يقول بن القيم رحمه الله "الروح جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نُوراني عُلوي خفيفٌ حيٌّ متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء، ويَسري فيها سريان الماء في الوَرد، وسريان الدُّهن في الزَّيتون، والنار في الفَحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائِضة عليها من هذا الجسم اللَّطيف، بقي هذا الجِسم اللَّطيف مُتشابكًا بهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحسِّ والحركة والإرادة، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الرُّوح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح"--ويقول رحمه الله -الرُّوحُ جِسْمٌ لَطِيفٌ وَيُشَاكِلُ الْأَجْسَامَ الْمَحْسُوسَةَ تُحْدَثُ، وَيُخْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ بِفَرَحٍ، لَا تَمُوتُ وَلَا تَفْنَى، وَهِيَ مِمَّا لَهُ أَوَّلٌ وَلَيْسَ لَهُ آخِرٌ كَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ-ويقول ايضا رحمه الله-الأرواح خلقت للبقاء لا للفناء هذا هو الحق وما خالف فيه إلا شرذمة من الناس من أهل الإلحاد القائلين إن الأرواح تفنى بفناء الأبدان لكونها قوة من قواها وعرضا من أعراضها
وهؤلاء قسمان احدهما منكر لمعاد الأبدان والثانى- من يقر بمعاد الأبدان ويقول إن الله عز و جل يعيد قوى البدن وأعراضه ومنها الروح.
وأما الحق الذي اتفقت عليه الرسل وأتباعهم فهو أن هذه الأرواح باقية بعد مفارقة أبدانها لا تفنى ولا تعدم وأنها منعمة أو معذبة في البرزخ فإذا كان يوم المعاد ردت إلى أبدانها فتنعم معها أو تعذب ولا تعدم ولا تفنى----ويقول بن القيم- لا تموت الأرواح فإنها خلقت للبقاء وإنما تموت الأبدان وقد دلت على هذا الأحاديث الدالة على
نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها ولو ماتت الأرواح لانقطع عنها النعيم والعذاب -----
وقال
مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب ، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه ،
وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة ، وأنها تتصل بالبدن أحياناً ، ويحصل له معها النعيم أو العذاب.------ويقول-
أجمعت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أن الروح محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مُدَبَّرَة. وهذا معلوم بالاضطرار من دينهم ،
وقد انطوى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهي القرون المفضلة على ذلك ، من غير اختلاف بينهم ، حتى نبغت نابغة من أهل الضلال فزعمت أنها قديمة غير مخلوقة --------
وقال -هل الروح خلقت قبل الجسد أم بعده:
قد اختلف العلماء في هذا:
فقال قوم: الأرواح مخلوقة قبل الأجساد.
وقال آخرون: بل الأجساد مخلوقة قبل الأرواح.
والصواب هو القول الثاني: وهو أن الأجساد خُلقت أولاً ، ثم الأرواح
ودليل هذا أن الله خلق آدم – عليه السلام – من تراب (ثم) نفخ فيه الروح.
"والقرآن والحديث والآثار تدل على أن الله سبحانه نفخ فيه من روحه بعد خلق جسده"---ويقول بن القيم عن النفس هل هى واحدة او ثلاث-
يقول أنها نفس واحدة ،
ولكن لها صفات ، فتسمى باعتبار كل صفة باسم، فتسمى (مطمئنة)
باعتبار طمأنينتها لربها بعبوديته ومحبته ، وتُسمى (لوامة)
لأنها تلوم صاحبها على التفريط ، وتُسمى (أمّارة) لأنها تأمره بالسوء ، وهذا من طبيعتها إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها- ويقول
-وسميت الروح روحا لأن بها حياة البدن وكذلك سميت الريح لما يحصل بها من الحياة وهي من ذوات الواو ولهذا تجمع على أرواح قال الشاعر
إذا ذهبت الأرواح من نحو أرضكم ... وجدت لمسرها على كبدي بردا
ومنها الروح والريحان والاستراحة فسميت النفس روحا لحصول الحياة بها وسميت نفسا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها وإما من تنفس الشيء إذا خرج فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفسا ومنه النفس بالتحريك فإن العبد كلما نام خرجت منه فإذا استيقظ رجعت إليه فإذا مات خرجت خروجا كليا فإذا دفن عادت إليه فإذا سئل خرجت فإذا بعث رجعت إليه
فالفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات------ويقول
بن القيم رحمه الله : الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظمَ تفاوت .
فمنها أرواح : في أعلى عليين في الملا الأعلى ، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي ليلة الإسراء .
ومنها : أرواح في حواصل طير خضر ، تسرح في الجنة حيث شاءت ، وهي أرواح بعض الشهداء ، لا جميعهم بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة ، لدين عليه أو غيره .
ومنهم : من يكون محبوساً على باب الجنة .
ومنهم : من يكون محبوساً في قبره .
ومنهم : من يكون مقره باب الجنة .
ومنهم : من يكون محبوساً في الأرض لم تعل روحهُ إلى الملأ الأعلى ، فإنها كانت روحاً سفلية أرضية ، فإن الأنفس الأرضية ، لا تجامع الأنفس السماوية ،كما لا تجامعها في الدنيا ، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفةَ ربها ، ومحبتَه ، وذكرَه ، والأنسَ به ، والتقربَ إليه ، بل هي أرضية سفلية ، لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك ، كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة الله ، وذكره ، والقرب إليه ، والأنس به ، تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها ، فالمرء مع من احب في البرزخ ، ويوم القيامة والله تعالى يزوج النفوس بعضَها ببعضٍ في البرزخ ، ويوم المعاد ، ويجعل روحه - يعنى المؤمن - مع النَسْم الطيب - أي الأرواحِ الطيبةِ المشاكلة - فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها ، وأخواتها ، وأصحاب عملها ، فتكون معهم هناك .
ومنها : أرواح تكون في تنور الزناة ، والزواني .
ومنها : أرواح في نهر الدم تسبح فيه ، وتلقم الحجارة .
فليس للأرواح سعيدِها ، وشقِيها مستقر واحد ، بل روح في أعلى عليين ، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض ، وأنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب ، وكان لك بها فضل اعتناء ، عرفت حجة ذلك ، ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضاً ، فإنها كلها حق يصدق بعضها بعضاً ، لكن الشأن في فهمها ، ومعرفة النفس ، وأحكامها ، وأن لها شاناً غير شأن البدن ، وأنها مع كونها في الجنة ، فهي في السماء ، وتتصل بفناء القبر وبالبدن فيه ، وهي أسرع شيء حركة ، وانتقالاً ، وصعوداً ، وهبوطاً ، وأنها تنقسم إلى :-
مرسلةٍ ومحبوسةٍ ، وعلويةٍ ، وسفليةٍ ، ولها بعد المفارقة صحةٌ ، ومرضٌ ، ولذةٌ ، ونعيمٌ ، وألمٌ ، أعظم مما كان لها حالَ اتصالها بالبدن بكثير ، فهنالك الحبسَ ، والألمَ ، والعذابَ ، والمرضَ ، والحسرةَ ، وهنالك اللذةَ ، والراحةَ ، والنعيمَ ، والإطلاقَ ، وما أشبَه حالِها في هذا البدن ، بحال ولد في بطن أمه ، وحالها بعد المفارقة ، بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار ، فلهذه الأنفسِ أربع دور ، كل دار أعظم من التي قبلها :
الدار الأولى : في بطن الأم ، وذلك الحصر ، والضيق ، والغم ، والظلمات الثلاث .
والدار الثانية : هي الدار التي نشأت فيها ، والفتها واكتسبت فيها الخير والشر ، وأسباب السعادة ، والشقاوة .
والدار الثالثة : دار البرزخ ، وهي أوسع من هذه الدار ، وأعظم ، بل نسبتها إليه ، كنسبة هذه الدار إلى الأولى .
والدار الرابعة : دار القرار ، وهي الجنة ، أو النار فلا دار بعدها