تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 44

الموضوع: بعض آيات الحب في القرآن الكريم وتفسيرها - منها صيغة "يُحِبُّ"

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة المائدة مع الآية 42 في سياقها مع التفسير :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيّ ُونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
    {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) }
    {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 42 وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ (43) إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيّ ُونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) }
    نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ فِي الْمُسَارِعِينَ فِي الْكُفْرِ، الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، الْمُقَدِّمِينَ آرَاءَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ عَلَى شَرَائِعِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ: أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِم ْ، وَقُلُوبِهِمْ خَرَابٌ خَاوِيَةٌ مِنْهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ . {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أَيْ: يَسْتَجِيبُونَ (1) لَهُ، مُنْفَعِلُونَ عَنْهُ {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أَيْ: يَسْتَجِيبُونَ لِأَقْوَامٍ آخَرِينَ لَا يَأْتُونَ (2) مَجْلِسَكَ يَا مُحَمَّدُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَتَسَمَّعُونَ الْكَلَامَ، ويُنْهُونه إِلَى أَقْوَامٍ آخَرِينَ مِمَّنْ لَا يَحْضُرُ عِنْدَكَ، مِنْ أَعْدَائِكَ {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} (3) أَيْ: يَتَأَوَّلُونَه ُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَيُبَدِّلُونَه ُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا}
    قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَقْوَامٍ مِنَ الْيَهُودِ، قَتَلُوا قَتِيلًا وَقَالُوا: تَعَالَوْا حَتَّى نَتَحَاكَمَ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَإِنْ أَفْتَانَا بِالدِّيَةِ فَخُذُوا مَا قَالَ، وَإِنْ حَكَمَ بِالْقِصَاصِ فَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُ.
    وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي اليهوديَّيْن (4) اللَّذَيْنِ زَنَيَا، وَكَانُوا قَدْ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ، مِنَ الْأَمْرِ بِرَجْمِ مَنْ أحْصن مِنْهُمْ، فَحَرَّفُوا وَاصْطَلَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى الْجَلْدِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَالتَّحْمِيمِ وَالْإِرْكَابِ عَلَى حِمَارٍ مَقْلُوبَيْنِ. فَلَمَّا وَقَعَتْ تِلْكَ الْكَائِنَةُ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: تَعَالَوْا حَتَّى نَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ، فَإِنْ حَكَمَ بِالْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ فَخُذُوا عَنْهُ، وَاجْعَلُوهُ حُجَّةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَيَكُونُ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ قَدْ حَكَمَ بَيْنَكُمْ بِذَلِكَ، وَإِنْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ فَلَا تَتَّبِعُوهُ فِي ذَلِكَ.
    وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ جُاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ " فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ ويُجْلَدون. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ. فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ (5) مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ. فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا (6) صَدَقَ (7) يا محمد، فيها آيَةُ الرَّجْمِ! فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا (1) فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْني عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيَهَا الْحِجَارَةَ.
    وَأَخْرَجَاهُ (2) وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ: "فَقَالَ لِلْيَهُودِ: مَا تَصْنَعُونَ بِهِمَا؟ " قَالُوا: نُسخّم وُجُوهَهُمَا ونُخْزِيهما. قَالَ: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آلِ عِمْرَانَ:93] فَجَاءُوا، فَقَالُوا لِرَجُلٍ مِنْهُمْ مِمَّنْ يَرْضَوْنَ أعورَ: اقْرَأْ، فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ. فَرَفَعَ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ، وَلَكِنَّا نَتَكَاتَمَهُ بَيْنَنَا. فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجما. (3)
    وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أتى بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَ يَهُود، فَقَالَ: "مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى؟ " قَالُوا: نُسَوّد وُجُوهَهُمَا ونُحَمّلهما، وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا ويُطَاف بِهِمَا، قَالَ: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قَالَ: فَجَاءُوا بِهَا، فَقَرَأُوهَا، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِآيَةِ الرَّجْمِ وَضَعَ الْفَتَى الَّذِي يَقْرَأُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَقَرَأَ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا وَرَاءَهَا. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلام -وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مُرْه فلْيرفع يَدَهُ. فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا تَحْتَهَا آيةُ الرَّجْمِ. فَأَمَرَ بِهِمَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجما. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَقِيهَا مِنَ الْحِجَارَةِ بِنَفْسِهِ. (4)
    وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الهَمْداني، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْب، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ؛ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ حَدثه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أتَى نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ، فدعَوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى القُفِّ فَأَتَاهُمْ فِي بَيْتِ المِدْارس، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّ رَجُلًا مِنَّا زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَاحْكُمْ قَالَ: وَوَضَعُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِسَادَةً، فَجَلَسَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: "ائْتُونِي بِالتَّوْرَاةِ". فَأُتِيَ بِهَا، فَنَزَعَ الْوِسَادَةَ مِنْ تَحْتِهِ، وَوَضَعَ التَّوْرَاةَ عَلَيْهَا، وَقَالَ: "آمَنْتُ بِكِ وَبِمَنْ أَنْزَلَكِ". ثُمَّ قَالَ: "ائْتُونِي بِأَعْلَمِكُمْ". فَأُتِيَ بِفَتًى شَابٍّ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ الرَّجْمِ نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ. (5)
    وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سَمِعْتُ رَجُلًا مَنَّ مُزَيْنَة، مِمَّنْ يَتْبَعُ الْعِلْمَ وَيَعِيهِ، وَنَحْنُ عِنْدَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَنَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ بِامْرَأَةٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ، فَإِنَّهُ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفِ، فَإِنْ أَفْتَانَا بفُتْيا دُونَ الرَّجْمِ قَبِلْنَاهَا، وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، قُلْنَا: فُتْيَا نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِكَ، قَالَ: فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا؟ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى أَتَى بَيْتَ مِدْارسهم، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ: "أنْشُدكم بِاللَّهِ الذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أحْصنَ؟ قَالُوا: يُحَمَّم، ويُجبَّه وَيُجْلَدُ. وَالتَّجْبِيَةُ : أَنْ يُحْمَلَ الزَّانِيَانِ عَلَى حِمَارٍ، وَتُقَابِلَ أَقْفِيَتُهُمَا ، وَيُطَافُ بهما. قال: وسكت شاب مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ (1) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَ، ألَظَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّشْدة، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَا أَوَّلَ مَا ارْتَخَصْتُمْ أَمْرَ اللَّهِ؟ " قَالَ: زَنَى ذُو قَرَابَةٍ مِنْ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِنَا، فأخَّر عَنْهُ الرَّجْمَ، ثُمَّ زَنَى رَجُلٌ فِي أَثَرِهِ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ رَجْمَهُ، فَحَالَ قَوْمُهُ دُونَهُ وَقَالُوا: لَا يُرْجَمُ صَاحِبُنَا حَتَّى تَجِيءَ بِصَاحِبِكَ فَتَرْجُمُهُ! فَاصْطَلَحُوا هَذِهِ الْعُقُوبَةَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنِّي أَحْكُمُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ" فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَبَلَغَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ: {إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ.
    رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفْظُهُ-وَابْنُ جَرِيرٍ (2)
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرّة، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيٌّ محمَّم مَجْلُودٌ، فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: "أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ " فَقَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالَ: "أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ " فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَوْلَا أَنَّكَ نَشَدتني بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ، نَجِدُ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِنَا الرَّجْمَ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا، فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشريفَ تَرَكْنَاهُ، وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَقُلْنَا: تَعَالَوْا حَتَّى نَجْعَلَ شَيْئًا نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ والوَضِيع، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى التَّحْمِيمِ وَالْجَلَدِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ". قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إِلَى قَوْلِهِ: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يَقُولُونَ: ائْتُوا مُحَمَّدًا، فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا، إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَ: فِي الْيَهُودِ إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قَالَ: فِي الْيَهُودِ (3) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قَالَ: فِي الْكُفَّارِ كُلِّهَا.
    انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ دُونَ الْبُخَارِيِّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ. (4)
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الحُمَيدي فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة، عَنْ مُجالد بْنِ (5) سَعِيدٍ الهَمْدَاني، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: زَنَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فَدَك، فَكَتَبَ أَهْلُ فَدَكَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ أَنْ سَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَمَرَكُمْ بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم بِالرَّجْمِ فَلَا تَأْخُذُوهُ عَنْهُ، تَسْأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: "أَرْسِلُوا إِلَيَّ أَعْلَمَ رَجُلَيْنِ فِيكُمْ". فَجَاءُوا بِرَجُلٍ أَعْوَرَ -يُقَالُ لَهُ: ابْنُ صُورِيَا-وَآخَرَ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْتُمَا أَعْلَمُ مَنْ قَبَلَكُمَا؟ ". فَقَالَا قَدْ دَعَانَا قَوْمُنَا لِذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا: "أَلَيْسَ عِنْدَكُمَا التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ؟ " قَالَا بَلَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَنْشُدُكُ ْ بِالَّذِي فَلَق الْبَحْرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وظَلّل عَلَيْكُمُ الغَمام، وَأَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأَنْزَلَ الْمَنَّ والسَّلْوى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ " فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: مَا نُشدْتُ بِمِثْلِهِ قَطُّ. قَالَا نَجْدُ تَرْدَادَ النَّظَرِ زَنْيَةً وَالِاعْتِنَاقَ زَنْيَةً، وَالْقُبَلَ زَنْيَةً، فَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، كَمَا يَدْخُلُ الْمَيْلَ فِي المُكْحُلة، فَقَدْ وَجَبَ الرَّجْمُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُوَ ذَاكَ". فَأَمَرَ بِهِ فَرُجمَ، فَنَزَلَتْ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1)
    وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ مُجالد، بِهِ (2) نَحْوَهُ. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَتِ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا، فَقَالَ: "ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ". فَأَتَوْا بِابْنَيْ صُورِيَا، فَنَشَدَهُمَا: "كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ؟ " قَالَا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي المُكْحُلة رُجِمَا، قَالَ: "فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَرْجُمُوهُمَا؟ " قَالَا ذَهَبَ سُلْطَانُنَا، فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّهُودِ، فَجَاءُوا أَرْبَعَةً، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهِمَا.
    ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي، مُرْسَلًا (3) وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: "فَدَعَا بِالشُّهُودِ (4) فَشَهِدُوا".
    فَهَذِهِ أَحَادِيثُ (5) دَالَّةٌ علي أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ حَكَمَ بِمُوَافَقَةِ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِلْزَامِ لَهُمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ الشَّرْعِ الْمُحَمَّدِيِّ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّ هَذَا بِوَحْيٍ خَاصٍّ مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ (6) إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَسُؤَالُهُ إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِيُقْرِرَهُمْ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ، مِمَّا تَرَاضَوْا (7) عَلَى كِتْمَانِهِ وَجَحْدِهِ، وَعَدَمِ الْعَمَلِ (8) بِهِ تِلْكَ الدُّهُورَ الطَّوِيلَةَ فَلَمَّا اعْتَرَفُوا بِهِ مَعَ عَملهم (9) عَلَى خِلَافِهِ، بِأَنَّ زَيْغَهُمْ وَعِنَادَهُمْ وَتَكْذِيبَهُمْ لِمَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ، وَعُدُولِهِمْ إِلَى تَحْكِيمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ عَنْ هَوًى مِنْهُمْ وَشَهْوَةٍ لِمُوَافَقَةِ آرَائِهِمْ، لَا لِاعْتِقَادِهِم ْ صِحَّةَ مَا يَحْكُمُ بِهِ لِهَذَا قَالُوا (10) {إِنْ} (11) أُوتِيتُمْ هَذَا وَالتَّحْمِيمَ {فَخُذُوهُ} أَيِ: اقْبَلُوهُ {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} أَيْ: مِنْ قَبُولِهِ وَاتِّبَاعِهِ.
    قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}
    أَيِ: الْبَاطِلُ {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أَيِ: الْحَرَامِ، وَهُوَ الرِّشْوَةُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ (1) أَيْ: وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ كَيْفَ يُطَهِّرُ اللَّهُ قَلْبَهُ؟ وَأَنَّى يَسْتَجِيبُ لَهُ.
    ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ: {فَإِنْ جَاءُوكَ} أَيْ: يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْكَ {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} أَيْ: فَلَا عَلَيْكَ أَلَّا تَحْكُمَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ بِتَحَاكُمِهِمْ إِلَيْكَ اتِّبَاعَ الْحَقِّ، بَلْ مَا وَافَقَ (2) هَوَاهُمْ.
    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وعِكْرِمَة، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ} [الْمَائِدَةِ:49] ، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أَيْ: بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَإِنْ كَانُوا ظَلَمَةً خَارِجِينَ عَنْ طَرِيقِ (3) الْعَدْلِ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
    ثُمَّ قَالَ تَعَالَى -مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِي آرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَمَقَاصِدِهِمُ (4) الزَّائِغَةِ، فِي تَرْكِهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ مِنَ الْكُتَّابِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ، الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجُوا عَنْ حُكْمِهِ وَعَدَلُوا إِلَى غَيْرِهِ، مِمَّا يَعْتَقِدُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بُطْلَانَهُ وَعَدَمِ لُزُومِهِ لَهُمْ -فَقَالَ: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ}
    ثُمَّ مَدَحَ التَّوْرَاةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، فَقَالَ: {إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} أَيْ: لَا يَخْرُجُونَ عَنْ حُكْمِهَا وَلَا يُبَدِّلُونَهَا وَلَا يُحَرِّفُونَهَا {وَالرَّبَّانِي ُونَ وَالأحْبَارُ} أَيْ: وَكَذَلِكَ الرَّبَّانِيُّو نَ مِنْهُمْ وَهُمُ الْعِبَادُ الْعُلَمَاءُ، وَالْأَحْبَارُ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ (5) {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ: بِمَا اسْتُودِعُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يُظْهِرُوهُ وَيَعْمَلُوا بِهِ {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} أَيْ: لَا تَخَافُوا مِنْهُمْ وَخَافُونِي (6) {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فِيهِ قَوْلَانِ سَيَأْتِي بَيَانُهُمَا. سَبَبٌ آخَرُ لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ. (7)
    قَالَ (8) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبيد اللَّهِ (9) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وَ {فَأُولَئِكَ (10) هُمُ الظَّالِمُونَ} [الْمَائِدَةِ:45] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الْمَائِدَةِ:47] (11) قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الطَّائِفَتَيْن ِ مِنَ الْيَهُودِ، كَانَتْ إِحْدَاهُمَا قَدْ قَهَرَتِ الْأُخْرَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، حَتَّى ارْتَضَوْا أَوِ اصْطَلَحُوا (12) عَلَى أَنَّ كُلَّ قَتِيلٍ قَتَلَتْهُ الْعَزِيزَةُ مِنَ الذَّلِيلَةِ فديته خمسون وَسَقا، وَكُلُّ قَتِيلٍ قَتَلَتْهُ الذَّلِيلَةُ مِنَ الْعَزِيزَةِ فَدِيَتُهُ مِائَةُ وَسْقٍ، فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَذَلَّتِ الطَّائِفَتَانِ كِلْتَاهُمَا، لِمَقْدِمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَوْمَئِذَ لَمْ يَظْهَرْ، وَلَمْ يُوَطِّئْهُمَا عَلَيْهِ، وَهُوَ (1) فِي الصُّلْحِ، فَقَتَلَتِ الذَّلِيلَةُ مِنَ الْعَزِيزَةِ قَتِيلًا فَأَرْسَلَتِ الْعَزِيزَةُ إِلَى الذَّلِيلَةِ: أَنِ ابْعَثُوا لَنَا بِمِائَةٍ وَسْقٍ، فَقَالَتِ الذَّلِيلَةُ: وَهَلْ كَانَ هَذَا فِي حَيَّيْنِ قَطُّ دِينُهُمَا وَاحِدٌ، وَنَسَبُهُمَا وَاحِدٌ، وَبَلَدُهُمَا وَاحِدٌ: دِيَةُ بَعْضِهِمْ نِصْفُ دِيَةِ بَعْضٍ. إِنَّمَا أَعْطَيْنَاكُمْ هَذَا ضَيْمًا مِنْكُمْ لَنَا، وفَرقًا مِنْكُمْ، فَأَمَّا إِذْ قَدِمَ مُحَمَّدٌ فَلَا نُعْطِيكُمْ ذَلِكَ، فَكَادَتِ الْحَرْبُ تَهِيجُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ ارْتَضَوْا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَتِ الْعَزِيزَةُ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ بِمُعْطِيكُمْ مِنْهُمْ ضِعْفَ مَا يُعْطِيهِمْ مِنْكُمْ (3) وَلَقَدْ صَدَقُوا، مَا أَعْطَوْنَا هَذَا إِلَّا ضَيْمًا مِنَّا وَقَهْرًا لَهُمْ، فَدَسُّوا إِلَى مُحَمَّدٍ: مَنْ يَخْبُر لَكُمْ رَأْيَهُ، إِنْ أَعْطَاكُمْ مَا تُرِيدُونَ حَكمتموه وَإِنْ لَمْ يُعْطِكُمْ حُذّرتم فَلَمْ تُحَكِّمُوهُ. فَدَسُّوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ ليَخْبُروا لَهُمْ رَأْيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جَاءُوا (4) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِمْ كُلِّهِ، وَمَا أَرَادُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إِلَى قَوْلِهِ: {الْفَاسِقُونَ} فَفِيهِمْ -وَاللَّهِ-أُنْزِلَ، وَإِيَّاهُمْ عَنَى اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ. (5)
    وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، بِنَحْوِهِ.
    وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا هَنَّاد بْنُ السَّرِيِّ وَأَبُو كُرَيْب (6) قَالَا حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْر، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسحاق، حَدَّثَنِي دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ الْآيَاتِ فِي "الْمَائِدَةِ" ، قَوْلُهُ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إِلَى {الْمُقْسِطِينَ} إِنَّمَا أُنْزِلَتْ (7) فِي الدِّيَةِ فِي بَنِي النَّضير وَبَنِي قُرَيْظَة، وَذَلِكَ أَنَّ قَتْلَى (8) بَنِي النَّضِيرِ، كَانَ لَهُمْ شَرَفٌ، تُؤدَى الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَأَنْ قُرَيْظَةَ كَانُوا يُودَوْن نِصْفَ الدِّيَةِ فَتَحَاكَمُوا فِي ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيهِمْ، فَحَمَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ الدِّيَةَ فِي ذَلِكَ سَوَاءً-وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ.
    وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ. (9) (10)
    ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ (11) بْنُ مُوسَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سِمَاك، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ (12) وَكَانَتِ النَّضِيرُ أَشْرَفَ مِنْ قُرَيْظَةَ، فَكَانَ إِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْظَةَ رَجُلًا مِنَ النَّضِيرِ قُتِلَ بِهِ، وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ رَجُلًا مِنْ قُرَيْظَةَ، وُدِيَ مِائَةَ وَسْقٍ تَمْرٍ. فَلَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ رَجُلًا مِنْ قُرَيْظَةَ، فَقَالُوا: ادْفَعُوهُ إِلَيْنَا (13) فَقَالُوا: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَنَزَلَتْ: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}
    وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ حِبَّان، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرِكِ ، مِنْ حديث عبيد الله بن موسى، بِنَحْوِهِ. (1)
    وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، ومُقاتل بْنُ حَيَّان، وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
    وَقَدْ رَوَى العَوْفِيّ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيَّيْ نِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ اجْتَمَعَ هَذَانِ السَّبَبَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (2) إِلَى آخِرِهَا، وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّ (3) سَبَبَ النُّزُولِ قَضِيَّةُ الْقِصَاصِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
    وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو مِجْلزٍ، وَأَبُو رَجاء العُطارِدي، وعِكْرِمة، وَعَبِيدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ -زَادَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَهِيَ عَلَيْنَا وَاجِبَةٌ.
    وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ (4) عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَضِيَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَا. رَوَاهُ (5) ابْنُ جَرِيرٍ.
    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا هُشَيْم، أَخْبَرْنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيل، عَنْ عَلْقَمَة وَمَسْرُوقٍ (6) أَنَّهُمَا سَأَلَا ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الرِّشْوَةِ فَقَالَ: مِنَ السُّحْت: قَالَ: فَقَالَا وَفِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: ذَاكَ الْكُفْرُ! ثُمَّ تَلَا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
    وَقَالَ السُّدِّي: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} يَقُولُ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزلتُ (7) فَتَرَكَهُ عَمْدًا، أَوْ جَارَ وَهُوَ يَعْلَمُ، فَهُوَ مِنَ الْكَافِرِينَ [بِهِ] (8)
    وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَ: مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ. وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
    ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّ الْآيَةَ الْمُرَادُ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ، أَوْ مَنْ جَحَدَ حُكْمَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَ فِي الْكِتَابِ.
    وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ} قَالَ: لِلْمُسْلِمِينَ .
    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَ: هَذَا فِي الْمُسْلِمِينَ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
    قَالَ: هَذَا فِي الْيَهُودِ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قَالَ: هَذَا فِي النَّصَارَى.
    وَكَذَا رَوَاهُ هُشَيْم وَالثَّوْرِيُّ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ.
    وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا: أَخْبَرْنَا مَعْمَر، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ (1) عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ [بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ] } (2) قَالَ: هِيَ بِهِ كُفرٌ -قَالَ ابْنُ طَاوُسٍ: وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.
    وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج (3) عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
    وَقَالَ وَكِيع عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ طَاوُسٍ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ. (4)
    وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَير، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَ: لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ.
    وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. (5)
    {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) }
    وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا وُبّخَتْ بِهِ الْيَهُودُ وَقُرِّعُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ فِي نَصِّ التَّوْرَاةِ: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. وَهُمْ يُخَالِفُونَ ذَلِكَ عَمْدًا وَعِنَادًا، ويُقيدون النَّضْرِيَّ مِنَ الْقُرَظِيِّ، وَلَا يُقيدون الْقُرَظِيَّ مِنَ النَّضْرِيِّ، بَلْ يَعْدِلُونَ إِلَى الدِّيَةِ، كَمَا خَالَفُوا حُكْمَ التَّوْرَاةِ الْمَنْصُوصَ عِنْدَهُمْ فِي رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَعَدَلُوا إِلَى مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ وَالْإِشْهَارِ؛ وَلِهَذَا قَالَ هُنَاكَ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} لِأَنَّهُمْ جَحَدُوا حُكْمَ اللَّهِ قَصْدًا مِنْهُمْ وَعِنَادًا وَعَمْدًا، وَقَالَ هَاهُنَا: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لِأَنَّهُمْ لَمْ يُنْصِفُوا الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِيهِ، فَخَالَفُوا وَظَلَمُوا، وَتَعَدَّى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. (6)
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يزيد، عن أبي علي بْنِ يَزِيدَ -أَخِي يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ-عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهَا: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} نَصَبَ النَّفْسَ وَرَفَعَ الْعَيْنَ.
    وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ (1) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
    وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: تَفَرَّدَ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِهَذَا الْحَدِيثِ. (2)
    وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ ذَهَبَ مِنَ الْأُصُولِيِّين َ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، إِذَا حُكِيَ مُقَرَّرًا وَلَمْ يُنْسَخْ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَكَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الِاسْفَرَايِين ِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، حَيْثُ كَانَ الْحُكْمُ عِنْدَنَا عَلَى وَفْقِهَا فِي الْجِنَايَاتِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأَئِمَّةِ.
    وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى النَّاسِ عَامَّةٌ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
    وَقَدْ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ ثَالِثُهَا: أَنَّ شَرْعَ إِبْرَاهِيمَ حُجَّةٌ دُونَ غَيْرِهِ، وَصَحَّحَ مِنْهَا عَدَمَ الْحُجِّيَّةِ، وَنَقَلَهَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الِاسْفَرَايِين ِيُّ أَقْوَالًا عَنِ الشَّافِعِيِّ وَرَجَّحَ أَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِهِ "الشَّامِلِ" إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَقَدِ احْتَجَّ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَكَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: "أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ" وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "الْمُسْلِمُو َ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ" (3) وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
    وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَتَلَ الْمَرْأَةَ لَا يُقْتَلُ بِهَا، إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ وَلِيُّهَا إِلَى أَوْلِيَائِهِ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ دِيَتَهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ [عَنْهُ] (4) وَحُكِيَ (5) [هَذَا] (6) عَنِ الْحَسَنِ [الْبَصْرِيِّ] (7) وَعَطَاءٍ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ (8) [بِهِ] (9) أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَتَلَ الْمَرْأَةَ لَا يُقْتَلُ بِهَا، بَلْ تَجِبُ (10) دِيَتُهَا.
    وَهَكَذَا احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ الذِّمِّيِّ، وَعَلَى قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَقَدْ خَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فِيهِمَا، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ" (11) وَأَمَّا الْعَبْدُ فَعَنِ السَّلَفِ فِي (12) آثار مُتَعَدِّدَةٍ: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُقيدون الْعَبْدَ مِنَ الْحَرِّ، وَلَا يَقْتُلُونَ حَرًّا بِعَبْدٍ، وَجَاءَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ لَا تَصِحُّ، وَحَكَى الشَّافِعِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُخَصِّصٍ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
    وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ (1) ابْنُ الصَّبَّاغِ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
    حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيّ، حَدَّثَنَا حُمَيْد، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ الرُّبَيع عَمّة أَنَسٍ كَسَرَتْ ثَنيَّة جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إِلَى الْقَوْمِ الْعَفْوَ، فَأَبَوْا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "الْقِصَاصُ". فَقَالَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَكْسِرُ ثَنِيَّةَ فُلَانَةَ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ". قَالَ: فَقَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا تَكْسِرُ ثَنِيَّةَ فُلَانَةَ. قَالَ: فَرَضِيَ الْقَوْمُ، فَعَفَوْا وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبَّره".
    أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (2) وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الْأَنْصَارِيُّ ، فِي الْجُزْءِ الْمَشْهُورِ مِنْ حَدِيثِهِ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ الرُّبَيع بِنْتَ النَّضِرِ عَمَّته لَطَمَتْ جَارِيَةً فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا فَعَرَضُوا عَلَيْهِمُ الْأَرْشَ، فَأَبَوْا فَطَلَبُوا الْأَرْشَ وَالْعَفْوَ فَأَبَوْا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ، فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَكْسِرُ ثَنِيَّةَ الرَّبِيعِ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تَكْسِرْ ثَنِيَّتَهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ". فَعَفَا الْقَوْمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لِأَبَرَّهُ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ . فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ:
    حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضرة، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ غُلَامًا لِأُنَاسٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لِأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَى أَهْلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أُنَاسٌ فُقَرَاءُ، فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ شَيْئًا. وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عن إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِي ِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ، بِهِ (3) وَهَذَا إِسْنَادٌ قَوِيٌّ رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُشْكِلٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنِ الْجَانِيَ كَانَ قَبْلَ الْبُلُوغِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّهُ تَحَمَّلَ أَرْشَ مَا نَقَصَ مِنْ غُلَامِ الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الْفُقَرَاءِ، أَوِ اسْتَعْفَاهُمْ عَنْهُ.
    وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُقْتَلُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَتُفْقَأُ الْعَيْنُ بِالْعَيْنِ، وَيُقْطَعُ الْأَنْفُ بِالْأَنْفِ، وَتُنْزَعُ السِّنُّ بِالسِّنِّ، وَتُقْتَصُّ الْجِرَاحُ بِالْجِرَاحِ.
    فَهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ أَحْرَارُ الْمُسْلِمِينَ [بِهِ] (4) فِيمَا بَيْنَهُمْ، رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، إِذَا كَانَ عَمْدًا فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَبِيدُ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِذَا كَانَ عَمْدًا، فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ (5) وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
    قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ:
    الْجِرَاحُ تَارَةً تَكُونُ فِي مَفْصِل، فَيَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ بِالْإِجْمَاعِ، كَقَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْكَفِّ وَالْقَدَمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْجِرَاحُ (1) فِي مَفْصِلٍ بَلْ فِي عَظْمٍ، فَقَالَ مَالِكٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ الْقِصَاصُ إِلَّا فِي الْفَخِذِ وَشَبَهِهَا؛ لِأَنَّهُ مُخَوِّفٌ خَطِرٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِظَامِ (2) إِلَّا فِي السِّنِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُبِ الْقِصَاصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِظَامِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ يَقُولُ عَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِي، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
    وَقَدِ احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، بِحَدِيثِ الرُّبَيع بِنْتِ النَّضْرِ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إِلَّا فِي السِّنِّ. وحديثُ الرَّبِيعِ لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ بِلَفْظِ: "كَسَرَتْ ثَنيَّة جَارِيَةٍ" وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ (3) سَقَطَتْ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ -وَالْحَالَةُ هَذِهِ-بِالْإِجْمَاعِ. وَتَمَّمُوا الدَّلَالَةَ. بِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاش، عَنْ دهْثَم (4) بْنِ قُرَّان، عَنْ نِمْرَان بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ جَارِيَةَ بْنِ ظَفَرٍ الْحَنَفِيِّ؛ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ رَجُلًا عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ، فَقَطَعَهَا، فَاسْتَعْدَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُريد الْقِصَاصَ. فَقَالَ: "خُذِ الدِّيَةَ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا". وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ. (5)
    وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ لِهَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا الْإِسْنَادِ، وَدَهْثَم (6) بْنُ قُرَّان العُكلي ضَعِيفٌ أَعْرَابِيٌّ، لَيْسَ حَدِيثُهُ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ، وَنَمِرَانُ بْنُ جَارِيَةَ ضَعِيفٌ أَعْرَابِيٌّ أَيْضًا، وَأَبُوهُ جَارِيَةُ بْنُ ظُفَرَ مَذْكُورٌ فِي الصَّحَابَةِ. (7)
    ثُمَّ قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنَ الْجِرَاحَةِ حَتَّى تَنْدَمِل جِرَاحُهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ ثُمَّ زَادَ جُرْحُهُ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، فَذَكَرَ حَدِيثًا، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَكَرَ عَمْرو (8) بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ؛ أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَقِدْنِي. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَعْجَلْ حَتَّى يَبْرَأَ جُرْحُكَ". قَالَ: فَأَبَى الرَّجُلُ إِلَّا أَنْ يَسْتَقِيدَ، فَأَقَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، قَالَ: فَعَرَجَ الْمُسْتَقِيدُ وَبَرَأَ الْمُسْتَقَادُ مِنْهُ، فَأَتَى الْمُسْتَقِيدُ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَرَجْتُ وَبَرَأَ صَاحِبِي. فَقَالَ: "قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي، فَأَبْعَدَكَ اللَّهُ وَبَطَلَ عَرَجُكَ". ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. (9)
    مَسْأَلَةٌ:
    فَلَوِ اقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الْجَانِي، فَمَاتَ مِنَ الْقِصَاصِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْن ِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْمُقْتَصِّ. وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَالْحَارِثُ العُكْلِي، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخعي، وَالْحَكَمُ بْنُ عتَيبة (1) وَعُثْمَانُ البَتِّيّ: يَسْقُطُ عَنِ الْمُقْتَصِّ لَهُ قَدْرُ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ، وَيَجِبُ الْبَاقِي فِي مَالِهِ.
    وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} يَقُولُ: فَمَنْ عَفَا عَنْهُ، وَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْمَطْلُوبِ، وَأَجْرٌ لِلطَّالِبِ.
    وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قَالَ: كَفَّارَةٌ لِلْجَارِحِ، وَأَجْرٌ الْمَجْرُوحِ (2) عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عن خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ -فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ-وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ-نَحْوُ ذَلِكَ الْوَجْهِ الثَّانِي، ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
    حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَاذَانَ، حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ -يَعْنِي ابْنَ عُمَارَةَ-حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُمَارَةَ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَفْصَةَ-عَنْ رَجُلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ (3) {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قَالَ: لِلْمَجْرُوحِ. وَرَوَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ -فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ-وَأَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ ، نَحْوَ ذَلِكَ.
    وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ، مِثْلَهُ.
    وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسٍ -يَعْنِي بْنَ مُسْلِمٍ-قَالَ: سَمِعْتُ طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ يُحَدِّثُ، عَنِ الْهَيْثَمِ أَبِي (4) الْعُرْيَانِ النَّخَعِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عِنْدَ مُعَاوِيَةَ أَحْمَرَ شَبِيهًا بِالْمَوَالِي، فَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ [عَزَّ وَجَلَّ] (5) {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قَالَ: يَهْدِمُ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا تَصدق بِهِ.
    وَهَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ.
    وَقَالَ ابْنُ مَرْدُويَه: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُحَمَّدٍ المُجَاشِعي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَجَّاجِ الْمَهْرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الجُعْفي، حَدَّثَنَا مُعلَّى -يَعْنِي ابْنَ هِلَالٍ (6) -أَنَّهُ سَمِعَ أَبَانَ بْنَ تَغْلِبَ، عَنْ أَبِي الْعُرْيَانِ الْهَيْثَمِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -وَعَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قَالَ: هُوَ الَّذِي تُكْسَرُ سِنَّهُ، أَوْ تُقْطَعُ يَدُهُ، أَوْ يُقْطَعُ الشَّيْءُ (7) مِنْهُ، أَوْ يُجْرَحُ فِي بَدَنِهِ فَيَعْفُو عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ فَيُحَطّ عَنْهُ قَدْرُ خَطَايَاهُ، فَإِنْ كَانَ رُبْعُ الدِّيَةِ فَرُبْعُ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَ الثُّلْثُ فَثُلْثُ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتِ الدِّيَةُ حَطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَذَلِكَ. (1)
    ثُمَّ قَالَ (2) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السَّفَر قَالَ: دَفَعَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْدَقَّتْ ثَنِيَّتُهُ، فَرَفَعَهُ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِ الرَّجُلُ قَالَ: شَأْنُكَ وَصَاحِبُكَ. قَالَ: وَأَبُو الدَّرْدَاءِ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ، فَيَهَبُهُ، إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً". فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي، فَخَلَّى سَبِيلَ الْقُرَشِيِّ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مُرُوا لَهُ بِمَالٍ.
    هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ (3) وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي السَّفر قَالَ: كَسَرَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ سِنَّ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ القرشيُّ: إِنَّ هَذَا دَقَّ سِنِّي؟ قَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّا سَنُرْضِيهِ. فَأَلَحَّ الْأَنْصَارِيُّ ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: شَأْنُكَ بِصَاحِبِكَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ جَالِسٌ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ فِي (4) جَسَدِهِ، فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً". فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : فَإِنِّي، يَعْنِي: قَدْ عَفَوْتُ.
    وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ وَكِيع، كِلَاهُمَا عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، بِهِ (5) ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا أَعْرِفُ لِأَبِي السَّفَر سَمَاعًا مَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
    وَقَالَ [أَبُو بَكْرِ] (6) بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا دَعْلَج بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ ظَبْيَانَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ؛ أَنَّ رَجُلًا هَتَم فَمَهُ رَجُلٌ، عَلَى عَهْدِ مُعَاوِيَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فأعْطِي دِيَةً، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَقْتَصَّ، فَأُعْطِي دِيَتَيْنِ، فَأَبَى، فَأُعْطِي ثَلَاثًا، فَأَبَى، فَحَدَّثَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ (7) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَصَدَّقَ بِدَمٍ فَمَا دَوُنَهُ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى يَوْمِ يَمُوتُ". (8)
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيج بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا هُشَيْم، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ؛ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ رَجُلٍ يُجْرَحُ مِنْ (9) جسده جراحة، فيتصدق بِهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ.
    وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْر، عَنِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ خِدَاش، عَنْ هُشَيْم، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُغِيرَةِ، بِهِ. (1)
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ مَجَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ المحرَّر بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أُصِيبَ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ، فَتَرَكَهُ لِلَّهِ، كَانَ كَفَّارَةً لَهُ". (2)
    وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قَدْ تَقَدَّمَ عَنْ طَاوُسٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُمَا قَالَا كُفْر دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دون ظلم، وفسق دون فسق.

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة المائدة مع الآيات 64-66 وتفسيرها :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَا هُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
    {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُ مْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) }
    يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ -عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَة ُ (1) إِلَى يَوْمِ القيامة-بِأَنَّهُمْ وَصَفُوا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ وَتَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا، بِأَنَّهُ بَخِيلٌ. كَمَا وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ فَقِيرٌ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَعَبَّرُوا عَنِ الْبُخْلِ
    بِقَوْلِهِمْ: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}
    قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطِّهْرَانِيُّ ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ العَدَنِيّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَة قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {مَغْلُولَةٌ} أَيْ: بَخِيلَةٌ.
    وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} قَالَ: لَا يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّ يَدَ اللَّهِ مُوثَقَةٌ (1) وَلَكِنْ يَقُولُونَ: بَخِيلٌ أَمْسَكَ مَا عِنْدَهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
    وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَة، وَقَتَادَةَ، والسُّدِّي، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ وَقَرَأَ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الْإِسْرَاءِ:29] . يَعْنِي: أَنَّهُ يَنْهَى (2) عَنِ الْبُخْلِ وَعَنِ التَّبْذِيرِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وعبَّر عَنِ الْبُخْلِ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} .
    وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي فنْحاص الْيَهُودِيِّ، عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ الَّذِي قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آلِ عِمْرَانَ:181] فَضَرَبَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
    وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، يُقَالُ لَهُ: شَاسُ (3) بْنُ قَيْسٍ: إِنَّ رَبَّكَ بَخِيلٌ لَا يُنْفِقُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}
    وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِمْ مَا قَالُوهُ، وَقَابَلَهُمْ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ وَافْتَرَوْهُ وَائْتَفَكُوهُ، فَقَالَ: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} وَهَكَذَا (4) وَقَعَ لَهُمْ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْبُخْلِ وَالْحَسَدِ وَالْجُبْنِ وَالذِّلَّةِ (5) أَمْرٌ عَظِيمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (6) ] } [النِّسَاءِ:53 -55] وَقَالَ تَعَالَى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاس (7) ] } الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ:112] .
    ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} أَيْ: بَلْ هُوَ الْوَاسِعُ الْفَضْلِ، الْجَزِيلُ الْعَطَاءِ، الَّذِي مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَهُ خَزَائِنُهُ، وَهُوَ الَّذِي مَا بِخَلْقِهِ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي خَلَقَ لَنَا كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فِي لَيْلِنَا وَنَهَارِنَا، وَحَضَرِنَا وَسَفَرِنَا، وَفِي جَمِيعِ أَحْوَالِنَا، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (8) {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} الْآيَةَ [إِبْرَاهِيمَ: 34] . وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حنبل:
    حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبه قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلأى لَا يَغِيضُها نَفَقَةٌ، سَحَّاء اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِض مَا فِي يَمِينِهِ" قَالَ: "وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَفِي يَدِهِ الْأُخْرَى القبْض، يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ": قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ" أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، الْبُخَارِيُّ في "التوحيد" عن علي بن الْمَدِينِيِّ، وَمُسْلِمٌ فِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، وَكِلَاهُمَا (1) عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِهِ. (2)
    وَقَوْلُهُ: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أَيْ: يَكُونُ مَا أَتَاكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ مِنَ النِّعْمَةِ نِقْمَةٌ فِي حَقِّ أَعْدَائِكَ مِنَ الْيَهُودِ وَأَشْبَاهِهِمْ ، فَكَمَا يَزْدَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا صَالِحًا وَعِلْمًا نَافِعًا، يَزْدَادُ بِهِ الْكَفَرَةُ الْحَاسِدُونَ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ {طُغْيَانًا} وَهُوَ: الْمُبَالَغَةُ وَالْمُجَاوَزَة ُ لِلْحَدِّ فِي الْأَشْيَاءِ {وَكُفْرًا} أَيْ: تَكْذِيبًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فُصِّلَتْ:44] وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الْإِسْرَاءِ:82] .
    وَقَوْلُهُ: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} يَعْنِي: أَنَّهُ لَا تَجْتَمِعُ قُلُوبُهُمْ، بَلِ الْعَدَاوَةُ وَاقِعَةٌ بَيْنَ فِرقهم بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ دَائِمًا لِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى حَقٍّ، وَقَدْ خَالَفُوكَ وَكَذَّبُوكَ.
    وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعي: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} قَالَ: الْخُصُومَاتُ وَالْجِدَالُ فِي الدِّينِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
    وَقَوْلُهُ: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} أَيْ: كُلَّمَا عَقَّدُوا أَسْبَابًا يَكِيدُونَكَ بِهَا، وَكُلَّمَا أَبْرَمُوا أُمُورًا يُحَارِبُونَكَ بِهَا يُبْطِلُهَا اللَّهُ وَيَرُدُّ كَيْدَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَحِيقُ مَكْرُهُمُ السَّيِّئُ بِهِمْ.
    {وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أَيْ: مِنْ سَجِيَّتِهِمْ أَنَّهُمْ دَائِمًا يسعوْن فِي الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ.
    ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَلَا {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} أَيْ: لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاتَّقَوْا مَا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُ مْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أَيْ: لَأَزَلْنَا عَنْهُمُ الْمَحْذُورَ ولحصّلْناهم (3) الْمَقْصُودَ.
    {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُ: يَعْنِي الْقُرْآنَ. {لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} أَيْ: لأنهم عَمِلُوا بِمَا فِي الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَغْيِيرٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّ كُتُبَهُمْ نَاطِقَةٌ بِتَصْدِيقِهِ وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ حَتْمًا لَا مَحَالَةَ.
    وَقَوْلُهُ: {لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} يَعْنِي بِذَلِكَ (1) كَثْرَةَ الرِّزْقِ النَّازِلِ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّابِتِ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
    وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} يَعْنِي: لَأَرْسَلَ [السَّمَاءَ] (2) عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا، {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} يَعْنِي: يُخْرِجُ مِنَ الْأَرْضِ بَرَكَاتِهَا.
    وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (3) {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ [وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] } [الْأَعْرَافِ: 96] ، (4) وَقَالَ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] } [الرُّومِ:41] . (5)
    وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ {لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} يَعْنِي: مِنْ غَيْرِ كَد وَلَا تَعَبٍ وَلَا شَقَاءٍ وَلَا عَنَاءٍ.
    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: لَكَانُوا فِي (6) الْخَيْرِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: "هُوَ فِي الْخَيْرِ مِنْ قرَنه (7) إِلَى قَدَمِهِ". ثُمَّ رُدَّ هَذَا الْقَوْلُ لِمُخَالَفَةِ أَقْوَالِ السَّلَفِ (8)
    وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ} حَدِيثَ (9) عَلْقَمَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُوشِكُ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ". فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يُرْفَعُ الْعِلْمُ وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ وَعَلَّمْنَاهُ أَبْنَاءَنَا؟! قَالَ (10) ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ لَبِيدٍ! إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ (11) مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَوَلَيِسَتِ (12) التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ حِينَ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ" ثُمَّ قَرَأَ {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ}
    هَكَذَا أَوْرَدَهُ (13) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدِيثًا (14) مُعَلَّقًا (15) مِنْ أَوَّلِ إِسْنَادِهِ، مُرْسَلًا فِي آخِرِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ متصلا موصولا فقال: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَعْد، عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيد قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَقَالَ: "وَذَاكَ عِنْدَ (1) ذَهَابِ الْعِلْمِ". قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ ونُقْرئه أَبْنَاءَنَا، ويُقْرئه أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ لَبِيدٍ، إِنْ كنتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ لَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ مِمَّا فِيهِمَا بِشَيْءٍ"
    وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شيبة، عن وكيع بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ (2) وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
    وَقَوْلُهُ: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الْأَعْرَافِ:159] ، وَكَقَوْلِهِ عَنْ أَتْبَاعِ عِيسَى: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] (3) } [الْحَدِيدِ:27] . فَجَعَلَ أَعْلَى مَقَامَاتِهِمُ الِاقْتِصَادَ، وَهُوَ (4) أَوْسَطُ مَقَامَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ رُتْبَةُ السَّابِقَيْنِ (5) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الْآيَةَ [فَاطِرٍ:32، 33] . وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.
    وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويه: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ الضَّبِّي، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَر، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "تَفَرَّقَتْ أُمَّةُ مُوسَى عَلَى إِحْدَى (6) وَسَبْعِينَ مِلَّةً، سَبْعُونَ مِنْهَا فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَتَفَرَّقَتْ أُمَّةُ عِيسَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ مِنْهَا فِي النَّارِ، وَتَعْلُو أُمَّتِي عَلَى الْفِرْقَتَيْنِ جَمِيعًا. وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ". قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْجَمَاعَات الْجَمَاعَاتُ".
    قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ (7) كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَلَا فِيهِ قُرْآنًا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُ مْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} وَتَلَا أَيْضًا: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الْأَعْرَافِ:181] يَعْنِي: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (8)
    وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَبِهَذَا السِّيَاقِ. وحديثُ افْتِرَاقِ الْأُمَمِ إِلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ مَرْوي مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة المائدة مع الآيتان 87-88 وتفسيرهما :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) }
    قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَهْط مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: نَقْطَعُ مَذاكيرنا، وَنَتْرُكُ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، وَنَسِيحُ فِي الْأَرْضِ كَمَا يَفْعَلُ الرُّهْبَانُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ: فَقَالُوا: نَعَمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَمَنْ أَخَذَ بسُنَّتِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي". رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
    وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ ذَلِكَ.
    وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ (3) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَنَامُ وَأَقُومُ، وَآكُلُ اللَّحْمَ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي". (4)
    وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ الْأَنْصَارِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مُخَلَّد، عَنْ عُثْمَانَ -يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ-أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي إِذَا أَكَلْتُ اللَّحْمَ (5) انتشرتُ لِلنِّسَاءِ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ عَلَيَّ اللَّحْمَ، فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}
    وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعًا، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الفَلاس، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ، به.
    وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ (1) وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلًا وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ووَكِيع، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْس بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلَّا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَرَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدِ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] } (2) .
    أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ (3) . وَهَذَا كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرحبيل قَالَ: جَاءَ مَعْقل بْنُ مقرِّن إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنِّي حَرَّمْتُ فِرَاشِي. فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] } (4) .
    وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَجِيءَ بضَرْع، فَتَنَحَّى رَجُلٌ، فَقَالَ [لَهُ] (5) عَبْدُ اللَّهِ: اُدْن. فَقَالَ: إِنِّي حَرَّمْتُ أَنْ آكُلَهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ادْنُ فاطعَم، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الْآيَةَ.
    رَوَاهُنَّ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَرَوَى الْحَاكِمُ هَذَا الْأَثَرَ الأخير في مستدركه، من طريق إسحاق بن رَاهْوَيْهِ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. (6)
    ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ حَدَّثَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ ضَافَهُ (7) ضَيْفٌ مِنْ أَهْلِهِ، وَهُوَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَهُمْ لَمْ يُطْعموا ضَيْفَهم انْتِظَارًا لَهُ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: حَبَسْتِ ضَيْفِي مِنْ أَجْلِي، هُوَ عليَّ حَرَامٌ. فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: هُوَ عليَّ حَرَامٌ. وَقَالَ الضَّيْفُ: هُوَ عليَّ حَرَامٌ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ وَضَعَ يَدَهَ وَقَالَ: كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ. ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَنْزَلَ (8) اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وَهَذَا أَثَرٌ مُنْقَطِعٌ. (9)
    وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي قِصَّةِ الصِّدِّيقِ [رَضِيَ اللَّهُ عنه] (10) مع أضيافه شبيه (11) بهذا (12) وفيه، وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلَالَةٌ لِمَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ إِلَى أَنَّ مَنْ حَرَّمَ مَأْكَلًا أَوْ مَلْبَسًا أَوْ شَيْئًا مَا عَدَا النِّسَاءَ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} ؛ وَلِأَنَّ الَّذِي حَرَّم اللَّحْمَ عَلَى نَفْسِهِ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ-لَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّارَةٍ. وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ (1) إِلَى أَنَّ من حرم مأكلا أو مشربًا أو أَوْ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا إِذَا الْتَزَمَ تَرْكَهُ بِالْيَمِينِ فَكَذَلِكَ يُؤَاخَذُ بِمُجَرَّدِ تَحْرِيمِهِ عَلَى نَفْسِهِ إِلْزَامًا لَهُ بِمَا الْتَزَمَهُ، كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التَّحْرِيمِ:1] . ثُمَّ قَالَ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} الْآيَةَ [التَّحْرِيمِ:2] . وَكَذَلِكَ (2) هَاهُنَا لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحُكْمَ عَقَّبَهُ بِالْآيَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِتَكْفِيرِ الْيَمِينِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْيَمِينِ فِي اقْتِضَاءِ التَّكْفِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَرَادَ رِجَالٌ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، أَنَّ يَتَبَتَّلوا ويخصُوا أَنْفُسَهُمْ وَيَلْبَسُوا المسُوح، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى قَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فِي أَصْحَابٍ (3) تَبَتَّلُوا، فَجَلَسُوا فِي الْبُيُوتِ، وَاعْتَزَلُوا النِّسَاءَ، وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ، وَحَرَّمُوا طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ إِلَّا مَا يَأْكُلُ وَيَلْبَسُ أَهْلُ السِّيَاحَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَمُّوا بِالْإِخْصَاءِ وَأَجْمَعُوا لِقِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} يَقُولُ: لَا تَسِيرُوا بِغَيْرِ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ (4) يُرِيدُ: مَا حَرَّمُوا مِنَ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، وَمَا هَمُّوا بِهِ مِنَ الْإِخْصَاءِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ فِيهِمْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَعْيُنِكُمْ حَقًّا، صُومُوا وَأَفْطِرُوا، وَصَلُّوا وَنَامُوا، فَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَرَكَ سُنَّتَنَا". فَقَالُوا: اللَّهُمَّ سَلَّمْنَا وَاتَّبَعْنَا مَا أَنْزَلَتْ. (5)
    وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ مُرْسَلَةً، وَلَهَا شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
    وَقَالَ أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ يَوْمًا فَذَكَّرَ النَّاسَ، ثُمَّ قَامَ وَلَمْ يَزِدْهُمْ (6) عَلَى التَّخْوِيفِ، فَقَالَ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا عَشَرَةً مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ: مَا خِفْنَا إِنْ لَمْ نُحْدِثْ عَمَلًا فَإِنَّ النَّصَارَى قَدْ حَرَّمُوا على أنفسهم، فنحن نحرم. فحرم بَعْضُهُمْ أَنْ يَأْكُلَ اللَّحْمَ والودَك، وَأَنْ يَأْكُلَ بنَهَار، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمُ النَّوْمَ، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمُ النِّسَاءَ، فَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ مِمَّنْ حَرَمَ النِّسَاءَ وَكَانَ (1) لَا يَدْنُو مِنْ أَهْلِهِ وَلَا تَدْنُو مِنْهُ. فَأَتَتِ امرأتُه عائشةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَكَانَ يُقَالُ لَهَا: الْحَوْلَاءُ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ وَمَنْ عِنْدَهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُكِ يَا حَوْلَاءُ مُتَغَيِّرَةُ اللَّوْنِ، لَا تَمْتَشِطِينَ، لَا تَتَطَيَّبِينَ؟ قَالَتْ: وَكَيْفَ أَمْتَشِطُ وَأَتَطَيَّبُ وَمَا وَقَعَ عليَّ زَوْجِي وَمَا رَفَعَ عَنِّي ثَوْبًا، مُنْذُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَجَعَلْنَ يَضْحَكْنَ مِنْ كَلَامِهَا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ يَضْحَكْنَ، فَقَالَ: "مَا يُضْحِكُكُنَّ؟ " قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْحَوْلَاءَ سَأَلْتُهَا عَنْ أَمْرِهَا، فَقَالَتْ: مَا رَفَعَ عَنِّي زَوْجِي ثَوْبًا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَدَعَاهُ، فَقَالَ: "مَا لَكَ يَا عُثْمَانُ؟ " قَالَ: إِنِّي تَرَكْتُهُ لِلَّهِ، لِكَيْ أَتَخَلَّى لِلْعِبَادَةِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ أَرَادَ أَنْ يَجُبَّ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِلَّا رَجَعْتَ فَوَاقَعْتَ أَهْلَكَ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ: "أَفْطِرْ". فَأَفْطَرَ، وَأَتَى أَهْلَهُ، فَرَجَعَتِ الْحَوْلَاءُ إِلَى عَائِشَةَ [زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (2) وَقَدِ امْتَشَطَتْ وَاكْتَحَلَتْ وَتَطَيَّبَتْ، فَضَحِكَتْ عَائِشَةُ وَقَالَتْ: مَا لَكِ يَا حَوْلَاءُ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ أَتَاهَا أَمْسُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ حَرَّموا النِّسَاءَ وَالطَّعَامَ وَالنَّوْمَ؟ أَلَّا إِنِّي أَنَامُ وَأَقُومُ، وَأُفْطِرُ وَأَصُومُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِب عَنِّي فَلَيْسَ مِنِّي". فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} يَقُولُ لِعُثْمَانَ "لَا تجُبَّ نَفْسَكَ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الِاعْتِدَاءُ". وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُكَفِّرُوا عَنْ أَيْمَانِهِمْ، فَقَالَ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ} رَوَاهُ (3) ابْنُ جَرِيرٍ.
    وَقَوْلُهُ: {وَلا تَعْتَدُوا} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ: وَلَا تُبَالِغُوا فِي التَّضْيِيقِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي تَحْرِيمِ (4) الْمُبَاحَاتِ عَلَيْكُمْ، كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ (5) مِنَ السَّلَفِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: كَمَا لَا تُحَرِّمُوا (6) الْحَلَالَ فَلَا تَعْتَدُّوا فِي تَنَاوُلِ الْحَلَالِ، بَلْ خُذُوا مِنْهُ بقَدْر كِفَايَتِكُمْ وَحَاجَتِكُمْ، وَلَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ فِيهِ، كَمَا قَالَ (7) تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] [آل عمران: 31] } (8) وَقَالَ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الْفَرْقَانِ: 67] فشرعُ اللَّهِ عَدَلَ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، لَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
    ثُمَّ قَالَ: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا} أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِهِ حَلَالًا طَيِّبًا، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ: فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ، وَاتَّبِعُوا طَاعَتَهُ وَرِضْوَانَهُ، وَاتْرُكُوا مُخَالَفَتَهُ (9) وَعِصْيَانَهُ، {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة المائدة مع الآيات 90-93 وتفسيرها :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) }
    يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ تَعَاطِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَهُوَ الْقِمَارُ.
    وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: الشَطْرَنج مِنَ الْمَيْسِرِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيس بْنِ مَرْحُومٍ، عَنْ حَاتِمٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، بِهِ.
    وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَحْمَسِيُّ (1) حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْث، عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ -قَالَ سُفْيَانُ: أَوِ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ-قَالُوا: كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْقِمَارِ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ، حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ.
    ورُوي عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ وَحَمْزَةَ بْنِ حَبِيبٍ (2) وَقَالَا حَتَّى الْكَعَابِ، وَالْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ الَّتِي (3) تَلْعَبُ بِهَا الصِّبْيَانُ، وَقَالَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ.
    وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ، كَانُوا يَتَقَامَرُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْقَبِيحَةِ.
    وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الحُصَيْن: أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: كَانَ مَيْسِرُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالشَّاةِ وَالشَّاتَيْنِ.
    وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنِ الْأَعْرَجِ قَالَ: الْمَيْسِرُ وَالضَّرْبُ بِالْقِدَاحِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالثِّمَارِ.
    وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ.
    رَوَاهُنَّ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
    وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اجْتَنِبُوا هَذِهِ الكِعَاب الْمَوْسُومَةَ الَّتِي يُزْجَرُ بِهَا زَجْرًا فَإِنَّهَا مِنَ الْمَيْسِرِ". حديث غريب. (4)
    وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا هُوَ النَّرْدُ، الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ بِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ بُرَيدة بْنِ الحُصَيب الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لَعِبَ بالنَّرْدَشير فَكَأَنَّمَا صَبَغ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ ودَمه". (1) وفي موطأ مالك ومسند أحمد، وسنني أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ". (2) وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَنْ أَبِي مُوسَى مِنْ قَوْلِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (3) حَدَّثَنَا الجُعَيْد، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخَطْمِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ وَهُوَ يَسْأَلُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: أَخْبِرْنِي، مَا سَمِعْتَ أَبَاكَ يَقُولُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (4) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَثَلُ الَّذِي يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي، مَثَلُ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بالقَيْح وَدَمِ الْخِنْزِيرِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي". (5)
    وَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ فَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ شَرٌّ مِنَ النَّرْدِ. وَتَقَدَّمَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ، وَنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
    وَأَمَّا الْأَنْصَابُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هِيَ حِجَارَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَ قَرَابِينَهُمْ عِنْدَهَا.
    وَأَمَّا الْأَزْلَامُ فَقَالُوا أَيْضًا: هِيَ قِدَاحٌ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا.
    وَقَوْلُهُ: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ سَخَط مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِثْمٌ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَيْ شَرٌّ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.
    {فَاجْتَنِبُوهُ} الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الرِّجْسِ، أَيِ اتْرُكُوهُ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَهَذَا تَرْغِيبٌ.
    ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَتَرْهِيبٌ.
    ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي [بَيَانِ] (6) تَحْرِيمِ الْخَمْرِ:
    قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيج (7) حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَر، عَنْ أَبِي وَهْب مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} إِلَى آخَرَ الْآيَةِ [الْبَقَرَةِ:219] . فَقَالَ النَّاسُ: مَا حَرُمَ عَلَيْنَا، إِنَّمَا قَالَ: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} وَكَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، حَتَّى كَانَ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ صَلَّى رَجُلٌ مِنَ المهاجرين، أمَّ أصحابه (8) في الْمَغْرِبِ، خَلَطَ فِي قِرَاءَتِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (1) آيَةً أَغْلَظَ مِنْهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النِّسَاءِ: 43] وَكَانَ النَّاسُ يَشْرَبُونَ، حَتَّى يَأْتِيَ أَحَدُهُمُ الصَّلَاةَ وَهُوَ مُفِيقٌ. ثُمَّ أُنْزِلَتْ آيَةٌ أَغْلَظُ مِنْ ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قَالُوا: انْتَهَيْنَا رَبَّنَا. وَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَاسٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، [وَنَاسٌ] (2) مَاتُوا عَلَى سَرَفِهِمْ (3) كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمُيْسِرَ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ حَرُمَ عَلَيْهِمْ لَتَرَكُوهُ كَمَا تَرَكْتُمْ". انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ. (4)
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا خَلَف بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرة، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (5) أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيّن لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ التِي فِي الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فَدُعي عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَكَانَ (6) مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقَامَ الصَّلَاةَ نَادَى: أَلَّا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ. فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ التِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدَعِي عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا بَلَغَ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا. (7)
    وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَمْرو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّبِيعي وَعَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ -وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ شُرَحبيل الْهَمْدَانِيُّ-عَنْ عُمَر، بِهِ. وَلَيْسَ لَهُ عَنْهُ سِوَاهُ، قَالَ أَبُو زُرْعَة: وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ. وَصَحَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَالتِّرْمِذِيّ ُ. (8)
    وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، والحِنْطَة، وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. (9)
    وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْر، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذَ لَخَمْسَةُ أَشْرِبَةٍ مَا فِيهَا شَرَابُ الْعِنَبِ. (10)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنِ الْمِصْرِيِّ -يعني أبا طعمة قَارِئَ مِصْرَ -قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: نَزَلَتْ فِي الْخَمْرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 219] فَقِيلَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَنْتَفِعُ بِهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُمْ ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النِّسَاءِ: 43] . فَقِيلَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَشْرَبُهَا قُرْبَ الصَّلَاةِ، فَسَكَتَ عَنْهُمْ ثُمَّ نَزَلَتْ: (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حُرِّمَتِ الْخَمْرُ". (2)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ؛ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ وَعْلَة قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ، فَقَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدِيقٌ مِنْ ثَقِيفٍ -أَوْ: مِنْ دَوْسٍ-فَلَقِيَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِرَاوِيَةِ خَمْرٍ يُهْدِيهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا فُلَانُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا؟ " فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ عَلَى غُلَامِهِ فَقَالَ: اذْهَبْ فَبِعْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا فُلَانُ، بِمَاذَا أَمَرْتَهُ؟ " فَقَالَ: أَمَرْتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا. قَالَ: "إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا". فَأَمَرَ بِهَا فَأُفْرِغَتْ فِي الْبَطْحَاءِ.
    رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْب، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَيْضًا، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا -عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ مَالِكٍ، بِهِ. (3)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدِّمِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشَب، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَهْدِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةً (4) مِنْ خَمْرٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ جَاءَ بِهَا، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ وَقَالَ: "إِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ بَعْدَكَ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَبِيعُهَا وَأَنْتَفِعُ بِثَمَنِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حَرُمَ عَلَيْهِمْ شُحُوم الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَأَذَابُوهُ، وَبَاعُوهُ، وَاللَّهُ حَرّم الْخَمْرَ وَثَمَنَهَا". (5)
    وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا رَوْح، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرام قَالَ: سَمِعْتُ شَهْرَ بْنَ حَوْشَبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْم: أَنَّ الدَّارِيَّ كَانَ يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كُلَّ عَامٍ رَاوِيَةً مِنْ خَمْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ حُرّمت جَاءَ بِرَاوِيَةٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ ضَحِكَ فَقَالَ (6) أَشْعَرْتَ أَنَّهَا حُرِّمَتْ بَعْدَكَ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَّا (7) أَبِيعُهَا وَأَنْتَفِعُ بِثَمَنِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، انْطَلَقُوا إِلَى مَا حُرّم عليهم من شحم البقر والغنم فأذابوه، فباعوه به ما يأكلون، وإن الخمر حرام وَثَمَنُهَا حَرَامٌ، وَإِنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ وَثَمَنُهَا حَرَامٌ، وَإِنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ وَثَمَنُهَا حَرَامٌ". (1)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَة، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ كَيسان أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ (2) أَنَّهُ كَانَ يَتَّجِرُ فِي الْخَمْرِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ وَمَعَهُ خَمْرٌ فِي الزُّقَاقِ، يُرِيدُ بِهَا التِّجَارَةَ، فَأَتَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي جِئْتُكَ بِشَرَابٍ طَيِّبٍ (3) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا كَيْسَانُ، إِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ بَعْدَكَ". قَالَ: فَأَبِيعُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ وَحَرُمَ ثَمَنُهَا". فَانْطَلَقَ كَيْسَانُ إِلَى الزُّقَاقِ، فَأَخَذَ بِأَرْجُلِهَا ثُمَّ هَرَاقَهَا. (4)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ (5) أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْب، وسُهَيْل بْنَ بَيْضَاءَ، وَنَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ وَأَنَا أَسْقِيهِمْ، حَتَّى كَادَ الشَّرَابُ يَأْخُذُ مِنْهُمْ، فَأَتَى آتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَمَا شَعَرْتُمْ أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ؟ فَمَا قَالُوا: حَتَّى نَنْظُرَ وَنَسْأَلَ، فَقَالُوا: يَا أَنَسُ اكْفِ مَا بَقِيَ فِي إِنَائِكَ، فَوَاللَّهِ (6) مَا عَادُوا فِيهَا، وَمَا هِيَ إِلَّا التَّمْرُ وَالْبُسْرُ، وَهِيَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ. (7)
    أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ -مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ-عَنْ أَنَسٍ (8) وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كنتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرّمت الْخَمْرُ فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ، وَمَا شَرَابُهُمْ إِلَّا الفَضيخ البسرُ والتمرُ، فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي، قَالَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ. فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرّمت، فَجرت فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأهْرقها. فَهَرَقْتُهَا، فَقَالُوا -أَوْ: قَالَ بَعْضُهُمْ: قُتل فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ. (9)
    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّار، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَبِيرِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ (10) حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أُدِيرُ الْكَأْسَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَسُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ، وَأَبِي دُجَانة، حَتَّى مَالَتْ رُؤُوسُهُمْ مِنْ خَليط بُسْر وَتَمْرٍ. فَسَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرّمت! قَالَ: فَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا دَاخِلٌ وَلَا خَرَجَ مِنَّا خَارِجٌ، حَتَّى أَهْرَقْنَا الشَّرَابَ، وَكَسَرْنَا الْقِلَالَ، وَتَوَضَّأَ بَعْضُنَا وَاغْتَسَلَ بَعْضُنَا، وَأَصَبْنَا مِنْ طِيبِ أُمِّ سُلَيْمٍ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا مَنْزِلَةُ مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْرَبُهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] } (1) الْآيَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ لِقَتَادَةَ: أَنْتَ سَمعتَه مَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ رَجُلٌ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ -أَوْ: حَدَّثَنِي مَنْ لَمْ يَكْذِبْ، مَا كُنَّا نَكْذِبُ، وَلَا نَدْرِي مَا الْكَذِبُ. (2)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحر، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَرَّمَ عَلَيّ الْخَمْرَ، والكُوبَة، وَالْقِنِّينَ. وَإِيَّاكُمْ والغُبيراء فَإِنَّهَا ثُلُثُ خَمْرِ الْعَالَمِ". (3)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ (4) عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى أُمَّتِي الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ والمزْر، والكُوبة والقِنّين. وَزَادَنِي صَلَاةَ الْوَتْرِ". قَالَ يَزِيدُ: الْقِنِّينُ: الْبَرَابِطُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. (5)
    وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ -وَهُوَ النَّبِيلُ-أَخْبَرْنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ جَهَنَّمَ". قَالَ: وَسَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ وَالْغُبَيْرَاء َ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا (6)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي طُعْمَةَ -مَوْلَاهُمْ-وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْغَافِقِيِّ أَنَّهُمَا سَمِعَا ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لُعِنَتِ الْخَمْرُ عَلَى عَشَرَةِ وُجُوهٍ: لُعِنَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَشَارِبِهَا، وَسَاقِيهَا، وَبَائِعِهَا، ومُبتاعها، وَعَاصِرِهَا، ومُعتصرها، وَحَامِلِهَا، وَالْمَحْمُولَة ِ إِلَيْهِ، وَآكُلِ ثَمَنِهَا".
    وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ، بِهِ. (7)
    وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا أَبُو طِعْمة، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمِرْبَدِ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَكُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ، وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَتَأَخَّرْتُ عَنْهُ، فَكَانَ عَنْ يَمِينِهِ وَكُنْتُ عَنْ يَسَارِهِ. ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَتَنَحَّيْتُ لَهُ، فَكَانَ عَنْ يَسَارِهِ. فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِرْبَدَ، فَإِذَا بِزُقَاقٍ عَلَى الْمِرْبَدِ فِيهَا خَمْرٌ -قَالَ ابْنُ عُمَرَ-: فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُدْيَةِ -قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَمَا عَرَفْتُ الْمُدْيَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ -فَأَمَرَ بِالزِّقَاقِ فَشُقَّتْ، ثُمَّ قَالَ: "لُعِنَتِ الْخَمْرُ وَشَارِبُهَا، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وَحَامِلُهَا، وَالْمَحْمُولَة ُ إِلَيْهِ، وَعَاصِرُهَا، وَمُعْتَصِرُهَا ، وَآكِلُ ثَمَنِهَا". (1)
    وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ ضَمْرة بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ آتِيَهُ بِمُدْيَةٍ وَهِيَ الشَّفْرَةُ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَرْسَلَ بِهَا فَأَرْهَفْتُ ثُمَّ أَعْطَانِيهَا وَقَالَ: "اغْدُ عليَّ بِهَا". فَفَعَلْتُ فَخَرَجَ بِأَصْحَابِهِ إِلَى أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ، وَفِيهَا زِقَاقُ الْخَمْرِ قَدْ جُلِبَتْ مِنَ الشَّامِ، فَأَخَذَ الْمُدْيَةَ مِنِّي فَشَقَّ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الزِّقَاقِ بِحَضْرَتِهِ، ثُمَّ أَعْطَانِيهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَنْ يَمْضُوا مَعِي وَأَنْ يُعَاوِنُونِي، وَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الْأَسْوَاقَ كُلَّهَا فَلَا أَجِدُ فِيهَا زِقَّ خَمْرٍ إِلَّا شَقَقْتُهُ، فَفَعَلْتُ، فَلَمْ أَتْرُكْ فِي أَسْوَاقِهَا زِقًّا إِلَّا شَقَقْتُهُ. (2)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهب: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْح، وَابْنُ لَهِيعة، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ يَزِيدَ الْخَوْلَانِيِّ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَمٌّ يَبِيعُ الْخَمْرَ، وَكَانَ يَتَصَدَّقُ، فَنَهَيْتُهُ عَنْهَا فَلَمْ يَنْتَهِ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَتَلَقَّيْتُ (3) ابْنَ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَتْهُ عَنِ الْخَمْرِ وَثَمَنِهَا، فَقَالَ: هِيَ حَرَامٌ وَثَمَنُهَا حَرَامٌ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا مَعْشَرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، إِنَّهُ لَوْ كَانَ كِتَابٌ بَعْدَ كِتَابِكُمْ، وَنَبِيٌّ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ، لَأُنْزِلَ فِيكُمْ كَمَا أُنْزِلَ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ، وَلَكِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ولَعمري لَهُوَ أَشُدُّ عَلَيْكُمْ، قَالَ ثَابِتٌ: فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَسَأَلَتْهُ عَنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ، فَقَالَ: سَأُخْبِرُكَ عَنِ الْخَمْرِ، إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَبَيْنَمَا هُوَ مُحْتَبٍ حَلّ حُبْوَته ثُمَّ قَالَ: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ هَذِهِ الْخَمْرِ فَلْيَأْتِنَا بِهَا". فَجَعَلُوا يَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: عِنْدِي رَاوِيَةٌ. وَيَقُولُ الْآخَرُ: عِنْدِي زقٌّ أَوْ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْمَعُوهُ بِبَقِيعِ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ آذِنُونِي". فَفَعَلُوا، ثُمَّ آذَنُوهُ فَقَامَ وَقُمْتُ مَعَهُ، فَمَشَيْتُ عَنْ يَمِينِهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَيَّ، فَأَلْحَقَنَا أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَخَّرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَنِي عَنْ شِمَالِهِ، وَجَعَلَ أَبَا (4) بَكْرٍ فِي مَكَانِي. ثُمَّ لَحِقَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخَّرَنِي، وَجَعَلَهُ عَنْ يَسَارِهِ، فَمَشَى بَيْنَهُمَا. حَتَّى إِذَا وَقَفَ عَلَى الْخَمْرِ قَالَ لِلنَّاسِ: "أَتَعْرِفُون هَذِهِ (5) قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ الْخَمْرُ. قَالَ: "صَدَقْتُمْ". قَالَ: "فَإِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا ، وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا، وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَة َ إِلَيْهِ، وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا". ثُمَّ دَعَا بِسِكِّينٍ فَقَالَ: "اشْحَذُوهَا". فَفَعَلُوا، ثُمَّ أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرِقُ بِهَا الزِّقَاقَ، قَالَ: فَقَالَ النَّاسُ: فِي هَذِهِ الزِّقَاقِ مَنْفَعَةٌ، قَالَ: "أَجَلْ، وَلَكِنِّي إِنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ غَضَبًا لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، لِمَا فِيهَا مِنْ سَخَطِهِ". فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أَكْفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لَا".
    قَالَ ابْنُ وَهْب: وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ فِي قِصَّةِ الْحَدِيثِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. (6)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْران، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ الْمُنَادِي، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَة، عَنْ سِماك، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ آيَاتٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ: وَضَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ طَعَامًا، فَدَعَانَا فَشَرِبْنَا الْخَمْرَ قَبْلَ أَنْ تَحْرُمَ حَتَّى انْتَشَيْنَا، فَتَفَاخَرْنَا، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: نَحْنُ أَفْضَلُ. وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: نَحْنُ أَفْضَلُ. فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَحْي جَزُور، فَضَرَبَ بِهِ أَنْفَ سَعْدٍ فَفَزَرَهُ، وَكَانَ أَنْفُ سَعْدٍ مَفْزُورًا. (1) فَنَزَلَتْ آيَةُ الْخَمْرِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ] } (2) إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ. (3)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرَّفَّاءُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهال، حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ، شَرِبُوا فَلَمَّا أن ثمل عَبِثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا أَنَّ صَحُوا جَعَلَ الرَّجُلُ يُرَى الْأَثَرَ بِوَجْهِهِ وَرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَيَقُولُ: صَنَعَ هَذَا بِي، أَخِي فُلَانٌ -وَكَانُوا إِخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ (4) وَاللَّهِ لَوْ كَانَ بِي رَؤُوفًا رَحِيمًا مَا صَنَعَ هَذَا بِي، حَتَّى وَقَعَتِ (5) الضَّغَائِنُ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ] (6) فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُتَكَلِّفِي نَ: هِيَ رِجْسٌ، وَهِيَ فِي بَطْنِ فُلَانٍ، وَقَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] } (7)
    وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ صَاعِقَةَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ. (8)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَف، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الجرْمي، عَنْ أَبِي تُمَيْلَة، عَنْ سَلَامٍ مَوْلَى حَفْصٍ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ قُعُود عَلَى شَرَابٍ لَنَا، وَنَحْنُ رَمْلة، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ، وَعِنْدَنَا بَاطِيَةٌ لَنَا، وَنَحْنُ نَشْرَبُ الْخَمْرَ حِلًّا إِذْ قُمْتُ حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمَ عَلَيْهِ، إِذْ نَزْلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ (9) {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ؟ فَجِئْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقَرَأْتُهَا إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون} ؟ قَالَ: وَبَعْضُ الْقَوْمِ شَربته فِي يَدِهِ، قَدْ شَرِبَ بَعْضَهَا وَبَقِيَ بَعْضٌ فِي الْإِنَاءِ، فَقَالَ بِالْإِنَاءِ تَحْتَ شَفَتِهِ الْعُلْيَا، كَمَا يَفْعَلُ الْحَجَّامُ، ثُمَّ صَبُّوا مَا فِي بَاطِيَتِهِمْ (10) فَقَالُوا: انْتَهَيْنَا رَبَّنَا. (11)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا صَدَقة بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرْنَا ابْنُ عُيَينة، عن عمرو، عن جابر قَالَ: صَبَّح نَاسٌ غَدَاةَ أُحُدٍ الْخَمْرَ، فَقُتلوا مِنْ يَوْمِهِمْ جَمِيعًا شُهَدَاءَ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا.
    هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ صَحِيحِهِ (1) وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدة، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ (2) عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قُتِلُوا شُهَدَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: فَقَدْ مَاتَ بَعْضُ الَّذِينَ قُتِلُوا وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَلَكِنْ فِي سِيَاقَتِهِ غَرَابَةٌ.
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالُوا: كَيْفَ بِمَنْ كَانَ يَشْرَبُهَا قَبْلَ أَنْ تَحْرُمَ؟ فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ.
    وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ بُنْدار، غُنْدَر (3) عَنْ شُعْبَةَ، بِهِ نَحْوٌ. وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. (4)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يُعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ حُمَيْدٍ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ عِيسَى بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَحْمِلُ الْخَمْرَ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَبِيعُهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَحُمِّلَ مِنْهَا بِمَالٍ فَقَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا فُلَانُ، إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حَرُمَتْ فَوَضَعَهَا حَيْثُ انْتَهَى عَلَى تَلّ، وَسَجَّى عَلَيْهَا بِأَكْسِيَةٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَنِي أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ؟ قَالَ: "أَجَلْ" قَالَ: لِي أَنْ أَرُدَّهَا عَلَى مَنِ ابْتَعْتُهَا مِنْهُ؟ قَالَ: "لَا يَصْلُحُ (5) رَدُّهَا". قَالَ: لِي أَنْ أُهْدِيَهَا إِلَى مَنْ يُكَافِئُنِي مِنْهَا؟ قَالَ: "لَا". قَالَ: فَإِنَّ فِيهَا مَالًا لِيَتَامَى فِي حِجْرِي؟ قال: "إذ أَتَانَا مَالُ الْبَحْرِينِ فَأْتِنَا نعوّضُ أَيْتَامَكَ مِنْ مَالِهِمْ". ثُمَّ نَادَى بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْأَوْعِيَةُ نَنْتَفِعُ بِهَا؟. قَالَ: "فَحُلُّوا أَوْكِيَتَهَا". فَانْصَبَّتْ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ فِي بَطْنِ الْوَادِي هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. (6)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّي، عَنْ أَبِي هُبيرة -وَهُوَ يَحْيَى بْنُ عَبَّاد الْأَنْصَارِيُّ-عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ أَيْتَامٍ فِي حِجْرِهِ وَرِثُوا خَمْرًا فَقَالَ: "أَهْرِقْهَا". قَالَ: أَفَلَا نَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: "لَا".
    وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ، مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، بِهِ نَحْوَهُ. (7)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجاء، حَدَّثَنَا عبد العزيز بن أَبِي سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قَالَ: هِيَ فِي التَّوْرَاةِ: "إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْحَقَّ لِيُذْهِبَ بِهِ الْبَاطِلَ، وَيُبْطِلَ بِهِ اللَّعِبَ، وَالْمَزَامِيرَ ، والزَّفْن، والكِبَارات -يَعْنِي الْبَرَابِطَ--وَالزَّمَّارَات ِ -يَعْنِي بِهِ الدُّفَّ-وَالطَّنَابِيرَ-وَالشِّعْرَ، وَالْخَمْرَ مَرَّةً لِمَنْ طَعِمَهَا. أَقْسَمَ اللَّهُ بِيَمِينِهِ وَعِزَّةِ حَيْله مَنْ شَرِبَهَا بَعْدَ مَا حَرَّمْتُهَا لَأُعَطِّشَنَّه ُ (1) يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ تَرَكَهَا بَعْدَ مَا حَرَّمْتُهَا لَأَسْقِيَنَّهُ إِيَّاهَا فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ".
    وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْب: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الحارث؛ أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيب حَدَّثَهُمْ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ سُكْرًا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَأَنَّمَا كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا فَسُلِبَهَا، وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ سُكْرًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طينة الْخَبَالِ". قِيلَ: وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: "عُصَارَةُ أَهْلِ جَهَنَّمَ".
    وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ. (2)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الصَّنْعَانِيُّ ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ -هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ الجَنَدي-يَقُولُ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّ مَخمَّر خَمْر، وَكُلُّ مُسْكِر حَرَام، وَمَنْ شَرِبَ مُسْكِرًا بُخِسَتْ صَلَاتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُسقيه مِنْ طِينة الخَبَال". قيل: وما طينة الْخَبَالِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، وَمَنْ سَقَاهُ صَغِيرًا لَا يَعْرِفُ حَلَالَهُ مِنْ حَرَامِهِ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طينة الخبال"
    تفرد أَبُو دَاوُدَ. (3)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنْبَأَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرمها فِي الْآخِرَةِ".
    أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، بِهِ. (4)
    وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مُسكر خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمنها وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ". (5)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ وَهْب: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسار؛ أنه سمع سالم بن عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، والمُدْمِن الْخَمْرَ، والمنَّان بِمَا أَعْطَى".
    وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْع، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ العُمَري، بِهِ. (1)
    وَرَوَى أَحْمَدُ، عَنْ غُنْدَر، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ منَّان وَلَا عَاقٌّ، وَلَا مُدْمِن خَمْرٍ". (2)
    وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ (3) عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِهِ. وَعَنْ مَرْوَانَ بْنِ شُجَاعٍ، عَنْ خَصِيف، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِهِ (4) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنِ الحسين الجَعْفِي، عن زائدة، عن بن ابْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ وَمُجَاهِدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، بِهِ. (5)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ، وَلَا مُدْمِن خَمْرٍ، وَلَا منَّان، وَلَا وَلَدُ زنْيَة". (6)
    وَكَذَا رَوَاهُ عَنْ يَزِيدَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، بِهِ (7) وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ غُنْدر وَغَيْرِهِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ نُبَيْط بْنِ شُرَيط، عَنْ جَابَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ، وَلَا عَاقٌّ وَالِدَيْهِ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ".
    وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ (8) أَحَدًا تَابَعَ شُعْبَةَ عَنْ نُبَيْطِ بْنِ شَرِيطٍ. (9)
    وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُعْرَفُ لِجَابَانَ سَمَاعٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَا لِسَالِمٍ مِنْ جَابَانَ وَلَا نُبَيْطٍ.
    وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -وَمِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ، فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، إِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ فِيمَنْ خَلَا قَبْلَكُمْ يَتَعَبَّدُ وَيَعْتَزِلُ النَّاسَ، فَعَلقته امْرَأَةٌ غَوية، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَتَهَا فَقَالَتْ: إِنَّا نَدْعُوكَ لِشَهَادَةٍ. فَدَخَلَ مَعَهَا، فطفقت كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ، حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ عِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا دَعَوْتُكَ لِشَهَادَةٍ وَلَكِنْ دَعَوْتُكَ لِتَقَعَ عَليّ أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ، أَوْ تَشْرَبَ هَذَا الْخَمْرَ. فَسَقَتْهُ كَأْسًا، فَقَالَ: زِيدُونِي، فَلَمْ يَرِم حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ النَّفْسَ، فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا لَا تَجْتَمِعُ هِيَ وَالْإِيمَانُ أَبَدًا إِلَّا أَوْشَكَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُخْرِجَ صَاحِبَهُ.
    رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ (1) وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِهِ "ذَمُّ الْمُسْكِرِ" عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيع، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ مَرْفُوعًا (2) وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ سَرِقَةً حِينَ يَسْرِقُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ". (3)
    وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَخْبَرْنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِماك، عَنْ عِكْرِمَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ قَالَ أُنَاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصْحَابُنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ. قَالَ: وَلَمَّا حُوّلت الْقِبْلَةُ قَالَ أُنَاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصْحَابُنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (4) } [الْبَقَرَةِ:143] .
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ مِهْران الدَّبَّاغُ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ -يَعْنِي الْعَطَّارَ-عَنِ ابْنِ خُثَيْم، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَب، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "من شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَرْضَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، إِنْ مَاتَ مَاتَ كَافِرًا، وَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَادَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ من طِينة الخَبَال". قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: "صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ". (5)
    وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قِيلَ لِي: أَنْتَ مِنْهُمْ".
    وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ، وَالنَّسَائِيُّ ، مِنْ طَرِيقِهِ. (6)
    وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ الْهِجْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِيَّاكُمْ وَهَاتَانِ الْكَعْبَتَانِ الْمُوَسَّمَتَا نِ اللتان تزجران (7) زجرًا، فإنهما مَيْسِر العَجَم". (8)

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    ينقل الموضوع بعد آيات الخمر وتحريمها...

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    افتراضي

    تتمة :
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهب: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْح، وَابْنُ لَهِيعة، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ يَزِيدَ الْخَوْلَانِيِّ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَمٌّ يَبِيعُ الْخَمْرَ، وَكَانَ يَتَصَدَّقُ، فَنَهَيْتُهُ عَنْهَا فَلَمْ يَنْتَهِ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَتَلَقَّيْتُ (3) ابْنَ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَتْهُ عَنِ الْخَمْرِ وَثَمَنِهَا، فَقَالَ: هِيَ حَرَامٌ وَثَمَنُهَا حَرَامٌ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا مَعْشَرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، إِنَّهُ لَوْ كَانَ كِتَابٌ بَعْدَ كِتَابِكُمْ، وَنَبِيٌّ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ، لَأُنْزِلَ فِيكُمْ كَمَا أُنْزِلَ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ، وَلَكِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ولَعمري لَهُوَ أَشُدُّ عَلَيْكُمْ، قَالَ ثَابِتٌ: فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَسَأَلَتْهُ عَنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ، فَقَالَ: سَأُخْبِرُكَ عَنِ الْخَمْرِ، إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَبَيْنَمَا هُوَ مُحْتَبٍ حَلّ حُبْوَته ثُمَّ قَالَ: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ هَذِهِ الْخَمْرِ فَلْيَأْتِنَا بِهَا". فَجَعَلُوا يَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: عِنْدِي رَاوِيَةٌ. وَيَقُولُ الْآخَرُ: عِنْدِي زقٌّ أَوْ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْمَعُوهُ بِبَقِيعِ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ آذِنُونِي". فَفَعَلُوا، ثُمَّ آذَنُوهُ فَقَامَ وَقُمْتُ مَعَهُ، فَمَشَيْتُ عَنْ يَمِينِهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَيَّ، فَأَلْحَقَنَا أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَخَّرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَنِي عَنْ شِمَالِهِ، وَجَعَلَ أَبَا (4) بَكْرٍ فِي مَكَانِي. ثُمَّ لَحِقَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخَّرَنِي، وَجَعَلَهُ عَنْ يَسَارِهِ، فَمَشَى بَيْنَهُمَا. حَتَّى إِذَا وَقَفَ عَلَى الْخَمْرِ قَالَ لِلنَّاسِ: " أَتَعْرِفُونَ هَذِهِ (5) قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ الْخَمْرُ. قَالَ: "صَدَقْتُمْ". قَالَ: "فَإِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا ، وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا، وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَة َ إِلَيْهِ، وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا". ثُمَّ دَعَا بِسِكِّينٍ فَقَالَ: "اشْحَذُوهَا". فَفَعَلُوا، ثُمَّ أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرِقُ بِهَا الزِّقَاقَ، قَالَ: فَقَالَ النَّاسُ: فِي هَذِهِ الزِّقَاقِ مَنْفَعَةٌ، قَالَ: "أَجَلْ، وَلَكِنِّي إِنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ غَضَبًا لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، لِمَا فِيهَا مِنْ سَخَطِهِ". فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أَكْفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لَا".
    قَالَ ابْنُ وَهْب: وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ فِي قِصَّةِ الْحَدِيثِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. (6)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْران، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ الْمُنَادِي، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَة، عَنْ سِماك، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ آيَاتٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ: وَضَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ طَعَامًا، فَدَعَانَا فَشَرِبْنَا الْخَمْرَ قَبْلَ أَنْ تَحْرُمَ حَتَّى انْتَشَيْنَا، فَتَفَاخَرْنَا، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: نَحْنُ أَفْضَلُ. وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: نَحْنُ أَفْضَلُ. فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَحْي جَزُور، فَضَرَبَ بِهِ أَنْفَ سَعْدٍ فَفَزَرَهُ، وَكَانَ أَنْفُ سَعْدٍ مَفْزُورًا. (1) فَنَزَلَتْ آيَةُ الْخَمْرِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ] } (2) إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ. (3)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرَّفَّاءُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهال، حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ، شَرِبُوا فَلَمَّا أن ثمل عَبِثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا أَنَّ صَحُوا جَعَلَ الرَّجُلُ يُرَى الْأَثَرَ بِوَجْهِهِ وَرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَيَقُولُ: صَنَعَ هَذَا بِي، أَخِي فُلَانٌ -وَكَانُوا إِخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ (4) وَاللَّهِ لَوْ كَانَ بِي رَؤُوفًا رَحِيمًا مَا صَنَعَ هَذَا بِي، حَتَّى وَقَعَتِ (5) الضَّغَائِنُ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ] (6) فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُتَكَلِّفِي نَ: هِيَ رِجْسٌ، وَهِيَ فِي بَطْنِ فُلَانٍ، وَقَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] } (7)
    وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ صَاعِقَةَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ. (8)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَف، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الجرْمي، عَنْ أَبِي تُمَيْلَة، عَنْ سَلَامٍ مَوْلَى حَفْصٍ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ قُعُود عَلَى شَرَابٍ لَنَا، وَنَحْنُ رَمْلة، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ، وَعِنْدَنَا بَاطِيَةٌ لَنَا، وَنَحْنُ نَشْرَبُ الْخَمْرَ حِلًّا إِذْ قُمْتُ حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمَ عَلَيْهِ، إِذْ نَزْلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ (9) {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ؟ فَجِئْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقَرَأْتُهَا إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون} ؟ قَالَ: وَبَعْضُ الْقَوْمِ شَربته فِي يَدِهِ، قَدْ شَرِبَ بَعْضَهَا وَبَقِيَ بَعْضٌ فِي الْإِنَاءِ، فَقَالَ بِالْإِنَاءِ تَحْتَ شَفَتِهِ الْعُلْيَا، كَمَا يَفْعَلُ الْحَجَّامُ، ثُمَّ صَبُّوا مَا فِي بَاطِيَتِهِمْ (10) فَقَالُوا: انْتَهَيْنَا رَبَّنَا. (11)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا صَدَقة بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرْنَا ابْنُ عُيَينة، عن عمرو، عن جابر قَالَ: صَبَّح نَاسٌ غَدَاةَ أُحُدٍ الْخَمْرَ، فَقُتلوا مِنْ يَوْمِهِمْ جَمِيعًا شُهَدَاءَ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا.
    هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ صَحِيحِهِ (1) وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدة، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ (2) عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قُتِلُوا شُهَدَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: فَقَدْ مَاتَ بَعْضُ الَّذِينَ قُتِلُوا وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَلَكِنْ فِي سِيَاقَتِهِ غَرَابَةٌ.
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالُوا: كَيْفَ بِمَنْ كَانَ يَشْرَبُهَا قَبْلَ أَنْ تَحْرُمَ؟ فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ.
    وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ بُنْدار، غُنْدَر (3) عَنْ شُعْبَةَ، بِهِ نَحْوٌ. وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. (4)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يُعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ حُمَيْدٍ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ عِيسَى بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَحْمِلُ الْخَمْرَ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَبِيعُهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَحُمِّلَ مِنْهَا بِمَالٍ فَقَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا فُلَانُ، إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حَرُمَتْ فَوَضَعَهَا حَيْثُ انْتَهَى عَلَى تَلّ، وَسَجَّى عَلَيْهَا بِأَكْسِيَةٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَنِي أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ؟ قَالَ: "أَجَلْ" قَالَ: لِي أَنْ أَرُدَّهَا عَلَى مَنِ ابْتَعْتُهَا مِنْهُ؟ قَالَ: "لَا يَصْلُحُ (5) رَدُّهَا". قَالَ: لِي أَنْ أُهْدِيَهَا إِلَى مَنْ يُكَافِئُنِي مِنْهَا؟ قَالَ: "لَا". قَالَ: فَإِنَّ فِيهَا مَالًا لِيَتَامَى فِي حِجْرِي؟ قال: "إذ أَتَانَا مَالُ الْبَحْرِينِ فَأْتِنَا نعوّضُ أَيْتَامَكَ مِنْ مَالِهِمْ". ثُمَّ نَادَى بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْأَوْعِيَةُ نَنْتَفِعُ بِهَا؟. قَالَ: "فَحُلُّوا أَوْكِيَتَهَا". فَانْصَبَّتْ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ فِي بَطْنِ الْوَادِي هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. (6)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّي، عَنْ أَبِي هُبيرة -وَهُوَ يَحْيَى بْنُ عَبَّاد الْأَنْصَارِيُّ-عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ أَيْتَامٍ فِي حِجْرِهِ وَرِثُوا خَمْرًا فَقَالَ: "أَهْرِقْهَا". قَالَ: أَفَلَا نَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: "لَا".
    وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ، مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، بِهِ نَحْوَهُ. (7)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجاء، حَدَّثَنَا عبد العزيز بن أَبِي سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قَالَ: هِيَ فِي التَّوْرَاةِ: "إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْحَقَّ لِيُذْهِبَ بِهِ الْبَاطِلَ، وَيُبْطِلَ بِهِ اللَّعِبَ، وَالْمَزَامِيرَ ، والزَّفْن، والكِبَارات -يَعْنِي الْبَرَابِطَ--وَالزَّمَّارَات ِ -يَعْنِي بِهِ الدُّفَّ-وَالطَّنَابِيرَ-وَالشِّعْرَ، وَالْخَمْرَ مَرَّةً لِمَنْ طَعِمَهَا. أَقْسَمَ اللَّهُ بِيَمِينِهِ وَعِزَّةِ حَيْله مَنْ شَرِبَهَا بَعْدَ مَا حَرَّمْتُهَا لَأُعَطِّشَنَّه ُ (1) يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ تَرَكَهَا بَعْدَ مَا حَرَّمْتُهَا لَأَسْقِيَنَّهُ إِيَّاهَا فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ".
    وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْب: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الحارث؛ أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيب حَدَّثَهُمْ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ سُكْرًا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَأَنَّمَا كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا فَسُلِبَهَا، وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ سُكْرًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طينة الْخَبَالِ". قِيلَ: وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: "عُصَارَةُ أَهْلِ جَهَنَّمَ".
    وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ. (2)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الصَّنْعَانِيُّ ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ -هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ الجَنَدي-يَقُولُ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّ مَخمَّر خَمْر، وَكُلُّ مُسْكِر حَرَام، وَمَنْ شَرِبَ مُسْكِرًا بُخِسَتْ صَلَاتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُسقيه مِنْ طِينة الخَبَال". قيل: وما طينة الْخَبَالِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، وَمَنْ سَقَاهُ صَغِيرًا لَا يَعْرِفُ حَلَالَهُ مِنْ حَرَامِهِ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طينة الخبال"
    تفرد أَبُو دَاوُدَ. (3)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنْبَأَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرمها فِي الْآخِرَةِ".
    أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، بِهِ. (4)
    وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مُسكر خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمنها وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ". (5)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ وَهْب: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسار؛ أنه سمع سالم بن عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، والمُدْمِن الْخَمْرَ، والمنَّان بِمَا أَعْطَى".
    وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْع، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ العُمَري، بِهِ. (1)
    وَرَوَى أَحْمَدُ، عَنْ غُنْدَر، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ منَّان وَلَا عَاقٌّ، وَلَا مُدْمِن خَمْرٍ". (2)
    وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ (3) عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِهِ. وَعَنْ مَرْوَانَ بْنِ شُجَاعٍ، عَنْ خَصِيف، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِهِ (4) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنِ الحسين الجَعْفِي، عن زائدة، عن بن ابْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ وَمُجَاهِدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، بِهِ. (5)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ، وَلَا مُدْمِن خَمْرٍ، وَلَا منَّان، وَلَا وَلَدُ زنْيَة". (6)
    وَكَذَا رَوَاهُ عَنْ يَزِيدَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، بِهِ (7) وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ غُنْدر وَغَيْرِهِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ نُبَيْط بْنِ شُرَيط، عَنْ جَابَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ، وَلَا عَاقٌّ وَالِدَيْهِ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ".
    وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ (8) أَحَدًا تَابَعَ شُعْبَةَ عَنْ نُبَيْطِ بْنِ شَرِيطٍ. (9)
    وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُعْرَفُ لِجَابَانَ سَمَاعٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَا لِسَالِمٍ مِنْ جَابَانَ وَلَا نُبَيْطٍ.
    وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -وَمِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ، فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، إِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ فِيمَنْ خَلَا قَبْلَكُمْ يَتَعَبَّدُ وَيَعْتَزِلُ النَّاسَ، فَعَلقته امْرَأَةٌ غَوية، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَتَهَا فَقَالَتْ: إِنَّا نَدْعُوكَ لِشَهَادَةٍ. فَدَخَلَ مَعَهَا، فطفقت كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ، حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ عِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا دَعَوْتُكَ لِشَهَادَةٍ وَلَكِنْ دَعَوْتُكَ لِتَقَعَ عَليّ أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ، أَوْ تَشْرَبَ هَذَا الْخَمْرَ. فَسَقَتْهُ كَأْسًا، فَقَالَ: زِيدُونِي، فَلَمْ يَرِم حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ النَّفْسَ، فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا لَا تَجْتَمِعُ هِيَ وَالْإِيمَانُ أَبَدًا إِلَّا أَوْشَكَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُخْرِجَ صَاحِبَهُ.
    رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ (1) وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِهِ "ذَمُّ الْمُسْكِرِ" عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيع، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ مَرْفُوعًا (2) وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ سَرِقَةً حِينَ يَسْرِقُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ". (3)
    وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَخْبَرْنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِماك، عَنْ عِكْرِمَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ قَالَ أُنَاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصْحَابُنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ. قَالَ: وَلَمَّا حُوّلت الْقِبْلَةُ قَالَ أُنَاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصْحَابُنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (4) } [الْبَقَرَةِ:143] .
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ مِهْران الدَّبَّاغُ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ -يَعْنِي الْعَطَّارَ-عَنِ ابْنِ خُثَيْم، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَب، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "من شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَرْضَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، إِنْ مَاتَ مَاتَ كَافِرًا، وَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَادَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ من طِينة الخَبَال". قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: "صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ". (5)
    وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قِيلَ لِي: أَنْتَ مِنْهُمْ".
    وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ، وَالنَّسَائِيُّ ، مِنْ طَرِيقِهِ. (6)
    وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ الْهِجْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِيَّاكُمْ وَهَاتَانِ الْكَعْبَتَانِ الْمُوَسَّمَتَا نِ اللتان تزجران (7) زجرًا، فإنهما مَيْسِر العَجَم". (8)

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة الأنعام مع الآيتان 141-142 وتفسيرهما :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) }
    يَقُولُ تَعَالَى بَيَانًا لِأَنَّهُ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ، مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَنْعَامِ الَّتِي تَصَرَّفَ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ وقسَّموها وجَزَّءوها، فَجَعَلُوا مِنْهَا حَرَامًا وَحَلَالًا فَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ}
    قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: { مَعْرُوشَاتٍ} مَسْمُوكَاتٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: " الْمَعْرُوشَاتُ ": مَعْرُوشَاتُ مَا عَرَّشَ النَّاسُ، {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} مَا خَرَجَ فِي الْبَرِّ وَالْجِبَالِ مِنَ الثَّمَرَاتِ.
    وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مَعْرُوشَاتٍ} مَا عَرَّشَ مِنَ الْكَرْمِ {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} مَا لَمْ يعرش من الكرم. وكذا قال السدي.
    وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: {مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} قَالَ: متشابه فِي الْمَنْظَرِ، وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ فِي الطَّعْمِ.
    وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْب: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} قَالَ: مِنْ رُطَبِهِ وعنَبه.
    وَقَوْلُهُ (1) تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ.
    حَدَّثَنَا عَمْرٌو، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ دِرْهَمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ.
    وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} يَعْنِي: الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، يَوْمَ يُكَال وَيُعْلَمُ كَيْلُهُ. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.
    وَقَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا زَرَعَ فَكَانَ يَوْمُ حَصَادِهِ، لَمْ يُخْرِجْ مِمَّا حَصَدَ شَيْئًا فَقَالَ اللَّهُ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ مَا كَيْلُهُ وَحَقُّهُ، مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ وَاحِدًا، مَا يَلْقُط (2) النَّاسُ مِنْ سُنْبُلِهِ.
    وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ابن حبَّان، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَرَ مِنْ كُل جَادٍّ عَشْرَة أوسُق مِنَ التَّمْرِ، بقنْو يُعَلَّقُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَسَاكِينِ (3) وَهَذَا إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ.
    وَقَالَ طَاوُسٌ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ جُرَيْج: هِيَ الزَّكَاةُ.
    وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ الصَّدَقَةُ مِنَ الْحَبِّ وَالثِّمَارِ، وَكَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ.
    وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ حُقٌّ آخَرُ سِوَى الزَّكَاةِ.
    وَقَالَ (4) أَشْعَثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرين، وَنَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: كَانُوا يُعْطُونَ شَيْئًا سِوَى الزَّكَاةِ. رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ. عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عطاء بن أَبِي رَبَاحٍ فِي قَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: يُعْطِي مَنْ حَضَرَهُ يَوْمَئِذٍ مَا تَيَسَّرَ، وَلَيْسَ بِالزَّكَاةِ.
    وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا حَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ، طَرَحْتَ لَهُمْ مِنْهُ.
    وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ (5) عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: عِنْدَ الزَّرْعِ يُعْطِي الْقَبْضَ، وَعِنْدَ الصِّرَامِ يُعْطِي الْقَبْضَ، وَيَتْرُكُهُمْ فَيَتْبَعُونَ آثَارَ الصِّرَامِ.
    وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ [النَّخَعِيِّ] (6) قَالَ: يُعْطِي مِثْلَ الضِّغْثِ.
    وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ الزَّكَاةِ: لِلْمَسَاكِينِ، الْقَبْضَةُ الضِّغْثُ لِعَلْفِ دَابَّتِهِ.
    وَفِي حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعة، عَنْ دَرَّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: مَا سَقَطَ مِنَ السُّنْبُلِ. رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُويه (1) .
    وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا كُلُّهُ شَيْءٌ كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ بِالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدٍ بن الْحَنَفِيَّةِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ، وَعَطِيَّةَ العَوْفي. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ (2) اللَّهُ.
    قُلْتُ: وَفِي تَسْمِيَةِ هَذَا نَسْخًا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ شَيْئًا وَاجِبًا فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ فَصَّلَ بَيَانَهُ وبَيَّن مِقْدَارَ الْمُخْرَجِ وَكِمِّيَّتَهُ. قَالُوا: وَكَانَ هَذَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَلَا يَتَصَدَّقُونَ، كَمَا ذَكَرَ عَنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ فِي سُورَةِ "ن": {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَ ا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أَيْ: كَاللَّيْلِ الْمُدْلَهِمِّ سَوْدَاءَ مُحْتَرِقَةً {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} أَيْ: قُوَّةٍ وَجَلَدٍ وَهِمَّةٍ {قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الْقَلَمِ: 17-33] .
    وَقَوْلُهُ: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ: وَلَا تُسْرِفُوا فِي الْإِعْطَاءِ، فَتُعْطُوا فَوْقَ الْمَعْرُوفِ.
    وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانُوا يُعْطُونَ يَوْمَ الْحَصَادِ شَيْئًا، ثُمَّ تَبَارَوْا فِيهِ وَأَسْرَفُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلا تُسْرِفُوا}
    وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج (3) نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْس بْنِ شَمَّاس، جذَّ نَخْلًا. فَقَالَ: لَا يَأْتِينِي الْيَوْمَ أَحَدٌ إِلَّا أَطْعَمْتُهُ. فَأَطْعَمَ حَتَّى أَمْسَى وَلَيْسَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْهُ.
    وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: يَنْهَى عَنِ السَّرَفِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
    وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَا جَاوَزْتَ بِهِ أَمْرَ اللَّهِ فَهُوَ سَرَفٌ.
    وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تُسْرِفُوا} قَالَ: لَا تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ، فَتَقْعُدُوا فُقَرَاءَ.
    وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلا تُسْرِفُوا} قَالَ: لَا تَمْنَعُوا الصدقة فتعصوا.
    ثُمَّ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ عَطَاءٍ: إِنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا [إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] } (1) أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الْأَكْلِ، أَيْ: وَلَا تُسْرِفُوا فِي الْأَكْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَضَرَّةِ الْعَقْلِ وَالْبَدَنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] (2) } [الأعراف: 31] ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا: "كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ" (3) وَهَذَا مِنْ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} أَيْ: وَأَنْشَأَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ مَا هُوَ حَمُولَةٌ وَمَا هُوَ فَرْشٌ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَمُولَةِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْفَرْشُ الصِّغَارُ مِنْهَا. كَمَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {حَمُولَةً} مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِبِلِ، {وَفَرْشًا} وَقَالَ: الصِّغَارُ مِنَ الْإِبِلِ.
    رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
    وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَمُولَةُ: الْكِبَارُ، وَالْفَرْشُ [هِيَ] (4) الصِّغَارُ مِنَ الْإِبِلِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ.
    وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس: {وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} فَأَمَّا الْحَمُولَةُ فَالْإِبِلُ وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَكُلُّ شَيْءٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْفَرْشُ فَالْغَنَمُ.
    وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: وَأَحْسَبُهُ إِنَّمَا سُمِّيَ فَرْشًا لِدُنُوِّهِ مِنَ الْأَرْضِ.
    وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: الْحَمُولَةُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَالْفَرْشُ: الْغَنَمُ.
    وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمَّا الْحَمُولَةُ فَالْإِبِلُ، وَأَمَّا الْفَرْشُ فالفُصْلان والعَجَاجيل وَالْغَنَمُ، وَمَا حُمِلَ عَلَيْهِ فَهُوَ حَمُولَةٌ.
    قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الْحَمُولَةُ مَا تَرْكَبُونَ، وَالْفَرْشُ مَا تَأْكُلُونَ وَتَحْلِبُونَ، شَاةٌ لَا تَحْمِلُ، تَأْكُلُونَ لَحْمَهَا وَتَتَّخِذُونَ مِنْ صُوفِهَا لِحَافًا وَفَرْشًا (5) .
    وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَسَنٌ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71، 72] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ] } (6) إِلَى أَنْ قَالَ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النَّحْلِ: 69 -80] ، وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} [غافر: 79 -81] .
    وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أَيْ: مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالْأَنْعَامِ، فَكُلُّهَا خَلَقَهَا اللَّهُ [تَعَالَى] (1) وَجَعَلَهَا رِزْقًا لَكُمْ، {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أَيْ: طَرَائِقَهُ وَأَوَامِرَهُ، كَمَا اتَّبَعَهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ حَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، أَيْ: مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، {إِنَّهُ لَكُمْ} أَيْ: إِنَّ الشَّيْطَانَ -أَيُّهَا النَّاسُ -لَكُمْ {عَدُوٌّ مُبِينٌ} أَيْ: بَيِّن ظَاهِرُ الْعَدَاوَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فَاطِرٍ: 6] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} الْآيَةَ، [الْأَعْرَافِ: 27] ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَتَتَّخِذُو َهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا} [الْكَهْفِ: 50] . والآيات في هذا كثيرة في القرآن.

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة الأعراف مع الآية 31 وتفسيرها :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) }
    هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ردٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ عُراة، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ (1) -وَاللَّفْظُ لَهُ -مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْل، عَنْ مُسْلِمٍ البَطِين، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ: الرِّجَالُ بِالنَّهَارِ، وَالنِّسَاءُ بِاللَّيْلِ. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَقُولُ:
    اليومَ يبدُو بعضُه أَوْ كُلّه ... وَمَا بَدَا مِنْه فَلَا أحِلّهُ ...
    فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (2)
    وَقَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ [تَعَالَى] (3) {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ رِجَالٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالزِّينَةِ -وَالزِّينَةُ: اللِّبَاسُ، وَهُوَ مَا يُوَارِي السَّوْأَةَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ جَيّد البزِّ وَالْمَتَاعِ -فَأُمِرُوا أَنْ يَأْخُذُوا زِينَتَهُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.
    وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخعي، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي، والضحاك، وَمَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهَا: أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي طَوَائِفِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً.
    وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ بْنُ مَرْدُويه، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ وَالْأَوْزَاعِي ِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا؛ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ (1) فِي الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ. وَلَكِنْ فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ (2) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَلِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا مِنَ السُّنَّةِ، يُسْتَحَبُّ التَّجَمُّلُ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَلَا سِيَّمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ الْعِيدِ، وَالطِّيبُ لِأَنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالسِّوَاكُ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ، وَمِنْ أَفْضَلِ الثِّيَابِ (3) الْبَيَاضُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
    حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيم، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خير ثيابكم، وكَفِّنوا فيها موتاكم، وإن خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الإثْمِد، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ".
    هَذَا حَدِيثٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ، رِجَالُهُ (4) عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيم، بِهِ (5) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
    وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ أَيْضًا، وَأَهْلِ السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، عَنْ سَمُرَة بْنِ جُنْدَب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَيْكُمْ بِالثِّيَابِ الْبَيَاضِ فَالْبَسُوهَا؛ فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ" (6)
    وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ (7) صَحِيحٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ اشْتَرَى رِدَاءً بِأَلْفٍ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ.
    وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] } (8) الْآيَةَ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَمَعَ اللَّهُ الطِّبَّ كُلَّهُ فِي نِصْفِ آيَةٍ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}
    وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ خَصْلَتَانِ: سرَف ومَخِيلة.
    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْر، عَنْ مَعْمَر، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَحَلَّ اللَّهُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، مَا لَمْ يَكُنْ سرَفًا أو مَخِيلة. إسناده صَحِيحٌ.
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْز، حَدَّثَنَا هَمّام، عَنْ قَتَادَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْب، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ مَخِيلة وَلَا سرَف، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى (1) نِعْمَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ" (2)
    وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلة" (3)
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سُلَيْمٍ الكِناني، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَابِرٍ الطَّائِيُّ (4) سَمِعْتُ الْمِقْدَامَ بن معد يكرب الْكِنْدِيَّ (5) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلبه، فَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لَا مَحَالَةَ، فَثُلْثٌ طعامٌ، وَثُلُثٌ شرابٌ، وَثُلُثٌ لِنَفَسَهِ".
    وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيّ ُ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ، بِهِ (6) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ -وَفِي نُسْخَةٍ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
    وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا سُوَيْد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ (7) حَدَّثَنَا بَقِيَّة، عَنْ يُوسُفَ ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ نُوحِ بْنِ ذَكْوان، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ السَّرف أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ".
    وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِهِ بَقِيَّةُ. (8)
    وَقَالَ السُّدِّي: كَانَ الَّذِينَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، يُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمُ الودَكَ مَا أَقَامُوا فِي الْمَوْسِمِ؛ فَقَالَ اللَّهُ [تَعَالَى] (9) لَهُمْ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] } (10) يَقُولُ: لَا تُسْرِفُوا فِي التَّحْرِيمِ.
    وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ.
    وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {وَلا تُسْرِفُوا} يَقُولُ: وَلَا تَأْكُلُوا حَرَامًا، ذَلِكَ الْإِسْرَافُ.
    وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَكُلُوا (11) وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} يَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ [تَعَالَى] (1) لَا يُحِبُّ الْمُتَعَدِّينَ (2) حَدَّه فِي حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، الْغَالِينَ فِيمَا أَحَلَّ أَوْ حَرّم، بِإِحْلَالِ الْحَرَامِ وَبِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُحَلَّلَ مَا أَحَلَّ، وَيُحَرَّمَ مَا حَرَّمَ، وَذَلِكَ الْعَدْلُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ.

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة الأعراف مع الآيتان 55-56 وتفسيرهما :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) }
    أرشد [سبحانه و] (5) تعالى عِبَادَهُ إِلَى دُعَائِهِ، الَّذِي هُوَ صَلَاحُهُمْ فِي دنياهم وأخراهم، فقال تعالى:
    {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [قِيلَ] (1) مَعْنَاهُ: تَذَلُّلًا وَاسْتِكَانَةً، وَ {خُفْيَة} كَمَا قَالَ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (2) ] } [الْأَعْرَافِ:205] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (3) قَالَ: رَفَعَ النَّاسُ أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أصمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (4) (5) الْحَدِيثَ.
    وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ ِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} قَالَ: السِّرُّ.
    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: {تَضَرُّعًا} تَذَلُّلًا وَاسْتِكَانَةً لِطَاعَتِهِ. {وَخُفْيَة} يَقُولُ: بِخُشُوعِ قُلُوبِكُمْ، وَصِحَّةِ الْيَقِينِ بِوَحْدَانِيَّت ِهِ وَرُبُوبِيَّتِه ِ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، لَا جِهَارًا وَمُرَاءَاةً.
    وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فُضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إنْ كانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ. وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ فقُه (6) الْفِقْهَ الْكَثِيرَ، وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ. وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ فِي بَيْتِهِ وَعِنْدَهُ الزُّوَّر وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ. وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي السِّرِّ، فَيَكُونُ عَلَانِيَةً أَبَدًا. وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ، وَمَا يُسمع لَهُمْ صَوْتٌ، إِنْ كَانَ إِلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] } (7) وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَبْدًا صَالِحًا رَضِي فِعْلَهُ فَقَالَ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مَرْيَمَ:3]
    وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ وَالنِّدَاءُ والصياحُ فِي الدُّعَاءِ، وَيُؤْمَرُ بِالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِكَانَ ةِ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ ِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فِي الدُّعَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ.
    وَقَالَ أَبُو مِجْلِز: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} لَا يُسْأَلُ (8) مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ.
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن زياد ابن مِخْراق، سَمِعْتُ أَبَا نَعَامَةَ (9) عَنْ مَوْلًى لِسَعْدٍ؛ أَنَّ سَعْدًا سَمِعَ ابْنًا لَهُ يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَإِسْتَبْرَقَه َا وَنَحْوًا مِنْ هَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا. فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَتَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَرٍّ كَثِيرٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ". وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] } (10)
    وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَقُولَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ" (1)
    وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ مِخْرَاقٍ، عَنْ أَبِي نَعَامة، عَنِ ابْنٍ لِسَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، فَذَكَرَهُ (2) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عفَّان، حَدَّثَنَا حَمَّاد بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَعَامة: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ (3) سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَعُذْ بِهِ مِنَ النَّارِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "يَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ والطَّهُور".
    وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَفَّانَ بِهِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو داود، عن موسى ابن إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَعَامة (4) -وَاسْمُهُ: قيس ابن عَبَايَةَ الْحَنَفِيُّ الْبَصْرِيُّ -وَهُوَ إِسْنَادٌ حَسَنٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} يَنْهَى تَعَالَى عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَضَرَّهُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ! فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ مَاشِيَةً عَلَى السَّدَادِ، ثُمَّ وَقَعَ الْإِفْسَادُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَانَ أَضَرَّ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ. فَنَهَى [اللَّهُ] (5) تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ وَالتَّذَلُّلِ لَدَيْهِ، فَقَالَ: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أَيْ: خَوْفًا مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ وَبِيلِ الْعِقَابِ، وَطَمَعًا فِيمَا عِنْدَهُ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ.
    ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أَيْ: إِنَّ رَحْمَتَهُ مُرْصَدة لِلْمُحْسِنِينَ ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَوَامِرَهُ وَيَتْرُكُونَ زَوَاجِرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. [وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ] } (6) [الْأَعْرَافِ: 156، 157] .
    وَقَالَ: {قَرِيبٌ} وَلَمْ يَقُلْ: "قَرِيبَةٌ"؛ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ الرَّحْمَةَ مَعْنَى الثَّوَابِ، أَوْ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى اللَّهِ، فَلِهَذَا قَالَ: قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
    وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ: تَنَجَّزوا مَوْعُودَ (7) اللَّهِ بِطَاعَتِهِ، فَإِنَّهُ قَضَى أَنَّ رَحْمَتَهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة الأنفال مع الآية 58 وتفسيرها :
    بسم الله الرحمن الرحم
    {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) }
    يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (2) {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ} قَدْ عَاهَدْتَهُمْ {خِيَانَةً} أَيْ: نَقْضًا لِمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْمَوَاثِيقِ وَالْعُهُودِ، {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} أَيْ: عَهْدَهُمْ {عَلَى سَوَاءٍ} أَيْ: أَعْلِمْهُمْ بِأَنَّكَ قَدْ نَقَضْتَ عَهْدَهُمْ حَتَّى يَبْقَى عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِأَنَّكَ حَرْبٌ لَهُمْ، وَهُمْ حَرْبٌ لَكَ، وَأَنَّهُ لَا عَهْدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ، أَيْ: تَسْتَوِي أَنْتَ وَهُمْ فِي ذَلِكَ، قَالَ الرَّاجِزُ. فَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدر [الأعْداء] (3) حَتَّى يُجِيبُوكَ إِلَى السَّوَاءِ (4)
    وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} أَيْ: عَلَى مَهْلٍ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} أَيْ: حَتَّى وَلَوْ في حق الكفارين، لَا يُحِبُّهَا أَيْضًا.
    قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (5) عَنْ أَبِي الْفَيْضِ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ يَسِيرُ فِي أَرْضِ الرُّومِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَدٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُمْ، فَإِذَا انْقَضَى الْأَمَدُ غَزَاهُمْ، فَإِذَا شَيْخٌ عَلَى دَابَّةٍ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ [اللَّهُ أَكْبَرُ] (6) وَفَاءً لَا غَدْرًا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يحلَّنَّ عُقْدَةً وَلَا يَشُدَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ" قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، فَرَجَعَ، وَإِذَا الشَّيْخُ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
    وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ ، عَنْ شُعْبَةَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ، بِهِ (7) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ سَلْمَانَ -يَعْنِي الْفَارِسِيَّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى حِصْنٍ -أَوْ: مَدِينَةٍ -فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: دَعُونِي أَدْعُوهُمْ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (8) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ، فَقَالَ: إِنَّمَا كُنْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ (9) فَهَدَانِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْإِسْلَامِ، فَإِذَا أَسْلَمْتُمْ فَلَكُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْنَا، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَأَدُّوا الْجِزْيَةَ وَأَنْتُمْ صَاغِرُونَ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ نَابَذْنَاكُمْ عَلَى سَوَاءٍ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ غَدَا النَّاسُ إِلَيْهَا فَفَتَحُوهَا بِعَوْنِ اللَّهِ (1)

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة التوبة مع الآيات 1-7 وتفسيرها :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
    فَقَوْلُهُ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ: هَذِهِ بَرَاءَةٌ، أَيْ: تَبَرُّؤٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}
    اختلف المفسرون ها هنا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِذَوِي الْعُهُودِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتَةِ، أَوْ مَنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَيُكْمَلُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مؤقَّت فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، مَهْمَا كَانَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التَّوْبَةِ:4] وَلِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ: "وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ". وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا، وَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، ورُوي عَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ.
    وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} قَالَ: حَدَّ اللَّهُ لِلَّذِينِ عَاهَدُوا رَسُولَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ حَيْثُمَا شَاءُوا، وَأَجَّلَ أَجَلَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ، انسلاخَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، [مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى انْسِلَاخِ الْمُحَرَّمِ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ لَيْلَةً، فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ] (2) أَمَرَهُ بِأَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فَيمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ.
    وَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
    وَقَالَ [الضَّحَّاكُ] (3) بَعْدَ قَوْلِهِ: فَذَلِكَ خَمْسُونَ لَيْلَةً: فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِذَا انْسَلَخَ الْمُحَرَّمُ أَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ، يَقْتُلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ. وَأَمَرَ مِمَّنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ إِذَا انْسَلَخَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى عَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، أَنْ يَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ (4) حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ.
    وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِثَلَاثِينَ آيَةً أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ "بَرَاءَةَ" فقرأها عَلَى النَّاسِ، يُؤَجِّلُ الْمُشْرِكِينَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ، فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ يَوْمَ عَرَفَةَ، أجَّل الْمُشْرِكِينَ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمِ، وَصَفَرٍ، وَشَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَعَشْرًا مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَقَالَ: لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ عَامِنَا هَذَا مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ.
    وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إِلَى أَهْلِ الْعَهْدِ: خُزَاعَةَ، ومُدْلِج، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ أَوْ غَيْرُهُمْ. أَقْبَلَ (1) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ حِينَ فَرَغَ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجُّ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا يَحْضُرُ الْمُشْرِكُونَ فَيَطُوفُونَ عُرَاة، فَلَا أُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى لَا يَكُونَ ذَلِكَ". فَأَرْسَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَطَافَا بِالنَّاسِ فِي ذِي المجَاز وَبِأَمْكِنَتِه ِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِهَا بِالْمَوَاسِمِ كُلِّهَا، فَآذَنُوا أَصْحَابَ الْعَهْدِ بِأَنْ يَأْمَنُوا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَهِيَ الْأَشْهُرُ الْمُتَوَالِيَا تُ: عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى عَشْرٍ يَخْلُونَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، ثُمَّ لَا عَهْدَ لَهُمْ، وَآذَنَ النَّاسَ كلَّهم بِالْقِتَالِ إِلَّا أَنْ يُؤَمَّنُوا.
    وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ: وقَتَادَةَ.
    وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ ابْتِدَاءُ التَّأْجِيلِ مِنْ شَوَّالٍ وَآخِرُهُ سَلْخَ الْمُحَرَّمِ.
    وَهَذَا الْقَوْلُ غَرِيبٌ، وَكَيْفَ يُحَاسَبُونَ بِمُدَّةٍ لَمْ يَبْلُغْهُمْ حُكْمَهَا، وَإِنَّمَا ظَهَرَ لَهُمْ أَمْرُهَا يَوْمَ النَّحْرِ، حِينَ نَادَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
    {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) }
    يَقُولُ تَعَالَى: وَإِعْلَامٌ {مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وتَقَدُّم وَإِنْذَارٌ إِلَى النَّاسِ، {يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ} وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْمَنَاسِكِ وَأَظْهَرُهَا وَأَكْثَرُهَا جَمْعًا (2) {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} أَيْ: بَرِيءٌ مِنْهُمْ أَيْضًا.
    ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ إِلَيْهِ فَقَالَ: {فَإِنْ تُبْتُمْ} أَيْ: مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أَيِ: اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} بَلْ هُوَ قَادِرٌ، وَأَنْتُمْ فِي قَبْضَتِهِ، وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا بِالْخِزْيِ والنَّكال، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْمَقَامِعِ وَالْأَغْلَالِ.
    قَالَ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عَقيل، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، في
    تِلْكَ الحَجَّة فِي المُؤذِّنين، بَعَثَهُمْ يَوْمَ (1) النَّحْرِ، يُؤذِّنون بِمِنَى: أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ (2) بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. قَالَ حُمَيْدٌ: ثُمَّ أَرْدَفَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّن بِبَرَاءَةَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فأذَّنَ مَعَنَا عليٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِبَرَاءَةَ وَأَلَّا يَحُجَّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان (3)
    وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيب، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤذِّن يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنَى: لَا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف (4) بالبيت عُريان، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ: "الْأَكْبَرُ"، مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ: "الْحَجُّ الْأَصْغَرُ"، فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِي حَجَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِكٌ.
    وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ "الْجِهَادِ" (5)
    وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قَالَ: لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ حُنَيْنٍ، اعْتَمَرَ مِنْ الجِعِرَّانة، ثُمَّ أمرَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى تِلْكَ الْحَجَّةِ -قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يحدِّث أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أمرَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ فِي حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ (6) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ أَتْبَعَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ عَلَى الْمَوْسِمِ كَمَا هُوَ، أَوْ قَالَ: عَلَى هَيْئَتِهِ (7)
    وَهَذَا السِّيَاقُ فِيهِ غَرَابَةٌ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَمِيرَ (8) الْحَجِّ كَانَ سَنَةَ عُمْرَةِ الجِعرَّانة إِنَّمَا هُوَ عَتَّاب بْنُ أُسَيْدٍ، فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا كَانَ أَمِيرًا سَنَةَ تِسْعٍ.
    وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مُحرِّر بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ "بِبَرَاءَةَ"، فَقَالَ: مَا كُنْتُمْ تُنَادُونَ؟ قَالَ: كُنَّا نُنَادِي: أَلَّا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَإِنَّ أَجَلَهُ (9) -أَوْ أمَدَه -إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ فَإِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وَلَا يَحُجُّ هَذَا الْبَيْتَ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ. قَالَ: فَكُنْتُ (10) أُنَادِي حَتَّى صَحل صوتي (11)
    وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَرر بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي، فَكَانَ إِذَا صَحل ناديتُ. قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُنَادُونَ؟ قَالَ: بِأَرْبَعٍ: لَا يَطُوفُ (2) بِالْكَعْبَةِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ عَامِنَا مُشْرِكٌ.
    رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ غَيْرِ مَا وَجْهٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، بِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، فَعَهْدُهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ
    قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ وَهْمًا مِنْ بَعْضِ نَقَلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ مُتَظَاهِرَةٌ فِي الْأَجَلِ بِخِلَافِهِ (5)
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ سِماك، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِ"بَرَاءَةَ" مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَا الْحُلَيْفَةِ قَالَ: "لَا يُبَلِّغُهَا إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي". فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (6)
    وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ عَفَّانَ وَعَبْدِ الصَّمَدِ، كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ (7) ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
    وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ -لُوَين (8) -حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ حَنَش، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ "بَرَاءَةَ" عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ، فَبَعَثَهُ بِهَا لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ (9) أَدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ، فَحَيْثُمَا لَحِقْتَهُ فَخُذِ الْكِتَابَ مِنْهُ، فَاذْهَبْ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَاقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ". فَلَحِقْتُهُ بالجُحْفة، فَأَخَذْتُ الْكِتَابَ مِنْهُ، وَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: "لَا وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ جَاءَنِي فَقَالَ: لَنْ يُؤَدِّيَ عَنْكَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ" (10)
    هَذَا إِسْنَادٌ فِيهِ ضَعْفٌ.
    وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ، بَلْ بَعْدَ قَضَائِهِ لِلْمَنَاسِكِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى.
    وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَيْضًا: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ أَسْبَاطِ بن نصر، عن سماك، عَنْ حَنَشٍ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم حِينَ بَعَثَهُ بِ"بَرَاءَةَ" قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي لَسْتُ بِاللَّسِنِ وَلَا بِالْخَطِيبِ، قَالَ: "مَا بُدُّ لِي أَنْ أَذْهَبَ بِهَا أَنَا أَوْ تَذْهَبَ بِهَا أَنْتَ". قَالَ: فَإِنْ كَانَ وَلَا بدَّ فَسَأَذْهَبُ أَنَا. قَالَ: "انْطَلِقْ (1) فَإِنَّ اللَّهَ يُثَبِّتُ لِسَانَكَ وَيَهْدِي قَلْبَكَ". قَالَ: ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ (2)
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيع -رَجُلٌ مِنْ هَمْدان -: سَأَلْنَا عَلِيًّا: بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ؟ يَعْنِي: يَوْمَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْحَجَّةِ، قَالَ: بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ (3) إِلَى مُدَّتِهِ، وَلَا يَحُجُّ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُون َ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا.
    وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قِلَابَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ (4) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
    كَذَا قَالَ، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَقَالَ: عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيع (5) وَهِمَ فِيهِ. وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيع، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُنْزِلَتْ "بَرَاءَةُ" بِأَرْبَعٍ: أَلَّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَقْرَبَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ (6)
    ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُمِرْتُ بِأَرْبَعٍ. فَذَكَرَهُ (7)
    وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيع قَالَ: نَزَلَتْ بَرَاءَةُ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ عَلِيًّا، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: نَزَلَ (8) فِيَّ شَيْءٌ؟ قَالَ: " لَا وَلَكِنْ أُمِرْتُ أَنْ أُبَلِّغَهَا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي". فَانْطَلَقَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَامَ فِيهِمْ بِأَرْبَعٍ: لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، فَعَهْدُهُ إلى مدته (9)
    وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ (1) بْنِ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْف، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ "بَرَاءَةُ" عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ (2) بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ لِيُقِيمَ الْحَجَّ لِلنَّاسِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ بَعَثْتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ. فَقَالَ: "لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي". ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا فَقَالَ: "اخْرُجْ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ (3) مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةَ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ إِذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى: أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُف (4) بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ".
    فَخَرَجَ عَلِيٌّ (5) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَضْبَاءِ، حَتَّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ فِي الطَّرِيقِ (6) فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ؟ قَالَ (7) بَلْ مَأْمُورٌ، ثُمَّ مَضَيَا (8) فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، [وَالْعَرَبُ] (9) إِذْ ذَاكَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْحَجِّ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، قَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالَّذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ كَافِرٌ، وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ، وَلَا يَطُف (10) بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ. فَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، ثُمَّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَانَ هَذَا مِنْ "بَرَاءَةَ" فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامِّ، وَأَهْلِ الْمُدَّةِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى.
    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بن عبد الحكم، أخبرنا أَبُو زُرْعة وَهْبُ اللَّهِ بْنُ رَاشِدٍ، أَخْبَرَنَا حَيْوَة بْنُ شُريح: أَخْبَرَنَا أَبُو (11) صَخْرٍ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيَّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا الصَّهْبَاءِ الْبَكْرِيَّ وَهُوَ يَقُولُ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (12) عَنْ "يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ" فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافة يُقِيمُ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَبَعَثَنِي مَعَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ " بَرَاءَةَ"، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَخَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَلَمَّا قَضَى خُطْبَتَهُ الْتَفَتَ إليَّ فَقَالَ: قُمْ، يَا عَلِيُّ، فَأَدِّ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُمْتُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ "بَرَاءَةَ"، ثُمَّ صَدَرنا فَأَتَيْنَا مِنًى، فَرَمَيْتُ الْجَمْرَةَ ونحرتُ الْبَدَنَةَ، ثُمَّ حَلَقْتُ رَأْسِي، وَعَلِمْتُ أَنَّ أَهْلَ الْجَمْعِ لَمْ يَكُونُوا حَضَرُوا كُلُّهُمْ خُطْبَةَ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَطُفْتُ أَتَتَبَّعُ بِهَا الْفَسَاطِيطَ أَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ، فَمِنْ ثَمَّ إِخَالُ حَسِبْتُمْ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ [أَلَا وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ] (13) أَلَا وَهُوَ (14) يَوْمُ عَرَفَةَ (15)
    وَقَالَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: سَأَلْتُ أَبَا جُحَيفة عن يوم الحج الأكبر، قال: يَوْمُ عَرَفَةَ. فَقُلْتُ: أمِنْ عِنْدِكَ أَمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: كُلٌّ فِي ذَلِكَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا، عَنْ جُرَيْج، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، يَوْمُ عَرَفَةَ.
    وَقَالَ عُمَر بْنُ الْوَلِيدِ الشَّنِّي: حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ العَصَريّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: هَذَا يَوْمُ عَرَفَةَ، هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَلَا يُصَومَنَّهُ أَحَدٌ. قَالَ: فَحَجَجْتُ بَعْدَ أَبِي فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَسَأَلْتُ عَنْ أَفْضَلِ أَهْلِهَا، فَقَالُوا: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي سَأَلْتُ عَنْ أَفْضَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، فَأَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنِّي مِائَةَ ضِعْفٍ عُمَرُ -أَوْ: ابْنُ عُمَرَ -كَانَ يَنْهَى عَنْ صَوْمِهِ، وَيَقُولُ (2) هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ.
    رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (3) وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٍ، وعِكْرِمة، وَطَاوُسٍ: أَنَّهُمْ قَالُوا: يَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ.
    وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْج: أُخْبِرْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَ: "هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ" (4)
    وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ المِسْوَر بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ خَطَبَهُمْ بِعَرَفَاتٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ".
    وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ.
    قَالَ هُشَيْم، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ.
    وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعي، عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، سَأَلْتُ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَقَالَ: [هُوَ] (5) يَوْمُ النَّحْرِ.
    وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ الْجَزَّارِ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ يُرِيدُ الْجَبَّانَةَ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَقَالَ: هُوَ يَوْمُكَ هَذَا، خَل سبيلها.
    وقال عبد الرازق، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ شُعْبَةَ (6) عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النحر.
    وَرَوَى شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، بِهِ نَحْوَهُ. وَهَكَذَا (1) رَوَاهُ هُشَيْمٌ وَغَيْرُهُ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى.
    وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: خَطَبَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَوْمَ الْأَضْحَى عَلَى بَعِيرٍ فَقَالَ: هَذَا يَوْمُ الْأَضْحَى، وَهَذَا يَوْمُ النَّحْرِ، وَهَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ.
    وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاك، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ، يَوْمُ النَّحْرِ.
    وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جُحَيْفة، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَير، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَير بْنِ مُطْعِمٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي، وَمُجَاهِدٍ، وعِكْرِمة، وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، والزُّهْرِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ أُخَرُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّجِسْتَانِي ُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَابِرٍ الْحَرَمِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ الْغَازِ الْجُرَشِيُّ-عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْجَمَرَاتِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: "هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ" (2)
    وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدُويه مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَابِرٍ -وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ، بِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ نَافِعٍ، بِهِ.
    وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة عَنْ مُرَّةَ الهَمْداني، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ مُخَضْرَمَةٍ، فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ يَوْمُكُمْ هَذَا؟ " قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ. قَالَ: "صَدَقْتُمْ، يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ" (3)
    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيع، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، قَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ، وَأَخَذَ النَّاسُ بِخِطَامِهِ -أَوْ: زِمَامِهِ -فَقَالَ: "أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ " قَالَ: فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ، فَقَالَ: "أَلَيْسَ هَذَا يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ" (4)
    وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحِ.
    وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ شَبِيبُ بْنُ غَرْقَدَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الأحوص، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: "أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ " فَقَالُوا: الْيَوْمُ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ (1)
    وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَيَّامُ الْحَجِّ كُلِّهَا.
    وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ سُفْيَانُ: "يَوْمُ الْحَجِّ"، وَ"يَوْمُ الْجَمَلِ"، وَ"يَوْمُ صِفِّينَ" أَيْ: أَيَّامُهُ كُلُّهَا.
    وَقَالَ سَهْلٌ السَّرَّاجُ: سُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَقَالَ: مَا لَكُمْ وَلِلْحَجِّ الْأَكْبَرِ، ذَاكَ عَامٌ حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ، الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَجَّ بِالنَّاسِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا -يَعْنِي ابْنَ سِيرِينَ -عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَقَالَ: كَانَ يَوْمًا وَافَقَ فِيهِ حَجُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ أَهْلِ الْوَبَرِ (2)
    {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) }
    هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَرْبِ مُدَّةِ التَّأْجِيلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لِمَنْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ، فَأَجَلُهُ، أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ، يَذْهَبُ فِيهَا لِيَنْجُوَ بِنَفْسِهِ حَيْثُ شَاءَ، إِلَّا مَنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ، فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ الْمَضْرُوبَةِ الَّتِي عُوهِدَ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ: "وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ" وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَلَّا يَنْقُضَ الْمُعَاهَدُ عَهْدَهُ، وَلَمْ يُظَاهِرْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَحَدًا، أَيْ: يُمَالِئْ عَلَيْهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ، فَهَذَا الَّذِي يُوَفَّى لَهُ بِذِمَّتِهِ وَعَهْدِهِ (3) إِلَى مُدَّتِهِ؛ وَلِهَذَا حَرَّضَ (4) اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْوَفَاءِ بِذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أَيْ: الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِمْ.
    {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
    اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ هَاهُنَا، مَا هِيَ؟ فَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّهَا [الْأَرْبَعَةُ] (5) الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ [التَّوْبَةِ:36] ، قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: آخِرُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي حَقِّهِمُ الْمُحَرَّمُ وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ حَكَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا، وفيه نظر، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ السِّيَاقِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَشْهُرُ التَّسْيِيرِ الْأَرْبَعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: {فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التَّوْبَةِ: 2] ثُمَّ قَالَ {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ} أَيْ: إِذَا انْقَضَتِ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ فِيهَا قِتَالَهُمْ، وَأَجَّلْنَاهُم ْ فِيهَا، فَحَيْثُمَا وَجَدْتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ؛ لِأَنَّ عَوْدَ الْعَهْدِ عَلَى مَذْكُورٍ أَوْلَى مِنْ مُقَدَّرٍ؛ ثُمَّ إِنَّ الْأَشْهُرَ الْأَرْبَعَةَ الْمُحَرَّمَةَ سَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِهَا فِي آيَةٍ أُخْرَى بَعْدُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ.
    وَقَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } أَيْ: مِنَ الْأَرْضِ. وَهَذَا عَامٌّ، وَالْمَشْهُورُ تَخْصِيصُهُ بِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 191]
    وَقَوْلُهُ: {وَخُذُوهُمْ} أَيْ: وَأْسِرُوهُمْ، إِنْ شِئْتُمْ قَتْلًا وَإِنْ شِئْتُمْ أَسْرًا.
    وَقَوْلُهُ: {وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أَيْ: لَا تَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ وِجْدَانِكُمْ لَهُمْ، بَلِ اقْصِدُوهُمْ بِالْحِصَارِ فِي مَعَاقِلِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَالرَّصْدِ فِي طُرُقِهِمْ وَمَسَالِكِهِمْ حَتَّى تُضَيِّقُوا عَلَيْهِمُ الْوَاسِعَ، وَتَضْطَرُّوهُم ْ إِلَى الْقَتْلِ أَوِ الْإِسْلَامِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
    وَلِهَذَا اعْتَمَدَ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَمْثَالِهَا، حَيْثُ حَرَّمَتْ قِتَالَهُمْ بِشَرْطِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَهِيَ الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْقِيَامُ بِأَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ. وَنَبَّهَ بِأَعْلَاهَا عَلَى أَدْنَاهَا، فَإِنَّ أَشْرَفَ الْأَرْكَانِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ الصَّلَاةُ، الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَبَعْدَهَا أَدَاءُ الزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ نَفْعٌ مُتَعَدٍّ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ ، وَهِيَ أَشْرَفُ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَلِّقَة ِ بِالْمَخْلُوقِي نَ؛ وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (1) عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا (2) أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ" الْحَدِيثَ.
    وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أُمِرْتُمْ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَمَنْ لَمْ يُزَكِّ فَلَا صَلَاةَ لَهُ.
    وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ الصَّلَاةَ إِلَّا بِالزَّكَاةِ، وَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، مَا كَانَ أَفْقَهَهُ.
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَنْبَأَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا، وَصَلُّوا صَلَاتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ".
    وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَأَهْلُ السُّنَنِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، بِهِ (1)
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ [عَنْ أَنَسٍ] (2) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "من فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَعِبَادَتِهِ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، فَارَقَهَا وَاللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ" -قَالَ: وَقَالَ أَنَسٌ: هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَبَلَّغُوهُ عَنْ رَبِّهِمْ، قَبْلَ هَرْجِ الْأَحَادِيثِ، وَاخْتِلَافِ الْأَهْوَاءِ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي آخِرِ مَا أُنْزِلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} -قَالَ: تَوْبَتُهُمْ خَلْعُ الْأَوْثَانِ، وَعِبَادَةُ رَبِّهِمْ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، ثُمَّ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (3) [التَّوْبَةِ: 11]
    وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.
    وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ "الصَّلَاةِ" لَهُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَنَا حَكَّام بْنُ سِلْم (4) حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، بِهِ سَوَاءً (5)
    وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هِيَ آيَةُ السَّيْفِ الَّتِي قَالَ فِيهَا الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ: إِنَّهَا نَسَخَتْ كُلَّ عَهْدٍ بَيْنَ النَّبِيِّ (6) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكُلَّ عَهْدٍ، وَكُلَّ مُدَّةٍ.
    وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ وَلَا ذِمَّةٌ، مُنْذُ نَزَلَتْ بَرَاءَةُ وَانْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَمُدَّةُ مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ (7) أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، مِنْ يَوْمِ أُذِّنَ بِبَرَاءَةَ إِلَى عَشْرٍ مِنْ أَوَّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ.
    وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فِيمَنْ عَاهَدَ إِنْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَنَقْضِ مَا كَانَ سَمَّى لَهُمْ مِنَ الْعَقْدِ وَالْمِيثَاقِ، وَأَذْهَبَ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ.
    وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ موسى الأنصاري قال: قال سفيان (8) قال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعَةِ أَسْيَافٍ: سَيْفٍ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ (1) قَالَ اللَّهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [وَخُذُوهُمْ] } (2)
    هَكَذَا رَوَاهُ مُخْتَصَرًا، وَأَظُنُّ أَنَّ السَّيْفَ الثَّانِيَ هُوَ قِتَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التَّوْبَةِ:29] وَالسَّيْفُ الثَّالِثُ: قِتَالُ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ [وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] } [التَّوْبَةِ: 73، وَالتَّحْرِيمِ:9] (3) وَالرَّابِعُ: قِتَالُ الْبَاغِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الْحُجُرَاتِ:9]
    ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي آيَةِ السَّيْفِ هَذِهِ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [مُحَمَّدٍ:4] وَقَالَ قَتَادَةُ بِالْعَكْسِ.
    {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) }
    يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الَّذِينَ أَمَرْتُكَ بِقِتَالِهِمْ، وَأَحْلَلْتُ لَكَ اسْتِبَاحَةَ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، {اسْتَجَارَكَ} أَيْ: اسْتَأْمَنَكَ، فَأَجِبْهُ إِلَى طِلْبَتِهِ {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} أَيْ: [الْقُرْآنَ] (4) تَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ وَتَذْكُرُ لَهُ شَيْئًا مِنْ [أَمْرِ] (5) الدِّينِ تُقِيمُ عَلَيْهِ بِهِ حُجَّةَ اللَّهِ، {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أَيْ: وَهُوَ آمِنٌ مُسْتَمِرُّ الْأَمَانِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بِلَادِهِ وَدَارِهِ وَمَأْمَنِهِ، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ: إِنَّمَا شَرَعْنَا أَمَانَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ لِيَعْلَمُوا دِينَ اللَّهِ، وَتَنْتَشِرَ دَعْوَةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ.
    وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: إِنْسَانٌ يَأْتِيكَ يَسْمَعُ مَا تَقُولُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَأْتِيَكَ فَيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، وَحَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ، حَيْثُ جَاءَ.
    وَمِنْ هَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الْأَمَانَ لِمَنْ جَاءَهُ، مُسْتَرْشِدًا أَوْ فِي رِسَالَةٍ، كَمَا جَاءَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّسُلِ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ: عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، ومِكْرَز بْنُ حَفْصٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَغَيْرُهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، يَتَرَدَّدُونَ فِي الْقَضِيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، فَرَأَوْا مِنْ إِعْظَامِ الْمُسْلِمِينَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بَهَرَهُمْ وَمَا لَمْ يُشَاهِدُوهُ عِنْدَ مَلِكٍ وَلَا قَيْصَرَ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَأَخْبَرُوهُمْ بِذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ هِدَايَةِ أَكْثَرِهِمْ.
    وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
    وَلِهَذَا أَيْضًا لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "أَتَشْهَدُ (1) أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ؟ " قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ" (2) وَقَدْ قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ ضَرْبَ الْعُنُقِ فِي إِمَارَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ النَّوَّاحَةِ، ظَهَرَ عَنْهُ فِي زَمَانِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ يَشْهَدُ لِمُسَيْلِمَةَ بِالرِّسَالَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ الْآنَ لَسْتَ فِي رِسَالَةٍ، وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبْتَ عُنُقُهُ، لَا رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَعَنَهُ.
    وَالْغَرَضُ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَدَاءِ رِسَالَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ، أَوْ طَلَبِ صُلْحٍ أَوْ مُهَادَنَةٍ أَوْ حَمْلِ جِزْيَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَطَلَبَ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَمَانًا، أُعْطِيَ أَمَانًا مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَحَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَأْمَنِهِ وَوَطَنِهِ. لَكِنْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَنَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِيمَا (3) زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَنَقَصَ عَنْ سَنَةٍ قَوْلَانِ، عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، رحمهم الله.
    {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) }
    يُبَيِّنُ تَعَالَى (1) حِكْمَتَهُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَنَظْرَتِهِ إِيَّاهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ السَّيْفُ الْمُرْهَفُ أَيْنَ ثُقِفُوا، فَقَالَ تَعَالَى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} وَأَمَانٌ وَيُتْرَكُونَ فِيمَا هُمْ فِيهِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ كَافِرُونَ (2) بِهِ وَبِرَسُولِهِ، {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يَعْنِي يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} الْآيَةَ [الْفَتْحِ: 25] ، {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أَيْ: مَهْمَا (3) تَمَسَّكُوا بِمَا عَاقَدْتُمُوهُم ْ عَلَيْهِ وَعَاهَدْتُمُوه ُمْ مِنْ تَرْكِ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَدْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُون َ، اسْتَمَرَّ الْعَقْدُ وَالْهُدْنَةُ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فِي سَنَةِ سِتٍّ، إِلَى أَنْ نَقَضَتْ قُرَيْشٌ الْعَهْدَ وَمَالَئُوا حُلَفَاءَهُمْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ أَحْلَافِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَتَلُوهُمْ مَعَهُمْ فِي الْحَرَمِ أَيْضًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ غَزَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْبَلَدَ الْحَرَامَ، وَمَكَّنَهُ مِنْ نَوَاصِيهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فَأَطْلَقَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ، فَسُمُّوا الطُّلَقَاءَ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ، وَمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَفَرَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ وَالتَّسْيِيرِ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، يَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ: مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وعِكْرِمة بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ هَدَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ التَّامِّ، وَاللَّهُ الْمَحْمُودُ عَلَى جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ ويفعله.

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة التوبة مع الآيات 107-110 وتفسيرها :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ (108) }
    سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ (1) الْكَرِيمَاتِ: أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقدَم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ يُقَالُ لَهُ: "أَبُو عَامِرٍ الراهبُ"، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّر فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَرَأَ علْم أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ فِيهِ عِبَادَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَلَهُ شَرَفٌ فِي الْخَزْرَجِ كَبِيرٌ. فَلَمَّا قَدم رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَصَارَتْ لِلْإِسْلَامِ كَلِمَةٌ عَالِيَةٌ، وَأَظْهَرَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، شَرِق اللَّعِينُ أَبُو عَامِرٍ بِرِيقِهِ، وَبَارَزَ بِالْعَدَاوَةِ، وَظَاهَرَ بِهَا، وَخَرَجَ فَارًّا إِلَى كُفَّارِ مَكَّةَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فألَّبهم عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاجْتَمَعُوا بِمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَقَدِمُوا عَامَ أُحُدٍ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانَ، وَامْتَحَنَهُمُ اللَّهُ، وَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. (1)
    وَكَانَ هَذَا الْفَاسِقُ قَدْ حَفَرَ حَفَائِرَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَوَقَعَ فِي إِحْدَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُصِيبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَجُرِحَ فِي وَجْهِهِ وكُسِرت ربَاعِيتُه الْيُمْنَى السُّفْلَى، وشُجَّ رَأْسُهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
    وَتَقَدَّمَ أَبُو عَامِرٍ فِي أَوَّلِ الْمُبَارَزَةِ إِلَى قَوْمِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَخَاطَبَهُمْ وَاسْتَمَالَهُم ْ إِلَى نَصْرِهِ وَمُوَافَقَتِهِ ، فَلَمَّا عَرَفُوا كَلَامَهُ قَالُوا: لَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، وَنَالُوا مِنْهُ وسبُّوه. فَرَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَر. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَاهُ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ فِرَارِهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ وتمرَّد، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمُوتَ بَعِيدًا طَرِيدًا، فَنَالَتْهُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ.
    وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ النَّاسُ (2) مِنْ أُحُدٍ، وَرَأَى أَمْرَ الرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (3) فِي ارْتِفَاعٍ وَظُهُورٍ، ذَهَبَ إِلَى هِرَقْلَ، مَلِكِ الرُّومِ، يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَعَدَهُ ومَنَّاه، وَأَقَامَ عِنْدَهُ، وَكَتَبَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ يَعِدُهُمْ ويُمنَّيهم أَنَّهُ سيقدمُ بِجَيْشٍ يُقَاتِلُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَغْلِبُهُ وَيَرُدُّهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا لَهُ مَعقلا يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فِيهِ مَنْ يَقْدَمُ مِنْ عِنْدِهِ لِأَدَاءِ كُتُبه ويكونَ مَرْصَدًا لَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَشَرَعُوا فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ مُجَاوِرٍ لِمَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَبَنَوْهُ وَأَحْكَمُوهُ، وَفَرَغُوا مِنْهُ قَبْلَ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ، وَجَاءُوا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِمْ فَيُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِمْ، لِيَحْتَجُّوا بِصَلَاتِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِيهِ عَلَى تَقْرِيرِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا بَنَوْهُ لِلضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ وَأَهْلِ الْعِلَّةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَقَالَ: "إِنَّا عَلَى سَفَرٍ، وَلَكِنْ إِذَا رَجَعْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ".
    فَلَمَّا قَفَلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (4) رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ تَبُوكَ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا يَوْمٌ أَوْ بَعْضُ يَوْمٍ، نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِخَبَرِ مَسْجِدِ الضِّرار، وَمَا اعْتَمَدَهُ بَانُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسْجِدِهِمْ مَسْجِدِ قُبَاءَ، الَّذِي أُسِّسَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ عَلَى التَّقْوَى. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ مَنْ هَدَمه قَبْلَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابن عباس فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا [وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ] } (5) وَهُمْ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، ابْتَنَوْا مَسْجِدًا، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَامِرٍ، ابْنُوا مَسْجِدًا وَاسْتَعِدُّوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ سِلَاحٍ، فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، فَآتِي بِجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ وَأُخْرِجُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْجِدِهِمْ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: قَدْ فَرَغْنَا مِنْ بِنَاءِ مَسْجِدِنَا، فَنُحِبُّ (6) أَنْ تُصَلِيَ فِيهِ وَتَدْعُوَ لَنَا بِالْبَرَكَةِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} إِلَى {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
    وَكَذَا رُوي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبير، وَمُجَاهِدٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
    وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عُمَر بن قتادة وغيرهم، قالوا: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَعْنِي: مِنْ تَبُوكَ -حَتَّى نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ -بَلَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ -وَكَانَ أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ قَدْ كَانُوا أَتَوْهُ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ، وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا فَتُصِلِّيَ لَنَا فِيهِ. فَقَالَ: "إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفر وَحَالِ شُغل -أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَلَوْ قَدْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَتَيْنَاكُمْ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ". فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ أَتَاهُ خبرُ الْمَسْجِدِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُم أَخَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ -أَوْ: أَخَاهُ عَامِرِ بْنِ عَدِيٍّ -أَخَا بَلْعِجْلَانَ فَقَالَ: "انْطَلِقَا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ، فَاهْدِمَاهُ وَحَرِّقَاهُ". فَخَرَجَا سَرِيعَيْنِ حَتَّى أَتَيَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَهُمْ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ الدُّخْشُمَ، فَقَالَ مَالِكٌ لِمَعْنٍ: أَنْظِرْنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي. فَدَخَلَ أَهْلَهُ فَأَخَذَ سَعَفا مِنَ النَّخْلِ، فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا، ثُمَّ خَرَجَا يَشتدَّان حَتَّى دَخَلَا الْمَسْجِدَ وَفِيهِ أَهْلُهُ، فَحَرَقَاهُ وَهَدَمَاهُ وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ. وَنَزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَكَانَ الَّذِينَ بَنَوْهُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا خُذَامُ بْنُ خَالِدٍ، مِنْ بَنِي عُبَيد بْنِ زَيْدٍ، أَحَدُ (1) بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَمِنْ دَارِهِ أُخْرِجَ مَسْجِدُ الشِّقَاقِ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ وَهُوَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، ومعتِّب بْنُ قُشير، مِنْ [بَنِي] (2) ضُبَيعة بْنِ زَيْدٍ، وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الْأَذْعَرِ، مِنْ بَنِي ضُبَيعة بْنِ زَيْدٍ، وعَبَّاد بْنُ حُنَيف، أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَابْنَاهُ: مُجَمِّع بْنُ جَارِيَةَ، وَزَيْدُ بْنُ جَارِيَةَ ونَبْتَل [بْنُ] (3) الْحَارِثِ، وَهُمْ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَبَحْزَجٌ وَهُوَ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَبِجَادُ بْنُ عُثمان وَهُوَ مِنْ بَنِي ضُبَيعة، [وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهُوَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ] (4) رَهْطُ أَبِي لَبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ. (5)
    وَقَوْلُهُ: {وَلَيَحْلِفُنّ } أَيْ: الَّذِينَ بَنَوْهُ {إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى} أَيْ: مَا أَرَدْنَاهُ بِبُنْيَانِهِ إِلَّا خَيْرًا وَرِفْقًا بِالنَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أَيْ: فِيمَا قَصَدُوا وَفِيمَا نوَوا، وَإِنَّمَا بَنُوهُ ضِرارا لِمَسْجِدِ قُباء، وَكَفْرًا بِاللَّهِ، وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: "الرَّاهِبُ" لَعَنَهُ اللَّهُ.
    وَقَوْلُهُ: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} نَهْيٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَالْأُمَّةُ تَبَع لَهُ فِي ذَلِكَ، عَنْ أَنْ يَقُومَ فِيهِ، أَيْ: يُصَلِّي فِيهِ أَبَدًا.
    ثُمَّ حَثَّهُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ قُباء الَّذِي أُسِّسَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمِ بِنَائِهِ عَلَى التَّقْوَى، وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، وَجَمْعًا لِكَلِمَةِ الْمُؤْمِنِينَ ومَعقلا وَمَوْئِلًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} وَالسِّيَاقُ إِنَّمَا هُوَ فِي مَعْرِضِ مسجد قباء؛ ولهذا جاء فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ قُباء كعُمرة". (1) وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يزورُ مَسْجِدَ قُباء رَاكِبًا وَمَاشِيًا (2) وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَنَاهُ وَأَسَّسَهُ أَوَّلَ قُدُومِهِ وَنُزُولِهِ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَانَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي عَيَّن لَهُ جِهَة الْقِبْلَةِ (3) فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِيَ مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "نزلت هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءٍ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ.
    وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
    وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْمَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُوَيم بْنِ سَاعِدَةَ فَقَالَ: "مَا هَذَا الطَّهُورُ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ؟ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا خَرَجَ مِنَّا رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ مِنَ الْغَائِطِ إِلَّا غَسَلَ فَرْجَهُ -أَوْ قَالَ: مَقْعَدَتَهُ -فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. "هُوَ هَذَا". (4)
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَين بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا شُرَحْبِيلُ، عَنْ عُوَيم بْنِ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيِّ : أَنَّهُ حَدّثه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي مَسْجِدِ قُباء، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحْسَنَ [عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ] (5) فِي الطَّهور فِي قِصَّةِ مَسْجِدِكُمْ، فَمَا هَذَا الطَّهُورُ الَّذِي تَطَهَّرُونَ بِهِ؟ " فَقَالُوا: وَاللَّهِ -يَا رَسُولَ اللَّهِ -مَا نَعْلَمُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَنَا جِيرَانٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَكَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ، فَغَسَلْنَا كَمَا غَسَلُوا.
    وَرَوَاهُ ابْنُ خُزيمة فِي صَحِيحِهِ. (6)
    وَقَالَ هُشَيْم، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْمَدَنِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال لعُوَيم بْنِ سَاعِدَةَ. "مَا هَذَا الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ} قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَغْسِلُ الْأَدْبَارَ بِالْمَاءِ. (1)
    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمارة الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ خُزَيمة بْنِ ثَابِتٍ يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ} قَالَ: كَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ. (2)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ -يَعْنِي: ابْنَ مغْوَل -سَمِعْتُ سَيَّارًا أَبَا الْحَكَمِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا (3) قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي: قُبَاءَ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطَّهُورِ خَيْرًا، أَفَلَا تُخْبِرُونِي؟ ". يَعْنِي: قَوْلَهُ تَعَالَى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ} فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عَلَيْنَا فِي التَّوْرَاةِ: الاستنجاءُ بِالْمَاءِ. (4)
    وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَسْجِدُ قُبَاءٍ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ. وَقَالَهُ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَنَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، وَقَتَادَةَ.
    وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ فِي جَوْفِ الْمَدِينَةِ، هُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى. وَهَذَا صَحِيحٌ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ قَدْ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ:
    حَدَّثَنَا أَبُو نُعيم، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَسْجِدِي هَذَا". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. (5)
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أسِّسَ على التقوى، فقال أحدهما: هو مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ (6) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الآخر: هو مسجد قباء. فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ، فَقَالَ: "هُوَ مَسْجِدِي هَذَا" (1) تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا.
    حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُوَ مَسْجِدِي هَذَا" (2) تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
    طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُوَ مَسْجِدِي".
    وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ (3) وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ كَمَا سَيَأْتِي.
    طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أُنَيْس بْنِ أَبِي يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي خَدْرة، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ الْخُدْرِيُّ: هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ العَمْري: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "هُوَ هَذَا الْمَسْجِدُ" لَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: "فِي ذَاكَ [خَيْرٌ كَثِيرٌ] (4) يَعْنِي: مَسْجِدَ قُبَاءٍ. (5)
    طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ -حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الْخَرَّاطُ الْمَدَنِيُّ، سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ (6) فَقُلْتُ: كَيْفَ سَمِعْتُ أَبَاكَ يَقُولُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ فَقَالَ أَبِي: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي بَيْتٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ الْمَسْجِدُ (7) الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: "هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا". ثُمَّ قَالَ: [فقلتُ لَهُ: هَكَذَا] (8) سمعتَ أَبَاكَ يَذْكُرُهُ؟.
    رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِهِ (9) وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بن أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حُمَيْدٍ الْخَرَّاطِ، بِهِ. (1)
    وَقَدْ قَالَ بِأَنَّهُ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
    وَقَوْلُهُ: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ} دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الْقَدِيمَةِ الْمُؤَسَّسَةِ مِنْ أَوَّلِ بِنَائِهَا عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ مَعَ جَمَاعَةِ الصَّالِحِينَ، وَالْعِبَادِ الْعَامِلِينَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنْ (2) مُلَابَسَةِ الْقَاذُورَاتِ.
    وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، سَمِعْتُ شَبِيبًا أَبَا رَوْحٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ فَقَرَأَ بِهِمُ (3) الرُّومَ فَأَوْهَمَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "إِنَّهُ يَلْبَسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ، إِنْ أَقْوَامًا مِنْكُمْ يُصَلُّونَ مَعَنَا لَا يُحْسِنُونَ الْوُضُوءَ، فَمَنْ شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَنَا فَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ".
    ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ شَبِيبٍ أَبِي رَوْحٍ مِنْ ذِي الكَلاع: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ (4) فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ إِكْمَالَ الطَّهَارَةِ يُسَهِّلُ الْقِيَامَ فِي الْعِبَادَةِ، وَيُعِينُ عَلَى إِتْمَامِهَا وَإِكْمَالِهَا وَالْقِيَامِ بِمَشْرُوعَاتِه َا.
    وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ} إِنَّ الطَّهُورَ بِالْمَاءِ لَحَسَنٌ، وَلَكِنَّهُمُ الْمُطَّهِّرُون َ مِنَ الذُّنُوبِ.
    وَقَالَ الْأَعْمَشُ: التَّوْبَةُ مِنَ الذَّنْبِ، وَالتَّطْهِيرُ مِنَ الشِّرْكِ.
    وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ، فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا، أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لِأَهْلِ قُبَاءٍ: "قَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي الطَّهُورِ، فَمَاذَا تَصْنَعُونَ؟ " فَقَالُوا: نَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ.
    وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: وَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ أَبِي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءٍ. {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ} فَسَأَلَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ.
    ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، ولم يرو عنه سوى ابنه. (5) قُلْتُ: وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّهُ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) وَلَمْ يَعْرِفْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْمُتَأَخِّرِي نَ، أَوْ كُلِّهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) }
    يَقُولُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَرِضْوَانٍ، وَمَنْ بَنَى مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، فَإِنَّمَا بَنَى هَؤُلَاءِ بُنْيَانَهُمْ {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} أَيْ: طَرَفِ حَفِيرة مِثَالُهُ {فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أَيْ: لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ.
    قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: رَأَيْتُ الْمَسْجِدَ الَّذِي بُنِيَ ضِرَارًا يَخْرُجُ مِنْهُ الدُّخَانُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ (2) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج (3) ذُكر لَنَا أَنَّ رِجَالًا (4) حَفَروا فَوَجَدُوا الدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْهُ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ.
    وَقَالَ خَلَفُ بْنُ يَاسِينَ الْكُوفِيُّ: رَأَيْتُ مَسْجِدَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَفِيهِ جَحَرٌ يَخْرُجُ مِنْهُ الدُّخَانُ، وَهُوَ الْيَوْمُ مَزْبلة. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ (5) رَحِمَهُ اللَّهُ.
    وَقَوْلُهُ: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أَيْ: شَكًّا وَنِفَاقًا بِسَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الشَّنِيعِ، أَوْرَثَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ، كَمَا أُشْرِبَ عَابِدُو الْعِجْلِ حُبَّهُ.
    وَقَوْلُهُ: {إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أَيْ: بِمَوْتِهِمْ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَالسُّدِّيُّ، وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ.
    {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أَيْ: بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ، {حَكِيمٌ} فِي مُجَازَاتِهِمْ عَنْهَا، مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. (6)

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة النحل مع الآيات 22-42 وتفسيرها :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِ ينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
    {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِ ينَ (23) }
    يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكَافِرِينَ تُنكر (1) قُلُوبُهُمْ ذَلِكَ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ مُتَعَجِّبِينَ مِنْ ذَلِكَ: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الزُّمَرِ:45] .
    وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } أَيْ: عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ مَعَ إِنْكَارِ قُلُوبِهِمْ لِتَوْحِيدِهِ، كَمَا قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غَافِرٍ:60] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {لَا جَرَمَ} أَيْ: حَقًّا {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أَيْ: وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءَ، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِ ينَ}
    {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) }
    يَقُولُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ : {مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا} مُعْرِضِينَ عَنِ الْجَوَابِ: {أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} أَيْ: لَمْ يُنْزِلْ شَيْئًا، إِنَّمَا هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْنَا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ: مَأْخُوذٌ مِنْ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِي نَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الْفُرْقَانِ: 5] أَيْ: يَفْتَرُونَ عَلَى الرَّسُولِ، وَيَقُولُونَ [فِيهِ] (2) أَقْوَالًا مُخْتَلِفَةً مُتَضَادَّةً (3) ، كُلُّهَا بَاطِلَةٌ (4) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} [الْفُرْقَانِ: 9] ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ فَمَهْمَا قَالَ أَخْطَأَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: سَاحِرٌ، وَشَاعِرٌ، وَكَاهِنٌ، وَمَجْنُونٌ. ثُمَّ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُمْ إِلَى مَا اخْتَلَقَهُ لَهُمْ شَيْخُهُمُ الْوَحِيدُ الْمُسَمَّى بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ ، لَمَّا {فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [الْمُدَّثِّرِ: 18 -24] أَيْ: يُنْقَلُ وَيُحْكَى، فَتَفَرَّقُوا عَنْ قَوْلِهِ وَرَأْيهِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
    قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أَيْ: إِنَّمَا قَدَّرْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فَيَتَحَمَّلُوا (5) أَوْزَارَهُمْ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يَتْبَعُونَهُمْ وَيُوَافِقُونَه ُمْ، أَيْ: يَصِيرُ (6) عَلَيْهِمْ خَطِيئَةُ ضَلَالِهِمْ (7) فِي أَنْفُسِهِمْ، وَخَطِيئَةُ إِغْوَائِهِمْ لِغَيْرِهِمْ وَاقْتِدَاءِ أُولَئِكَ بِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مثلُ آثَامِ مَنِ اتَّبَعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ من آثامهم شيئًا".

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    افتراضي

    تتمة لما سبق :
    وَقَالَ [اللَّهُ] (1) تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 13] .
    وَهَكَذَا (2) رَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} إِنَّهَا كَقَوْلِهِ: {وَلَيَحْمِلُنّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [الْعَنْكَبُوتِ: 13] . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَحْمِلُونَ أَثْقَالَهُمْ: ذُنُوبَهُمْ وَذُنُوبَ مَنْ أَطَاعَهُمْ، وَلَا يُخَفَّفُ عَمَّنْ أَطَاعَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا.
    {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) }
    {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) }
    قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قَالَ: هُوَ نَمْرُودُ الَّذِي (1) بَنَى الصَّرْحَ.
    قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوُهُ.
    وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أولُ جَبَّارٍ كَانَ فِي الْأَرْضِ نَمْرُودُ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعُوضة، فَدَخَلَتْ فِي مَنْخِرِهِ، فَمَكَثَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ يُضْرَبُ رَأْسُهُ بِالْمَطَارِقِ، وَأَرْحَمُ النَّاسِ بِهِ مَنْ جَمَعَ يَدَيْهِ فَضَرَبَ بِهِمَا رَأْسَهُ، وَكَانَ جَبَّارًا أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، فَعَذَّبَهُ اللَّهُ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ كَمُلْكِهِ، ثُمَّ أَمَاتَهُ اللَّهُ. وَهُوَ الَّذِي كَانَ بَنَى صَرْحًا إِلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}
    وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ بُخْتُنَصَّرُ. وَذَكَرُوا مِنَ الْمَكْرِ الَّذِي حَكَى اللَّهُ هَاهُنَا، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إِبْرَاهِيمَ: 46] .
    وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا مِنْ بَابِ الْمَثَلِ، لِإِبْطَالِ مَا صَنَعَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَأَشْرَكُوا فِي عِبَادَتِهِ غَيْرَهُ، كَمَا قَالَ نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نُوحٍ: 22] أَيِ: احْتَالُوا فِي إِضْلَالِ النَّاسِ بِكُلِّ حِيلَةٍ وَأَمَالُوهُمْ إِلَى شِرْكِهِمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ، كَمَا يَقُولُ لَهُمْ أَتْبَاعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} [الْآيَةَ] (2) [سَبَأٍ: 33] .
    وَقَوْلُهُ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} أَيِ: اجْتَثَّهُ مِنْ أَصْلِهِ، وَأَبْطَلَ عَمَلَهُمْ، وَأَصْلَهَا (3) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [الْمَائِدَةِ: 64] .
    وَقَوْلُهُ: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ} [الْحَشْرِ: 2] .
    وَقَالَ هَاهُنَا: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ}
    أَيْ: يُظْهِرُ فَضَائِحَهُمْ، وَمَا كَانَتْ تُجنّه ضَمَائِرُهُمْ، فَيَجْعَلُهُ عَلَانِيَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطَّارِقِ: 9] أَيْ: تَظْهَرُ وَتَشْتَهِرُ (1) ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ (2) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَته، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَة فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ" (3) .
    وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ، يَظْهَرُ لِلنَّاسِ مَا كَانُوا يُسِرُّونَهُ مِنَ الْمَكْرِ، وَيُخْزِيهِمُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، وَيَقُولُ لَهُمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُقَرِّعًا لَهُمْ وَمُوَبِّخًا: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} تُحَارِبُونَ وَتُعَادُونَ فِي سَبِيلِهِمْ، [أَيْ] (4) : أَيْنَ هُمْ عَنْ نَصْرِكُمْ وَخَلَاصِكُمْ هَاهُنَا؟ {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 93] ، {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطَّارِقِ: 10] . فَإِذَا تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الدَّلَالَةُ، وَحَقَّتْ عَلَيْهِمُ الْكَلِمَةُ، وَأُسْكِتُوا عَنِ الِاعْتِذَارِ حِينَ لَا فِرَارَ (5) {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} -وَهُمُ السَّادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْمُخْبِرُون َ عَنِ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَقُولُونَ حِينَئِذٍ: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} أَيِ: الْفَضِيحَةَ وَالْعَذَابَ الْيَوْمَ [مُحِيطٌ] (6) بِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَأَشْرَكَ بِهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ.
    {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِي نَ (29) }
    يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِي أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ احْتِضَارِهِمْ وَمَجِيءِ الْمَلَائِكَةِ إِلَيْهِمْ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} أَيْ: أَظْهَرُوا السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ قَائِلِينَ: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} كَمَا يَقُولُونَ يَوْمَ الْمَعَادِ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَامِ: 23] {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [الْمُجَادَلَةِ: 18] .
    قَالَ اللَّهُ مُكَذِّبًا لَهُمْ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ: {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِي نَ} (7) أَيْ: بِئْسَ الْمَقِيلُ وَالْمَقَامُ وَالْمَكَانُ مِنْ دَارِ هَوَانٍ، لِمَنْ كَانَ مُتَكَبِّرًا عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ.
    وَهُمْ يَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ مِنْ يَوْمِ مَمَاتِهِمْ بِأَرْوَاحِهِمْ ، وَيَأْتِي (8) أَجْسَادَهُمْ فِي قُبُورِهَا مِنْ حرِّها وَسَمُومِهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ سَلَكَتْ (9) أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَخَلَدَتْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فَاطِرٍ: 36] ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غَافِرٍ: 46] .
    {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) }
    هَذَا خَبَرٌ عَنِ السُّعَدَاءِ، بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْأَشْقِيَاءِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ قِيلَ لَهُمْ: {مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ} فَقَالُوا مُعْرِضِينَ عَنِ الْجَوَابِ: لَمْ (1) يُنْزِلْ شَيْئًا، إِنَّمَا هَذَا (2) أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَهَؤُلَاءِ {قَالُوا خَيْرًا} أَيْ: أَنْزَلَ خَيْرًا، أَيْ: رَحْمَةً وَبِرْكَةً وَحُسْنًا لِمَنِ اتَّبَعَهُ وَآمَنَ بِهِ.
    ثُمَّ أَخْبَرُوا عَمَّا وَعَدَ اللَّهُ [بِهِ] (3) عِبَادَهُ فِيمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ فَقَالُوا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النَّحْلِ: 97] ، أَيْ: مَنْ أَحْسَنَ عَمَلَهُ فِي الدُّنْيَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
    ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّ دَارَ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، أَيْ: مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْجَزَاءُ فِيهَا أَتَمُّ مِنَ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} [الْقَصَصِ: 80] (4) وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ} [آلِ عِمْرَانَ: 198] وَقَالَ تَعَالَى {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الْأَعْلَى: 17] ، وَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) : {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى} [الضُّحَى: 4] . ثُمَّ وَصَفُوا الدَّارَ الْآخِرَةَ فَقَالُوا (6) : {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}
    وَقَوْلُهُ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بَدَلٌ مِنْ [قَوْلِهِ] (7) : {دَارُ الْمُتَّقِينَ} أَيْ: لَهُمْ فِي [الدَّارِ] (8) الْآخِرَةِ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أَيْ: إِقَامَةٌ (9) يَدْخُلُونَهَا {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أَيْ: بَيْنَ أَشْجَارِهَا وَقُصُورِهَا، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ (10) الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزُّخْرُفِ: 71] ، وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ السَّحَابَةَ لَتَمُرُّ بِالْمَلَأِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى شَرَابِهِمْ (11) ، فَلَا يَشْتَهِي أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا إِلَّا أَمْطَرَتْهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ لَمَنْ يَقُولُ: أَمْطِرِينَا كواعب أترابًا، فيكون ذلك (12) " (13) .
    {َ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} أَيْ: كَذَلِكَ (14) يَجْزِي اللَّهُ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّقَاهُ وَأَحْسَنَ عَمَلَهُ.
    ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِهِمْ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ، أَنَّهُمْ (15) طَيِّبُونَ، أَيْ: مُخَلَّصُونَ مِنَ الشِّرْكِ والدنس وَكُلِّ سُوءٍ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَتُبَشِّرُهُمْ (1) بِالْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فُصِّلَتْ: 30 -32] .
    وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي قَبْضِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ وَرُوحِ الْكَافِرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إِبْرَاهِيمَ: 27] .
    {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) }
    يَقُولُ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الْبَاطِلِ وَاغْتِرَارِهِم ْ بِالدُّنْيَا: هَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا الْمَلَائِكَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، قَالَهُ قَتَادَةُ.
    {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} (2) أَيْ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَمَا يُعَايِنُونَهُ (3) مِنَ الْأَهْوَالِ.
    وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ: هَكَذَا تَمَادَى فِي شِرْكِهِمْ أَسْلَافُهُمْ وَنُظَرَاؤُهُمْ وَأَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى (4) ذَاقُوا بَأْسَ اللَّهِ، وَحَلُّوا فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ. {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ، وَأَقَامَ حُجَجَهُ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ رُسُلِهِ وَإِنْزَالِ كُتُبِهِ، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أَيْ: بِمُخَالَفَةِ الرُّسُلِ وَالتَّكْذِيبِ بِمَا جَاءُوا بِهِ، فَلِهَذَا أَصَابَتْهُمْ (5) عُقُوبَةُ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، {وَحَاقَ بِهِمْ} أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أَيْ: يَسْخَرون مِنَ الرُّسُلِ إِذَا تَوَعَّدُوهُمْ بِعِقَابِ اللَّهِ؛ فَلِهَذَا يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطُّورِ: 14] .
    {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) }
    يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ اغْتِرَارِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَاعْتِذَارِهِم ْ مُحْتَجِّينَ بِالْقَدَرِ، فِي قَوْلِهِمْ: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} أَيْ: مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا كَانُوا ابْتَدَعُوهُ وَاخْتَرَعُوهُ مِنْ تِلْقَاءِ (1) أَنْفُسِهِمْ، مَا لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا.
    وَمَضْمُونُ كَلَامِهِمْ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَعَالَى كَارِهًا لِمَا فَعَلْنَا، لَأَنْكَرَهُ عَلَيْنَا بِالْعُقُوبَةِ وَلَمَا مَكَّنَا (2) مِنْهُ. قَالَ اللَّهُ رَادًّا عَلَيْهِمْ شُبْهَتَهُمْ: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّرْهُ عَلَيْكُمْ (3) وَلَمْ (4) يُنْكِرْهُ، بَلْ قَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْكُمْ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَنَهَاكُمْ عَنْهُ آكَدَ النَّهْيِ، وَبَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَيْ: فِي كُلِّ قَرْنٍ مِنَ النَّاسِ وَطَائِفَةٍ رَسُولًا وَكُلُّهُمْ يَدْعُو (5) إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَيَنْهَى (6) عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فَلَمْ يَزَلْ تَعَالَى يُرْسِلُ إِلَى النَّاسِ الرُّسُلَ بِذَلِكَ، مُنْذُ حَدَثَ الشِّرْكُ فِي بَنِي آدَمَ، فِي قَوْمِ نُوحٍ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ نُوحٌ، وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى أَنْ خَتَمَهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي طَبَّقَتْ دَعْوَتُهُ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَكُلُّهمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الْأَنْبِيَاءِ: 25] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزُّخْرُفِ: 45] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فَكَيْفَ يَسُوغُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَقُولَ: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} فَمَشِيئَتُهُ تَعَالَى الشَّرْعِيَّةُ مُنْتَفِيَةٌ (7) ؛ لِأَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَأَمَّا مَشِيئَتُهُ الْكَوْنِيَّةُ، وَهِيَ (8) تَمْكِينُهُمْ مِنْ ذَلِكَ قَدَرًا، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا (9) لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ النَّارَ وَأَهْلَهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْكَفَرَةِ، وَهُوَ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ بَالِغَةٌ وَحِكْمَةٌ قَاطِعَةٌ.
    ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَيَّرَ (10) عَلَيْهِمْ، وَأَنْكَرَ (11) عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ إِنْذَارِ الرُّسُلِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } أَيِ: اسْأَلُوا (12) عَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ مَنْ خَالَفَ الرُّسُلَ وَكَذَّبَ الْحَقَّ كَيْفَ {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِين َ أَمْثَالُهَا} [مُحَمَّدٍ: 10] ، {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الْمُلْكِ: 18] . ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ حِرْصَهُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ لَا يَنْفَعُهُمْ، إِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَرَادَ إِضْلَالَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الْمَائِدَةِ: 41] ، وَقَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هُودٍ: 34] ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الآية الْكَرِيمَةِ: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ (1) فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الْأَعْرَافِ: 186] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ: 96، 97] .
    فَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ} أَيْ: شَأْنُهُ وَأَمْرُهُ أَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ فَلِهَذَا قَالَ: {لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} أَيْ: مَنْ أَضَلَّهُ فَمَنِ الَّذِي يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؟ أَيْ: لَا أَحَدَ {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أَيْ: يُنْقِذُونَهُمْ (2) مِنْ عَذَابِهِ وَوَثَاقِهِ، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الْأَعْرَافِ: 54] .
    {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) }
    يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ: أَنَّهُمْ حَلَفُوا فَأَقْسَمُوا {بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أَيِ: اجْتَهَدُوا فِي الْحَلِفِ وَغَلَّظُوا الْأَيْمَانَ عَلَى أَنَّهُ {لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} أَيِ: اسْتَبْعَدُوا ذَلِكَ، فَكَذَّبُوا (3) الرُّسُلَ فِي إِخْبَارِهِمْ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَحَلَفُوا عَلَى نَقِيضِهِ. فَقَالَ تَعَالَى مُكَذِّبًا لَهُمْ وَرْدًا عَلَيْهِمْ: {بَلَى} أَيْ: بَلَى سَيَكُونُ ذَلِكَ، {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} (4) أَيْ: لَا بُدَّ مِنْهُ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ: فَلِجَهْلهم (5) يُخَالِفُونَ الرُّسُلَ وَيَقَعُونَ فِي الْكُفْرِ.
    ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حِكْمَتَهُ فِي الْمَعَادِ وَقِيَامِ الْأَجْسَادِ يَوْمَ التَّنَادِ، فَقَالَ: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} أَيْ: لِلنَّاسِ {الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أَيْ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَ {لِيَجْزِيَ (6) الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النَّجْمِ: 31] ، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} أَيْ: فِي أَيْمَانِهِمْ وَأَقْسَامِهِمْ : لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ؛ وَلِهَذَا يُدَعُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا، وَتَقُولُ (7) لَهُمُ الزَّبَانِيَةُ: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطَّوْرِ: 14 -16] .
    ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ (8) عَلَى مَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا (9) أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ: "كُنْ"، فَيَكُونُ، وَالْمَعَادُ مِنْ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ كَوْنُهُ فَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيَكُونُ كَمَا يَشَاءُ، كَمَا قَالَ (10) {وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [الْقَمَرِ: 50] وَقَالَ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لُقْمَانَ: 28] ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا (11) لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النَّحْلِ: 40] ، أَيْ: أَنْ يَأْمُرَ بِهِ دُفْعَةً (12) واحدة فإذا هو كائن، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ (1) :
    إِذَا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فَإِنَّمَا ... يَقُولُ لَهُ: "كُنْ"، قَوْلَةً فَيَكُونُ ...
    أَيْ: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ، لِأَنَّهُ [هُوَ] (2) الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الْعَظِيمُ، الَّذِي قَهَرَ سُلْطَانُهُ وَجَبَرُوتُهُ وَعِزَّتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
    وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذَكَرَ (3) الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَبَّني ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسُبَّنِي، وَكَذَّبَنِي وَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَالَ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} قَالَ: وَقُلْتُ: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وَأَمَّا سَبُّهُ إِيَّايَ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [الْمَائِدَةِ: 73] ، وَقُلْتُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سُورَةُ الْإِخْلَاصِ] (4) .
    هَكَذَا (5) ذَكَرَهُ مَوْقُوفًا، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا، بِلَفْظٍ آخَرَ (6) .
    {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّه ُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) }
    يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَزَائِهِ لِلْمُهَاجِرِين َ فِي سَبِيلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، الَّذِينَ فَارَقُوا الدَّارَ وَالْإِخْوَانَ وَالْخُلَّانَ، رَجَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ وَجَزَائِهِ.
    وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ نُزُولِ هذه الآية الكريمة في مُهاجرة الحبشة الذي اشْتَدَّ أَذَى قَوْمِهِمْ لَهُمْ بِمَكَّةَ، حَتَّى خَرَجُوا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَمِنْ أَشْرَافِهِمْ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ رُقَيَّةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ابْنُ عَمِّ الرَّسُولِ (7) وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ (8) فِي جَمَاعَةٍ قَرِيبٍ مِنْ ثَمَانِينَ، مَا بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، صِدِّيقٍ وَصِدِّيقَةٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. وَقَدْ فَعَلَ فَوَعَدَهُمْ تَعَالَى بِالْمُجَازَاةِ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَالَ: {لَنُبَوِّئَنَّ ُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ: الْمَدِينَةُ. وَقِيلَ: الرِّزْقُ الطَّيِّبُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
    وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا مَسَاكِنَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَعَوَّضَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا (9) فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْهُ (10) وَكَذَلِكَ وَقَعَ فإنهم مكن الله لهم في البلاد وَحَكَّمَهُمْ عَلَى رِقَابِ الْعِبَادِ، فَصَارُوا أُمَرَاءَ حُكَّامًا، وَكُلٌّ مِنْهُمْ لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ ثَوَابَهُ لِلْمُهَاجِرِين َ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِمَّا أَعْطَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ: {وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} أَيْ: مِمَّا أَعْطَيْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أَيْ: لَوْ كَانَ الْمُتَخَلِّفُو نَ عَنِ الْهِجْرَةِ مَعَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا ادَّخَرَ اللَّهُ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَاتَّبَعَ رَسُولَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ هُشَيْم، عَنِ الْعَوَّامِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ إِذَا أَعْطَى الرَّجُلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَطَاءَهُ (1) يَقُولُ: خُذْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ، هَذَا مَا وَعَدَكَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ادَّخَرَ (2) لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلُ، ثُمَّ قَرَأَ (3) هَذِهِ الْآيَةَ: {لَنُبَوِّئَنَّ ُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (4) .
    ثُمَّ وَصَفَهُمْ تَعَالَى فَقَالَ: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أَيْ: صَبَرُوا عَلَى أَقَلِّ (5) مَنْ آذَاهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، مُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ الَّذِي أَحْسَنَ لَهُمُ العاقبة في الدنيا والآخرة.

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة الحج مع الآية 38 وتفسيرها :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) } .
    يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَأَنَابُوا إِلَيْهِ شَرَّ الْأَشْرَارِ وَكَيْدَ الْفُجَّارِ، وَيَحْفَظُهُمْ وَيَكْلَؤُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزُّمَرِ: 36] وَقَالَ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلَاقِ: 3] .
    وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} أَيْ: لَا يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذَا، وَهُوَ الْخِيَانةُ فِي الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ ، لَا يَفِي بِمَا قَالَ. وَالْكُفْرُ (5) : الْجَحْدُ لِلنِّعَمِ، فَلَا يَعْتَرِفُ بِهَا.

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة القصص مع الآيات 76-82 وشرحها :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) } .
    قَالَ الْأَعْمَشِ، عَنِ المِنْهَال بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} ، قَالَ: كَانَ ابْنَ عَمِّهِ. وَهَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعي، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، وقَتَادَةُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ جُرَيْج، وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ (1) .
    قَالَ ابْنُ جُرَيْج: هُوَ قَارُونُ بْنُ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ، وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثَ.
    وَزَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار: أَنَّ قَارُونَ كَانَ عمَّ مُوسَى (2) ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
    قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامة: كُنَّا نُحدّث أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى، وَكَانَ يُسَمَّى الْمُنَوَّرَ لِحُسْنِ صَوْتِهِ بِالتَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ نَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ، فَأَهْلَكَهُ الْبَغْيُ لِكَثْرَةِ مَالِهِ.
    وَقَالَ شَهْر بْنُ حَوْشَب: زَادَ فِي ثِيَابِهِ شِبْرًا طُولًا تَرَفُّعًا عَلَى قَوْمِهِ.
    وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} أَيْ: [مِنَ] (3) الْأَمْوَالِ {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} أَيْ: لَيُثقلُ حملُها الفئامَ مِنَ النَّاسِ لِكَثْرَتِهَا.
    قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ: كَانَتْ مَفَاتِيحُ كُنُوزِ قَارُونَ مِنْ جُلُودٍ، كُلُّ مِفْتَاحٍ مِثْلُ الْأُصْبُعِ، كُلُّ مِفْتَاحٍ عَلَى خِزَانَةٍ عَلَى حِدَّتِهِ، فَإِذَا رَكِبَ حُملت عَلَى سِتِّينَ بَغْلًا أَغَرَّ مُحَجَّلًا. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَقَوْلُهُ: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أَيْ: وَعَظَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ صَالِحُ قَوْمِهِ، فَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ النُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ: لَا تَفْرَحْ بِمَا أَنْتَ فِيهِ، يَعْنُونَ: لَا تَبْطَرْ بِمَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ (4) {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمَرِحِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْأَشِرِينَ الْبَطِرِينَ، الَّذِينَ لَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ.
    وَقَوْلُهُ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أَيِ: اسْتَعْمِلْ مَا وَهَبَكَ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ الْجَزِيلِ وَالنِّعْمَةِ الطَّائِلَةِ، فِي طَاعَةِ رَبِّكَ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، الَّتِي يَحْصُلُ لَكَ بِهَا الثَّوَابُ فِي الدار الآخرة. {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أَيْ: مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ فِيهَا (5) مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكَحِ، فَإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حَقًّا، وَلِزَوْرِكِ عَلَيْكَ حَقًّا، فَآتِ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ.
    {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أَيْ: أَحْسِنْ إِلَى خَلْقِهِ كَمَا أَحْسَنَ هُوَ إِلَيْكَ {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ} أَيْ: لَا تكنْ هِمَّتُكَ بِمَا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تُفْسِدَ بِهِ الْأَرْضَ (1) ، وَتُسِيءَ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} .
    {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) } .
    يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَوَابِ قَارُونَ لِقَوْمِهِ، حِينَ نَصَحُوهُ وَأَرْشَدُوهُ إِلَى الْخَيْرِ {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أَيْ: أَنَا لَا أَفْتَقِرُ إِلَى مَا تَقُولُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَعْطَانِي هَذَا الْمَالَ لِعِلْمِهِ بِأَنِّي أَسْتَحِقُّهُ، وَلِمَحَبَّتِهِ لِي فَتَقْدِيرُهُ: إِنَّمَا أُعْطِيتُهُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيَّ أَنِّي أَهْلٌ لَهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا (1) مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزُّمَرِ: 49] أَيْ: عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ بِي، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فُصِّلَتْ: 50] أَيْ: هَذَا أَسْتَحِقُّهُ.
    وَقَدْ رُوي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَرَادَ: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أَيْ: إِنَّهُ كَانَ يُعَانِي عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ: وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ فِي نَفْسِهِ عِلْمٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ قَلْبَ الْأَعْيَانِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الْحَجِّ: 73] ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ (2) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، فَلْيَخْلُقُوا شُعَيْرَةً" (3) . وَهَذَا وَرَدَ فِي الْمُصَوِّرِينَ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ فِي مُجَرَّدِ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ أَوِ الشَّكْلِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ يُحِيلُ مَاهِيَّةَ هَذِهِ الذَّاتِ إِلَى مَاهِيَّةِ ذَاتٍ أُخْرَى، هَذَا زُورٌ وَمُحَالٌ، وَجَهْلٌ وَضَلَالٌ. وَإِنَّمَا يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّبْغِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ كَذِبٌ وَزَغَلٌ وَتَمْوِيهٌ، وَتَرْوِيجٌ أَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا لَا مَحَالَةَ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ أَنَّهُ صَحَّ مَعَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يَتَعَانَاهَا هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ الْفَسَقَةُ الْأَفَّاكُونَ فَأَمَّا مَا يُجْرِيهِ اللَّهُ تَعَالَى (4) مِنْ خَرْق الْعَوَائِدِ عَلَى يَدَيْ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ قَلْبِ بَعْضِ الْأَعْيَانِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ مُسْلِمٌ، وَلَا يَرُدُّهُ مُؤْمِنٌ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الصِّنَاعَاتِ وَإِنَّمَا هَذَا عَنْ مَشِيئَةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، وَاخْتِيَارِهِ وَفِعْلِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ حَيْوة بْنِ شُرَيح الْمِصْرِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ سَأَلَهُ سَائِلٌ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِ، وَرَأَى ضَرُورَتَهُ، فَأَخَذَ حَصَاةً مِنَ الْأَرْضِ فَأَجَالَهَا فِي كَفِّهِ، ثُمَّ أَلْقَاهَا إِلَى ذَلِكَ السَّائِلِ فَإِذَا هِيَ ذَهَبٌ أَحْمَرُ. وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ [فِي هَذَا] (5) كَثِيرَةٌ جِدًّا يطول ذكرها.
    وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ قَارُونَ كَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَدَعَا اللَّهَ بِهِ، فَتَمَوَّلَ بِسَبَبِهِ. وَالصَّحِيحُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -رَادًّا عَلَيْهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِهِ فِيمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْمَالِ {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} أَيْ: قَدْ كَانَ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ مَالًا وَمَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ مَحَبَّةٍ مِنَّا لَهُ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ مَعَ ذَلِكَ بِكَفْرِهِمْ وَعَدَمِ شُكْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أَيْ: لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ.
    قَالَ قَتَادَةُ: {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} : عَلَى خَيْرٍ عِنْدِي.
    وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَلَى عِلْمٍ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ.
    وَقَدْ أَجَادَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِمَامُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} قَالَ: لَوْلَا رِضَا اللَّهِ عَنِّي، وَمَعْرِفَتُهُ بِفَضْلِي مَا أَعْطَانِي هَذَا الْمَالَ، وَقَرَأَ {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [وَهَكَذَا يَقُولُ مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ إِذَا رَأَى مَنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَقُولُ: لَوْلَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ لَمَا أُعْطِيَ] (1) .
    {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ (80) } .
    يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَارُونَ: إِنَّهُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَجَمُّلٍ بَاهِرٍ، مِنْ مَرَاكِبَ وَمَلَابِسَ عَلَيْهِ وَعَلَى خَدَمِهِ وَحَشَمِهِ، فَلَمَّا رَآهُ مَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَيَمِيلُ إِلَى زُخرفها وَزِينَتِهَا، تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانَ لَهُمْ مِثْلُ الَّذِي أُعْطِيَ، قَالُوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أَيْ: ذُو حَظٍّ وَافِرٍ مِنَ الدُّنْيَا. فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ النَّافِعِ قَالُوا لَهُمْ: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أَيْ: جَزَاءُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا تَرَوْنَ.
    [كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خطر عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) [السَّجْدَةِ: 17] (3) .
    وَقَوْلُهُ: {وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ} : قَالَ السُّدِّيُّ: وَمَا يُلَقَّى الْجَنَّةَ (4) إِلَّا الصَّابِرُونَ. كَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَا يُلَقَّى (5) هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِلَّا الصَّابِرُونَ عَنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا، الرَّاغِبُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَكَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مَقْطُوعًا مِنْ كَلَامِ أُولَئِكَ، وَجَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِخْبَارِهِ بِذَلِكَ.
    {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِين َ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) }
    لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى اخْتِيَالَ قَارُونَ فِي زِينَتِهِ، وَفَخْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ وَبَغْيَهُ عَلَيْهِمْ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ خَسَفَ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ -عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ -أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ (1) ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
    ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوَهُ (2) .
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْمُغِيرَةِ الْقَاصُّ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَطِيَّةَ (3) ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (4) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَا رَجُلٌ فيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، خَرَجَ فِي بُرْدَيْن أَخْضَرَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا، أَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ، فَإِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (5) ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
    وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ (6) ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، سَمِعْتُ زِيَادًا النُّمَيْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَا رَجُلٌ فِيمَنْ (7) كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ فَاخْتَالَ فِيهِمَا، فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (8) .
    وَقَدْ ذَكَرَ [الْحَافِظُ] (9) مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ -شكَّر -فِي كِتَابِ الْعَجَائِبِ الْغَرِيبَةِ بِسَنَدِهِ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُسَاحِقٍ قَالَ: رَأَيْتُ شَابًّا فِي مَسْجِدِ نَجْرَانَ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَأَتَعَجَّبُ مِنْ طُولِهِ وَتَمَامِهِ وَجَمَالِهِ، فَقَالَ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ؟ فَقُلْتُ: أَعْجَبُ مِنْ جَمَالِكَ وَكَمَالِكَ. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَعْجَبُ مِنِّي. قَالَ: فَمَا زَالَ يَنْقُصُ وَيَنْقُصُ حَتَّى صَارَ بِطُولِ الشِّبْرِ، فَأَخَذَهُ بَعْضُ قَرَابَتِهِ فِي كُمِّهِ وَذَهَبَ.
    وَقَدْ ذُكر أَنَّ هَلَاكَ قَارُونَ كَانَ عَنْ دَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (10) وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِهِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ قَارُونَ أَعْطَى امْرَأَةً بَغِيَّا مَالًا عَلَى أَنْ تَبْهَتَ مُوسَى بِحَضْرَةِ الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ قَائِمٌ فِيهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ كِتَابَ اللَّهِ، فَتَقُولُ: يَا مُوسَى، إِنَّكَ فَعَلْتَ بِي كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا قَالَتْ فِي الْمَلَأِ ذَلِكَ (11) لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أرْعِدَ مِنَ الفَرَق، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا (12) وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكِ بِاللَّهِ الَّذِي فَرَق الْبَحْرَ، وَأَنْجَاكُمْ مِنْ فرعون، وفعل كذا و [فعل] (13) كذا، لَمَا أَخْبَرْتِنِي بِالَّذِي حَمَلَكِ عَلَى مَا قُلْتِ؟ فَقَالَتْ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَني فَإِنَّ قَارُونَ أَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا، عَلَى أَنْ أَقُولَ لَكَ، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرّ مُوسَى لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَاجِدًا، وَسَأَلَ اللَّهَ فِي قَارُونَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِّي قَدْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَكَ فِيهِ، فَأَمَرَ مُوسَى الْأَرْضَ أَنْ تَبْتَلِعَهُ وَدَارَهُ فَكَانَ (1) ذَلِكَ.
    وَقِيلَ: إِنَّ قَارُونَ لَمَّا خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ تِلْكَ، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى الْبِغَالِ الشُّهْبِ، وَعَلَيْهِ وَعَلَى خَدَمِهِ الثِّيَابُ الْأُرْجُوَانُ الصِّبْغَةِ (2) ، فَمَرَّ فِي جَحْفَله ذَلِكَ عَلَى مَجْلِسِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ. فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ قَارُونَ انْصَرَفَتْ وُجُوهُ النَّاسِ حَوْلَهُ، يَنْظُرُونَ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ. فَدَعَاهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا مُوسَى، أَمَا لَئِنْ كُنْتَ فُضِّلتَ عَلَيَّ بِالنُّبُوَّةِ، فَلَقَدْ فُضِّلْتُ عَلَيْكَ بِالدُّنْيَا، وَلَئِنْ شِئْتَ لَتَخْرُجَنَّ، فَلْتَدْعُوَنَّ عَلَيَّ وَأَدْعُو عَلَيْكَ. فَخَرَجَ وَخَرَجَ قَارُونُ فِي قَوْمِهِ، فَقَالَ مُوسَى (3) : تَدْعُو أَوْ أَدْعُو أَنَا؟ قَالَ: بَلْ أَنَا أَدْعُو. فَدَعَا قَارُونُ فَلَمْ يُجَبْ لَهُ، ثُمَّ قَالَ مُوسَى (4) : أَدْعُو؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ مُوسَى: اللَّهُمَّ، مُر الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَنِي (5) الْيَوْمَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَ مُوسَى: يَا أَرْضُ، خُذِيهِمْ. فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ. فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ، ثُمَّ إِلَى مَنَاكِبِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: أَقْبِلِي بِكُنُوزِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ . قَالَ: فَأَقْبَلَتْ بِهَا حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهَا. ثُمَّ أَشَارَ مُوسَى بِيَدِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بَنِي لَاوَى (6) فَاسْتَوَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ.
    وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: خُسف بِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ.
    وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُخْسَفُ بِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قَامَةٌ، فَهُمْ يَتَجَلْجَلُونَ فِيهَا إِلَى يَوْمِ القيامة.
    وقد ذكر ها هنا إِسْرَائِيلِيَّ اتٌ [غَرِيبَةٌ] (7) أَضْرَبْنَا عَنْهَا صَفْحًا.
    وَقَوْلُهُ: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِين َ} أَيْ: مَا أَغْنَى عَنْهُ مالُه، وَمَا جَمَعه، وَلَا خَدَمُهُ وَ [لَا] (8) حَشَمُهُ. وَلَا دَفَعُوا عَنْهُ نِقْمَةَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ وَنَكَالَهُ [بِهِ] (9) ، وَلَا كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُنْتَصِرًا لِنَفْسِهِ، فَلَا نَاصِرَ لَهُ [لَا] (10) مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا مَنْ غَيْرِهِ.
    وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ} أَيِ: الَّذِينَ لَمَّا رَأَوْهُ فِي زِينَتِهِ قَالُوا {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ، فَلَمَّا خُسِفَ بِهِ أَصْبَحُوا يَقُولُونَ: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} أَيْ: لَيْسَ الْمَالُ بِدَالٍّ عَلَى رِضَا اللَّهِ عَنْ صَاحِبِهِ [وَعَنْ عِبَادِهِ] (11) ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُضَيِّقُ وَيُوَسِّعُ، وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ. وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ، وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ".
    {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} أَيْ: لَوْلَا لُطف اللَّهِ بِنَا وإحسانه إلينا لخسف بنا، كما خسف بِهِ، لِأَنَّا وَددْنا أَنْ نَكُونَ مَثَلَهُ.
    {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} يَعْنُونَ: أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، وَلَا يُفْلِحُ الْكَافِرُ عِنْدَ اللَّهِ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ.
    وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ في معنى قوله تعالى [ها هنا] (1) : {وَيْكَأَنَّ} ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهَا: "وَيْلَكَ اعْلَمْ أَنَّ"، وَلَكِنْ خُفّفت فَقِيلَ: "وَيْكَ"، ودلَّ فَتْحُ "أَنَّ" عَلَى حَذْفِ "اعْلَمْ". وَهَذَا الْقَوْلُ ضعَّفه ابْنُ جَرِيرٍ (2) ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَوِيٌّ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا كِتَابَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ مُتَّصِلَةً "وَيْكَأَنَّ". وَالْكِتَابَةُ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ اصْطِلَاحِيٌّ، وَالْمَرْجِعُ إِلَى اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    وَقِيلَ: مَعْنَاهَا: وَيْكَأَنَّ، أَيْ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا "وَيْ كَأَنَّ"، فَفَصَلَهَا وَجَعَلَ حَرْفَ "وَيْ" (3) لِلتَّعَجُّبِ أَوْ لِلتَّنْبِيهِ، وَ"كَأَنَّ" بِمَعْنَى "أَظُنُّ وَأَحْسَبُ". قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَقْوَى الْأَقْوَالِ فِي هَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ (4) :
    سَألَتَاني الطَّلاق أنْ رَأتَاني ... قَلّ مَالي، وقَدْ جئْتُمَاني بِنُكر ...
    وَيْكأنْ مَنْ يكُن لَهُ نَشَب يُحْ ... بَبْ وَمَنْ يَفْتقر يَعش عَيشَ ضُرّ ...
    {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) } .
    يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، جَعَلَهَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَوَاضِعِي نَ، الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ، أَيْ: تَرَفُّعًا عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَتَعَاظُمًا عَلَيْهِمْ وَتَجَبُّرًا بِهِمْ، وَلَا فَسَادًا فِيهِمْ. كَمَا قَالَ عِكْرِمَةُ: الْعُلُوُّ: التَّجَبُّرُ.
    وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْعُلُوُّ: الْبَغْيُ.
    وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُسْلِمٍ (5) الْبَطِينِ: الْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ: التَّكَبُّرُ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَالْفَسَادُ: أَخْذُ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
    وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: {لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ} تَعَظُّمًا وَتَجَبُّرًا (6) ، {وَلا فَسَادًا} : عَمَلًا بِالْمَعَاصِي.
    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَشْعَثَ السَّمَّانِ (7) ، عَنْ أَبَى سَلَّامٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُعْجِبُهُ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ أَنْ يَكُونَ أَجْوَدَ مِنْ شِرَاكِ صَاحِبِهِ، فَيَدْخُلُ (8) فِي قَوْلِهِ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
    وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَرَادَ [بِذَلِكَ] (1) الْفَخْرَ [وَالتَّطَاوُلَ] (2) عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنَّهُ قَالَ] (3) إِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تواضَعُوا، حَتَّى لَا يفخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ" (4) ، وَأَمَّا إِذَا أَحَبَّ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ التَّجَمُّلِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَحَبُّ أَنْ يَكُونَ رِدَائِي حَسَنًا وَنَعْلِي حَسَنَةً، أَفَمِنَ الْكِبَرِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "لَا إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ".
    وَقَالَ (5) : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} أَيْ: ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَسَنَة الْعَبْدِ، فَكَيْفَ وَاللَّهُ يُضَاعِفُهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً فَهَذَا (6) مَقَامُ الْفَضْلِ.
    ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النَّمْلِ: 90] وَهَذَا مَقَامُ الْفَصْلِ وَالْعَدْلِ.

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة الروم مع الآيات 41-45 وتفسيرها :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) }
    {قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) } .
    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وعِكْرِمة، وَالضَّحَّاكُ، والسُّدِّي، وَغَيْرُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْبَرِّ هَاهُنَا: الفَيَافي، وَبِالْبَحْرِ: الْأَمْصَارُ وَالْقُرَى، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وعَكرمة: الْبَحْرُ: الْأَمْصَارُ وَالْقُرَى، مَا كَانَ مِنْهَا عَلَى جَانِبِ نَهْرٍ.
    وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْبَرِّ هُوَ الْبَرُّ الْمَعْرُوفُ، وَبِالْبَحْرِ: الْبَحْرُ الْمَعْرُوفُ.
    وَقَالَ زَيْدُ (1) بْنُ رُفَيْع: {ظَهَرَ الْفَسَادُ} يَعْنِي: انْقِطَاعَ الْمَطَرِ عَنِ الْبَرِّ يُعْقِبُهُ الْقَحْطُ، وَعَنِ الْبَحْرِ تَعْمَى (2) دَوَابُّهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
    وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمَقْرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ، قَالَ: فَسَادُ الْبَرِّ: قَتْلُ ابْنِ آدَمَ، وَفَسَادُ (3) الْبَحْرِ: أَخْذُ السَّفِينَةِ غَصْبًا.
    وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ: الْمُرَادُ بِالْبَرِّ: مَا فِيهِ مِنَ الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى، وبالبحر: جزائره.
    وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمَ صَالَح مَلِكَ أَيْلَةَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِبَحْرِهِ، يَعْنِي: بِبَلَدِهِ.
    وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} أَيْ: بَانَ النَّقْصُ فِي (1) الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي.
    وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ صَلَاحَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالطَّاعَةِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: "لَحَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَى أَهْلِهَا مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا" (2) . وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّ الْحُدُودَ إِذَا أُقِيمَتْ، انْكَفَّ النَّاسُ -أَوْ أَكْثَرُهُمْ، أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ -عَنْ تَعَاطِي الْمُحَرَّمَاتِ ، وَإِذَا ارْتُكِبَتِ الْمَعَاصِي كَانَ سَبَبًا فِي مِحَاقِ (3) الْبَرَكَاتِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا إِذَا نَزَلَ عِيسَى [ابْنُ مَرْيَمَ] (4) عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَحَكَمَ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، مِنْ قَتْلِ الْخِنْزِيرِ وَكَسْرِ الصَّلِيبِ وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ، وَهُوَ تَرْكُهَا -فَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ، فَإِذَا أَهْلَكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الدَّجَّالَ وَأَتْبَاعَهُ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، قِيلَ لِلْأَرْضِ: أَخْرِجِي بَرَكَاتِكِ. فَيَأْكُلُ مِنَ الرُّمَّانَةِ الفئَام مِنَ النَّاسِ، وَيَسْتَظِلُّون َ بقَحْفها، وَيَكْفِي لَبَنُ اللِّقْحَةِ الجماعةَ مِنَ النَّاسِ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِبَرَكَةِ تَنْفِيذِ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلَّمَا أُقِيمَ الْعَدْلُ كَثُرَتِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرُ؛ [وَلِهَذَا] (5) ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: (6) "إنَّ الْفَاجِرَ إِذَا مَاتَ تَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ" (7) .
    وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَالْحُسَيْنُ قَالَا حَدَّثَنَا عَوْف، عَنْ أَبِي قَحْذَمٍ قَالَ (8) : وَجَدَ رَجُلٌ فِي زَمَانِ زِيَادٍ -أَوِ: ابْنِ زِيَادٍ -صُرَّةً فِيهَا حَبّ، يَعْنِي مِنْ بُرٍّ أَمْثَالِ النَّوَى، عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ: هَذَا نَبَتَ فِي زَمَانٍ كَانَ يُعْمَلُ فِيهِ بِالْعَدْلِ (9) .
    وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَسَادِ هَاهُنَا الشِّرْكُ. وَفِيهِ نَظَرٌ.
    وَقَوْلُهُ: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أَيْ: يَبْتَلِيهِمْ بِنَقْصِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، اخْتِبَارًا مِنْهُ، وَمُجَازَاةً عَلَى صَنِيعِهِمْ، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أَيْ: عَنِ الْمَعَاصِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الْأَعْرَافِ: 168] .
    ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: مِنْ قَبْلِكُمْ، {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} أَيْ: فَانْظُرُوا مَاذَا حلَّ بِهِمْ مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَكُفْرِ النِّعَمِ.
    {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) } .
    يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِالْمُبَادَرَة ِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ فِي طَاعَتِهِ، وَالْمُبَادَرَة ِ إِلَى الْخَيْرَاتِ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا أَرَادَ كَوْنَهُ فَلَا رادَّ لَهُ، {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ، فَفَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} أَيْ: يُجَازِيهِمْ مُجَازَاةَ الْفَضْلِ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} ، وَمَعَ هَذَا هُوَ الْعَادِلُ فِيهِمْ، الَّذِي لَا يَجُورُ.

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة لقمان مع الآيات 17-19 وتفسيرها :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
    {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} أَيْ: بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَأَوْقَاتِهَا، {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أَيْ: بِحَسَبِ طَاقَتِكِ وَجُهْدِكَ، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} ،عَلِمَ أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ مِنَ النَّاسِ أَذًى، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ.
    وَقَوْلُهُ: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ} أَيْ: إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى أَذَى النَّاسِ لَمِنْ عَزَمِ الْأُمُورِ.
    وَقَوْلُهُ: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} يَقُولُ: لَا تُعرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ إِذَا كَلَّمْتَهُمْ أَوْ كَلَّمُوكَ، احْتِقَارًا مِنْكَ لَهُمْ، وَاسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ ألِنْ جَانِبَكَ، وَابْسُطْ وَجْهَكَ إِلَيْهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِط، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنَ المِخيلَة، وَالْمَخِيلَةُ لَا يُحِبُّهَا اللَّهَ".
    قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} يَقُولُ: لَا تَتَكَبَّرُ فتحقِرَ (5) عبادَ اللَّهِ، وَتُعْرِضَ عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ إِذَا كَلَّمُوكَ. وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ وَعِكْرِمَةُ عَنْهُ.
    وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} : لَا تكَلَّم وَأَنْتَ مُعْرِضٌ. وَكَذَا رُوي عَنْ مُجَاهِدٍ، وعِكْرِمة، وَيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، وَأَبِي الْجَوْزَاءِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَالضَّحَّاكِ، وَابْنِ يَزِيدَ، وَغَيْرِهِمْ.
    وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخعِي: يَعْنِي بذلك: التشديق في الكلام.
    وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.
    قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَصْلُ الصَّعَر: دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا أَوْ رُؤُوسِهَا، حَتَّى تُلفَتَ (1) أعناقُها عَنْ رُؤُوسِهَا، فَشُبِّهَ بِهِ الرَّجُلُ الْمُتَكَبِّرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ حُني التَّغْلبي:
    وَكُنَّا إذَا الجَبَّارُ صَعّر خَدّه ... أقَمْنَا لَه مِنْ مَيْلِه فَتَقَوّمَا (2)
    وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي شِعْرِهِ:
    وَكُنَّا قَديمًا لَا نقرُّ ظُلامَة ... إِذَا مَا ثَنوا صُعْر الرُّؤُوسِ نُقِيمها (3)
    وَقَوْلُهُ: {وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا} أَيْ: جَذْلًا مُتَكَبِّرًا جَبَّارًا عَنِيدًا، لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ يُبْغِضُكَ اللَّهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أَيْ: مُخْتَالٍ مُعْجَبٍ فِي نَفْسِهِ، فَخُورٌ: أَيْ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: (4) {وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا} [الْإِسْرَاءِ: 37] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
    وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي لَيْلَى، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى (5) عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاس قَالَ: ذُكِرَ الْكِبْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَّدَ فِيهِ، فَقَالَ: "إِنِ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لِأَغْسِلُ ثِيَابِي فَيُعْجِبُنِي بَيَاضُهَا، وَيُعْجِبُنِي شِراك نَعْلِي، وعِلاقة سَوْطي، فَقَالَ: "لَيْسَ ذَلِكَ الْكِبْرُ، إِنَّمَا الْكِبْرُ أَنْ تَسْفه الْحَقَّ وتَغْمِط (6) النَّاسَ" (7) .
    وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِمِثْلِهِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ، وَمَقْتَلُ ثَابِتٍ وَوَصِيَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ (8) .
    وَقَوْلُهُ: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} أَيِ: امْشِ مَشْيًا مُقْتَصِدًا لَيْسَ بِالْبَطِيءِ الْمُتَثَبِّطِ، وَلَا بِالسَّرِيعِ الْمُفْرِطِ، بَلْ عَدْلًا وَسَطًا بَيْنَ بَيْنَ.
    وَقَوْلُهُ: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} أَيْ: لَا تُبَالِغْ فِي الْكَلَامِ، وَلَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، أَيْ: غَايَةُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ أَنَّهُ يُشَبه بِالْحَمِيرِ فِي عُلُوِّهِ وَرَفْعِهِ، وَمَعَ هَذَا هُوَ بَغِيضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا التَّشْبِيهُ فِي هَذَا بِالْحَمِيرِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ وَذَمَّهُ غَايَةَ الذَّمِّ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ".
    وَقَالَ النَّسَائِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، (9) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنَّهُ] (10) قَالَ: "إِذَا سمعتم صياح الديكة فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحَمِيرِ (1) فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا".
    وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةُ سِوَى ابْنِ مَاجَهْ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ بِهِ، (2) وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "بِاللَّيْلِ"، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    فَهَذِهِ وَصَايَا نَافِعَةٌ جِدًّا، وَهِيَ مِنْ قَصص الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ، فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا أُنْمُوذَجًا وَدُسْتُورًا إِلَى ذَلِكَ.
    قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنِي نَهْشَل بْنُ مُجَمِّع الضَّبِّيُّ عَنْ قَزْعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (4) قَالَ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ" (5) .
    وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيُّ ، عَنْ مُوسَى بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ [بْنِ مُخَيْمِرة يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ] (6) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: " قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَالتَّقَنُّعَ فَإِنَّهُ مَخْوَفَةٌ بِاللَّيْلِ، مَذَمَّةٌ بِالنَّهَارِ" (7) .
    وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ ضَمْرَة، حَدَّثَنَا السَّريّ بْنُ يَحْيَى (8) قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ الْحِكْمَةَ أَجْلَسَتِ الْمَسَاكِينَ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ.
    وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَسْعُودِيِّ (9) ، عَنْ عَوْن بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِذَا أَتَيْتَ نَادِيَ قَوْمٍ فَارْمِهِمْ بِسَهْمِ الْإِسْلَامِ -يَعْنِي السَّلَامَ -ثُمَّ اجْلِسْ فِي نَاحِيَتِهِمْ، فَلَا تَنْطِقْ حَتَّى تَرَاهُمْ قَدْ نَطَقُوا، فَإِنْ أَفَاضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَأجِلْ سَهْمَكَ مَعَهُمْ، وَإِنْ أَفَاضُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَتَحَوَّلْ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ.
    وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ (10) ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وَضَعَ لُقْمَانُ جِرَابًا مِنْ خَرْدَلٍ إِلَى جَانِبِهِ، وَجَعَلَ يَعِظُ ابْنَهُ وَعْظَةً وَيَخْرُجُ خَرْدَلَةً، حَتَّى نَفَذَ الْخَرْدَلُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، لَقَدْ وَعَظْتُكَ مَوْعِظَةً لَوْ وُعِظَها جَبَلٌ لَتَفَطَّرَ. قَالَ: فَتَفَطَّرَ ابْنُهُ.
    وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي المِصِّيصي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّرَائِفِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبْيَنُ (11) بْنُ سُفْيَانَ الْمَقْدِسِيُّ، عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ (12) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "اتخذوا السُّودَانَ فَإِنَّ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ مَنْ سَادَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: لُقْمَانُ الْحَكِيمُ، وَالنَّجَاشِيُّ ، وَبِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ" (1) .
    قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ : أَرَادَ الْحَبَشَ.
    فَصْلٌ فِي الْخُمُولِ وَالتَّوَاضُعِ: وَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِوَصِيَّةِ لُقْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِابْنِهِ، وَقَدْ جَمَعَ فِي ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا كِتَابًا مُفْرَدًا [وَ] (2) نَحْنُ، نَذْكُرُ مِنْهُ مَقَاصِدَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْمَدَنِيُّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "رُبَّ أشعثَ ذِي طِمْرَين يُصْفَح عَنْ أَبْوَابِ النَّاسِ، إِذَا (3) أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ" (4) .
    ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ وَعَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ، وَزَادَ، مِنْهُمُ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ (5) .
    [وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "طُوبَى لِلْأَتْقِيَاءِ الْأَثْرِيَاءِ الَّذِينَ إِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، وَإِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ مُجَرَّدُونَ مَنْ كُلِّ فِتْنَةٍ غَبْرَاءَ مُشِينَةٍ"] (6) . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَبْكِي عِنْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا مُعَاذُ؟ قَالَ: حَدِيثٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ الْأَثْرِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَنْجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ" (7) .
    حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، حَدَّثَنَا عَثَّام بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَطَاءٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رُبَّ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤبَه لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، لَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ لَأَعْطَاهُ الْجَنَّةَ، وَلَمْ يُعْطِهُ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا" (8) .
    وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَوْ أَتَى بَابَ أَحَدِكُمْ يَسْأَلُهُ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أو فِلْسًا لَمْ يُعْطَهُ، وَلَوْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ لَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَلَوْ سَأَلَهُ (1) الدُّنْيَا لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهَا، وَلَمْ يَمْنَعْهَا إِيَّاهُ لِهَوَانِهِ عَلَيْهِ، ذُو طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ" (2) .
    وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
    وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَوْف قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ مُلُوكِ الْجَنَّةِ مَنْ هُوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ ذُو طِمْرَيْنِ لَا يُؤبَه لَهُ، الَّذِينَ إِذَا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْأُمَرَاءِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، وَإِذَا خَطَبُوا النِّسَاءَ لَمْ يُنْكَحُوا، وَإِذَا قَالُوا لَمْ يُنصَت لَهُمْ، حَوَائِجُ أَحَدِهِمْ تَتَجَلْجَلُ فِي صَدْرِهِ، لَوْ قُسِّمَ نُورُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ النَّاسِ لَوَسِعَهُمْ" (3) . قَالَ: وَأَنْشَدَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنِ ابْنِ عَائِشَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:
    أَلَا رُبّ ذِي طمْرَين فِي مَنزل غَدًا ... زَرَابِيه مَبْثُوثةً ونَمَارقُه ...
    قَد اطَّرَدَتْ أَنْهَارُهُ حَْوَل قَصْره ... وَأشرَقَ والتفَّتْ عَلَيه حَدَائقُه (4)
    وَرُوِيَ -أَيْضًا -مِنْ حَدِيثِ عُبَيد اللَّهِ بْنِ زَحْر، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: "قَالَ اللَّهُ: مِنْ أَغْبَطِ أَوْلِيَائِي عِنْدِي: مُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ، ذُو حَظٍّ مِنْ صَلَاةٍ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَأَطَاعَهُ فِي السِّرِّ، وَكَانَ غَامِضًا فِي النَّاسِ، لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ. إِنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ". قَالَ: ثُمَّ نَقَد رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ وَقَالَ: "عُجّلت مَنِيَّتُهُ، وَقَلَّ تُرَاثَهُ، وَقَلَّتْ بَوَاكِيهِ" (5) .
    وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَحَبُّ عِبَادِ اللَّهِ (6) إِلَى اللَّهِ الْغُرَبَاءُ. قِيلَ: ومَنْ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: الْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ، يُجْمَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ (7) .
    وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: بَلَغَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (8) يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَمْ أُنْعِمْ عَلَيْكَ؟ أَلَمْ أُعْطِكَ؟ أَلَمْ أَسْتُرْكَ؟ أَلَمْ..؟ أَلَمْ..؟ أَلَمْ أَخْمِلْ ذِكْرَكَ؟ ثُمَّ قَالَ الْفُضَيْلُ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا تُعرَف فَافْعَلْ، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يُثنى عَلَيْكَ، وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مَذْمُومًا عِنْدَ النَّاسِ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ.
    وَكَانَ ابْنُ مُحَيْرِيز يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ ذِكْرًا خَامِلًا.
    وَكَانَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي عِنْدَكَ مَنْ أَرْفَعِ خَلْقِكَ، وَاجْعَلْنِي فِي نَفْسِي مَنْ أَوْضَعِ خَلْقِكَ، وَعِنْدَ النَّاسِ مِنْ أَوْسَطِ خَلْقِكَ.
    ثُمَّ قَالَ (9) : بَابُ مَا جَاءَ فِي الشُّهْرَةِ
    حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَارِثِ وَابْنِ لَهِيعة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سِنَان بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "حَسْبُ امرئ من الشَّرِّ -إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ -أَنْ يُشِيرَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ " (1) .
    وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ، عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْك، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الأخْنَسِيّ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا، مِثْلُهُ (2) .
    وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا نَحْوُهُ (3) ، فَقِيلَ لِلْحَسَنِ: فَإِنَّهُ يُشَارُ إِلَيْكَ بِالْأَصَابِعِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْ يُشَارُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِ بِالْبِدْعَةِ وَفِي دُنْيَاهُ بِالْفِسْقِ (4) .
    وَعَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَا تَبْدَأْ لِأَنْ تَشْتَهِرَ، وَلَا تَرْفَعْ شَخْصَكَ لِتُذْكَرَ، وَتَعَلَّمْ وَاكْتُمْ،
    وَاصْمُتْ تَسْلَمْ، تَسُر الْأَبْرَارَ، وَتَغِيظُ الْفُجَّارَ.
    وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا صَدَقَ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ.
    وَقَالَ أَيُّوبُ: مَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدُهُ إِلَّا سَرَّهُ أَلَّا يُشْعَرَ بِمَكَانِهِ.
    وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ: مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّ أَلَّا يَعْرِفَهُ النَّاسُ.
    وَقَالَ سِمَاك بْنُ سَلَمَةَ: إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الْأَخِلَّاءِ.
    وَقَالَ أبَان بْنُ عُثْمَانَ: إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَسْلَمَ لَكَ دِينُكَ فَأَقِلَّ مِنَ الْمَعَارِفِ؛ كَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ إِذَا جَلَسَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ نَهَضَ وَتَرَكَهُمْ.
    وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْد، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَوْف، عَنْ أَبِي رَجَاء قَالَ: رَأَى طَلْحَةُ قَوْمًا يَمْشُونَ مَعَهُ، فَقَالَ: ذُبَابُ طَمَعٍ، وَفَرَاشُ النَّارِ.
    وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ (5) ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ حَوْلَ أَبِي إِذْ عَلَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: إِنَّهَا مَذَلَّةٌ لِلتَّابِعِ، وَفِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ.
    وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ: خَرَجَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَاتَّبَعَهُ أُنَاسٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أغلِقُ عَلَيْهِ بَابِي، مَا اتَّبَعَنِي مِنْكُمْ رَجُلَانِ.
    وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: كُنَّا إِذَا مَرَرْنَا عَلَى الْمَجْلِسِ، وَمَعَنَا أَيُّوبُ، فَسَلَّمَ، رَدُّوا رَدًّا شَدِيدًا، فَكَانَ ذَلِكَ يَغُمه.
    وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر: كَانَ أَيُّوبُ يُطِيلُ قَمِيصَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِ الشُّهْرَةَ فِيمَا مَضَى كَانَتْ فِي طُولِ الْقَمِيصِ، وَالْيَوْمَ فِي تَشْمِيرِهِ. وَاصْطَنَعَ مَرَّةً نَعْلَيْنِ عَلَى حَذْوِ نَعْلَيِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَبِسَهُمَا أَيَّامًا ثُمَّ خَلَعَهُمَا، وَقَالَ: لَمْ أَرَ النَّاسَ يَلْبَسُونَهُمَ ا.
    وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعي: لَا تَلْبَسْ مِنَ الثِّيَابِ مَا يُشهر فِي الْفُقَهَاءِ، وَلَا مَا يَزْدَرِيكَ السُّفَهَاءُ.
    وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ مِنَ الثِّيَابِ الْجِيَادَ، الَّتِي يُشتَهر بِهَا، وَيَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ. وَالثِّيَابَ الرديئة التي يحتقر فيها، ويستذل دينه.
    وَحَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاش: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي حَسَنَةَ -صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ -قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي قِلابة إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ أَكْسِيَةٌ، فَقَالَ: إِيَّاكُمْ وَهَذَا الْحِمَارَ النَّهَّاقَ.
    وَقَالَ الْحَسَنُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنْ قَوْمًا جَعَلُوا الْكِبْرَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَالتَّوَاضُعَ فِي ثِيَابِهِمْ، فَصَاحِبُ الْكِسَاءِ بِكِسَائِهِ أَعْجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْمِطْرَفِ بِمِطْرَفِهِ (1) ، مَا لَهُمْ تَفَاقَدُوا.
    وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: مَا لَكُمْ تَأْتُونِي عَلَيْكُمْ ثِيَابُ الرُّهْبَانِ، وَقُلُوبُكُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ، الْبَسُوا ثِيَابَ الْمُلُوكِ، وَأَلِينُوا قُلُوبَكُمْ بِالْخَشْيَةِ.
    فَصْلٌ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ
    قَالَ أَبُو الْتِّيَّاحِ: عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا (2) .
    وَعَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" (3) .
    وَعَنْ نُوحِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ وَشَرَفَ الْمَنَازِلِ، وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْعِبَادَةِ. وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ بِسُوءِ خُلُقِهِ دَرَك جَهَنَّمَ وَهُوَ عَابِدٌ" (4) . وَعَنْ سِنَان بْنِ هَارُونَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: "ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" (5) . وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ وَصَائِمِ النَّهَارِ" (6) .
    وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي أَبُو مُسْلِمٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهُ بْنُ إِدْرِيسَ، أَخْبَرَنِي أَبِي وَعَمِّي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سُئل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدخلُ الناسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: "تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ". وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسُ النَّارَ، فَقَالَ: "الْأَجْوَفَا ِ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ" (7) .
    وَقَالَ أُسَامَةُ بْنُ شَرِيك: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتْهُ الْأَعْرَابُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْإِنْسَانُ؟ قَالَ: "حُسْنُ الْخُلُقِ" (8) .
    وَقَالَ يَعْلَى بْنُ مَمْلَكٍ (9) : عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -يُبَلِّغُ بِهِ -قَالَ: "مَا [مِنْ] (10) شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ" (11) ، وَكَذَا رَوَاهُ عَطَاءٌ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، بِهِ (12) .
    وَعَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: "إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا" (13) .
    حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَدْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ (14) ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَارَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَيُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ، كَمَا يُعْطِي الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَغْدُو عَلَيْهِ الْأَجْرُ وَيَرُوحُ" (1) .
    وَعَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ مَرْفُوعًا: "إِنَّ أَحَبَّكُمْ إليَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا، أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إليَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ مُسَاوِيكُمْ أَخْلَاقًا، الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُو نَ الْمُتَفَيْهِقُ ونَ".
    وَعَنْ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المنْكَدِر، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْمَلِكُمْ إِيمَانًا، أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أَكْنَافًا، الَّذِينَ يُؤْلفون ويَأْلفون" (3) .
    وَقَالَ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا حَسَّن اللَّهُ خَلْق رَجُلٍ وخُلُقه فَتَطْعَمَه النَّارُ" (4) .
    وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَالِبٍ الحُدَّاني، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: "خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ: الْبُخْلُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ" (5) ، وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَان، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ ذَنْبٍ إِلَّا وَقَعَ فِي آخَرَ" (6) .
    حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ الأحْمَسِيّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ؛ إِنَّ الْخُلُقَ الْحَسَنَ لَيُذِيبَ الذُّنُوبَ كَمَا تُذِيبُ الشَّمْسُ الْجَلِيدَ، وَإِنَّ الْخُلُقَ السَّيِّئَ لَيُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ" (7) .
    وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " إِنَّكُمْ لَا تَسَعُون النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَسَعُهم مِنْكُمْ بَسْطُ وُجُوهٍ وَحُسْنُ خُلُقٍ" (8) .
    وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: حُسْنُ الْخُلُقِ عَوْنٌ عَلَى الدِّينِ.
    فَصْلٌ فِي ذَمِّ الْكِبْرِ
    قَالَ عَلْقَمَةُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَفَعَهُ -: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ (9) مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْر، وَلَا يُدْخِلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ (10) مِنْ إِيمَانٍ" (11) .
    وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَة، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: "مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، أَكَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ" (12) .
    حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: "لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْجَبَّارِينَ، فَيُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ" (13) .
    وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: رَكِبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَلَيْهِمَا (14) السَّلَامُ، ذَاتَ يوم البساط في مائتي أَلْفٍ مِنَ الْإِنْسِ، وَمِائَتَيْ أَلْفٍ مِنَ الْجِنِّ، فَرُفع حَتَّى سَمِعَ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ خَفَضُوهُ حَتَّى مَسَّتْ قَدُمُهُ مَاءَ الْبَحْرِ، فَسَمِعُوا صَوْتًا لَوْ كَانَ فِي قَلْبِ صَاحِبِكُمْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ لَخُسِفَ بِهِ أَبْعَدَ مِمَّا رُفِعَ.
    حَدَّثَنَا أَبُو خَيثَمة، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَخْطُبُنَا فَيَذْكُرُ بَدْءَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا ليُقذر نَفْسَهُ، يَقُولُ: خَرَجَ مِنْ مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ (1) .
    وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ قَتَلَ اثْنَيْنِ فَهُوَ جَبَّارٌ، ثُمَّ تَلَا {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ} [الْقِصَصِ: 19] وَقَالَ الْحَسَنُ: عَجَبًا لِابْنِ آدَمَ، يَغْسِلُ الْخَرْءَ بِيَدِهِ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يَتَكَبَّرُ! يُعَارِضُ جَبَّارَ السموات، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاش، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. ضَرَبَ مَثَلَ الدنيَا بِمَا يَخْرُجُ مِنَ ابْنِ آدَمَ (2) .
    وَقَالَ الْحَسَنُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي قَالَ: إِنَّ مطعم بن آدَمَ ضَرْبُ مَثَلٍ لِلدُّنْيَا وَإِنْ قَزّحَه ومَلَّحه.
    وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ -مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا دَخَلَ قلبَ رَجُلٍ شَيْءٌ مِنَ الْكِبْرِ إِلَّا نَقَصَ مِنْ عَقْلِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ.
    وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: لَيْسَ مَعَ السُّجُودِ كِبْرٌ، وَلَا مَعَ التَّوْحِيدِ نِفَاقٌ.
    وَنَظَرَ طَاوُسٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ يَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَخْلَفَ، فَطَعَنَهُ طَاوُسٌ فِي جَنْبِهِ بِأُصْبُعِهِ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا شَأْنُ (3) مَنْ فِي بَطْنِهِ خَرْءٌ؟ فَقَالَ لَهُ كَالْمُعْتَذِرِ إِلَيْهِ: يَا عَمِّ، لَقَدْ ضُرِبَ كُلُّ عُضْوٍ مِنِّي عَلَى هَذِهِ الْمِشْيَةِ حَتَّى تَعَلَّمْتُهَا.
    قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: كَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ يَضْرِبُونَ أَوْلَادَهُمْ حَتَّى يَتَعَلَّمُوا (4) هَذِهِ الْمِشْيَةَ.
    فَصْلٌ فِي الِاخْتِيَالِ
    عَنْ أَبِي لَيْلَى، عَنِ ابْنِ بُرَيْدة، عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ" (5) .
    وَرَوَاهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ (6) . وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّار، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: "لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ" (7) . وَ"بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْهِ، أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (8) .
    وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أبيه: "بينما رجل ... " إلى آخره (9) .

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة الشورى مع الآيات 40-43 وتفسيرها :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ (43) }
    قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]
    وَكَقَوْلِهِ (1) {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النَّحْلِ:129] فَشَرَعَ الْعَدْلَ وَهُوَ الْقَصَاصُ، وَنَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ وَهُوَ الْعَفْوُ، كَقَوْلِهِ [تَعَالَى] (2) {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [الْمَائِدَةِ:45] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أَيْ: لَا يَضِيعُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ: "وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا" وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أَيِ: الْمُعْتَدِينَ، وَهُوَ الْمُبْتَدِئُ بِالسَّيِّئَةِ.
    [وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا كَانَتِ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمُقْتَصِدٌ، وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ، ذَكَرَ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَذَكَرَ الْمُقْتَصِدَ وَهُوَ الَّذِي يُفِيضُ بِقَدْرِ حَقِّهِ لِقَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّابِقَ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ثُمَّ ذَكَرَ الظَّالِمَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} فَأَمَرَ بِالْعَدْلِ،وَن َدَبَ إِلَى الْفَضْلِ، وَنَهَى مِنَ الظُّلْمِ] (3) .
    ثُمَّ قَالَ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} أَيْ: لَيْسَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ فِي الِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ.
    قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ (4) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزيع (5) حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا (6) ابْنُ عَوْن قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُ عَنِ الِانْتِصَارِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ (7) بْنِ جُدْعَانَ عَنْ أُمِّ مُحَمَّدٍ -امْرَأَةِ أَبِيهِ-قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: زَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ (8) -قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَنَا زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَجَعَلَ يَصْنَعُ بِيَدِهِ شَيْئًا فَلَمْ يَفْطِن لَهَا، فَقُلْتُ بِيَدِهِ حَتَّى (9) فَطَّنته لَهَا، فَأَمْسَكَ. وَأَقْبَلَتْ زَيْنَبُ تُقْحِمُ لِعَائِشَةَ، فَنَهَاهَا، فَأَبَتْ أَنْ تَنْتَهِيَ. فَقَالَ لِعَائِشَةَ: "سُبّيها" فَسَبَّتْهَا فَغَلَبَتْهَا، وَانْطَلَقَتْ زَيْنَبُ فَأَتَتْ عَلِيًّا فَقَالَتْ: إِنَّ عَائِشَةَ تَقَعُ بِكُمْ، وَتَفْعَلُ بِكُمْ. فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَقَالَ (10) لَهَا "إِنَّهَا حِبَّةُ أَبِيكِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ" فَانْصَرَفَتْ، وَقَالَتْ لِعَلِيٍّ: إِنِّي قُلْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَجَاءَ عَلِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ (11) .
    هَكَذَا وَرَدَ هَذَا السِّيَاقُ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ يَأْتِي فِي رِوَايَاتِهِ بِالْمُنْكَرَات ِ غَالِبًا، وَهَذَا فِيهِ نَكَارَةٌ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ خِلَافُ هَذَا السِّيَاقِ، كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ الْفَأْفَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ البَهِيّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا علمتُ حَتَّى دَخَلَتْ عليَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذَنٍ وَهِيَ غَضْبَى، ثُمَّ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ إِذَا قَلَبَتْ لَكَ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ ذُرَيّعَتَيهَا ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيَّ فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دُونَكِ فَانْتَصِرِي" فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا وَقَدْ يَبِسَ رِيقُهَا فِي فَمِهَا، مَا (12) تَرُدُّ عَلَيَّ شَيْئًا. فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يتهلل وجهه. وهذا لفظ النَّسَائِيِّ (1) .
    وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ (2) ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ".
    وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ -وَاسْمُهُ مَيْمُونٌ-ثُمَّ قَالَ: "لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ" (3) .
    وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا السَّبِيلُ} أَيْ: إِنَّمَا الْحَرَجُ وَالْعَنَتُ {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أَيْ: يَبْدَؤُونَ النَّاسَ بِالظُّلْمِ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "الْمُسْتَبَّان مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَد الْمَظْلُومُ".
    {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ: شَدِيدٌ مُوجِعٌ.
    قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ -أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ-حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الشَّحَّامُ، حَدَّثَنَا (4) مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ فَإِذَا عَلَى الْخَنْدَقِ مَنْظَرَة، فَأُخِذْتُ فَانْطُلِقَ بِي إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَقَالَ: حَاجَتَكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. قُلْتُ حَاجَتِي إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ. قَالَ: وَمَنْ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ؟ قَالَ: الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ، اسْتَعْمَلَ صَدِيقًا لَهُ مَرَّةً عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا تَبِيتَ إِلَّا وَظَهْرُكَ خَفِيفٌ، وَبَطْنُكَ خَمِيصٌ، وَكَفُّكَ نَقِيَّةٌ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ (5) ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ سَبِيلٌ، {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَقَالَ (6) صَدَقَ وَاللَّهِ وَنَصَحَ ثُمَّ قَالَ: مَا حَاجَتُكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: حَاجَتِي أَنْ تُلْحِقَنِي بِأَهْلِي. قَالَ: نَعَمْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (7) .
    ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الظُّلْمَ وَأَهْلَهُ وَشَرَّعَ الْقَصَاصَ، قَالَ نَادِبًا إِلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} أَيْ: صَبَرَ عَلَى الْأَذَى وَسَتَرَ السَّيِّئَةَ، {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ}
    قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: [يَعْنِي] (8) لَمِنْ حَقِّ الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا، أَيْ: لَمِنَ الْأُمُورِ الْمَشْكُورَةِ وَالْأَفْعَالِ الْحَمِيدَةِ (9) الَّتِي عَلَيْهَا ثَوَابٌ جَزِيلٌ وَثَنَاءٌ جَمِيلٌ.
    وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الطَّرْسُوسِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ يَزِيدَ -خَادِمُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ-قَالَ: سَمِعْتُ (10) الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يقول (11) إذا أتاك رجل يَشْكُو إِلَيْكَ رَجُلًا فَقُلْ: "يَا أَخِي، اعْفُ عَنْهُ". فَإِنَّ الْعَفْوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، فَإِنْ قَالَ: لَا يَحْتَمِلُ قَلْبِي الْعَفْوَ، وَلَكِنْ أَنْتَصِرُ كَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ (1) عَزَّ وَجَلَّ. فَقُلْ لَهُ (2) إِنْ كُنْتُ تُحْسِنُ أَنْ تَنْتَصِرَ وَإِلَّا فَارْجِعْ إِلَى بَابِ الْعَفْوِ، فَإِنَّهُ بَابٌ وَاسِعٌ، فَإِنَّهُ مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَصَاحِبُ الْعَفْوِ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ بِاللَّيْلِ، وَصَاحِبُ الِانْتِصَارِ يُقَلِّبُ الْأُمُورَ (3) .
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى -يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ-عَنِ ابْنِ عَجْلان، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، (4) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ! قَالَ: "إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ حَضَرَ (5) الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ". ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ، مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلم بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ، إِلَّا أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَه، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً، إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً، إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا قِلَّةً"
    وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ -قَالَ: وَرَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلان (6) وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِي، عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْمُحَرِّرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا (7) .
    وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ سببُ سَبِّهِ لِلصِّدِّيقِ (8) .

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb

    من سورة الحجرات مع الآيتان 9-10 وتفسيرهما :
    بسم الله الرحمن الرحيم
    {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) }
    يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (1) الْبَاغِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، فَسَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ مَعَ الِاقْتِتَالِ. وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْمَعْصِيَةِ وَإِنْ عَظُمَتْ، لَا كَمَا يَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَهَكَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمًا وَمَعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مَرَّةً وَإِلَى النَّاسِ أُخْرَى وَيَقُولُ: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (2) . فَكَانَ كَمَا قَالَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَصْلَحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، بَعْدَ الْحُرُوبِ الطَّوِيلَةِ وَالْوَاقِعَاتِ الْمَهُولَةِ.
    وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أَيْ: حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ (3) وَتَسْمَعَ لِلْحَقِّ وَتُطِيعَهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نَصَرْتُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: "تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمَ، فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ" (4) .
    وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحِدِّثُ: أَنَّ أَنَسًا قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ؟ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبَ حِمَارًا، وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ، وَهِيَ أَرْضٌ سَبْخَةٌ، فَلَمَّا انْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِلَيْكَ عَنِّي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي رِيحُ حِمَارِكَ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ. قَالَ: فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، قَالَ: فَكَانَ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهُ أُنْزَلَتْ فِيهِمْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}
    وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "الصُّلْحِ" عَنْ مُسَدَّد، وَمُسْلِمٌ فِي "الْمَغَازِي" عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ نَحْوَهُ (5) .
    وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانَ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ بِالسَّعَفِ وَالنِّعَالِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فأمر بالصلح بينهما.
    وقال السدي: كان رجلا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: "عِمْرَانُ"، كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ تُدْعَى أُمَّ زَيْدٍ (6) ، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَزُورَ أَهْلَهَا فَحَبَسَهَا زَوْجُهَا وَجَعَلَهَا فِي عُلَيَّة لَهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا. وَإِنَّ الْمَرْأَةَ بَعَثَتْ إِلَى أَهْلِهَا، فَجَاءَ قَوْمُهَا وَأَنْزَلُوهَا لِيَنْطَلِقُوا بِهَا، وَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ كَانَ خَرَجَ، فَاسْتَعَانَ أَهْلُ الرَّجُلِ، فَجَاءَ بَنُو عَمِّهِ لِيَحُولُوا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَهْلِهَا، فَتَدَافَعُوا واجتلدوا بالنعال، فنزلت فيهم هذه الْآيَةُ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، وَفَاءُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ.
    وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أَيْ: اعْدِلُوا بَيْنَهُمْ فِيمَا كَانَ أَصَابَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
    قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدِّمِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ (1) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمُقْسِطِينَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، بِمَا أَقْسَطُوا فِي الدُّنْيَا".
    وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ (2) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، بِهِ (3) . وَهَذَا إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، رِجَالُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ.
    وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُقْسِطُو َ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ الْعَرْشِ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ وَمَا وَلُوا".
    وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ (4) .
    وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} أَيِ: الْجَمِيعُ إِخْوَةٌ فِي الدِّينِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ" (5) . وَفِي الصَّحِيحِ: "وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ" (6) . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: "إِذَا دَعَا الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلِهِ" (7) . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَفِي الصَّحِيحِ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوادِّهم وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بالحُمَّى والسَّهَر". وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ (8) .
    وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، يَأْلَمُ الْمُؤْمِنُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، كَمَا يَأْلَمُ الْجَسَدُ لِمَا فِي الرَّأْسِ" (9) . تَفَرَّدَ بِهِ وَلَا بأس بإسناده.
    وَقَوْلُهُ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} يَعْنِي: الْفِئَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَ يْنِ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ: فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وَهَذَا تَحْقِيقٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلرَّحْمَةِ لِمَنِ اتَّقَاهُ.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •