لحزن يقلق والتجمّل يردع
(على هامش الكآبة)
د. عبدالمحسن بن عبدالله التويجري
بوجود المرض النفسي يضطرب السلوك وفق نوع المرض وحدته، والاكتئاب أحد هذه الأمراض النفسية، ومن خلال منظور عام يتبين أن التقدم العلمي في مجال الطب النفسي، وكذلك العلاج النفسي الذي لا يعتمد على العلاج بالأدوية قد حقق تقدماً مكّنَ المختصين من مساعدة مرضى الاكتئاب بكثير من النجاح.
وفي أزمان مضت، وما زال لها وجود في بعض المجتمعات نجد من يفسر هذا المرض وغيره من الأمراض النفسية بدهاليز الشعوذة وبمفهوم الأساطير، وإن المريض بأبسط أنواع الأمراض النفسية يتم تشخيص حالته في هذه الدهاليز بإصابته بالعين، أو مسّ من الجنون، وهذا النمط من المشعوذين لا يزال له وجود وتأثير على فئات من أبناء المجتمع، حيث إنّ روادهم كثر باعتقاد راسخ بالشفاء، ومصداقية ما يسمعون وما يُعصى لهم، وهذا نتيجة لتدني الوعي الصحي لدى ذوي المريض المغلوب على أمره، ويقابل ذلك مزيد من الطمع والكذب من قِبَل المشعوذين.
والاكتئاب في زمننا هذا يمكن التعامل معه من حيث التشخيص والعلاج بيسر وإن استعصى على الطبيب بعض من الحالات النادرة جداً. والمعنى اللغوي للاكتئاب هو (الحزن والغمّ والانكسار)، حيث تُصاب النفس بانكسار من شدة الهمّ والحزن، والكآباء هي (الحزن الشديد)، وقد ورد في الدعاء النبوي الجامع والبليغ عبارة بهذا المعنى (أعوذ بك من كآبة المنظر).
وللشاعر جندل بن المثنى أبياتٌ منها:
عزّ على عمك أن تأوقي(1)
أو أنّ تبيتي ليلة لم تغبقي(2)
أو أن تُرى كأباء لم تبرنشقي(3)
ولقد وصف أبقراط (377 - 460ق م) المنخوليا كأهم وأقدم الأمراض العقلية، وفي (عام 1621م) أشار الطبيب الإنجليزي (روبرت بيرتون) - في كتاب قد ألفه - إلى ما أيّد به أن مرض المنخوليا مرض عالمي، وسبقه (ابن سينا) من خلال وصفه لحالات من السلوك المضطرب العائد إلى مرض نفسي.
وفي القرن التاسع عشر أصبح الاكتئاب أحد الأمراض النفسية التي اهتم به أطباء نفسيون عدة أمثال: (كريب لين، وفرويد، وشنايدر) وكان لهم كتابات واجتهادات وبحوث أغنت الطريق نحو مزيد من التعرف على الاكتئاب.
وحين نعتبر الكآبة حزناً فإن ما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}(4)، وقوله عز وجل: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }(5)إشارة إلى الكآبة، بوحي يبشر بانتصارات قادمة على أثر ما سجله التاريخ عن غزوة أحد.
والشعر العربي تضمن الحزن أو ملامح عنه، فهذا (مجنون ليلى) يقول:
وأمطر في التراب سحاب جفني
وقلبي في هموم واكتئاب
كما قال (ذو الرمة) الشاعر المعروف:
ومستبشراً تبدو بشاشة وجهه
إلينا ومعروف الكآبة عابس
وكذلك قال الشاعر (سبط بن التعاويذي):
فر برزخ منها أخاً كمدٍ حليفُ كآبتين
أسوان لا حيّ ولا ميت كهمزة بين بين
وقال (أبو نواس) وربما أنه أحد المكتئبين:
يا مثالا من هموم
يا تباريح كآبة
وقال الشاعر (أوس بن حجر):
فلم أرَ يوماً كان أكثر باكياً
ووجهاً ترى فيه الكآبة تجنب
ونظم (البحتري وأبو تمام وغيرهما) أبياتاً حول الكآبة، أما المتنبي فقد قال:
لا أشرأب إلى ما لم يفت طمعاً
ولا أبيت على ما فات حسران
كما قال:
الحزن يقلق والتجمّل يردع
والدمع بينهما عصيّ طيّع
وحين يستبد الحزن بالمريض فهو كئيب يتأثر سلوكه فكراً وتعايشاً بسلوك مضطرب مع نفسه وذويه ومجتمعه، والاكتئاب مرض خادع وماكر حيث ينفذ بأثره تدريجياً، ويُضيق الخناق بالتدريج كذلك على عقل ونفس وصدر وقلب المريض.
والاكتئاب أنواعٌ، منها: الاكتئاب التفاعلي أو العصابي، والاكتئاب الذهاني أو العقلي، والاكتئاب المرافق للسن كسن اليأس كما يقال: وأخيراً الاكتئاب العضوي.
ومرض الاكتئاب من أمراض العصر، وفي تزايد ملفت للنظر، ومن الصعب أن يقترح أحدٌ من أطباء النفس أو المعالجون النفسيون حلولاً بالحسم تحدّ من آثاره، أوالإصابة به وإن كان هذا أملاً نتمناه.
وإن جاز التصور لمخرج قد يبتعد معه الإنسان عن أمور ليست بسارة فإن المخرج حين يلجأ إلى بساطته من واقع الفطرة وما توحي به، ولعل تفهم الأسس التي خُلق على أساسها الإنسان في حياة تلتزم بنظام وقواعد لها أن يكون هذا طريق أمان يقترب معه الإنسان من التصالح مع النفس، والحياة بانسجام مع كون الله الواسع، وحري بنا تذكر سورة العصر، كما أن خالقنا أراد وشاء وقدّرَ في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(6) .
(1)الأوق: بمعنى الثقل.
(2) الغبوق: المأكل وغالباً العشاء.
(3) الابرتشاق: الفرح والسرور.
(4) سورة البلد، آية: (4).
(5) سورة آل عمران، آية: (139).
(6) سورة الذاريات, آية (56).
المراجع:
(1) (لا أرق بعد اليوم), بيتر هاوري، وموري جارمن, وشيرلي لايند.
(2) (مكاشفة القلوب)، أبو حامد الغزالي.
(3) (موسوعة الطب النفسي), من منشورات جاعة هارفارد.