السلام عليكم ورحمة الله وبركاته,

فهذا جمع لأفكاري وبعض ما وقفتُ عليه طوال البحث في المسألة, أرجو مشاركة الإخوة والتنبيه على أي خطأ وقعتُ فيه, وليس شيءً منه فتوى مني, ولكن أرجو أن ينتفع به, فمن رأى شيئاً منه صواباً من أهل الترجيح فليأخذ به:

متنوعات
وأما ما رواه ابن أبي شيبة: "25178 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَوَادَةُ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (وفي بعض الطبعات: عبد الله بن عمر)، قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْخِفَافِ السُّودِ فَالْبَسُوهَا، فَهِيَ أَجْدَرُ أَنْ تَمْسَحُوا عَلَيْهَا»" اهـ, فإنما أخاف أن يكون أبو الأسود (مسلم بن مخراق) لم يدرك عبد الله بن عمر(و) فيكون منقطعاً, فقال ابن حبان عن مسلم بن مخراق: "يروي المراسيل", ووفاته 111-120هـ وذكره ابن حجر في الطبقة الرابعة في التقريب وهي طبقة من التابعين قال عنها: "جُلُّ روايتهم عن كبار التابعين، كالزهري وقتادة", ووفاة عبد الله بن عمرو 63-77هـ, ووفاة عبد الله بن عمر 72-75.
فالحاصل أن اللقاء قد يمكن, إلا أن في نفسي منه شيء.

وأما علة الرخصة بالمسح على الخفين, فجاء في مصنف عبد الرزاق: "قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَقُلْتُ لِعَطَاءٍ: «أَتَرَى الرُّخْصَةَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِأَنْ لَا يُنْزَعَ الرَّجُلُ دَفَاهُ؟» قَالَ: «نَعَمْ»" اهـ

وللفائدة, ففي مصنف عبد الرزاق قول ابن جريج: "قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَخْطَأْتُ بَعْدَ ثَلَاثِ مَسَحَاتٍ شَيْئًا مِنَ الْخُفَّيْنِ قَالَ: «لَا يَضُرُّكَ»" اهـ
أيضاً: قال ابن القيم: " وَالْعُمْدَة فِي الْجَوَاز عَلَى هَؤُلَاءِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ لَا عَلَى حَدِيث أَبِي قَيْسٍ
مَعَ أَنَّ الْمُنَازَعِينَ فِي الْمَسْح مُتَنَاقِضُونَ فَإِنَّهُمْ لَوْ كَانَ هَذَا الْحَدِيث مِنْ جَانِبهمْ لَقَالُوا هَذِهِ زِيَادَة وَالزِّيَادَة مِنْ الثِّقَة مَقْبُولَة وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى مَا ذكروه ها هنا مِنْ تَفَرُّد أَبِي قَيْسٍ
فَإِذَا كَانَ الْحَدِيث مُخَالِفًا لَهُمْ أَعَلُّوهُ بِتَفَرُّدِ رَاوِيه وَلَمْ يَقُولُوا زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة كَمَا هُوَ مَوْجُود فِي تَصَرُّفَاتهمْ وَالْإِنْصَاف أَنْ تَكْتَال لِمُنَازِعِك بِالصَّاعِ الَّذِي تَكْتَال بِهِ لِنَفْسِك فَإِنَّ فِي كُلّ شَيْء وَفَاء وَتَطْفِيفًا وَنَحْنُ لَا نَرْضَى هَذِهِ الطَّرِيقَة وَلَا نَعْتَمِد عَلَى حَدِيث أَبِي قَيْسٍ
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَعَلَّلَ رِوَايَة أَبِي قَيْسٍ
وَهَذَا مِنْ إِنْصَافه وَعَدْله رَحِمَهُ اللَّه وَإِنَّمَا عُمْدَته هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة وَصَرِيح الْقِيَاس فَإِنَّهُ لَا يَظْهَر بَيْن الْجَوْرَبَيْنِ وَالْخُفَّيْنِ فَرْق مُؤَثِّر يَصِحّ أَنْ يُحَال الْحُكْم عَلَيْهِ" اهـ من عون المعبود وحاشية ابن القيم 1\187-188
أيضاً: جاء في الجامع لعلوم الإمام أحمد – الفقه: " قال حرب: وسمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: إذا كان الخف متخرقًا، فامسح عليه ما دام الخف يستمسك في القدم؟ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مسح على الخفين فليس الخف الجديد بأولى بهذا الاسم من المتخرق، وكل يسمى خفًا.
قال حرب: وسمعت إسحاق يقول: أبيح لك المسح على الخفين، وجهل هؤلاء الذين وقتوا في الخرق ثلاثة أصابع حتى أنهم قالوا فإن كان ذلك في مواضع شتى ضم بعض ذلك إلى بعض حتى ننظر فيه، فإن كان إذا جمع ذلك كله كان قدر ثلاثة أصابع، لم يمسح عليهما، وهذا قول لم يسبقهم إليه عالم قط فيما مضى، وأنكر ابن عيينة ذلك أشد الإنكار حتى إنه قال: ما لقن هؤلاء إلا الشيطان قدر ثلاثة أصابع.
قال حرب: حدثنا إسحاق قال: سمعت سفيان بن عيينة وسئل عن المسح على الخف المتخرق، قال: نعم، يمسح عليه. قيل لسفيان: فإن كان فيه خرق بقدر ثلاثة أصابع؟ قال: يمسح.
قال حرب: حدثنا إسحاق قال: أبنا يحيى بن ضريس قال: سمعت سفيان الثوري وسئل عن الخروق في الخفاف؛ فقال: امسح على الخف ما سمي خفًا. وقال ابن المبارك مثل ذلك، وقال: أما ترى خفاف أصحاب محمد فيها خروق.
"مسائل حرب/ مخطوط" (521 - 526)" اهـ من 21\33-34
وفيه: " قال حرب: سمعت إسحاق يقول: لا بأس على الرجل إذا كان يريد الحدث أن يعجل بلبس الخفين حتى يكون ماسحًا عليهما ما أمكنه أن يصلي كما أمر ولم يشغله ذلك عن الركوع والسجود؛ لأن المسح سنة مسنونة لا اختلاف بين أهل العلم فيها.
"مسائل حرب/ مخطوط" (564)" اهـ من 21\40-41
وفي الباب قول سفيان الثوري: "امْسَحْ عَلَيْهَا مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ رِجْلُكَ، وَهَلْ كَانَتْ خِفَافُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَّا مُخَرَّقَةً مُشَقَّقَةً مُرَقَّعَةً" اهـ
وعارضه قول معمر في مصنف عبد الرزاق: "754 - قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ: «إِذَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ فَلَا تَمْسَحْ»" اهـ


حكايات الإجماع
قال ابن القطان الفاسي: "وأجمع الجميع أن الجوربين إذا لم يكونا كثيفين لم يجز المسح عليهما... وإذا تخرق الخفان حتى بدت القدمان منهما أو أكثرهما فأجمع الكل أنه لا يمسح عليهما." اهـ من الإقناع في مسائل الإجماع
وقال المباركفوري (المتوفى 1353هـ): " فَإِنْ لَمْ يَكُونَا ثَخِينَيْنِ أَيْضًا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا اتِّفَاقًا" اهـ من تحفة الأحوذي 1\283

وقال الكاساني(المتوف 587هـ): "فَإِنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ يَشِفَّانِ الْمَاءَ، لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا بِالْإِجْمَاعِ" اهـ من بدائع الصنائع1\10
ولكن معنى "يشفان الماء" لعله غير واضح, وقال الماوردي (المتوفى 450هـ) في ذكر أقسام الجوارب: " وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُنَعَّلَ الْأَسْفَلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَشِفُّ وَيَصِلُ بَلَلُ الْمَسْحِ عَلَيْهِ إِلَى الْقَدَمِ، فَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَشِفُّ وَيَمْنَعُ صِفَاقُهُ مِنْ وُصُولِ بَلَلِ الْمَسْحِ إِلَى قَدَمَيْهِ" اهـ من الحاوي الكبير 1\365, وقال بُعيد ذلك في ذكر الشرائط: " وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَصِلَ بَلَلُ الْمَسْحِ إِلَى الْقَدَمِ، فَإِنْ وَصَلَ إِمَّا لِخِفَّةِ نَسْجٍ أَوْ رِقَّةِ حَجْمٍ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ." اهـ
ولكن قال النووي: " هَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْخُفِّ صَفِيقًا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْمَاءِ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَحَدُهُمَا يُشْتَرَطُ فَإِنْ كَانَ مَنْسُوجًا بِحَيْثُ لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ نَفَذَ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ وَبِهَذَا قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْفُورَانِيّ ُ وَالْمُتَوَلِّي قَالَ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ لِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَائِلًا بَيْنَ الْمَاءِ وَالْقَدَمِ وَالثَّانِي لَا يُشْتَرَطُ بَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ وَإِنْ نَفَذَ الْمَاءُ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ لِوُجُودِ السَّتْرِ" اهـ من المجموع شرح المهذب 1\503, فمع أنه أخذ بمعنى آخر لمنع نفوذ الماء, فإنه قد حكى الخلاف في اشتراطه.
والجويني سابق للكاساني وقد حكى الخلاف في جواز المسح على ما لو صب الماء عليه نفذ إلى القدم.
ويتلخص من هذا أنه لعل الكاساني أخطأ في هذه الحكاية؛ أو لعله قصد الإجماع بين أهل مذهبه؛ أو الإجماع على عدم جواز المسح على الرقيق, ويكون قوله " يَشِفَّانِ الْمَاءَ" وصفاً إضافياً من نفسِه أو مذهبِه غيرَ داخل في الإجماع, والله أعلم.

اشتراط الصفاقة
في الباب في مصنف ابن أبي شيبة: "1976 - حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، وَشُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا قَالَا: «يُمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ إِذَا كَانَا صَفِيقَيْنِ»" اهـ, وفيه عنعنة يونس.

هل يلزم كونهما منعلاً؟
وأما ما رواه الدولابي في الكنى والأسماء: " 1009 - أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ أَبُو زِيَادٍ الطَّحَّانُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: " رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَحْدَثَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْنِ مِنْ صُوفٍ فَقُلْتُ: أَتَمْسَحُ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ: إِنَّهُمَا خُفَّانِ وَلَكِنَّهُمَا مِنْ صُوفٍ "" اهـ, فسهل هذا, نقل عن الأزدي أنه قال فيه: " سهل بن زياد الطحان أبو زياد ، عن سليمان التيمي ، وطبقته ، منكر الحديث ." اهـ, وعلى فرض كونه ثقة فقد يكون في هذه الرواية شذوذ, والله أعلم
وأما ما رواه ابن أبي شيبة: " 1982 - حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضِرَارٍ، «أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالْكٍ، تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْنِ مَرْعَزِيٍّ»" اهـ, ففيه عنعنة سفيان وفيه سعيد بن عبد الله, نقل عن أبي حاتم فيه: "ليس هو بقوي"
وأما ما رواه ابن أبي شيبة: " 1972 - حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو، «أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْنِ مِنْ شَعْرٍ»" اهـ, وروى مثله عبد الرزاق عن الثوري به, فلا أكاد أستطيع الطعن فيه إلا بعنعنة سفيان, إلا أن ابن أبي عاصم جهّل خالد بن سعد وذكره ابن عدي في الضعفاء ولكن وثقه ابن معين.

وقال العمراني الشافعي: "إن كان الجورب لا يمكن متابعة المشي عليه، مثل: أن لا يكون منعل الأسفل، أو كان منعلا، لكنه من خرق رقيقة، بحيث إذا مشى فيه تخرق، لم يجز المسح عليه.
هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال أحمد: (يجوز المسح على الجورب الصفيق، وإن لم يكن له نعل) . وروي ذلك عن عمر، وعلي، وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد، وداود.
دليلنا: أنه إابعة المشي عليه، فلم يجز المسح عليه، كالرقيق." اهـ من البيان في مذهب الإمام الشافعي 1\157, ولعل هذا النقل واضطراب أقوال علماء الشافعية عموماً في المسألة مما يدل على أنه قد لا ينبغي الاعتماد على نقل بعضهم جواز المسح على الرقيق عن عمر وعلي... إلخ, والله أعلم.

قال العظيم آبادي: " وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ بِهَذَا الْعُمُومِ الَّتِي ذَهَبَتْ إِلَيْهَا تِلْكَ الْجَمَاعَةُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يثبت أَنَّ الْجَوْرَبَيْنِ الَّذِينَ مَسَحَ عَلَيْهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَا مِنْ صُوفٍ سَوَاءٌ كَانَا مُنَعَّلَيْنِ أَوْ ثَخِينَيْنِ فَقَطْ وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا قَطُّ
فَمِنْ أَيْنَ عُلِمَ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ غَيْرِ الْمُجَلَّدَيْن ِ بَلْ يُقَالُ إِنَّ الْمَسْحَ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ الْمُجَلَّدَيْن ِ لَا غَيْرِهِمَا لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى الْخُفِّ وَالْخُفُّ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْأَدِيمِ
نَعَمْ لَوْ كَانَ الْحَدِيثُ قَوْلِيًّا بِأَنْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْسَحُوا عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ لَكَانَ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بعمومه على كُلِّ أَنْوَاعِ الْجَوْرَبِ وَإِذْ لَيْسَ فَلَيْسَ
فَإِنْ قُلْتَ لَمَّا كَانَ الْجَوْرَبُ مِنَ الصُّوفِ أَيْضًا احْتُمِلَ أَنَّ الْجَوْرَبَيْنِ الَّذِينَ مَسَحَ عَلَيْهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَا مِنْ صُوفٍ أو قطن إذ لَمْ يُبَيِّنِ الرَّاوِي قُلْتُ نَعَمْ الِاحْتِمَالُ فِي كُلِّ جَانِبٍ سَوَاءٌ يَحْتَمِلُ كَوْنُهُمَا مِنْ صُوفٍ وَكَذَا مِنْ أَدِيمٍ وَكَذَا مِنْ قُطْنٍ لَكِنْ تَرَجَّحَ الْجَانِبُ الْوَاحِدُ وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ أَدِيمٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ فِي مَعْنَى الْخُفِّ وَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ قَطْعًا وَأَمَّا الْمَسْحُ عَلَى غَيْرِ الْأَدِيمِ فَثَبَتَ بِالِاحْتِمَالَ اتِ الَّتِي لَمْ تَطْمَئِنَ النَّفْسُ بِهَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ
نَعَمْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كَانَ أَبُو مَسْعُودٍ الأنصاري يمسح على الجوربين لَهُ مِنْ شَعْرٍ وَنَعْلَيْهِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَعِلْمُهُ أَتَمُّ" اهـ من عون المعبود 1\187-188
علق المباركفوري على كلامه هذا (إلى قوله "ما لا يريبك..."): " قُلْتُ كَلَامُهُ هَذَا حَسَنٌ طَيِّبٌ لَكِنْ فِيهِ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ الْجَوْرَبَيْنِ اللَّذَيْنِ مَسَحَ عَلَيْهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَا مُجَلَّدَيْنِ وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا قَطُّ فَمِنْ أَيْنَ عُلِمَ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ الْمُجَلَّدَيْن ِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْجَوْرَبَيْنِ الْمُجَلَّدَيْن ِ فِي مَعْنَى الْخُفِّ فَلَا يُجْدِي نَفْعًا فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ الثَّخِينَيْنِ فَقَطْ يَقُولُونَ أَيْضًا إِنَّهُمَا لِثُخُونَتِهِمَ ا وَصَفَاقَتِهِمَ ا فِي مَعْنَى الْخُفِّ فَتَفَكَّرْ" اهـ من تحفة الأحوذي 1\286 والاعتراض الأول الذي ذكره يدل على ما يَلزم العظيم آبادي من الأخذ بالرأي لإثبات قوله.

وقال البيهقي: " 1357 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيّ ُ، ثنا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُحَمَّدَ آبَاذِيُّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمُنَادِي، ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثنا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ نَجِيحٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ دَخَلَ الْخَلَاءَ وَعَلَيْهِ جَوْرَبَانِ أَسْفَلُهُمَا جُلُودٌ وَأَعْلَاهُمَا خَزٌّ فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا "" اهـ, وسنده ظاهره حسن, راشد بن نجيح صدوق وقال ابن حبان: "ربما أخطأ". فإن صح الأثر, ففيه ردّ على من قيّد الجورب في تعريفه بأنه من جلد, وهو قول مرجوح لا أعرف أحداً من متقدمي العرب قال به. وبالأخص, فلا أعلم أحداً من العلماء من أهل اللغة ولا أهل الفقه قال بأنه لم توجد في زمن الصحابة إلى الجوارب المنعلة, فلا وجه لأن يقال: "إنه لم يأت ذكر له في الآثار الأخرى عن الصحابة لأنه أمر مفترض"


وقد يستدل به من يشترط التنعيل في الجورب, فيقال في أثر أنس والاستنباط منه:
- لا أعلم أحداً من العلماء قال بحصر رخصة المسح على لجوربين بما ورد في أثر أنس تعييناً, حيث يشترط أن يكون أسفلهما جلوداً وأعلاهما خزاً.
- أكثر ما قيل فيه هو التعليل بأن يكون أسفل الجوربين جلوداً.
- فيتبين أنه يلزم القائلين باشتراط التنعيل بالجلد الأخذُ بالرأي لإثبات قولهم
- لا وجه لأن يقال: "لم يكن راوي حديث أنس (وهو راشد بن نجيح, وليس بذاك المعروف أصلاً) ليذكر ما ذكر إلا وهو يراه شرطاً في الجورب لجواز المسح عليه", لأنه ذكر أيضاً كون أعلاهما خزاً, ولم يشترط ذلك أحد بحسب علمي.
- أعلى الجورب هو ما لا يكاد يختلف الأئمة في وجوب مسحه, بخلاف الأسفل, فهو أحق أن تتعلق به شروط المسح, فكيف يُوَسّع في أعلى الجورب فيقال بجواز كونه من جلد وخز وغيرهما ويُضَيّق في أسفله فيشترط أن يكون من جلد, مع أنه أقل علاقة بالمسح من أعلى الجورب, بل هل له أيّ أهمية أصلاً؟ إلا أنه جزء الجورب الذي يمشى عليه, فاشتراط شرط عام في ذلك مثل إمكانية متابعة المشي أولى من اشتراط التنعيل بالجلد تعييناً, والله أعلم.
ولنتذكر ما ورد في مصنف عبد الرزاق: "قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَقُلْتُ لِعَطَاءٍ: «أَتَرَى الرُّخْصَةَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِأَنْ لَا يُنْزَعَ الرَّجُلُ دَفَاهُ؟» قَالَ: «نَعَمْ»" اهـ, فإذا انطبقت هذه العلة على جوارب أخرى, فما وجه منع المسح عليها؟
وإذا كانوا يُعَلِّلون بمثل هذه التعليلات المرجوحة ويقيدون الرخص بها لمجرد كونها رخصاً, فهلا اعتبروا احتمال أن الرواة أخطؤوا في وصف ما مسح عليه الصحابة فظنوها جوارب وهي في الحقيقة خفاف, فيكون المسح على الجورب لا يجوز أصلاً! وهذا لا سيما إذا كانوا يزعمون أن هؤلاء الرواة نقلوا إلينا المسح على الجورب ولم ينقلوا شروط صحته (مثل التنعيل بالجلد الذي يشترطونه) إلا في أثر أنس, بينما يبقى آثار علي بن أبي طالب والبراء بن عازب إلخ خالية عن ذكر هذا القيد. فلو قصّروا في ذلك فماذا يمنع أن يكونوا قصّروا في وصف الممسوح عليه فوصفوه جورباً وهو في الحقيقة خف! وهذا ينطبق حتى ولو ضعّفوا أثر أنس.

ولنتذكر أيضاً (إن صح) ما رواه ابن أبي شيبة: "25178 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَوَادَةُ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (وفي بعض الطبعات: عبد الله بن عمر)، قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْخِفَافِ السُّودِ فَالْبَسُوهَا، فَهِيَ أَجْدَرُ أَنْ تَمْسَحُوا عَلَيْهَا»" اهـ, فلا أعلم أحداً من العلماء ذكروا مثل هذا, مع أن فيه الترغيب القولي في المسح على الخفاف السود, فلماذا يكون التمسك بأثر أنس دون هذا؟


هل يكون المسح عليهما مع النعلين؟
أما ما رواه ابن أبي شيبة: " 1993 - حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ يَقُولُ: «الْجَوْرَبَانِ وَالنَّعْلَانِ بِمَنْزِلَةِ الْخُفَّيْنِ، وَكَانَ لَا يَرَى أَنْ يَمْسَحَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ»" اهـ, فحفص بن غياث هذا وصف بالاختلاط والتدليس, وعمرو هذا إن كان بن عبيد بن باب فمعروف بالبدعة تركه أو ضعفه جماعة.
وروى أيضاً 36358: "حدثنا أبو بكر بن عياش عن عبد الله بن سعيد عن جلاس (وفي بعض النسخ: خلاس) قال: رأيت علياً بال بالرحبة ثم مسح على جوربيه ونعليه." اهـ
وقال عنه الشيخ مقبل: " ظاهره الصحة إن كان عبد الله بن سعيد بن أبي هند سمع من خلاس. أهـ.
في الأصل: جلاس وأيضاً في ترجمة على من «تهذيب الكمال»، والصواب: خلاس كما في ترجمته." اهـ من نشر الصحيفة ص278
" وقد روى البيهقي (1) والطحاوي (2) في شرح معاني الآثار واللفظ له " عن أبي ظبيان أنه رأى عليا رضي الله عنه - بال قائماً ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه ثم دخل المسجد فخلع نعليه ثم صلى " وهذا أثر صحيح ." اهـ من مهمات المسائل في المسح على الخفين وسؤال وجوابه عن الاتباع والتقليد ص7.

وروي عن علي: " أَنَّهُ دَعَا بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ ، ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا ؟ قَالَ : فَأَخَذَهُ ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ ، وُضُوءًا خَفِيفًا ، وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلطَّاهِرِ مَا لَمْ يُحْدِثْ ." اهـ
وروي هذا من طريقين, أحدهما عن إبراهيم بن أبي الليث روي أن أحمد وابن المديني كانا يجملان القول فيه وأن ابن معين والنسائي جرحاه. والثاني عن ابن الأشجعي (وأظنه أبو عبيدة بن عبيد الرحمن) لم أر أحداً وثقه سوى ابن حبان. وكلا الطريقين عن السدي وهو مختلف فيه فلعله لا ينبغي أن يؤخذ منه ما تفرد به عن الرواة الآخرون.
وما تقدم من أنه بال ثم مسح يدل على أنه ليس من باب وضوء من لم يحدث.

وإن قلنا بأنه لم يمسح الصحابة على نعالهم إلا وهم يلبسون الجوارب تحتها, فممكن أن يكون المرء يمسح على جوربيه في نعليه وإنما يقصد بالمسح الجوربين, كما قال بعض الفقهاء بأن الواجب إنما هو مسح أكثر ظهر الخف أو أكثر الجورب أو جزء منه, فيحصل ذلك في النعال القديمة بينما الحذاء المعروف اليوم أشبه بالخف القصير لستره جميع ظهر القدم, وانظر في ذلك أبواب الإحرام.
قال الطحاوي: "قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى نَعْلَيْنِ تَحْتَهُمَا جَوْرَبَانِ , وَكَانَ قَاصِدًا بِمَسْحِهِ ذَلِكَ إِلَى جَوْرَبَيْهِ , لَا إِلَى نَعْلَيْهِ. وَجَوْرَبَاهُ مِمَّا لَوْ كَانَا عَلَيْهِ بِلَا نَعْلَيْنِ , جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا , فَكَانَ مَسْحُهُ ذَلِكَ مَسْحًا أَرَادَ بِهِ الْجَوْرَبَيْنِ , فَأَتَى ذَلِكَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ فَكَانَ مَسْحُهُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ هُوَ الَّذِي تَطَهَّرَ بِهِ , وَمَسْحُهُ عَلَى النَّعْلَيْنِ فَضْلٌ" اهـ من شرح معاني الآثار 1\97