بسم الله الرحمن الرحيم
أدلة عقلية نقلية على أن الله ليس بثالث ثلاثة

لقد ورد بيان في موقع للنصارى الأرثوذكسية على الإنترنت بالشكل التالي :سؤال: لماذا تشركون بالله؟! وما هو موضوع ثالوث الله من الآب والإبن والروح القدس؟ الإجابة: " أنا لست مشركًا بالله لأننا نحن المسيحيين نؤمن بإله واحد لا شريك له. ونعبد إلهًا واحدًا. أما عن عقيدة الثالوث في المسيحية، فهي كالآتي: نحن لا ننفرد وحدنا بعقيدة الثالوث Holy Trinity، لأنها كانت موجودة في اليهودية، ولها شواهد كثيرة في العهد القديم ولكن بأسلوب مستتر وأحيانًا مباشر، ولكنه كان مكشوفًا فقط للأنبياء ومحجوبًا عن عامة الشعب لعدم قدرتهم على استيعاب حقيقة جوهر الله. وتوقع سوء فهمهم له في مرحلة طفولة معرفتهم به وبداية إعلان ذاته لهم، وحرصًا منه على عدم وقوعهم في الاعتقاد بتعدد الآلهة، الأمر الذي تسربت معرفته لآبائنا قدماء المصريين، فوقعوا في عقيدة الثالوث الوثني.
بل إن مجتمعنا الإسلامي أيضًا يشاركنا في القرآن هذه العقيدة باعترافه بوجود جواهر الثالوث، ولكنه يعترف بها كحقيقة وليس كعقيدة. فهو يؤمن ويصرح بالله، وبكلمته، وبروح قدسه. وهذا هو إيماننا بالله الآب الذي يمثل ذات الله لأنه أصل الوجود وعِلة كل شيء فيه، وكلمته الذي نطلق عليه الابن لأنه قدرته المولود منه والذي به صنع الوجود وبدونه لا يعمل شيئًا، وروح قدسه الذي هو روح الحياة فيه والذي به يعطي الحياة لكل موجود. وبالإجمال إله واحد؛ موجود بذاته، وحي بروحه، ناطق بكلمته.
واضح إذًا في هذه العقيدة أنها إيمان بإله واحد له ذات واحدة. وهذه الذات تتمتع بالنطق والحياة. وبدون النطق يكون إلهًا أعجميًا مجردًا من العقل والنطق، ومن ثِمّ لا يمكن أن يكون خالقًا للوجود ولا يصح أن يكون إلهًا. وبدون الروح وهو تيار الحياة فيه يكون إلهًا ميتًا ومن ثمّ لا يكون إلهًا!
إذًا الله إله واحد ثالوث. واحد في ذاته، ثالوث في خصائص كيانه؛ الوجود والنطق والحياة. الوجود بالذات والنطق بالكلمة والحياة بالروح. والذات هي ذات الله والكلمة هو كلمة الله والروح القدس ينبثق من ذاته القدسية لذلك يسمى روح القدس. وهي جواهر أساسية بدونها لا يتقوم كيان الذات الإلهية."
( http://st-takla.org/FAQ-Questions-VS...ng-3-Gods.html )

فهذه هي عقيدتهم ونحن لا نؤمن بها لا كعقيدة ولا كحقيقة بل إن الله قد نهاهم في القرآن عن قولهم هذا وسيأتي بيان ذلك بعد رد قولهم.

1- الثالوث عند النصارى هو عبارة عن ثلاث أقانيم مختلفة فيما بينها ومشتركة في الجوهر وهي الآب والإبن وروح القدس، عبارة يفهم مِنها عِند الإِطلاقِ المعانِي الباطِلة، ولِهذا يوجد كثِيرٌ مِن عوامِّ النّصارى يعتقِدون أنّ المسِيح ابن اللّهِ، البنوّة المعروفة فِي المخلوقاتِ. وهي عقيدة مخالفة لعلماء النصارى.
2- قولهم بِالأقانِيمِ مع بطلانِهِ فِي العقلِ والشّرعِ لم ينطِق بِهِ عِندهم كِتاب، ولم يوجد هذا اللّفظ فِي شيءٍ مِن كتبِ الأنبِياءِ الّتِي بِأيدِيهِم ولا فِي كلامِ الحوارِيِّين، بل هِي لفظةٌ ابتدعوها، ويقال: إِنّها رومِيّةٌ، وقد قِيل: الأقنوم فِي لغتِهِم معناه الأصل، ولِهذا يضطرِبون فِي تفسِيرِ الأقانِيمِ تارةً يقولون: أشخاصٌ، وتارةً خواصٌّ وتارةً صِفاتٌ وتارةً جواهِر وتارةً يجعلون الأقنوم اسمًا لِلذّاتِ والصِّفةِ معًا، وهذا تفسِير حذّاقِهِم.

3- يقولون هداهم الله أن أقنوم الأب هو الوجود أو ذات الله، وأقنوم الِابن هو الكلِمة التي خلق بها وهو مولود من الآب كولادة الكلام من العقل، وأقنوم روح القدسِ هو الحياة المنبثق من الله وهذا كلام لم يوجد في كلام الأنبياء عليهم السلام لا في التوراة ولا في الزبور ولا في أسفارهم التي بين أيدينا إن هو الا تأويل باطل ودس في دين المسيح عليه السلام وجد بعده بأكثر من مأتي سنة في عهد قسطنطين عدو النصارى.

4- يقولون أن هذه الأقانيم مختلفة فيما بينها أي أن الآب ليس الإبن ولا روح القدس والإبن ليس الآب ولا روح القدس وروح القدس ليس الآب ولا الإبن ثم يقولون هي متساوية في الجوهر. وهل يكون المساوي للجوهر إلا الجوهر!!

5- يقولون: إِنّ الأب ولِدت مِنه الكلِمة، ومريم ولِد مِنها النّاسوت (أي صفات الإنسان وطبيعته) واتّحد النّاسوت بِاللّاهوتِ (صفات الإله وطبيعته) !!! فكما أنّ الأب أبٌ بِاللّاهوتِ لا بِالنّاسوتِ، ومريم أمٌّ لِلنّاسوتِ لا لِلّاهوتِ، فكذلِك هِي صاحِبةٌ لِلأبِ بِالنّاسوتِ، واللّاهوت زوج مريم، بِلاهوتِهِ، كما أنّه أبٌ لِلمسِيحِ بِلاهوتِهِ، وإِذا اتّحد اللّاهوت بِناسوتِ المسِيحِ مدّةً طوِيلةً، فلِماذا يمتنِع أن يجتمِع اللّاهوت بِناسوتِ مريم مدّةً قصِيرةً، وإِذا جعِل النّاسوت الّذِي ولدته ابنًا لِلّاهوتِ، فلِأيِّ شيءٍ لا تجعل هِي صاحِبةً وزوجةً لِلّاهوتِ فإِنّ المسِيح عِندهم اسمٌ لِمجموعِ اللّاهوتِ والنّاسوتِ، وهو عِندهم إِلهٌ تامٌّ وإِنسانٌ تامٌّ، فلاهوته مِن اللّهِ، وناسوته مِن مريم، فهو مِن أصلينِ: لاهوتٌ وناسوتٌ (وهذه من عقائد اليونانيين والرومان قبل وصول المسيح فكانوا يؤمنون بالdemi-gods" وهي عبارة لوصف شخصيات أسطورية يكون أحد والديها إله والآخر إنسان ) فإِذا كان أحد الأصلينِ أباه والآخر أمّه، فلِماذا لا تكون أمّه زوجة أبِيهِ بِهذا الِاعتِبارِ. سبحان الله هذا كفر بواح قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) الأنعام.

6- وقالوا: والثّلاثة أسماءٍ فهِي إِلهٌ واحِدٌ وربٌّ واحِدٌ، وخالِقٌ واحِدٌ، مسمًّى واحِدٌ لم يزل ولا يزال شيئًا حيًّا ناطِقًا، أيِ الذّات، والنّطق، والحياة.
فالذّات عِندنا: الأب الّذِي هو ابتِداء الِاثنينِ. والنّطق: الِابن الّذِي هو مولودٌ مِنه كوِلادةِ النّطقِ مِن العقلِ. والحياة: هِي الرّوح القدس.
والجواب عن هذا مِن وجوهٍ:

الأوّل أنّ أسماء اللّهِ تبارك و تعالى متعدِّدةٌ كثِيرةٌكالعزِيز ِ والقدِيرِ وغيرِها، فالِاقتِصار على ثلاثةِ أسماءٍ دون غيرِها باطِلٌ، وأيّ شيءٍ زعم الزّاعِم فِي اختِصاصِ هذِهِ الأسماءِ بِهِ دون غيرِها فهو باطِلٌ.

الوجه الثّانِي: قولهم الأب الّذِي هو ابتِداء الِاثنينِ، والِابن: النّطق الّذِي هو مولودٌ مِنه، كوِلادةِ النّطقِ مِن العقلِ، كلامٌ باطِلٌ، فإِنّ صِفاتِ الكمالِ لازِمةٌ لِذاتِ الرّبِّ عزّ وجلّ أوّلًا وآخِرًا، ولم يزل ولا يزال حيًّا عالِمًا قادِرًا، لم يصِر حيًّا بعد أن لم يكن حيًّا، ولا عالِمًا بعد أن لم يكن عالِمًا.
فإِذا قالوا: إِنّ الأب الّذِي هو الذّات، هو ابتِداء الحياةِ والنّطقِ اقتضى ذلِك أن يكون الأب قبل الحياةِ والنّطقِ، وأن يكون فاعِلًا لِلحياةِ والنّطقِ، فإِنّ ما كان ابتِداءً لِغيرِهِ يكون متقدِّمًا عليهِ أو فاعِلًا له.
وكذلِك قولهم: إِنّ النّطق مولودٌ مِنه كوِلادةِ النّطقِ مِن العقلِ، فإِنّ المولود مِن غيرِهِ متولِّدٍ مِنه، فيحدث بعد أن لم يكن، كما يحدث النّطق شيئًا فشيئًا، سواءٌ أرِيد بِالنّطقِ العِلم أوِ البيان فكِلاهما لم يكن لازِمًا لِلنّفسِ النّاطِقةِ، بل حدث فِيها واتّصفت بِهِ بعد أن لم يكن، وإِن كانت قابِلةً له ناطِقةً بِالقوّةِ، فإِذا مثّلوا تولّد النّطقِ مِن الرّبِّ كتولّدِهِ عنِ العقلِ لزِم أن يكون الرّبّ كان ناطِقًا بِالقوّةِ، ثمّ صار ناطِقًا بِالفِعلِ فيلزم أنّه صار عالِمًا بعد أن لم يكن عالِمًا، وهذا مِن أعظمِ الكفرِ وأشدِّهِ استِحالةً، فإِنّه لا شيء غيره يجعله متّصِفًا بِصِفاتِ الكمالِ بعد أن لم يكن متّصِفًا بِها، إِذ كلّ ما سِواه فهو مخلوقٌ له وكماله مِنه، فيمتنِع أن يكون هو جاعِل الرّبِّ سبحانه و - تعالى - كامِلًا.

الوجه الثّالِث: أنّ قولهم فِي الِابنِ أنّه مولودٌ مِن اللّهِ إِن أرادوا بِهِ أنّه صِفةٌ لازِمةٌ له، فكذلِك الحياة صِفةٌ لازِمةٌ لِلّهِ، فيكون روح القدسِ أيضًا ابنًا ثانِيًا، وإِن أرادوا بِهِ أنّه حصل مِنه بعد أن لم يكن، صار عالِمًا بعد أن لم يكن عالِمًا، وهذا مع كونِهِ باطِلًا وكفرًا فيلزم مِثله فِي الحياةِ، وهو أنّه صار حيًّا بعد أن لم يكن حيًّا.

الوجه الرّابِع: أنّ تسمِية حياةِ اللّهِ روح القدسِ أمرٌ لم ينطِق بِهِ شيءٌ مِن كتبِ اللّهِ المنزّلةِ، فإِطلاق روحِ القدسِ على حياةِ اللّهِ مِن تبدِيلِهِم وتحرِيفِهِم.

الوجه الخامِس: أنّهم يدّعون أنّ المتّحِد بِالمسِيحِ هو الكلِمة الّذِي هو العِلم، وهذا إِن أرادوا بِهِ نفس الذّاتِ العالِمةِ النّاطِقةِ، كان المسِيح هو الأب، وكان المسِيح نفسه هو الأب، وهو الِابن، وهو روح القدسِ، وهذا عِندهم وعِند جمِيعِ النّاسِ باطِلٌ وكفرٌ.
وإِن قالوا المتّحِد بِهِ هو العِلم، فالعِلم صِفةٌ لا تفارِق العالِم، ولا تفارِق الصِّفة الأخرى الّتِي هِي حياةٌ، فيمتنِع أن يتّحِد بِهِ العِلم دون الذّاتِ، ودون الحياةِ.

الوجه السّادِس: أنّ العِلم أيضًا صِفةٌ، والصِّفة لا تخلق ولا ترزق، والمسِيح نفسه ليس هو صِفةً قائِمةً بِغيرِها بِاتِّفاقِ العقلاءِ، وأيضًا فهو عِندهم خالِق السّماواتِ والأرضِ، فامتنع أن يكون المتّحِد بِهِ صِفةً، فإِنّ الإِله المعبود هو الإِله الحيّ العالِم القادِر، وليس هو نفس الحياةِ، ولا نفس العِلمِ والكلامِ.
فلو قال قائِلٌ: يا حياة اللّهِ، أو يا عِلم اللّهِ، أو يا كلام اللّهِ، اغفِر لِي، وارحمنِي واهدِنِي، كان هذا باطِلًا فِي صرِيحِ العقلِ والمسِيح عليهِ السّلام عِندكم هو الإِله الخالِق الّذِي يقال له اغفِر لنا وارحمنا، فلو كان هو نفس عِلمِ اللّهِ وكلامِهِ لم يجز أن يكون إِلهًا معبودًا فكيف إِذا لم يكن هو نفس عِلمِ اللّهِ وكلامِهِ، بل هو مخلوقٌ بِكلامِهِ حيث قال له: كن فيكون؟.

فصل في تناقض عقيدة الأمانة التي وضعت على عهد الملك قسطنطين

الوجه السّابِع: أنّ أمانتكم الّتِي وضعها أكابِركم بِحضرةِ قسطنطِين، وهِي عقِيدة إِيمانِكم الّتِي جعلتموها أصل دِينِكم تناقِض ما تدّعونه مِن أنّ الإِله واحِدٌ، وتبيِّن أنّكم تقولون لِمن يناظِركم خِلاف ما تعتقِدونه. وهذانِ أمرانِ معروفانِ فِي دِينِكم تناقضكم وإِظهاركم فِي المناظرةِ بِخِلافِ ما تقولونه مِن أصلِ دِينِكم، فإِنّ الأمانة الّتِي اتّفق عليها جماهِير النّصارى يقولون فِيها: أومِن بِإِلهٍ واحِدٍ، أبٍ ضابِطِ الكلِّ، خالِقِ السّماواتِ والأرضِ، كلِّ ما يرى وما لا يرى، وبِربٍّ واحِدٍ يسوع المسِيحِ ابنِ اللّهِ الوحِيدِ المولودِ مِن الأبِ قبل كلِّ الدّهورِ، نورٌ مِن نورٍ، إِلهٌ حقٌّ مِن إِلهٍ حقٍّ، مِن جوهرِ أبِيهِ، مولودٌ غير مخلوقٍ، مساوٍ لِلأبِ فِي الجوهرِ الّذِي بِهِ كان كلّ شيءٍ، الّذِي مِن أجلِنا نحن البشر، ومِن أجلِ خلاصِنا نزل مِن السّماءِ، وتجسّد مِن روحِ القدسِ، ومِن مريم العذراءِ وتأنّس وصلِب وتألّم وقبِر، وقام فِي اليومِ الثّالِثِ على ما فِي الكتبِ المقدّسةِ، وصعِد إِلى السّماءِ، وجلس عن يمِينِ الأبِ، وأيضًا سيأتِي بِمجدِهِ لِيدِين الأحياء والأموات الّذِي لا فناء لِملكِهِ، وبِروحِ القدسِ الرّبِّ المحيِي المنبثِقِ مِن الأبِ الّذِي هو مع الأبِ والِابنِ المسجودِ له، وممجّدٍ ناطِقٍ فِي الأنبِياءِ، كنِيسةٌ واحِدةٌ جامِعةٌ رسولِيّةٌ، وأعترِف بِمعمودِيّةٍ واحِدةٍ لِمغفِرةِ الخطايا، وابنٍ جاء لِقِيامةِ الموتى، وحياةِ الدّهرِ العتِيدِ كونه أمِينًا.

ففِي هذِهِ الأمانةِ الّتِي جعلتموها أصل دِينِكم ذكِر الإِيمان بِثلاثةِ أشياء بِإِلهٍ واحِدٍ خالِقِ السّماواتِ والأرضِ، خالِقِ ما يرى وما لا يرى، فهذا هو ربّ العالمِين الّذِي لا إِله غيره، ولا ربّ سِواه، وهو إِله إِبراهِيم وإِسحاق ويعقوب وسائِرِ الأنبِياءِ والمرسلِين، وهو الّذِي دعت جمِيع الرّسلِ إِلى عِبادتِهِ وحده لا شرِيك له ونهوا أن يعبد غيره، كما قال اللّه تعالى:{وما أرسلنا مِن قبلِك مِن رسولٍ إِلّا نوحِي إِليهِ أنّه لا إِله إِلّا أنا فاعبدونِ} [الأنبياء: 25] .
وقال تعالى :{وسئل من أرسلنا مِن قبلِك مِن رسلِنا أجعلنا مِن دونِ الرّحمنِ آلِهةً يعبدون} [الزخرف: 45] .

ثمّ قلتم: وبِربٍّ واحِدٍ يسوع المسِيحِ ابنِ اللّهِ الوحِيدِ المولودِ مِن الأبِ قبل كلِّ الدّهورِ، نورٌ مِن نورٍ، إِلهٌ حقٌّ مِن إِلهٍ حقٍّ، مِن جوهرِ أبِيهِ، مولودٌ غير مخلوقٍ، مساوٍ الأب فِي الجوهرِ، فصرّحتم بِالإِيمانِ مع خالِقِ السّماواتِ والأرضِ بِربٍّ واحِدٍ مخلوقٍ، مساوٍ الأب ابنِ اللّهِ الوحِيدِ، وقلتم: هو إِلهٌ حقٌّ مِن إِلهٍ حقٍّ مِن جوهرِ أبِيهِ.
وهذا تصرِيحٌ بِالإِيمانِ بِإِلهينِ، أحدهما مِن الآخرِ، وعِلم اللّهِ القائِم بِهِ، أو كلامه أو حِكمته القائِمة بِهِ الّذِي سّميتموه ابنًا، ولم يسمِّ أحدٌ مِن الرّسلِ صِفة اللّهِ ابنًا ليس هو إِلهٌ حقٌّ مِن إِلهٍ حقٍّ، بل إِلهٌ واحِدٌ وهذا صِفة الإِلهِ، وصِفة الإِلهِ ليست بِإِلهٍ، كما أنّ قدرته وسمعه وبصره وسائِر صِفاتِهِ ليس بِآلِهةِ، ولِأنّ الإِله واحِدٌ، وصِفاتِهِ متعدِّدةٌ، والإِله ذاتٌ متّصِفةٌ بِالصِّفاتِ قائِمةٌ بِنفسِها، والصِّفة قائِمةٌ بِالموصوفِ، ولِأنّكم سمّيتم الإِله جوهرًا، وقلتم: هو القائِم بِنفسِهِ، والصِّفة ليست جوهرًا قائِمًا بِنفسِهِ.
وهم فِي هذِهِ الأمانةِ قد جعلوا اللّه والِدًا وهو الأب، ومولودًا وهو الِابن، وجعلوه مساوِيًا له فِي الجوهرِ، وقد نزّه اللّه نفسه عنِ الأنواعِ الثّلاثةِ، فقالوا: مولودٌ غير مخلوقٍ مساوٍ الأب فِي الجوهرِ، فصرّحوا بِأنّه مساوٍ له فِي الجوهرِ، والمساوِي ليس هو المساوى.
ولا يساوِي الأب فِي الجوهرِ إِلّا جوهرٌ، فوجب أن يكون الِابن جوهرًا ثانِيًا، وروح القدسِ جوهرًا ثالِثًا كما سيأتِي.
وهذا تصرِيحٌ بِإِثباتِ ثلاثةِ جواهِر، وثلاثةِ آلِهةٍ، ويقولون مع ذلِك: إِنّما نثبِت جوهرًا واحِدًا وإِلهًا واحِدًا، وهذا جمعٌ بين النّقِيضينِ،
فهو حقِيقة قولِهِم يجمعون بين جعلِ الآلِهةِ واحِدًا، وإِثباتِ ثلاثةِ آلِهةٍ، وبين إِثباتِ جوهرٍ واحِدٍ، وبين إِثباتِهِ ثلاثة جواهِر، وقد نزّه اللّه نفسه عن ذلِك بِقولِهِ: قل هو اللّه أحدٌ (1) اللّه الصّمد (2) لم يلِد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوًا أحدٌ (4) . الإخلاص.
فنزّه نفسه أن يلِد كما يقولون: هو الأب، وأن يولد كما يقولون: هو الِابن، وأن يكون له كفوًا أحدٌ، كما يقولون: إِنّ له من يساوِيهِ فِي الجوهرِ.

وإِذا قلتم نحن نقول أحدِيّ الذّاتِ ثلاثِيّ الصِّفاتِ، قِيل لكم: قد صرّحتم بِإِثباتِ إِلهٍ حقٍّ مِن إِلهٍ حقٍّ وبِأنّه مساوٍ لِلأبِ فِي الجوهرِ، وهذا تصرِيحٌ بِإِثباتِ جوهرٍ ثانِي لا بِصِفةٍ، فجمعتم بين القولينِ بين إِثباتِ ثلاثةِ جواهِر، وبين دعوى إِثباتِ جوهرٍ واحِدٍ، ولا ينجِيكم مِن هذا اعتِذار منِ اعتذر مِنكم كيحيى بنِ عدِيٍّ ونحوِهِ حيث قالوا: هذا بِمنزِلةِ قولِك: زيدٌ الطّبِيب الحاسِب الكاتِب، ثمّ تقول: زيدٌ الطّبِيب وزيدٌ الحاسِب وزيدٌ الكاتِب.
فهو مع كلِّ صِفةٍ له حكمٌ خِلاف حكمِهِ مع الصِّفةِ الأخرى، وقد يفسِّرون الأقنوم بِهذا، فيقولون: الأقنوم هو الذّات مع الصِّفةِ، فالذّات مع كلِّ صِفةٍ أقنومٌ، فصارتِ الأقانِيم ثلاثةً، لِأنّ هذا المِثال لا يطابِق قولكم، فإِنّ زيدًا هنا هو جوهرٌ واحِدٌ له ثلاث صِفاتٍ: الطِّبّ والحِساب والكِتابة، وليس هنا ثلاثة جواهِر، ولكِن لِكلِّ صِفةٍ حكمٌ ليس لِلأخرى.
ولا يقول عاقِلٌ: إِنّ الصِّفة مساوِيةٌ لِلموصوفِ فِي الجوهرِ، ولا أنّ الذّات مع هذِهِ الصِّفةِ تساوِي الذّات مع الصِّفةِ الأخرى فِي الجوهرِ، لِأنّ الذّات واحِدةٌ والمساوِي ليس هو المساوى، ولِأنّ الذّات مع الصِّفةِ هِي الأب فإِن كان هذا هو الّذِي اتّحد بِالمسِيحِ فالمتّحِد بِهِ هو الأب، ولِأنّكم قلتم عن هذا الّذِي قلتم: (إِنّه إِلهٌ حقٌّ مِن إِلهٍ حقٍّ، مِن جوهرِ أبِيهِ الّذِي هو مساوٍ الأب فِي الجوهرِ وأنّه نزل، وتجسّد مِن روحِ القدسِ، ومِن مريم العذراءِ، وتأنّس وصلِب وتألّم) فاقتضى ذلِك أن يكون الإِله الحقّ المساوِي لِلأبِ فِي الجوهرِ صلِب وتألّم، فيكون اللّاهوت مصلوبًا متألِّمًا، وهذا تقِرّ بِهِ طوائِف مِنكم، وطوائِف تنكِره، لكِنّ مقتضى أمانتِكم هو الأوّل.
وأيضًا فإِذا كان تجسّد مِن روحِ القدسِ ومريم، فإِن كان روح القدسِ هو حياة اللّهِ، كما زعمتم فيكون المسِيح كلِمة اللّهِ وحياته، فيكون لاهوته أقنومينِ مِن الأقانِيمِ الثّلاثةِ، وعِندهم إِنّما هو أقنوم الكلِمةِ فقط وإِن كان روح القدسِ ليس هو حياة اللّهِ بطل تفسِيركم لِروحِ القدسِ بِأنّه حياة اللّهِ.
وقِيل لكم: لا يجِب أن يكون روح القدسِ صِفةً لِلّهِ ولا أقنومًا.
ثمّ ذكرتم فِي عقِيدةِ أمانتِكم أنّكم تؤمِنون بِروحِ القدسِ الرّبِّ المحيِي، فأثبتّم ربًّا ثالِثًا، قلتم المنبثِق مِن الأبِ والِانبِثاق: الِانفِجار، كالِاندِفاقِ والِانصِبابِ، ونحوِ ذلِك، يقال: بثق السّيل موضِع كذا يبثقه بثقًا أي خرقه وشقّه فانبثق أيِ انفجر، فاقتضى ذلِك أن يكون هذا الرّبّ المحيِي انفجر مِن الأبِ واندفق مِنه.
ثمّ قلتم: هو مع الأبِ مسجودٌ له وممجّدٌ ناطِقٌ فِي الأنبِياءِ فجعلتموه مع الأبِ مسجودًا له فأثبتّم إِلهًا ثالِثًا يسجد له.
ومعلومٌ أنّ حياة اللّهِ الّتِي هِي صِفته ليست منبثِقةً مِنه، بل هِي قائِمةٌ بِهِ لا تخرج عنه البتّة، وهِي صِفةٌ لازِمةٌ له لا تتعلّق بِغيرِهِ، فإِنّ العِلم يتعلّق بِالمعلوماتِ، والقدرة بِالمقدوراتِ والتّكلِيم بِالمخاطبِين بِخِلافِ التّكلّمِ فإِنّه صِفةٌ لازِمةٌ، يقال: علِم اللّه كذا، وقدر اللّه على كلِّ شيءٍ، وكلّم اللّه موسى.
وأمّا الحياة: فاللّفظ الدّالّ عليها لازِمٌ لا يتعلّق بِغيرِ الحيِّ، يقال حيا يحيا حياةً، ولا يقال حيا كذا ولا بِكذا، وإِنّما يقال: أحيا كذا، والإِحياء فِعلٌ غير كونِهِ حيًّا، كما أنّ التّعلِيم غير العِلمِ، والإِقدار غير القدرةِ، والتّكلِيم غير التّكلّمِ، ثمّ جعلتم روح القدسِ هذا ناطِقًا فِي الأنبِياءِ - عليهِم السّلام -، وحياة اللّهِ صِفةٌ قائِمةٌ بِهِ لا تحِلّ فِي غيرِهِ، وروح القدسِ الّذِي تكون فِي الأنبِياءِ والصّالِحِين ليس هو حياة اللّهِ القائِمة بِهِ، ولو كان روح القدسِ الّذِي فِي الأنبِياءِ هو أحد الأقانِيمِ الثّلاثةِ لكان كلٌّ مِن الأنبِياءِ إِلهًا معبودًا قدِ اتّحد ناسوته بِاللّاهوتِ كالمسِيحِ عِندكم، فإِنّ المسِيح لمّا اتّحد بِهِ أحد الأقانِيمِ صار ناسوتًا ولاهوتًا، فإِذا كان روح القدسِ الّذِي هو أحد الأقانِيمِ الثّلاثةِ ناطِقًا فِي الأنبِياءِ كان كلٌّ مِنهم فِيهِ لاهوتٌ وناسوتٌ كالمسِيحِ وأنتم لا تقِرّون بِالحلولِ والِاتِّحادِ إِلّا لِلمسِيحِ وحده مع إِثباتِكم لِغيرِهِ ما ثبت له.
وهم تارةً يشبِّهون الأقنومينِ - العِلم والحياة الّتِي يسمّونها الكلِمة وروح القدسِ - بِالضِّياءِ والحرارةِ الّتِي لِلشّمسِ، مع الشّمسِ ويشبِّهون ذلِك بِالحياةِ والنّطقِ الّذِي لِلنّفسِ مع النّفسِ، وهذا تشبِيهٌ فاسِدٌ، فإِنّهم إِن أرادوا بِالضِّياءِ والحرارةِ ما يقوم بِذاتِ الشّمسِ، فذلِك صِفةٌ لِلشّمسِ قائِمةٌ بِها لم تحِلّ بِغيرِها ولم تتّحِد بِغيرِها، كما أنّ صِفة النّفسِ كذلِك هذا إِن قِيل إِنّ الشّمس تقوم بِهِ حرارةٌ، وإِلّا فهذا ممنوعٌ.
والمقصود هنا: بيان فسادِ كلامِهِم وقِياسِهِم.
وإِن أرادوا ما هو بائِنٌ عنِ الشّمسِ قائِمٌ بِغيرِها. كالشّعاعِ القائِمِ بِالهواءِ والأرضِ، والحرارةِ القائِمةِ بِذلِك كان هذا دلِيلًا على فسادِ قولِهِم مِن وجوهٍ:
مِنها: أنّ هذِهِ أعراضٌ منفصِلةٌ بائِنةٌ عنِ الشّمسِ قائِمةٌ بِغيرِها لا بِها، ونظِير هذا ما يقوم بِقلوبِ الأنبِياءِ مِن العِلمِ والحِكمةِ والوحيِ الّذِي أنذروا بِهِ، وعلى هذا التّقدِيرِ فليس فِي النّاسوتِ شيئًا مِن اللّاهوتِ وإِنّما فِيهِ آثار حِكمتِهِ وقدرتِهِ.
ومِنها: أنّ الحرارة والضّوء القائِم بِالهواءِ والجدرانِ أعراضٌ قائِمةٌ بِغيرِ الشّمسِ، والكلِمة وروح القدسِ عِندهم هما جوهرانِ.
ومِنها: أنّ هذا ليس هو الشّمس، ولا صِفةً مِن صِفاتِ الشّمسِ، وإِنّما هو أثرٌ حاصِلٌ فِي غيرِ الشّمسِ بِسببِ الشّمسِ، ومِثل هذا لا ينكر قِيامه بِالأنبِياءِ والصّالِحِين، ولكِن ليس لِلمسِيحِ - عليهِ السّلام - بِذلِك اختِصاصٌ، فما حلّ بِالمسِيحِ حلّ بِغيرِهِ مِن المرسلِين، وما لم يحِلّ بِغيرِهِ لم يحِلّ بِهِ فلا اختِصاص له بِأمرٍ يوجِب أن يكون إِلهًا دون غيرِهِ مِن الرّسلِ، ولا هنا اتِّحادٌ بين اللّاهوتِ والنّاسوتِ، كما لم تتّحِدِ الشّمس ولا صِفاتها القائِمة بِها بِالهواءِ، والأرضِ الّتِي حصل بِها الشّعاع والحرارة.

فهذه مقتطفات من كتاب "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث بين كيف حرفت التوراة والإنجيل ومن وضع عقيدة التثليث وحيث رد نصوصهم بنصوصهم وبطريقة تفكيرهم ثم بين حقيقة المسيح عليه السلام والآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبنا وكتبهم .. والأدلة التي ذكرها كثيرة لا يمكن بسطها هنا ...

فسبب قولهم بالثالوث هو عدم فهمهم النصوص ما أداهم إلى الوقوع في الشبهات :

1-شبهة الروح
قاعدة مهمة في العقيدة :المضافات إلى الله نوعان: أعيان، وصفات؛ فالصفات إذا أضيفت إليه، كالعلم، والقدرة، والكلام، والحياة، والرضا، والغضب، ونحو ذلك، دلت الإضافة على أنها إضافة وصف له، قائم به ليست مخلوقة؛ لأن الصفة لا تقوم بنفسها، فلا بد لها من موصوف تقوم به، فإذا أضيفت إليه علم أنها صفة له. أما الأعيان فإذا أضيف إليه كانت إضافة ملك وتشريف كقولك عبد الله أو بيت الله...

ومن هذا الباب قول الله: يا أهل الكِتابِ لا تغلوا فِي دِينِكم ولا تقولوا على اللّهِ إِلّا الحقّ إِنّما المسِيح عِيسى ابن مريم رسول اللّهِ وكلِمته ألقاها إِلى مريم وروحٌ مِنه فآمِنوا بِاللّهِ ورسلِهِ ولا تقولوا ثلاثةٌ انتهوا خيرًا لكم إِنّما اللّه إِلهٌ واحِدٌ سبحانه أن يكون له ولدٌ له ما فِي السّماواتِ وما فِي الأرضِ وكفى بِاللّهِ وكِيلًا (171 النساء). فقوله تعالى :"وروح منه" هي كقوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ .. (13) الجاثية. ولكن النصارى ظنت أن (مِن) للتبعيض ، وأن الروح جزء من الله . والحق أن (مِن) هنا لابتداء الغاية ، أي هذه الروح من عند الله ، مبدأها ومنشأها من الله تعالى ، فهو الخالق لها ، والمتصرف فيها. والمقصود بالروح هنا هو جبريل عليه السلام المكنى بروح القدس أي الطاهر.

قال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) التحريم . وقال: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) الأنبياء. وقال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) مريم.
وقد ذكر المفسرون أن جبريل نفخ في جيب درعها. والجيب هو الطوق الذي في العنق ليس هو ما يسميه بعض العامة جيبا وهو ما يكون في مقدم الثوب لوضع الدراهم ونحوها فنفخ في جيب الدرع فوصلت النفخة إلى فرجها محملت. والمقصود هنا أن المسيح خلق من أصلين: من نفخ جبريل ومن أمه مريم ولهذا قيل في المسيح روح منه باعتبار هذه النفخة. وقد بين الله سبحانه أن الرسول الذي هو روحه وهو جبريل هو الروح الذي خاطبها وقال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا فقوله {فنفخنا فيها} أو {فيه من روحنا} أي من هذا الروح الذي هو جبريل وعيسى روح من هذا الروح فهو روح من الله بهذا الاعتبار ومن ابتداء الغاية.

ومن هذا الباب قَوْلُهُ تَعَالَى : وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (البقرة: 87) وروح القدس هو جبريل والدليل قوله تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ (النحل: 102) فَرُوحُ الْقُدُسِ الَّذِي نَزَلَ بِالْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ وهُوَ جِبْرِيلُ.

ومن هذا الباب آية من التوراة (وكان روح اللّهِ ترِفّ على الماءِ) فروح اللّهِ هِي الرِّيح الّتِي كانت فوق الماءِ وهذا من لغة العرب أضيفت إلى الله إضافة ملك وتشريف.

ومن هذا الباب ما نقل عن المسيح في إنجيل يوحنا قال: لكني اقول لكم الحق انه خير لكم ان انطلق لانه ان لم انطلق لا ياتيكم المعزي و لكن ان ذهبت ارسله اليكم (7:16) وقوله : و اما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الاب باسمي فهو يعلمكم كل شيء و يذكركم بكل ما قلته لكم (26:14) وقوله: ومتى جاء المعزي الذي سارسله انا اليكم من الاب روح الحق الذي من عند الاب ينبثق فهو يشهد لي (26:15) فالمعزي هو جبريل الملك المكلف بالوحي إلى الأنبياء المعروف بروح القدس وسيكون إنطلاقه من عند الرب بوحي جديد على نبي جديد يشهد بما أنزل على المسيح. وهذا تفسير لا تكليف فيه. وليس كما يزعم أهل الكتاب أن روح القدس نزل وتجسد في الحواريين فأصبحوا رسل الله أي رسل المسيح. سبحان الله.

2- شبهة "الكلمة"
قالت النصارى: المسيح كلمة الله وكلام الله غير مخلوق فعيسى غير مخلوق واستدلوا بالقرآن بقوله تعالى: إِذ قالتِ الملائِكة يا مريم إِنّ اللّه يبشِّركِ بِكلِمةٍ مِنه اسمه المسِيح عِيسى ابن مريم وجِيهًا فِي الدّنيا والآخِرةِ ومِن المقرّبِين ( آل عمران 45). والحقيقة هي أن الله منعهم من فهم القرآن لأن في قلوبهم زيغ قال الله: هو الّذِي أنزل عليك الكِتاب مِنه آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكِتابِ وأخر متشابِهاتٌ فأمّا الّذِين فِي قلوبِهِم زيغٌ فيتّبِعون ما تشابه مِنه ابتِغاء الفِتنةِ وابتِغاء تأوِيلِهِ وما يعلم تأوِيله إِلّا اللّه والرّاسِخون فِي العِلمِ يقولون آمنّا بِهِ كلٌّ مِن عِندِ ربِّنا وما يذّكّر إِلّا أولو الألبابِ ( آل عمران 7). و لو أنهم أكملوا الآية لعلموا قولهم: قال الله: قالت ربِّ أنّى يكون لِي ولدٌ ولم يمسسنِي بشرٌ قال كذلِكِ اللّه يخلق ما يشاء إِذا قضى أمرًا فإِنّما يقول له كن فيكون ( آل عمران 47). فبين الله أن المسيح بشر ممن خلق وأنه بالكن كان وليس المسيح هو الكن لأن الله صمد فصفاته لا تنفك عنه.

والمسِيح عليهِ السّلام خلِق جسده خلقًا إِبداعِيًّا بِنفسِ نفخِ روحِ القدسِ فِي أمِّهِ، قِيل له: كن فكان، فكان له مِن الِاختِصاصِ بِكونِهِ خلِق بِكلِمةِ اللّهِ ما لم يكن لِغيرِهِ مِن البشرِ، ومِن الأمرِ المعتادِ فِي لغةِ العربِ وغيرِهِم أنّ الِاسم العامّ إِذا كان له نوعانِ خصّت أحد النّوعينِ بِاسمٍ، وأبقت الِاسم العامّ مختصًّا بِالنّوعِ، كلفظِ الدّابّةِ والحيوانِ، فإِنّه عامٌّ فِي كلِّ ما يدِبّ، وكلِّ حيوانٍ، ثمّ لمّا كان لِلآدمِيِّ اسمٌ يخصّه بقِي لفظ الحيوانِ يختصّ بِهِ البهِيم، ولفظ الدّابّةِ يختصّ بِهِ الخيل أو هِي والبِغال والحمِير ونحو ذلِك، وكذلِك لفظ الجائِزِ والممكِنِ، وذوِي الأرحامِ، وأمثالِ ذلِك، فلمّا كان لِغيرِ المسِيحِ ما يختصّ بِهِ أبقِي اسم الكلِمةِ العامّةِ مختصًّا بِالمسِيحِ.

والمسِيح عليهِ السّلام لم يخلق مِن ماءِ رجلٍ، بل لمّا نفخ روح القدسِ فِي أمِّهِ حبِلت بِهِ، وقال اللّه: كن فكان، ولِهذا شبّهه اللّه بِآدم فِي قولِهِ:
{إِنّ مثل عِيسى عِند اللّهِ كمثلِ آدم خلقه مِن ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون} [آل عمران: 59] . فإِنّ آدم عليهِ السّلام خلِق مِن ترابٍ وماءٍ ونفخ فيه الرّوح فصار حيا وهذا عند قوله كن فكان. وأما عيسى فخلق من دم رحم مريم ونفخ في الرحم الروح فصار حيا وهذا عند قوله كن فكان.

و مِن الحكم في خلق عيسى من امرأة بغير زوج هو ليجعل ذلك آية للناس أي علامة دالة على كمال قدرته وأنه يخلق ما يشاء كيف يشاء ، إن شاء خلقه من أنثى بدون ذكر كما فعل بعيسى، وإن شاء خلقه من ذكر بدون أنثى كما فعل بحواء وإن شاء خلقه بدون الذكر والأنثى معا كما فعل بآدم ، وإن شاء خلقه من ذكر وأنثى كما فعل بسائر بني آدم .

3-شبهة "الذي رآني فقد رأى الآب"

فهي بالحقيقة رؤية قلبية أي رؤية معرفة ، وهي رؤية مقيدة، لأن المسيح أخبرهم من هو الله وحببهم إليه وعرفهم عليه. ومِمّا يوضِّح هذا أنّ الشّيء له وجودٌ فِي نفسِهِ هو، وله وجودٌ فِي المعلومِ والأذهانِ، ووجودٌ فِي اللّفظِ واللِّسانِ، ووجودٌ فِي الخطِّ والبيانِ، فالحاصل وجودٌ عينِيٌّ شخصِيٌّ، وعِلمِيٌّ ولفظِيٌّ، ورسمِيٌّ، وذلِك كالشّمسِ مثلًا فلها تحقّقٌ فِي نفسِها، وهِي الشّمس الّتِي فِي السّماءِ، ثمّ يتصوّر بِالقلبِ الشّمس، ثمّ ينطِق اللِّسان بِلفظِ الشّمسِ، ويكتب بِالقلمِ الشّمس.
والمقصود بِالكِتابةِ مطابقة اللّفظِ، وبِاللّفظِ مطابقة العِلمِ، وبِالعِلمِ مطابقة المعلومِ، فإِذا رأى الإِنسان فِي كِتابٍ خطّ الشّمسِ، أو سمِع قائِلًا يذكر قال: هذِهِ الشّمس قد جعلها اللّه سِراجًا وهّاجًا، وهذِهِ الشّمس تطلع مِن المشرِقِ وتغرب فِي المغرِبِ، فهو يشِير إِلى ما سمِعه مِن اللّفظِ ورآه مِن الخطِّ، وليس مراده نفس اللّفظِ والخطِّ، فإِنّ ذلِك ليس هو الشّمس الّتِي تطلع وتغرب، وإِنّما مراده ما يقصد بِالخطِّ واللّفظِ ويراد بِهِما، وهو المدلول المطابِق لهما.
ومِمّا يشبِه هذا ما يرى فِي المِرآةِ أوِ الماءِ، مِثل أن يرى الشّمس أو غيرها فِي ماءٍ أو مِرآةٍ، فيشار إِلى المرئِيِّ فيقال: هذا الشّمس، وهذا وجهِي أو وجه فلانٍ، وليس مراده أنّ نفس الشّمسِ أو وجهه أو وجه فلانٍ حلّ فِي الماءِ أوِ المِرآةِ، ولكِن لمّا كان المقصود بِتِلك الرّؤيةِ هو الشّمس وهو الوجه - ذكره، ثمّ قد يقال: رآه رؤيةً مقيّدةً فِي الماءِ، أوِ المِرآةِ، وقد يقال: رآه بِواسِطةِ الماءِ والمِرآةِ، وقد يقال: رأى مِثاله وخياله المحاكِي له، ولكِنّ المقصود بِالرّؤيةِ هو نفسه، ومِثل هذا كثِيرٌ.
ومعلومٌ أنّ ما فِي القلوبِ مِن المِثالِ العِلمِيِّ المطابِقِ لِلمعلومِ أقرب إِليهِ مِن اللّفظِ، واللّفظ أقرب مِن الخطِّ، فإِذا كان قد يشار إِلى اللّفظِ والخطِّ، والمراد هو نفسه، وإِن لم يكنِ الخطّ واللّفظ هو ذاته، بل بِهِ ظهر وعرِف، فلأن يشار إِلى ما فِي القلبِ، ويراد بِهِ المعروف الّذِي ظهر لِلقلبِ وتجلّى لِلقلبِ، وصار نوره فِي القلبِ - بِطرِيقِ الأولى.
والعقلاء إِنّما تتوجّه قلوبهم إِلى المقصودِ المرادِ دون الوسائِلِ، ويعبِّرون بِعِباراتٍ تدلّ على ذلِك لِظهورِ مرادِهِم بِها، كما يقولون لِمن يعرِف عِلم غيرِهِ، أو لِمن يأمر بِأمرِهِ، ويخبِر بِخبرِهِ، هذا فلانٌ، فإِذا كان مطلوبهم عِلم عالِمٍ أو طاعة أمِيرٍ، فجاء نائِبه القائِم مقامه فِي ذلِك، قالوا: هذا فلانٌ، أيِ المطلوب مِنه هو مع هذا، فالِاتِّحاد المقصود بِهِما يعبِّرون عن أحدِهِما بِلفظِ الآخرِ.
كما يقال: عِكرِمة هو ابن عبّاسٍ، وأبو يوسف هو أبو حنِيفة، ومِن هذا البابِ ما يذكر عنِ المسِيحِ عليهِ السّلام أنّه قال: أنا وأبِي واحِدٌ، من رآنِي فقد رأى أبِي.

4- حقيقة المسيح عليه السلام

فالمسيح عليه السلام عبدالله ورسوله كما قال تعالى: يا أهل الكِتابِ لا تغلوا فِي دِينِكم ولا تقولوا على اللّهِ إِلّا الحقّ إِنّما المسِيح عِيسى ابن مريم رسول اللّهِ وكلِمته ألقاها إِلى مريم وروحٌ مِنه فآمِنوا بِاللّهِ ورسلِهِ ولا تقولوا ثلاثةٌ انتهوا خيرًا لكم إِنّما اللّه إِلهٌ واحِدٌ سبحانه أن يكون له ولدٌ له ما فِي السّماواتِ وما فِي الأرضِ وكفى بِاللّهِ وكِيلًا (171) لن يستنكِف المسِيح أن يكون عبدًا لِلّهِ ولا الملائِكة المقرّبون ومن يستنكِف عن عِبادتِهِ ويستكبِر فسيحشرهم إِليهِ جمِيعًا (172) فأمّا الّذِين آمنوا وعمِلوا الصّالِحاتِ فيوفِّيهِم أجورهم ويزِيدهم مِن فضلِهِ وأمّا الّذِين استنكفوا واستكبروا فيعذِّبهم عذابًا ألِيمًا ولا يجِدون لهم مِن دونِ اللّهِ ولِيًّا ولا نصِيرًا (173) النساء
خلق من نفخة جبريل ومن مريم وقد أيده الله بمعجزات كما أيد جميع الرسل تصديقا لرسالته قال الله: لقد أرسلنا رسلنا بِالبيِّناتِ وأنزلنا معهم الكِتاب والمِيزان لِيقوم النّاس بِالقِسطِ وأنزلنا الحدِيد فِيهِ بأسٌ شدِيدٌ ومنافِع لِلنّاسِ ولِيعلم اللّه من ينصره ورسله بِالغيبِ إِنّ اللّه قوِيٌّ عزِيزٌ (25) الحديد.
فكان يحي الموتى بإذن الله ويشفي الأعمى والأبكم والأبرص والمريض بإذن الله ويكلم الناس في المهد فليس المسيح بخالق ولا بإله بل هو عبد مكرم صلى الله عليه وسلم . قال الله: يوم يجمع اللّه الرّسل فيقول ماذا أجِبتم قالوا لا عِلم لنا إِنّك أنت علّام الغيوبِ (109) إِذ قال اللّه يا عِيسى ابن مريم اذكر نِعمتِي عليك وعلى والِدتِك إِذ أيّدتك بِروحِ القدسِ تكلِّم النّاس فِي المهدِ وكهلًا وإِذ علّمتك الكِتاب والحِكمة والتّوراة والإِنجِيل وإِذ تخلق مِن الطِّينِ كهيئةِ الطّيرِ بِإِذنِي فتنفخ فِيها فتكون طيرًا بِإِذنِي وتبرِئ الأكمه والأبرص بِإِذنِي وإِذ تخرِج الموتى بِإِذنِي وإِذ كففت بنِي إِسرائِيل عنك إِذ جِئتهم بِالبيِّناتِ فقال الّذِين كفروا مِنهم إِن هذا إِلّا سِحرٌ مبِينٌ (110)
وبشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد وهو محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وإِذ قال عِيسى ابن مريم يا بنِي إِسرائِيل إِنِّي رسول اللّهِ إِليكم مصدِّقًا لِما بين يديّ مِن التّوراةِ ومبشِّرًا بِرسولٍ يأتِي مِن بعدِي اسمه أحمد فلمّا جاءهم بِالبيِّناتِ قالوا هذا سِحرٌ مبِينٌ (6) الصف
ولم يصلب ولم يقتل ولم يعذب بل رفعه الله إليه وسينزل مرة آخرى ليقتل المسيح الدجال الذي يظهر في آخر الزمان وسيحكم بشريعة الإسلام. قال تعالى: وقولِهِم إِنّا قتلنا المسِيح عِيسى ابن مريم رسول اللّهِ وما قتلوه وما صلبوه ولكِن شبِّه لهم وإِنّ الّذِين اختلفوا فِيهِ لفِي شكٍّ مِنه ما لهم بِهِ مِن عِلمٍ إِلّا اتِّباع الظّنِّ وما قتلوه يقِينًا (157) بل رفعه اللّه إِليهِ وكان اللّه عزِيزًا حكِيمًا (158) وإِن مِن أهلِ الكِتابِ إِلّا ليؤمِننّ بِهِ قبل موتِهِ ويوم القِيامةِ يكون عليهِم شهِيدًا (159) النساء.

قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) المائدة.