تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 52

الموضوع: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 21 )




    حكم الصيام في السفر




    عن عائشة - رضي الله عنها- أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم-: أأصوم في السفر؟ – وكان كثير الصيام – قال: (إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)(1).

    وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: (كنا نسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فلم يعب الصائم على المفطر، والمفطر على الصائم)(2).

    وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وعبد الله بن رواحة(3).

    وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في سفر فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظلل عليه، فقال: (ما هذا؟) قالوا: صائم: قال: (ليس من البر الصيام في السفر)، وفي لفظ لمسلم: (عليكم برخصة الله التي رخص لكم)(4).

    هذه أحاديث متعددة، تدور حول موضوع واحد، وهو حكم الصيام في السفر، نعرض أحكامه في الوقفات الآتية:

    الوقفة الأولى: دلّ حديث عائشة - ضي الله عنهما- في سؤال حمزة بن عمرو الأسلمي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- على التخيير بالنسبة للمسافر بين الصيام والفطر، فهو مخير فيهما، كما دل حديث أنس - رضي الله عنه- على واقع الحال لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في إحدى سفراتهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، بأن منهم الصائم، ومنهم المفطر، ولم يعب كل منهما على الآخر.

    ودلّ حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه- على أنهم سافروا سفرة أخرى، ولم يكن أحد منهم صائماً سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وعبد الله بن رواحة - رضي الله عنه-.

    أما حديث جابر - رضي الله عنه- فنفى فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم- البر عن من صام في السفر، ولحقته مشقته، وخدمه الآخرون، ووجّه - صلوات الله وسلامه عليه0 إلى الأخذ بالرخص في مثل هذه الأحوال.

    الوقفة الثانية: لهذه الأحاديث وغيرها وقع خلاف بين أهل العلم في حكم صوم رمضان في السفر؟ فذهب جمع من السلف - رحمهم الله تعالى- منهم أبو هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عمر - رضي الله عنهم- وهو مذهب الظاهرية، إلى عدم جواز الصيام في السفر، مستدلين بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(5)، ووجه الدلالة من هذه الآية أن الله تعالى لم يفرض الصوم إلا على من شهده، وفرض على المريض والمسافر الصوم في أيام أخر.

    كما استدلوا أيضاً بحديث جابر - رضي الله عنه- الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم-: (ليس من البر الصيام في السفر)، واستدلوا أيضاً بما رواه مسلم - رحمه الله- عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه، حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: (أولئك العصاة، أولئك العصاة)، فسماهم النبي - صلى الله عليه وسلم- عصاة(6).

    لكن جمهور أهل العلم ذهبوا إلى جواز الصيام والفطر، واستدلوا بالأحاديث التي سبق ذكرها آنفاً، منها قوله - صلى الله عليه وسلم-: (إن شئت فصم وإن شئت فأفطر) وقول أنس - رضي الله عنه-: (كنا نسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم)، وغيرها مما يدل على التخيير في ذلك، أما الآية التي استدل بها الفريق الأول فقد قدرها أكثر أهل العلم فقالوا: (ومن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر، أما الأحاديث التي فيها وصف الصائمين بالعصاة فهي واقعة عين على أناس شق عليهم الصيام، وعلى من كان قبلهم، وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم-: (ليس من البر الصيام في السفر)، وبهذا تبين أن رأي جمهور أهل العلم هو الموفق لمجموع النصوص، والله أعلم.

    الوقفة الثالثة:اختلف جمهور العلماء في أفضلية الصيام أو الفطر بالنسبة للمسافر، فذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي - رحمهم الله تعالى- إلى أن الصوم أفضل عن من لم يلحقه مشقة به.

    وذهب الإمام أحمد إلى أن الفطر للمسافر في رمضان أفضل، ولو لم يلحق الصائم مشقة، مستدلاً - رحمه الله- بحديث: (ليس من البر الصيام في السفر)، وبحديث: (إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره أن تؤتى معاصيه).

    واستدل الجمهور بالجمع بين الأحاديث، فعلقوا الأمر على المشقة، واستأنسوا بما رواه أبو داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (من كانت له حمولة يأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه)(7)، والحمولة: الأحمال التي يسافر بها صاحبها... ورأي الجمهور هو ما يرجحه كثير من علمائنا المعاصرين، وفقهم الله تعالى.








    (1) رواه البخاري 4/179 برقم (1943) كتاب الصوم، باب الصوم في السفر والإفطار. ورواه مسلم 2/789 كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر.
    (2) رواه البخاري 4/186 برقم (1947) كتاب الصوم، باب لم يعب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- بعضهم بعضا في الصوم والإفطار، ورواه مسلم 2/787 برقم (1118) كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر.
    (3) رواه مسلم 2/790 برقم (112) كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر.
    (4) رواه البخاري 4/183 برقم (1946) كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم- لمن ظلل عليه واشتد الحر: (ليس من البر الصوم في السفر). ورواه أبو داود 1/732 برقم (2407) كتاب الصيام، باب اختيار الفطر. ورواه الإمام أحمد 3/317. ورواه مسلم 2/786 برقم (1115) كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر.
    (5) سورة البقرة الآية رقم (185).
    (6) رواه مسلم 2/785 برقم (1114) كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر. ورواه الترمذي 3/89 برقم (710) كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في السفر.
    (7) رواه أبو داود 1/733 برقم (2410) كتاب الصيام، باب من اختار الصيام. والإمام أحمد 3/476.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 22 )



    فضل الحج والعمرة


    عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه(1).
    هذا حديث عظيم، يبين فضل ركن من أركان الإسلام، نقف معه الوقفات الآتية:
    الوقفة الأولى: العمرة هي: الزيارة، وشرعاً زيارة البيت على وجه مخصوص، وذلك بإحرام، وطواف، وسعي، وحلق أو تقصير.
    وقوله: كفارة: هي إسقاط ما لزم الذمة بسبب الذنب أو الجناية.
    والحج: لغة: القصد.
    وشرعاً: قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص، فهو الذهاب إلى مكة في أشهر الحج للطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، والمبيت بمنى، وغيرها من أفعال الحج.
    الوقفة الثانية: في هذا الحديث بيان فضل العمرة إلى بيت الله الحرام، فقد أفاد الحديث أن العمرة مكفرة للذنوب والآثام، والخطايا والسيئات، وهذا يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم-: (كفارة لما بينهما).
    الوقفة الثالثة: يدل الحديث أيضاً على فضل الإكثار من العمرة، وتتابعها، لقوله - عليه الصلاة والسلام-: (العمرة إلى العمرة)، وذكر جمهور أهل العلم أن العمرة المتكررة هذه هي ما يؤتى بها من بلد الإنسان، لا ما يخرج لها من مكة مراراً. قال ابن القيم - رحمه الله-: (ولم يكن في عمره - صلى الله عليه وسلم- عمرة واحدة خارجاً من مكة، كما يفعل كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عمره كلها داخلاً إلى مكة، وقد أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجاً من مكة تلك المدة أصلاً، فالعمرة التي فعلها رسول الله وشرعها عمرة الداخل إلى مكة، لا عمرة من كان بها فخرج إلى الحل ليعتمر، ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها من بين سائر من كان معه؛ لأنها كانت أحرمت بالعمرة فحاضت، فأمرها فأدخلت الحج على العمرة، فصارت قارنة، فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وبعمرة مستقلة، وترجع هي بعمرة ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم.
    بل إن هناك من أهل العلم من قال: تكره في السنة أكثر من عمرة، ودليلهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة.
    الوقفة الرابعة: يدل الحديث دلالة صريحة على فضل الحج إلى بيت الله الحرام، وهذا الفضل للحج المبرور، والمبرور ما كان خالصاً لله - سبحانه وتعالى-، متبعاً فيه الحاج خطوات النبي - صلى الله عليه وسلم-، والحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام كما وضح ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام)(2).
    ومما جاء في فضل الحج ما رواه النسائي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (الحجاج والعمار وفد الله، إن سألوه أعطاهم، وإن دعوه أجابهم، وإن أنفقوا أخلف الله عليهم)(3).
    ومما ورد في فضله ما صح عنه - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)(4).







    (1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الحج.
    (2) رواه البخاري في صحيحه برقم (8) ومسلم في 1/45 برقم (26).
    (3) رواه النسائي، 5/113 برقم (2625).
    (4) رواه البخاري، 3/426 برقم (1521).




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 23 )



    صلة النساء بالجهاد (الحج والعمرة)



    عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: (قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة)(1).



    هذا حديث عظيم، بين صلة النساء بالجهاد والحج، ذلكم العملان العظيمان في دين الله تعالى، نقف معه الوقفات الآتية:

    الوقفة الأولى: قولها - رضي الله عنها-: (على النساء جهاد)، يعني هل على النساء جهاد؟ فهو استفسار منها - رضي الله عنها- في حكم الجهاد على النساء.

    والجهاد لغة: بذل الجهد والطاقة.

    واصطلاحاً: له معنيان: معنى خاص، ومعنى عام.

    فأما الخاص فهو: قتال الكفار لإعلاء كلمة الله.

    وأما العام فهو: بذل الجهد في طاعة الله تعالى.

    أما معنى الحج والعمرة فقد سبق في الحديث الذي قبله.

    الوقفة الثانية: في هذا الحديث بيان لفضل الجهاد في سبيل الله - عز وجل- الذي هو دعوة الكفار وقتالهم، حتى يدخلوا في دين الله - عز وجل-، إذ إن عائشة - رضي الله عنها- تسابق إلى أن تسأل عن حكم هذا العمل الفاضل العظيم بالنسبة للمرأة المسلمة.

    ولقد تظافرت في فضل الجهاد النصوص القرآنية والنبوية، فهو ذروة سنام الإسلام، وبه قام الدين، وارتفعت رايته، وعلت الملة، وهو من أعلى القربات، وأجل الطاعات، وشرع لإعلاء كلمة الله، وتبليغ دعوته للناس كافة. قال تعالى في بيان فضل: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(2).

    وقال تعالى:(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ)(3).

    وقال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)(4).

    والآيات في ذلك كثيرة جدًا، لا يتسع المقام لحصرها، أما الأحاديث فكثيرة أيضاً، منها ما رواه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سئل: أي العمل أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل الله...) الحديث. وروى الشيخان عن أنس مرفوعاً (الغدوة وروحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها).

    أما حكم الجهاد فقد اتفق علماء المسلمين على أن الجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، إلا أنه يتعين في حالات ثلاث:

    1- إذا تقابل الصفان فيحرم على من حضر الإنصراف، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

    2- إذا نزل الكفار ببلد معين تعين على أهله قتالهم ودفعهم؛ لأن الدفاع عن النفس واجب، قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

    3- إذا استنفر الإمام قوماً لزم النفير؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

    الوقفة الثالثة: تساؤل عائشة - رضي الله عنها- عن حكم الجهاد بالنسبة للمرأة، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم- أن الجهاد المتعارف عليه ليس واجباً على المرأة، واتفق الفقهاء على ذلك، ومما يدل عليه أيضاً أن آيات وجوب القتال مثل قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ) وقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) قد خصصتها السنة، فأخرجت النساء من هذا الحكم، وبينت أنه لا يجب الجهاد على النساء، قال الصنعاني -رحمه الله-: (دل ما ذكر على أنه لا يجب الجهاد على المرأة وعلى أن الثواب الذي يقوم مقام جهاد الرجال حج المرأة وعمرتها).

    ومن الحكم من عدم وجوب الجهاد على النساء – والله أعلم – ما يلي:

    1- أن تكوين المرأة الخلقي يختلف عن الرجل، فقد هيأ الله تعالى كل واحد من الرجال أو النساء للقيام بما كلف به من وظائف، فالطبيعة التي خلقت عليها المرأة من ضعف البنية في الجسم، ورقة في العاطفة، وفزع عند المصائب، كلها تتنافى مع ما يستلزمه الجهاد من قوة الجسم، وكمال في العقل، وقدرة على التحمل، وشجاعة، وإقدام، فالإسلام راعى هذا الأمر، ولم يوجب على المرأة الجهاد.

    2- أن المرأة مأمورة بالستر والحجاب، والقرار في البيت، والابتعاد عن الرجال، وعدم الاختلاط بهم ومواجهتهم، ففي إيجاب الجهاد عليها تعريض لها للخروج أمام الرجال، والاختلاط بهم، ومزاولة الأعمال الخاصة بهم.

    لكن يبقى أمر يحتاج إلى بيان ذلكم، هو هل معنى عدم وجوب الجهاد أنه لا يجوز لها الخروج للجهاد مطلقاً؟.

    الوقفة الرابعة: بين الحديث مجالاً من مجالات الجهاد للمرأة، ألا وهو الحج، قال - عليه الصلاة والسلام-: (عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) وذلك أن في كلا العمليتين مشقة، وجهد، وعمل، فلذلك سمى الرسول - صلى الله عليه وسلم- الحج جهاداً.

    وهذا يقودنا إلى أن نبين بعض المجالات التي يمكن أن تسهم فيها المرأة، وهي بالنسبة لها من باب الجهاد ومن ذلكم.

    1- العمل في البيت بمختلف شعبه، وألوانه، من خدمة الزوج، ومعاونته، ومساعدته في مهامه، وتهيئة الجو المناسب له، وإعداد ما يلزمه من حاجيات وغيرها، وكذا القيام على تربية الأبناء والبنات.

    فـ ( الأم مدرسة إذا أعددتهـا أعددت شعباً طيب الأعراق)

    وهذا من أعظم أبواب الجهاد، ومجالات المسؤولية، قال - عليه الصلاة والسلام-: (والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها).

    2- العمل في مجالات العمل الأخرى إذا لم يخل في العمل البيتي، وأن يكون ذلك في المجالات الخاصة بالمرأة، كأن تعمل معلمة للطالبات، أو طبيبة للنساء، أو ممرضة لهن، ونحو ذلك، فلا بد من انتفاء الاختلاط مع الرجال، فإسهامها بذلك مجال من مجالات الجهاد، وفي ذلك خير عظيم إذا استغل لنشر الخير والفضيلة.

    3- العمل بوسائل الدعوة المتاحة لها، كالكتابة في المجالات المختلفة، أو النصيحة المباشرة، أو غير المباشرة، ونحو ذلك من الوسائل التي تستطيعها، وكل ذلك من الجهاد.

    4- سائر الطاعات والقربات، قياسًا على الحج.

    الوقفة الخامسة: جاء في بعض الروابات (لكن أفضل الجهاد وأجمله حج مبرور، ثم لزوم الحصر) يفيد أن المسلمة إذا حجت فرضها أن تلزم بيتها؛ اتباعاً للقاعدة العامة: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)، ففيه توجيه لعدم تكرار الحج، فبيتها أفضل من حجها، إذا قامت بالواجبات عليها، والله أعلم.

    الوقفة السادسة: بيّن الحديث مجالاً من مجالات الجهاد وهو الحج والعمرة، وهذا يدل على أن مفهوم الجهاد مفهوم واسع، وليس منحصراً في القتال كما يتبادر إلى أذهان كثيرين عند إطلاق هذا اللفظ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم- سمّى الحج والعمرة جهاداً، وقال للذي جاء يستأذن في الخروج للقتال: (أحيّ والداك؟) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد).

    فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم- بر الوالدين، والقيام على خدمتهما من الجهاد في سبيل الله، والله - سبحانه وتعالى- بذل المال لطاعته، وفي سبيله جهاداً، فقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ)، وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا)، والنصوص في توضيح هذا المعنى كثيرة، ولذا قسّم العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى- الجهاد إلى عدة أقسام، فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه في كتاب زاد المعاد.









    (1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، 6/4. وفي كتاب الحج 3/381.
    (2) سورة التوبة، الآية: 111.
    (3) سورة التوبة، الآية: 20.
    (4) سورة آل عمران، الآيات: 169-171.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 24 )




    النيابة في الحج




    عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: كان الفضل رديف النبي - صلى الله عليه وسلم- فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: (نعم) وذلك في حجة الوداع. متفق عليه.

    وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، ولم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: (نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري.

    هذان حديثان كلاهما في موضوع النيابة في الحج، نقف معهما الوقفات الآتية:

    الوقفة الأولى: مما هو مقرر في الشرع، أنه يجب على المسلم حج بيت الله الحرام، فهو الركن الخامس من أركان الإسلام والواجب أن يقوم بنفسه فيه، متى ما اكتملت شروطه، وذلك بأن يكون مسلماً بالغاً حراً عاقلاً مستطيعاً، وتزيد المرأة شرطاً سادساً هو وجود محرم لها، وهو زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح.

    والاستطاعة في حق الجميع ملك زاد يحتاجه في سفره ذهاباً وإياباً من مأكول، ومشروب، وكسوة، وملك لابد له منه، أو ملك أجرة تمكنه من الركوب ذهاباً وإياباً.

    عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: الزاد والراحلة، يعني قوله تعالى: (مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(1).

    فمن توفرت فيه هذه الشروط وجب عليه المبادرة بالحج.

    الوقفة الثانية: مما يدل عليه الحديث الأول أن من عجز لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه، لكونه ثقيلاً لا يستطيع الركوب إلا بمشقة شديدة، أو لكونه ضعيف الجسيم جداً، وما شابه ذلك، لزمه أن يقيم نائباً عنه يؤدي عنه فريضة الحج، ووجه الدلالة من الحديث ما جاء فيها: (إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: (نعم).

    وروى أحمد والنسائي عن عبد الله بن الزبير قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل، والحج مكتوب عليه، أفأحج عنه، قال: أنت أكبر ولده؟ قال: نعم. قال: فحج عنه.(2)

    أما من مرض مرضاً يرجى برؤه فلا يستنيب، فإن فعل لم يجزئه لمفهوم الحديثين.

    الوقفة الثالثة: يفيد الحديث الثاني أن من لزمه حج أو عمرة فتوفى قبله وكان استطاع مع سعة وقت، وخلف مالاً أخرج عن الميت من جميع ماله ما وجب عليه.

    قال الفقهاء: ومن مات وعليه دين، وقد لزمه حج، وضاق ماله عنهما، أخذ من ماله للحج بحصته كسائر الدين، وحج عنه، من حيث بلغ لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقال - عليه الصلاة والسلام-: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).

    الوقفة الرابعة: مما يكمل أحكام الإنابة في الحج أن مَنْ أراد أن يستنيب شخصاً للحج فيجب أن يكون النائب قد حج عن نفسه قبل أن يحج عن غيره، فإن فعل بأن حج عن غيره قبل نفسه انصرف إلى حجة الإسلام؛ لما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال: (من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) رواه أبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن حبان(3).

    الوقفة الخامسة: مما يفيده الحديث الأول أنه يجب على المسلم، وبخاصة الذي تلبس بعبادة الحج أن يغض بصره عن الحرام، لئلا يفسد عليه حجه، فالرسول - صلى الله عليه وسلم- لما شاهد الفضل ينظر إلى المرأة السائلة صرف بصره، قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)، وقال - عليه الصلاة والسلام-: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) رواه مسلم .

    ولا شك أن إطلاق البصر في المحرمات من الرفث، إذ فسره أهل العلم بالجماع ودواعيه.

    وعلى المسلم أن يتجنب كل ما يشين حجه، وينقص أجره، أو يضعفه.

    الوقفة السادسة: مما يفيده الحديثان المسارعة إلى بر الوالدين، ومن ذلك برهما حال ضعفهما، كحال الكبر، أو بعد موتهما، ومن مواضع البر الطاعات المشروعة عنها، ومنها الحج والعمرة، وكذا الإنفاق، والصدقة، والدعاء، وغيرها، فمن التوفيق للمسلم في هذه الحياة أن يوفق لبر والديه بقدر ما يستطيع، ففي ذلك النجاة، والفلاح، والفوز في الدنيا والآخرة.







    ______________________________ ___

    (1) رواه بن ماجه 2/967 برقم 2897 كتاب المناسك.

    (2) رواه أحمد في 4/5 والنسائي في 5/117 كتاب المناسك.

    (3) رواه أبو داود برقم (811) في المناسك، وابن ماجه في 2/969 في المناسك.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 25 )



    من محظورات الإحرام




    عن ابن عمر - رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سئل عما يلبس المحرم من الثياب، فقال: (لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين، فيلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسّه الزّعفران أو الورس) متفق عليه، واللفظ لمسلم. وفي رواية عند البخاري: (ولا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين).

    هذا الحديث أصل في محظورات الإحرام بالحج والعمرة نقف معه بما يلي:

    الوقفة الأولى: قال: (سئل عما يلبس المحرم من الثياب) المحرم هو من تلبس بالإحرام، والإحرام الإهلال بحج أو عمرة، ومباشرة أسبابها وشروطها، من خلع المخيط، واجتناب الأشياء التي منع الشرع منها، قال الحافظ ابن حجر: (المراد بالمحرم: من أحرم بحج، أو عمرة، أو قرن).

    قال العلماء: الإحرام: في اللغة: نية الدخول في التحريم.

    وفي الاصطلاح: نية النسك أي نية الدخول فيه.

    وقوله: فعال (لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات الخ) قال الحافظ: (سئل عما لا يلبس فأجاب بما لا يلبس؛ ليدل بالالتزام عن طريق المفهوم على ما يجوز، وإنما عدل عن الجواب لأنه أخصر وأحصر) اهـ.

    ولا يلبس: اللام نافية، وهو خبر بمعنى النهي.

    والقميص: الثوب ذو الأكمام.

    والعمائم: ما يلف على الرأس تكويراً.

    والسراويلات: جمع سروال، وهو لباس يغطي السرة والفخذين.

    والبرانس: كل ثوب رأسه منه، ملتزق به.

    والخفاف: جمع خف، وهو ما يلبس في الرجل من جلد دقيق.

    والزعفران: الصبغ المعروف، وهو نبات بصلي، لونه بين الصفرة والحمرة.

    والوَرْس: نبت أصفر يصبغ به الثياب، وله رائحة طيبة، ويكثر في اليمن.

    والنقاب: الخمار الذي يشد على الأنف تحت المحاجر.

    والقفاز: ما تلبسه المرأة في يدها، فيغطي أصابعها وكفيها، وهو لليد كالخف للرجل.

    الوقفة الثانية: قال ابن دقيق العيد (اتفقوا على المنع من لبس ما ذكر في الحديث، والفقهاء القياسيون عدّوه إلى ما رأوه من معناه في العمائم والبرانس تعدّى إلى كل ما يغطي الرأس مخيطاً أو غيره. ولعل العمائم تنبيه على ما يغطها من غير المخيط، والبرانس تنبيه على ما يغطها من المخيط، والتنبيه بالقمص على تحريم المخيط بالعضو الخاص إحاطة مثله في العادة، ومنه السراويلات؛ لاحاطتها بالوسط إحاطة المحيط) اهـ بتصرف.

    الوقفة الثالثة: ذكر في الحديث بعض محظورات الإحرام ومنها:

    عدم لبس القمص، فقال: (لا يلبس القميص) ووضع عليه الفقهاء قاعدة وهي: عدم لبس المخيط المحيط بالبدن، قال ابن قدامة: (قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القمص، والعمائم، ولا السراويلات، والخفاف، والبرانس).

    الوقفة الرابعة: يدل الحديث على أن من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، قال ابن قدامة: (ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم أن للمحرم أن يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار والخفين، إذا لم يجد النعلين).

    وهل يفدي إذا لبس ذلك؟ قال ابن قدامة (وهو صريح في الإباحة ظاهر في إسقاط الفدية، أمر بلبسه، ولم يذكر فدية؛ ولأنه يختص لبسه في حالة عدم غيره فلم تجب به فدية كالخفين المقطوعين)اهـ.

    الوقفة الخامسة: ذكر في الحديث أن من محظورات الإحرام عدم تغطية رأس الذكر، ويؤيد هذا الحديث حديث الذي وقصته راحلته فمات، قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً).

    والممنوع من تغطية الرأس ما كان ملاصقاً كالعمامة، والطاقية، والغترة ونحوها، أما إذا لم يكن ملاصقاً فليس بممنوع، كالسيارة، والخيمة، ونحوها، فقد ظلل على النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو محرم يوم عرفة.

    الوقفة السادسة: ومن المحظورات عدم مس الطيب، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم-: (ولا تلبسوا شيئاً مَسَّهُ الزعفران أو الورس) قال ابن قدامة (أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من الطيب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- في المحرم الذي وقصته راحلته: (لا تمسوه بطيب).

    الوقفة السابعة: بينت رواية البخاري - رحمه الله- أن المرأة ممنوعة من لبس النقاب والقفازين حال الإحرام، فإحرام المرأة في وجهها، فلا يجوز تغطيته إلا إذا كانت بحضرة رجال أجانب عنها، يؤيد ذلك ما روته عائشة - رضي الله عنها- قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا كشفناه.
    الوقفة الثامنة: مما بينه أهل العلم أن هذه الممنوعات إذا خالفها المحرم بأنه يفدي إذا كان معتمراً، والفدية على التخيير ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام، والله أعلم.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 26 )




    أحاديث البيوع (1)



    في هذه الحلقة وما بعدها أخي، ندخل في فقه أحاديث البيوع بمختلف أبوابه وموضوعاته, ذلكم أن البيع، والشراء، والتعامل التجاري, له أحكام في الشرع تبينه وتوضحه, والمسلم يتعامل في حياته اليومية بالبيع والشراء، فلا بد له من فقه هذه المعاملات؛ لأجل أن يسلم تعامله ومعاملاته، ولا يقع في ما نهى الله تعالى عـنه.

    والبيوع والمعاملات التجارية بعامة لها أساليب جديدة، لابد من عرضها على الشرع، فما كان حلالاً أخذ به، وما كان غير ذلك ترك.

    وقبل أن نبدأ الحديث عن فقه أحاديث البيوع نقف في هذه الحلقة وما بعدها بعض الوقفات التي لا بد من بيانها قبل الولوج في فقه الأحاديث؛ وذلك لأن لها علاقة وطيدة، وتعطينا التصور العام على النظام الإسلامي في التعامل الاقتصادي بعامة.



    الوقفة الأولى:

    إن الله - سبحانه وتعالى- خلقنا في هذه الحياة, وأنعم علينا نعماً عظيمة, لا يعدها العادون , ولا تحصيها دفاتر الحاسبين , ولا تصورها براعة كاتب, ولا تحيط بها بلاغة خطيب أو واعظ, ومن هذه النعم: نعمة الخلق والإيجاد, ونعمة الإيمان والتمسك به, ونعمة الهداية إلى السنة , والسير على منهاجها , ونعمة الصحة والعافية في الأبدان, ونعمة الأمن في الأوطان, ونعمة المال، والأرزاق العاجلة والآجلة, وغيرها من النعم التي يصعب حصرها والإحاطة بها, قال تعالى : (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها).

    وهذه النعم كلها من تفضل المنعم - سبحانه وتعالى- على عباده المؤمنين، قال - جل وعلا-: (وما بكم من نعمة فمن الله).

    وهذه النعم تستوجب من العبد شكر الله - جل وعلا- شكراً يكون بالقول والفعل, كما يكون بالاعتقاد والسلوك, فالشكر هو الطريق الواضح للمحافظة على هذه النعم، والعامل الأكبر لزيادتها وعدم نقصانها, يقول - سبحانه وتعالى-:(لئن شكرتم لأزيدنكم،ولئن كفرتم إن عذابي لشديد).

    وإن من أجل النعم, ومن أظهرها، بل وكثير من النعم لا يؤدى حقها إلا من خلالها، نعمة المال والرزق.

    هذه النعمة التي تقوم عليها حياة الأفراد، والأسر، والمجتمعات، وقد وضع لها الإسلام ضوابط، وأصولاً، وآداباً يسير عليها المسلم بصفته الفردية, والمسلمون بصفتهم الجماعية.

    هذه الأصول والآداب تحمل تشريعاً متكاملاً، ابتداءً من النظرة إلى المال, ومن ثَمَّ موارده, وإلى صرفه في الوجوه المشروعة له.

    ولذا فإن من شكر الله تعالى على هذا المال الإيمان التام بأنه مال الله, وكذا مراعاة حق الله تعالى فيه, واكتسابه من وجوهه المباحة, وصرفه في مصارفه الشرعية, والاستعانة به على طاعة الله تعالى وعبادته, والحذر من صرفه في الوجوه المحرمة, أو الاستعانة به على معصية الله.

    ولا شك أن المال بالشكر ينمو ويزداد, وبعدمه يكون النقص والخلل, فبكفر النعمة تحل النقمة, ويبدل الله الثراء فقراً, والرخاء شدة وضيقاً، والأمن خوفاً، قال الله تعالى:(وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون).

    وحين يشكر العبد هذه النعمة يحصل النماء والزيادة والبركة في المال, فيكون المال حينئذ معيناً لصاحبه على الخير, إن تصدق منه قبل الله تعالى صدقته, وإن أنفقه في الخير بارك الله فيه, وإن خلفه لورثته كان له أجــر.

    الوقفة الثانية: هذا المال له أصول، وضوابط، وآداب, يقوم عليها نظام الإسلام فيه, وإن من الواجب على المسلم أن يتعلم ما يقيم به أحكام دينه, والعلم الشرعي طريق العبادة الصحيحة, وسبيل المعاملة المباحة, فبالعلم يعرف المسلم كيف يؤدي عبادته على الوجه الصحيح الموافق للشرع، بعيداً عن المخالفات، والأخطار، والمحظورات.

    وقد تضافرت النصوص القرآنية والنبوية على ضرورة تعلم العلم الشرعي، وبيان فضله، والثناء على أهله, ويكفي في ذلك أن الله - سبحانه وتعالى- صدّر الوحي بالتوجيه إلى القراءة والعلم.

    والعلم كما ينفع صاحبه أثناء الحياة بإقامته على المنهج الصحيح في عمله، وقوله، وسلوكه, فهو ينفع صاحبه أيضاً بعد الممات، فهو من الصدقة الجارية، كما وضح ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بقوله في الحديث الصحيح:(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية , أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).

    ولا شك أن المسلم محتاج إلى العلم بما يقيم من خلاله معاملاته المالية والاقتصادية، مثل معرفة أحكام البيوع, وأنواع البيوع المحرمة، وما يتعلق بذلك, روى الترمذي - رحمه الله- بإسناده عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- قال:( لا يبيع في سوقنا إلا من تفقه في الدين).


    قال الترمذي: حديث حسن.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 27 )



    أحاديث البيوع (2)

    الوقفة الثالثة: بين لنا ربنا سبحانه وتعالى أن الأرض وماعليها ملك له جلَ وعلا, قال تعالى : (ولله ملك السماوات والأرض وما فيهن).
    واستعمر الآدميين في هذه الأرض وأعدها لانتفاعهم ومنفعتهم ومصلحتهم , يقول سبحانه وتعالى:(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها).

    ويقول جلَ وعلا:(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً), ويقول سبحانه وتعالى:(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض).
    وقال تعالى:(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة), وبين سبحانه أن المال مال الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه:(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم), ويقول جلَ وعلا :(وأمددناكم بأموال وبنين), ويقول سبحانه:(وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم).
    فبينت هذه الآيات وغيرها كثير أن المال مال الله سبحانه وتعالى, وأن الناس مُستخلفون فيه, يبتليهم الله سبحانه وتعالى لينظر أيهم أحسن عملا, وأقوم سلوكاً وطريقاً.
    وعليه فيتصرف المسلم بهذا المال بناءً على هذه النظرة العقدية اليقينية, أن المال مال الله فيجمعه ويصرفه بناء على ما حده الله تعالى بشرعه, وما سنه رسوله صلى الله عليه وسلم بسنته.
    الوقفة الرابعة: التجارة في الإسلام مطلوبة , بل قد حث الإسلام عليها, ولكن بالطرق المشروعة عموماً, وفي البيع والشراء بخاصة, يقول تعالى:(وأحل الله البيع وحرم الربا), ويقول جل شأنه:(فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون), ويقول سبحانه وتعالى مادحاً عباده المؤمنين الذين يجمعون بين طلب الرزق بالتجارة والبيع وبين المحافظة على العبادة, يقول:(في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال*رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار), وقال سبحانه:(فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون).
    وطلب التجارة بالبيع والشراء والإجارة والمضاربة وغيرها من أوجه المعاملات التجارية مطلوب شرعاً لما يترتب عليها من الفوائد والآثار للفرد والمجتمع, بل إن ذلك مما تدعو إليه الحاجة، لأن كل إنسان له ضرورات مختلفة, وحاجات متعددة من الأكل والشرب واللباس والمركب وغيرها, ولا يستطيع كل إنسان أن يوفر لنفسه كل ما تحتاجه فهو محتاج إلى مافي يد غيره, وهذا الغير لا يبذله -غالباً- إلا بعوض وعن طريق المعاملة في البيع والشراء والإجارة والقرض وغيرها.
    وبذلك تتحقق المصالح, وتسد الحاجات , وينتعش الاقتصاد, والشريعة الإسلامية جاءت بضبط المعاملات بين الناس بما يحقق غرضهم ويسد حاجتهم مع السلامة من الضرر والأضرار بالنفس أو بالغير.
    فليست المعاملة والتجارة في الإسلام قائمة على النهب والسلب والاستغلال والغش والخداع والأيمان الفاجرة, وأساليب الترويج المغرية والمضللة , والدعايات الكاذبة , وإنما هي منضبطة بضوابط شرعية , وقواعد مرعية.
    يجمع هذه القواعد والضوابط أصلان مهمان ينبغي للمسلم أن يعرفهما ويفقههما ويعيها في معاملاته كلها
    الأصل الأول هو: أن الأصل الجامع لجميع المأمورات والمنهيات أن الشارع لا يأمر إلا بخير وصلاح ونفع للناس في دينهم وأبدانهم ودنياهم, لايشذ عن هذا الأصل شيء, قال تعالى مخبراً عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:(يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث).
    والأصل الثاني: أن الأصل في المعاملات وأنواع التجارات الإباحة والحل, فلا يمنع ويحرّم منها إلا ماورد الشرع بتحريمه ومنعه قال تعالى:(وأحل الله البيع), وقال سبحانه:(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم).
    أي فإنها مباحة لكم, وهذا شامل لجميع أنواع التجارة, ومن حكمة الله تعالى ورحمته بعبادته أن لم يحرم عليهم من المعاملات إلا ما يضرهم في دينهم ودنياهم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 28 )



    أحاديث البيوع (3)





    الوقفة الخامسة: من أهم الضوابط في المعاملات المالية الأمانة , فإذا كان التاجر المسلم يعلم أن الله مطلع عليه, ورقيب على تصرفاته, يراه ويسمعه, وأن على يمينه وشماله ملكين يسجلان عليه جميع أعماله وتصرفاته, فهذا بلا ريب عامل قوي لخشية الله تعالى وتقواه في السر والعلن, فيجتهد في تطهير معاملاته من كل ما يخالف شرع الله, ويحذر من كل ما يشوب بيعه وشراءه , وجميع معاملاته، فلا يغش، ولا يدلس , ولا يكذب أو يخادع, بل يتعامل مع المسلمين وغير المسلمين بكل صدق وأمانة.

    وأمانة التاجر المسلم خير له في الدنيا والآخرة, فبأمانته يرضي ربه - تبارك وتعالى-, ويرضى عنه معاملوه من الناس, فيأتمنونه في معاملتهم معه, ويقبلون قوله, ويتسابقون إلى بضاعته، ويطمئنون إلى كيله، ووزنه، وتسعيرته, وإذا عامل غير المسلمين كان دعوة عملية صادقة لهم في الدخول في دين الله - عز وجل-.

    يتعامل المسلم بذلك وهو يستشعر قدوته في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، الملقب بـ (الأمين).

    وعليه فالمسلم في تعامله مع الآخرين يجعل دائماً بين عينيه قول الله تعالى:(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها), وكذا قول الله تعالى :(فليؤدِ الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه), وكذا ما رواه الترمذي وحسنه مرفوعاً:(التاجر الأمين الصادق المسلم مع الشهداء يوم القيامة).

    الوقفة السادسة: وهذه الوقفة أثر لما قبلها، ذلكم أن المسلم إذا علم بأن الله رقيب عليه, وكان متحلياً بالأمانة فلابد أن يورث ذلك الصدق لديه, فيصدق في قوله وعمله, وفي عهده ووعده.

    والصدق من سمات المسلم الواجبة عليه, والله - جل وعلا- أخبر بالصدق، والتعامل به, ومدح الصادقين, فقال سبحانه:(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين), ويقول :(هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار), وأهل الصدق هم أهل الجنة، فقد قال - عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح:(عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر, وإن البر يهدي إلى الجنة, ومازال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا), وللصدق-أخي القارئ- أثره العظيم على المسلم في معاملاته وفي بيعه وشرائه, جاء في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- :(البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما, وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما), وروى الترمذي بسـند صححه عن رفاعة ابن راتع قال : خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فرأى الناس يتبايعون فقال:(يا معشر التجار) فاستجابوا، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم, فقال - عليه الصلاة والسلام-:(إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى وصدق) وروى الإمام أحمد مرفوعاً في مسنده من حديث عبد الرحمن بن شبل مرفوعاً:(إن التجار هم الفجار), قالوا: يا رسول الله، أليس الله قد أحل البيع؟! قال :(بـلى, ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون) صححه الحاكم, وفي حديث قيس بن أبي غرزة - رضي الله عنه- فيما رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهما بسند صحيح قال: (كنا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- نسمّى قبل أن نهاجر: السماسرة), فمر بنا يوم بالمدينة فسمانا باسم هو أحسن منه , فقال:(يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف) وفي رواية:(الحلف والكـذب) وفي أخرى: ( اللغو والكذب, فشوبوه بالصدقة).

    إن المسلم لا يكذب, ولا يتعامل بالكذب, وسمته الصدق في قوله وعمله , وفي بيعه و شرائه, فالصادق مؤتمن ومبارك عند الله تعالى, موثوق عند الناس, أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصادقين في أقوالنا، وأعمالنا، واعتقاداتنا، وسلوكنا، وتصرفاتنا، وأن يحشرنا مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 29 )



    أحاديث البيوع (4)




    الوقفة السابعة: مما فرض الإسلام على البائع ألاّ يكتم عيباً , ولا يخفي نقصاً, بل عليه أن يبين العيب، ويظهر السلعة على حقيقتها، عملاً بالحديث الصحيح:(فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما , وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما), وإظهار عيوب السلعة يجعل المشتري والمتعامل يثق بأي سلعة أخرى ليشتريها من هذا البائع, ويزيد في التعامل معه, وتحصل بركة البيع.

    الوقفة الثامنة: مما ينبغي أن يفقهه البائع والمشتري عدم الغش في البيع والشراء, والغش في التعامل بإظهار صورة المبيع على غير حقيقته، وكان هذا تعامل يسود بعض الباعة في الجاهلية, فجاء الإسلام محذراً من هذا الغش بخصوصيته, ومتوعداً من فعله بالوعيد الشديد, وروى مسلم - رحمه الله- من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مرَّ في السوق على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً فقال:(ما هذا يا صاحب الطعام)؟ قال يا رسول الله أصابته السماء, قال: (أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس), ثم قال: (من غشنا فليس منا), وفي رواية أبي داود: (ليس منا من غش), وروى الإمام أحمد، وابن ماجه بسند حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً فيه غش إلا بينه له), وأخرجه البخاري معلقاً.

    الوقفة التاسعة: قد تتفاعل عملية البيعوالشراء، والأخذ والعطاء، على تحسين السلعة أمام المشتري، فيتطاول بعضهم بالأيمانالمغلظة ليصف هذه السلعة, وربما تكون هذه الأيمان كاذبة, ومن هنا نهى الشارع الحكيمعن كثرة الحلف, ناهيك ما إذا كان الحلف كذباً وبهتاناً, روى مسلم وغيره عن أبي قتادة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: (إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق)،وروى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم-يقول: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب)، وفي رواية: (ممحقة للبركة)
    وروى البخاري وغيره من حديث حكيم بن حزاممرفوعاً: (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما, وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحاً , ويمحقا بركة بيعهما).
    وقد توعد الله - سبحانه وتعالى- من ينفقسلعته بالأيمان الكاذبة, ويشتري بها قليلاً من الدنيا بالعذاب الأليم, قال- صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة)، وذكر منهم(رجل ينفق سلعته بيمينه كاذباً بعد العصر)، وجاء برواية أخرى لهذا الحديث.
    الوقفة العاشرة: من ضوابط التعامل التجاري في الإسلام عدمالاحتكار, والاحتكار هو: أن يخزن التاجر السلعة المحتاج إليها حتى يرتفع سعرها، وهو حرام في شرع الله - عز وجل- لما يسببه من ظلم الناس والخطأ عليهم, وروى مسلم - رحمهالله- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يحتكر إلا خاطئ).
    وذكر أهل العلم أن الاحتكار بجميع صورهمحرم، سواء كان الاحتكار من فرد متصف بالجشع والطمع، أو مجموعة تجارتعارفوا على ذلك، أو غيرهم.
    الوقفة الحادية عشرة: مما أمر به الإسلام، وحث عليه، وشدد في مخالفته إيفاء الكيل والوزن, وذلك بأن يُعطى المشتري كامل حقه مكيلاً أو موزوناً, ومن نقص عن ذلك فقد طَفَّفَ, ومن اتصف بهذه الصفة فلا شك أن ذلك ينبئ عن جشع، وطمع، وضعف يقين بالله - سبحانه وتعالى-, وما أعده من جزاء وحساب, ولذا فقد توعد الله المطففين بالويل، والهلاك، والخسارة, يقول - سبحانه وتعالى-: (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون* وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون*ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون* ليوم عظيم*يوم يقوم الناس لرب العالمين ), بل إن هذا الذنب العظيم أهلك الله فيه أمة من الناس.
    قال - سبحانه وتعالى-: (وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط *ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين)سورة هود 84-85 ولاشك أخي أن المؤمن بالله حقاً, والمتمسك بشريعته صدقاً لا يمكن أن يفكر ببخس الناس حقوقهم, أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه، واتباع سنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم- .. إنه سميع مجيب.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 30 )



    أحاديث البيوع (5)




    الوقفة الثانية عشرة: مما حث عليه الإسلام ورغب فيه التسامح في البيع والشراء, روى البخاري، وغيره عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى), وروى الشيخان عن حذيفة - رضي الله عنه- مرفوعاً: (أتي الله - عز وجل- بعبد من عباده آتاه الله مالاً فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ قال:( ولا يكتمون الله حديثا) قال: يا رب آتيتني مالاً فكنت أبايع الناس, وكان من خلقي الجواز, فكنت أتيسر على الموسر, وأنظر المعسر, فقال الله - عز وجل-: أنا أحق بذا منك, تجاوزوا عن عبدي).
    وصور التسامح أخي القارئ كثيرة، ومنها: عدم التشدد في القيمة, وبخاصة إذا كان المشتري معروفاً بفقره، أو قلة ماله, وكذا إقالة من يطلب الإقالة، فإنه لا يستقيل إلا نادم مستضر بالبيع, ولا ينبغي أن يكون سبباً في إضرار أخيه المسلم, ولذا جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (من أقال مسلماً أقال الله عثرته) أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.


    الوقفة الثالثة عشرة: خلق الله الخلق ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وجعل الكون كله بما فيه مسخراً للإنسان؛ ليستعين به على طاعة الله تعالى، مشجعاً على أداء العبادة على وجهها الشرعي, والموفق من خدمه ماله, وقاده إلى عبادة مولاه, والخاسر من شغله عن ربه، وألهاه عن ذكره.



    أحاديث البيوع (6)


    الوقفة الثانية عشرة: مما حث عليه الإسلام ورغب فيه التسامح في البيع والشراء, روى البخاري، وغيره عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى), وروى الشيخان عن حذيفة - رضي الله عنه- مرفوعاً: (أتي الله - عز وجل- بعبد من عباده آتاه الله مالاً فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ قال:( ولا يكتمون الله حديثا) قال: يا رب آتيتني مالاً فكنت أبايع الناس, وكان من خلقي الجواز, فكنت أتيسر على الموسر, وأنظر المعسر, فقال الله - عز وجل-: أنا أحق بذا منك, تجاوزوا عن عبدي).
    وصور التسامح أخي القارئ كثيرة، ومنها: عدم التشدد في القيمة, وبخاصة إذا كان المشتري معروفاً بفقره، أو قلة ماله, وكذا إقالة من يطلب الإقالة، فإنه لا يستقيل إلا نادم مستضر بالبيع, ولا ينبغي أن يكون سبباً في إضرار أخيه المسلم, ولذا جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (من أقال مسلماً أقال الله عثرته) أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.

    الوقفة الثالثة عشرة: خلق الله الخلق ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وجعل الكون كله بما فيه مسخراً للإنسان؛ ليستعين به على طاعة الله تعالى، مشجعاً على أداء العبادة على وجهها الشرعي, والموفق من خدمه ماله, وقاده إلى عبادة مولاه, والخاسر من شغله عن ربه، وألهاه عن ذكره.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 31 )


    أحاديث البيوع ( 6 )



    الوقفة الرابعة عشرة :

    من أهم الضوابط التي ينضبط بها هذا التعامل المالي سلامة النية والقصد , فالنية والقصد في الشريعة الإسلامية عليهما مدار كثير من الأقوال والأعمال , ولذا كانت قاعدة:(الأمور بمقاصدها) من القواعد الخمس الكبرى في الشريعة الإسلامية , وهذه القاعدة مبناها على كتاب الله تعالى, وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم-, يقول الله - سبحانه وتعالى-:(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء).

    وروى البخاري، وغيره عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- قال:( سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول:(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله , ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه).متفق عليه

    والتجارة والمعاملة تحتاجان إلى القصد الحسن، والنية السليمة، فيقصد المسلم بمعاملته، سواء كانت بيعاً، أو شراء، أو إجارة، أو قرضاً، أو شراكة، أو غيرها من أنواع المعاملات، الحصول على الرزق الحلال؛ ليستعف به عن السؤال؛ ولينفق على نفسه، ومن تحت يده؛ ولينفع غيره من إخوانه المسلمين.

    كما يقصد في الحصول على المال القيام بكفايته، وكفاية من يمونه, وأن يتقوى به على طاعة الله تعالى وعبادته , وطلب رضاه , وأن يحصن نفسه به عن الوقوع في المحرمات والمكروهات، مجتنباً كل ما يسخط الله تعالى ويغضبه, كما يقصد أيضاً البذل والإنفاق في سبيل الله ووجوه الخير المتعددة.



    - بهذه النية الصالحة يكون طلبه للرزق, وتجارته، ومعاملته عبادة تقربه إلى الله تعالى، سواء كان في متجره، أو سوقه، أو بيعه، أو شرائه، أو غير ذلك.

    - فالله - سبحانه وتعالى- يجزي بهذه النية الحسنة خير الجزاء, فالأعمال بالنيات, وقد ذكر أهل العلم أن بالنيات تتحول العادات إلى عبادات, يقول بعض السلف:( إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء، حتى في الطعام والشراب), وقال بعضهم:(رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية).

    وعليه ينبغي للمسلم أن يصحح نيته وهو يقوم بمعاملاته التجارية من بيع وشراء وغيرهما.



    الوقفة الخامسة عشرة:

    ومما ينبغي أن ينضبط به التعامل بالمعاملات التجارية وجود الشعور بالمراقبة, والمقصود بذلك أن المسلم لا بد أن يشعر بأن الله رقيب عليه في جميع تصرفاته , وفي حركاته، وسكناته, يعلم سره وجهره, وكل عمل يعمله, أو معاملة يجريها, أو صفقة يبرمها, أو وعد، أو عهد، فالله – سبحانه- مطلع عليه, وسيحاسبه على كل صغيرة وكبيرة, وعلى كل أمر دقيق أو جليل .

    يقول - سبحانه وتعالى-:(ألم تر أن الله يعلم ما في السموات والأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم), ويقول - جل شأنه-:(إن الله كان عليكم رقيباً), ويقول – سبحانه-:(إن الله كان على كل شيء رقيبا), ويقول:(فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).

    ولاشك أن هذا الشعور إذا وجد عند المسلم في جميع أحواله فسيكون متيقظا أثناء معاملاته، فلا يحيد عن شرع الله قيد أنملة.

    - ينبغي للمسلم أن ينمي هذا الشعور - أعني الشعور بمراقبة الله تعالى في جميع الممارسات والسلوكيات والتصرفات- في حياته كلها، سواء كان في البيع، والشراء، والقرض، والهبة، والإجارة، وغيرها، أو في معاملاته في أخلاقه وسلوكه، وسواء كان مع نفسه، أو مع الناس , في بيته، أو خارج بيته, فإذا انضبط بذلك حمد العاقبة، وفرح بالنتيجة في الدنيا والآخرة.



    أسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه, إنه سميع مجيب.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 32 )



    أحاديث البيوع (7)




    لازلنا نواصل الحديث عن بعض الآداب والضوابط في المعاملات المالية والتجارية، التي ينبغي للمسلم أن يتعامل بها، وأن يحافظ عليها، حتى يكون عابداً لله تعالى، على بصيرة من أمره, ومتمشيًا على منهاج محمد - صلى الله عليه وسلم- في سائر شؤون حياته.
    وفي هذه الحلقة نعرض لبعض هذه الآداب والضوابط في الوقفات الآتية:


    الوقفة السادسة عشرة:

    عرفنا في حلقة سابقة أن المال مال الله - سبحانه وتعالى- قد أنعم به على هذا الإنسان, وجعل فيه حقاً للآخرين؛ لحكم عديدة، وآثار حميدة في الدنيا والآخرة, والمسلم الحق هو الذي يحرص على أداء الحق الواجب والمندوب, ومن أهمها: أداء الزكاة المفروضة، التي جعلها الشارع ركناً من أركان الإسلام, وقرينة في كتاب الله - سبحانه وتعالى-, هذه الزكاة تطهر المال، وتنميه، وتحميه من الآفات, وتبارك فيه, وتزكي النفس على حب الناس، والإحسان إليهم, والعطف على الفقراء والمساكين, وتوجد التكافل، والترابط، والتآخي، والمحبة، والمودة بين المسلمين, حَرِيُّ بالتاجر المسلم أن يستشعر هذه المعاني, وهو يخرج هذه الزكاة؛ مؤمناً بالله - سبحانه وتعالى- راضية نفسه بإخراجها, وحينئذ تؤدي مفعولها في المخرج ، والمال والتصدق عليه.
    ولسنا بحاجة إلى استعراض النصوص القرآنية والنبوية في بيان هذا الأمر المعلوم من الدين بالضرورة, وقد ذكرنا بعضاً منها في حلقات سابقة.
    ومن حق المال الإحسان بالصدقة المستحبة، والإنفاق في وجوه البر المتعددة, وإهداء الهدايا الطيبة, والإسهام في مشاريع الخير المتنوع, وإكرام الضيف, والإحسان إلى اليتيم، والمسكين، وغيرها, وبهذا جاءت النصوص الشرعية المبشرة لصاحب الإنفاق بما لا يخطر على بال, يكفي أن نذكر منها قوله - سبحانه وتعالى-: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة, وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجرا), وكذا قوله – سبحانه-: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين), ويقول - جل وعلا-: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم), إلى غير ذلك من النصوص العظيمة التي تبشر المنفق بالخير العظيم، والأجر العميم.


    الوقفة السابعة عشرة:

    مما يحث عليه الإسلام ويؤكد عليه, اتقاء الشبهات والمتشابهات في المعاملات المالية, وهذا – أعني – اتقاء الشبهات مبدأ عظيم, ومنهج جد سليم, يجعل المسلم يسير في معاملته على طريق بيّنٍ، واضح، لا غموض ولا إشكال فيه, ولا تردد ولا جهل, بيّن المعالم، واضح المسالك, وصنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وخطه لأمته, وعليه فلا يكفي أن يتجنب المسلم طريق الحرام الواضح, بل يتقي ما أدى إلى الحرام, أو كان فيه شبهة, جاء في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه, ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه, ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح العمل كله، وإذا فسدت فسد العمل كله، ألا وهي القلب), وبناءً عليه فينبغي للمسلم أن يتجنب كل طريق محرم, أو ما يوصل إلى محرم, أو فيه شبهة محرمة, فإذا تعامل المسلم بذلك نزع الله تعالى من قلبه الجشع، والطمع، والبخل، والتقتير في الإنفاق, وتمكّن المال من القلب.

    الوقفة الثامنة عشرة:

    من الآداب المهمة التي ينبغي أن يطبقها التاجر المسلم الإحسان ما استطاع إليه سبيلا, ومما ينص عليه هنا من سبل الإحسان إقراض المحتاج, وإنظار المدين المعسر, وكلاهما أمران مندوبان, فيهما فضل عظيم، وثواب جزيل، ومنافع لا تحصى, ففيهما تفريج كربة, وإغاثة ملهوف, وسد حاجة, وإفراح مسلم, كما أن فيهما تعاوناً بين المسلمين, وتكاتفاً بينهم، وتعزيزاً لروابطهم, وتأليفاً لقلوبهم, وزيادةً للمحبة بينهم, جاء في بعض الآثار أن القرض أفضل من الصدقة؛ لأن من يأخذ صدقة قد لا يكون محتاجاً إليها الحاجة الشديدة, أما المستقرض فإنه لا يقترض إلا لحاجة ماسة، دفعته إلى القرض في الغالب.
    وجاء في إنظار المعسر قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة), وجاء في الحديث: (خيركم أحسنكم قضاءً), وهذا حال السلف - رضي الله عنهم- في التعامل مع المعسرين, إنظار لهم، وعدم التشديد عليهم، أو إزعاجهم بالإلحاح المستمر عليهم في السداد, فلـنقتدِ بهؤلاء السلف الصالح - رضي الله عنهم-, لعل الله - سبحانه وتعالى- أن يجعلنا في ركبهم سائرين, وعلى منهاجهم مقتفين, وعلى خطاهم متبعين.

    إنه سميع مجيب وهو المستعان وإلى اللقاء.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 33 )



    أحاديث البيوع ( 8 )


    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين .. أما بعد.

    فلقد تحدثنا في الحلقة السابقة عن جملة من الآداب والضوابط التي ينبغي أن يتعامل بها المسلم في معاملاته المالية والاقتصادية, وفي هذه الحلقة نعرض لبعض منها في الوقفات الآتية:

    الوقفة التاسعة عشر:

    من أهم الضوابط في المعاملات المالية الابتعاد عن البيوع المحرمة في دين الله تعالى, وهي أنواع متعددة, ولم تحرم إلا لما يترتب عليها من تمرد، أو جهالة، أو إضرار، أو أكل أموال الناس بالباطل. ومن هذه البيوع.

    أولاً: ألا يقع البيع في زمان أو مكان منهي فيهما عن البيع, فالزمان المنهي عن البيع فيه بعد نداء الجمعة الثاني, لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع).
    قال أهل العلم: فإذا وقع البيع بعد النداء ليوم الجمعة لا يصح البيع.
    وهكذا إذا كان البيع والشراء يزاحمان العبادة مطلقاً، مثل أن يشتغل التاجر بالبيع والشراء، ويلهى عن الصلاة مع الجماعة في المسجد، بحيث تفوته الصلاة، أو بعضها, ولهذا مدح الله الذين لا تلهيهم تجارتهم عن الصلاة.
    وأما المكان فهو البيع والشراء في المسجد، لقوله - صلى الله عليه وسلم-: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد, فقولوا: لا أربح الله تجارتك), وفي الحديث الآخر: (جنـبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشرائكم، وبيعكم)؛ وذلك لأن وظيفة المسجد عبادة الله تعالى وطاعته, قال تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً).

    ثانياً: بيع السلع المحرمة: فالله - سبحانه وتعالى- إذا حرّم شيئاً حرم ثمنه, روى الجماعة عن جابر - رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول عام الفتح بمكة: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنـزير والأصنام) فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة؟ فإنها يطلى بها السفن ، ويدهن بها الجلود, ويستصبح بها الناس, فقال:(لا, هو حرام), ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم عند ذلك-: (قاتل الله اليهود, إن الله لما حرم شحومها، جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه), وروى أبو داود بإسناد حسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله حرّم الخمر وثمنها, وحرم الميتة وثمنها, وحرم الخنزير وثمنه), وروى الترمذي، وابن ماجه، وغيرهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها، وشاربها، وآكل ثمنها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها).

    ويدخل في هذه الأشياء المحرمة التي لا يجوز بيعها وشراءها: المسكرات بأنواعها، مهما اختلفت أسماؤها، ونوعيتها، من شراب، أو أكل، أو حبوب، أو غيرها, وكذا المخدرات بأنواعها المختلفة، وهي أشد من المسكرات, كما يدخل في ذلك الدخان؛ لما يترتب عليه من أضرار صحية، وعقلية، ومالية، ودينية، لا تخفى, ويدخل فيه أيضاً بيع آلات اللهو المحرمة وشراؤها، مهما تعددت وتنوعت, وكذا بيع الصور المحرمة، حيث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم- بأن المصورين أشد الناس عذاباً يوم القيامة, وذكر أهل العلم المعاصرون مما يدخل في ذلك بيع المجلات التي تحتوي على صور خليعة، أو فاتنة؛ لما فيها من الإغراء والفتنة، إضافة إلى كونها صوراً، وهذه غالباً ما تحتوي على ترويج شهوة، أو شبهة عقدية، أو سلوكية, ويدخل في ذلك من باب أولى بيع الأفلام الخليعة، والمسلسلات الهابطة، والتحريض على الفاحشة والإثم, ومما ينبغي أن يعلم أن كل السلع المحرمة مما سبق ذكره، ومما لـم يذكر من المحرمات بيعه حرام وثمنه سحت، وكسبه خبيث, وما نبت من السحت فالنار أولى به.

    ثالثاً: من البيوع المحرمة: بيع من يستخدم المبيح في محرم، فإذا علم البائع أن المشتري سيستغل السلعة المبيعة في محرم فلا يجوز بيع هذه السلعة عليه, ولو كان بيعها في الأصل حلالاً؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان, والله تعالى يقول: (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان), ويمثل العلماء في ذلك لبيع العنب، أو التمر لمن يصنع منه خمراً، أو يبيع السلاح في وقت فتنة, أو حال منعه من ولي الأمر لمصلحة معينة, أو لمن يقطع به طريقاً، ونحو ذلك.


    فعلى المسلم أن يتجنب هذه المعاملات المحرمة، وأن يبتعد عنها كل البعد؛ لئلا يقع في الحرام, أسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.


    إنه سميع مجيب، وإلى لقاء في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 34 )




    أحاديث البيوع (9)



    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين .. أما بعد.



    فلقد تحدثنا في الحلقة السابقة عن بعض الصور، والضوابط، والآداب، التي ينبغي أن يتعامل بها المسلم في معاملاته المالية, إذ إن الإسلام جاء لينظم الحياة البشرية، بجميع شعبها، ومعاملاتها, ومما عرفناه في الحلقة السابقة أن البيع والشراء يحرم في حالات منها:



    - وقوع البيع في زمان أو مكان منهي فيهما عن البيع، كالبيع بعد نداء الجمعة الثاني، أو أن يكون البيع والشراء ملهياً عن صلاة الجماعة مثلاً, وكذا بيع السلع الـمحرمة في ذاتها؛ لأن الله تعالى إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه، وذلك مثل بيع الميتة، ولحم الخنزير، والأصنام، وكذا بيع الخمور، والمسكرات، والمخدرات بأنواعها، من شراب، أو حبوب، أو غيرها, وكذلك بيع آلات اللهو المحرمة، وما تحتوي عليه من صور خليعة فاتنة، تفضي إلى الفساد والرذيلة, وكذا ما كان مستعملاً في الحرام، أو سيؤدي إلى الحرام، كبيع العنب ليصنع منه خمراً ونحو ذلك.



    وفي هذه الحلقة نعرض لبعض صور البيوع المحرمة ومنها:



    - بيع ما ليس في ملك البائع, والأصل في ذلك حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تبع ما ليس عندك), وبناءً عليه فلا يجوز أن يبيع شيئاً إلا وهو في ملكه, فالذي يبيع سلعة على إنسان وهي ليست عنده, ثم يذهب فيشتريها, ويسلمها للمشتري فقد وقع في النهي الوارد للحديث.



    فالذي يريد أن يبيع تلك السلعة عليه أن يقوم بتأمينها في محله أو متجره، ثم يبيعها بعد ذلك, وعليه فما نسمعه من البيع لسلع لا تكون في حوزة البائع, ثم يبيع ويشتري على أن هذه السلعة عنده, كل هذا وأمثالـه لا يجوز البيع فيها والشراء للحديث السابق.



    ومن الصور المحرمة في البيع والشراء ما يسمّى ببيع العينة، ومعناها: أن يبيع البائع من المشتري نقداً بثمن أقل, ومثال ذلك: أن يبيع البائع السلعة بثمن مؤجل لشخص، ثم يشتريها البائع من المشتري نقداً بثمانين ألف ريال.



    وهذا البيع بهذه الصورة حرام؛ لأن فيه احتيالاً على الربا، فكأنه باعه دراهم مؤجلة بأكثر منها، وجعل السلعة مجرد حيلة ووسيلة إلى الربا, روى الشيخان مرفوعاً:(إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر, ورضيتم بالزرع, وتركتم الجهاد, سلّط الله

    عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم).



    ومن الصور المحرمة في البيع: بيوع الغرر, وهي البيوع المشتملة على جهالة المبيع, فمعرفة المبيع للمشتري شرط لصحة البيع, فلابد من معرفة السلعة, والثمن لكل منهما.



    ومن الصور أيضاً: بيع السلعة المعيبة مع إخفاء العيب, ويدخل ذلك التدليس والغش, ولاشك في تحريم هذا البيع لما يترتب عليه من الإضرار بالمشتري, والإضرار بغير المحرم, يقول الرسول - عليه الصلاة والسلام-: (لا ضـرر ولا ضرار), وإخفاء العيب والتدليس كله من الغش, وقد قال - عليه الصلاة والسلام-: (من غشنا فليس منا), ومثال ذلك: من يبيع سيارة فيها عيوب، ويتظاهر أمام المشتري بأنها سليمة من العيوب، ولم يبينها للمشتري, فهذا غش وتدليس، وصاحبه قد ارتكب أمراً محرمًا, ومن الصور المحرمة أيضاً: الزيادة في ثمن السلعة من شخص لا يريد شراءها, ويدخل في ذلك الكذب بقيمة الشراء، بأن يقول البائع: اشتريتها بكذا، وهو يكذب, أو يقول: هذه السلعة سيمت بكذا، وهو يكذب, وكل ذلك ليغرر بالمشتري, وقد قال - عليه الصلاة والسلام-: (لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانا), فكل ما كان كذلك فهو حرام ولا يجوز.



    ومن الصور المحرمة أيضاً: بيع المسلم على بيع أخيه, وشراؤه على شرائه, يقول - عليه الصلاة والسلام-: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض), والبيع على البـيع أن يقول لمن اشترى سلعة بمائة: أنا أعطيك مثلها بثمانين، وأفسخ العقد مع المشتري في مدة الخيار.




    ولا شك أن التبايع والتصرف يترتب عليه كثير من الحقد، والبغضاء، والشحناء، والكراهية بين المسلمين, وهذه كلها أمور محرمة ينبغي على المسلم أن يبتعد عنها، وعن الوسيلة المؤدية إليها.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 35 )



    أحاديث البيوع (10 )



    تحدثنا فيما سبق عن بعض القواعد والضوابط في المعاملات التجارية والمالية, ومن ذلكم النهي عن التعامل بعض المعاملات المحرمة, وما استعرضناه في الحلقة السابقة, أن يبيع البائع ما ليس في ملكه؛ لقول الرسول الله - صلى الله عليه وسلم- لحكيم بن حزام: (ولا تبع ما ليس عندك)، وكذلك ما يسمى ببيع العينة، وصورتها أن يبيع السلعة بثمن مؤجل لشخص ، ثم يشتريها البائع من المشتري نقداً بثمن أقل, وكذلك البيوع المشتملة على جهالة المبيع، فمعرفة المبيع للمشتري شرط لصحة البيع، فلابد من معرفة السلعة والثمن لكل منهما, وكذلك بيع السلعة المعيبة مع إخفاء العيب، ويدخل في ذلك التدليس، والغش، وكذلك ما يسمى ببيع النجش ، وهو الزيادة في ثمن السلعة من شخص لا يريد شراءها، ويدخل في ذلك الكذب بقيمة الشراء، وقد قال - عليه الصلاة والسلام-: (ولا تناجشوا).


    ومن ذلكم – أي من الصور المحرمة بيع المسلم على بيع أخيه، وشراؤه على شرائه، وقد قال - عليه الصلاة والسلام-: (ولا يبيع بعضكم على بيع بعض).

    وفي هذه الحلقة نستعرض قاعدة من القواعد المهمة التي لا يجوز للمسلم جهلها، وعدم معرفتها؛ لأن الجهل بها قد يوقع المسلم في التعامل بها، ومن ثم يقع في حرب مع الله – سبحانه وتعالى-, ذلكم أنه يجب ألا يكون البيع مشتملاً على ربا.

    وهذا - أعني الربا- من أكبر الكبائر, ومن الموبقات العظيمة, والجرائم المهلكة للفرد والمجتمع, وقد شَدَّدَ الإسلام في تحريمه والتعامل به, فيجمع صوره وأشكاله وأنواعه كبيرة من كبائر الذنوب، وجريمة من الجرائم العظام, وقد أعلن المولى - جل وعلا- الحرب على من يتعامل به, وهذا كافٍ, بل أعظم دليل في بيان تحريمه وعظم خطره قوله - سبحانه وتعالى-: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله...).

    ويقول – سبحانه- في بيان تحريم الربا أيضاً: (وأحل الله البيع وحرّم الربا), ويقول - جلا وعلا-: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا).

    وروى الإمام مسلم - رحمه الله- عن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه- أنه قال: (لعن الله رسول - صلى الله عليه وسلم- أكل الربا وموكله), وفي رواية الترمذي، وأبو داود: (لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه), وجاء في الصحيح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- قال: (اتقوا السبع الموبقات – يعني المهلكات – وذكر منها: الربا).

    - تحريم الربا من القطعيات التي لا يجوز الجهل بها من كل مسلم آمن بالله ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولاً.

    والربا يكون في ستة أشياء بينها الرسول - صلى الله عليه وسلم-: (الذهب بالذهب, والفضة بالفضة, والبر بالبر, والتمر بالتمر, والشعير بالشعير, والملح بالملح, سواء بسواء، يداً بيد), فكل جنس بيع بجنسه لا بد فيه من أمرين:

    الأول: التساوي في المقدار.

    الثاني: التقابض في مجلس العقد.

    وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم-: (سواء بسواء، يداً بيد).

    وهذا يعني أنه إذا اختلف الجنس فلا ربا في التفاضل؛ بل في التأجيل لقوله - صلى الله عليه وسلم-: (فإذا اختلفتم هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد), فإذا باع البائع صاعاً من البر بصاعين من الشعير – مثلاً- فيجوز إذا كان التقابض في مجلس العقد, وفي ختام هذه الحلقة لعلّي أستعرض بعض صور الربا ومنها:

    1- القرض بفائدة, وذلك كأن يقترض شخص من آخر مائة، ويسددها له بعد مدة مائة وعشرين، سواء كان المقرض شخصاً، أو هيئات، أو غيرها.

    2- تأجيل الدين الحال إلى أجل آخر، نظير زيادة معلومة، مثل أن يحل وقت سداد الدين ولم يستطع المدين أن يسد فينظره الدائن مقابل زيادة نسبة معلومة، فإذا كان يريد منه مائة فيؤجله سنة مقابل أن تكون المائة مائة وعشرين وهكذا.

    3- ومن ذلك بيع العملات مع التأجيل, ومن الصور أيضاً, بيع العينة التي تحدثنا عنها سابقاً.



    أسأل الله تعالى أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه، إنه سميع مجيب، وهو المستعان وإلى اللقاء.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 36 )




    أحاديث البيوع (11)



    تحدثنا في حلقات سابقة عن بعض الأصول والضوابط والآداب المتعلقة بالمعاملات المالية في الإسلام, وفي هذه الحلقة نتحدث عما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يفترقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك وجب البيع), وفي معناه من حديث حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار مالم يتفرقا – أو قال: حتى يتفرقا - فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما).

    هذان حديثان مليئان بالفوائد والأحكام نقف معهما الوقفات الآتية:

    الوقفة الأولى:

    قوله: (إذا تبايع الرجلان), البيع في اللغة أخذ شيء وإعطاء شيء, وفي الشرع: مبادلة مال بمال, لقصد التملك بما يدل عليه من صيغ القول أو الفعل.

    وحكمه الجواز والإباحة, دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والقياس, قال الله تعالى: (وأحل الله البيع).

    وينعقد البيع بكل إيجاب وقبول أو فعل عدّه الناس بيعاً, لأن الله تعالى لم يرد أن يتعبدنا بألفاظ معينة, وإنما القصد الدلالة على معناه, وبأي لفظ دل عليه حصل المقصود.

    والقاعدة في المعاملات والتجارات والمكاسب الحل والإباحة, فلا يحرم شيء منها إلا بدليل يدل عليه, وهذه القاعدة أصل عظيم ينبغي معرفته.

    ولو تأملنا المعاملات المحرمة لوجدنا أنها لم تحرم إلا لما يترتب عليها من الظلم والمفسدة لأحد الطرفين, وقد ضبطها بعض أهل العلم بثلاث ضوابط:

    الأولى: الربا بأنواعها الثلاثة, ربا الفضل, وربا النسيئة, وربا القرض.


    الثاني: الجهالة والغرر ويدخل فيها جزئيات كبيرة, وصور متعددة.

    الثالث: الخداع ويشمل أنواعاً وأصنافاً متعددة.




    الوقفة الثانية :

    ذكر الفقهاء رحمهم الله سبعة شروط لصحة البيع إذا فقد شرط فيها لم يصح البيع وهي :

    الشرط الأول: التراضي من الطرفين (البائع والمشتري) ولذا لا يصح البيع من مكره بلا حق, لقوله عليه الصلاة والسلام –فيما رواه ابن ماجه وابن حبان وغيرهما-: (إنما البيع عن تراض) ويعضده قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم), أي عن طيب نفس كل واحد منكم.

    والشرط الثاني: أن يكون كل من البائع والمشتري جائزاً التصرف بمعنى أن يكون حراً مكلفاً رشيداً, قال الفقهاء: فلا يصح تصرف صبي وسفيه بغير إذن ولي, فإن أذن الولي فيصح البيع والشراء, وإن لم يأذن الولي فلا يصح إلا إذا كان المبيع شيئاً يسيراً.

    والشرط الثالث: أن تكون العين المعقود عليها أو على منفعتها مباحة النفع من غير حاجة ولا ضرورة, فأما ما لا نفع فيه كالحشرات أو ما فيه منفعة محرمة كالخمر أو ما فيه منفعة مباحة كالكلب فلا يجوز بيعه وشراؤه.

    والشرط الرابع: أن يكون عقد البيع من مالك للسلعة المعقود عليها أو ممن يقوم مقامه كالوكيل والولي, لقوله عليه الصلاة والسلام لحكيم بن حزام: (لا تبع ما ليس عندك) رواه ابن ماجة والترمذي وصححه.

    والشرط الخامس: أن يكون المعقود عليه مقدوراً على تسليمه, أي تسليم المبيع حال العقد, وكذا الثمن المعين, فالذي لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم فلم يصح بيعه إذ المعدوم لا يصح بيعه بالإجماع في الجملة فكذا شبيهه, ولأن عدم القدرة على التسليم غرر, فيحرم البيع ولا يصح.

    والشرط السادس: أن يكون المبيع معلوماً عند البائع والمشتري معروفاً بينهما لأن جهالة المبيع غرر, والغرر منهي عنه, ومعرفة المبيع تحصل به شيئين إما برؤية لجميع المبيع إن لم تدل بقيته عليه أو برؤية بعض الدال على بقيته, ويلحق بذلك ما عرف بلمسه أو بشمه أو عرف بذوقه.

    والشرط السابع: أن يكون الثمن معلوماً لكل من البائع والمشتري لأنه أحد العوضين فاشترط العلم به كا لمبيع.


    هذه أخي شروط البيع فإذا اختل شرط من هذه الشروط مثل ألا يتراضا الطرفان أو لا يرضى أحدهما أو كان المشتري غير جائز التصرف كمجنون, أو كان البيع والشراء على سلعة محرمة, أو لا يملك البائع السلعة, أو لا يقدر على تسليمها أو تكون مجهولة العين أو الثمن فحينئذً لا يصح البيع ويحرم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 37 )



    أحاديث البيوع (12)

    بدأنا الحديث في الحلقة السابقة عما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا تبايع الرجلان ، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا ، أو يخير أحدهما الآخر ، فإن خير أحدهما الآخر ، فتبايعا على ذلك ، فقد وجب البيع).

    وفي معناه ما جاء في حديث حكيم بن حزام أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما ).
    وقد وقفنا في الحلقة السابقة الوقفة الأولى مع الحديث وهي مع قوله: (إذا تبايع الرجلان) فعرفنا تعريف البيع وحكمه وشروطه وفي هذه الحلقة نكمل بقية الوقفات مع الحديث.
    الوقفة الثانية:
    قوله: (بالخيار) بكسر الخاء, اسم مصدر (اختار) أي طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الرد.
    وقوله: (محقت) أي ذهبت وزالت زيادة كسبهما وربحهما.
    الوقفة الثالثة:
    دلّ الحديث على ثبوت خيار مجلس البيع, فإذا تبايع الرجلان, ثم طرأ لأحدهما فسخ عقد البيع ولازالا جميعاً في مجلس البيع فله ذلك استناداً إلى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار مالم يتفرقا وكانا جميعاً), وفي الحديث الآخر: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا).
    وعلى هذا –أعني بثبوت خيار المجلس- ذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين وهو قول الشافعية والحنابلة وفقهاء أصحاب الحديث.
    وذهب مالك وأبو حنيفة إلى عدم القول بثبوت خيار المجلس معتذرين عن الآخذين بهذه الأحاديث بأعذار متعددة, قال ابن عبد البر رحمه الله: (قد أكثر المتأخرون من المالكيين والحنفيين من الاحتجاج لمذهبهم في رد الحديث بما يطول ذكره, وأكثره تشغيب لا يحصل به شيء لازم لا مدفع له).
    وقد ذكر الحافظ ابن دقيق العيد –رحمه الله- عشرة أعذار لمن لم يأخذ بهذه الأحاديث, يقول: (والذين نفوه اختلفوا في وجه العذر عنه, والذي يحضرنا الأن من ذلك وجوه), ثم ذكر هذه الوجوه بشيء من البسط, وهنا أوجز بعض ما بسطه رحمه الله:
    1- أن هذا الحديث رواه الإمام مالك في موطأه, ومع ذلك لم ير العمل به, وأجيب عن هذا القول بأن هذا الحديث مروي من طرق فإن تعذر الاستدلال به من جهة رواية الإمام مالك لم يعتذر من جهة أخرى, وإنما يكون ذلك عند التفرد على تقدير صحة هذا المأخذ.
    2- أن هذا جز واحد فيما تعم به البلوى, ومعنى عموما البلوى أنه تمسى إليه الحاجة في عموم الأحوال – وخير الواحد فيما تعم به البلوى غير مقبول.
    وأجيب عن هذا بأن البيع مما تعم به البلوى, ولكن الحديث دل على إثبات خيار الفسخ, وليس الفسخ مما تعم به البلوى فإن الظاهر من الإقدام على البيع الرغبة من كل واحد من المتعاقدين فيما صار إليه.
    3- أن هذا الحديث مخالف لعمل أهل الدين وما كان كذلك يقدم عليه العمل.
    وأجيب عن هذا بأن كثيراً من أهل المدينة يرون هذا الخيار ومنهم بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم وبعض التابعين كسعيد بن المسيب رحمه الله.
    4- ذكر بعضهم أن المراد بـ (المتابعين) (المتساومان)
    والمراد بالخيار: خيار القبول, أي خيار قبول المشتري أورده وأجيب عن هذا بأن تسمية المتساومين (متبايعان) مجاز, والأصل الحقيقة.
    5- حمل بعضهم التفرق, على التفرق بالأقوال بين البائع والمشتري عند الإيجاب والقبول.
    وأجيب بأن خلاف الظاهر من الحديث, بل خلاف نص بعض الأحاديث.
    6- ادعى بعضهم أن حديث منسوخ, إما لأن علماء المدينة أجمعوا على عدم ثبوت خيار المجلس, وذلك يدل على النسخ, وإما لحديث اختلاف التابعين, وذلك فيما رواه أحمد والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول صاحب السلعة و يترادان) وزاد ابن ماجة: (أو المبيع قائم بعينه).
    وأجيب بـأن النسخ لعمل أهل المدينة فقد سبق الإشارة إليه, ثم إن النسخ لا يثبت بالاحتمال, وأما حديث اختلاف المتبايعان فالاستدلال به ضعيف جداً لأنه مطلق أو عام بالنسبة إلى زمن التفرق.
    الوقفة الرابعة:
    بيّن الحديث كما سبق في الوقفة السابقة خيار المجلس لكل من البائع والمشتري, وتبدأ مدة هذا الخيار من حين العقد إلى أن يتفرقا بأبدانهما من مجلس العقد.

    الوقفة الخامسة: دلّ الحديث أن من آداب البيع والشراء هو الصدق في هذه العملية ببيان ما عليه السلعة من الكمال والعيوب والنقص والخلل وهذا مما يحل البركة عليهما, وإذا كان كذلك فإن الكذب وكتمان عيب السلعة والغش والخداع والتحايل سبب لمحق بركة البيع وزوالها, وهذا الأدب قد فصّلنا فيه من القول في حلقة سابقة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 38 )



    أحاديث البيوع (13)

    تحدثنا في حلقة سابقة عما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار مالم يتفرقا وكانا جميعاً, أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك, فقد وجب البيع ).

    وقد عرفنا ما في هذا الحديث من أحكام تحضى البيع والشراء.
    وفي هذه الحلقة نتحدث عما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة، وهي: طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه, ونهى عن الملامسة, والملامسة هي: لمس الرجل الثوب ولا ينظر إليه.
    هذا حديث عظيم يبين بعض الأحكام الخاصة بالبيع وبخاصة في باب المنهيات في البيع, نعرض فوائده وأحكامه في الوقفات الآتية:
    الوقفة الأولى:
    قال في الحديث: (نهى عن المنابذة وهي: طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه). قال ابن حجر رحمه الله: وظاهر الطرق كلها أن التفسير من الحديث المرفوع، لكن وقع في كلام النسائي ما يشعر أنه من كلام من دون النبي صلى الله عليه وسلم, ولفظه: وزعم أن الملامسة أن تقول إله, والأقرب أن يكون ذلك من كلام الصحابي, ويبعد أن يعبر الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ زعم).‏
    وقال النووي رحمه الله عن المنابذة: إن فيها ثلاث صور:
    إحداها: هو أن يقول الرجل لصاحبه : انبذ إليّ الثوب أو انبذ إليك, فيكون نفس النبذ بيعاً, هذا تأويل الشافعي, والثاني: أن يقول بعثك فإذا نبذته إليك بطل الخيار ولزم البيع, والثالث: المراد نبذ الحصاة.
    الوقفة الثانية:
    قوله في الحديث: (ونهى عن الملامسة, والملامسة لمس الثوب ولا ينظر إليه), قال الحافظ ابن دقيق العيد رحمه الله (واختلفوا في تفسير الملامسة قيل: هي أن يجعل اللمس بيعاً بأن يقول: إذا لمست ثوبي فهو مبيع بكذا وكذا, وقيل ف تفسيرها أن يبيعه على أن إذا لمس الثوب فقد وجب البيع وانقطع الخيار, وفسره الشافعي رحمه الله بأن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه الراغب, ويقول صاحب الثوب: بعتك كذا بشرط أن يقوم لمسك مقام النظر), وقال ابن حجر رحمه الله: (واختلف العلماء في تفسير الملامسة على ثلاث صور، وهي أوجه للشافعية, أصحها: بأن يأتي بثوب مطوي في ظلمة فيلمسه المستام, فيقول له صاحب الثوب: بعتك بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك, ولا خيار لك إذا رأيته, قال: وهذا موافق للتفسيرين اللذين في الحديث, الثاني: أن يجعلا نفس اللمس بيعاً من غير صيغة زائدة, الثالث: أن يجعل اللمس شرطاً في قطع خيار المجلس وغيره).
    الوقفة الثالثة:
    دل الحديث على النهي عن بيع المنابذة وعرفنا أن لها صوراً من أصحها ما ذكر في الحديث وهي أن يطرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقبله أو ينظر إليه.
    ومن هذه – كما سبق – ما يسمى ببيع الحصاة كأن يقول: أي ثوب وقعت عليه هذه الحصاة فعليك بكذا.
    وهذه الصور وأمثالها مما يعود إلى الجهالة في المبيع منهي عنها ولا تجوز, وكل ما جد من الصور في تعامل الناس بالبيع فلا تجوز مثل رمي السهم على مجموعة كراتين, أو وضع قرعة على أيها خرج يكون البيع, وهكذا.
    الوقفة الرابعة:
    دل الحديث أيضاً على النهي عن بيع الملامسة وقد عرفنا أنها فسرت بعدة تفسيرات من أصحها ما ذكر في الحديث, ومثله ما ذكره الشافعي رحمه الله, أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه المستام, فيقول لصاحبه: بعتك بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك.
    وهذه الصورة وأمثالها كلها حرام ولا تجوز لأن في هذا البيع جهالة وغرراً, وكل ما كان فيه جهالة وغرر في البيع والشراء فلا يجوز قال النووي رحمه الله: (اعلم أن بيع الملامسة والمنابذة ونحوهما مما نص عليه هي داخلة في النهي عن بيع الغرر ، ولكنها أفردت بالذكر لكونها من بيعات الجاهلية المشهورة, ثم قال: والنهي هن بيع الغرر أصل عظيم من أصول البيوع, ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة).
    ومما ذكره الفقهاء من هذه الصور: عدم صحة شراء المجهول الذي لا تعلم حقيقته لا عن طريق المعاينة ولا طريق اللمس, ولا تعرف أوصافه إذا كان مما يعرف بالوصف, ومن هذه الصور عدم صحة شراء الأعمى فيما لا يعرف إلا عن طريق النظر والمعاينة, ومن الصور أيضاً, أن يقول البائع: بعتك شجرة من البستان, أو نخلة من النخيل, أو شاة من القطيع.
    الوقفة الخامسة:

    ذكر الفقهاء رحمهم الله تعالى أن من شروط البيع, أن يكون المبيع معلوماً عند المتعاقدين اللذين هما البائع والمشتري معروفاً بينهما, ومعرفة المبيع تحصل بأحد شيئين إما برؤية لجميع المبيع إن ل تدل بقيته عليه كالثوب المنقوش, أو بمعرفة بعضه إذا كان دالاً على بقيته كرؤية أحد وجهي ثوب غير منقوش, وبدخل في ذلك ما يعرف بلمسه وشمه أو ذوقه وذلك لانتفاء الجهالة بذلك, وكذا معرفته بصفته إذا كانت هذه الصفة تميزه.
    والله تعالى أعلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 39 )



    أحاديث البيوع (14)

    تحدثنا في الحلقة السابقة عما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة وهي (طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه), ونهى عن الملامسة (والملامسة: لمس الرجل الثوب ولا ينظر إليه).
    وعرفنا ما في هذا الحديث الجليل من أحكام في البيع والشراء وبخاصة في بعض ما نهى عنه فيهما.
    وفي هذه الحلقة نتحدث عما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلقوا الركبان, ولا يبع بعضكم على بيع بعض, ولا تناجشوا, ولا يبع حاضر لباد, ولا تصروا الغنم, ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يجلبها, إن رضيها أمسكها, وإن سخطها ردّها وصاعاً من تمر), وفي لفظ: (هو بالخيار ثلاثاً).
    وعما رواه الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان, وأن يبيع حائر لباد قال: فقلت لابن عباس: ما قوله (حاضر لباد؟) قال: (لا يكون له سمساراً) هذان حديثان مهمان في بيان بعض أحكام البيع والشراء, نقف معهما الوقفات الآتية:

    الوقفة الأولى:
    وردت رواية أخرى للحديث عند الإمام مسلم رحمه الله وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التلقي للركبان وأن يبيع حاضر لباد, وأن تسأل المرأة طلاق أختها, وعن النجش والتصرية, وأن يستام الرجل على سوم أخيه).

    الوقفة الثانية:
    قال في الحديث (لا تلقوا الركبان) الركبان: جمع راكب, وهو في الأصل راكب البعير, ثم توسع فيه فأطلق على كل راكب, والمراد بهم هنا: القادمون من السفر بجلوبه معهم لكي يبيعوها, وينطبق هذا الإطلاق حتى ولو كانوا مشاة ,والتنصيص على الركبان خرج مخرج الغالب في أن من يجلب الطعام يكون في الغالب راكباً, وحكم الجالب الماشي حكم الراكب ويدل على ذلك ما جاء في رواية أخرى: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقى الجلب, وهذه الرواية فيها النهي عن تلقي الجلب من غير فرق بين راكب وغيره.
    وقال في الحديث: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) وذلك مثل أن يقول لمن هو في خيار المجلس مثلاً: أعطيك أحسن من هذه السلعة, أو أبيعك إياها بسعر أرخص إن كان مشترياً, ومثله: الشراء على شرائه كأن يقول مشترٍ آخر أشتريها منك بأكثر من ثمنها لكي يفسخ البيع.
    وقال في الحديث (ولا تناجشوا) النجش بفتح النون وسكون الجيم, وأصل النجش الاستثارة, ومن نجشت الصيد أنجشه إذا استثرته, والنجش هو: الزيادة في السلعة ممن لا يريد شرائها بل لنفع البائع بزيادة الثمن, أو مضرة المشتري با غلائها عليه, وسمي النجش بهذا الإسم وتصرية البهائم: حبس اللبن في ضروعها حتى يجتمع, والمنهي عنه هو ما إذا كان القصد منه تغرير المشتري بكثرة لبنها, قال الشافعي: (هو ربط أخلاف الناقة أو الشاة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر فيظن المشتري أن ذلك عادتها فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها‏).
    وجاء في الرواية الأخرى: (وأن تسأل المرأة طلاق أختها), قال النووي رحمه الله: معنى هذا نهي المرأة الأجنبية أن تسأل رجلاً طلاق زوجته، وأن يتزوجها هي، فيصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ما كان للمطلقة، قال: والمراد بأختها غيرها, سواء كانت أختها من النسب أو الرضاع أو الدين, ويلحق بذلك الكافرة في الحكم وإن لم تكن أختاً في الدين, إما لأن المراد الغالب, أو أنها أختها في الجنس الآدمي.
    وذكر ابن عبد البر رحمه الله أن الأخت هنا الضرة, فقال من الفقه لأن الزائد يثير الرغبة في السلعة, ويرفع ثمنها.
    وقال في الحديث: (ولا يبع حاضر لباد), الحاضر هو ساكن الحضر, والبادي: ساكن البادية, والمراد به: القادم لبيع سلعته بسعر وقتها سواء كان بدويا أو حضرياً, فيتصده الحاضر ليبيع له سلعته بأغلى من سعرها لو كانت مع صاحبها, والسمسار هو البائع أو المشتري لغيره.
    وجاء في رواية للنسائي: (وأن يبيع مهاجر للأعرابي), والمراد: أن يبيع حاضر لباد لكن خص المهاجر نظراً لذلك الوقت لأن الأنصار كانوا يومئذ أهل زرع, والمهاجرين كانوا أهل تجارة.
    وجاء في الحديث: (ولا تُصروا الغنم) تصروا بضم التاء وفتح الصاد بعدها راء مثقلة مضمونة, مأخوذ من التصرية والتصرية في الأصل: حبس الماء, أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به, وهذا يمكن في الرواية التي وقعت بلفظ: (لا تسأل المرأة طلاق زوجها).
    وقال أيضاً في الرواية الأخرى: (وأن يستام الرجل على سوم أخيه), ومعناه: أن يكون قد اتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع ولم يعقداه فيقول الآخر للبائع: أنا أشتريه, وهذا هو المنهي عنه أي بعد استقرار الثمن, وأما السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد فليس بحرام, كما سيأتي تفصيله بإذن الله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله

    فقه السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 40 )



    أحاديث البيوع (15)

    تحدثنا في حلقات سابقة عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تلقوا الركبان, ولا يبع بعضكم على بيع بعض, ولا تناجشوا, ولا يبع حاضر لباد, ولا تصروا الغنم, ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يجلبها, إن رضيها أمسكها, وإن سخطها ردّها وصاعاً من تمر), وفي لفظ: (هو بالخيار ثلاثاً).
    وعرفنا ما في هذا الحديث الجليل من أحكام وفوائد تتعلق بالبيع والشراء.
    وفي هذه الحلقة نتحدث عما رواه الشيخان رحمهما الله تعالى عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة وكان بيعاً يتبايعن أهل الجاهلية, كان الرجل يتبايع الجزور إلى أن تنتج الناقة, ثم تنتج التي في بطنها, قيل: إن كان يبيع الشارف – وهي الكبيرة المسنّة – بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته.
    هذا النوع يتعلق بنوع واحد من أنواع البيوع, نفصل الأحكام والفوائد في الوقفات التالية:
    الوقفة الأولى: جاء في حديث (نهى عن بيع حبل الحبلة) وحبل الحبلة بفتح الحاء والباء فيهما و (الحبلة) جمع (حابل) كظالم وظلمة وكاتب وكتبة, والأكثر استعمال الحبل للنساء خاصة, وأما الحمل فلهن ولغيرهن من إناث الحيوانات.
    والجزور هو البعير.
    وتنتج: فهي بضم التاء الأولى وإسكان النون وفتح التاء الثانية وبعدها جيم بمعنى تلد.
    الوقفة الثانية: تعددت تفاسير أهل العلم في المراد ببيع حبل الحبلة وأشهره تفسيران:
    الأول: أن يكون معناه التعليق, وذلك بأن يبيعه الشيء بثمن مؤجل بمدة تنتهي بولادة الناقة, ثم ولادة الذي في بطنها.
    والثاني: أن يكون معناه بيع المعدوم المجهول, وذلك بأن يبيعه نتاج الحمل الذي في بطن الناقة المسنة.

    وعلى كلا التفسيرين فهو منهي عن هذا البيع فعلى التفسير الأول لما فيه من جهالة أجل الثمن, والأجل له وقع في الثمن في طوله وقصره.
    وعلى التفسير الثاني فنهي عنه لما فيه من الضرر الكبير والغرر, فلا يعلم هل يكون أنثى أو ذكر؟ هل هو واحداً أو اثنان؟ وهل هو حي أو ميت؟ كما أن مدة حصوله مجهولة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •