن يخالط الحرام المحض، ويقع فيه، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات، وأن يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزاً)(2).
    الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب..) هذه جملة عظيمة، أقف معها عدة وقفات:
    الأولى: بعد أن ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الموقف الذي ينبغي أن يقفه المسلم من الحلال والحرام المشتبه، بيّن – صلوات الله وسلامه عليه – أن مصدر هذا الموقف هو القلب، فإن كان صالحاً صلحت بقية الأعضاء والجوارح، وإن كان فاسداً فسدت بقية الأعضاء والجوارح، ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم جنود طائعون له لا يخالفونه في شيء، ولذا لا ينفع عند الله - سبحانه وتعالى- إلا القلب السليم، كما قال: (إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(3).
    الخامسة:اعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يهتم بالقلب اهتماماً كبيرًا، ويرعاه رعاية تامة، فقد كان يكثر في دعائه: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك)(4)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول عند قسمه ويمينه: (لا ومقلّب القلوب)(5)، وكان يقول - عليه الصلاة والسلام-: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء)(6)، كل ذلك لأن القلب محل الإيمان واليقين، ومصدر السعادة والشقاوة.
    السادسة: أن القلوب تلين وتقسو، فتكون في حالة قساوتها كالحجارة، أو أشد قسوة، فتبعد عن الله تعالى، وعن رحمته، وعن طاعته، وأبعد القلوب عن الله القلب القاسي، الذي لا ينتفع بتذكير، ولا يلين لموعظة، ولا يفقه مقالة، ولا يعتبر بالأحداث، ولا يتعظ بالقرآن، فمن كان كذلك فهو يحمل في قلبه حجرا صلدا لا فائدة منه، وبناء على هذا فتليين القلوب لها أسباب، من أهمها:
    1- قراءة القرآن الكريم، والاستماع إليه، يقول - سبحانه وتعالى-: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)(7)، ويقول - جل وعلا-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)(8).
    فبالقرآن الكريم حياة القلوب، وسعادتها، وطمأنينتها، وبالغفلة عنه شقاؤها، وغفلتها، وبُعدها عن خالقها.
    2- ومن أسباب تليين القلوب تذكّر الموت، وزوال الدنيا، والانتقال للأخرى، ومن أعظم ما يقسي القلوب الغفلة عن الآخرة، ونسيان الموت، والانشغال بالدنيا، يقول - سبحانه وتعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(9).
    3- ومن أسباب تليين القلوب: الاعتبار بما جرى، ويجري للأمم الكافرة والضالة من الهلاك والدمار، يقول الله تعالى: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(10).
    4- ومن أعظم ما يلين القلوب ويصفّيها من شوائبها ذكر الله تعالى، يقول - سبحانه وتعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(11)، ويقول (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً)(12).






    (1) سورة البقرة، الآية: 187.
    (2) جامع العلوم والحكم 1/208.
    (3) سورة الشعراء، الآيتان 88، 89.
    (4) رواه ابن ماجه في المقدمة، باب فيما أنكرته الجهمية 1/72، ح199.
    (5) رواه البخاري في كتاب القدر، باب يحول بين المرء وقلبه 5/2069، رقم الحديث 6617.
    (6) رواه الإمام أحمد في المسند 7/357، 6/251، ح 25602، وروى نحوه ابن ماجه في المقدمة، باب فيما أنكرته الجهمية 1/72، ح199.
    (7) سورة ق، الآية: 45.
    (8) سورة الزمر، الآية: 23.

    (9) سورة آل عمران، الآية: 185.
    (10) سورة الحج، الآيتان: 45، 46.
    (11) سورة الرعد، الآية: 28.
    (12) سورة الأنفال، الآية: 2.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي


    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (17)



    وقفات مع حديث جبريل (1-3)



    عن عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-، فاسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا)، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) قال: ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لي: (يا عمر أتدري من السائل؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) رواه مسلم .
    نقف مع هذا الحديث العظيم الذي بين فيه النبي - صلى الله عليه وسلم- مراتب الدين، ونخصص وقفتنا مع ما يتعلق بأمر الإيمان والاعتقاد.
    معنى الإيمان بالله:
    الإيمان بالله: هو الاعتقاد الجازم بتوحيد الله تعالى في ربوبيته بأنه رب كل شيء ومليكه، وهو الخالق وحده، و المدبر للكون كله، و المتصرف في الخلق، و أنه هو الذي يعبد دون ما سواه، فكل ما سواه باطل، له سبحانه وتعالى الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وهو المتصف بصفات الكمال، و المنزه من كل عيب ونقص - سبحانه وتعالى-.
    فهذا الإيمان هو التوحيد الذي اصطلح أهل العلم على تقسيمه إلى أقسام ثلاثة:
    توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، و توحيد الأسماء و الصفات.
    أولا: توحيد الربوبية:
    وهو توحيد الله تعالى بأفعاله، فيؤمن العبد بأن الله تعالى واحد موجود، وهو وحده رب كل شيء ومليكه، وأنه خالق للكون كله، وهو المتصرف فيه، وهو المحيي المميت، الرزاق ذو القوه المتين، ليس له شريك في ملكه، ولم يكن له ولي من الذل، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، ولا سمي له، ولا مماثل، ولا مضاد، ولا منازع له في شيء من معاني الربوبية، ومقتضيات أسمائه وصفاته.
    فيجب على العبد أن يؤمن بهذا التوحيد، ويقر به في قلبه؛ حتى يظهر أثر ذلك عليه، والقرآن الكريم مليء بالآيات المشيرة إلى هذا التوحيد الجليل، يقول – سبحانه-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)) [الفاتحة 2.3.4]، ويقول – سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) [الذاريات 58]، ويقول – سبحانه-: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)) [يس 82.83]، ويقول – سبحانه-:(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)) [الروم.40]، يقول – سبحانه-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164))، ويقول – سبحانه-:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)) [البقرة 21.22].
    ويقول - سبحانه وتعالى- (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61))[النمل 60.61]، ويقول – سبحانه -: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)) [النمل 62.65].
    وغير هذه الآيات كثير وفي تقرير هذا التوحيد جاءت أحاديث كثيرة يفتتح النبي - صلى الله عليه وسلم- به في أدعيته فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم- أنه قال في دعاء له: (اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب و النوى، منزل التوراة و الإنجيل و القرآن، أعوذ بك من كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، و أنت الآخر فليس بعدك شي، و أنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء: اقض عني الدين وأغنني من الفقر) وهكذا كان - صلوات الله وسلامه عليه- يفتتح في أدعيته بالإقرار بربوبية ربه - سبحانه وتعالى-.


    الوقفة الثانية:
    هذا التوحيد مفطور في الخلق بأن الإنسان يجد في فطرته بأن الله ربه وخالقه ومحييه ومميته ورازقه و المتصرف في أمره، ولا يستطيع أحد دفع ذلك من نفسه كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، ويقول - صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين).
    ويقول – سبحانه-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)) [ الروم 30]، ويقول شيخ الإسلام - رحمه الله-: (فإن الفطرة تتضمن الإيمان بالله، والإنابة إليه، وهو معنى لا إله إلا الله، فإن الإله يعرف ويعبد)، حتى أهل الجاهلية كانوا يقرون بذلك يقول – سبحانه-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ (61))[العنكبوت 61]، لكن لم يستفيدوا من هذا الإقرار فيعبدوه وحده، فأشركوا معه غيره.
    (وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به، أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل - عليهم السلام- فيما حكى الله عنهم قال تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)) [سورة إبراهيم 10]، وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقناً به في الباطن، كما قال له موسى - عليه السلام-: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102))[الإسراء 201]، وقال تعالى منع وعن قومه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14))[النمل 14]، ولهذا قال: وما رب العالمين؟ على وجه الإنكار له تجاهل العارف فقال موسى: (قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28))[الشعراء 24 – 28].
    الوقفة الثالثة:
    · ثمرات توحيد الربوبية وفوائده:
    الإقرار بهذا التوحيد، بأن الله تعالى هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبر للكون كله، وهو رب الأولين والآخرين، وباعث الخلق أجمعين، وهو القاهر فوق عباده، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض، وهو الذي جعل لهم الأرض مهداً يتقلبون فيها، ويمشون في مناكبها، وهو الذي ينزل الماء فيجريه أنهاراً، ويرزقهم من كل الثمرات.
    ولهذا الإقرار فوائد، وثمرات من أعلاها:
    - أن يقوده هذا التوحيد إلى التوحيد الأعظم، وهو توحيده في عبادته، فلا يعبد رب سواه.
    - أنسه به، وطمأنينته بذكره، فلا تؤثر فيه المؤثرات، ولا تخدش توحيده الدعايات، فيتوجه بدعائه واستغاثته إلى ربه ومولاه، لا إلى غيره من المخلوقين الضعفاء.
    - إيمانه بما يقضيه، ويقدره عليه، فهو النافع الضار، لم يكن ليصيبه ما أخطأه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فيتحمل العبد ما يواجهه من مصائب، وعوائق، وعقبات.
    - قوة توكله عليه، واستعانته به في أموره كلها، من الرزق، و الشفاء، فهو الشافي الكافي، وخزائنه ملأى، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فيستغني بخالقه عن خلقه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي

    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (18)



    وقفات مع حديث جبريل (2-3)




    (عن عمر بن الخطاب قال بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر، خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق، فلبثت مليا، ثم قال لي: يا عمر، أتدري من السائل ؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم) رواه مسلم..
    نقف مع هذا الحديث العظيم الذي بين فيه النبي - صلى الله عليه وسلم- مراتب الدين، ونخصص وقفتنا مع ما يتعلق بأمر الإيمان والاعتقاد.
    الوقفة الرابعة:
    - معنى توحيد الأسماء والصفات:
    توحيد الله بأسمائه وصفاته يعني: إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم- من صفات الكمال، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، ونفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم- من صفات النقص، كما قال تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُالبَصِيرُ ) [الشورى 11].
    وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي عن هذا التوحيد: (هو اعتقاد إنفراد الرب - جل جلاله- بالكمال المطلق من جميع الوجوه، بنعوت العظمة والجلال، والجمال التي لا يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه. وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم- من جميع الأسماء، والصفات، ومعانيها، وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة، على الوجه اللائق بعظمته وجلاله، من غير نفي لشيء منها، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا تمثيل، ونفي ما نفاه الله - جل جلاله- عن نفسه، ونفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم- من النقائص والعيوب، ومن كل ما ينافي كماله.)) أ. هـ
    يجلي ذلك ويوضحه قوله – سبحانه: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُالبَصِيرُ ) [الشورى 11].
    فقد نفى مشابهة شيء فيه سبحانه، وأثبت لنفسه اسمي السميع، والبصير، المتضمنين صفتي السمع والبصر.
    فالواجب إثبات اسم السميع والبصير اللذين يشتق منهما صفتا السمع والبصر، فيسمى الله بالسميع، ويوصف بأن له سمع، لكن لا يشبه أحد من خلقه، فتثبته له إثباتاً يليق بجلاله وعظمته.
    وبناءً على هذا يظهر لنا:
    1- ثبوت اسم السميع.
    2- ثبوت هذه الصفة التي يتضمنها هذا الاسم لله - عز وجل- وهي صفة السمع.
    3- ثبوت حكمها، ومقتضاها، وهوانه – سبحانه-، يسمع السر والنجوى، وما تخفي الصدور، قال – سبحانه-: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [سورة طه 7].
    الوقفة الخامسة:
    - أهمية توحيد الله بأسمائه وصفاته:
    إن من أوجب الواجبات أن يؤمن العبد، ويوحد ربه بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، على النهج السلفي الصحيح، فلهذا التوحيد أهمية عظمى، يظهر أثرها على حياة المسلم في الدنيا والأخرى، ومن جوانب هذه الأهمية: أن هذا التوحيد عبادة الله - عز وجل- وطاعته له سبحانه، والإيمان به، على الوجه السليم يُؤَمِّنُ العبد من الوعيد الشديد في الآخرة، ويسلمه من الانحراف والزيغ، الذي وقعت فيه الطوائف المنحرفة في الدنيا قال تعالى: ( وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَىفَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ ) [سورة الأعراف 180].
    والعلم بهذا التوحيد من أشرف العلوم، ومطلب من أعلى المطالب؛ لأن شرف العلم إنما يكون بشرف المعلوم، وهو الله سبحانه وتعالى، فالعلم به، وبأسمائه، وصفاته، شرف عظيم، ومطلب أكيد.
    ولذا كانت أعظم آية في القرآن الكريم هي آية الكرسي؛ لاشتمالها على هذا التوحيد، وأن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن؛ لأنها أخلصت في وصف الله تعالى.
    الوقفة السادسة:
    - ثمرات الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات:
    ولهذا كان لهذا الإيمان بهذا التوحيد، واستشعار أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى في القلوب، وجلاء معانيها، أثر عظيم، وثمرات جلى، ومن أهم هذه الثمرات الجلية: أنه بهذا العلم يعرف ربه، وخالقه، وإلهه، ومعبوده، فالعلم بأسماء الله وصفاته هو الطريق إلى معرفته – سبحانه-، ومما يشين العبد أن يكون جاهلاً بربه وخالقه، ومن ثمرات هذا التوحيد أنه يثبت الإيمان في القلوب، ويقوي الخشية في النفوس، وينمي الخضوع، والخشوع، ويثمر مراقبة الله في الخلوات، وهكذا إذا استحضر العبد أسماء ربه وخالقه - جل وعلا-، وصفاته العظيمة، ملأت قلبه تعظيماً وإجلالا له, وأسماء الجمال, والبر, والرحمة, والإحسان, والجود, تملأه محبة له, وشوقاً إليه, ورغبة فيما عنده, وحمداً, وشكراً له, وهكذا.
    فإذا استشعر العبد أن الله عليم رقيب ومشاهد، راقب الله تعالى، وعلم أنه مطلع عليه في خلوته، ومع خلقه، وفي حركاته، وسكناته، فلا يطلع إلا على عمل صالح، وقول طيب، ونية خالصة.
    وإذا استشعر أن الله غني كريم، لجأ إليه، وطلب الغنى منه، وإذا استشعر أن الله هو الشافي، لجأ إليه في سرائه وضرائه، ولم يطلب الشفاء إلا منه، ولا يتعلق قلبه إلا به – سبحانه-.
    فكثر افتقاره إليه، والتفاته إليه، وعز بعزه، واغتنى عن خلقه، ولم يذل إلا إليه.
    وإذا استشعر العبد أن الله – سبحانه وتعالى- هو القوي، استمد القوة منه، وطلب المنعة منه، وإذا استشعر أنه غفور رحيم، عظم رجاؤه بربه، وطمعه فيما عنده، ومغفرة ذنوبه، وتكفير سيئاته، فألح عليه بذلك.
    وإذا استشعر أنه شديد العقاب، يغار على حرماته، خاف منه وخشيه، وطلب العفو منه.
    وهكذا، فينبغي أن يستشعر العبد أسماء الله – سبحانه- وصفاته؛ ليتمثلها في عبادته له - سبحانه وتعالى-.
    ومن ثمرات هذا التوحيد: الكف عن المعاصي والسيئات، فإذا تذكر العبد أن الله يراه، فيذكر وقوفه بين يدي خالقه، فينزجر ويكف، ألا ترى ذلك الذي تقع عينه على محارم الله، ويلج عليه الشيطان؛ ليزين له هذا الحرام، فإن استشعر رؤية الله له، واطلاعه عليه، كف ونزجر، وإلا وقع في المعصية، وفي أوحالها، قال تعالى عن نبيه يوسف - عليه السلام- عندما أغرته امرأة العزيز بنفسها، وهيئت الوسائل للوقوع بها، قال الله عنه) : قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَمَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّبِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ...)(سورة يوسف 23. 24)
    وهكذا من يستشعر رؤية الله - سبحانه- واطلاعه عليه.
    ومن ثمرات هذا التوحيد: أن العبد تقع عليه الأذية من أشر خلق الله، من أهل الحسد، والحقد، ومن أعداء دين الله، من الكفرة، والمنافقين، فيجدون في حسده، ومنع الرزق عنه، وأذيته، وعداوته، فيعلم أن الأرزاق بيد الله - سبحانه وتعالى- ، فيتمر له هذا العلم الشجاعة القلبية، والقوة المعنوية، والتعلق بالله - سبحانه وتعالى-، ويتضاءل أمامه حسد الحاسدين، وكيد الكائدين، وعدوان المعتدين.
    ومن ثمرات هذا التوحيد: أن العبد قد يضعف أمام ما يصاب به من الأمراض والأسقام، وربما لا يعلم البشر بعلاجها، فيستعص فيبلغ به الألم مبلغه، وقد يتطرق إليه اليأس، فيتذكر أن الله هو الشافي، فيرفع إليه يديه بخشوع، وخضوع، وتذلل، ورغب، ورهب، ويدعوه دعاء المضطر؛ فيفتح الله له ما كان مغلقاً عليه من أبواب الأمل، وربما شفاه الله تعالى من مرضه، وصرف عنه ما هو أعظم منه، وادخر له من الثواب، وتكفير السيئات، ما لم يخطر له على بال، مما هو أفضل من الشفاء.
    ومن ثمرات الإيمان بهذا التوحيد: زيادة الإيمان وتثبيته في النفوس. قال تعالى: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْتَقْواهُمْ) (سورة محمد 17)






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي

    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (19)



    وقفات مع حديث جبريل (3-3)





    (عن عمر بن الخطاب قال بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت، قال فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال فأخبرني عن الإيمان؟ قال أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر، خيره وشره، قال: صدقت، قال فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق، فلبثت مليا، ثم قال لي: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم) رواه مسلم.

    نقف مع هذا الحديث العظيم الذي بين فيه النبي - صلى الله عليه وسلم- مراتب الدين، ونخصص وقفتنا مع ما يتعلق بأمر الإيمان والاعتقاد.

    وقفتنا في هذه الحلقة مع أمر عظيم، ومفرق كبير، وغاية كبيرة، من أجلها خلق الله الخلق، وأوجدهم في هذه الحياة، من فاز بها سعد دنيا وأخرى، ترفع وتضع، وتعلي نازلاً، وتشهر خاملاً، هي أعظم طلبه، وأشرف نسبه، وأسمى رتبه، وسيلة كل نجاح، وشفيع كل فلاح، ومصدر كل سعادة.

    كافح في سبيل تحقيقها أفضل الخلق من الأنبياء و المرسلين، وأتباعهم المقربين، وتنافس في تحقيقها أهل الهمم العالية، و النفوس الرفيعة. قال عنها الشيخ حافظ الحكمي – رحمه الله – في منظومته:

    وهو الذي به الإله أرسلا رسله يدعون إليه أولاً

    وأنزل الكتاب و التبيان من أجله وفرق الفرقانا

    هذه الغاية هي تحقيق توحيد الأولوهية، وهو النوع الثالث من أنواع التوحيد، وهو المقصود الأعظم من خلق الخليقة.

    - معنى توحيد العبادة وأهميته:

    هذا التوحيد هو: إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة الظاهرة و الباطنة، قولاً وعملاً، ونفي العبادة عن كل من سوى الله تعالى، كائناً من كان، وهذا التوحيد هو المراد بشاهدة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله.

    و المراد بإفراد الله تعالى بالعبادة أن يقوم بشرائع الإسلام الظاهرة و الباطنة، وسائر القربات، و الطاعات، من حقوق الله تعالى، وحقوق الخلق، وأن يتبع في ذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم-.

    إن هذا التوحيد بهذا المفهوم هو الذي خلق الله له الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيانه وتوضيحه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – مبيناً أهمية هذا التوحيد وعظمته: (وذلك أن العبادة هي الغاية المحبوبة له، و المرضية التي خلق الله الخلق لها، كما قال - سبحانه وتعالى-.

    ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -: (وهذا الأصل أعظم الأصول على الإطلاق، وأكملها، وأفضلها، وأوجبها، وألزمها لصلاح الإنسانية، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وخلق المخلوقات، وشرع الشرائع لقيامه، وبوجوده يكون الصلاح، وبفقده يكون الشر و الفساد، وجميع الآيات القرآنية إما أمر بحق من حقوقه، أو نهي عن ضده، أو إقامة حجة عليه، أو بيان جزاء أهله في الدنيا و الآخرة، أو بيان الفرق بينهم وبين المشركين..).

    - النصوص القرآنية الداعية لهذا التوحيد:

    وقد تضافرت النصوص القرآنية و النبوية على هذا الأمر بهذا التوحيد، و الدعوة إليه، وبيان أهميته، وعظم شأنه، وترتب الثواب الدنيوي و الأخروي عليه، بأساليب متعددة، وصيغ مختلفة، بأمر به مباشرة، أو الحث عليه، أو كونه الهدف الذي أرسل الرسل من أجله، وأنزلت الكتب لتبيانه، أو التحذير من مخالفته، وعقوبة تاركه ومهمله و التخلي عنه أو التقصير فيه.

    يقول - سبحانه وتعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ)(سورة الإسراء. 23)، ويقول - جل ذكره-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئ) (سورة النساء.36)، ويقول- جل وعلا-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (سورة الجن.56)، وقال – سبحانه-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (سورة النحل. 36)، وقال – سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)) (سورة البقرة)، وقال – سبحانه-: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (سورة هود.123)، وقال - جل وعلا-: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) (سورة قريش.3)، و المسلم يقرأ في كل ركعة من ركعات صلاته: (إياك نعبد وإياك نستعين)، ويقول - سبحانه وتعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)) (سورة الأنبياء)، ويقول – سبحانه-: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (سورة البينة).

    وغير ذلك من النصوص العظيمة، وكما جاء القرآن العظيم بهذا التوحيد، فالسنة النبوية كذلك، روى الشيخان وغيرهما عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه- أنه قال: كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم- على حمار فقال لي: (يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ فقلت الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيء) فقلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: (لا تبشرهم فيتكلوا).

    - ثمرات توحيد العبادة:

    هذا التوحيد هو الواجب على العباد تحقيقه ، كما سبق بيانه من خلال الآيات والحديث، ومن وفق لذلك ومن الله تعالى عليه بتحقيقه و الثبات عليه ومعاهدته، وعدم خدشه، فقد أوتي أجل النعم وأفضلها، وأعظمها، ولا تدانيها نعمة، وتظهر ثمرات هذه النعمة عليه؛ لأن ثمراتها، وفوائدها لا تعد، ولا تحصر في الدنيا والآخرة. ومن ذلكم:



    1- أن محقق التوحيد حصل على الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق، وبين ذلك في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (سورة الجن.56).

    وحقق الغاية التي من أجلها أنزلت الكتب، ومن ذلكم القرآن الكريم قال تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)) (سورة هود).



    2- أن محقق التوحيد تفرج له كرباته، وتكشف غمومه، وتدفع عنه لعقوبته في الدنيا والآخرة، كما قص علينا ذلك ربنا في قصة يونس - عليه السلام- عندما التقمه الحوت، فأخرجه الله منه؛ بسبب إخلاصه في التوحيد.



    3- ومن ذلكم أن محقق التوحيد يمنع الخلود في النار، وإذا غمر هذا التوحيد القلب من دخول النار بالكلية جاء في الصحيحين عن عثمان - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله).



    4- ومن فضائل توحيد الألوهية حصول الأمن التام، والرضا، والاطمئنان لأهله، ومحققيه، وعدم عصف العواصف الشيطانية بهم، ويتلوا ذلك أن يخفف على العبد المكاره، ويهون عليه الآلام، ويقلب المحن منحاً، والنقم نعماً، وكلما قوي هذا التوحيد، وتمكن من القلب، هانت عليه مصائب الدنيا، وأمن منها، وأطمأن، ورضي بأقدار الله المؤلمة، وهذه والله نعمة، وفاقدها في حسرة ونكد، فأحوال الدنيا ليست على وضع واحد، وليست ما ظاهره نعمة في الدنيا كالمال والجاه وغيرهما، بكاف لتحقيق هذا الاطمئنان، وما صراع الإنسان مع أمور الحياة، ومكابدتها، وحرصه، وطمعه، وحسده للآخرين، وما صراعات المجتمعات وتقلبها، إلا بحثاً عن هذه النعمة، ولكن هيهات أن تحصل، وتتمكن، إلا بتحقيق هذا التوحيد، فبتحقيقه تحصل، وبضعفه، ونقصه، وفقدها، يكون مقدار الحصول، يقول - سبحانه وتعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)) (سورة الأنعام).

    ويقول – سبحانه-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (سورة الحجر.97).

    - علاقة توحيد الالوهية بتوحيد الربوبية والعكس:

    وعلاقة أحد النوعين بالأخر أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، بمعنى أن الإقرار بربوبية الله وتوحيده بذلك، وأنه الخالق، الرازق، المالك، المدبر، يوجب الإقرار بألوهيته، وتوحيده بالعبادة، فلا يشرك معه أحد في عبادته، وتوحيد الأولوهية متضمن لتوحيد الربوبية، بمعنى أن توحيد الربوبية داخل في توحيد الألوهية، فمن وحد إله في عبادته، ولم يشرك معه أحداً، فلا بد أن يكون قد اعتقد أن الله هو الرب، المالك، المدبر، الخالق، كما قال إبراهيم - عليه السلام-: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82))(سورة الشعراء).




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي

    أحاديث فى العقيدة

    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة (20)



    فضائل توحيد الألوهية، ووسائل تقويته




    ومن ثمرات التوحيد :

    1- أنه السبب الأعظم لنيل رضا الله - سبحانه وتعالى-، التي هي أشرف الغايات، وأعظم المقاصد، وأصل المطالب .

    2- ومن ثمرات تحقيق التوحيد: أن صاحبه يحصل على أفضل الحسنات و أزكاها، وروى الإمام أحمد –رحمه الله- عن أبي ذر –رضي الله عنه-قال: قلت يارسول الله، علمني عملا يقربني إلى الجنة، ويبعدني عن النار قال: (إذا عملت سيئة فهمل حسنه فإنها عشر أمثاله، قال: قلت: يارسول الله، أمن الحسنات لا إله إلا الله، قال : هي أفضل الحسنات).

    وقد ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) أنها كلمت التوحيد لا إله إلا الله.

    3- ومن ثمرات تحقيق التوحيد: أن محقق التوحيد أتى بأفضل شيء في الميزان يوم القيامة، روى الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما-: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أخبر أن نوحـًا- عليه السلام- قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله ، ولو أن الأراضين السبع، والسماوات السبع كن حلقة بهيمة فقصمتهن لا إلا له ألا الله).

    4- وتحقيق التوحيد أفضل الأعمال والأذكار وأكثر الحسنات زيادة ونمو، روى الشيخان عن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه- وسلم قال:"من قال لا إ له إلا الله وحده الشريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كانت له عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنه، ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذالك حتى يمسي، ولم يأتي أحداً أفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه".



    5- ومحقق التوحيد بصدق وإخلاص يسهل عليه فعل الخيرات، وترك المعاصي والمنكرات، ويسليه عن المصائب والمكاره، فتخف عليه الطاعة، ولا يستثقلها؛ لما يرجو من ثواب الله تعالى، ويهون عليه ترك هوى نفسه وشهواتها؛ لما يخشى من عذاب الله، ووعيده، وعقابه، ويتحمل ما يقدره الله عليه، لما يعلم من عظم ثمار ذلك.

    6- وتحقيق التوحيد يدفع صاحبه لمعالي الأمور، ويرفع هامته فوق حطام الدنيا، ويستصغر ما يتنافس فيه أهلها. فهمته عالية، ومطلبه نفيس، وقلبه أبيض، مليء بالإيمان واليقين؛ لأن من طلب المعالي هانت عليه سفاسفه، فمن كان كذالك فرج الله همه، وجعل غناه في قلبه، وآتته الدنيا وهي راغمة، كما قال - صلوات الله وسلامه عليه-.

    هذا هو التوحيد، وهذا شيء من ثمراته، وهذا ما يناله الموحدون، الذين عرفوا أنه لاشيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها، فهو إلهها، ومعبودها، ووليها، ومولاها، وربها، ومدبرها، ورازقها، ومحييها، ومميتها، فمحبته نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفوس، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن، فليس عند القلوب السليمة، والأرواح الطيبة، والعقول الذكية، أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسر، ولا أنعم، من محبته، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له أتم من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كل لذة، حتى قال قائلهم: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب ا.هـ قاله ابن القيم - رحمه الله-.



    وسائل تقوية التوحيد:

    يجب أن يصوغ المسلم حياته كلها على هذا التوحيد، وينطلق في جميع فرعيات معتقداته، وسائر أعماله من هذا التوحيد، ويعدل سلوكه، ويقيم تصرفاته، ويبني علاقاته على هذا الأساس المكين، والقاعدة الراسخة، وأن يعمل الوسائل التي تعينه على تمكين هذا التوحيد، وترسيخه في القلوب، وتثبيته في النفوس، وتحقيقه في اللسان والجوارح، وتنميته فيها، فهو كالشجرة اليانعة المثمرة، كلما سقيت، نمت وترعرعت.



    ومن أهم تلك الوسائل وأعظمها:

    1- معرفة الله تعالى حق معرفته، فيعرف أنه خالقه، ورازقه، ومحييه، ومميته، وشافيه، وكافيه، وهو مدبر الكون، ومصرف الأحوال ، وعالم الخفيات، و المطلع على السر والنجوى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، فمن عرف الله تعالى عظم في نفسه، وكان حقيقا على نفسه أن يوحده، ويخلص له توحيده وعبادته.

    2- والو سيله الثانية: استشعار عظمة الخالق، ومعرفة حقه – سبحانه-، وتصور ذالك تصويراً في كل قول تلفظ به، أو عمل تقترفه وتمارسه، سواء كنت وحدك، أو يراك الآخرون .

    3- والوسيلة الثالثة: التي تثبت التوحيد في النفوس، وتنمية العمل بالفرائض، والالتزام به، و المداومة عليها، واستشعار وجوبه، وتصور فضلها، ومعاقبة تاركها، والتساهل فيه، فقد أخبر الرسول - صلى الله علي وسلم- عن ربه أنه ما تقرب عبد بأحب مما افترضه عليه، ومن أحب مولاه نفذ أوامره، ولبى طلباته، وأطاعه.

    4- والوسيلة الرابعة:تجنب معاصيه، صغيرها وكبيرها، ولا تنظر إلى صغر ذلك الذنب، أو تستهين بتلك المعصية، ولكن استشعر عظمة من عصيت، ومن ترك المعاصي، واستشعر عظم الذنب في مقارفتها، حري بعدم خدش التوحيد، بل كان عملاً قوياً في تشبيهه ونمائه.

    5- والوسيلة الخامسة: التزود بالعلم الشرعي، ومعرفة أحكام الحلال و الحرام، وما يقرب إلى المولى ، وما يزيد في محبته وتعظيمه، فالعلم نور البصائر، وضياء القلوب، وميز العقول، وبه يعرف الحق من الباطل، ويميز الصواب من الخطأ، وهو ميدان الأنبياء، وخير الأعمال النوافل المقربة إلى المولى، ومن جهل شيئاً فعليه بالتعلم والسؤال، وقد تيسرت- ولله الحمد – سبل التعلم والأسئلة، ولم يبق عذر لجاهل، أو متجاهل، فيروي نفسه المهالك.

    6- والوسيلة السادسة:الإكثار بقدر ما تستطيع من نوافل العبادات، فهي تجبر الناقص من الفرائض، وترفع الدرجات، وتكفر السيئات، وتعمق التوحيد، وتورث خشية الخالق، ويؤكد هنا – بخاصة- على الإكثار من قراءة كتاب الله تعالى، والتأمل فيه، وبالذات ما يتعلق ببيان عظمة الله وقدرته، ثم الإكثار من ذكر الله، وإحيائه في النفوس، والتزام الأذكار المقيدة بأوقاتٍ وأحوالٍ وأمكنةٍ، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره.
    7- ومن الوسائل المثبتة للتوحيد : تطهير القلوب من الحسد، والحقد، والبغضاء، وكره الآخرين، وحب آذاهم، والفرح بما يقدر عليهم من أذى، فطهارة القلب من أسباب القرب من الله وتوحيده.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •