قال الشيخ عبد الوهاب خلاف رحمه الله: «وَكَانَ الْمُتَبَادِرُ أَنْ يُبْنَى كُلُّ حُكْمٍ عَلَى حِكْمَتِهِ، وَأَنْ يَرْتَبِطَ وُجُودُهُ بِوُجُودِهَا وَعَدَمُهُ بِعَدَمِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِهِ وَالْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ، وَلَكِنْ رُئِيَ بِالِاسْتِقْرَا ءِ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَشْرِيعِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ قَدْ تَكُونُ أَمْرًا خَفِيًّا غَيْرَ ظَاهِرٍ، فَلَا يُمْكِنُ التَّحَقُّقُ مِنْ وُجُودِهِ وَلَا مِنْ عَدَمِ وُجُودِهِ، وَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلَا رَبْطُ وُجُودِهِ بِوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ بِعَدَمِهِ.
مِثْلَ: إِبَاحَةِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي حِكْمَتُهَا دَفْعُ الْحَرَجِ عَنِ النَّاسِ بِسَدِّ حَاجَاتِهِمْ، فَالْحَاجَةُ أَمْرٌ خَفِيٌّ، وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ لِحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ.
وَقَدْ تَكُونُ الْحِكْمَةُ أَمْرًا تَقْدِيرِيًّا؛ أَيْ أَمْرًا غَيْرَ مُنْضَبِطٍ، فَلَا يَنْضَبِطُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلَا رَبْطُهُ بِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا.
مِثَالُ هَذَا: إِبَاحَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لِلْمَرِيضِ؛ حِكْمَتُهَا دَفْعُ الْمَشَقَّةِ، وَهَذَا أَمْرٌ تَقْدِيرِيٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ ، فَلَوْ بُنِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ لَا يَنْضَبِطُ التَّكْلِيفُ وَلَا يَسْتَقِيمُ.
وَكَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ أَوِ الْجَارِ؛ حِكْمَتُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ؛ وَهُوَ أَمْرٌ تَقْدِيرِيٌّ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ؛ فَلِأَجْلِ خَفَاءِ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَعَدَمِ انْضِبَاطِهَا فِي بَعْضِهَا، لَزِمَ اعْتِبَارُ أَمْرٍ آخَرَ يَكُونُ ظَاهِرًا أَوْ مُنْضَبِطًا يُبْنَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ، وَيُرْبَطُ وُجُودُهُ بِوُجُودِهِ وَعَدَمُهُ بِعَدَمِهِ، وَيَكُونُ مُنَاسِبًا لِحِكْمَتِهِ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَظِنَّةٌ لَهَا، وَأَنَّ بِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحَقِّقَهَا.
وَهَذَا الْأَمْرُ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ الَّذِي بُنِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لِحِكْمَتِهِ، وَلِأَنَّ بِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحَقِّقَهَا، هُوَ الْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّين َ؛ فَالْفَرْقُ بَيْنَ حِكْمَةِ الْحُكْمِ وَعِلَّتِهِ هُوَ أَنَّ حِكْمَةَ الْحُكْمِ هِيَ الْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِهِ وَالْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ، وَهِيَ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِعُ بِتَشْرِيعِ الْحُكْمِ تَحْقِيقَهَا أَوْ تَكْمِيلَهَا، أَوِ الْمَفْسَدَةُ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِعُ بِتَشْرِيعِ الْحُكْمِ دَفْعَهَا أَوْ تَقْلِيلَهَا.
وَأَمَّا عِلَّةُ الْحُكْمِ فَهِيَ الْأَمْرُ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ الَّذِي بُنِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَرُبِطَ بِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا؛ لِأَنَّ الشَّأْنَ فِي بِنَائِهِ عَلَيِهِ وَرَبْطِهِ بِهِ أَنْ يُحَقِّقَ حِكْمَةَ تَشْرِيعِ الْحُكْمِ.
فَقَصْرُ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ حِكْمَتُهُ التَّخْفِيفُ وَدَفْعُ الْمَشَقَّةِ، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ أَمْرٌ تَقْدِيرِيٌّ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، لَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَاعْتَبَرَ الشَّارِعُ السَّفَرَ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ، وَهُوَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ، وَفِي جَعْلِهِ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ مَظِنَّةُ تَحْقِيقِ حِكْمَتِهِ؛ لِأَنَّ الشَّأْنَ فِي السَّفَرِ أَنَّهُ تُوجَدُ فِيهِ بَعْضُ الْمَشَقَّاتِ.
فَحِكْمَةُ قَصْرِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ دَفْعُ الْمَشَقَّةِ عَنْهُ، وَعِلَّتُهُ السَّفَرُ.
وَاسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ بِالشَّرِكَةِ أَوِ الْجِوَارِ حِكْمَتُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الشَّرِيكِ أَوِ الْجَارِ، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ أَمْرٌ تَقْدِيرِيٌّ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، فَاعْتُبِرَتِ الشَّرِكَةُ أَوِ الْجِوَارُ مَنَاطَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ، وَفِي جَعْلِهِ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ مَظِنَّةُ تَحْقِيقِ حِكْمَتِهِ؛ إِذِ الشَّأْنُ أَنَّ الضَّرَرَ يَنَالُ الشَّرِيكَ أَوِ الْجَارَ.
فَحِكْمَةُ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ دَفْعُ الضَّرَرِ، وَعِلَّتُهُ الشَّرِكَةُ أَوِ الْجِوَارُ.
وَعَلَى هَذَا فَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ تُبْنَى عَلَى عِلَلِهَا؛ أَيْ تَرْتَبِطُ بِهَا وُجُودًا وَعَدَمًا، لَا عَلَى حِكَمِهَا، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ يُوجَدُ حَيْثُ تُوجَدُ عِلَّتِهِ وَلَوْ تَخَلَّفَتْ حِكْمَتُهُ، وَيَنْتَفِي حَيْثُ تَنْتَفِي عِلَّتُهُ وَلَوْ وُجِدَتْ حِكْمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ لِخَفَائِهَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَلِعَدَمِ انْضِبَاطِهَا فِي بَعْضِهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَمَارَةً عَلَى وُجُودِ الْحُكْمِ أَوْ عَدَمِهِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ مِيزَانُ التَّكْلِيفِ وَالتَّعَامُلِ إِذَا رُبِطَتِ الْأَحْكَامُ بِهَا»اهـ([1]).
([1]) «علم أصول الفقه» (64- 66)، باختصار.