بسم الله الرحمن الرحيم
آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن - نعوم تشومسكي
ترجمة : حمزة بن قبلان المزينى
المشروع القومي للترجمة - المجلس الأعلى للثقافة – الطبعة الأولى 2005 - القاهرة
=---------------------------------------------=
يقول المترجم عن هذا الكتاب " يمثل مراجعة شاملة للمنطلقات الفكرية و الفلسفية و العلمية التي يقوم عليها المنهج الذي شرعه في دراسة اللغة"[1].
و في كتاب اللساني البريطاني المعاصر ر.هـ.روبنز "موجز تاريخ علم اللغة" الذي صدرت طبعته الأخيرة في 1990م ، و ترجمه إلى العربية الدكتور أحمد عوض ، و نشر في سلسلة عالم المعرفة الكويتية في عددها 277 ، رجب 1418هـ/نوفمبر 1997م : " ومن هذا الموقف ظهر بشكل ثابت مفهوم قواعد أساسية و عمومية [كلية] ، و هو بحث متكرر منذ ذلك الوقت للغويين النظريين... و قد صرح روجر بيكون الذي كتب هو نفسه قواعد لليونانية كانت من أولى القواعد التأملية ...بأن القواعد قواعد واحدة ، وهي نفسها في كل اللغات من حيث جوهرها ، و أن الخلافات السطحية فيما بينها هي مجرد خلافات عرضية " (ص 136-137).
و هذا كلام و نظرية نابعين من البحث و الدراسة و التأمل في قواعد الألسنة المختلفة ، موافقة تماما للنظرة المنطقية للألسنة و ما تحويه من معاني و دلالات و معقولات ، و هذا ما سماه الفارابي النحو العام مقابل النحو الخاص و هو الذي يختص به لسان عن أخر و ربما يكون ما عناه روجر بيكون هو هذا فوصفه بـ (خلافات سطحية – خلافات عرضية) أي أنه غير مؤثر على الدلالة و الكفاية البيانية و لا يعدو أكثر من عرفيات صوتية تخص كل لسان و قد تتشابه أو تختلف مع ألسنة أخرى و لكن في النهاية ليست ذات بال في الأداء الدلالي الكافي في البيان ، و الفارابي جعل بعض الحركات الإعرابية من هذا القبيل في اللسان العربي . بينما جعل تقسيم الكلام إلى ثلاث (الإسم – الكلمة – الأداة) و هو ما يقابل عند النحاة (الإسم – الفعل – الحرف) و ما ينتج عنهم من تراكيب تؤدي المعاني العقلية التي يتم احتوائها كلها من خلال المعاني الكلية (الأجناس العشرة) التي تصف كل شيء مفردا كان أو ذو علاقة مع غيره ، على تنوع هذه العلاقات التي تتكون من هذه الكلمات الثلاث ، فهي لم تترك أي معنى ممكن يخرج عن معانيها الكلية ، و كانت هذه نظرة اخوان الصفا ايضا ، و كلها مشابهة لما نقل من الفلاسفة اليونانيين ، هذا لوضوح هذه المعاني و شموليتها للموجودات كلها أو يكون مجرد امتداد لهذه النظرية بالشرح و البيان ، أو الإثنين .
و هناك قول لتشومسكي يجلي فكرة العصيان اللساني على ان يقيد بقاعدة أو قانون توجه المتحدث أو تجبر المستمع على فهم معين أو قول معين ، فيقول في كتابه:القضايا الراهنة في النظرية اللسانية 1964: " فإذا صيغ النحو صياغة جيدة فيمكن لمستعمله عندئذ أن ينجح في استعماله ، لكن الاطرادات العميقة للغة التي يمكن له اكتشافها تستعصي على الصياغة المنضبطة ، كما أن طبيعة القدرات التي مكنته من استخدام النحو و اكتشاف تللك الاطرادات ستظل أمرا محيرا . و يمكن أن نقدر مدى اتساع هذه الفجوات إذا ما حاولنا أن نصوغ قواعد واضحة لكامل الحقائق البنيوية المتاحة للمستعمل الناضج للغة (ص 16-17). "[2]، لأن عمق اللسان من عمق المعاني ، و عمق المعاني من عمق الفكر و العقل ، و لا يتصور أن يضع العقل (كمفكر) لنفسه قواعد يجب أن يسير عليها في تفكيره و تناوله للموجودات و علائقها ببعض ، فلا شيء في الوجود يحجر على العقل تعقله سواء لنفسه أو لغيره ، أما القواعد و القوانين الصارمة بل الحتمية التي لا تخالف أبدا و لا يخالفها شيء أبدا إلا أن يُأول ، هي تعقل أخر لا يستطيع فيه العقل إلا أن يسلم و ينحنى لكي يعبر في طريقه المرسوم له ، هذه الطبيعة لا ينال منها العقل إلا بالشعور فقط ، أي أنه يدرك شيء موجود بالفعل ، هذا المعنى هو الفطرة أو الغريزة . و قد سبق للمناطقة و الفلاسفة الذين تناولوا قضية الاسم و المسمى أو ما يعرف اللفظ و المعنى ، أو الدال و المدلول ، التقرير على ان المعنى أو المدلول أو المسمى هو تصور ذهني أو معقول ناتج عن معلومات مرسلة من الأعضاء الحاسة إلى العقل الذي طبع هذه المعلومات في صورة ذهنية ، هذه العملية الكل متفق على فطريتها و خِلقيتها و غريزيتها ، لأنها ليست محل تناول بحثي لعدم القدرة على ذلك ، فهي خارج نطاق القدرة البشرية ، ولكن طمع و نهم الإنسان لا يتوقف على درب المحاولة ، و لكنها محاولات قاصرة حتى في المنهجية نفسها ناهيك عن الوسائل أو الأدوات التي من خلالها يمكن معايرة هذه الفطرة أو قياسها ، لأن بداية أي فكرة قياسية تتناول أي شيء بقياسه أو معايرته هي الخروج عن ماهية هذا الشيء أولا ، لتحليله لأصغر وحدة ممكنة منه و تكون المعايرة بعد ذلك بمضاعفات هذه الوحدة ، و هذا لا يمكن في العقل أو الفطرة . إلا عن طريق وسيط يمثل ظاهرة مرتبطة بقوة بالذي يراد قياسه ، فلو قلنا للعقل قد يكون عن طريق الألفاظ الدالة في أي وسيلة ما أو أداة ما ، المهم أنه ستكون الألفاظ هي الوسيط الذي سيعاير على أنه هو العقل لشدة الترابط الظاهري بينهما ، لأنه ليس هناك مظهر عقلي إلا عن طريق الألفاظ أو ما يقوم مقامها من التعبير عن الأفكار . و هو الذي أراه أنه لا فرق بين الألفاظ و بين الأشعة التي يمكن قياسها من المخ من حيث النظرة لهما ، فإنهما ما زالا مظهرين من مظاهر التفكير العقلي ، و ليس التفكير العقلي نفسه ، و الفطرة أقوى في غموضها و ظهورها في نفس الوقت من العقل و التفكير .
و يقول مترجم الكتاب : "و أن التشابه بين نظريته التوليدية و النحو العربي إنما جاءت من اهتمام الانحاء[جمع نحو] التقليدية كلها ، و منها النحو العربي ، ببعض القضايا الجوهرية في بنية اللغة ، و هي التي جاء تشومسكي ليصوغها صياغة نظرية حديثة منضبطة ."[3]
و عن علاقة النحو و المنطق يقول ديفد بارسكي عن سيرة تشومسكي ، يقول بارسكي (ص111) : "يشير تشومسكي في نقاشه للبنى العميقة و البنى السطحية في كتابه (اللسانيات الديكارتية) إلى قيمة النظرية الكلية أو الفلسفية لدراسة النحو التوليدي التحويلي . و هو يقوم بذلك مشيرا إلى النحو و المنطق كليهما كما وصفا في نحو جماعة بورت رويال ، فهو يقول [أي تشومسكي]:
تهتم هذه النظرية على وجه التأكيد بالقواعد التي تحدد البنى العميقة و تصلها بالبنى السطحية ، و كذلك بقواعد التمثيل الدلالي التي تعمل على البنية العميقة و قواعد التمثيل الصواتي التي تعمل على البنى السطحية . و بكلمات أخرى ، فليست هذه النظرية إلا تطويرا و صياغة شكلية للأفكار الموجودة بشكل ضمني [في النحو الديكارتي]...لذلك يبدو لي ، من أوجه عديدة ، أنه لا يبعد عن الصواب أن نعد نظرية النحو التحويلي التوليدي ، بشكلها الذي تطورت به في الدراسة المعاصرة ، و جها معاصرا و أكثر جلاء للنظرية التي يتضمنها نحو بورت رويال ."[4]
و هذه شهادة موثقة من تشومسكي نفسه عن نظريته أنها في أساسها نحوية منطقية ديكارتية ، و لكن بصورة جديدة تكونت من بعض الروافد الأخرى من العلوم الحديثة و التنظير الجديد ، فالأمر لا يعدو أكثر من صياغة جديدة لنفس الفكرة أو النظرة ، المهم مدى الربط بين النحو و المنطق ، أي أن المحرك الأساسي منطقي عقلي و مادته المعقولات الذهنية و التي بالتأكيد ستكون متأثرة بالنظرة المعرفية و روافد المعرفة و أصولها التي في النهاية تصب في العقل تصوراته فتجعلها المعاني التي تنطبع للخارج على صورة صواتية ، فالعلاقة التي تربط الصورة الصواتية بالصورة العقلية و تمثيلها في قواعد أو أنها تكون هي محل البحث و الدراسة هي لب النظرية التوليدية . و هي في حققية الأمر لا تختلف كثيرا عن نفس النظرية القديمة المنطقية و الفلسفية لكثير من المناطقة و الفلاسفة اليونان و العرب من بعدهم ، أن المعاني التي تقف وراء القواعد النحوية في التراكيب الكلامية هي المعاني العقلية ، فهي منشؤها المعاني من حيث هي معاني مدلول عليها بأصوات لها قواعد صواتية في الأداء العرفي لأهل هذا اللسان ، و ليس محل إهتمام هذه المعاني هي الألفاظ من حيث هي ألفاظ لها معاني تدل عليها .
و انا على يقين أن ما يولده أي عقل من نحو على حسب معرفة هذا الشخص و نظرته للكون و لنفسه و للقوة التي وراء ذلك أيا كانت ، ستختلف عن نظرة المسلم و ما ينتجه عقله و فطرته و شريعته من نحو ، لأن دخول الغيبيات و صفات الله و أفعاله و أسماؤه و تكاليفه و كلامه عن الخلق و المخلوقات ، و غير ذلك من معاني و تصورات خاصة جدا بالدين و لا يتم معرفتها إلا عن طريق الأخبار و التوقيف فليست هي من تناول العقل و الفكر و لا من نتائجه ، و لذلك فهذه المعاني ؛ و التي منها بالطبع معاني غير منطقية بمعنى غير خاضعة للتجريب و الحس المباشر و لا في متناول العقل ، لن تكون ممثلة في القاعدة المعنوية العقلية لهذا الشخص ، و بالتالي لن يكون لها انعكاس على تصوره و قواعده سواء العميقة أو السطحية ، بما يقابل التمثيل الدلالي في العقل و الفكر و التمثيل لهذه الدلالة في الصوتيات و تراكيبها . و لا ننكر أنه من الممكن أن يوجد تشابه في هذه المعاني خاصة و ان الفطرة و الغريزة و واحدية مكونات الجهاز المعرفي كلها متماثلة في البشرية كلها ، فلا بد من تماثل معنوي بين البشرية كلها في معانيها و معقولاتها ، و بالتالي في نحو كل لسان فيها ، و سنجد هذا التماثل متجسدا في الجوهرية اللغوية و اللسانية ، و هذا ما كان فعلا من العلماء سواء القدماء منهم أو المحدثين كما نوهنا منذ قليل على قول أحدهم أن اللغات في جوهرها واحد و متشابه جدا ، و أن الاختلافات تعتبر عرضية و ليست معنوية . و هو نفس قول الفارابي و اخوان الصفاء و من قبلهم ، و هو قول أي عاقل تدبر معنى اللغة و اللسان و المعاني و كيفية تواصل البشر مع بعضهم و مع من سبقهم مع اختلاف السنتهم .
-============================== ================-
و نظرية الفردية التي تخص كل فرد من ناحية اللغة ، ليس معناها و لا من لوازمها أن يتنصل الفرد من المشترك الذي بين الأفراد كلهم ، لأن هذا الفرد خالقه واحد و عليه فأعضائه الحاسة و كيفية احساسها بالخارج و كيفية ترجمة هذه التغيرات فيها عن طريق المخ كلها محكومة بنظام واحد ، و من وضع فيه هذه اللغة و الفطرة و العقل و جهاز النطق الذي يخرج الأفكار عن طريق الأصوات فخالق هذا النظام واحد ، و بفرضية قوية مفروضة على العقل تقول بأن الماهيات الخارجية ثابتة و لها حقائق ثابتة و خالقها هو نفس الخالق ايضا و هو واحد ، فكل ما سبق يجعل الفردية في التكوين المعرفي و العقلي و اللغوي شبه معدوم من ناحية الكفاية البيانية و الادراكية ، أما من ناحية ما يزيد على ذلك من معرفة أو ادراك أو علم ينطلي على لغة الفرد و يخرج على لسانه فلا ننكر مثل ذلك ، و لكن لا نعطيه أكثر من وضعه في التصور الكامل عن اللغة و اللسان و الذهن و المعرفة .
و بذلك يقول نيل سميث عن تشومسكي : "معرفة اللغة فردية و داخلية في الذهن/الدماغ البشري . و يترتب على هذا أنه يجب أن توجه الدراسة الحقيقية للغة اهتمامها إلى هذه البنية الذهنية ، و هي وحدة نظرية يسميها بالمصطلح الجديد ’اللغة – د‘، أي أنها خصيصة داخلية للفرد."[5]
و "د" تعني أنها : فردية داخلية مفهومية ، و الثلاثة في الانجليزية تبدأ بحرف "I" و لذك اختار المترجم حرف "د" اكتفاء بـ داخلية ، و لكن كلما تذكر فالمقصود بها الثلاثة .

- نص أخر لـ (سميث) عن تشومسكي ، يوضح فيه قدم فكرة الفطرة أو القدرة اللغوية الموروثة التي تكون مع أي طفل و أن هذا ما يفسر اكتساب الطفل اللسان دون القطة أو الحجر أو النبات ، و هذا كما قلنا من قبل و هو مختصر بكل هذه المعاني و أكثر بكثير في قوله تعالى (خلق الإنسان علمه البيان) ، ففكرة تشومسكي فكرة منطقية و عقلية أيضا مثل أدلة القدماء التي تعتمد على التأمل العقلي و المنطقي ، و لهم أيضا ما هو متصل بعلم اللسان أيضا و ما يتصل به من علوم أخرى قد يصيبوا فيها أو يخطئوا و هذا قانون جاري على كل من يشتغل بالعلوم المختلفة ، ثم يأتي بعد ذلك الاستعانة بالجديد من العلوم لكي يدلل على ذلك ، فيقول : "و هناك مظهران لما هو جديد [هنا]. أولهما أن فيها أنواعا جديدة من الأدلة على المواقف القديمة ؛ وثانيهما ، أن من الممكن الآن إثارة أسئلة كان من المستحيل في الماضي حتى صياغتها . و لا نملك الآن الإجابات عن هذه الأسئلة ، لكن قدرتنا على إثارتها دليل مثير بنفسه .
و يمكن أن نوضح أول هذين المظهرين بالإشارة إلى زعم اشتهر به تشومسكي منذ أمد طويل (أو اشتهر بالغلو في الإصرار عليه) ، و هو : أن جزءا كبيرا من معرفتنا باللغة محدد وراثيا ، أو هو فطري . و البرهان على أن هناك شيئا لغويا فطريا واضحا بنفسه يبينه أن الأطفال يكتسبون اللغة – أما القطط و العقارب و الأحجار فلا . و تتوجه أغلب أبحاث تشومسكي في الأربعين سنة الماضية إلى تبيين التفاصيل التقنية لما نعزوه بدقة إلى "الحالة الأولى" الملكة اللغوية البشرية من أجل تفسير تلك الحقيقة الأولية . و قد نتج عن التقدم في اللسانيات و التخصصات القريبة منها وضع أتاح الآن "إمكانا بعيدا" للمجيء بأدلة من علوم الدماغ و علوم الوراثة لتبيين الكيفية التي تحدث بها هذه الحتمية و من ثم إمكان توحيد هذا الجزء من اللسانيات مع العلوم الاخرى . و ليس هذا التوحيد مركزيا لأبحاث تشومسكي نفسه ، لكن درجة النضج و التعقيد التي تتصف بها اللسانيات التي اقترحها تجعل هذا مشروعا ممكنا ." [6]
- ثم يفصل سميث حل احجية تعدد الألسنة و الإختلافات التي بينها و كيف يكون ذلك فطريا ، و كيف يكتسبه الطفل رغم هذا التعقيد ؟ . فكان حل تشومسكي لهذه المعضلة عقليا منطقيا بأنه يجب أن يكون جزء كبير جدا من هذه الألسنة هو فطري موروث لكل طفل و هذا ما يبرر سهولة اكتسابه لسان أهله أيا كان في مراحل سنينه الأولى ، و هذا كلام يتضمن نفس الفكرة التي ذهبنا إليها و لكن بصيغة جديدة جريئة ، فأنا لم أتجرأ على قول انه يوجد جزء كبير متشابه بين الألسنة ، و لكن قلت أن هذا الجزء الكبير المتشابه هذا هو (اللغة) أي الفطرية اللغوية الخاصة بربط التصويتات العرفية الخاصة بكل لسان بالمعاني و المعقولات التي يبدأ معرفتها الطفل بواسطة هذه الفطرية ، أي أن اللغة عندي هي (العلاقة التي بين التصويتات و بين المدركات الحسية و العقلية) و لا بد من أن تكون هذه (اللغة) قادرة على استيعاب كل هذا المجال الصوتي البشري داخل نطاق مفهومها و هذا يرجع إلى أن اللغة واحدة و اللسان المنوط بها ابتداءا واحد كفطرة تتضمنهما ، و هما ما كانوا عليه آدم عليه السلام و هذا التعليم اللدني من الله له ، فكان يكفي آدم عليه السلام أن يرى الشيء فيستدعي اسمه مباشرة ، و كأن هناك علاقة حتمية تلقائية ما بين الشيء المدروك و ما بين أن يكون له اسمه المنوط به ، وهذه خاصة بآدم وحده لأن الله قال عنه (وعلم آدم) أما آدم و باقي الإنسان من لدن آدم عليه السلام فيقول الله سبحانه و تعالى عنه (علمه البيان) أي علمه البيان الذي بينه آدم من تعليم الله له بتنبيئه الأسماء كلها ، بأن يكون لكل شيء مدروك اسم عبارة عن صوتيات بشرية تخصه هو فقط و تميزه عن غيره فتجعل له ماهية و ذاتية بهذا الاسم ، و هذه العلاقة التي نقصدها تخرج للواقع بربط صوتيات لسان معين يتعلمه الطفل من أهله أو محيطه ، هذه الصوتيات اللسانية البشرية كلها لا تخرج عن مدى استشعار هذه الفطرة اللغوية و تفعيلها ، و هذا يمكن تفسيره بأن هذه الصوتيات مجموعة كلها مع بعض ترجع لصوتيات واحدة أصلية و من ثم تكون هذه التغييرات الصوتية التي ذهبت لكل لسان فميزته على حدة هي من أصول هذا اللسان الأول ، و أن هذه التحويرات شكلية عرضية فقط بالنسبة للفطرة اللغوية ، فما زالت مفهومة لها و قائمة بتفعيلها ، كتغير لون جلد الإنسان فإنه لا يخرجه عن كونه إنسانا و أن أصله واحد .
أو أن تكون هذه اللغة الفطرية كفيلة بأن ترتبط بأي تصويت بشري كان (أو ما ينوب عنه) بما في العقل و الذهن من مدلولات و معقولات بغض النظر عن السبب الذي يقف وراء هذه التباينات الصواتية ، هل كلها فطرية أو جزئها الأعظم أو ليس فيها شيء فطري .
و على ذلك "كانت إجابة تشومسكي أن أكثر معرفتنا باللغة فطرية إلى حد يفوق ما كان متوقعا من قبل ، فالواضح أنه لا يمكن أن تكون اللغات المعينة كالإنجليزية أو اليابانية فطرية – كما تشهد بذلك الاختلافات بينها تبعا لاختلاف البيئة – لكن اكتساب اللغة المألوف يحعل من الواضح بشكل مماثل أن كمَّا ضخما منها لا بد أن يكون فطريا ...إن خصائص اللغة الجوهرية كلها موجودة [في الدماغ] منذ البداية . و يعني هذا أن الطفل ليس بحاجة إلى أن يتعلم من العدم خصائص اللغة التي يتعرض لها ؛ فهو ، بدلا من ذلك ، ينتقي و حسب بعض الخيارات المحددة من مجموعة محددة بشكل مسبق . " [7]
و هذا الكلام هو نظرية التوقيف و لكن بشكل عصري و مفاهيم علمية عصرية ، و لكن في جوهرها هي نظرية التوقيف في نشأة اللغة ، لأن معنى أنها فطرية و موروثة لكل طفل في العالم و قابلية هذا الطفل على أن يتعلم أي لسان في العالم فلن يكون معنى هذا إلا التوقيف ، لأن أول إنسان وجد من أين له هذا ؟ إلا أن يكون مخلوقا بعناية ربانية مشتملا على هذه الفطرة و توريثها في النسل ، و من يكون هذا إلا أن يكون هو آدم عليه السلام .
و قد تنبه سميث أن هناك تداخل بين الوصف و التفسير لنفس الظاهرة الملحوظة :"و من اللافت للنظر أن هذا الحل للتجاذب بين الوصف و التفسير يعكس التطورات في العلوم الأخرى ."، و هذا يكون في الظواهر الغامضة التي يشوبها نوع من التمنطق و التعقل و مساندة لا بأس بها من روافد معرفية أخرى ، فتجد نفسك عند وصفها وصفا دقيقا كأنك تفسرها مالكا زمام أمرها فتعرف لماذا كان هذا و لماذا كانت تلك ، لأنك لاحظت ترابط وجودي بين الظاهرة و أخرى ، و بهذا لا يتمالك العقل على أن يعتبرهما معللة أحدهما بالأخرى ، و لا بد من ذلك ، و هذا في حقيقة الأمر قد لا يكون صحيحا لأنه من المحتمل جدا أن يكون لهما الإثنان علاقة بظاهرة أخرى غير ملحوظة في الوقت الراهن و تكون هي علتهما في الحقيقة ، أو علة لأحدهما و للأخرى بالتوسط ، ولظهور هذه الوسيطة على السطح يظن أنه هي العلة الأصلية و هي ليست كذلك بل لا تعدو أكثر من أختها التي ترابطت معها في هذه العلاقة ، و أسباب هذا قد تكون كثيرة و متنوعة على حسب الالمام و دقة المعايير و الأقيسة و الإحاطة بكل جوانب الظاهرتين ، و قد يكون لصعوبة بل إستحالة الإختبار و التجريب للبعد الزمني أو الإمكانية أو القدرة أو الأخلاق المهنية و الحقوقية .
فيكون البديل حالات فردية اضطرتها الظروف أن تمر بهذه التجربة عفويا ، فيستفاد من مثل هذه الحالات في الدراسة و التأمل ، كأن تكون مرضية أو بيئية أو ظروف قهرية .
و قد ضرب سميث مثلا يتشابه فيه الغرض من المثل مع فكرة تشومسكي عن اكتساب الطفل اللسان و هذا لأي طفل لأي لسان في العالم ، أن هذه الفكرة تشبه فكرة الاستدعاء نتيجة مثير ما ، و هذه الفكرة تقتضي وجود مسبق للمستدعى يكون فيه جاهزا لأن يستجيب في أي وقت تبعا للمؤثر الذي يتعرض له ، و لا يكون مخلق تبعا للموقف الذي تتطلبه ، كأن تكون مكوناته و طريقة عمله و من يعمله موجودون و لكن لم يسبق لهم عمل هذا ، بل في أي وقت استجابة للحالة التي تقتضي هذا يكون موجودا جاهزا لعمله لأنه قد سبق له العلم بهذا ، هذا العلم هو المقصود من الفطرة ، القوة الكامنة المستعدة لأن تتفعل في أي وقت طبقا لما تتطلبه كل المواقف و الحالات ، لأن هذه المواقف و الحالات مخزنة فيها من قبل بكيفية التعامل معها طبقا للقانون المتحكم في كل شيء ، فلا يخرج شيء عنه .
و من يمثل المواقف و الحالات هي الصوتيات اللسانية البشرية التي تخص لسان عن لسان ، و من يمثل المخزون المعرفي السابق أو الكامن بالقوة هو الفطرة اللغوية ، و هي قادرة على التعامل مع هذه الصوتيات اللسانية على تنوعها و اختلافها ، و هذا التسامح في الاختلاف الصواتي إزاء كل مدلول معين قد يكون راجع إلى الكفاية العرفية التي شغلت حيزها في الفطرة اللغوية فقضت ما عليها من حق بسدها فراغها البياني ، فتكون العرفية الإشارية للمدلول هي مفتاح التوصل للفطرة اللغوية و تفعيلها ، و هذا ما يؤكده لغة الصم و البكم ، ولغة التحسس كما حدث مع هيلين كلر و مع طرق برايل للمكفوفين .
و ما يؤكد فكرة المفتاح الذي تنفتح به اللغة هو أول مدلول كان لهيلين و الذي من خلاله عرفت العرفية الإشارية للمدلولات لأنه كان له موضع إشاري مدلولي لانها كانت تتذكر حروفه الصوتيه و إشارية ذلك على ماهيته المحسوسة ، و كان هذا هو (الماء) فمن خلال احساسها بالماء و معرفة أن له إشارة أخرى بالتحسس تدل عليه اصبح هذا هو المفتاح و من خلاله قاست هذه العرفية الإشارية على كل محسوساتها المحيطة بها ، فعلمت الأبجدية التي من خلالها تتكون الإشارات التي يدل كل واحد منها على معنى غير الاخر .

- ثم يصف سميث شروط النظرية الكاملة للغة على لسان تشومسكي " يجب على أي نظرية للغة ضرورة أن تقترح صلة بين الصوت و المعنى ، أي بين تمثيلات النطق و تمثيلات الخصائص المنطقية للكلمات و الجمل . و تبعا لهذا يجب على النحو – أي ’اللغة – د‘ أن يحدد مستويين من التمثيل ، يطلق عليهما "الصورة الصوتية" و "الصورة المنطقية" ، و أن يحدد الصلة بينهما . وينبغي – في الحالة المثالية – ألا يكون هناك مستويات أخرى و أن تكون تعقيدات هذه الصلة على حد أدنى ." [8]
=-------------------------------------------=
و كما هو محقق و دائما ما يظهر عجز الإنسان بل بالأحرى عقله أو ذهنه لأن يدرك صورة كاملة بمعرفة أشكالها و مكوناتها و عللها و تفسيراتها لما هو فطري ، له أن يدرك كما يشاء و لكن مشيئته محكومة بمشيئة أخرى ، يشعر بها و لا يدركها ، و تسول له نفسه أنه سيدركها يوما ما هو أو غيره ، فتنقضي حيوات الكثير من المفكرين و الفلاسفة و العلماء عاشوا و ماتوا و هم طامعين في ذلك ، فهو يكفيهم شرف المحاولة و العناء في سبيل ذلك ، أما بالنسبة للمسلم فهو يعترف بالخالق و يعتقد حقيقة كلامه ، و مأمور بتدبر ذلك و التفكر فيه ، و لكن النجاح الحقيقي يكون حليفه ، فهو قضى ما عليه من الإيمان و يحاول من خلاله أن يقف و يدرك من آيات الله ما قدره الله له و لغيره ، و ما يفعله هو في هذه المرحلة هو ما يفعله غيره تماما .
فيقول تشومسكي : "شهد النصف الثاني من القرن العشرين نشاطا بحثيا مكثفا ، كان أغلبه مثمرا جدا في دراسة الملكات المعرفية البشرية، من حيث طبيعتها و الطرق التي تدخل بها في الفعل و التأويل . و يتبنى هذا البحث عموما دعوى مفادها "أن الموضوعات الذهنية، بل الأذهان حقيقة، خصائص ناشئة للأدمغة"، مع إدراكه أن "هذه الخصائص الناشئة ... حصيلة لعمل بعض المبادئ التي تحكم التفاعلات بين الأحداث في المستويات الدنيا – و هي مبادئ لم نفهمها بعد" (Mountcastle 1998:1) . و تعبر كلمة "بعد" عن التفاؤل الذي ظل ، خطأ أم صوابا ، ملازما للبحث طوال هذه الفترة ." [9]
و خلاصة كلامه أن تصوراتنا و إدراكاتنا المتكونة من خلال الإنطباعات التي تحدث في الأعضاء الحاسة و تذهب للذهن محكومة بقانون واحد محكم تنتظم من خلاله كل الاحداث على وفق طبيعة معينة ، ما هو بالخارج و ما هو بالداخل و ماهية العلاقة بينهما ، فهذه هي المعاني الفطرية و العقلية ، و التي تمثل اللبنات الأولى التي يبنى منها بعد ذلك كل المعتقدات المتبناة و المفاهيم لأي إنسان .
و استشهاده بحقيقة أن التفسيرات المادية البحتة لا تبعث على الحقيقة و لا ترضي العقل بكفاية البيان الذي يطمئن إليه ، فذكر قولين لنيوتن و لوك مفادهما هو هذا المعنى ، ولكن زاد لوك التصريح بفعل الله في هذه الاحداث ، و أن هذا هو ما يعتبره بقوة في مجال بحثه عن اللغة ، ثم يردف أن أساس تصوره عن اللغة نابع من مسلمة ضمنية مستفادة من علمي النفس و الأحياء البشري عن الذهن/الدماغ عموما . و أنه تسوغ تسمية أحد الباحثين لهذا المجال العلمي بـ (اللسانيات الأحيائية) . و موضوعها المتعلق بالذهن/الدماغ يسمى (الحالات اللغوية) .
و يسعى للكشف عن طبيعة هذه الحالات و خصائصها و تطوراتها و أنواعها ، و الأسس التي تقوم عليها في الإعداد الفطري ، هذا الإعداد الفطري يحدد "ملكة لغوية" فريدة و خاصة بالنوع البشري و مشتركة فيما بينهم إلى حد بعيد مع بعض التنوعات العامة لها .
و يسعى البحث اللساني الاحيائي على تقريبها من البحوث الاخرى المتعلقة بالدماغ ليوضح أكثر العلاقة الكائنة ما بين الذهن و الدماغ في المستقبل . ولا يقتصر السعي على تطور و طبيعة الحالات اللغوية فقط بل و بكيفية دخول مثل هذه الحالات في استخدام اللغة كمبدأ نظري و كواقع ، و علاقات هذه الحالات بوسيط خارجي ما كإنتاج الكلام و إدراكه ، و طبعا الكلام هنا بإنتاجه و استقباله هو مظهر مادي يتوسط مجالين ، الأول التصور الذهني للمعقولات و الثاني الربط بين هذه التصورات و بين التصور الصوتي لها ، و الدور الذي يؤديه في التفكير و الكلام عن الخارج و الداخل و العلاقة بينهما .
الفصل الأول : آفاق جديدة في دراسة اللغة
يظهر أن تشومسكي يقر بنظرية التطور ؛ أو على الأقل حتى يتبين عكس ذلك ؛ يستشهد بها في معرض توصيف المغايرة ما بين البشر و الحشرات في اللغة ، و هو بهذا يغفل عن شيئين ، أحدهما أن هناك فرق بين اللغة و بين اللسان كمظهر خارجي مدروك للبشر فقد يكون للحشرات لغة راقية مثلنا تماما و لكن لا نقف نحن البشر على مظهرها النطقي بالنسبة لهم ، و أن ما لوحظ من مظاهر تواصلية (عن طريق الهرمونات أو الفيرمونات أو الإهتزازات أو غيرها) لا ينفي و لا يعارض أن يكون لهم لغة و لسان مثلنا ، و لكن مظهره الممثل لكل المعاني خاف عنا ، فيكون من باب عدم العلم بالشيء ليس علما بالعدم ، خاصة و نحن المسلمين عندنا سليمان عليه السلام الذي علمه الله منطق الطير و كل شيء ، فسمع كلام النملة و معاني كلامها و حسن فهمها و تقديرها للمواقف بما لا يدع مجالا للشك أن الحشرات لهم لغة و لسان و لكن نحن البشر العاديين لا نفقه كلامهم .
و ثانيا : أنه يغفل خلق آدم عليه السلام خلقا تاما كاملا و قد علمه الله الأسماء كلها ، و أن نسل كل البشرية من آدم و حواء ، و لا مجال لنظرية التطور هنا على الإطلاق ، وأن هذه المسلمة موجودة عند المسلمين و النصارى و اليهود ، و غيرهم .
أما ما يؤخذ من كلامه : "أن الملكة اللغوية البشرية ... لا يختلف البشر فيها إلا اختلافا ضئيلا " [10] ، و هو في نظرته التطورية ينتهي بالإنسان بما نبدأ نحن المسلمين و غيرنا به فلا ضير فيما يؤسسه على البشرية اليوم من اكتمال و رقي و تطور ، فنأخذه نحن في تصورنا على آدم عليه السلام و من بنيه حتى اليوم بما يوافق العقل الصريح و النقل الصحيح .
و يقول أيضا : "تقوم اللغة البشرية على خصيصة أولية ،...،فالأطفال لا يتعلمون هذه الخصيصة؛ أما إن لم تكن المبادئ الأساسية [لهذه الخصيصة] موجودة بشكل مسبق في الدماغ فلا يمكن لأي قدر من الأدلة أن يوفرها ... و يجب أن تكون مثل هذه المعرفة قد جاءت إلينا من "اليد الأصلية للطبيعة" ، كما تقول عبارة ديفيد هيوم (1975:108/1748 القسم 85) ، بصفتها جزءا من إعدادنا الأحيائي ." [11]
- و المقصود من "اللانهائية المتمايزة" للغة هي قدرتها على التوصيف اللانهائي لأي فكرة أو أي شعور , عن طريق رموز محددة قد تكون : صواتية أو رسومية أو حسية أو إشارية .
- و على نظرة تشومسكي للعوامل التي تتداخل في تشكيل اللغة فهي عديدة و قد نوه عليها بتسميتها المبادئ ، و هو يشبه هنا الملكة اللغوية كأنها عضو في اللغة ، إن خرجت عنه تغيرت الماهية اللغوية و لم تبقى لغة ، و لكن يعتبر هذه الملكة اللغوية نظام فرعي يُكَوِّن هو و غيره بنية كاملة أكثر تعقيدا ، و هو يأمل فهم هذه البنية المعقدة و مدى التعقيد لبقية أعضاؤها مع بعض و على حدة لكل منها ، و معرفة خصائص كل عضو من هذه الأعضاء التي بتعقيدها مع بعض تكون اللغة . و هو يبني فكرته التوريثية عن اللغة على تصور اللغة كعضو من الأعضاء بأنها يجب أن تكون هي أيضا تعبير عن المورثات كباقي الأعضاء و هذا كنتيجة مسلم لها ، أما كيفية حدوث ذلك فهو أمل بعيد للبحث العلمي .
و قد تكون نظرته للغة و العوامل المساعدة لها مشابه لنظرتي عن اللغة ، فاللغة عندى هي العلاقة التي بين التصور الذهني و بين التصويت عليه (أو ما يقوم مقامه) ، فهي على هذا مثل مفهومه هو بـ (الملكة اللغوية) ، و هي أيضا على هذا من ضمن فعاليات العقل لأنها تتوقف سلامتها و بيانها على سلامته و كفايته التصورية ، و في نفس الوقت هي ليست العقل ككل ، لأن التصور الذهني مستقل عن اللغة ، فهو يدرك الأشياء في ذواتها المحسوسة و ما ينبني عليها من علاقات قد تكون غير محسوسة و لكن تظل معقولة ذهنيا ، و بهذا تكون اللغة محل تأثير علتين مختلفتين أحدها صوتي مادي ، و الأخرى تصور ذهني ، و أنها عند تعللها بأحدها تظهر للثانية بعلة الثانية ، و عندما تعل بالثانية تظهر للأولى بعلة الأولى ، فهي تنفعل بالتصور الذهني فتعطي تصويتا ، و تنفعل بالتصويت فتعطي تصورا ذهنيا ، فهي تُمَثِّل الإثنين و تُمَثَّل بالإثنين .
و لصعوبة دراسة اللغة على طاولة المورثات و رؤية كيفية حدوث اللغة من المورثات عن طريق ترجمة هذه المورثات إلى أن تنتهي إلى الملكة اللغوية (الحالة الأولى من الدراسة لبنية اللغة) ، فكان الطريق البديل هو الحل المفروض ، فنلجأ إذا لإفتراض وجود الملكة اللغوية (الحالة الأولى) و التجربة معا لإنتاج اللسان ، فـ (الحالة الأولى) بمثابة اللاقط فيأخذ التصويتات العرفية اللسانية فيحيلها إلى تصورات ذهنية قابلة لأن تكون خرجا صواتيا مرة أخرى لهذه التصورات و أخرى جديدة أو حتى غير مسبوقة في هذا اللسان من قبل .
و يكون محل البحث و موضوعه هو الدخل و الخرج بتوسط الملكة اللغوية ، فعن طريق معرفة خصائص الألسنة الداخلة و التي أكتسبت عن طريق الوسيط ، يمكن معرفة بعض الخصائص و المميزات التي قد تكون لها علاقة مباشرة بهذه الملكة اللغوية (الوسيط) .
و بالإضافة لقولنا أن الملكة اللغوية و حالتها الأولى هي من المورثات البشرية المشتركة يمكن أن نضيف أنه لو نشأ أطفال أمريكان في اليابان لتحدثوا اليبانية كاليبانيين ، و بما أن العامل الثابت (المفترض) في التجربة هو الحالة الأولى ، إذن هناك صلة ما و دلالة من الحالة الأولى مع اليابانية و الحالة الأولى مع الإنجليزية أو غيرها من الألسنة ، لأن الألسنة في هذه الحالة تصبح لها صلة و تعلق دلالي على الحالة الأولى و مسلماتها .
و لنتخيل أن الملكة اللغوية كشيء عديم اللون يقبل التصبغ في وقت محدد له أول و آخر ، فإذا وضع مع الأصفر أخذ لون الأصفر ، و إذا كان أحمر أصبح أحمر و هكذا مع أي لون ، فبدراسة هذه الألوان يمكن الوقوف على شروط و ظروف التصبغ ، و على قانون التأثير و التأثر و العلية نستطيع الوقوف على هذه المادة التي تتقبل الصبغ بأي لون ، و يمكن القول أن جوهر هذه الألوان واحد و مظاهر الإختلاف اللونية هذه ليست عامل مؤثر في عملية التصبغ و انجاحها ، فبمعرفة مدى التشابه بين هذه الألوان نستطيع فهم طبيعة هذا الشيء ، و معرفة مدى الإختلاف أيضا تعرفنا طبيعة هذا الشيء .
- و ألاحظ أن تشومسكي محور اهتمامه في نظريته عن الحالة الأولى للملكة اللغوية يدور حول طبيعة و ماهية (الحالة الأولى) فقط ، و يجعل من تنوع الألسنة ركيزة للوصول إلى كنه الحالة الأولى ، فيأخذ تصوره عنها من الألسنة و خصائصها و مميزاتها و تشابهها و اختلافها ، و لا أعلم هذا إلا أن يكون على أساس فرضية ثبات ماهية و طبيعة العامل المشترك و هو الملكة اللغوية ، أم من أخذه تصوره عنها من خلال غيرها من الألسنة ، و كان من الممكن أن يكون محل الإهتمام هو الحالة الأولى للملكة اللغوية بأنها ذو قدرة لأن تتقبل كل هذه الألسنة ، فهي مثلا كالنار التي تذيب كل أنواع المعادن المختلفة ، فمن الممكن أن أبدأ من النار أو من المعادن ، أو أجعل النار هي المفسرة لما يحدث للمعادن من إذابة ، أو أن أجعل ذوبان المعادن هي المفسرة للنار من خصائص ، و على هذا من الممكن أن أبدأ من الملكة اللغوية لكي أفسر تعدد الألسنة ، أم أبدأ من تعدد الألسنة كي أفهم الملكة اللغوية . و بالمنطق يتم البدأ من المدروك و المتاح و الممكن أن نبحثه و ندرسه و هو بكل التأكيد اللغات .
و أداه قوله إلى نتيجة محتومة و هي أن الألسنة كلها متشابهه و أن ما يظهر من إختلافات هي هامشية و غير معنوية في إختلافها مقابل تماثل الملكة اللغوية الموحدة عند البشر ، و من الممكن عكس هذه المسلمة بقول أن الألسنة هي مختلفة فعلا و متباينة رغم التشابه فيما بينها من صفات ، و أن الملكة اللغوية هي التي لها قدرة الإستيعاب لهذه الإختلافات كلها ، و بهذا نثبت تماثلها بين البشر و في نفس الوقت نثبت إختلاف الألسنة و تباينها .
و بالتالي فكل ما يستند عليه من ملاحظات أو استنباطات يمكن تحويله على الملكة اللغوية كما يراها هو و في نفس الوقت هي صالحة تماما على ما نراه نحن ، فنحن نلتقي في صفة و خصيصة الواحدية البشرية لهذه الملكة ، و نفترق في تصور طبيعة هذه الملكة و ماهيتها ، فهو يراها شيء له قدرة ، و أنا أراها قدرة لشيء ، فهو يدرسها من حيث هي شيء له قدرة ، و أنا أدرسها من حيث هي قدرة منوطة بشيء ، فهو يسعى وراءها من خلال المادة المتمثلة في : المخ البشري و ما يتعلق به من دراسات ، و المادة الوراثية ، و روافد علمية أخرى ، كلها داخل الإطار المادي المشوب بالتطور و التدرج و الرقي ، فقدسية المنهج التجريبي متسلطة على روح العصر الراهن ، و هي بطاقة الدخول لعالم النظريات العلمية المعترف بها ، و هو على ذلك يلهث وراء اثبات ذلك من خلال أي علم تجريبي رغم أن أساس نظريته و مبدؤها عقلي بحت كما يفعل و فعل سلفاؤنا الأوائل من علمائنا و مفكرينا . و رغم مدى اللبس بين الوصف و التفسير لكثير من الظواهر التي تأتي أو تدخل في سير النظرية ، فدائما ما يجعلون وصف الظاهرة هو تفسيرها ، و شتان ما بين المفهومين ، فالوصف يعتمد على عوامل كثيرة و تداخلات فيما بينها على مستويات عديدة منها ما هو مدروك و منها ما لا يدرك في ظل الوسائل و المناهج و التصميمات التجاربية القائمة على تصور مبدئي يكون مفروضا و يقع تحت ظل التصديق به أو تكذيبه ، فخلاصة امر هذه المناهج و نتائجها هي قول وصفي لعاملين تم وصف مظاهرهما المعلولة بكل واحد منهما بالأخر ، فيقال : عند كذا يحدث كذا بنسبة كذا ، بغض النظر عن هذه الكيفية و عواملها الداخلة فيها التي وصفت وصفا دقيقا (على حسب المتاح و الممكن) فتتباين على حسب العلم المدروس فيه هذه الظاهرة و عواملها .
و هذا ما حدث مع تشومسكي فإنه تأمل و تدبر الواقع فوجد أن الطفل يكتسب لسان محيطه الإجتماعي بغض النظر عن لسان أهله ، و أن الألسنة كلها تتسم بالكفاية البيانية لأن تعبر عن أي معنى و تصور ذهني مهما كان ، و أن هذه المعاني و التصورات هي واحدة و بشرية محكومة بالعقل و الحواس و الكون ، و أنه يمكن نقل هذه المعاني من لسان لأخر ، فكل هذه أوصاف لظواهر مدروكة و واقعية قد تتفاوت في وضوحها من شخص لأخر و قد يتفاوت الاستدلال منها على شيء أخر ، فيصف هذا الواقع المحكوم بقانون لا يخرج عنه شيئا ، بصفات على حسب رؤيته و مدى ادراكه و المامه بكل الصفات الفرعية و المتداخلة الأخرى ، فقال : أن هناك شيء ما متحد بين البشر يؤهلهم لأن يكتسبوا أي لسان لأنه متحقق في كل الأجناس بما شهد به الواقع على ذلك ، بل من الممكن أن يكتسب الطفل حتى سبع ألسنة في نفس الوقت ، و هو يرى الإنسان من منظور مادي فهو عبارة عن مورثات عبرت عن نفسها من خلال الأحماض الأمينية فيكون بذلك هذه الملكة هي من إحدى تعبيرات هذه المورثات ، فإن وقفنا على هذه المورثات و عن كيفية تمثيلها لهذه الملكة نكون قد وقفنا على حقيقة هذه الملكة اللغوية ، و بما أن هذا الأمر صعب على الأقل الآن في ظل هذه العلوم فنتجه لبديل أخر و هو المخ ، فبمعرفة المخ و كيفية عمله و علاقة ذلك بقدرة اكتساب اللسان نكون وقفنا على حقيقة هذه الملكة اللغوية و لكن من منظور علم أو علوم أخرى فقد يكون علم النفس أو البيولوجي أو غيره من العلوم التي توقفنا على شيء يمكن قياسه و معايرته و بالتالي وصفه وصفا دقيقا و محكم كأنه هو .
فيتدرج التوصيف من العموم تجاه الخصوص ، فيقال : الإنسان محل اكتساب اللسان ، بل العقل هو محل اكتساب اللسان ، بل المخ هو محل اكتساب اللسان ، بل أحد نصفي المخ هو محل اكتساب اللسان ، بل فص من النصف هو محل اكتساب اللسان ، بل بقعة معينة هي محل اكتساب جزء من ماهية اللسان ، بل مساحة كذا هي المسؤلة ، بل حجم كذا هو المسؤل ، بل عدد خلايا كذا هو المسؤل ، بل شكل عدد الخلايا هو المسؤل ، بل نوعية خلايا كذا هي المسؤلة ، بل مكون كذا في خلية كذا هو المسؤل ، ...الخ . و ما زال وصفا ، و ما زال محكوم بنفس القانون و لا يخرج شيئا عنه .
و بعد معرفة أن المخ يتعامل بالنبضات الكهربية في استقباله و ارساله المعلومات كإدراكات و ردود أفعال و سلوكيات ، فعند تعويض الأعمى بنظارة تدرك الأبعاد للمحسوسات الخارجية فتحولها إلى نبضات كهربية و ترسلها إلى المخ بقدر و نوعية مفهومة له على أنها نبضات آتية من العين ، فيدرك المخ هذه النبضات على أنها صور لمحسوسات خارجية تتغير أبعادها بحركة المريض تجاهها و بالبعد عنها ، و تمثل أحجامها بأحجام مماثلة للإدراكات لمن هو طبيعي ، و لكن ليست بكل صفاتها المدروكة بالنسبة للطبيعي ، فكل هذه العملية و ما يماثلها هي تطبيق عملي بحتمية القانون الذي لا يخرج عنه شيئا ، فهذه محاكاة لما هو طبيعي و تقليد مع الفارق ، و هذا بعد معرفة طبيعة لغة المخ و أنها نبضات كهربية ، فما هو المنتظر إذن من معرفة الملكة اللغوية و معرفة حقيقتها ؟ فمع كل مستوى من هذه المعرفة سيكون محكوم بهذا القانون الذي لا يخرج عنه شيئا ، و سيكون حل المشاكل هو عبارة عن تقليد و محاكاة لكي يلتئم و يتوافق مع الطبيعة ، الطبيعة فقط كما هي محكومة بالقانون .
فنتيجة كل العلوم هي وصف للحقيقة العظمى فقط ، و الوصف مرادف في معناه من الإدراك ، و الإدراك متوقف على روافد المعرفة التي هي نتيجة مدخلات الأحاسيس على انواعها ، و المسؤل عن هذه النتيجة هو العقل بعد أن يأخذها من المخ كتصور للواقع المدرك من واقع الاحاسيس التي تبلغه بما أدركته ، و كل هذه الإجراءات محكومة بالقانون العام فهو الذي يتحكم بطبيعة العضو الحساس و بكيفة احساسه و بطبيعة و كيفية ترجمة هذا الاحساس ، و بنقله للمخ و بكيفية فهم المخ لهذه المعلومات ، و كيفية بناء تصور كامل كاف في البيان من هذه المعلومات فيضع لبنة في البناء لتصور حجمه في هذا الكون و وظيفته في هذا الكون و غرض كل ذلك و من وراءه ، و هنا يضع هذه النتيجة إما لله و إما لغيره ، و لكن لا بد من أن يعقلها بشيء قد أدركه أنه أكبر منه و أعظم قوة و أنه يجرى على قانونه هو و من حوله في هذا الكون .

و اختلاف الألسنة لدرجة عدم التواصل فيما بين أهلها نقض للغرض منها بالنسبة لعموم البشر أما على أفرادهم فكل لسان كاف أهله في تمام البيان و الكفاية الدلالية ، فلو اجتمع عشرة أشخاص بعشرة ألسنة فلن يفهموا بعض و لن يحققوا التواصل فيما بينهم و هذا ما نقصده من النقض للغرض فهذا النقض لا يمكن تصوره لنفس اللسان مع أهله و لكن يمكن تصوره للسان مع غير أهله ، فكيف نستسيغ ذلك مع قولنا بوحدة الملكة اللغوية البشرية ، فالقول بأن هذه الإختلافات هامشية قول مناقض للحقيقة الواقعة ، فكيف نثبت الشيء بنفيه ، فنقول غرض اللسان التواصل بين البشر ، و نجد أن البشر لا يتواصلون بلسان واحد ، فيكون تعريف اللسان العام هو التصويت البشري المحدود العدد و الكيفية ، و نلاحظ أنه هو ماهية اللسان بصفة عامة الذي يتحقق في كل لسان بشري و لا يخلو منه لسان بشري ، و لكن ليس له واقع فلا يوجد مثل هذا اللسان في الوجود لكي يحقق التواصل من خلاله ، فيكون تحقق الماهية اللسانية التواصلية هو في الإختلاف و ليس في التماثل ، لأن القدر المختلف فيه هو الذي يحقق التواصل بين أهله و بين غيرهم بوسيط لساني آخر ، و لكنه أيضا لا يوجد في الوجود فضلا على أن يحقق تواصل من خلاله .
فعلى مصطلح المناطقة يكون هناك جنس و أنواع ، فالجنس هو التصويتات البشرية اللسانية المحددة العدد و الكيفية ، و الأنواع هي اللسان العربي و الصيني و الإنجليزي ... الخ . و على هذا يجب صرف الاهمية لمناط الإختلاف و ليس المشابهة ، لأن الواقع مع المخالفة فيمكن القول أن حقيقة الملكة اللغوية هي في الإختلاف اللساني ، فهل من الممكن القول أن الجزء المتماثل هو الموروث أم الجزء المختلف ؟ و ما هو الفاصل ما بين المادة و اللامادة ؟ فإذا قلنا أنها قدرة ثم بعد ذلك قد تكون ممثلة بجزء من المخ أو كيفية معينة ، فهل هذا هو الفاصل بين المادة (جزء من المخ) و اللامادة (كيفية معينة في المخ) ؟ و هل كل محمول على مادة هو مادة ؟ أم أن المادة كل ما يدرك بالأعضاء الحاسة مباشرة ؟
فهل وزن الحبر الذي في القلم مع وزن الأوراق البيضاء هو نفس الوزن في حالة بعثرته على الورق على شكل كتابة مفيدة ، مع اهمال البخر الرطوبي من الحبر ، بالتأكيد سيكون نفس الوزن متماثل و نفس حجم الورق و نفس المساحة ، هذا من ناحية الوزن و المادة أما من ناحية الكيفية سيكون هناك إختلاف كبير بينهما ، فهل رسم هذه الحروف المتشابكة و ما تحمله من معنى هو من المادة أم لا ؟
فمجموع صوتيات كل لسان قد حققت ماهية اللسان في الكفاية البيانية ، فصوتيات لسان ما قد حققت ماهية اللسان في الكفاية البيانية ، و صوتيات لسان أخر قد حققت ماهية اللسان في الكفاية البيانية ، و محل هذه الألسنة هو الأطفال أو الكبار بلسان واحد أو عدة ألسنة ، و لا يتصور في مثل هؤلاء عدم التواصل إلا فيمن قد اكتسب لسان ما مخالف للأخر ، أي أن فكرة عدم التواصل لا تتحقق إلا في ذوي الألسنة المختلفة ، أو حتى أثناء اكتسابها ما دام الموضوع المطروح للتواصل داخل هذا النطاق اللساني و مضطر لاستخدامه فمثلا لو طفل انجليزي لم يكتمل لسانه بعد و لكن أدرك كلمة ماء بلسانه و طلب الماء بلسانه من طفل عربي عرف الماء بلسانه ، فلن يفهمه و لن يستجيب له و على هذا القدر فقس ، فأكيد ماهية الملكة اللغوية أكبر من قدراتنا العقلية و التصورية لأن تستوعب أن يكون لنفس الشيء صوتيات عديدة متباينة ، كلها تؤدي نفس الدور الدلالي على هذا الشيء ، فتماثل القدرة اللغوية و تعين الشيء ما يجعلا التصور عسير ، فهذا يجعل اللسان أبعد ما يكون من المجال الحسي المادي ، فالماء ماهيته واحدة في كل بقاع الأرض و لكل البشر على الأرض ، و شعورنا به واحد فكلنا نشعر بسيولته و عدم لونه و عدم طعمه و عدم رائحته ، فهذا ما يخص الحس المباشر و تصوره في الذهن و لا خلاف عليه بين بشريين ، و مع ذلك يتعدد الاسم و يختلف بتعدد و اختلاف الألسنة الموجودة ، و هذا ما يبعدها عن الحس المباشر و تعقل الأشياء المسماه و أن يكون الإسم مناسب لطبيعة المسمى .
و لأن تصور هذه المسألة خارج نطاق الحس المباشر و التعقل المنطقي فهو ما يجعلنا نضعها في الهامش و العرضيات الغير معنوية ، لأن عقلنا الإدراكي لا يقبل أو بالأحرى لا ينفعل إلا بما يلائم قدرته أما ما يخرج عن ذلك يشعر به فقط دون التحقق منه ، فلو قلنا أن المخ هو الذي يربط و يركب و يرتب و يشكل لكي تتضح الصورة أو البناء الكاف لأن يكون ذات أو ماهية معنوية مستقلة الدلالة ، فإن كان هو من يفعل ذلك فمن إذن الذي يرى ذلك أو يدرك ذلك أو يحكم على ذلك ؟ لا بد أن تكون ماهيته مغايرة لماهية المخ بل أعلى مرتبة منه فهي التي تقيم أعماله .
و لكن جرأة تشومسكي جعلته يضع شروطا للنظرية اللغوية لكي تكون صحيحة ، فيجب توفر الكفاية الوصفية و التفسيرية ، و الوصفية أن تصف بكل دقة خصائص اللسان كما يعرفه متحدثيه ، و التفسيرية أن توضح مدى القرب و الإختلاف من الحالة الأولى و كيفية تفسير ذلك ، و هما في حقيقة الأمر شرطان متعارضان ، لأن أحدهما يعزز فكرة التفرد كلما وضعت القواعد و اعتبرت فيها الخصائص اللسانية لأنها تختلف و تتباين جدا من لسان لأخر ، و الأخر يحاول أن يلغي هذه الفكرة في إتجاه أن هناك قدر كبير مشترك و أن الإختلافات هامشية و غير معنوية ، و قد بلور فكرة الحالة الأولى بتصوير القدر المشترك (مبادئ اللغة) و ما زاد عليه و يخالف به الأخرون (المفاتيح) ، و أن هذه الإختلافات تمثل الشفرة التي إذا ركبت بطريقة معينة ينفتح طريق إلى لسان ما معين ، و أن كل رقم في هذه الشفرة يعطي لسان معين ، و أن كل لسان يعطي رقم معين فعن طريق اللسان نعرف الرقم ، و عن طريق الرقم نعرف اللسان ، و من يمثل هذه الأرقام الشفرية هو معلومات محدودة جدا يكتسبها الطفل من محيطه في مقتبل اكتسابه للسان فهي التي تحدد و تعين هذا اللسان عن غيره ، و لكن هل هذه الأرقام الشفرية هي مقاطع صوتية و كم عددها و ما هي طريقة تركيبها و ترتيبها ؟ هل من الممكن أن تكون : جوعان و ماء و طعام و حبيبي و نام و تعال ....الخ ، و هي الكلمات التي تتكرر كثيرا و توجه بالخطاب و التواصل مع الطفل في مقتبل عمره ، فقد تكون هي المفاتيح الأولى للدخول على لسان معين يكون من نفس نوعية مفاتيحة و يستمر على هذا الإكتساب حتى تتحقق الكفاية البيانية من هذا اللسان .
و أن أي تغير و لو كان بسيطا في وضعية هذه المفاتيح يعطي نتائج كبيرة جدا و مختلفة جدا لأنها تتضاعف على عدة مستويات حتى تظهر في صورتها النهائية ، و لكنها ليست عشوائية فكل هذا محدد مسبقا و يجري على وفق القوانين التي تحدد المسارات . و يعتبر تشومسكي أن اللسان نفسه (مسار التجربة) هو المفتاح الذي يؤدي على مبادئ اللغة و هي الحالة الأولى للملكة اللغوية ، و أن وضعية هذه المفاتيح تتحدد بناءا على المعلومات الضئيلة التي يتعرض لها الطفل في مساره مع التجربة .
"و المهمة الرئيسة ، ضمن هذا البرنامج للبحث ، أن نكتشف المبادئ و الوسائط و الطريقة التي تتفاعل بها و نوضحها . ص 93" . و المبادئ هي الأصول الكبار (اللغة) و هي التي تتحقق في كل لسان (وسيط) و تعطيه ماهيته و كفايته البيانية و تجعله في وضعية تلائم التعامل مع هذه المبادئ (اللغة) مع الرغم من مدى الإختلافات فيما بين هذه الوسائط (الألسنة) و لكن في نفس الوقت تؤدي الغرض منها في نجاح التواصل مع المبادئ .
و بما أن الملكة اللغوية لا تستقل بالكيان اللغوي جميعه فهي تتعاون و بشروط معينة مع أداءات ذهنية و عقلية أخرى يجب أن تتلائم مع بعضها البعض في حركية العمل المنجز في النهاية و يجب أن يكون بينهم خيط مشترك يجمعهم على نسق معين من خلاله يتحقق الغرض الأساسي من الكفاية البيانية انتاجا و استهلاكا ، فالصوتيات اللسانية المسموعة و المنتجة تتكون عن طريق تعاون عصبي و عضلي و مخي ؛ بمواصفات و حدود معينة للصوت اللساني و للأعضاء أيضا ، فلا بد من تفاهم متبادل فيما بينهم و بين اللغة و الفكر ، فتعبيرات اللغة هي تعليمات للفكر و الفعل ، و هذه المنظومة هلي التي تحدد الصورة الصوتية الملائمة و التصورية المرتبطة بها ارسالا و استقبالا و كل ما يتعلق بالملكة اللغوية ، و هذا الترابط هو تمثيل دلالي لتركيب لفظي لساني محكوم بالمنظومة كلها . و لولا التماثل في هذه الإجراءات إنجازا و إنتاجا ، و في هذه الأعضاء بين البشر لعُدم و استحال التواصل أبدا بينهم .
و كل هذا التصور و بمجمل تفاصيله لا يعدو أكثر من عصرنة نظرية القدماء فقط ، فهم قد أدركوا و بقوة مدى التلائم التشريحي لجهاز النطق و مكوناته من اعصاب و عضلات و عظام ، و كذلك عضو السمع ، و ربط كل هذا بالدماغ و تحديدا بالمخ ، بل قد تجاوز الأمر لتشريح المخ و تعيين بعض المناطق فيه لبعض الوظائف اللغوية و الفكرية و غيرها ، و تناول الأمر للصوتيات نفسها ، فقد وقفوا على كل حرف أين مخرجه و ما هي صفته و خصائصه منفردا و مركبا مع غيره ، و علاقة كل هذا مع الفكر و الذهن و التصور ، و من قوة تصورهم لهذه المسألة و ادراك تفاصيلها ، اعتبروا أن الحروف الصوتية اللسانية يقابلها في التمثيل حروف الفكر ، فجعلوا حروف النطق نوعان : حروف المنطق العقلي و حروف المنطق اللغوي ، و هذا ربط مباشر و تمثيل حقيقي لمدى وعيهم بتمثيل الفكر بحروف صوتية لسانية عن طريق أعضاء خاصة يتحكم فيها الدماغ ، و أن هذه العملية البيانية متحققة لكل لسان في كل أمة على وجه الأرض ، و أن المعاني التصورية أو المعقولات الذهنية هي واحدة في كل البشر ، و أن تمثيلها في الخارج عن طريق صوتيات بشرية عرفية هو معنى متوفر لكل الألسنة التي على الأرض ، و أن كل هذه الألسنة تحقق الكفاية البيانية عن طريق عرفية نظامها الصوتي و الكتابي ، فنجد شبه تماثل في الناحية الوصفية لظاهرة اللغة البشرية ، أما من الناحية التفسيرية لإختلاف الألسنة رغم واحدية المعاني و التصورات فهو مفترق الطرق ، فتفسيراتهم متفاوتة تجنح إلى الخيال أحيانا و الخرافات أحيانا ، و في أحيان قليلة تكون على نفس النهج تقريبا في التناول ، فهي تميل إلى أن الإستعداد اللغوي و اللساني فطري ، و منشأ الإختلافات يعود إما إلى تراكم التغييرات عن اللسان الأم ، أو توقيف هذه الألسنة على أهلها ، أو الاصطلاح على جزء منها .
و أن هذه الألسنة كلها تتفق على أصول و مبادئ في تقسيمها للكلمات و الضمائر و التذكير و التأنيث ، و الأعداد .... الخ .
- مقولة تقليدية ( للغة صوتا و دلالة) سيتم تفصيلها على النهج الحديث :-
"الملكة اللغوية تلتقي بالأنظمة الأخرى للذهن/الدماغ عند مستويين وجيهيين يتصل أحدهما بالصوت و الآخر بالدلالة . فيحوي أي تعبير ولَّدته اللغة : تمثيلا صوتيا يمكن أن تقرأه الأنظمة العصبية الحركية ، و تمثيلا دلاليا يمكن أن يقرأه النظام التصوري و الأنظمة الأخرى للفكر و الفعل ." ص 95 .
و هو يفترض ثلاث مراحل في العملية الصوتية الدلالية ، فالأولى تبدأ بالشعور الصوتي اللساني و عملية إدراكه على انه صوت مقصود به معنى محدد في عملية التواصل و لكن لم يقف عليه بعد فهي مرحلة إدراك تعارفي صوتي لساني كأن يقال أنه يشبه الكلام و لكن لم أتبين معناه بعد ، و عليه فهي أقرب ما يكون من ادراك التمثيل الصوتي قبل مرحلة تحويله لصورة مفهومة من الملكة اللغوية ، فيمكن أن نعتبر هذا الصوت اللساني هو أولى مراحل تكوين الدلالة السياقية أو الجملية ، و الثانية هي مرحلة الإدراك المعنوي للصوت اللساني كمفردة واحدة لها كيان مستقل في الدلالة على مدلولها ، فيكون المفردة المعجمية أي المعنى المنزوع من السياق في جمل سابقة تم ادراك معناها السياقي الخاص بها ، فهو يتردد بين معاني متشابهه في قدر كبير يكون هو المقصود غالبا من استعمال هذه المفردة ، إلا أن يكون لها معنى أخر في سياق أخر ، و المهم أن هذه المرحلة يقف على معنى و مدلول كل مفردة مستقلة عن الاخرى ، المرحلة الثالثة و هي التركيب بين هذه المفردات لتكون تصور و معنى كامل على وفق قواعد النحو اللساني الخاص بهذا اللسان .
و يكون بهذا هناك عمليتين يقوم بهما هذا النظام الحوسبي و هو يولد التعبيرات و الجمل : الأولى أنه يجمع السمات و الخصائص في وحدات معجمية ، و الثانية تركيب هذه الوحدات .
››››› أين موقع العلامة الإعرابية في نظر تشومسكي من اللغة ؟
تقع العلامة الإعرابية في نظر تشومسكي في خصائص الصوت و المعنى و التي تسمى بـ (السمات) و يتم تجميع هذه الخصائص في وحدات تسمى الوحدات المعجمية ، هذين العنصرين من عناصر اللغة الثلاثة عند تشومسكي يصفها بأنها العملية الأولى من النظام الحوسبي الذي يولَّد التعبيرات و هي العملية التي تجمع فيها السمات في وحدات معجمية ، و هذه العملية عبارة عن قائمة بالوحدات المعجمية في حقيقة الأمر ، و تحتوي هذه القائمة (المعجم) على : المصطلحات التقليدية ، "الاستثناءات" أي الارتباطات الاعتباطية بين الصوت و المعنى ، و الاختيارات المعينة للخصائص التصريفية التي توفرها الملكة اللغوية و التي تحدد كيفية التعبير عن الأسماء و الأفعال بالافراد و الجمع ، و أن الأسماء يمكن أن تكون مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة ....الخ . و من الواضح أن هذه السمات التصريفية تؤدي دورا رئيسا في الحوسبة .
و يظهر بذلك أن نظرة تشومسكي عن العلامة الإعرابية تخالف نظرة العرب عنها ، فهي عندنا تظهر عند التركيب فقط ، أي أنها بهذا تقع في العنصر الثالث من اللغة عنده ، و في العملية الثانية من نظام الحوسبة الخاصة بتركيب هذه الوحدات المعجمية بما تشتمل عليه من (إعراب و صرف) لكي يكون في النهاية التراكيب المعقدة للتعبيرات المولدة ، فمعاني الإعراب في النحو العربي منوطة بالموقع الإعرابي في التركيب التعبيري (الجملة) و تكون لها علاقة مباشرة بالمعنى المتولد من اسناد الفعل للفاعل و علاقة الفاعل بالمفعول و المفاعيل الأخرى ، و هي معاني لا تتكون في المفردة المعجمية و لا تتدرك في المفردة المعجمية على انفرادها إلا بتركيب و معنى مركب يتضمن إخبار بين مسند و مسند إليه ، أو مفعولية و فاعلية ، و هذه المعاني عند تشومسكي لا تكون إلا في العنصر اللغوي الخاص بالتركيب ، وفي العملية الثانية من عمليتي الحوسبة الخاصة بالتعبير المولد من التراكيب المكونة من الوحدات المعجمية .
و لكن نظرة تشومسكي أقرب إلى المعاني الواقعية و المنطقية المتولدة من التراكيب لأنها معاني تتولد من المفردة المعجمية و الصيغة الصرفية هذا أولا و بتجاورها مع غيرها تتولد دلالة من تصور العلاقة بين مكونات الجملة ، فالفعل يتضمن فاعل و مفعول ، و نوعية الفعل تحدد الفاعل و أيضا تحدد المفعول و هكذا باقي أجزاء الجملة ، فلو كان هناك اسمين ركبوا مع بعض بتركيب معين ينتج منهم دلالة تتضح من خلال معاني كل منهم على حدة ، و العلاقة التي بينهم هي علاقة ذهنية عقلية و لا تكون غير ذلك ، لأن التركيب لو أدى لغير ذلك لحكمنا عليه بالخطأ ، لأن عملية البيان اللغوي لا تتوقف فقط على الملكة اللغوية لأنه يشترك معها وظائف ذهنية و عقلية و حسية أخرى . و بما أن الملكة اللغوية و الإدراك الحسي البشري و ثبات المظاهر الوجودية في الخارج الذهني كلها متوحدة في البشر ، و على هذا لا يبقى إلا مجرد اشارية لسانية تقع على معهود التخاطب فلا يبقى لها من الاحتمالات إلا أن تصيب المعنى عند المتلقي بكل يسر و سهولة ، ولو كان هناك لبس فيمكن ازالته بكل سهولة بالقرائن الأخرى من السياق و الحال و المقال ...الخ .
و نحن مع تشومسكي في وضع المعنى المظنون بالعلامة الإعرابية و ما يؤديه الموقع الإعرابي ضمن السمات و الخصائص الدلالية القائمة في المفردة المعجمية أو صيغتها الصرفية لأن المعنى المعجمي و الصيغة الصرفية كفيلتان لأن تصور المعنى الكفائي المتعلق بالذوات التي يدور عليها كل المعاني و التصورات ، و لا يبقى إلا تعيين الصفة بالموصوف (بالمعنى العام و ليس الاصطلاحي) و هذا المعنى أي التعيين لا يقوم عليه معنى أخر نخصه بعلامة أو لفظ يتولد من التركيب من خلال الفطرة العقلية اللغوية و أعوانها من وظائف ذهنية أخرى ، لأن تصويت المتكلم موازي مع التصوير الذهني للفكرة ، و التصوير الذهني من خصائص العقل التي تأتي من الروافد المعرفية الأخرى .
فمثلا (أحمد يأكل التفاحة الحمراء) فتصور الذات البشرية التي يجوز عليها أفعال معينة و صفات معينة تصلح للإخبار بها أو السؤال عنها يدرك مباشرة من المفردة (أحمد) ، و استقلالا ندرك من المفردة (يأكل) بغض النظر عن تعلقها بذات ندرك منها أنها فعل يقع من ذوات معينة له علاقة بمجرى الزمن يتضمن فاعل له و مفعول له ، و كذلك (التفاحة) فهي ذات بمواصفات مدروكة مسبقا ، و أما (الحمراء) فهي صفة تتعلق بالذوات قد تكون عرضية أو ذاتية ، فنحن خصصنا من ضمن الأفعال التي تتعلق بذات أحمد نوع واحد منها هو الأكل ، و تم توصيف الفعل على أنه يجري الأن في لحظة التكلم ، و أن فعل الأكل لا يكون إلا بذات يقع عليها الفعل فتكون هي المفعول به الأكل ، و قد خصصنا من ضمن المأكولات الجائزة للذات البشرية مأكول واحد و هو التفاحة ، و الذات المأكولة يتعلق بها صفات كثيرة خصصنا منها صفة واحدة و هي الإحمرار . فهذه المعاني المفردة قد ساهمت بمعظم الصورة البيانية الفعلية و المقصودة قصدا من تكوين هذه الجملة سواء من معنى معجمي أو صيغة صرفية ، أو تصور ذهني و عقلي ، و لم يبقى من هذا المعنى المقصود لكي تكتمل الصورة البيانية إلا (التعيين) أي تعيين (أحمد) بـ (أكله الجاري) لـ (تفاحة) متصفة بـ (الحمرة) ، فهذا التعيين الخاص بأحمد بكل ما سبق لا يمثل في الكلام بعلامة أو صيغة أو معنى زائد عن المفهوم من المعاني السابقة ، و على هذا فكل المعاني المتولدة من المعاني المفردة للكلمات و صيغها الصرفية التي تساهم في المعنى و هي على مستوى المفردة أيضا ، قد أوضحت المعنى المقصود من الكلام و أما تعيين أحمد بهذا فإنه هو المقصود من وراء الكلام و ليس هو المقصود من الكلام ، لأن المقصود من الكلام قد كفى مؤنته الصيغ و المعنى المعجمي ، أما ما وراء الكلام فهو المقصود من التعيين ، و هذا لأن أحمد بعينه الذي يأكل التفاحة الحمراء ليس له علامة رفع لأنه أحمد ، و التفاحة ليست لها علامة نصب لأنها تفاحة معينة تعلقت بأحمد في أكلها ، و لكن الظن بالعلامات الإعرابية أنها تؤدي المعنى الذي يؤديه في الحقيقة المعنى المعجمي و الصرفي و التعيين ، و كلها معاني تأتي من وراء الكلام (من غير تركيب) و ليس من الكلام (التركيب) .
أي أن التركيب السابق ليس لإعلام المستمع أن الذات البشرية تأكل ، و أن من المأكولات تكون التفاحة ، و أن التفاحة قد تكون حمراء اللون ، و لكن القصد من التركيب هو (التعيين) أي الإخبار بمعلومة هدفها هو متعلقها البشري (أحمد كفاعل – أو يأكل كفعل) أو متعلقها غير البشري (التفاحة) حسب القصد ، و لكن هو في نهاية الأمر للإخبار بما هو معقول و مركوز في النفس و العقل و متمشي مع اللغة و اللسان ، فالعلامة الإعرابية على ذلك من باب تحصيل الحاصل و لا معنى من وجودها في تحديد الدلالة لأنها محددة مسبقا و مكتفية في دلالتها من غيرها فلا تتوقف عليها ، هذا من ناحية تلازمها مع هذه المعاني بإستمرار وجودا و عدما فلا تتخلف عنها أبدا ، أما من ناحية أخرى و هي انها غير لزومية و قد تتغير أو تغيب أو تبدل مع غيرها ، و قد يتحقق معناها و لا تظهر و قد يغيب معناها و تظهر ، و هذا أجدر بأن يعتبر في عدمية معنويتها و أنها غير معلولة أو معلولة بعلة لم يقف أحد عليها و على قانونها إن كان يوجد لها قانون .
و قول تشومسكي عن هذا التركيب الذي نقصده : " العلاقات الأولية بين موضوعين تركيبيين يوصل أحدهما بالآخر في أثناء الحوسبة ؛ فالعلاقة التي تقوم بين أحد هذين الموضوعين و بعض أجزاء الموضوع الآخر هي علاقة التحكٌّم المكوِّني ؛ كما أشار صامويل إيبستين (1999) فهذه فكرة تؤدي دورا رئيسا عبر تصميم اللغة كله ."[12]
فعلاقة التحكم المكوِّني (الذي يظهر في صورة التركيب) هي فكرة اللغة الرئيسة التطبيقية ، ولذلك أشار إليها بكلمة "تصميم اللغة" ليدل على الناحية التنظرية ؛ و هو يأتي من روافد متنوعة منها الذهني و منها اللغوي و منها التصويت اللساني ، تشترك في صياغة القانون الذي يحكم التركيب أو التوليد الحوسبي ، و لكن محركه الأساسي هو الذهن و التصور و الذي لا يخالف الواقع و الحس و ما بني عليهما من معقولات و مفاهيم ، و هذا هو معنى الفطرية ، أن الكل يجري على نسق واحد موزون ، الإنسان يستخدمه و لا يفعله .
- "أحد المعايير التي تختلف فيها اللغات بعضها عن بعض اختياراتها من الأصوات ، و هي التي تتنوع تنوعا محدودا ."[13] أي أن مجموع الأصوات البشرية اللسانية كلها محدود و تفاضل كل لسان عن الأخر يكون محدودا أيضا . ثم يقول مردفا على ما سبق : "و المعيار الثاني أنها تختلف من حيث الارتباط بين الصوت و المعنى ، و هو ارتباط اعتباطي أساسا ." و كأنه يرد قول القدماء في تناسب الاسم مع المسمى ، و أن الاسم يحاكي طبيعة المسمى و لكن بالأصوات .
- و هناك نص أخر يقول فيه تشومسكي أن أنظمة الإعراب تابعة للأنظمة الصرفية كما سبق و أوضح ذلك في عناصر اللغة و الحوسبة التوليدية : "اختلاف اللغات في الأنظمة الصرفية : كاختلافها في أنظمة الإعراب ، مثلا . فهذه الأنظمة غنية جدا في اللاتينية ، و أغنى من ذلك في السنسكريتية أو الفنلندية ، لكنها محدودة في الإنجليزية و خفية في الصينية . أو هكذا تبدو ."[14]
ثم يوضح بعد ذلك أن هناك صورة أخرى للأنظمة الإعرابية قد تكون مختلفة صوتيا من لسان عن أخر و لكنها على أي حال موجودة بصورة مختزلة ، و أنا أرى أن نظامنا الإعرابي هو من هذه النوعية التي تكون مختزلة في تضامين المعاني الدلالية المستفادة من المعاني المفردة و تعلقها ببعض من خلال التحكم التركيبي و الذي يسانده روافد أخرى متنوعة في تحديد المعنى و تصويره لكي يكون بعيدا عن اللبس ، و أن معنى و دلالة نظامنا الإعرابي قد نيطت ظنا بالحركات المدية القصيرة و لبعض العلامات التي تظهر تغييرا في حرف بزيادة أو نقص ، و أن هذه الحركات و العلامات لها معنى أخر بعيدا جدا عن الدلالة اللسانية و البيانية قد تكون صوتية كما نبه على ذلك قطرب ، فيقول تشومسكي :-
"و توحي اعتبارات الكفاية التفسيرية أن المظهر ربما يكون مضللا هنا كذلك ، بل تشير الأبحاث التي أنجزت في الماضي القريب (تشومسكي 1995ج؛ 1988) إلى أن هذه الأنظمة تتنوع بقدر أقل مما يوحي به الوضع الذي يبدو من الصيغ السطحية . فمن المحتمل مثلا أن يكون نظام الحالة الإعرابية في الصينية و الإنجليزية هو نفسه الذي في اللاتينية ، لكن تحققه الصوتي مختلف . كما يبدو ، زيادة على ذلك ، أن من الممكن اختزال أكثر مظاهر التنوع إلى خصائص الأنظمة التصريفية . وإذا كان هذا الأمر صحيحا فتنوع اللغات موجود ، إذن ، في جزء ضيق من المعجم ."[15]
و بعد أن اناح كل ما ليس له دور في خلق الإختلافات بين الألسنة أو كان دوره محدودا ؛ أو ما يمكن اختزاله في الخصائص الصرفية و هي خصائص للمفردة أو الوحدة البنيوية ، و على ذلك يمكن القول أن الأمر ينحصر في التنوع الألسني في منطقة المعجم ، و هنا شروط مفروضة كما سبق من المقروئية و هي منظومة من الملكة اللغوية و الوظائف الدماغية و الذهنية مع نظام الحركة العصبي المختص بإنتاج الأصوات و استقبالها ، و هذه الشروط تقتضي أن يكون للوحدات المعجمية سمات و أن هذه السمات تتنوع إلى ثلاثة سمات :
"- سمات دلالية ، و تؤوَّل عند المستوى الوجيهي الدلالي ؛
- سمات صوتية ، و تؤوَّل عند المستوى الوجيهي الصوتي ؛
- سمات لا تؤوَّل عند أي من المستويين الوجيهيين .
و كل سمة ، في اللغة المصممة محكما ، إما دلالية أو صوتية ، لا مجرد وسيلة لخلق موضع أو تسهيل حوسبة . و إذا كان الأمر كذلك ، فلا وجود لأية سمات صورية غير مؤوَّلة . وهذا متطلب قوي جدا ، كما يبدو . لذلك ليس هناك تأويل لبعض السمات الصورية النمطية كالحالة الإعرابية البنيوية – كالرفع و النصب في اللاتينية ، مثلا – في المستوى الوجيهي الدلالي ، و لا حاجة للتعبير عنها في المستوى الصوتي كذلك ، و هناك أمثلة أخرى في الأنظمة التصريفية ." [16]
و مع افتراض أن الإحكام في اللسان قائم فإنه يقتضي ذلك أنه لا يوجد أي سمة إلا و لها اقتضاء صوتي أو دلالي ، فالصوتي خاص بمخرج و صفة و خصائص كل صوت مفردا كان أو مركبا مع غيره ، و ترتيبه في النطق لأن مثل ذلك يقتضي حالات صوتية معينة تناسب الوضع ، و الدلالي يكون خاص بالمعنى و التصور ، و على ذلك و تبعا لفرضية الإحكام اللساني يجب أن يكون لكل سمة صوتية سمة دلالية ، إلا أن تكون صوتية بحتة كما سبق . أما لو كان هناك سمات ليست مبررة صوتيا و لا دلاليا فإنها سمات صورية شكلية و لقد مثل لها تشومسكي في لسان معرب ، بل يظهر فيه الإعراب بقوة و هو اللسان اللاتيني ، كالرفع و النصب فإنها سمات ليست دلالية أي أنها ليست مؤوَّلة عند المستوى الوجيهي الدلالي ، و هذا معناه أنها لا تحمل أي تصور أو معلومة أو معنى يفيد الفكر أو التصور ، و قد وجد أنها ليست صوتية أيضا ، أي أنها ليست مبررة صوتيا و لا حاجة لها من الناحية الصوتية ، و بذلك فهي سمة صورية شكلية .
و نحن نرى ذلك في الحركات الإعرابية و العلامات الإعرابية في النحو العربي ، فهي حركات صوتية مدية أو حروف صوتية لا تحمل دلالة و غير مبررة صوتيا ، و هذا ما جعل عالم كبير و من تلامذة سيبويه النابهين أن يقول أنها صوتيات ذوقية و تسهل فقط التنقل من كلمة لأخرى و لا تحمل أي دلالة على شيء ، كما سيتضح في حينه و تباعا كلما اقتضى المقام لذلك .
ثم يردف بمظهر أخر في اللسان البشري و يصفه أنه أيضا من مظاهر عدم الإحكام في تصميم اللغة ، و هو مظهر سطحي على حد تعبيره ، و هو بذلك يوحي بأنه غير دلالي و لا معنوي على ما تقتضية الشروط المقروئية التي تفرضها بنية الذهن/الدماغ و الوظائف الأخرى على اللغة البشرية ، هذا المظهر هو (الإزاحة) و يقرنه بالحالة الإعرابية في العمل و الظهور من خلالها ، أي أن الإزاحة توجد من خلال الإعراب ، لأنها مرتبطة بالموقع في الجملة التعبيرية و العلاقة التي يفرضها عليها الموقع من التجاور ما بين المفردات في الجملة ، و يتطابق التصريف و الإعراب في كل حالة على حدة كما تقتضيها القواعد الشكلية (السطحية) ، فقد تكون المفردة مفعول به في موضع ، و في موضع أخر فاعل لفعل أخر ، و يظل المعنى العميق كما هو مفهوم من الجملتين ، و الربط بين السمات التي لا يمكن تأويلها (الإعراب) و الإزاحة كان متوقعا وفقا لفرضية التصميم الأمثل و المحكم ، لأنهما خارج نطاق الإحكام .
أما السبب في وجوب وجود هذه الخاصية كان محل نقاش منذ الستينيات و لم يقر على رأي نهائي بشأنها ، أما من وجهة نظر تشومسكي فإن جزء من السبب يعود ؛كما يظن هكذا قال ؛ إلى الظواهر التي كانت توصف في ضوء البنية السطحية و التي هي موجودة في النحو التقليدي مثل المبتدأ و الخبر ، و التخصيص ، المعلومات الجديدة و القديمة ، و القوة المنفذة التي توجد في الموضع المقول إليه ،...الخ . و لو فرض صحة هذا فلأن شروط المقروئية هي التي تفرض الإزاحة و يكون على ذلك هي متطلب تأويلي مفروض من الخارج على أنظمة تفكيرنا .
و أنا أرى خاصة في اللسان العربي أن كل موضع تركيبي في الجملة يكون له معنى يفاضل به موضع أخر لهذا التركيب ، و يكون هذا المعنى هو محل الإهتمام من المتكلم فيريد الإخبار عنه أو التنويه عليه أو لفت النظر إليه أو تصحيح مفهوم لأخر أو غير ذلك من أغراض ، و لكن ما زلنا نقول أن هذه المعاني المتفاضلة على حسب الترتيب و الموضع لنفس المفردات المكونة للجملة ، هي مفهومة بدون الحركات الإعرابية ، فتحقيق دلالتها يكون من غير هذا الرافد الإعرابي ، فهو من روافد أخرى متنوعة ما بين لغوي و عقلي و حسي و مقامي و حالي و غير ذلك .
فمثلا قولنا في العربية :( زيد خرج مسرعا – زيد مسرعا خرج – خرج زيد مسرعا – خرج مسرعا زيد – مسرعا خرج زيد – مسرعا زيد خرج ). فكل تركيب من هؤلاء له معنى يتفاضل به عن المعنى الأخر رغم ثبات مفاهيم الفاعلية و الحالية و الظرفية ، و لكن ستجد زيد مرة هو محل الإهتمام ، و مرة ستجد حالة خروجه هي محل الإهتمام ، و مرة ستجد الفعل هو محل الإهتمام ، و كل معنى من ذلك مناسب لمقام معين من الإخبار أو الإجابة أو السؤال أو غيرها من أغراض أخرى غير ذلك . و على سعة العربية يمكن توليد جملة أخرى يكون فيها المنصوب مرفوعا مرة لموضعه ، و العكس صحيح و هكذا .
و على ذلك ففي العربية هي من مقتضيات الشروط المقروئية و من صميم عملها ، بل لا نعدو الصواب أن قلنا هي من تجلي الشروط المقروئية و بنية الذهن/الدماغ و تجعل لها وجودا و قيمة . لأن كل حالة موضعية لترتيب هذه الثلاث مفردات السابقة تصور معنى دلالي عقلي من الدرجة الأولى يجسد كل الروافد الحسية و الذهنية و اللغوية و الصوتية اللسانية . و لذلك وجدنا أن العلامات الإعرابية لا تقوى و لا ترقى أن تمثل مثل هذا الغناء الدلالي و لا تستطيع أن تجاري كل هذه التصورات الذهنية ، و أن الترتيب و التركيب و المعنى الدلالي المحمول مع كل مفردة أو صيغة كفيل لأن يبوء بمثل هذا الغناء المعنوي الدلالي الذي يتمشى مع العقلية العربية و الملكة اللغوية و الغناء الصوتي لمفرداتنا و جذورها و أبنيتها ، فلا موضع و لا ضرورة تقتضي أن نقحم العلامة الإعرابية فيما لا تستطيعه فنظلمها و نظلم لساننا الغني عن مثل هذا .
- و في محاولة ترسيخ الإفتراض القائل بأن اللغة محكمة يجب أن نزيح من وجهه أي إفتراضات أو حتى نتائج أبحاث و دراسات تنغص على هذا المفهوم المحكم عن اللغة ، و استبعاد أي شيء يقف في طريق إحكام اللغة ليس هوائيا ، بل عن طريق حلول لهذه المشاكل التي تعترض النظرية من خلال برنامج البحث ليبين أن التعقيد و التنوع عارضان و حسب (التفسيرية) ، و كان من ذلك الذي جابهه تشومسكي هو مدى التعقيد و التنوع الناتج من عمليات الحوسبة و ما تشتمله من أنواع : الأول هو قواعد للبنية المركَّبية التي تؤلف من الوحدات المعجمية لتنتج تراكيب أوسع ، و الثاني هي قواعد تحويلية من خلالها تُنفَّذ خصيصة الإزاحة ، و للعمليتين جذور تقليدية ، سيناله من النقد ما ينال هذه القواعد لأن هاتين القاعدتين تمثلان النحو التقليدي .
فكان الحل هو اختزال نوعا القواعد : البنية المركبية و التحويلية (جذور نحوية تقليدية) إلى شكل واحد بسيط ، عن طريق التخلى عن قواعد التنوع و التعقيد التركيبي لصالح العملية الأولية التي لا يمكن تجاهلها أو اختزالها لما يؤدي ذلك إلى الخلل في أصل وضع و تصور التفاهم ، و هذا الشكل البسيط يتمثل في موضوعين تم الربط بينهم مسبقا و التأليف بينهم ، و هذا من أجل موضوع أكبر يقتصر هدفه و غرضه على تصوير هذا المعنى فقط بصورة أولية للناتج من الربط بين الموضوعين ، كأن يكون وصفا أو إخبارا أو إجابة أو سؤالا ، و قد سماه تشومسكي "أدمج" و يمكن فهم مقصودة من الدمج أن هناك إحتمالات دلالية يمكن أن تتولد عن طريق البنية السطحية و لكنها كلها تدور حول معنى أساسي مشترك بين هذه الحالات المتعددة ، و لكن قد يتفاوت من حالة لأخرى و قد تكون هي الرئيسة كما هو عندنا في العربية ، فعندنا معنى أساسي من أجله تم التركيب و التأليف بين موضوعين (أدمج) و لكن كل حالة من هذه الحالات التركيبية لها معنى مفاضل للمعنى الذي في حالة أخرى و إن كان يماثله في أساس التركيب المجرد ، ولكن قد يقصد التركيز على حالة معنوية لهذا المعنى الأساسي و قد تكون هي الرئيسة في وضع هذا التركيب و لا تخرج عن المعنى الأصلي .
و قد أشار أن البحث الذي أنجز في السنوات القريبة أن هذا الهدف و هو التخلي عن التنوع و التعقيد للقواعد التركيبية يمكن تحقيقه عن طريق الدمج بالإقتصار على هدف الربط الموضوعي فقط . و على هذا يكون الإجراء الحوسبي الأمثل مكون من : عملية (أدمج) و العمليات التي تصوغ خصيصة الإزاحة (العمليات التحويلية أو ما تماثلها) .
و قد رادف المسعى الأول السابق و هو الدمج مسعى أخر مواز له و هو إختزال المكون التحويلي إلى أبسط شكل ، و قد اتضح عدم التخلي عنه بعكس قواعد البنية المركبية . و كانت النتيجة النهائية هي عملية واحدة فقط (انقل) و تعني : انقل أية وحدة إلى أي مكان ، و هي لا تتصف بأية خصيصة مقصورة على لغات أو تراكيب معينة . أي أن خلاصة الأمر هو عملية تجريد لما يحدث في عملية قواعد التحويل ، فكان المشترك بينهما هو عملية نقل لوحدة من مكان لمكان أخر ، هذه التنقلات قد تكون تحويلات معينة ، و لكن يظل النقل بمفهومه يشملهما ، و هذا المعنى المجرد من الوصف الوظيفي لا يختص بلسان معين و لا بتركيب لساني معين ، فهو ظاهرة عامة تشمل كل الألسنة ، و أما كيفية تطبيقها في كل لسان عن الأخر فهو محدد بمبادئ عامة تتفاعل مع بعض الاختيارات المحددة للوسائط ، أي إنها (عملية انقل) تدخل حيز التطبيق اللساني على حسب المبادئ الاولى التي حددت وضع الشفرة أو المفتاح ليتجه نحو صوتيات لسانية معينة بكل نحوها و قواعدها الأخرى ، وبذلك تكون الحوسبة قد اقتصرت على عمليتين فقط و هما يدخلان التطبيق على شكلين متمايزين ، أولهما : "ادمج" تأخذ موضوعين متمايزين و تدمجهم مع بعض ، و "انقل" تأخذ موضوع واحد مفرد ، و تأخذ موضوعا آخر هو جزء من الأول فتربط الأول بالثاني .
- ثم انتقل للمشكلة التالية الذي وصفها أنها هي كيفية تبيين أن السمات التي لا يمكن تأويلها (وقد مثل لها بالحالات الإعرابية كالرفع و النصب مثلا ، فلا هي مقروءة للمستوى الوجيهي الدلالي و لا هي مبررة لوجودها في المستوى الصوتي) هي حقا الآلية التي من خلالها تطبق الإزاحة ، و هذين هما النوعين الأساسيين من "عدم الإحكام" في النظام الحوسبي ، فلو أمكننا توضيح ذلك فقد نجحنا في إختزالهما إلى نوع واحد . لانه سيصبح حينئذ السمات الغير تأويلية مجرد مظهر لتفعيل الإزاحة فقط ، و لو تأكد أن وراء الإزاحة هو شروط المقروئية التي تفرضها الأنظمة الخارجية للتفكير فنكون قد أثبتنا أمثلية اللغة و إحكامها ، لأننا قد تخلصنا من أنواع "عدم الإحكام" ، و أن الغرض من السمات الغير مؤولة أن تكون آلية لإرضاء شروط المقروئية التي يفرضها المعمار العام للذهن/الدماغ .
و من خلال كلام تشومسكي نحاول الإسقاط على نحونا العربي و أخص منه بالذكر العلامة الإعرابية و الحركة الإعرابية : فهو في مسعاه إلى إثبات إحكام اللغة و نظامها الأمثل يضع بين عينية المقروئية التي يفرضها النظام الذهني/دماغي ، و هذا يعتبر لب نظريته و محور أبحاثه و دراساته ، و هو يتناول الذهن و المخ و الحواس التي تشترك في التصويت و السمع و علاقة كل ذلك بالملكة اللغوية ، و يحاول أن يشرح كيفية حدوث ذلك ، و لا يمنعه أن يستعين بالعلوم الأخرى التي قد تساهم في توضيح الكيفية التي من خلالها يتكلم أو يفكر الإنسان ، و قد رأينا كيف تغلب على المشاكل و العقبات التي واجهته نحو مساعيه لإثبات الأمثلية للغة و إحكامها (على حد تعبيره الذي يصرح به أحيانا أو يأمله أحيانا أخرى) ، و نتعرض نحن لما له صلة بالإعراب من هذه النقاط ، فهو قد ربط الإزاحة بالحالات الإعرابية ، و جعل الإزاحة ممن لا يمكن تجاهله أو إختزاله ، و أن تطبيق هذه الإزاحة يكون من خلال الحالات الإعرابية كآلة ، و بهذا تكتسب أهميتها من أهمية الإزاحة و لكن في نفس الوقت هي آلة أو وسيلة و ليست عنصر من عناصر اللغة ، و على هذا لو وجد بديل أخر أو حتى الإستغناء عنها مع بقاء الوضع كما هو فلا ضير في ذلك لأنها مجرد وسيلة نتوسل بها إلى غرض فإذا أمكن تحصيل الغرض من دونها لم تجب و لم يحسن وجودها لأن ذلك معرض لقانون الإيجاز و الإقتصاد .
و علة وجود السمات الغير مؤولة عند تشومسكي هو فقط عند استخدامها فيما يقتضيه و يفرضه النظام و التصميم العام للذهن/الدماغ ، و هذا تبرير كوسيلة و آلة فقط ، أما في حقيقة الأمر هي ما زالت غير مؤولة دلاليا في الذهن/الدماغ ، أي أن الذهن و العقل لا يفهمها و لا يستخدمها كموضوع يحمل عليه دلالة أو تصور أو فكرة ، و من الناحية الصوتية يمكن تجاهلها أيضا لأن اللغة محكة و يجب أن يكون لكل سمة صوتية سمة دلالية تقابلها ، و يمكن من خلال هذه النظرة التشومسكية أن تتقارب كثيرا من نظرة النحاة العرب لأنهم يسمونها "علامة إعرابية" أي أنها علامة نعلم بها و نشير بها على شيء معين هذا الشيء هو معنى مدلول عليه بها (كما يظن) ، و من مفهوم العلامة يتبين المغايرة بينها و بين ما تشير إليه أو تُعَلَّم به من معنى ، و يقتضي ذلك أسبقية وجود المعنى (المشار إليه) أولا سواء في الذهن قبل الخروج بتصويت ، أو بالتصويت اللساني ، لأنه من المعروف أن الحركة المدية القصيرة أو العلامة الإعرابية تأتي في نهاية اللفظ أو لأخر حرف في اللفظ حذف أو زيادة ، و هي بهذا المعنى تحقق نظرة تشومسكي من أنها وسيلة أو آلة يُأتى بها لغرض ما ، و ليست هي في حد ذاتها لها معنى أو دلالة مستقلة ، بل المعنى و الدلالة مستفادة من غيرها .
و نحن نرى أن لساننا العربي بإزاحته غني عن هذه الوسيلة تماما ، فهو فيه الكفاية البيانية الذاتية بمفرداته و صيغه و قرائن أخرى تحف على الجملة لتذب عن المعنى المقصود أي لبس أو غموض قد يأتي من هنا أو من هنا ، خاصة و قد تبين من نواح عديدة : تأصيلية لنشؤها أو تنظيرية لعلتها ، أو تطبيقية لإختلافها و تباين علتها ، أو و هو الأهم ؛ معنويتها الذهنية أو العقلية فهي أبعد ما يكون من المنطق العقلي أو التصور المعنوي أو التعيين الدلالي ، كما هو عند فلاسفة العرب و المناطقة أمثال الفارابي و اخوان الصفا و غيرهم في شروحهم .
و كما سيتبين بالتفصيل في موضعه إن شاء الله تعالى .

- و هذا نص لتشومسكي ينص فيه على أن الوظائف النحوية عديمة المعنى في ذاتها فيقول " الحالة الأولى تحدد النظام الحوسبي للغة بشكل فريد ، بالإضافة إلى تحديدها مدى للاحتمالات المعجمية محددا تحديدا بنيويا دقيقا و بعض الخيارات من (العناصر النحوية) الوظيفية التي لا معنى لها في ذاتها ." [17]
- هذا نص مجمل فيه بطريقة واضحة نظرية تشومسكي عن التكلم :-
" أي الملكة اللغوية للدماغ ، يتخذ صورة (لغة-د) كاملة و مدمجة في أنظمة أداء تؤدي دورا في النطق و التأويل و التعبير عن الإعتقادات و الرغبات و الإحالة و سرد الحكايات ، الخ . فموضوع البحث ، لهذه الأسباب ، هو دراسة للغة البشرية .
ويبدو أن أنظمة تتبع نمطين عامَّين : الأول (نطقي – إدراكي) ؛ و الثاني (تصوري – قصدي) . و إذا كان الأمر كذلك فمن المعقول افتراض أن التعبير المولد يشتمل على (مستويين وجيهيين) ، يوفر أحدهما معلومات و تعليمات للأنظمة النطقية – الإدراكية ، و يوفر الآخر معلومات و تعليمات للأنظمة التصزرية – القصدية . ويفترض عموما أن أحد المستويين الوجيهيين هو التمثيل الصوتي : أي : (الصورة الصوتية) (ص ص) . أما طبيعة المستوى الثاني فموضوع لخلاف أكبر ؛ و لنسمه بـ (الصورة المنطقية) (ص م) . " [18]



[1] آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي , ص 7.

[2]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 47.

[3]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 48.

[4]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 49.

[5]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 62.

[6]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 67.

[7]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 68.

[8]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 69-70.

[9]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 81.

[10]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 85.

[11]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 86.

[12]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 97.

[13]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 97.

[14]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 97.

[15]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 98.

[16]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 98.

[17]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 125.

[18]آفاق جديدة في دراسة اللغة و الذهن لنعوم تشومسكي ص 126.