جاء في أضواء البيان (8/ 15):
((اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْحَشْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ.
فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَشْرِ أَرْضُ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ الشَّامُ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحَشْرِ: الْجَمْعُ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْأَوَّلِ بِآثَارٍ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَنْ شَكَّ فِي أَنَّ أَرْضَ الْمَحْشَرِ هَاهُنَا يَعْنِي الشَّامَ فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا، وَالزُّهْرِيِّ، وَسَاقَ قَوْلَهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيِ النَّضِيرِ: «اخْرُجُوا» ، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ» ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ هُنَا مَكَانِيَّةً، أَيْ: لِأَوَّلِ مَكَانٍ مِنْ أَرْضِ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ، وَأَوَائِلُهُ خَيْبَرُ وَأَذْرِعَاتٌ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْحَشْرَ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الْجَمْعُ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: الْحَشْرُ الْجَمْعُ لِلتَّوَجُّهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مَا، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ: الْحَشْرُ هُوَ حَشْدُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَتَائِبَ؛ لِقِتَالِهِمْ، وَهُوَ أَوَّلُ حَشْرٍ مِنْهُ لَهُمْ وَأَوَّلُ قِتَالٍ قَاتَلَهُمْ، وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ زَمَانِيَّةً وَتَقْتَضِي حَشْرًا بَعْدَهُ، فَقِيلَ: هُوَ حَشْرُ عُمَرَ إِيَّاهُمْ بِخَيْبَرَ، وَقِيلَ: نَارٌ تَسُوقُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَهُوَ حَدِيثٌ فِي الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: الْبَعْثُ.
إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ أَعَمُّ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ النَّارَ الْمَذْكُورَةَ، وَالْبَعْثَ لَيْسَتَا خَاصَّتَيْنِ بِالْيَهُودِ، وَلَا بِبَنِي النَّضِيرِ خَاصَّةً، وَمِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَحَدِ الْمَعَانِي بِكَوْنِهِ هُوَ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ، وَمَثَّلَ لَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْغَلَبَةِ: الْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَالْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالُ الْغَلَبَةِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى دُخُولِ تِلْكَ الْغَلَبَةِ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُبَيَّنُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ))اهـ.