››› الفصل الثالث :
تطور اللغة
اولا : أسباب تطور اللغة :
و يرى الإخوة أن نشأة الألسنة الأخرى هي بالتوقيف على النبي و يكون بوحي إلهي عن طريق الملائكة ، أو تكون إلهام من الله لأحد خلقه الحكماء و تأييده له في ذلك ، ثم يسمي الحروف التي هي في الأولى و يحكم ذلك و يقيدها بصورة أخرى في الكتابة و ينطق بلسان أخر غير الأول ، ثم ينقل الأسماء من الأولى إلى الثانية ، ثم يعلمها خلانه و أهل بيته و من حولهم حتى تنتشر و يصطلح عليها .
و يعتقدوا أن الأصل هو الحروف التسعة التي ما زالت تستخدم في الهند على أيامهم و حتى انتهت إلى 28 حرف في لسان العرب ، و ما بينهم من ذلك من حروف لألسنة أخرى ، تكون على حسب توفيق و سداد و الهام من الله للحكماء أو وحي للأنبياء من الله . و يقولون في ذلك الأتي : " اعلم أن صناعة الكتابة ذات طرفين : طرف كأنه البداية ، و طرف كأنه النهاية ، فالطرف الأول هو الكلام و النطق بالحروف التسعة التي يستعملها أهل الهند الى وقتنا هذا . و الطرف الآخر الذي هو النهاية ، فهي الحروف الثمانية و العشرين التي هي حروف اللغة العربية ، و ما سوى ذلك فهو بين هذين الطرفين ، و إنما مثل الحروف كمثل الشجرة نبتت و تفرعت و تفرقت فروعها ، و كثرت أوراقها و ثمارها ، و تقسمها الأقوام ، فأخذ كل قوم بحسب ما اتفق لهم في أصول مواليدهم ، و بحسب اجتهاد رئيسهم و ما أعمل فيه فكرته و انتجته قريحته و اوجبته رويته بتأييد ربه تعالى و الهامه ، فيآخذ صور هذه الحروف فيلقى عليها أسماء من ذاته ، فان كان حكيما فبتأييد الله له و الهامه ، و ان كان نبيا مرسلا كان يوحى الله اليه و كلامه من وراء حجاب عظمته ، أو بوحيه على أسنة ملائكته ، و يقيدها بصورة أخرى من الكتابة و ينطق بلغة أخرى غير اللغة الأولى ، و ينسخ الأسماء من اللغة الأولى إلى اللغة الثانية ، فاذا تم ذاك له و نطق به و أكمل الصناعة النطقية و قيدها بحروف الكتابة و ضم الأشكال الى أشكالها و الخطوط الى أمثالها ثم عرفها أقرب الناس اليه و أكرمهم لديه فيصطلح عليها هو و أهل بيته و عشيرته ثم أهل مدينته و بعد ذلك اهل بقعته ثم أهل اقليمه ، ثم تنتشر في العالم و ينشأ عليها الصغير و يأنس بها الكبير من تلك الأمة و ينقل الشريعة و الملة من اللغة الأولى الى الثانية و يحدد الأحكام و الأوامر و النواهي و الصلاة و أحكام الشريعة الى تلك اللغة التي نطق بها و الأمة التي أرسل اليها ."
أولا: ليس هذا تفسير للموضوع و لا ذكر البواعث و الكيفية بنشوء لسان جديد ، فما الداعي لذلك ما دام اللسان كاف في البيان و قائم بالتواصل و الحاجة ، و جعلوا تنشأة الألسن جذرية ،
و ثانيا : هذا الكلام في عدم تلائم مع ما جاء في القرآن أن كل رسول يرسل بلسان قومه ليبين لهم ، فيجب أن يكون ما أنزله الله هو بلسان الرسول و قومه ، فيكون اللسان أسبق من المرسل به الرسول ، و أيضا أن لسان الرسول هو لسان قومه ، و ليس لسان أخر و لا يجب أن يكون أخر لفوات ذلك الغاية من ذلك و هو البيان و الفهم لهم و لكلام الله سبحانه و تعالى ، و هذا تقرير و توكيد للسان و ليس دعوة لتجديده ، و كل رسول له كتاب أو كلام منزل عليه و ليس ينسخ ممن سبقه شرائع ، لأن لكل رسول شرعة و منهاجا ، و كيف نستسيغ أن الرسول يغير لسانه و لسان قومه في حياته و حياتهم ، و تصور تعلم اللسان الجديد مع القديم أو محله غير مبرر و غير محقق لزيادة بيان تأتي من وراءه فلما تكلفة هذا الأمر إذن .
فهذه التفاسير للظواهر المدروسة تأتي من باب التوفيق و التلفيق بين نظرتين غالبا ما تكون متناقضتين (الاصطلاح و التوقيف) ، فهم كمنطقيين و متعلمي الفلسفة يوفقون بين فكرة أن اللسان يضعه حكيم أو فيلسوف على حسب معرفته و احاطته بطبائع الأشياء ، فيضيف الاخوان هنا فكرة التأييد و الالهام الإلهي له في ذلك ، أو أن يحل محله النبي الذي يوحي اليه الله ، و أن هذا الشخص هو في رأي الاخوان : رئيسهم و ما أعمل فيه فكرته و انتجته قريحته و اوجبته رويته ، فتتمثل إضافة الاخوان بتوقيف الله إما بالتأييد لحكيم أو بالوحي لنبي ، فتتقارب صفات الرجلين الذين يضعا اللسان عند اليونان و عند الاخوان ، ولكن مع الاخوان مع اضافة البصمة الاسلامية . و أما لهم أقوال كثيرة يفسروا بها إختلاف الألسنة لبني آدم فيرجعوها للأفلاك و الكواكب و الأجرام السماوية و طوالع البروج و يجعلونها مدبرة و لها تأثير على أوقات محددة قد تكون ميلاد أو نزول إلى مكان و هكذا . فلا داعي لأن نسود صفحاتنا بمثل هذا الكلام الذي هو شرك بالله أولا ، و تفسيرات غير علمية و لا منطقية ثانيا .
و لهم كلام كأنه إقبسه دارون فحلاه ببعض العلوم و التفاصيل الممنطقة فكانت نظرية النشوء و الإرتقاء و البقاء للأصلح فهم يقولوا : "و البقاء على أتم الأحوال ما أمكن و استوى ، و أيضا لما حكم على نفوس الحيوانات كلها بالموت لتتنقل إلى حالة هي أتم و أكمل و أفضل" . فلما أدركت الحيوانات الموت و ما يقرب إليه من أحوال ، حرصت على البقاء و ما يؤدي إليه من أحوال ، فكان الصراع على البقاء ، و هذا الصراع ما جعل مسيرة التغيير تكون نحو الأفضل و الأتم و الأكمل ، فكان الرقي و الإرتقاء نصيب من بقي من هذا الصراع ، فينقله لغيره و تدور الدائرة مرة أخرى و يزداد الرقي و هكذا . يكون تفسيرا جاهزا لأي ظاهرة فيها رقي أو تركيب أو تعقيد يمكن تحليله لعناصرة الأولى و بالطبع كل هذه ظنون غير خاضعة للتجريب و لا محكومة بخبر صحيح . و قد يرجعون اختلاف الألسنة إلى اختلاف الأجساد و تركيبها فقالوا " اعلم أن اختلاف الناس في كلامهم و لغاتهم على حسب اختلافهم في أجسادهم و تركيباتهم "
- و ممكن الإفادة من كلام اخوان الصفا في حصر الحروف و الصوتيات التي كانت سائدة في وقتهم بين الألسنة ، على الأقل أشهر الألسنة الموجودة لأعظم الأمم ، و ما دونها ، فقد قرروا أن الصوتيات العربية 28 حرف يجمعون كل صوتيات الألسنة الموجودة و المعروفة في وقتهم ، و أن هذه الحروف العربية هي قمة التطور الكتابي و الحرفي و الصوتي ، و ننقل نص من كلامهم الذي يؤكدون في هذا :
- " و في كل أمة و بكل اقليم و جزيرة و موضع أهل خط و حروف و كتابات و علامات يجمعها كلها هذه الثمانية و العشرون حرفا ، و لولا خوف الاطالة لأتينا على ذكر كثير من اللغات و كتابات أهلها و أعداد حروفهم مثل ما يوجد في اللغة السريانية و العبرانية و اليونانية و الرومية و ما يتفرع منها و يتكون عنها في سائر الأجناس و الأمم من بني آدم " .