المنهج: انتقائي على ترتيب الأحاديث مع الاستعانة بكلامه في كتبه الأخرى وكلام غيره فيما أشكل أو احتاج للتوضيح.
للفائدة: من أشكل عليه شيء من كلام الإمام ابن دقيق العيد فليستعن بكلام من أخذ عنه من الشرّاح للأحاديث إن كان متعلقا بفقه الحديث كابن الملقن وأبي زرعة العراقي والحافظ ابن حجر وابن العطار والفاكهاني وغيرهم.
وإن كان بحثاً أصوليا فليستعن بكلام الأصولين لا سيما أبحاث القرافي في الأصول فإني رأيت ابن دقيق العيد كثير المتابعة له من غير عزو في كثير من الأحيان.
المبحث الأول: كلمة(إنّما) للحصر...
قال رحمه الله في شرح حديث" إنما الأعمال بالنيات"[ الكلام على الحديث من وجوه:...
الثاني:كلمة إنما للحصر، على ما تقرر في الأصول، فإن ابن عباس - رضي الله عنهما - فهم الحصر من قوله - صلى الله عليه وسلم - «إنما الربا في النسيئة» وعورض بدليل آخر يقتضي تحريم ربا الفضل، ولم يُعارَض في فهمه للحصر وفي ذلك اتفاق على أنها للحصر.
ومعنى الحصر فيها: إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما عداه.
وهل نفيه عما عداه: بمقتضى موضوع اللفظ، أو هو من طريق المفهوم؟ فيه بحث.
الثالث: إذا ثبت أنها للحصر: فتارة تقتضي الحصر المطلق، وتارة تقتضي حصرا مخصوصا. ويفهم ذلك بالقرائن والسياق.
كقوله تعالى {إنما أنت منذر} وظاهر ذلك: الحصر للرسول - صلى الله عليه وسلم - في النذارة. والرسول لا ينحصر في النذارة، بل له أوصاف جميلة كثيرة، كالبشارة وغيرها.
ولكن مفهوم الكلام يقتضي حصره في النذارة لمن لا يؤمن، ونفي كونه قادرا على إنزال ما شاء الكفار من الآيات.
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي» معناه: حصره في البشرية بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم، لا بالنسبة إلى كل شيء؛ فإن للرسول - صلى الله عليه وسلم - أوصافا أخر كثيرة.
وكذلك قوله تعالى {إنما الحياة الدنيا لعب} يقتضي - والله أعلم - الحصر باعتبار من آثرها. وأما بالنسبة إلى ما هو في نفس الأمر: فقد تكون سبيلا إلى الخيرات، أو يكون ذلك من باب التغليب للأكثر في الحكم على الأقل.
فإذا وردت لفظة " إنما " فاعتبرها، فإن دل السياق والمقصود من الكلام على الحصر في شيء مخصوص: فقل به.
وإن لم يكن في شيء مخصوص: فاحمل الحصر على الإطلاق.ومن هذا: قوله - صلى الله عليه وسلم - «إنما الأعمال بالنيات» والله أعلم].
وقال رحمه الله في شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (5/ 35- 37): [قد تبيّن في علم الأصول أن كلمة (إنَّما) للحصر، والحصرُ فيها على وجهين:
أحدهما: أن لا يكون فيما دخلت عليه تخصيصٌ، ولا تقييد {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}.
الثاني: أن يقعَ التقييدُ فيما دخلت عليه: إما في جانب الإثبات: بأن يكون هو المقصود.
أو في جانب النفي: بأن يكون هو المقصود، والقرائنُ ترشد إلى المراد، وهي من العُمَد الكبرى في فهمه {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ}، فإن جميع هذه الأوصاف التي دخلت عليها (إنما) ليست على العموم، بل يختصّ كونها لعباً ولهواً بمنْ لا يريدُ بعمله فيها الآخرةَ والتزودَ إليها، والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لا ينحصر في النذارة ولا البشريَّة، بل له أوصاف أخرى جليلة زائدة على البشرية والنذارة، ولكن فُهِم منه: أنه ليس على صفة تقتضي العلم بالغيب لذاتها، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي"، وفي {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} في الآية الكريمة، نفهم منه: أنه ليس قادراً على خَلْقِ الإيمان، قهراً لِسَبْقِ قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي - واللهُ أعلمُ -: لا أقدر على إجبارِكم على الإيمانِ، وكذلك أمرُ النذارةِ لا ينحصرُ فيها - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}.
إذا عرفتَ هذا فنقولُ: إن دلت القرائنُ والسياقُ على التخصيصِ، فاحملْه على العموم فيما دخلَتْ عليه، وعلى هذا حَمَل ابنُ عباس: "إنما الرِّبا في النَّسيئة" على العموم، حتى نفى ربا الفضل، وقيل: إنه رجعَ عنه، وحملَ غيرُهْ "إنما الماء من الماء" على ذلك، ولم يوجِبِ الغسلَ بالتقاء الختانَيْن، ومن خالفَ في الأمرين فبِدليلٍ مِنْ خارج].
وقال في شرح الأربعين:[ولفظة: "إنما" للحصر: تثبت المذكور وتنفي ما عداه وهي تارة تقتضي الحصر المطلق وتارة تقتضي حصراً مخصوصاً ويفهم ذلك بالقرائن كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} 2. فظاهره الحصر في النذارة والرسول لا ينحصر في ذلك بل له أوصاف كثيرة جميلة: كالبشارة وغيرها وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} 3 فظاهره والله أعلم الحصر باعتبار من آثرها وأما بالنسبة إلى ما في نفس الأمر فقد تكون سبباً إلى الخيرات ويكون ذلك من باب التغليب فإذا وردت هذه اللفظة فاعتبرها فإن دل السياق والمقصود من الكلام الحصر في شيءٍ مخصوص: فقل به وإلا فاحمل الحصر على الإطلاق ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" والمراد بالأعمال: الأعمال الشرعية. ومعناه: لا يعتد بالأعمال بدون النية مثل الوضوء والغسل والتيمم وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف وسائر العبادات، فأما إزالة النجاسة فلا تحتاج إلى نية لأنها من باب الترك والترك لا يحتاج إلى نية، وذهب جماعة إلى صحة الوضوء والغسل بغير نية]
تعليق...
- يراجع للفائدة كلام الأصوليين واختلافهم في إفادة (إنما) للحصر رسالة:" النفي والإثبات عند الأصوليين" ص409 وما بعدها.
- قوله:" ومعنى الحصر فيها: إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه" أحسن منه قول ابن تيمية رحمه الله:(وصيغة الحصر يُنفَى بها ما كان من جنس المثبت، لا يُنفى بها كلّ ما سوى المثبت؛ كقوله{إنما أنت منذر ولكل قوم هاد}{فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر} فهو لم ينف جميع الصفات سوى الإنذار؛ فإنه مبشر مع كونه منذر، وهو شاهد وادع إلى الله تعالى... وإنما مقصوده: نفي كونه يهدي من يشاء ويضل من يشاء؛ ولهذا قال:{ولكل قوم هاد} فاخبر عما طلبه المشركون حيث قال:{ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه} فقال تعالى:{ إنما أنت منذر} لست الذي ينزل الآيات، بل هذا إلى الله) الرد على السبكي (1/ 465)
- قوله رحمه الله:(وهل نفيه عما عداه بمقتضى موضوع اللفظ، أو هو من طريق المفهوم؟) يراجع من شرح ألفية البرماوي في أصول الفقه (3/ 1029- ) ورفع الحاجب شرح مختصر ابن الحاجب (4/ 14) وسلاسل الذهب (ص286).
- فائدة الخلاف في ما لو قال: إنما قام زيد، ثم قال: وعمرو مثلا...
فمن قال: إنما تفيد الحصر بالمفهوم جعلَه تخصيصا لعموم المفهوم.
ومن قال: إنها تفيد الحصر بالمنطوق جعله نسخاً.
- قال ابن تيمية رحمه الله:(والقول بأن مثل هذا يفيد الحصر والعموم قول جماهير أهل العلم، وهو معروف من قول أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما، لكن تنازعوا: هل يفيده بطريق المنطوق أو بطريق المفهوم؟ على قولين، ومن قال: إنه بطريق المفهوم جعله أعلى مراتب المفهوم، أعلى من مفهوم الغاية وغيره، وجعل الخلاف في ذلك شاذاً ليس كالخلاف في مفهوم الصفة والعدد.
والصحيح: أنه يفيده بطريق المنطوق لا بطريق المفهوم الذي هو دليل الخطاب، فإن ذلك إنما يكون فيما سكت عنه المتكلم، فيدل المنطوق على المسكوت أما لتخصيصه بالذكر مع تمام المقتضي للتعميم، وقصد التخصيص بالحكم يتضمن نفي حكم المنطوق عن المسكوت، سواء انتفى عن جميع أفراده أو كان في نفيه عن بعضها تفصيل وتقييد، فقصد تخصيص المذكور بالحكم = يبين أنه ليس حكم المسكوت كحكم المنطوق، ويكفي في ذلك الخلاف من بعض الوجوه)
وأطال البحث إلى أن قال:
(فدلالة (إنما) على النفي والإثبات بطريق اللفظ، وكذلك الدلالة بأدلة التعريف مع حذف إنما إذا قيل:" الماء من الماء" و" تحريمها التكبير وتحليلها التسليم" فإن اسم الجنس المعرّف بلام الجنس يقتضي الاستغراق عند جماهير السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم ولا يعرف في ذلك نزاع بين القرون الثلاثة....).
- المشهور أن أدوات الحصر خمسة:
الأول: (إنما) وقد سبق.
الثاني: النفي قبل إلا، مثل: ما قام إلا زيد، ولم يقم إلا زيد، ليس في الدار إلا زيد.
الثالث: المبتدأ مع الخبر، لأن المبتدأ ينحصر في الخبر مثل "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم".
الرابع: تقديم المعمولات على عواملها مثل:{إياك نعبد وإياك نستعين}{وهم بأمره يعملون}
الخامس: لام التعريف (الألف واللام) كقولك: زيد القائم، أبو بكر الصديق الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. كأنك تقول: القيام منحصر في زيد، والخلافة بعد رسول الله منحصرة في الصديق.