المسكين الجديد

حين يُذكر اسم "المسكين" فلا يتبادر إلى الأذهان إلا ذاك الإنسان الذي ظهرت عليه آثار الحاجة، وشظف العيش، وحلّت له الصدقة.
لكن في الآونة الأخيرة ظهر نوع آخر من "المسكنة" أفرزته التحولات المجتمعية الجديدة والتي تأثرت بشكل كبير بهذا التقدم التقني الهائل، الذي كان من آثاره تسهيل نقل الأخبار في التجارب، والرحلات والأسفار، والأخبار، وموائد الأطعمة، وأنواع الماركات والمناسبات الاجتماعية وغير ذلك.
ومن اللافت للنظر في هذا التواصل أن جميع طبقات المجتمع صارت منخرطةً في هذا النوع من التواصل: ساسة، ورجال علم وأعمال، أغنياء وفقراء، أساتذة وطلاباً، رجالاً ونساء، صغاراً وكباراً، وصار المتلقي والمتواصل ـ إذا كان يشعر أنه في درجة أنزل ممن يقرأ له من الناحية الاجتماعية ـ يتلقى ما يكتبه بنوع من الحسرة التي تجعله يستجلب لنفسه ألوانا من الألم النفسي، ولسان حاله يقول: أين أنا من هؤلاء؟! ليت لي مثل ما لهم من أموال! ليتني أسافر مثلهم! متى أمتلك مثل هذه الملبوسات أو السيارات؟ ... الخ.
ثم لا يلبث أن يستمع لهذه الآلام ـ وبصوت مرتفع ـ حين يجتمع مع أقرانه أو أقاربه، الذين ينقلون هذه المشاعر الفردية إلى آهات جماعية، فترتفع نسبة الحسرات والآلام، فيشعر أنه "مسكينٌ" وهو يسمع أخبار هؤلاء المترفين، وقد تكون حقيقتهم أنهم غارقون في الديون، لكنه حب المظاهر!
لقد أنتجت هذه المشاعر ـ الخطيرة في أبعادها ـ مجتمعاً مشغولاً بالكماليات، معنياً بترفيه نفسه على حساب روحه، إلا من رحم الله!
صار مَنْ لا يسافر للخارج مع عائلته عند بعض هؤلاء المترفين مسكيناً!
وأصبح مَنْ لا يُجدّد ملبوساته بالماركات العالمية المشهورة مسكيناً!
وأضحى مَنْ يجعل حفل زفاف موليته مختصراً في بيته أو استراحة مناسبة، ولا يجعله في قصر كبير، أو قاعةٍ من قاعات الفنادق الراقية= مسكيناً!
وانتقل هذا إلى بعض الزوجات، فصارت تنتظر أن يكون أول سفرٍ يبدأ به زوجها في أيامهم الأولى السفرُ للخارج، فإن لم يفعل تأثرتْ نفسياً، وأثّر هذا سلباً على مستقبل علاقتها بزوجها؛ لأن زوجها في نظرها صار "مسكيناً" لا يعرف الأصول، ولا يواكب المجتمع، ولا يفعل كما فعل فلان وفلان من أزواج أخواتها أو صديقاتها!
وصار من لا يبني بيته وفق مواصفات معيّنة! أو مَنْ لا يُجَدّدُ أثاثَ بيته أو دهانات منزله كل بضع سنين= مسكيناً!
و"مسكين" ـ عند بعضهم ـ إذا كان بيده جوال من النوع العادي الذي لا يصنّف من الأجهزة الذكية!
ولئن كان التوسع في بعض ما سبق قد لا يستغرب من أهل الثراء، وذوي الجِدَةِ، فما تفسير تسابق الكثيرين من ذوي الدخل المحدود، بل ممن ركبتهم الديون، حين يشعرون بمركّب النقص و"المسكنة" إذا لم يفعلوا ذلك! فيدفعهم هذا إلى الاستدانة من الناس أو الوقوع في أسر القروض البنكية التي تطوّقهم بأقساطها سنوات عدّة، ثم يكون مآل أحدهم إلى طَرْقِ أبواب المحسنين ليسدد ديونه، بعد رحلةٍ شاقة من بذل ماء الوجه وإراقته، في ديون لم تكن عن حاجة، فضلا أن تكون عن ضرورة!
إن من حق كل أحدٍ أن يتمتع بما أحل الله من الطيبات، لكن هذا التسابق إلى هذه الألوان من التوسع في استعمال النعم والأموال ومن أغلب طبقات المجتمع ليس محموداً، ولا مأمون العواقب، وحسْبك أن تنظر في آثاره بعين البصر والبصيرة؛ لتدرك شيئاً من الأثر العاجل!
لقد ذمّ القرآن الترف ذمّا بالغاً، فلم يذكره ـ في المواضع الثمان ـ إلا على سبيل الذم. وجاءت سُنّة نبينا صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ـ رضوان الله عليهم ـ، لتترجم لنا فقه التعامل مع الطيبات، في حال الشدة والرخاء.
ومَنْ قرأ في أسباب سقوط الأندلس ـ وكان ذلك عام (897هـ) ـ، وأسباب سقوط الدولة العثمانية ـ وكان ذلك عام (1343هـ) ـ أدرك أن الترفَ، والتوسع في الملذات والكماليات كان أحد أهمّ أسباب ضعفها، والذي أغرى أعداءها بالوثوب عليها وإسقاطها.
وما الدول إلا أفرادٌ! فمن أخطر مظاهر الانغماس في الترف والتوسع في الملذات على المستوى الفردي: تعلّق القلب بالدنيا، والغفلةُ عن الآخرة، والانهماكُ في تسمين البدن على حساب القلب! فمتى ندرك أن حصول الترف لا يدل على الشرف؟ إذْ لو كان الأمر كذلك لكان الأنبياء والصالحون أولى الناس بالترف!
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته! *** أتطلب الربح فيما فيه خسرانُ؟
أقبل على النفس واستكمل فضائلها *** فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
ولما كانت بعض الموازين عند بعض الناس متعلقةً بالمظاهر، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على تصحيحها كلما حانت فرصةٌ، ومن ذلك أنه مرَّ رجل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: «ما رأيك في هذا؟» فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مرّ رجل آخر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما رأيك في هذا؟» فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا»([1])، وقد بوّب عليه البخاري فقال: باب فضل الفقر!
إنها دعوة للاعتدال، وإعادةِ النظر في كثير من ألوان التوسع في الطيبات، حتى لا نكرر ما وقع في تلك الدول، فينشأ في الأمة فئام من الشباب والفتيات على حياة الترف التي لا تعرف الجدّ، وحياةِ اللذات التي لم تذق طعم العناء، فإذا ما أرادت أن تبني عجزت، أو بَنَتْ أبنية هشّة القواعد، ضعيفة الأسس!

([1]) البخاري ح (6447) .