السؤال


♦ الملخص:
سيدة أخذتْ مالَ ابنتِها اليتيمة، واستفادتْ وربحتْ منه، واتهمتْ شخصًا آخر بسرقَتِه.

♦ التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كنتُ آخذ مِن مال ابنتي منذ صِغَرها كلما احتجتُ دون عِلْمها، وكنتُ أنوي أنْ أعيدَ لها هذا المال، وقمتُ بفتح محلٍّ وربحتُ منه، ثم خسرتُ كل المال.


المشكلةُ أني أنفقتُ كلَّ مالها، ولم يبقَ منه شيءٌ، وأخبَرتُها أنَّ المالَ سُرق مِن شخصٍ في العائلة وهي تعرفه، وهي الآن تَحْقِد عليه وتكره التواصل مع العائلة بسببه.
فأخبروني كيف أتصرَّف؟


الجواب


الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فرائعٌ أن يَشعُرَ الإنسانُ بخَطَئِه، ويبحثَ عن حلٍّ وتوبةٍ نَصوح مما جناه على نفسه، كما أنَّ العاقل يَنبغي أن يكونَ على حذَرٍ، ولا يَتَوَرَّط فيما يُفضي إلى الوُقوع في المعصية، ويقف عند حُدود الله تعالى، ولا يَتجاوَزُها.


والذي يَظْهَر أنَّ مال ابنتك الذي أتيتِ عليه واستأصلته، كان وهي لا تزال في سنوات عمرها الأولى، ويظهر أيضًا مِن رسالتك أن ابنتك نشأتْ يتيمةً تحت وصايتك، فإن كان الأمرُ كما فهمنا، فلْتَحْذَري مِن تلك القَوارع التي تَتَصَدَّع لها القلوبُ، وترجف لها الأفئدة؛ أعني: أكل أموال اليتامى؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]، فهذه صورةٌ مُفْزِعة، صورة النار في البطون، والسعير في الآخرة؛ فمالُ اليتيم يستحيل نارًا، ومَن يأكله إنما يأكل النار، ومصيره إلى النار.


وقال سبحانه: ﴿ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 2]، ويَتكرَّر ذلك التحذيرُ المخيف مِن عسفِ وظُلم الأوصياء في السنة المُطَهَّرة؛ ففي الصحيحين أنَّ أكلَ مال اليتيم أحد السبع الموبقات؛ فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتَنِبوا السبع المُوبقات؛ قالوا: وما هُنَّ يا رسول الله؟ قال: الشِّرك بالله، والسِّحر، وقَتْل النفس التي حَرَّم الله إلا بالحق، وأَكْل الربا، وأَكْل مال اليتيم، والتوَلِّي يومَ الزَّحْف، وقَذْف المُحصَنات الغافلات المؤمنات))؛ متفق عليه.


فالواجبُ عليك أيتها الأخت الكريمة التوبةُ والندَم على ما فَعَلْتِ، ورَدُّ جميع الأموال التي أخذتِها من ابنتك.
ولا بأسَ أن تستري على نفسك، فلا تُخبري ابنتك بحقيقة ما فعلْتِه بِمالِها، ولكن ردِّي المالَ فقط، واطلُبي منها أن تُسامحَ مَن أَخَذَهُ كل هذه المدة، ويُمكنك الاحتيال في ردِّ المال إليها دون أن تَشعُرَ بأنه مِن عندك، وأخبِريها أنَّ شخصًا أخَذَهُ بغير وجهٍ شرعيٍّ، فإنْ تَعَذَّر عليك هذا فأعطيه لها كأنه هِبَة منك، وقصدُك قضاء الدين، أو غير ذلك مِن الصوَر التي تتيسَّر لك.


وأظنك تُدركينَ أن مِن شرط التوبة النَّصوح: إرجاعَ الحقوق إلى أهلها؛ فإنْ لم تُرجعيها، أو تعسَّر ذلك، فعليك أن تستحليها؛ أي: تَطْلُبي منها الصَّفْح والمسامَحة، فإن لَم تحلكِ بَقِيَت المَظْلَمةُ في ذِمَّتِك، ولك حُكم الغارم؛ يعني: تدفعين لها كلما تيسَّر لك ذلك.


هذا؛ ولا خلافَ بين الفقهاء في وُجوب رد المسروق إلى مَن سُرق منه؛ سواء كان السارقُ مُوسرًا أو مُعسرًا، كما لا خلافَ بينهم في وجوب ضمان المسروق إذا تلف؛ ففي الحديث الصحيح: ((على اليد ما أخذتْ حتى تُؤديه))؛ رواه أحمدُ والتِّرمذيُّ وأبو داود.


وعن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده، أنه سَمِع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يأخذنَّ أحدُكم مَتاعَ أخيه جادًّا ولا لاعبًا، وإذا أخذ أحدُكم عصا أخيه فلْيَرُدَّها عليه)).


كما يجب عليك أن تُبَرِّئي الشخصَ الذي افتريتِ عليه، وألْصَقْتِ به جريمةَ أخْذِ المال؛ فلا ريبَ أن السعيَ للإفساد بين المسلمين بِمِثْل هذا مِن أعظم المنكرات ومِن كبائر الذنوب؛ فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أُخبركم بأفضل مِن درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاحُ ذات البَيْن، وفساد ذات البَيْن هي الحالقة))؛ رواه أبو داود.


وقولُه: (وفساد ذات البين هي الحالقة) أي: الماحِية والمُزيلة للمَثوبات والخيرات.
والمعنى: يَمنعه شُؤم هذا الفعل عن تحصيل الطاعات والعبادات، وقيل: المُهلكة؛ مِن حَلْق بعضهم بعضًا؛ أي: قَتْل، مأخوذٌ مِن حَلْق الشعر.


وفي النهاية: هي الخصلة التي مِن شأنها أن تحلقَ؛ أي: تهلك وتستأصل الدين، كما يستأصل الموس الشعر، وقيل: هي قطيعةُ الرَّحِم والتظالُم.


وقال الطيبي: فيه حثٌّ وترغيبٌ في إصلاح ذات البين، واجتناب الإفساد فيها؛ لأنَّ الإصلاحَ سببٌ للاعتِصام بحبل الله، وعدم التفرُّق بين المسلمين، وفساد ذات البَيْن ثُلْمة في الدين، فمَن تعاطَى إصلاحها ورَفَع فسادها؛ نال درجةً فوق ما يَناله الصائم القائم المشتغل بخويصة نفسه"؛ قاله في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3154).
أسأل الله أن يتوبَ علينا جميعًا




رابط الموضوع: http://www.alukah.net/fatawa_counsel...#ixzz4zqgPXTqj