أربعون حديثا
في الرفق بالحيوان
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد :
فإنني بعدما وقفت على جملة من الأحاديث التي ساقها شيخ شيخنا أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى رحمة واسعة في الرفق بالحيوان في المجلد الأول من السلسلة الصحيحة نفع الله بها ، مع ما كان عندي من رغبة في أن أجمع الأحاديث الواردة في ذلك، نشطت للبحث عن ما يمكن أن يكون رسالة فريدة في بابها، أرد بها الاعتبار لهذا الدين الذي أساء إليه أهله جهلا أو ظلما،فتتبعت ألفاظ الأحاديث في كتب السنة، فوجدت أهل الحديث قد سبقوا إلى ذلك بمدة، ووجدتهم يبوبون لجملة من الأحاديث عندهم في الموضوع بقولهم :(باب ما جاء في الرفق بالبهائم في السير ) كما في سنن سعيد بن منصور، وقولهم :(باب رحمة الناس والبهائم) كما قال البخاري في صحيحه، أو يقولون (ذكر استحباب الإحسان إلى ذوات الأربع، رجاء النجاة في العقبى بها) أو (ذكر الزجر عن ترك تعاهد المرء ذوات الأربع بالإحسان إليها) كما عند ابن حبان في صحيحه، ومثلها كثير.
فقوي العزم عندي، ووفقني الله تعالى إلى جمع أكثر من أربعين حديثا في ذلك، فراق لي حينها أن ألحق بركب من كتب في الأربعينات، وآخرهم فيما أعلم شيخنا أبو أويس محمد بوخبزة المغربي حفظه الله لنا، فقد جمع أربعين حديثا في النهي عن الصلاة على القبور وإليها وبطلانها، فقررت أن تتحول الرسالة إلى الأربعين حديثا في الرفق بالحيوان ، واخترت كلمة (الرفق) لتكون أوضح في الرسالة التي أردت أن أوجهها من خلال هذه الأربعين:
روى الإمام ابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز (ص136) عنه أنه كتب إلى حيان بمصر فقال له :" إنه بلغني أن بمصر إبلا نقالات يحمل على البعير منها ألف رطل. فإذا بلغك كتابي هذا فلا أعرفن أنه يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل. وروى عنه أيضا أنه كتب إلى صاحب السكك :" أن لا يحملوا أحدا بلجام ثقيل من هذه الرستنية ولا ينخس بمقرعة في أسفلها حديدة". فانظر إلى هذا الجمال الرائع الذي ينطبع في مخيلتك عن الإسلام وأنت تقرأ مثل هذا التصرف الراقي من أحد روائع الدهر خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز حفيد عظيم من عظماء الأمة أمير المومنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه , وقد روى ابن سعد في الطبقات {7/127}عن أبي داود الطيالسي عن أبي خلدة خالد بن دينار عن المسيب بن دارم قال : رأيت عمر بن الخطاب ضرب جمالا وقال:" لم تحمل على بعيرك ما لا يطيق". وروى ابن أبي شيبة في المصنف {7/99/34487} عن حميد بن عبد الرحمن قال : قال عمر: لو هلك حمل من ولد الضأن بشاطئ الفرات خشيت أن يسألني الله عنه.ورواها أبو نعيم في الحلية (1/53)قال :حدثنا محمد بن معمر ثنا عبد الله بن الحسن الحراني ثنا يحيى بن عبد الله البابلتي ثنا الأوزاعي حدثني داود بن علي قال: قال عمر بن الخطاب لو ماتت شاة على شط الفرات ضائعة لظننت أن الله تعالى سائلي عنها يوم القيامة وفي صفوة الصفوة لابن الجوزي {1/285} عن ابن عمر قال : كان عمر بن الخطاب يقول : لو مات جدي بطف الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر. وهذا شيء مهيب وموقف لا يملك الإنسان أمامه إلا الإكبار والتعظيم لهذا الدين الذي ربى في أتباعه مثل هذا الخلق السامي النبيل.كيف لا والله تعالى يقول {وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } بل إنهم يسبحون الله تعالى كما نسبح لقوله تعالى {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا}، فلله در العمرين رضي الله عنهما. والألطف من هذا أن فقهاءنا تكلموا في ما هو أدق من ذلك، وجعلوه من مباحث الفقه المشهورة. فقد سئل إمامنا مالك عن النمل يؤذي السقف ، فقال :" إن قدرتم أن تمسكوا عنها فافعلوا، فإن أضرت بكم ولم تقدروا على تركها فأرجوا أن يكون من قتلها في سعة" الجامع لابن أبي زيد {ص24}. فواعجبا من هذا الشعور النبيل والإحساس الراقي الرقيق. وما هذا إلا التزام منهم بخطاب القرآن الكريم الذي علمهم أن الحيوانات أمم مثلنا لها علينا حق الإحسان إليها ومراعاة مصالحها .بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية جعل الإحسان إلى البهائم من أنواع العبادة كما في رسالته الموسومة بـ(العبودية ) ص4 ، وهو أمر واضح لمن عرف حقيقتها،و استدل ابن حزم بقوله تعالى (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) فقال في الإحكام (1/355)): (هذا عموم لكل نفس حرمها الله من إنسان ملي أو ذمي لم يأتنا ما يوجب القتل لهما,ومن قتل حيوانا نهي عن قتله ,إما لتملك غيرنا له,أو لبعض الأمر)
ثم إنني وقفت على كلام يحسن إيراده ،وهو جزء من مبحث طريف لشيخ شيخنا عبد الحي الكتاني في التراتيب الإدارية {2/100/} فقد قال بعد أن نقل من كلام الشيخ أبي علي ابن رحال المالكي رحمه الله نقولات طيبة : (فإن أبا علي جلب وحطب من الأنقال في المسألة ما يسوغ لنا أن نجعله في طليعة جمعيات الرفق بالحيوان العجم يتخذونه قدوة ونعم الأسوة وإنما أطلت القول هنا لتعلم أن أهل الإسلام قبلُ بقرون تفطنوا لما تظاهرت به الآن جمعيات الرفق بالحيوان في أروبا فخذه شاكرا ).
ومن الطريف ما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (18/454) أن رجلا أخسأ كلبا فقال له الإمام العلم أبو إسحاق الشيرازي الشافعي: ( مه الطريق بينك وبينه)
ومثله ما ذكره الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (7/566) عن تاج الدين السبكي أنه قال : (كنت جالسا بدهليز دارنا ,فأقبل كلب,فقلت: إخسأ كلب بن كلب.فزجرني الوالد من داخل البيت.فقلت: أليس هو كلب بن كلب؟!قال : شرط الجواز عدم قصد التحقير)
وقال الشيخ الفاضل القدوة محمد المختار الشنقيطي في شرح قول صاحب زاد المستقنع :*وأن يحدها والحيوان يبصره*: ( وهذا فيه أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه؛ فإنه ليس من الإحسان، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان عند الذبح، فيكره أن يأتي بالبهيمة ويحد السكين أمامها؛ لأن هذا مما يؤذيها.
فهذه هي الحقوق الواقعة في موقعها الموضوعة في موضعها، أما أن ترى الذين لا يعقلون ولا يفقهون يريدون أن يعلموا المسلمين الحقوق ! فشاهت الوجوه ! هذه حقوق الشريعة من قبل ألف وأربعمائة سنة، وهي تقر المبادئ السامية العادلة، أما هؤلاء فلم يعرفوا حقوق الحيوانات إلا الآن، لكنا عرفناها وعرفها أبناء المسلمين، وعرف أطفال المسلمين وهم يمصون أصابعهم كيف يعاملون حتى الحيوان، وعلموا الحرمة حتى في الإساءة إلى الشجر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم في مكة شجرها، وكان المسلم يعي ما الذي له وعليه، حتى الجماد، فهذه أمة سامية، ولذلك ينبغي للمسلم أن يعتز بدينه، وأن يعلم أنه ليس بحاجة لأن يعلمه أحد، وأن ما علمه الله عز وجل يكفيه عن غيره: ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) (النساء:113): إنه فضل الله عز وجل عليه، وعلى أمته صلوات الله وسلامه عليه وعلى خلقه أجمعين، فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله).

*قلت : ظهرت أول حركة تدعو إلى الرفق بالحيوان سنة 1845 ميلادي في باريس في شكل جمعية تسمى : (الجمعية المدافعة عن الحيوانات) (SPA) Société protectrice des animaux. ثم أصدرت مجموعة من الدول الإعلان العالمي لحقوق الحيوان بدار اليونسكو بباريس أيضا وفيه مجموعة من التوصيات لم ترق إلى مستوى القوانين. وقد سبق الإسلام هذا الإعلان وما يحوم حوله إلى الأمر بالرفق بالحيوان والنهي عن تعذيبه والإساءة إليه بزمن طويل جدا،فسبق إلى الأمر بالإحسان إلى الذبيحة كي لا تحس بالألم، وبعد أربعة عشر قرنا ، أوصى بذلك الإعلان العالمي لحقوق الحيوان في الفصل الثالث.فتأمل وكن منصفا.
وقد لخص الإمام ابن عبد البر المالكي رحمه الله في الكافي مذهب الإمام مالك في الرفق بالحيوان فقال :( والرفق بالدواب في ركوبها والحمل عليها واجب سنة فإنها عجم لا تشكو وهي من ملك اليمين وفي كل كبد رطبة أجر هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا كان في الإحسان إليها أجر فكذلك في الإساءة إليها وزر وقد شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمل أن صاحبه يجيعه فأمره بالإحسان إليه أو يبيعه ولا يحمل على الدواب أكثر من طاقتها ولا يضرب وجوهها ولا تتخذ ظهورها كراسي . وقال : ولا يحل حبس بهيمة مربوطة عن السرح والتحريش بين البهائم مكروه ).وهذا من الأمور التي سبق فيها الإسلام الجمعيات الحديثة ، ففي فرنسا مثلا يمنع قتل الثيران في حلبات اللعب على الطريقة الإسبانية، واستثنوا المناطق الجنوبية التي جعلت من ذلك تقاليد لا يفرط فيها!
وقال الإمام القرطبي المالكي في الجامع {10/73}عند تفسير قوله تعالى {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تاكلون,ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون, وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم}:(في هذه الآية دليل على جواز السفر بالدواب وحمل الأثقال عليها ولكن على قدر ما تحمله إسراف في الحمل مع الرفق في السير وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق بها والإراحة لها ومراعة التفقد لعلفها وسقيها, فالدواب عجم لا تقدر أن تحتال لنفسها ما تحتاج إليه ولاتقدر أن تفصح بحوائجها فمن ارتفق بمرافقها ثم ضيعها من حوائجها فقد ضيع الشكر وتعرض للخصومة بين يدي الله تعالى)
ومثله ما سطره الشيخ خليل في الجامع المنسوب إليه فقال : (ويكره تعليق الأجراس والأوتار في أعناق الدواب كمنعها حقها من كلأ وخصب والحرق بها والحمل عليها ما لا تطيق).
وهذه الأربعون حديثا كالأصل لما نقلته عن أولئك الأئمة رحمهم الله . جمعتها بلهف . وكتبتها بشغف. فهاهي ذي أجعلها بين يدي كل من وقف عليها ، مسلما كان أو غيره، تدل دلالة واضحة على أن الإسلام دين الحق الذي لا ريب فيه ، وأنه فرقان الله بين الحق والباطل، وشفاء لما في الصدور، فالحمد لله على النعمة التامة، والشكر له على الهداية. والصلاة والسلام على من أكرم بدلائل النبوة، وسلم تسليما كثيرا.
وساضع الأحاديث الأربعين لاحقا