الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه
أما بعد
فقد أرسل إليّ أحد الأصدقاء مقطعا للشيخ عثمان الخميس سدده الله يتكلم فيه عن حديث "خلق الله آدم على صورته" وقد جانب الشيخ الصواب
وسأبيّن هذا فيما يلي
قال الشيخ عثمان الخميس سدده الله : هذا الحديث أشكل على بعض أهل العلم , وهو : إن الله خلق آدم على صورته ؛ الضمير يعود إلى من ؟ صورة من ؟ صورته ,
قيل : على صورته صورة آدم ولذلك قال بعده : ستون ذراعا في السماء , هذه صورته ,
وقال بعضهم : أول الحديث يفسر آخره , وهي قوله : إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه ولا يقل قبح الله وجهك , فإن الله خلق آدم على صورته , أي : على صورة المضروب , يعني الذي تضربه لا تضربه على وجهه لأن الله خلق آدم على صورته , فيكون الضمير يعود على المضروب أو على المقبح ؛ لا تقبح الوجه لا تقل : قبح الله وجهك , لأن الله خلق آدم على صورته , أي على صورة المقبح أو المضروب ,
وقال أكثر أهل العلم أن الضمير يعود على الله جل وعلا , وقد جاء في الحديث : إن الله خلق آدم على صورة الرحمن
فيكون : على صورته : أي إن الله خلق آدم على صورته أي صورة الله , لأنه أقرب مذكور يعود إليه الضمير ...
هذا الذي عليه أكثر أهل العلم ... إلخ ما قال
قلت : يكمن خطأ الشيخ سدده الله بجعله الخلاف في هذه المسألة خلافا سائغا , وأنه مما اختلف فيه العلماء (علماء أهل السنة)
ولكن الحق أن هذا الحديث مما أجمع أهل العلم على مضمونه وهو أن الله خلق آدم على صورة الرحمن , ولم يكن الخلاف إلا من الجهمية ,ولذلك كان الأئمة يسوقونه في ردودهم على الجهمية في مصنفاتهم كعبدالله في السنة , والآجري في الشريعة ,
قال شيخ الإسلام رحمه الله : لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير في الحديث عائد إلى الله تعالى ، فإنه مستفيض من طرق متعددة ، عن عدد من الصحابة ، وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك ... ولكن لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفة الضمير فيه عائدا إلى غير الله تعالى ، حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم ، كأبي ثور وابن خزيمة وأبي الشيخ الأصفهاني وغيرهم ، ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة .اهـ(1)
وكان الإمام أحمد يصف المخالف فيه بالجهمي !
قَالَ أَحْمَد بْن حنبل: من قَالَ إن آدم خلقه عز وجل عَلَى صورة آدم: فهو جهمي وأي صورة كانت لآدم قبل خلقه؟.اهـ (2)
وقال إبراهيم بن شاقلا يحكي حوارا دار بينه وبين أبي سليمان الدمشقي : ثُمَّ قَالَ لي: تروي حديث أَبِي هريرة: " خلق آدم على صورته " ويومىء إلى أنه مخلوق عَلَى صورة آدم.
فقلت لَهُ: قَالَ أَحْمَد بْن حنبل: من قَالَ إن آدم خلقه عز وجل عَلَى صورة آدم: فهو جهمي وأي صورة كانت لآدم قبل خلقه؟.
فَقَالَ لي: قد جاء الحديث عن أَبِي هريرة عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللَّه خلق آدم عَلَى صورة آدم ".
فقلت لَهُ: هَذَا كذب عَلَى النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَقَالَ لي: بلى قد جاء فِي الحديث: " طوله ستون ذراعا " عَلَى أنه آدم.
فقلت لَهُ: قد رد هَذَا وليس هُوَ الَّذِي ادعيت عَلَى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنك قُلْتُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللَّه خلق آدم عَلَى صورة آدم " ثُمَّ استدللت بقوله: " ستون ذراعا " عَلَى أنه آدم وهذا خبر جاء عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجهين. فأبو الزناد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللَّه خلق آدم عَلَى صورته " وَرَوَى جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لا تُقَبِّحُوا الْوُجُوهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ " قَالَ أَبُو إسحاق: وهذا الحديث يذكر عن إسحاق بْن راهويه: أنه صحيح مرفوع وأما أَحْمَد بْن حنبل فذكر أن الثوري أوقفه عَلَى ابْن عمر فكلاهما الحجة فِيهِ عَلَى من خالفه فإن كَانَ رفعه صحيحا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد سقط العذر وإن كَانَ ابْن عمر القائل لَهُ: فقد اندحض بقول ابْن عمر تأويل من حمل قوله: " عَلَى صورته ".
قَالَ أَبُو إسحاق: وهذا لم يجر بيني وبينه وإنما بينته لأصحابي ليفهموه.
ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: قوله: " خلق آدم عَلَى صورته " لا يتأول لآدم عَلَى صورة آدم لما قاله أَحْمَد: " وأي صورة كانت لآدم قبل خلقه؟ " فقد فسد تأويلك من هَذَا الوجه وفسد أيضا بقول ابْن عمر عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللَّه خلق آدم عَلَى صورة الرحمن تبارك وتعالى ".
وأما الاستدلال بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " طوله ستون ذراعا " فإن كانت هَذِهِ اللفظة محفوظة فكان قوله: " خلق آدم عَلَى صورته " فتم الكلام ثُمَّ قَالَ: " طوله ستون ذراعا " إخبارا عن آدم بذلك عَلَى حديث الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عثمان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: " إن اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ " ذكرت بدلالة حديث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وما ذكرته عن أَحْمَد.اهـ (3)
وقال زكريا وقلت: لعبد الوهاب –الوراق تلميذ الإمام أحمد- مرة أخرى وقد تكلم قوم فِي هذه المسألة خلق اللَّه آدم عَلَى صورته فقال: من لم يقل إن اللَّه خلق آدم عَلَى صورة الرحمن فهو جهمي.اهـ (4)
وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، عن قوله: خلق الله آدم بيده على صورته، هل الكناية في قوله: على صورته، راجعة إلى آدم ... إلخ؟
فأجاب: هذا الحديث المسؤول عنه، ثابت في صحيح البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعا "1 وفي بعض ألفاظ الحديث: " إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته "2، قال النووي: هذا الحديث من أحاديث الصفات، ومذهب السلف أنه لا يتكلم في معناه; بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها، ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى، مع اعتقادنا أنه ليس كمثله شيء. انتهى.
قال بعض أهل التأويل: الضمير في قوله: "صورته" راجع إلى آدم، وقال بعضهم: الضمير راجع على صورة الرجل المضروب، ورد هذا التأويل بأنه إذا كان الضمير عائدا على آدم فلا فائدة في ذلك، إذ ليس يشك أحد أن الله خالق كل شيء على صورته; وأنه خلق الأنعام والسباع على صورها; فأي فائدة في الحمل على ذلك؟ ورد تأويله بأن الضمير عائد على ابن آدم المضروب، بأنه لا فائدة فيه، إذ الخلق عالمون بأن آدم خلق على خلق ولده، وأن وجهه كوجوههم، فيرد هذا التأويل كله بالرواية المشهورة: " لا تقبحوا الوجه، فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن ".
وقد نص الإمام أحمد على صحة الحديث، وإبطال هذه التأويلات; فقال في رواية إسحاق بن منصور: " لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته " صحيح، وقال في رواية أبي طالب: من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم، فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه؟! وعن عبد الله بن الإمام أحمد قال: قال رجل لأبي: إن فلانا يقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم على صورته"، فقال: على صورة الرجل; فقال أبي: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا؟
وقال أحمد في رواية أخرى: فأين الذي يروي: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن"؟ وقيل لأحمد، عن رجل إنه يقول: على صورة الطين، فقال: هذا جهمي، وهذا كلام الجهمية.
واللفظ الذي فيه على صورة الرحمن، رواه الدارقطني، والطبراني، وغيرهما، بإسناد رجاله ثقات; قاله ابن حجر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجها ابن أبي عاصم، عن أبي هريرة مرفوعا، قال: " من قاتل فليجتنب الوجه، فإن صورة وجه الإنسان، على صورة وجه الرحمن "1 وصحح إسحاق بن راهويه اللفظ فيه: على صورة الرحمن; وأما أحمد، فذكر أن بعض الرواة وقفه على ابن عمر، وكلاهما حجة; وروى ابن مندة، عن ابن راهويه، قال: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن آدم خلق على صورة الرحمن " وإنما علينا أن ننطق به.
قال القاضي أبو يعلى، والوجه فيه أنه ليس في حمله على ظاهره ما يزيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه، لأننا نطلق تسمية الصورة عليه، لا كالصور، كما أطلقنا تسمية: ذات، ونفس، لا كالذوات، والأنفس; وقد نص أحمد في رواية يعقوب بن بختان، قال: " خلق آدم على صورته "1 لا نفسره، كما جاء الحديث. وقال الحميدي لما حدث بحديث: " إن الله خلق آدم على صورته "2 قال: لا نقول غير هذا، على التسليم والرضى بما جاء به القرآن والحديث، ولا نستوحش أن نقول كما قال القرآن والحديث.
وقال ابن قتيبة: الذي عندي - والله أعلم - أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الألف لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذا لأنها لم تأت في القرآن; ونحن نؤمن بالجميع، هذا كلام ابن قتيبة .اهـ (5)
وصنف العلامة حمود التويجري كتابه (عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن) وكذلك العلامة عبدالله الدويش (دفاع اهل السنة والإيمان عن حديث خلق آدم على صورة الرحمن) نصرة لمذهب السلف في هذه المسألة وبيان أن قولهم فيها واحدا
وبعد هذا فالذي يهون الخلاف في المسألة يكون مخالفا لمذهب السلف رضوان الله عليهم الذين كل خير في اتباعهم وكل شر في الحيدة عن طريقهم , وما نفق سوق الباطل بين أظهرنا إلا لضعف تمسكنا بهديهم وتصرفاتهم في مثل هذه السياقات وتمييعنا لها ,
ثم نتج عن هذا أن صار خلافنا مع مرجئة الفقهاء في مسائل الإيمان خلافا سائغا , وحتى وجدنا من يرد صفاتا ثابتة من صفات الباري عز وجل بشبه من جنس شبه الجهمية كصفة الجلوس وصفة الصدر والذراعين وصفة الهرولة وصفة النور , وحتى وجدنا من ينكر فضيلة إجلاس النبي صلى الله عليه وسلم على العرش التي رواها التابعي الجليل مجاهد رحمه الله
هذا ما وجب بيانه وأسأل الله أن يوفق الشيخ الدكتور عثمان الخميس ويسدد مساعيه في نصرة السنة ويزده فقها ويقينا وإيمانا
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد
(1) بيان تلبيس الجهمية (3/202)
(2) طبقات الحنابلة (1/309)
(3) طبقات الحنابلة (2/128)
(4) طبقات الحنابلة (/212)
(5) الدرر السنية (3/260)
أنهيته ولله الحمد يوم السبت 22 رمضان 1438هـ
بعد أذان الفجر