السلام عليكم

هل الوراثة البيولوجية تشمل الأخلاق والصلاح والفساد ؟
فتوى رقم: 226119
منقول من موقع الإسلام سؤال وجواب

السؤال:
هل يولد الطفل - سواء كان ذكرا أو أنثى - حاملاً لبعض سلوكيات أبويه، لا شك أنه يولد على الفطرة، ولكني أسأل عن احتمالية اكتسابه لبعض الصفات السيئة من أبويه عن طريق الجينات، وإذا كان هذا محتملاً فما الحكم ؟ وما الأشياء التي لا بد أن يرثها المولود عن أبويه ؟ طبعاً باستثناء الملامح الجسدية ؟ تم النشر بتاريخ: 2015-06-10

الجواب:
الحمد لله
لم يرد في النصوص الشرعية، سواء في القرآن الكريم، أم في السنة النبوية، ما يدل على أن الوراثة الجينية تؤثر في أعمال الإنسان وأخلاقه وصلاحه أو فساده، بل ورد ما يؤكد خلاف ذلك، فهذا نبي الله نوح عليه السلام، مات ابنه في الطوفان مع الكافرين، ولم يكتسب وراثيا من والده القلب الصالح التقي النقي، وهذا إبراهيم عليه السلام كان أبوه كافرا، ولم يؤثر كفر الوالد وراثيا في ولده القلبَ الجاحدَ المستكبر.
يقول العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله: " الإيمان والصلاح لا علاقة له بالوراثة والأنساب، وقد يختلف باختلاف استعداد الأفراد، وما يحيط بهم من الأسباب، وما يكونون عليه من الآراء والأعمال، ولو كان بالوراثة لكان جميع ولد آدم كأبيهم، غاية ما يقع منهم معصية تقع عن النسيان وضعف العزم، وتتبعها التوبة واجتباء الرب، ثم لكان سلائل أبناء نوح المؤمنين الذين نجوا معه في السفينة كلهم مؤمنين صالحين، والمشهور أن نسل البشر انحصر فيهم، وقد دلت الآية الآتية على أن فيهم الصالحين والطالحين، وأيد ذلك الواقع " انتهى من " تفسير المنار " (12/ 72).
وهذا لا يعني أننا ننفي العامل الوراثي مطلقا في تأثيره على الأخلاق والأعمال، فقد وردت في القرآن الكريم إشارات – قد تشير – إلى ( احتمال ) تأثير الوراثة في الصلاح أو الفساد، وذلك في قول الله عز وجل: ( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) نوح/27، وقول الله سبحانه: ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) آل عمران/33-34، وقول الله جل وعلا: ( يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) مريم/28.
ولكن دلالة هذه الآيات الكريمات على التأثير المباشر للعامل الوراثي فيها قدر من البعد والاحتمال، وإن استدل بها بعض الباحثين المعاصرين، ذلك أن لقائل أن يقول إن المقصود فيها بيان عامل " التربية "، و" النشأة " في صلاح الأبناء أو فسادهم، وليس الوراثة الجينية، فالفاجر الكافر غالبا ما يربي ولده على سيرته، فيصدق عليه أنه ( لا يلد إلا فاجرا كفارا )، وهكذا القياس أيضا في دلالة الآيات الأخريات.
وأيضا فالقرآن الكريم يقرر قواعد العدالة المطلقة في تحميل الخلق مسؤولياتهم الدينية والأخلاقية، كقوله عز وجل: ( وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) الأنعام/164، فإذا كان العامل الوراثي هو الدافع والموجه للأبناء من جهة الصلاح والفساد، والكفر والإيمان، فإن ذلك يعني أن الولد أخذ بجريرة أبيه، وأن وزر الأصول ينتقل إلى الفروع، وهذا أمر منفي نفيا قاطعا في أصول الدين وقواعد الشرع.
ولعل السبب في جزم بعض الباحثين بتأثير العامل الوراثي في سلوك الإنسان واختياراته اختلاط مفاهيم الأخلاق، وأعمال القلوب، بالطباع النفسية والعقلية، إذ لا ينكر تأثير الوراثة في تشابه حدة الطبع أو السهولة والليونة أو النشاط والخمول، ونحوها من الطباع المرتبطة بعوامل فسيولوجية وأسباب بدنية، وهذا ما تتحدث عنه كتب علوم النفس والوراثة الحديثة، كما في كتاب " سيكولوجية النمو والارتقاء " عبد الفتاح دويدار، ص81.
ولكن هذا الأمر لا ينسحب على الباعث النفسي والروحي الذي يقرر اختيار الصلاح أو الفساد، وينتقي الأخلاق الفاضلة أو الأخلاق الرديئة، فهذا " الباعث "، أو " الهم " لا بد أن يكون في أساسه حرا ؛ لأنه سر التكليف الذي أناط الحساب ببني البشر، وجعلهم مسؤولين محاسبين على أعمالهم في الدنيا والآخرة.
ولهذا قال الإمام الغزالي رحمه الله – عن الطفل - : " قلبه الطاهر جوهرة نفيسة، ساذجة، خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه " انتهى من " إحياء علوم الدين " (3/ 72).
وهو ما يشير إليه أيضا الحديث النبوي المشهور: ( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِه ِ وَيُمَجِّسَانِه ِ ) رواه البخاري (6599)، ومسلم (2658).
وعلى كل حال، فسؤال السائل في نفسه قضية إشكالية أخلاقية فلسفية من قديم الزمان، خاض فيها الفلاسفة الأقدمون والمعاصرون، وبحثها الدارسون في التخصصات النفسية والتربوية والإنسانية والطبية.
وما يهمنا هنا تأكيد الثابت في الشريعة الإسلامية: أن الإنسان حر في اختياراته، وأنه يولد على الفطرة، وأن العدالة الإلهية قامت بمحاسبة كل نفس على ما اكتسبت، وبحسب الاستعدادات العلمية والعملية التي وهبها الله لها، وأن احتمال التأثير الوراثي – إن وجد – فلن يكون على الوجه الذي يناقض هذه الثوابت، وسيكون بقدر محدود تخفف من وطأته أسباب الهداية التي هيأها الله عز وجل للإنسان، وضمن هذا الإطار كله يمكننا فهم عبارة الراغب الأصفهاني (ت502هـ) حيث يقول: " وذلك أن الإنسان ( قد ) يرث من أبويه آثار ما هما عليه من جميل السيرة والخلق وقبيحهما، كما يرث مشابهتَهُما في خلقهما، ولهذا قال الله تعالى: ( وكان أبوهما صالحا ). وعلى نحوه روي أنه قال في التوراة: إِني إذا رضيتُ باركتُ، وإِن بركتي لتبلغ البطن السابع، وإذا سَخِطْتُ لعنتُ، وإِن لعنتي لتبلغ البطن السابع، تنبيهاً على أن الخير والشر الذي يكسبه الإنسان ويتخلق به يبقى أثره موروثاً إلى البطن السابع ".
انتهى من " تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين " (ص: 55) ؟
فتأمل استعماله كلمة ( قد ) التي جعلناها بين قوسين كي تتنبه إلى أن الأمر لا يتعدى دائرة الاحتمال والتشكيك والتقليل.
والله أعلم.
-------------------
https://islamqa.info/ar/226119

والحمد لله ربّ العالمين