روبابيكيا (قصة)
عبدالباسط سعد عيسى





في تلك الليلة التي زادتْ فيها العتمة، خرج السيد صاحبُ الشقة، فتنهَّد البابُ العجوز، وجال ببصره في أنحاء الردهة، كلُّ شيء هادئ في مكانه، تتململ قطع الأثاث وتتمطى، تتجاور الأكواب والفناجين كعادتها كل ليلة، لها حديث هامس أشبه بالنميمة، هناك على الطاولة يزحف القلم لينامَ في حضن دفتر الأوراق البيضاء، ليت السيد يتذكَّر أن يفصل الكهرباء عن مشغل الموسيقا التي تقتحمهم الآن.

تسعل الساعة فترتج وتكاد تسقط مِن الحائط، بجوارها صورةٌ كبيرة للسيد بِشارِبِه الكثِّ، يحتاطها برواز عريض كلاسيكي، تنحنح البروازُ، ثم قال في هدوء: أرى أنني أغلى سعرًا مِن ذلك الموضوع داخلي؟!
دوى الصوتُ وتكرَّر صداه في الشقة، زحفتْ قطع الأثاث وتجمَّعتْ، نظرتْ له وكأنها تستغرب ما يقول! فأعاد عليهم جملتَه مرة أخرى بصوت عالٍ، فتَمْتَمَ الجميع ثم هتفوا: سيدنا صاحب البيت.. رجلٌ طَيِّبٌ.

ضحك البرواز: يعود في الصباح مخمورًا، يصطدم بكم وهو يَتَطَوَّح، ويسبُّكم بأقذع الألفاظ وتنعتونه بالرجل الطيب! حقًّا أأنتم تُدركون ما تقولون؟ يا لكم مِن جماداتٍ حمقاء! متى آخر مرة قام بطلائكم؟ هل فكَّر مرة أن يحميكم مِن الأتربة؟ حتى الخادمة التي تأتي مرة كل شهر للنظافة لا تقوم بأيِّ شيء سوى أن تنام وترحل، هل رحمكم يومًا؟ أو أنه يستخدمكم بشكل سيئٍ طول الوقت؟ أنا أرى مِن هنا كل شيء، فلا داعي للكذب.

طأطأت القِطَع رأسها، وسأل الكرسيُّ: وماذا نفعل يا برواز؟ نحن لا نعرف سيدًا غيره.
أجابه بهدوء: ولماذا نحتاج لسيدٍ مِن الأساس، اسمعوني جيدًا، لا أدري ماذا أنتم ستفعلون؟ ولكن عليه أن يأتيَ ليجد المكان تَمْلَؤُه الفوضى، فأنا مثلًا سأُسْقِط صورته مِن داخلي... هكذا!
حملقت القطعُ في صورة صاحب البيت وهي تتهاوى لتستقر على الأرضية، هنا هتفت الخزانةُ وهي قادمة مِن غرفة المكتب: أما أنا فلن أمَكِّنه مني بعد اليوم، فداخلي أسرارٌ تؤكِّد أنه رجل سيئ جدًّا.

واتفقت الكراسي مع بقية قِطَع الأثاث الخشبي في اجتماعٍ جانبي على العصيان، وهمست الكنبةُ وكأنما تُؤكد القرار مع نفسها: سأُزحزح نفسي قليلًا، نعم، وليسقط على الأرض، إنه يَقضي نومته عليَّ، وهذا التلفاز المزعج لا ينقطع!
سمعه التلفاز فزَمْجَر: أنا لستُ مزعجًا، بل هو مِثْل الأصم، ولكني مِن الآن فصاعدًا عاطلٌ عن العمل.
أعلن الجميعُ العصيان في مشهدٍ أشبه بالاحتفال، حتى نطق البابُ وقال: يمكنني أن أكفيكم كلَّ هذا؛ فقط أمنعه مِن الدخول!

اختفت الهمهمة، وتحوَّلوا إليه مشدوهين!!
صرَخ البرواز في غيظ: فكرةٌ سخيفة، التفت الجميعُ إليه باستغرابٍ، فأكمل: أقصد أنه يُمكن أن يكسرَ الباب، ويتمكن مِن الدخول... هذا حلٌّ عبثي.
رد عليه البابُ بصرامة: لن يستطيع، فأنا جسمي مِن الحديد، هلَّل الجميع، واختاروا الباب قائدًا للعصيان!

استيقظ القلمُ مِن رقدته، وحكى له الدفترُ ما حدث، فاتفقَا على تأليف نشيدٍ للثورة، ووقف القلمُ خطيبًا: أيتها القطع المظلومة، ذات الحقوق المهضومة، الإنسان عدوكم، والباب قائدكم، لماذا لا يحترمنا الإنسان؟ ونحن كلنا عبيد لله، فالجماد أيضًا يُسبح الخالق، والله يُحبكم، فقد اختار القدرُ البابَ قائدًا محنكًا، فهنيئًا لكم!

صفَّق له الجميع، وانحنى محييًا، وطرف بعينه نحو الباب فاطمأنَّ لرؤيته مُنتشيًا، وهنا صدَر القرارُ الأول للباب القائد بتعيين القلم المتحدِّث الإعلامي للثورة، فأعُطيت لأدوات المطبخ الحادة وزارة الأمن، وتوالى توزيع المناصب، ونَسِيَ الأشياء المعلَّقة على الحائط، فشَكَّلَتْ فيما بينها حزبًا معارضًا بقيادة البرواز، وأسْمَوْه: "حزب الأشكال الهندسية"، انضمَّتْ له جميع اللوحات والساعات والستائر.

مرت الليلة واقترب موعد عودة السيد، عادتْ كل القِطَع إلى أماكنها سريعًا، تَرْقُب الوضع في وجل، لكنه غاب عدة أيام، إلى أن جاء وفتح الباب بسهولة؛ فانتبه الجميع!
مر باتجاه الردهة، فاصطدمتْ قدَمُه بالكرسي؛ فسَبَّ جميع قطع الأثاث، ألقى بجسده المنهك على الكنبة، وأمسك الريموت كنترول، وأدار التلفزيون دون أن ينظرَ إليه أو يختار قناةً معينة، جحظت عيناه حين لمح صورته على الأرض، اتجه إليها والتقطها، ونظر للبرواز وصرخ: يبدو أن البروازَ متهالكٌ ويجب تغييره، جذبه مِن الحائط وحطَّمَه، وألقى به في سهلة المهملات، نظر إلى صورته مخاطبًا إياها: أنت تستحقين بروازًا جديدًا مُزَخْرفًا.

دخل غرفة مكتبه، وربت على جهاز الفاكس، وأخرج من جيبه ورقة مكتوبًا فيها: أنا فاكس منزلك - لا وقت للتعجُّب - كل القطع هنا في شقتك تتكلم عن ثورة ضدك بدأها البرواز بأن لفظ صورتَك، واتفقتُ مع الباب أن يسمحَ لك بالدخول مقابل طلائه، والقلم الذي كتب الرسالةَ يحتاج علبةً فخمةً، وأنا أحتاج بعض الحبر وغطاء من الأتربة، وشكرًا.
رفَع سماعة التليفون: محل شراء الأشياء القديمة، سأبيع لكم أثاث الشقة التالف بالكامل بسعر زهيد جدًّا.
أغلق السماعة ولمعتْ عيناه وهو يتناول هراوة ضخمة بجوار المكتب ورفعها عاليًا، وبدأ بجهاز الفاكس!