››› الفصل الثاني :
نشأة اللغة أولا :
نشأة اللغة المنطوقة :
يقولون " اعلن أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام الذي هو أبو البشر و مبدؤه ، جعله ناطقا متكلما فصيحا مميزا بالقوة الناطقة و الروح الشريفة و القوة العاقلة القدسية ... لأنه سبحانه و تعالى نفخ فيه من روح قدسه و أيده بكلمته و علمه الأسماء كلها ، وصفات الأشياء كلها ، و جعل له العقل العاقل لها و المحيط بمعرفتها ، و أخرج سائر الموجودات من المعادن و النبات و الحيوان إليه ، ليديرها و يسوقه إليه منافعها ، و يدلها على ما يكون صلاحها و بقاؤها و تزايدها و نماؤها و سلامتها من الآفات ، و يضع كل شيء منها في موضعه و يوفيه قسطه من حفظ النظام و بلوغ التمام ، و جمع له هذه الأشياء كلها صغيرها و كبيرها ، جليلها و حقيرها في تسع علامات بأشكال مختلفة مسماه بأسماء قد جمعت أسماء جميع الموجودات ، و انعقدت بها المعاني كلها ، كما اجتمعت أجزاء الحساب كلها و الأعداد بأسرها في التسعة الأعداد التي من واحد إلى تسعة ، و كذلك وجودها في العالم العلوي على هذه النسبة ، و هذه الحروف هي التي علمها الله سبحانه و تعالى آدم عليه السلام ، و هي التي يستعملها أهل الهند على هذه الصفة (1،9،8،7،6،5،4،3،2،10 ) ، و قد كان بهذه الحروف يعرف أسماء الأشياء كلها و صفاتها على ما هي عليه و به موجودة من أشكالها و هيأتها ، و لم يزل كذلك إلى أن كثر أولاده و تكلم بالسريانية.. "
" و لم يزل الأمر كذلك و بنو آدم مع والدهم يتكلمون بالسريانية ، وقال بعضهم بالنبطية ، و يفهم بعضهم عن بعض المعاني و ما قصدوا و أرادوا ، و وصفوا كل شيء بصفته إلا أنها لم تكن الحروف مجتمعة بعضها إلى بعض و لا مؤلفة بالكتابة ، و إنما كان آدم عليه السلام يعلمهم تلك الأسماء تلقينا و تعريفا ، كما يعلم الأشياء و يعرف من لا علم له بالكتابة و الهجاء ، و لذلك يقال لمن لا يكتب أمي ، و كان الخلق يحفظون تلك الأسماء و الصفات عن السلف ... " من النصوص السابقة يمكن القول أنه : كان منطلقهم خبريا شرعيا و هذه حسنة منهم فارقوا بها غيرهم من المناطقة و الفلاسفة حتى المنتسبين إلى الإسلام منهم ، ثم استخدامهم لنفس الكلمة القرآنية (الأسماء) و أظن أنهم يريدون بها (الإسم و الفعل و الحرف) أم أن الأصل هو الأسماء و منها المصادر و هي ما يشتق منها الأفعال ، أو غير ذلك ، فالمهم أنهم مسلمون لتعليم آدم الأسماء كلها ، ثم أضافوا أو بالأحرى فصلوا مضمون هذا التعليم الإلهي لآدم عليه السلام للأسماء ، فقالوا أن التعليم كان أيضا (صفات الأشياء كلها) و هذا ملمح منهم لتناسب الأسماء مع طبيعة الأشياء المسماه ، و من أهم طبائع الأشياء هي صفاتها ، فهي الإنعكاس الظاهري الذي يدرك للبشر لطبيعة الشيء و ماهيته ، و هو بهذا القدر يقدر أن يعرف و يشير و يميز بين الأشياء في الحياة و المعيشة و التواصل ، ثم ذكروا الجزء الخاص بالعقل في ظاهرة الكلام و استخدام الأسماء فقالوا (و جعل له العقل العاقل لها و المحيط بمعرفتها) و بذلك فهم خصوا معرفته و اقتداره في الأسماء على ما هو يمكن تعقله و يحيط بمعرفته ، و هو معنى جيد ملائم للحق ، لأن الإنسان لا يعقل و لا يحيط معرفة بالله من خلال معرفة أسماؤه (ليس كمثله شيء) و (لا تدركه الأبصار) و غير ذلك من النصوص التي تفيد هذا المعنى ، و هذا معنى مغاير لمعنى معرفة الله من خلال أسمائه و أفعاله و صفاته .
و يظهر بعد ذلك لبس بين كيفية تصور تعليم الله آدم الأسماء كلها ، و أن هذه الأسماء الذي تعلمها آدم هي تسع أسماء فقط لتسع علامات تجمع أسماء كل شيء من الموجودات ، يتكون منها كل المعاني الممكنة ، و مثل لهذا المعنى بالأعداد التي من واحد إلى تسعة ، فإنها يتكون منها أي رقم في الوجود بترتيب معين لتماثل الموجود المعدود ، فكذلك التسع علامات المسماه فمنها يتكون أي اسم لأي شيء في الوجود ، ثم أطلقوا عليها بعد ذلك أنها (الحروف) و هي التي علمها الله سبحانه و تعالى آدم عليه السلام ، فأبجدية التسمية الكونية تتألف من تسعة أحرف ، و عيَّنَها بأنها هي التي يستعملها أهل الهند (الأرقام 1-9) ثم قال عليها مرة أخرى (الحروف) ، و كأنهم يريدون أن يقولوا كما يقال في العصر الحديث أن لغة الأرقام هي اللغة الكونية و أبجديتها هي الأرقام ، فهي تستطيع أن تصف و تعبر عن أي ظاهرة في الكون ، و أن هذه الظواهر محكومة بهذه الأبجدية و تراكيبها بما يسمى النحو الرياضي ، و معجمها هو الكون بما فيه من مفردات ، صرفها هو التفاعلات فيما بينها .
و هو تفسير ظني ، فلا يعتمد على خبر صحيح و لا قياس صريح ، و مفاده هو محاولة تفسير هذا الكم الهائل من الموجودات كذوات متباينة ، و التعلقات التي تكون من ذواتها مع بعضها سواء في الصفات أو الأفعال ، و ما يترتب على ذلك من معقولات و تصورات ، تنتظم في النهاية على هيئة قوانين مرجعية تحكم و تنظم ما يستجد من مدركات و معارف ، و كل من هذه له اسم يشير إليه و يعين على تصوره لمن لم يقف عليه ، فهل هذه هي الأسماء التي تعلمها آدم و عرضت عليه أم لا ؟ فكانت محاولة تفسيرهم معتمدة على قدر كبير من العقل و المنطق و ما يمليه من مفاهيم مقوننة ، فدائما المنطقيين يميلون في التفسير لأي ظاهرة ما إلى التحليل و تتبع الجزئيات الناتجة و معرفة العلاقات التي كانت بينها و كيفية تنظيمها ، حتي يصلوا لأصغر جزء لا يمكن تقسيمه لأصغر من ذلك ، فيكون هذا العدد هو بداية التكوين ، فيكون مجرى التصور المحتوم هو : من البسيط إلى المعقد ، و من المفرد إلى المركب ، هذا هو جل منطقهم ، و في كل مرحلة تفكيكية يتخلق مفاهيم تربط العلاقات بين هذه المكونات في هذه المرحلة فيكون جنس و نوع ، و هكذا في كل مرحلة فيكون ما كان نوعا يصبح جنسا لما يقع تحته ، و الجنس يصبح جنس أعلى لوقوع تحت منه أجناس أخر و هكذا تتسلسل و ترتبط المفاهيم و التصورات . و لصعوبة تناول مثل هذه المسألة بالتحليل لغياب الخبر الصحيح ، و لعدم القدرة على اختبار الفرضيات لنعلم صدقها أو كذبها ، لا يبقى إلا التخمين و الظن الذي قد يعاضده حجة أو برهان فيرقى به درجة إلى اليقين ، و كل إنسان ملزوم من مذهبه الفكري و بناءه العقدي و خبراته المعرفية ، و أظن أن من كتب مثل هذه النظرية أنه رياضي أو متأثر بالحساب و الأعداد و مدى دقتها في تمثيل نوعية معينة من الموجودات ، و كفايتها البيانية لأن تستوعب أي شيء ، ثم موضوعاتها الأولى القليلة و البسيطة و التي يتكون منها أي تمثيل لأي موجود مهما كانت بساطته أو تعقيده ، و على هذا فإنها أنسب نظرية تغطي مدى التنوع المهول في الموجودات و أسمائها و توفر دقة عالية في التمثيل للشيء المعدود ، و سهولة و قوة في التوليد لأن يناسب أي شيء . و لكن لا اعلم هل المقصود أن الأسماء كانت عبارة عن أرقام كودية فمثلا الحمار يكون اسمه 361 ، و يكون ماهية الحمار و طبائعه هي الممثلة في الأرقام (1-6-3) ثم من ترتيبها هذا التريب المحدد ، فمثلا يكون الواحد عبارة عن الحيوانية ، و الستة هي البهيمية ، و الثلاثة تكون شكل الحمار و صفاته التي يفارق بها البغل و الحصان .
هذا مثال بدائي جدا فقد يكون الرقم أكبر و أعقد من ذلك و لكن أحاول التقريب لأحد الإحتمالات التي تكون من استخدام الأرقام في التسمية . و يجب على هذا أنها لا تدل على العدد كما نعرفه اليوم ، أو تدل على العدد و لكن بتركيب أخر ، و لكن هل كانت هذه الأرقام تنطق بحروف صوتية هجائية ، و هل كل رقم له صوت واحد فقط عند النطق به ؟ أم أنه يزيد على حرف لكل رقم في النطق به ، فلو كان صوت واحد لكل رقم فتكون الأبجدية تسعة أحرف فقط كا يقولون الاخوان ، و لو كان لكل رقم حرفين صوتيين يكونوا ثمانية عشر ، فنقترب من الأصوات الهجائية المعروفة في اللسان العربي .
و لذلك أرى أن مقصود الاخوان الذي يقرب للعقل هو أنه توضيح بمثال لصوتيات أسماء سيدنا آدم ، أن الله علمه إياها و عرض عليه هذه المسميات فعرفها ، و بهذا فقد علمه الأسماء (الصوتيات) التي تتكون منها أي اسم لأي شيء موجود ، فيكون ما تعلمه آدم هو الوحدات البنائية البيانية التي منها يمكن تكوين أي اسم لأي شيء من خلال صفاته و ماهيته الطبيعية التي خلقه الله عليها ، و يبقي تصوير المسألة معلق بهل رأي كل المسميات التي في الدنيا ؟ أم رأي المثالات العامة و الأوليات التي يتعلق كل شيء بها بعدا و قربا ؟، فعلى درجة قربه و شبهه يكون له اسم ، و ببعده عن هذا المثال الأولي يقترب من شيء أخر فيعطى له اسم بناءا على ذلك الشبه الذي بينهما ، و كل هذا لا يمكن تصوره إلا بالقول بالمناسبة بين الصوتيات و بين طبائع الأشياء .
فيكون إما كان هذا لآدم فقط (لأنه هو الذي خصه الله بالتعليم ، أما الجنس البشري فقد خصه الله بالبيان) و نحن ورثنا هذه الأسماء منه (خاصة و أنه هو الخليفة) بعد أن ولَّد و اشتق ليسمي ما كان موجودا على الأرض ، أو أن تكون هذه الأسماء و مسمياتها هي من الفطرة المغروزة فيه و فينا و لكن هذا بعيد جدا ، إلا أن يأول بـ (البيان) في قوله (خلق الإنسان علمه البيان) فيكون البيان هو تقبل أذهاننا أن يكون الموجود له صوت يشير عليه ، و عند سماعه نستحضره للذهن ، و يكون اللسان هو الأفكار المسموعة التي تنتقل من شخص لآخر ، و هذا قد يكون أقرب التصورات المدعومة بالعقل و الحس و التجربة ، لأن الذهن و تصوراته عن الخارج و تفاعله معه عن طريق الحواس قد يعترضه عاهة أو مرض ، و لكن لا يلزم من ذلك فقد القدرة على التصور و التفكير و المعاني ، لأنه بعد ذلك ينقل لنا هذه الأفكار و التصورات و الأحاسيس أثناء فترة مرضه .
و بهذا يكون اللسان الأم هو لسان آدم عليه السلام ، ثم انتقل إلينا عن طريق الذرية حتى وقت بدأ فيه التغيير الصوتي يحدث و لكن في مجال صوتي محدد بقبوله البشري و داخل النطاق البياني لنفس اللغة ، و من حصر الأصوات لألسنة الناس فلن يجدها كثيرة ، و من حصر الألسنة سيجدها كثيرة جدا ، فهذه الأصوات القليلة أنتجت ألسنة كثيرة ، ولكن تفسير ذلك التغير الذي أدى لهذه الألسنة محتاج وقفة أخرى . و قولهم " و قد كان بهذه الحروف يعرف أسماء الأشياء كلها و صفاتها على ما هي عليه و به موجودة من أشكالها و هيأتها " يعتبر نفس النظرية الأفلاطونية في نشأة الأسماء و التي تقول بالمناسبة الطبيعية بين الاسم و المسمى ، و يمكن من خلال طبيعة الشيء نعرف اسمه ، و من خلال معرفة اسمه نعرف طبيعته ، لأن الاسم هو محاكاة للمسمى و لكن عن طريق الحروف و المقاطع الصوتية ، و لكن يجعل هذه القدرة هي قدرة خاصة غير متوفرة لكثير جدا من البشر إلا الحكماء و الفلاسفة و المشرعين و القانونين ، و ليس بإطلاق أيضا و لكن الماهر منهم فقط ، و بعضهم يجيد التسمية و بعضهم يسيء التسمية ، فكل على حسب معرفته بطبائع الأشياء و الأسماء الأولى التي يتكون منها كل الأسماء الثانوية . أما قولهم " و لم يزل كذلك إلى أن كثر أولاده و تكلم بالسريانية " فهذا غير مفهوم بوضوح ، فما علاقة كثرة الأولاد بالسريانية ! او بالنبطية ! و كيف نوفق بين هذه الألسنة و بين قوله بالحروف التسعة فقط أو الأرقام .! ، ثم في مكان أخر يقولون ان الحروف الهندية هي التي أخرجت مع آدم عليه السلام من الجنة . أما قولهم "وانما كان آدم عليه السلام يعلمهم تلك الأسماء تلقينا و تعريفا" فهو صريح بالتوقيف على آدم في التلقين و التعريف بالأسماء لأولاده ، حتى "الخلق يحفظون تلك الأسماء و الصفات عن السلف" و بهذا من المفترض ثباتها و لكن كيف تكونت الألسنة من هذا ؟